عندما-قطعت-الحبال

عندما قُطعت الحبال

عن القصة:

قصة واقعية، مقتبسة من حادثة حقيقية، لقلب خسر كل شيء تعلق به…

التصنيف: دراما، شريحة من الحياة

لم تعد قدماها تقويان على حملها أكثر، فانهارت على أرض غرفتها وهي تنشج بصوتها الذي بح من كثرة النحيب:
– ما هذا العذاب..ليت الأرض تنشق وتبتلعني.. سكاكين.. رماح .. خناجر مسمومة ، كلها تطعن قلبي!! ياااااااااااااااااااارب ساعدني لم أعد أحتمل المزيد..
لم تدر أحلام كم مر عليها من الوقت وهي على ذلك الحال المأساوي، وقد غدت أشبه ما تكون بحفنة متهالكة من بقايا إنسان، عندما رن جرس هاتفها المحمول.. أسرعت إليه وقلبها يخفق بشدة، كالغريق الذي يتشبث بالقشة، ويؤملها لتمسك بحبال النجاة الوردية الحالمة..
– أتراه راجع نفسه .. سيقول لها أنه لم يكن يعنيها بالتأكيد.. ستقبل عذره هذه المرة.. وهو يواسيها بكلماته، حتى وإن كانت كاذبة، لم يعد يهم ذلك الآن.. فلا بد لها من أن تحافظ على بيتها الذي بدا لها أوهن من بيت العنكبوت!!
وما أن لمحت اسم المتصل حتى بدت لها أحلامها كسراب خانها في أشد لحظات الظمأ، رغم بعض الطمأنينة التي غمرتها لرؤية اسم أنوار، تلك الصديقة المخلصة التي تبثها همومها، وتجدها أمامها في أصعب اللحظات الحرجة. جففت دموعها وفتحت الخط أخيرا بعد أن بح صوت الهاتف من كثرة الرنين:
– أهلا أنوار..
– ما هي أخبارك يا أحلام؟ لماذا لا تردين على اتصالاتنا ؟؟ خشيت أن تكوني قد عدت إلى بلدك دون أن تسلمي علينا!! خير ان شاء الله!! منذ أن ناقشت رسالة الدكتوراة لم نعد نعرف عنك شيئا، كيف حال زوجك؟ لقد قلقت عليك كثيرا يا عزيزتي..
طال صمت أحلام التي انهمرت دموعها دون أن تدري بم تجيب به صديقتها، حتى ظنت أنوار أن الاتصال قد قطع بينهما:
– احلام ..احلام .. هل تسمعينني؟؟؟؟

وأخيرا أجابتها أحلام بصوت تخنقه العبرات:
– هل لي أن أقابلك يا أنوار؟؟
* * *
وتحت شجرة مورقة في الحديقة، جلست أنوار تستمع بكل جوارحها لمأساة أحلام وهي تعمل فكرها بسرعة في محاولة جاهدة لإيجاد الكلمات المناسبة للتخفيف عنها. أطلقت أحلام تنهيدة طويلة وهي تخفي وجهها بين كفيها قائلة:
– هذه هي حياتي.. عذاب في عذاب، لقد تحطم قلبي مرات عديدة، وعندما ظننت أنني حصلت على الحب والسعادة التي أبحث عنها، اكتشفت أنها لم تكن سوى الطعنة القاضية التي أفقدتني قلبي للأبد..
ربتت أنوار على كتفها بحنان:
– لا تقولي هذا يا عزيزتي، إنها لحظة الفرج بإذن الله، فالظلام الحالك يسبق الفجر الباسم دائما..
– هذا كلام جميل أسمعه كثيرا ولكن ماذا بقي لي!! لقد ضحيت بكل شئ من أجله، قبلت باليسير منه وتنازلت عن معظم حقوقي، وقدرت ظروفه كلها ليتم الزواج بسهولة، حتى رسالة الدكتوراة لا أدري كيف ناقشتها، وقد كنت في شغل عنها بسببه..
وأطلقت زفرة طويلة وهي تتابع:
– لا أدري ما الذي غيره، لقد تغير كل شئ بعد الزواج ، ليتني أعرف كيف اختفى ذلك الحب كله، لتتحول أيامنا إلى بؤس وشقاء، حتى أنني عندما صارحته بذلك تجرأ علي وضربني!! كنت أشعر بصدق حبه لي قبلها، فلم أكن تلك الفتاة الساذجة التي يخدعها الرجال، وقد تأكدت من ذلك عندما تقدم للزواج مني فعلا، ورضي بالسفر معي حتى أنتهي من حصولي على درجة الدكتوراة، فلم أكن لأرضى عن استمرار محادثاتنا وكلامنا من دون زواج.. صدقيني لم يكن سيئا على الإطلاق.. وأنت تعرفينني يا أنوار..
لم تنبس أنوار ببنت شفة، فلم يحن الوقت المناسب لإبداء رأيها في هذه النقطة بالذات، فتابعت أحلام:
– لم تعد تجدي محاولاتي كلها للتمسك بحبال الحب بيني وبينه، لم يعد يكلف خاطره حتى بالنظر إلى وجهي وكأنني صخرة أمامه، تقبلت الإهانات كلها أعلل نفسي بتذكر كلماته المعسولة ومراجعة رسائله السابقة، فلم أعد أعاتبه.. أكتفي بالعيش على ذكريات الماضي حتى إذا ما شعرت أن السلام حل بيننا قليلا، وظننت أننا في أحسن حالاتنا، ذكرته بحبنا القديم، وقلت له بأن أحوالنا ستتحسن بلا شك مع قدوم أطفال يملئون حياتنا بهجة وسعادة..
وبترت أحلام كلامها والحزن يقطع كبدها، إذ لم تستطع المتابعة وقد وصلت إلى أحرج جزء في قصتها. نظرت إليها أنوار بعطف:
– بإذن الله يرزقك الله الذرية الطيبة التي تعوضك عن هذا كله و تشعرك بعظيم من الله عليك..
لكن أحلام نظرت إليها والبؤس في عينيها:
– أنت لا تعرفين ماذا كان جوابه.. لقد قال بأنه من الأفضل لنا أن لا نفكر بالأطفال الآن، إذ أن علاقتنا لا يبدو لها أنها ستستمر طويلا!! تخيلي إلى أي درجة وصلت الأمور يا أنوار، لا أمل ..لقد اختفى الحب تماما..
وأجهشت باكية..
كانت أنوار تعرف تماما مدى حساسية أحلام المرهفة ورقة مشاعرها، فهي مثال للفتاة الحالمة بمعنى الكلمة، لا ترى السعادة إلا في أحلام وردية مع فارس يطير بها على حصان أبيض، و ما زالت تذكر قلقها الشديد خوفا من أن لا يتم زواجها من فارس أحلامها الذي قابلته وأحبته، وها هي قد تم لها ما أرادت فأين هي تلك السعادة المرجوة!! وجدت أنوار نفسها في حيرة من أمرها ، كيف لها أن تساعد أحلام للخروج من محنتها هذه! وأخيرا قالت:
– كيف هي علاقتك بالله يا أحلام؟
كان سؤالا مباغتا و كفيلا بتغير مجرى الحديث، حتى أن أحلام صمتت طويلا قبل أن تتهيأ للإجابة عليه، أطرقت برأسها قبل أن تقول:
– قد لا تصدقينني يا أحلام فلا يبدو علي مظاهر التدين والالتزام، فقد نشأت في أسرة بسيطة لا يحكمها غير العادات والتقاليد، ولكنني أقولها لك بصراحة، أنني أشعر بعلاقة مميزة تربطني بالله منذ صغري وفقداني لعطف أبي ورعايته، لقد كنت أشعر بقرب الله مني وعنايته بي وأنا أنتقل في هذه الحياة من مرحلة إلى أخرى، كنت أنجو من المآزق التي أتعرض لها بأعاجيب ليس لها تفسير إلا أنها العناية الإلهية، فليس لي أب يحميني، ولا جاه يضمن لي حقوقي، ولا مال يكفيني، لم أكن أجد من الجأ إليه غير الله فيما يواجهني من محن، أدعوه وأناجيه وأتحدث إليه بما يعتمل في صدري، قد لا تتوقعين سماع هذا مني وأنت تريني تلك الفتاة المرفهة التي تتصرف في أموالها كيف تشاء.. فلا أحد هنا يعرف أحلام الفقيرة المعدمة، ولم أجحد نعم الله علي يوما ولكنني أعترف بتقصيري في شكرها.. صدقيني حتى وأنا بعيدة عن تطبيق ديني وقبل التزامي بحجابي ومحافظتي على صلاتي، لم أكن لأترك مناجاة الله ، لا أبالغ فيما أقوله لك يا أنوار ولكنني سمعتها ممن حولي وهم يرون حالي ويتحدثون عني بقولهم ” هذه الفتاة التي ترعاها العناية الإلهية”
بدا التأثر واضحا على وجه أنوار التي فوجئت بما سمعته للمرة الأولى، لقد عرفت أخيرا من هي أحلام التي أدهشت الجامعة كلها بمناقشة رسالتها في الموعد الذي تريده رغم أنف الجميع، وحصولها على درجة الدكتوراة رغم كل المعوقات التي كانت في طريقها، عوضا عن نفسيتها المرهقة بسبب زوجها اثناء ذلك، أجل أنها شاهدة أيضا على العناية الإلهية التي تحيط بأحلام وترعاها، رغم السنوات القليلة التي قضتها معها، وبعد فترة صمت قالت أنوار:
– أنت طيبة جدا يا أحلام والجميع يشهد بحسن تعاملك وطيبة قلبك، ولا شك أن الله ما ابتلاك بهذا إلا لأنه يحبك، فحتى الشوكة إذا شيك بها المؤمن يحط عنه بها سيئة فما بالك بالخناجر التي تطعن قلبك! إنني لأرجو من الله أن يحط بها عنك سالف الخطايا والأوزار حتى لا يبق عليك منها شئ، فاصبري واحتسبي وأكثري من الاستغفار وأنت أدرى مني بعناية الله ولطفه بك، فلا تيأسي هذه المرة من رحمته.
كانت كلمات أنوار كفيلة بأن تنقل أحلام إلى عالم آخر، فلاحت صورا قديمة أمام ناظريها، وخيل إليها أنها غابت عن الوعي لتدخل عالما وهميا جسد لها فترات حرجة من حياتها وسط دوامة كبيرة، ورياح عاصفة، وأمواج عاتية، أصوات ونداءات مكتومة خرجت من أعماق نفسها وتردد صداها عبر السنين..
– أبي أرجوك انهض لا تترك يدي، انني بحاجة اليك..
– امي لا ترهقي نفسك بالعمل.. لا تذهبي أرجوك، انهم لا يستحقون أن تعملي في بيوتهم مقابل هذا الأجر الزهيد..
– جدتي، استيقظي ولا ترحلي عنا، فأنت الوحيدة التي تفهمني، كنت لنا نعم الحضن الدافئ في هذه الحياة..
– معلمتي.. لماذا تتخلين عني الان بعد أن كنت خير من وقف الى جانبي، لقد احببتك و تعلقت بك كثيرا فلا تتركينني وحدي.. ارجوك..
– يارب ليس لي سواك اعتمد عليه في هذه الحياة..
ثم تناهى إلى سمعها كلمات متناثرة من هنا وهناك، لم يطوها النسيان..
– كيف تحصل هذه الفتاة الفقيرة على بعثة الدولة الوحيدة التي تمنح لأول مرة، وتحرم منها ابنتي وأنا الوزير..هذا مستحيل..
من الذي يسر لي هذا..انه الله..
– منذ متى وأنتم تملكون هذه الدار الفسيحة، كيف تغيرت حالكم، لا أصدق عيناي!!
من الذي أكرمنا بذلك المال لنكون من القلة التي حصلت على التعويضات المالية والمكافآت ..انه الله..
– كيف استطعت الحصول على أوراقك يا أحلام ..في حين ضاعت معظم أوراقنا في الحرب..
من الذي سخر لي ذلك الطالب ليستخرجها لي ويخاطر بنفسه من أجل ذلك.. انه الله..
– هل حصلت على المنحة للمرة الثانية وفي دولة أخرى!! هذا مستحيل كيف حصل هذا!!
انه فضل الله..
وتتابعت الصور المتلاحقة أمام أحلام حتى رأت نفسها أخيرا وهي في أشد حالات بؤسها، وقد تقطعت حبال قلبها، فمن الذي أوحى لأنوار أن تتصل بها في ذلك الوقت بالذات لتكون سببا في إعادة رشدها اليها؟؟ انه الله، فهل آن لها أن تصل حبالها به وحده!!
*
مضت سنة كاملة على سفر أحلام وزوجها وعودتهم إلى بلادهم، بعد أن أنهت الإجراءات اللازمة لاستخراج أوراق درجة الدكتوراة كاملة. كانت أنوار في لهفة عارمة لقراءة أول خطاب تتلقاه من صديقتها بعد أن انقطعت عنها أخبارها، ولم يعد لها سبيل لمواصلتها إلا بالدعاء..
فتحت الظرف ويداها ترجفان، وقرأت:
عزيزتي أنوار
أعتذر عن غيابي الطويل عنك وعدم وفائي بوعدي بإرسال عنواني لك بمجرد وصولي، ولكن الظروف التي مررت بها كانت أقوى مني، وستعذرينني عليها بالتأكيد، فقد ساء وضعي مع زوجي أكثر ولم تعد تجدي كل محاولات الإصلاح لإعادة الوفاق بيننا حتى طلقني، كانت صفعة قوية أيقظتني من غفلتي، فلا سلطة لنا على قلوبنا بل هي ملك لله وحده وما يضعه فيها من حب أو كره، هي إما هبات وعطاءات أو ابتلاءات واختبارات، فمن أشغلته الهبة عن الواهب نزعها منه ، ومن تعلق شيئا عذب به، والله يقلب القلوب كيفما شاء..
أجل لقد كان درسا قاسيا ولكن الله لطف بي وأعانني على تجاوز محنتي لأخرج منها أصلب مما كنت، كما أكرمني بأن كشف عن بصيرتي الزيف والخداع وأراني حقيقة الحب الذي لا مراء فيه، لقد تعلمت بأن لا أعلق حبالي إلا بالله وحده، حتى أصبح شعاري؛
                   إذا صح منك الود فالكل هين    وكل الذي فوق التراب تراب
غدوت حريصة على رضا ربي أكثر من أي وقت مضى، ومنتهى أملي أن يرضى الله عني ويغفر لي ما كان مني، وبدأت حياتي من جديد في ظلال شجرة السعادة الحقيقية ( حب الله)، وها أنا الآن بفضل الله قد استلمت وظيفتي في الجامعة وسعيدة جدا بصحبة طلبتي وزملائي فهم يقدرونني ويحترمونني جدا وأبادلهم حبا بحب، وأزف لك أيضا خبر زواجي الجديد..
أجل.. لقد تزوجت من رجل شهم ونبيل يكبرني ببضع سنوات تقدم لخطبتي فور انتهاء عدتي، وتساءل الناس كالعادة ، كيف حدث هذا !! مطلقة في الثلاثينات من عمرها تتزوج من رجل أعزب ذا مال وجاه ومكانة مرموقة!! والحمد لله لا تتخيلي مدى سعادتي معه ، انه طيب جدا وحنون أيضا ويحبني كثيرا..
انه فضل الله يؤتيه من يشاء، أفلا أحب الله !! كم أحبك ياربي
وأبشرك أخيرا بأنني حامل بطفلي الأول، فادعي الله لنا أن يرزقنا الذرية الصالحة التي تقر أعيننا برضا الله..
وختاما جزاك الله خيرا على وقوفك إلى جانبي، بانتظار أخبارك والله معك يحفظك ويرعاك فرددي دوما
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، انك أنت الوهاب)
                                                                                               أختك أحلام

* * *
تمت بحمد الله
ملاحظة: القصة مستوحاة من قصة حقيقية وقد تكون الحقيقة أغرب من الخيال أحيانا..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك!

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

عندما-أحببت-1

عندما أحببت…

عن القصة:

قصة أشبه برواية قصيرة، ترويها شخصيات مفعمة بالعواطف بين الحاضر والماضي، بآمال تتطلع نحو المستقبل!

التصنيف: رومانسي، دراما، شريحة من الحياة

(1)

“نبيــــــــــــــــل”

كنتُ شاباً مثله..

أجل كنت مثله اتوقد شباباً وحيوية وتفاؤلاً، رغم ظروفنا الصعبة، فرغم أن والدي عامل بناء محترف ومتقنٌ لعمله؛ إلا أنه يتقاضى رواتب متقطعة، بالكاد تفي بحاجاتنا اليومية! وكنتُ سأنضم إليه في عمله، بصفتي ابنه الأكبر والوحيد، لولا أن والدتي أصرّت على إلحاقي بالجامعة، بعد أن أقنعتنا بأن هذا سيكون أفضل للجميع، خاصة وأن علاماتي تؤهلني لدخول أي تخصص أختاره، مما يسهل لي الحصول على وظيفة جيدة فيما بعد، حتى أن أخواتي الثلاث اللاتي يصغرنني بعدة سنوات، كدنَ يطرن من الفرح؛ وهن يعلقن آمالا كبيرة على هذا القرار!

ورغم التقشف الكبير، الذي ضاعفته أسرتي على نفسها من أجلي- مع حرصي الشديد على الاقتصاد، إذ لم أكن أشتري إلا الكتب، التي لا تتوفر في المكتبة العامة- إلا أن سعادتهم بقطعي لسنوات الدراسة، الواحدة تلو الأخرى بنجاح منقطع النظير؛ كان أكبر محركٍ لي كي أبذل جهدي، وأنا أرى الحياة تبتسم لي، والمستقبل تلوح بشائره المزهرة في طريقي، فسأعمل فور تخرجي، لأحول أحلامهم إلى حقيقة، وأمنياتهم إلى واقع!

كان هذا هو الأمر الوحيد الذي يشغل تفكيري، ولم أكن أدرك أن هناك أمراً في هذا الكون، قد يشغلني أكثر منه! غير أن التقائي بتلك الفتاة؛ هز وجداني، بل وقلب كياني رأساً على عقب!!

كنتُ وقتها في السنة الأخيرة، في قسم اللغات والترجمة، وقد تم تقسيمنا إلى مجموعات صغيرة، من أجل مشاريع الترجمة الكبيرة، حيث رأى أستاذنا أن بإمكاننا البدء بترجمة كتب لم يسبق ترجمتها إلى العربية، ومن ثم ترجمة كتب عربية؛ إلى لغات لم يسبق أن تُرجمت إليها، بالطبع كان مشروعا ضخماً، وتحدياً كبيراً، وقد حرصتُ أن أبذل فيه أقصى جهدي، كخيل السباق عندما تقترب من خط النهاية، فلم أنتبه لوجودها معي في المجموعة نفسها، إلا عندما قال لي قائد مجموعتنا “أشرف”- في إحدى اجتماعاتنا لتوزيع جزئيات العمل:

– لقد أثنى الأستاذ على عملك يا “نبيل” بشكل خاص، يقول أن الجزئية التي ترجمتها ممتازة جداً، بل واحترافية أيضاً.. والشيء نفسه ينطبق على “نائلة”..

نطق باسمها وهو يلتفت نحوها، متابعاً كلامه:

– الاستاذ يريد منكِ أنتِ و”نبيل” مقابلته في مكتبه..

يومها فقط، انتبهتُ لوجود “نائلة” في مجموعتي، تلك الفتاة نفسها التي لفتت نظري أول مرة، في اجتماع السنة الأولى مع رئيس القسم، حيث ألقى محاضرة مطولة عن الترجمة ومجالات الابداع والتفوق فيها، وما إلى ذلك، ثم سألنا عن أهدافنا، التي ننوي تحقيقها من دخول هذا القسم.. بالنسبة لي كنتُ واضحاً منذ البداية، فقد ذكرتُ بصريح العبارة، أنني اخترت القسم فقط؛ لأنني وجدتُه أكثر قسمٍ له مجالات عملٍ واسعة ومربحة، فهدفي هو الحصول على عمل ذو دخل ممتاز! هذا كل ما في الأمر! ورغم تنوع الأهداف التي ذكرها الطلبة، إلا أن “نائلة” تمكنت من لفتِ نظري، لدرجة أنني لم أستطع منع نفسي من الالتفات نحو مصدر الصوت، لأرى من تكون هذه الفتاة!! كانت فتاة أنيقة بحجابها، تلوح الثقة من نظراتها، وتتمتع بشخصية فريدة، تجبرك على احترامها!

ما زالت كلماتها ترن في أذني:

“أريد أن أترجم كُتباً للتعريف بالأسلام، لعل الله أن يجعلني سببا في هداية الخلق!”

صحيح أن شعور الإكبار لهذه الفتاة تملكني تماماً وقتها، غير أن مسؤولياتي تجاه أسرتي، كان أكبر همي، فسرعان ما نسيتها، في خضم الواجبات المزدحمة!

كثير من أصدقائي يطلقون عليّ لقب “الابن البار”، غير أنني لا أفعل أكثر مما يحتمه الواجب عليّ، بل لا أتخيل أن هناك من يمكنه فعل غير ذلك، لو كان في مكاني!

لم أدرك أن مشاعري تجاه “نائلة” كانت خامدة في قلبي منذ ذلك الوقت، وإلا.. فما معنى أن يهيج بركان قلبي فجأة؛ بمجرد أن ذّكّرّ “أشرف” اسمها معي!!

لقد وجدتُ نفسي مرتبكاً جداً، ونحن نسير تلبيةً لدعوة الأستاذ، وقد حرصتُ على أن أجعل خطواتي سابقة لخطواتها، خشية أن تفلتَ مني نظرة خاطئة نحوها، فقد كانت أجلُّ قدراً، من أن تدنسها نظراتٌ آثمة!

تهلل وجه الأستاذ لرؤيتنا، وأشار إلى مقعديت أمام مكتبه، فجلّسَت “نائلة”، ثم جلستُ أنا…

كان الأستاذ منفعلاً جداً، بدرجة لم آلفها فيه من قبل، بل إن كرمه علينا بالثناء والمديح، أنساني معظم ما قاله، غير أن بعضاً من كلماته علقت بذاكرتي:

– أنتما أفضل اثنين قمتُ بتدريسهما حتى الآن، إنني حقاً فخورٌ بكما، فلا أكاد أصدق أن بين طلبتي في هذا السن، من يمتلك مثل هذه الاحترافية..

بدا الأستاذ منفعلاً بإنجازنا بلا شك، أما أنا؛ فقد كنتُ أخشى أن يسمع أحدهما تسارع نبضات قلبي، كلما ذكرني معها بلفظ المثنى!! وعندما سألنا عن أهدافنا وطموحاتنا، شعرتُ برغبة في أن أجيبه جواباً يُبهرها، غير أنني لم أكن لأقول شيئا لا أتمثله، فأخبرته بصراحة عن رغبتي في العثور على عمل ذو دخل ممتاز!

وقتها شعرتُ بأنني سكبتُ ماءا مثلّجاً على رأسه، لأنه نظر إليّ بوجوم:

– أهذا كل ما في الأمر!! لا أصدق أنك “نبيل أكرم” الذي يتحدث جميع من في القسم عنه! ألا يوجد لديك طموحات، أهداف عظيمة، مشاريع مستقبيلة، أفكار عالمية،…

لا أعرف ما الذي كان يريد الأستاذ سماعه تحديداً، مما جعله يتابع كلامه بإصرار:

– ألا تفكر في إكمال دراسات عليا!!! أتعرف ما الذي يعنيه أن تكون محترفاً بالترجمة في أربع لغات حيوية عالمية، كتابةً ومحادثة؟؟ إلا تدرك أن اتقانك للترجمة الفورية بهذه اللغات؛ يُعد عملة صعبة في هذه الأيام!!! أنت تمتلك كنزاً لا يقدر بثمن، ويمكن أن تصاحب الوزراء، بل وجلالة الملك نفسه!! ألا تدرك قيمة ذلك!!! الجميع يتحدث بموهبتك الفريدة، وكل ما تريده في النهاية؛ هو الحصول على عمل ذو دخل ممتاز فقط!! لماذا تجهد نفسك كل هذا الجهد إذن!!

لا أعرف لمَ بدا الأستاذ ممتعضاً من إجابتي في ذلك الوقت، فقد اختصرتُ ما قاله لي؛ في جملة واحدة، لا أكثر ولا أقل!! ثم إنني حريصٌ على اتقان عملي مهما يكن، فهذه صفة ورثتها عن والدي.. سواء عملتُ في مكتبٍ صغير، أو مع وزير… اتقان العمل، أمرٌ مفروغ منه بالنسبة لي! ولا أدري كيف ستكون ردة فعل الأستاذ، لو أخبرته بأن دراستي لأكثر من لغتين حسب المقرر، كان من اقتراح أمي، التي قالت بأن هذا سيزيد من فرصة حصولي على عمل!! لذا آثرتُ الصمت..

بالطبع كان عقلي وقتها منشغلاً بما ستجيب به “نائلة”، وبكل ثقة؛ أجابت بما كنتُ أنتظر سماعه، وخفق قلبي بشدة.. ولم أكن أدري، هل خفق من روعة ما نطقت به، أم لشيء آخر لم أكن أدركه!

لا أدري كيف مرت الأيام بعد ذلك، غير أنني بتُ متأكداً من أن “نائلة”؛ هي الفتاة الوحيدة التي ملكت قلبي، لكن مشاعري تلك؛ لم تتجاوز حدود صدري، فما زال أمامي سنة لأتخرج! بقيتُ كما أنا، غير أن تعديلاً طفيفاً وهاماً في الوقت نفسه؛ طرأ على خطتي، بعد أن أصبحت “نائلة” جزءا من هدفي! وكثيراً ما تأملتُ اسمينا معاً.. “نبيل ونائلة”، وكأننا خُلقنا لبعضنا البعض!!

وبدأ المستقبل يلوح أمامي أكثر إشراقاً، سأتخرج وأعمل، وأساعد والدي وأُسعد أسرتي، ثم سأخطب “نائلة” بالتأكيد، ولم أكن لأغرق في أحلام اليقظة، فاتخذتُ من ذلك حافزاً، يزيد من عزيمتي لأمضي قُدُما..

 وجاء اليوم الموعود، فبعد أن تخرجتُ بدرجة الشرف الأولى، واجتزتُ اختبارات القبول لعدد من الوظائف المختلفة، أتاني اتصال هاتفي من رقم خاص.. السفير يطلب مقابلتي شخصيا!!

يومها أقامت أمي حفلة في بيتنا بهذه المناسبة، ورقصت أخواتي طرباً، وكانت كبراهن لا تزال في المرحلة الثانوية، أما أبي.. فقد لمحت دمعة نفرت من عينيه تأثراً، ولا أنسى كلماته لي أبداً:

– رضي الله عنك يا بني وبارك فيك.. إنني حقاً فخور بك..

وبدأت أحلامي تكبر، ستكون فرصة لي لأجوب العالم، وستكون “نائلة” برفقتي، وستحقق أهدافها في الدعوة أيضاً.. وسيدخل الناس في دين الله أفواجا..

غير أن أحلامي السعيدة تلك، ما لبثت أن اصطدمت بالواقع المرير!!

فعندما قابلتُ السفير في مكتبه، فوجئت بوجود زجاجات خمرٍ أمامه هو وضيفه، والذي علمتُ فيما بعد؛ أنه ممثل لإحدى الدول الأجنبية الكبرى! لا أدري لماذا دعوني لمباشرة العمل فوراً، بدل أن يحدثني السفير على انفراد، لنتفق على طبيعة العمل قبل أي شيء!! لقد فوجئت به يحييني بابتسامة ودودة، ويدعوني للجلوس معه هو وضيفه، قائلا لي، بأن هذا عملاً مستعجلاً، وهو بحاجة لمن يترجم له المحادثة، مع هذا الزائر الهام!!

لا أدري كيف تمكنتُ من استيعاب كلماته وقتها، فقد كانت عيناي زائغتان تماماً، بعد أن لمحتُ تلك الزجاجات!! كيف لي أن أجلس في مجلسٍ كهذا!!

ويبدو أن السفير تضايق قليلاً من ترددي، وربما أدرك ما يجول في ذهني، فحاول تلطيف الجو بقوله:

– لستَ مضطراً للشرب، فهذه رسميات ضرورية، وأمور دوبلوماسية هامة! اجلس فقط..

غير أنني أجبته بأدب:

– أرجو المعذرة.. لا يمكنني قبول الوظيفة..

وابتسمتُ لضيفه مُحيياً، ثم خرجت!

غير أن موجةً من الحزن انتابتني بشدة؛ بمجرد أن وطأت قدماي رصيف الشارع! بأي وجه أعود لوالداي وأخواتي الآن، وهم لا يزالون في نشوة الفرح!! ثم تراءت لي “نائلة”.. كيف سأتقدم لخطبتها، إذا لم أحصل على دخلٍ جيد!!! صحيح أن الفرصة لا تزال أمامي في أماكن أخرى، رغم أنني أعلنت انسحابي من معظمها، ولكن.. أحلامي التي بنيتها منذ اتصال السفير؛ تهدّمت، والهوة بيني وبين “نائلة” اتسعت!

مشيتُ على غير هدى، وقادتني قدماي لأقرب مسجد، صليت ركعتين وبكيت بحرقة.. (اللهم اجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها)..

 مكثتُ في المسجد وقتاً أطول مما تخيلت، إذ لم انتبه إلا على صوت أذان العصر، فأديتُ الفريضة، وما أن سلمت؛ حتى تفاجأتُ بـ “أشرف” عن يساري! لم أكن قد رأيته منذ أن تخرجت، ففرحتُ لرؤيته، وعرفتُ أنه تزوج من ابنة عمه، بعد أن طالت خطوبتهما أكثر مما ينبغي، إذ كانت مخطوبة له منذ سنته الجامعية الأولى! ثم باغتني بسؤال لم أتوقعه منه:

– ومذا عنك أنت يا “نبيل”؟ ألم تفكر بالزواج بعد؟!!

أطلقتُ وقتها تنهيدة طويلة، فحالتي المادية، والتزاماتي تجاه أسرتي، لا تسمح لي بالتفكير بذلك أصلاً! وأمامي صمتي، رمقني “أشرف” بابتسامة غريبة:

– ألم تحدثها بشيء بعد؟

حملقتُ فيه بدهشة حقيقة وقتها، إذ لم أكن أتخيل أن مشاعري تجاه “نائلة”؛ ظاهرة إلى ذلك الحد! لكنني سألته باهتمام:

– من تقصد؟

فما كان منه إلا أن أردف بقوله:

– لا تتظاهر بالسذاجة.. أقصد “نائلة” بالطبع، ومن غيرها!!

كانت صدمة حقيقية بالنسبة لي، إذ لم يحدث أن نطقتُ باسمها أمام أحد، بل لم يحدث أن تبادلتُ معها كلمة واحدة، خارج نطاق الضرورة القصوى! بل لم يحدث ذلك أكثر من مرتين على الأكثر!! غير أن “أشرف”؛ كان لا يزال مصراً على كشف أوراقي علانية أمامه، فقال بثقة وكأنه قرأ أفكاري:

– حتى إن لم تخبر أحداً بذلك، فإعجابك بها واضحٌ جداً، ولا عجب في ذلك، فبينكما الكثير من القواسم المشتركة..

كانت جملته تلك مفاجأة أخرى بالنسبة لي، فهل يُعقل أنني أتقاسم مع “نائلة” الكثير من الصفات!! لكنني سرعان ما عزيتُ ذلك إلى كون الأستاذ نادانا معاً في ذلك اليوم، لكن “أشرف” أصرّ على أن يسلك في حديثه منحى مختلفاً عما يدور في ذهني، بقوله:

– كلاكما متميزان، وله جاذبية كبيرة، فهي رغم حجابها؛ من أكثر الفتيات جاذبية، ولولا أنها تعرف كيف ترسم الحدود جيداً، لتهافت الشباب عليها؛ مثلما يتهافت الفراش على النار! وأنتَ أيضا تمتلك الجاذبية نفسها بالنسبة للفتيات، لولا أنك تتجاهل هذه الحقيقة دائماً باصرار، وأعتقد أن أي شاب آخر لو كان في مكانك؛ لأصبح له شأنا مختلفا تماماً!! ألا تنظر لنفسك في المرآة؟؟ وأنت إضافة إلى وسامتك الظاهرة؛ متحدثٌ لبق، ونبرة صوتك وأسلوبك في الكلام يأسران الآذان.. وحتى هدوؤك وصمتك، وتركيزك على دراستك، ومدح الأساتذة لك… كل هذا يجعلك فارس أحلام مثالي بلا شك…

لا أدري ما الذي شعرتُ به تحديداً، عندما تفوه “أشرف” بكل تلك الكلمات، غير أنني آثرتُ الصمت، فيما تابع كلامه:

– وأظن أن “نائلة” معجبة بك أيضاً.. بل أكاد أجزم بذلك، وربما تنتظر اللحظة التي تتقدم فيها لخطبتها، فلا تتأخر عليها..

كانت تصريحاته تلك؛ كفيلة بزلزلة قلبي، فلم يعد قادراً على مزاولة عمله بهدوء، حتى خشيت أن يسمع وجيبه! فما كان من “أشرف” إلا أن ربت على ظهري، وهو يهم بالخروج، قائلاً:

– آمل أن لا تتأخر عليها، فالفتاة لن تنتظر شخصاً لم يَعِدها بشيء، والخطّاب كثيرون!!

كانت تلك الحقيقة المرة، بمثابة الخنجر المسموم، الذي اخترق قلبي دون أدنى رحمة! وكأن “أشرف” أدرك ما يلوح على وجهي من ألم وهم، فقال لي محاولاً طمأنتي:

– إنني واثقٌ من أنها لن ترفضك، فتقدم لخطبتها بسرعة، ولا تتردد..

غير أنني كنتُ واثقاً من إجابتي هذه المرة:

– الزواج مسؤولية كبيرة يا “أشرف”، ولدي التزاماتي تجاه أسرتي قبل ذلك، فهل تريد مني أن القى مصير بطل القصة الفرنسية “الحب والخبز”؟؟

فما كان من “أشرف” إلا أن انفجر ضاحكاً:

– هكذا إذن!! أنت واقعي بدرجة كبيرة يا صديقي، لدرجة أن الأحلام لا تجرؤ على لمسك!! حسناً… بالطبع لا يمكنك الاقدام على زواج؛ دون امتلاكك للقدرة المادية، ولكن على الأقل حاول أن تتواصل معها، وتخبرها بأنك تنوي خطبتها حالما تتوفر لديك الإمكانية، وستنتظرك بالتأكيد..

لا أدري كيف تمكنتُ من السيطرة على غضبي، جراء اقتراحه ذاك، فبأي حق أتواصل مع فتاة بطريقة ملتوية، أتجاوز فيها أهلها!! لكنني كظمتُ غيظي، واكتفيتُ بقولي:

– لا يمكنني أن أعد أحداً بشيء، لا أثق بقدرتي على الوفاء به! حتى الرسول صلى الله عليه وسلم في حثه على الزواج؛ قال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”، ولستُ بالذي يحدّث فتاة؛ قبل أن يتأكد من قدرته على الارتباط بها رسمياً..

وكأن “أشرف” شعر بأنه ضايقني بكلامه، فأسرع يعتذر بقوله:

– صدقني.. لم أكن أقصد سوى الخير لك، فسامحني إن أزعجتك، وحظاً موفقاً لك..

إلا أنني بعد ذلك، لم أكن لأشعر بأي ضيق منه، بل إن كلامه أشعرني بنوعٍ من الراحة، فربما يكون عرف شيئا عن “نائلة” من زوجته، فهما صديقتان على ما يبدو، وهذا ما أوقد عزائمي من جديد، لأباشر البحث عن عمل، وفي أسرع وقت..

ومما خفف عني تلك الليلة، أن والداي باركا موقفي من وظيفة السفير، وقد أكّد أبي عليّ بقوله:

– المال مهم جداً لنا بالطبع، لكن الأهم هو أن يكون حلالاً، ومن طريقٍ حلال..

وهكذا عدتُ لمراسلة بعض المكاتب التي أعتذرتُ لها سابقا، وحصلتُ على وظيفة جيدة؛ في مكتب لترجمة الوثائق الرسمية، والمعاملات الحكومية، وبدأتُ أعد الأيام التي تفصلني عن “نائلة”، بعد أن رتبت سلم أولوياتي المادية..

فبعد أن أساعد أسرتي في شراء منزل مريح وصحيّ، بدلا من الأجرة التي تلاحقنا كل شهر، في منزل لا تدخله الشمس، مما ترك آثارا سلبية على صحة والدتي وأخواتي، كنت أفكر بمفاجأة والديّ برحلة حج، أعبّر من خلالها عن جزء من امتناني الشديد لهما، لا سيما وأنا أدرك تماما مدى رغبتهما بأداء الفريضة، وزيارة الديار المقدسة، وقد كان لدى أمي حصّالة خاصة، تدّخر فيها المال لهذه الرحلة العظيمة، غير أن وفاة زوج عمتي المفاجيء، أجبرها على كسرها، ولم أكن لأنسى دموعها في ذلك الوقت! صحيح أنها كانت تبكي حال عمتي؛ بعد أن تيتم أولادها، لكنني أدرك أنها كانت تبكي أيضا؛ شوقها لبيت الله، الذي كانت تعد له الأيام عداً!! ولا شك أن لرحيل زوج عمتي، أثره الكبير على حياتنا بعد ذلك، مما يعني أن لديّ التزاماً، عليّ أن لا أنساه تجاه أبي، والذي تكفل بإعالة أسرتين، لا كافل لهما- بعد الله- سواه!

وابتسمت لي الأيام مجدداً، إذ سرعان ما لمح صاحب المكتب كفاءتي، فضاعف أجرتي مقابل ساعات إضافية من العمل، فقد بدأ الزبائن يتهافتون على مكتبه دون سواه، وكنت سعيداً بذلك، أعمل بجد، ولا أتردد عن قبول أي أعمال إضافية، فقد كانت الأجرة مجزية جداً، وخلال عام كامل، تمكنتُ من تحقيق إنجازٍ منقطع النظير، فاستعنتُ بصاحب عقارات كان أحد زبائني، وعثرتُ على منزلٍ مناسب جداً، وبعد أن اصطحبتُ والداي إليه، وتأكدتُ من إعجابهما به، سددتُ الدفعة الأولى كاملة، لتنتقل أسرتي إليه في أقل من شهر، وكانت فرحة أمي ودعوات أبي وبهجة أخواتي، كفيلة بإسعاد قلبي.. وكنتُ أتحرق شوقاً للحظة التي أفاجيء بها والداي، برحلة الحج.. حتى إذا ما حان موسمه، وكنتُ قد ادخرتُ مالاً كافياً لهما، شعرتُ بأنني امتلكتُ الدنيا وما فيها، وأنا أقدم لهما تذاكر السفر مع حملة ممتازة، ورغم أن أمي اعترضت بداية بقولها:

– كان عليك أن تفكر بنفسك أولاً وبمستقبلك، فقد أصبحتَ رجلاً، ويجب أن تفكر بعروس مناسبة الآن، يكفي المنزل الذي تكفلتَ بسداد أقساطه..

لكنني طمأنتها بقولي:

– لا تقلقي يا أمي، فقد أصبح لدي دخلاً ثابتاً بفضل الله، وهو دخلٌ ممتاز، ويمكنني تنميته بإذن الله، وأعدك بأننا سنتحدث في هذا الموضوع؛ فور عودتك بالسلامة من الحج، إن شاء الله..

عندها لم تتمالك أمي نفسها، ولم أكن أتخيل أن كلماتي تلك؛ ستملأ المنزل زغاريداً وأفراحاً! لقد أشرق وجهها، كما لو أنه لم يشرق من قبل، فقالت لي:

– سأدعو الله بأن يُنعم عليك بأفضل زوجة في الدنيا كلها، ويرزقك بعشرة أولاد صالحين مصلحين..

فأفلتت مني ضحكة رغماً عني:

– لماذا عشرة بالتحديد؟؟

فضحكت أمي وهي تقرص أذني:

– لا أدري.. هذا ما خطر ببالي الآن!

ونمتُ تلك الليلة، وأنا أفكر بـ “نائلة”، ستحبها أمي بلا شك..

وانطلقت قافلة الحجيج إلى بلد الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وانطلقتُ إلى عملي، أهتم بشؤون أخواتي، وشؤون عمتي وأولادها، نيابة عن أبي، وقد كانت تلك من أسعد اللحظات، التي مرت عليّ حتى ذلك الوقت..

 إنها بضع خطوات فقط، تفصلني عن “نائلة”!!

غير أن للقدر مسارٌ آخر، غير ذاك الذي رسمته في ذهني!!

فبعد عام وثلاثة أشهرٍ من لقائي بـ”أشرف” آخر مرة، فوجئتُ به يزورني في مكتبي، وكانت ملامح وجهه لا تبشر بخير، وهو يقول لي:

– أين كنت؟؟ لقد بحثتُ عنك كثيراً، بعد أن فقدتُ أي وسيلة للاتصال بك!

عندها تذكرتُ بأنني لم أخبره بعنوان منزلنا الجديد، الذي انتقلنا إليه، فاعتذرتُ منه متأسفاً:

– إنني مدين لك باعتذار بالفعل، فقد شغلتني الحياة كثيراً كما ترى..

ثم صمتُ، وأنا أتطلع لحديثه عن “نائلة”، كما فعل آخر مرة، غير أنه اكتفى بقوله:

– جئتُ لأطمئن عليك، كيف حالك؟

كانت كلماته واجمة بشكل كبير، مما أثار مخاوفي، فهتفتُ دون وعي مني:

– هل حدث شيء لـ “نائلة”؟

عندها نظر إلي بعينين لائمتين:

– كنتُ أدرك طوال الوقت أنك مهتم بها، فلماذا تأخرت؟! لقد تزوجت “نائلة” قبل ثلاثة أشهر!

وقتها أدركتُ فقط، كم كنتُ أحبها… ولا يمكنني تخيل حياتي من دونها!

ولا أدري ما الذي جرى لي تحديداً بعدها، فقد كانت تلك أشبه بالضربة القاضية؛ لكل ما بنيته من أحلام وطموح ومجد! ولم أستطع متابعة العمل في ذلك اليوم، فطلبتُ إذناً بالخروج وهِمتُ على وجهي… ما أشبه اليوم بالبارحة!! غير أنني فقدتُ السبب، الذي أحيا عزيمتي أول مرة!!

“نائلة”.. تلك الفتاة التي أحببتها من كل قلبي؛ أصبحت مجرد ذكرى عابرة، بل سراب في صحراء شاسعة، لم أستطع الوصول إليها أبداً، ولا الارتواء بفيء ظلالها..

ما الذي سأقوله لأمي عندما تعود! ما الذي سأحدثها به؟ لقد فقدتُ الرغبة تماماً بالزواج…

وكأن المصائب تأبى أن تأتي فُرادى، لعل بعضها يُنسي بعضاً، فرغم أنني حرصتُ على استقبال والداي، عند عودتهما من الحج، استقبالاً يليق بهما قدر استطاعتي؛ إلا أن وفاة عمتي الكبرى؛ كان صدمة حقيقية للعائلة، فهي لم تكن تشكو من شيء، وكانت بمثابة الجدة لنا بعد جدتنا!

كانت أيام عصيبة، لكنها مرت كما يمر السحاب، وذكرى “نائلة” لا تزال تلوح أمامي في كل خطوة أخطوها، رغم محاولاتي الجاهدة لتناسيها، ولم أكن أدرك كم كانت جذورها متغلغلة في كياني..

حتى جاء اليوم الذي كنتُ أخشاه، يومها طلبت مني أمي الحديث على انفراد..

– بني.. لقد وعدتني بالحديث في موضوع الزواج فور عودتي من الحج، وقد مرت الأيام دون أن تحدثني بشيء! لقد ظننتُ أن هناك فتاة تود خطبتها، وكنتُ سأبذل جهدي من أجلك، حتى ولو طلبتَ بنت السلطان مثل علاء الدين..

كانت أمي تتكلم بجدية كبير، حتى أنني اكتفيت بالابتسام لخيالها الواسع، فيما تابعت هي كلامها بالنبرة نفسها:

– أخبرني يا حبيبي، هل حدث لك شيء؟

كانت كلمات أمي الحبيبة، كفيلة بإذابة الجليد المتراكم على قلبي، فاضطربَت مشاعري، ونفرت دمعاتٌ من عيني، فانكببتُ على يديها أقبلها، وأنا أخفي وجهي في حجرها:

– سامحيني يا أمي.. أنت تعرفين الظروف التي مررنا بها بعد وفاة عمتي، رحمها الله…

فما كان من أمي إلا أن ربتت على شعري بحنان:

– لقد مر على ذلك أكثر من عشرة أشهر، فأخبرني الحقيقة.. هل حدث شيء للفتاة التي كنت تفكر فيها؟

لا أدري كيف وصلت أمي لذلك الاستنتاج، بل لا أعرف كيف عرفت أن هناك فتاة كنتُ أود خطبتها بالفعل، لكنني آثرتُ الصمت، تاركاً العنان لدموعي، لتنساب في حضنها الدافيء، وليكون هذا أبلغ جواب عن سؤالها..

عندها ضمتني إليها كطفلٍ رضيع، وشعرتُ بدموعها تتخلل خصلات شعري:

– لن يضيعك الله أبداً يا بني، ولو كان فيها خيراً لك، لما أبعدها عنك…

كانت لحظات سكينة، اغتسلت روحي في صفائها وطهارتها، حتى شعرتُ بأنني ولِدتُ من جديد..

لم تمضِ على تلك الحادثة سوى أيامٌ معدودة، حتى فوجئتُ بأمي تقول لي:

– سمعتُ عن فتاة طيبة من الحاجّة “أم أسعد”، وأظنها مناسبة لك.. وأنوي زيارتهم والتعرف إليهم غداً، إن شاء الله..

ورغم عدم استعدادي النفسي للارتباط بأي فتاة أخرى، غير “نائلة”؛ إلا أنني وجدتُ نفسي انصاع لكلامها، إذ لم أجد مبرراً واحداً لمجادلتها، أو الاعتراض على عَرضها!

كانت سعادة أمي بالفتاة وعائلتها بعد ذلك، من النوع الذي تعجز الكلمات عن وصفه! فقد كالت لها المدائح كيلاً، من كل حدب وصوب، وكأنني على موعدٍ مع ملاكٍ؛ هبط من السماء فجأة!!

كنتُ أُقنع نفسي بأن موافقة الأهالي المبدئية، لن يترتب عليها أي شيء؛ إلا بعد مقابلتي الشرعية للفتاة، حيث يحق لأي واحدٍ من الطرفين الرفض، وقد ترفضني الفتاة وينتهي كل شيء بسلام، وفي أسوأ الاحتمالات.. فإن أمي وعائلتي بالطبع، لن يهدأ بالهم حتى أتزوج، وإن كنتُ سأتزوج عاجلاً أم آجلاً؛ فلمَ لا أقدم على هذه الخطوة الآن! على الأقل.. هذا سيسعد أمي وأبي، ويدخل البهجة على عائلتي، لا سيما وأن أكبر أخواتي قد تمت خطبتها لابن خالي، وكل شيء يبدو على ما يرُام.. هكذا كنتُ أقنع نفسي بضرورة التأقلم مع الوضع الجديد، وأخذتُ عهداً على نفسي بضرورة نسيان “نائلة” تماماً، فأي مقارنة بينها وبين الفتاة التي سأخطبها، أياً كانت؛ ستظلم الجميع!!

عرفتُ أن اسمها “عفاف جميل”، وبعد مقابلتي لوالدها، قابلتها.. ولا أدري كيف انشَرَحَ لها صدري فجأة، كان هناك توافقٌ عجيبٌ بيننا، وكأنني أعرفها منذ زمنٍ طويل، بل شعرتُ أنني أتحدث مع نفسي، وأرى صورتي في مرآة صافية! كانت تعمل في مجال (البرمجة)، حيث يمكنها مزاولة عملها في المنزل، ثم حدثتني عن أهدافها وطموحاتها، وحدثتها وكأنني أتحدث إلى صديق مقرب؛ أكثر من كوني أتحدث إلى فتاة أنوي خطبتها! وقد أراحني هذا الشعور كثيراً في ذلك الوقت! وكم كانت فرحة أمي وأبي كبيرة، بإعلان الموافقة من الطرفين..

وبعد أن تم ترتيب كافة الأمور بين الأهالي، وتحديد موعد الزفاف؛ شعرتُ بحاجة ماسة للاختلاء بنفسي، فلم تبقَ أمامي سوى أيام معدودة، لأتحمل بعدها مسؤولية كبرى، أُخِذَ مني عليها ميثاقٌ غليظ! فأخبرتُ أمي بأنني ذاهبٌ للنادي الرياضي، وقد أتأخر قليلاً حتى لا تقلق عليّ، وقد ذهبتُ هناك فعلاً، والتقيتُ ببعض الأصدقاء القدامى، ولكنني كنتُ أبحث عن الفرصة التي أخلو فيها بنفسي، فخرجتُ من حدود النادي أتمشى وحيداً، في ممشى شجري، بعيداً عن الضوضاء، أراجع شريط حياتي، تحت ضوء القمر، وكان لا بد لظل “نائلة” أن يظهر من جديد؛ إذ كنتُ أبحثُ عن طريقة لأنساها تماماً، وأُسدل الستار على آخر فصولها، فقد رأيتُ أنه من الخيانة للفتاة، التي ستصبح زوجتي؛ أن تكون هناك فتاة أخرى، لا تزال عالقة في قلبي..

وبينما أنا على تلك الحالة من الحوار الداخلي؛ فوجئتُ بظل شخصٍ، يعترض طريقي!! لم أتبين ملامحه في البداية، غير أنه بدا يتعمد لفت انتباهي، وربما يريد التحدث معي.. لكنني ذُعرتُ تماماً، عندما تبين لي أن ذلك الشخص؛ لم يكن رجلاً!! فاستدرتُ وأنا أنوي العودة من حيث أتيت بأسرع ما يمكن، فليس من الحكمة في شيء، أن أقف وحيداً مع فتاة شابة، على ما يبدو، في مكانٍ معزول كهذا!!!!

وقبل أن أقدم على خطوة أخرى في طريق العودة؛ فوجئتُ بها تهتف باسمي، بنبرة كسيرة، كانت كفيلة بزلزلة أعماقي، لتهيج أعاصير وزوابع، بل تفجّر براكين؛ توهمتُ أنني نجحتُ في إخمادها!

– نبيل.. ألم تعرفني؟ هذا أنا.. “نائلة”!

لم تكن بحاجة للتعريف بنفسها، لأدرك أنها هي بعينها، ورغماً عني وعن كل خططي الدفاعية؛ وجدتُ قلبي يخفق بجنون، حتى أنكرتُ نفسي، وأنا أحدثها باستبسال الغريق الذي يتشبث بالقشة:

– ما الذي أصابك يا نبيل!! ألم تقل قبل لحظات؛ بأنه لا وجود لـ “نائلة” في قلبك بعد اليوم!! أكان هذا اختبار مفاجيء لصدق كلامك، فأعلنتَ فشلك فيه من الكلمة الأولى!!!

تمالكتُ نفسي بصعوبة، لأقول لـ “نائلة”، بأكثر نبرة جادة امتلكتها في حياتي:

– أخشى أن يرانا أحد في هذا المكان وحدنا، فيظن بنا سوءا، ولا أريد أن أسيء لك بأي شكل يا أختي..

غير أنني تشنجتُ مكاني، وكأن الشلل أصاب كل خلية في جسدي، وأنا استمع لشهقاتها الملتاعة، وبكائها المرير! وهممتُ أن أهرع نحوها، لأضمها بين ذراعي، وأقول لها مُطمئِنا:

– “نائلة” يا مالكة قلبي، هوني عليك حبيبتي، وأخبريني، هل حدث لك شيء؛ فأقدم حياتي فداء لك؟

لكنني كبّلتُ قدماي، بأقوى أغلال يمكن أن تثبتهما مكانهما، وألجمتُ لساني بشدة، لأقول لها بلهجة جادة:

– هل يمكنني تقديم أي مساعدة؟

فما كان منها إلا أن جثت على ركبتيها، وهي تنتحب بكلام متهدج؛ كاد أن يفقدني صوابي:

– أعلم أنني أستحق منك هذا التجاهل بعدما حدث.. ولكن صدقني، لم أكن أدرك أنك تحبني أو حتى تهتم لأمري، رغم أنك كنتَ الشخص الوحيد، الذي أحببته طوال حياتي، وكنتُ أفضّل الموت على أن أتزوج برجل آخر! لكن أهلي أرغموني على ذلك.. وها قد مر أكثر من عام على زواجي، دون أن تغيب ذكراك من مخيلتي، إذ كان زوجي كثير السفر والترحال، وبالكاد يذكر أن لديه زوجة، عليه الاهتمام بها!! ربما لم تكن تعرف أن زوجة “أشرف” هي أختي من أمي، وهي أكثر من تعلم بمأساتي، فقد انفصلت أمي عن أبي عندما كنتُ في الثانية من عمري فقط، ثم تزوجَت مرة أخرى وأنجبت أختي تلك، فيما تزوج والدي امرأة أخرى وأنجب منها بقية أولاده، وبقيت أنا أتنقل بين البيوت، تارة في بيت جدي لأبي، وتارة في بيت جدي لأمي، تارة عند أبي وتارة عند أمي، وكبرتُ دون أن أعرف معنى الاستقرار، فأشغلتُ نفسي بالتميز والأهداف العظيمة؛ لعلي أتناسى ذلك النقص الكبير في حياتي، ثم شرعتُ في بناء كياني الخاص! لم يكن ينقصني المال، ولم أكن أدرك أنني كنت أبحث عن الحب والأمان.. حتى التقيتك ووجدتُ فيك كل ما أتمناه! ولكنني لم أكن أجرؤ على المبادرة بشيء قد يُساء فهمه، وكنتُ أنتظرك، وأنا أمنّي نفسي بأن أكون قد وقعتُ في قلبك؛ كما وقعتَ في قلبي.. ولكن مضت الأيام دون أمل، واعتراني الهم، حتى حصل ما حصل!! وقبل أسبوع فقط، عندما كنت أحدث أختي برغبتي في الطلاق من زوجي، بعد أن أصبحت حياتي جحيما لا يُطاق، حدثتني عن لقاء “أشرف” بك… وقتها فقط، شعرتُ بأن القدر قد يبتسم لي من جديد.

    لا أذكر بأنني شعرت بوجود كلمات أكثر صدقاً، تنساب بعذوبة وعفوية كتلك الكلمات من قبل، ولا أعرف كيف تمكنتُ من الصمود في تلك اللحظات، دون أدفئها بلهيب أشواقي المشتعلة، أو أغمرها بسيل مشاعري المتأججة، لأخبئها في أعماقي؛ خشية أن يراها أو يسمعها أحد غيري!

وأي شاب يحتمل رؤية حبيبته الوحيدة، التي قضى أيامه يحلم بالوصول إليها؛ تصارحه بحبها ورغبتها، وهي في أشد حالات اليأس والانكسار، بعد أن فقدَ في وصالها الأمل!! وكأنني غبتُ عن واقعي للحظة، فرأيتني انتشلها من بؤسها، وأخلصها من عذاباتها، فأنا فارسها المنقذ، الذي طال انتظارها له، وآن لها الارتماء في أحضانه، ليحلق بها على صهوة جواده الأبيض، فوق سحائب الهموم والآلام، حيث سنبني قصر حبنا، والذي سيرتع في ظلاله أطفالنا، حتى ننسى أننا ذقنا في حياتنا بؤساً قط!

وكأنها خشِيَت ترددي، فرجتني بنبرة؛ أذابت جليداً؛ حاول أن يصمد في لهيب صدري:

– إن منزلي قريب، وأنا وحيدة، فلا تتركني لأشباح وحدتي، أتجرع مرارة الحرمان من جديد، ولا يهمني ما الذي سيحدث بعد ذلك، فلم تعد الحياة تعني لي شيئا!! وثق بأنني مستعدة لفعل أي شيء من أجلك..

ولكن.. لا أدري أي قوة تلك التي كبحت جماحي، وعقدت لساني، فوقفَتْ سداً منيعاً أمام هوى قلبي، فتجمّد قبل أن ينساب في كلماتٍ؛ تكشف عظيم حبي، وشدة شوقي!

لقد أصابتني رعدة خوفٍ؛ ما شعرتُ بمثلها قط! ولستُ أدري إن كان ذاك خوفاً من ارتكاب عملٍ خاطئ؛ أندم عليه طوال حياتي، أم خوفٌ من ردة فعل أمي، التي بذلت جهدها؛ حتى أتمّت خطبتي، أم خوفٌ من ردة فعل أبي الذي يثق بي، أم خوفٌ من خيانة زوجٍ غائبٍ؛ قد لا يكون له ذنبٌ فيما يجري، أو خيانة فتاةٍ على وشك أن تصبح زوجتي!!

رأيتُ ناراً يقع المجرمون فيها سبعون خريفاً؛ فلا يصلون قعرها، وجنة يخلد الأبرار في نعيمها؛ ولا يملون منها أبداً، وفوق ذلك.. ربٌ عظيمٌ لا تخفى عليه خافية، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها!! فخشع قلبي، وسكنَتْ جوارحي، ونطق لساني، وقدماي تلوذان بالفرار:

– لقد عقدتُ قراني، وسأتزوج بعد عدة أيامٍ، إن شاء الله..

ربما توقعتُ كل شيء، إلا سماع شهقتها الفزعة، وهي تسألني بالتياع:

– وهل كنتَ تحبها؟؟

فوجدتُ لساني يجيبها بتلقائية، وأنا أحث الخطى في الابتعاد:

– لقد أصبحَت زوجتي.. وسأحبها، بإذن الله..

غير أنني توقفتُ فجأة؛ لأقول لها دون أن التفت إليها:

– حتى أنتِ يا أختي.. يمكنك أن تحبي زوجك، وقد يرزقك الله منه طفلا؛ يكون قرة عين لك في الدنيا والآخرة، لذا أرجوكِ، عودي من حيثُ أتيتِ، واستري على نفسك ستر الله عليك..

وهممت بالجري كي أختفي من ناظريها بسرعة، لكنني تذكرتُ أمراً هاماً، ختمتُ به كلامي، قبل أن أطلق ساقاي للريح:

– أنا لم أرَ ولم أسمع شيئاً، ولا أعرف عنكِ سوى أنك الطالبة الخلوقة “نائلة عواد”؛ التي ستسعى بجدٍ لتحقيق هدفها في ترجمة كتبٍ، تكون سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجا..

    ورغم مرور كل تلك السنوات؛ ما زلتُ لا أتمالك دموعي كلما تذكرتُ ذلك الموقف، وذكرتُ حفظك لي فيه يارب، فقد كنتَ سندي في جميع أموري، وأنتَ تعلم أنني ما تتبّعتُ لها خبراً بعد ذلك، ولا كشفتُ لها ستراً، وكنتُ أرجو أن ينصلح حالها بكل خير، ابتغاء مرضاتك، وإنني أتوسل إليك بقدرتك، التي حَفِظَت شاباً هائجاً، وثبّتته في ذلك الموقف العصيب؛ أن تُلهم هذا الطبيب الطيب علاجاً؛ يكون فيه نجاة ابني وحفظه من كل سوء، فقد كنتُ شاباً مثله، وأنتَ على كل شيء قدير..

*************************

(2)

“عفــــــــــــــــــاف”

   أنهار من الدموع لا يمكنني حبسها، وأنىّ لي ذلك! قطعة من فؤادي، ممددة على السرير الأبيض أمامي، ما زال شاباً في عمر الزهور، ولستُ أعترض على أمرك يا إلهي، ولكنني أمتك الضعيفة، التي عوّدتَها رحمتك ولطفك.. لم أكن أعرف ما أدعوك به، غير أنني استودعتك قلبي؛ فحفظته!

كنتُ في عنفوان الشباب والصبا مثله، أتطلع بشغفٍ لليوم، الذي أحقق فيه أمنية والداي؛ بتقديم عملٍ يكون فيه عزة الأمة، فلطالما سمعتهما يتحدثان بألم عن التخلف والضعف الذي يجتاح مجتمعاتنا، في حين تتطور الأمم الأخرى وتزداد قوة، لنبقى نحن عالة عليها! وشعرتُ بأن السيادة في القوة؛ ستكون لمن يمتلك “التكنولوجيا” الأكثر تطوراً، فعزمتُ على دخول عالم البرمجة، وانكببتُ على دراستي، التهمها بنهمٍ كي أسبر غور رموزها، وأكشف ما يخفى بين سطورها، فلم أكن لأدرس من أجل درجاتٍ عاجلة، بل كان هدفي التفوق على مصممي البرامج، ومطوري لغات البرمجة بحد ذاتها، فتعمقتُ في تاريخها، وبذلتُ جهدي حتى أحقق إنجازاً لأمتنا، فأُسعِد والداي، تعبيراً عن تقديري وامتناني لكل ما فعلاه من أجلي، ولأريهما بأنهما حتى وإن لم يُنجبا غيري؛ فقد أنجبا فتاة بأمة، تخلد ذكراهما، وتكون سبباً في جريان الحسنات في سجلاتهما؛ إلى يوم القيامة!!

وقد كنتُ ازداد سعادة مع كل معلومة جديدة أتعلمها، بل إن أساتذتي بُهروا بالبرامج التي كنت أنجزها في وقت قياسي، وقد أصبحت أول تجربة لي في تصميم برنامج خاص، حديث القسم والجامعة بأكملها، وقتها كنتُ مهمومة بمسألة الغزو، الذي يخترق بيوتنا رغماً عنا، وهناك شباب قد يكونوا محافظين، غير أنهم مضطرين لتصفح بعض المواقع، التي لا تخلو من صور لا تليق، هذا سوى الإعلانات الفاضحة؛ التي قد تظهر فجأة في أي لحظة، مما جعلني اتخذ من اسمي، الذي سماني به والداي؛ عنواناً للبرنامج الذي عزمتُ على تنفيذه! كنت لا أزال في بداية السنة الثانية، وخبرتي في البرمجة لا زالت محدودة، ومع ذلك عكفتُ على البرنامج بعزيمة وجد، تباركني دعوات أمي، وتشجيع أبي، حتى خرج برنامج “العفاف” بأفضل حلة، كان برنامجاً سهل التحميل، صغير المساحة، لا يحجب من المواقع سوى الصور غير اللائقة، دون أن يؤثر على الكلام حولها، وهو مع ذلك لا يقوم بالحجب الكامل، الذي قد يعيق عمل الباحثين، وإنما يكتفي بالتظليل التلقائي للصور المستهدفة، وقد كان النجاح الباهر الذي حققه برنامجي؛ أثرٌ كبير في شحذ عزيمتي، غير أن المصادر التعليمية والبحثية في الترجمة؛ كانت محدودة حولي، ولم تكن الشبكة العنكبوتية وقتها؛ لتجود علي بالدروس التي أحتاجها، رغم بحثي الحثيث فيه، وقد كان قسمنا من الأقسام الجديدة في الجامعة، ولم يكن بها من الأساتذة من يتفهم تطلّعي الحقيقي لهذا العلم!! حتى ظهر الأستاذ “باهر”، ذلك الأستاذ الشاب الذي أبهر الجميع بموهبته الفذة، وكفاءته العالية، حتى قيل أنه يعرف جميع لغات البرمجة الموجودة، ويمكنه البرمجة بأكثر من لغة في الوقت نفسه، دون أن يفتح ورقة، أو يرتكب خطأ واحداً!!

ومنذ أول محاضرة؛ بُهِرتُ بطريقة تدريسه، فقد كان “باهراً” بحق، ووجدتُ فيه ضالتي المنشودة، التي سأنهل من معينها ما أحتاجه لتحقيق هدفي، وكم كانت سعادتي كبيرة؛ عندما نزل اسمي ضمن قوائم شعبته، في السنة الأخيرة، حيث كنتُ أخشى التخرج قبل أن أحقق إنجازاً عظيماً؛ يعز الأمة..

كنتُ أسأله بلهفة عن كل صغيرة وكبيرة دون حرج، إذ كان يجيبني باستفاضة دون أن يبخس أي سؤال حقه، وهو إلى جانب ذلك على خُلُق كبير، واحترام فائق، يشهد له الجميع بذلك، ورغم أنني لم أكن أذهب إلى مكتبه وحدي أبداً، ولم أكن لأتجاوز حدودي في الحديث معه؛ إلا أنني اكتشفتُ فيما بعد، أن زمام الأمور أفلتت من يدي، دون أن أدري! إذ انتبهتُ فجأة؛ أن قلبي لم يعد قلبي الذي أعرفه، بل غدا وعاءً؛ امتلأ عن آخره بحبه!! وقد هالني الاكتشاف الخطير؛ بأنني لم أعد أذهب لسؤاله من أجل الأسئلة فقط، بل من أجل رؤيته وسماع صوته، وكان هذا مؤشراً خطيراً، لم يعد بإمكاني تجاهله!! فأخذتُ عهداً صارماً على نفسي؛ لا مزيد من الأسئلة خارج وقت الدرس بعد اليوم!! وتناسيتُ هدفي عامدة، بعد أن ارتبط الأستاذ “باهر” به، حتى أسترد صفاء نفسي، وأراجع حساباتي، وكم كان ذلك شاقاً على قلبي!! وكأنه باء بحمله الثقيل، وشوقه الذي لم يجد متنفّساً لِبَثّه، فضخّ إعيائه مع الدم إلى سائر جسدي، فمرضتُ مرضاً شديداً، ولبثتُ في فراشي طريحة الحمى أسبوعاً، حتى إذا ما تحسنت صحتي، وعدتُ إلى دوامي، استقبلتني صديقتي “لبنى” بقولها:

– لقد بدا الأستاذ “باهر” قلقاً عليك، وقد سأل عنك شخصياً، أكثر من مرة!

ثم تابعت بغمزة باسمة:

– يبدو مهتم بك فعلاً!!

ورغم أنني كنتُ أنوي تسفيه هذا التصريح ونفيه،غير أن ظهور الأستاذ “باهر” في نهاية الممر؛ ألجم لساني، وكأن هذا ما ينقصني!!! ويبدو أن وجهي قد اصطبغ بالحُمرة تماماً، إذ أن صديقتي سرعان ما اتخذت من ذلك ذريعة لها؛ لتقول:

– كنتُ أعلم أنك تكنين له بعض المشاعر أيضاً، على كل حال، نحن على أبواب التخرج ومن الجيد أن تفكري بالموضوع جديّاًّ!

هممتُ أن أصرخ بها لأسكتها، أو أكمّم فمها، خشية أن يسمعها أحد، لا سيما وأن الأستاذ بدأ بالاقتراب منا، لكنني قلت لها بتوسل:

– ما هذا الذي تقولينه يا “لبنى”؟؟؟ لا يوجد أي شيء مما يدور في رأسك! ويا حبذا لو تخفضي صوتك على الأقل!!

وقبل أن تعبر “لبنى” عن اعتذارها، كان الأستاذ قد اقترب، فألقى التحية علينا، دون أن يُخفي ابتهاجه برؤيتي سالمة! وعزوتُ ذلك إلى أن أي أستاذ؛ يهتم بالسؤال عن طلبته، خاصة إن لمس منهم جداً واجتهاداً، وهذا كل ما في الأمر! لكن لبنى عادت لتؤكد كلامها:

– إنني بالفعل أعتذر لك إن كان في كلامي ما أزعجك، ولكنني صدقاً لا أرجو لك إلا الخير، فمن الواضح جداً أن الأستاذ يفكر فيك بشكلٍ جاد، لكن سيكون من الإحراج له- بصفته أستاذاً- أن يعرض على إحدى طالباته الخطبة؛ ثم تقابله بالرفض! لذا من الأفضل أن تلمحي له بالقبول المبدئي، أو تسنحي له بفرصة الحديث معك على انفراد؛ ليتشجع…

لم أستطع تمالك نفسي وقتها، وقد شعرتُ بغضبٍ حقيقي:

– لو لم يكن في هذا الأمر، سوى هتك حاجز الحياء والحشمة؛ لكفاه سوءا!! كيف تعرضين عليّ أن أقوم بأمرٍ كهذا، متجاوزة حدودي، ومتخطية لمقام والديّ!!!!

فما كان من “لبنى” إلا أن أسرعت بالاعتذار مرة أخرى، وهي تبرر كلامها بقولها:

– حقاً سامحيني يا “عفاف”، فلم أقصد الإساءة إليك، أو حملك على فِعلٍ لا يليق بكِ، وأنتِ أكثرنا التزاماً وحرصاً، ولكن هذا ما تقوله الفتيات!!

ورغم رفضي القاطع لتلك الفكرة، لكن صداها أحدث ضجيجاً في داخلي، فقد كنتُ أشعر بأن سعادتي ستكتمل بارتباطي بهذا الأستاذ، الذي بدأت براعم أهدافي تُزهر على يديه، وتخيلتُ نفسي معه، يجمعنا بيتٌ واحد، نكمل فيه مشوارنا معاً، في طريق التطوير وعزة الأمة! ولكن.. ما الذي أعرفه عنه؛ سوى أنه أستاذ عبقري خَلوق أبهرنا بعلمه!! كان يقلقني عدم رؤيته يرتاد المسجد، ولو لمرة واحدة، ولم أكن أعلم إن كان يصلي أم لا، وإن كنتُ أتمنى أن يكون كذلك من كل قلبي! ولطالما تساءلت.. ماذا لو تقدم لخطبتي رسمياً، ثم اكتشفتُ أنه لم يكن ملتزماً بالصلاة! أو كان هناك شرخٌ واضحٌ في دينه!! بالطبع لن أوافق؛ فهذا أمرٌ لا نقاش فيه، ولم أكن أدري بماذا أدعو في صلاتي، فتركتُ دموعي تنهمر لتعبر عن حيرتي وانكساري، حتى ألهمتَني يارب دعوة؛ لم تزل تتردد في ذلك الوقت، على لساني:

“إن كان فيه خيرٌ فقرّبه مني، وإن كان غير ذلك فأخرجه من قلبي” 

وكنتُ أتمنى أن تكون الأولى.. حتى حان موعد تسليم مشروع التخرج النهائي، وكنتُ وقتها منهمكة في إعداده من جهة، ومن جهة أخرى؛ أتعذب ألماً مع مرور كل يوم يقربني من ساعة فراق أستاذي، دون أن أعرف ما سيكون مصيري معه، وكان أكبر همي، أن يتقدم خاطبٌ يوافق عليه أهلي، في حين أنني لا أدري؛ ما هو موقف الأستاذ مني، ولشد ما خشيتُ أن أجد نفسي في موقفٍ أجد فيه نفسي مضطرة للقبول بخاطب من أجل أهلي، ثم يأتي ذلك الأستاذ؛ فأخسر سلامة قلبي! فهل كانت “لبنى” على حق؟!! بدا لي ذلك صراعاً أبدياً سرمدياً، لا مناص منه!! فألححتُ بالدعاء لقلبي، قبل الدعاء لمشروعي، الذي كنتُ أظنه فيما سبق؛ أكبر همي! حتى فوجئتُ بجهازي، الذي أعمل عليه، وقد خزّنت عليه كامل ملفاتي؛ يتعطل قبل اتمامي للخطوة الأخيرة، وكنتُ على وشك تسليم مشروعي خلال يومين فقط!! لم يكن لدي الوقت الكافي للتحسر على تعبي الفائت، وكان عليّ إيجاد أسرع طريقة لتسليم المشروع، فطلبت من والداي الدعاء لي، وقد أشفقت أمي عليّ كثيراً، بعد أن رأت عملي المتواصل على هذا المشروع، خلال الأيام الفائتة..

ذهبتُ إلى أفضل مهندس أعرفه، فأخبرني بأن إصلاح الجهاز، سيتطلب منه عدة أيام حتى يكتشف الخلل! ولم يكن لدي الوقت لأضيعه، فخطر ببالي أن أعيد العمل على المشروع من جديد، وبما أن البرامج التي أعمل عليها لم تكن متوفرة إلا على الأجهزة المتخصصة، فقد طلبتُ إذناً من رئيس قسمنا، ليسمح لي بالدخول إلى قاعة الأجهزة، حيث كانت تُغلق بعد وقت الدرس، ولم يكن طلبي صعباً، فسمعتي طيبةٌ في القسم، وعذري مقبول، بل إنه تم منحي يومين إضافيين لتسليم المشروع، وسرعان ما باشرتُ عملي على أحد الأجهزة، أعيد طباعة ما كتبته سابقاً؛ من نقطة البداية! فلم يعد هناك ما يشغلني؛ أكثر من إنجاز عملي، في أسرع وقتٍ ممكن! بقيتُ على ذلك الحال ثلاثة أيام متواصلة، آتي مبكرة للقاعة، وانصرف قبل أن يُغلق القسم أبوابه..

وفي اليوم الرابع، كنتُ وحدي في القاعة، ويبدو أن الممرات بدأت تخلو من الطلبة، أما باب القاعة؛ فقد أبقيته موارِباً، خشية أن يظن الحارس أن لا أحد في الداخل- عند تفقده لقاعات المبنى- فيغلق عليّ باب القسم، دون أن أنتبه! وبينما كنتُ في أوج تركيزي، وأنا على وشك الوصول إلى الخطوات النهائية؛ فوجئتُ بمن يُلقي عليّ التحية، ولم يكن صوته ليخفى عليّ:

– “عفاف”!! لم أتوقع أن أراك هنا! هل تحتاجين أية مساعدة؟

وكأن قلبي توقف فجأة، ثم قفز من بين أضلعي قفزة؛ زلزلت كل خلية في جسدي! فأوقفتُ أصابعي عنوة؛ حتى لا تُفسد العمل في نهايته، ورددتُ تحيته، وأنا أحاول السيطرة على أنفاسي، خشية أن يفضح اضطرابها؛ ما يجول في أعماقي!! وأجَبتُه بحذر الماشي على خيطٍ رفيعٍ، فوق هوة عميقة؛ بأنني أحاول إكمال مشروعي من أجل التخرج!

نطقتُ كلماتي وأنا أبذل جهداً عظيماً لاستعادة اتزاني، وتجاهل وجيب قلبي، من أجل التركيز على الشاشة أمامي، وإجبار أصابعي على اسئناف العمل بهدوء، وكأن شيئاً لم يكن! غير أنني شعرتُ بخطواته تقترب مني، بعد أن وضع حقيبته على المنضدة الأمامية، مما كاد أن يفقدني أي ذرة تركيزٍ تبقت لديّ، فيما كنتُ أحاول جاهدةً؛ استيعاب ما يدور حولي!! أنا وحدي في القاعة، والأستاذ الذي بُليت بحبه؛ تناول كرسياً وجلسَ إلى جانبي، وألقى نظرة سريعة على الشاشة، فهم منها على ما يبدو، فكرة مشروعي، وهو على أتم الاستعداد لمساعدتي!!!

 توقفتْ يداي عن الطباعة، ولم أعد قادرةً على فعل شيء، بعد أن شعرتُ بأنفاسه القريبة، فسمعته يقول:

– عمل رائع.. ما بالك توقفتِ فجأة؟ الخطوة التي كتبتِها صحيحة، لم يبقَ أمامك الكثير..

 وقبل أن أدرك ما عليّ فعله؛ انتفضتُ من مكاني، وقفزتُ واقفةً، كمن مسته صعقة كهربائية، إذ لم تكد أصابعه تلامس أطراف أصابعي- المثبتة على الأزارير- حتى سحبتها بسرعة، وقد وصل بي الاضطراب ذروته، فيما بدا الأستاذ منشغلاً بطباعة بعض الرموز، وكأنني لم أكن أعرف ما عليّ طباعته، أو كيف أنتقل إلى الخطوة التالية!! ولم يعد هناك مجالٌ للتردد، لا بد لي من الخروج فوراً، فقلتُ دون سابق إنذار، وأنا أجمع أوراقي:

– شكراً لك أستاذ، فقد تأخرتُ كثيراً، وعليّ الذهاب الآن..

وخرجتُ بسرعة، كمن يلوذ بالفرار، لأطلق العنان لدموعي، فانهمرت غزيرة على وجنتي!! لقد بكى قلبي شوقه إليه، ورغبته في البقاء بقربه، بكى تلك الفرصة التي تحدثَت عنها “لبنى”، والتي قد يترتب عليها لقاءٌ أبديٌ لا فراق بعده!! لقد بكيتُ وبكيتُ، ولكنني لم أكن نادمة! وعدتُ في اليوم التالي، في الوقت الذي تقوم فيه عاملات النظافة عادة بالتنظيف، وكنتُ مستعدة للتنازل عن درجة مشروعي النهائي، إذا لزم الأمر!! كنتُ أتمنى أن أجد العمل محفوظاً على الجهاز، فوجدته مكتملاً، وما عليّ سوى تسليمه!! لا أذكر كيف كانت مشاعري وقتها، هل كانت مشاعر سعادة وامتنان لذلك الاستاذ، الذي حاول التعويض عن ارباكي بوجوده؛ أم ضيقٍ وامتعاض!! إذ لم أكن أرضى بأي شكلٍ من أشكال الغش طوال حياتي، وكنتُ أخشى أن أقدم عملاً يخالط أمانته إدنى شائبة، حتى أن صديقاتي كنّ يعتبرنَ ذلك حرصاً زائداً، لا مبرر له! ربما كانت مشاعري مختلطة وقتها، ولم يكن لدي من الوقت الكافي ما يجعلني أتخذ قراراً متزناً، فقد فوجئتُ برئيس القسم- وهو أحد الأساتذة المشرفين على مشاريع التخرج- يمر عليّ في القاعة، وهو برفقة أستاذٍ آخر، وكأنهما في جولة تفقدية:

– ألم تنتهي من المشروع بعد؟؟ لا يمكننا ترك القاعة مفتوحة أكثر، فنحن في آخر العام، وعلينا أن نبدأ بعمليات الصيانة لجميع الأجهزة..

فوجدتُ نفسي أجيبه دون تفكير:

– آسفة لتأخري، المشروع جاهز الآن، وسأقوم بحفظه فوراً على القرص، إن شاء الله..

كان عزائي الوحيد، أنني كنت أعرف تماماً، جميع الخطوات المتبقية في إكمال المشروع، ومع ذلك؛ بقيت هناك غصة في قلبي!

لم أرَ الأستاذ بعدها، وكنتُ أتساءل، هل كان يُفترض بي أن أذهب لأشكره؟ لكنني لم أفعل، فهل تراه فهم من تصرفي، أنه لا يعني لي شيئاً!! كان هذا ما يقلقني، ولكن لم يكن أمامي خيار آخر.. حتى جاء ذلك اليوم، الذي قدّمتُ فيه آخر امتحان لي بالجامعة، وكنتُ أسير مع صديقاتي، فإذا بي ألمح الأستاذ “باهر”، وهو يسير إلى جانب شابة مُسدلةً لشعرها على كتفيها، ويشبكان بين أصابعهما، وكأن “لبنى” لاحظت تغيراً في وجهي؛ لكنها لم تعلق بشيء، في حين قالت صديقة أخرى:

– انظرن.. انه الأستاذ “باهر” مع خطيبته، سمعتُ أنها معيدة في كلية الهندسة..

فسألتها “لبنى” باهتمام:

– منذ متى وهما مخطوبان؟

فأجابتها:

– منذ أقل من أسبوع على ما أعتقد.. هذا ما سمعته!

تمالكتُ نفسي رغم الألم، فقد عرفتُ طبيعة توجه ذلك الأستاذ أخيراً، ومع ذلك، لم أفتأ أدعو له ولزوجته، وأنا أرجو لهما كل الخير، فقد كان له فضل عليّ، ولم أكن لأنسى ما تعلمتُه منه، وقد أدركتُ وقتها؛ أنك اخترتَ لي أمراً، غير الذي تمنيتُه، فاستودعتك قلبي يارب، وسألتك أن لا تعلقه بغيرك، وأن تعوضني برجلٍ صالح تقيّ عفيف، تحبه ويحبك، فأحبه لحبك..

فأكرمتني بزوجٍ لم أظن يوماً؛ أن هناك أحدٌ مثله، ولا زلتَ متكرماً عليّ بفضلك، وجزيل عطاياك، رغم تقصيري.. وها أنا يارب؛ منطرحة بِبَاب رحمتك.. أتوسل إليك وأرجوك، أن تلطف بابني، وترفع عنه هذا البلاء.. يارب.. قد استودعتك قلبي، فربطتَ عليه في ذلك الموقف الأليم، وها هو ابني قطعة من قلبي، فاحفظه من كل سوء، وأنت خير الحافظين ..

*********************

(3)

“عفيـــــــــــــف”

 دوامة كبيرة، ضباب كثيف، لا أكاد أشعر بشيء.. سمعتُ صوتاً يهتف باسمي.. انهض..  

ولكن أنى لي النهوض!! فيداي مكبلتان، ولا يمكنني الحراك..!!

تردد الصوت..

انهض..

شعرتُ بيدٍ حانية تمسك يمناي، ويدٌ أخرى تُمسك يسراي… تحاولان انتشالي.. أتراهما والداي!!!

تكرر الصوت بإصرار ووضوح هذه المرة:

انهض، وافتح عينيك، فبصلاح والديك؛ رفع الله عنك.. فهل جزاء الاحسان إلا الاحسان!!

لم أفهم تماماً ما الذي يعنيه ذاك، غير أنني شعرت بجفناي يرمشان..

رأيت وجه أمي مبتلاً بالدموع، وأبي قد أغمض عيناه في خشوع .. سمعتُ أصواتاً مختلطة، أزيز غريب.. طنين.. هتافٌ صدح في أذني فجأة:.

– الحمد لله.. لقد فعلها الطبيب “معروف”.. لقد فعلها.. المؤشرات الحيوية كلها عادت للعمل.. لقد زال الخطر.. الحمد لله.. الحمد لله..

ما الذي يحدث هنا.. أين أنا.. أغمضتُ عيناي وفتحتهما من جديد، أمي منكبة على وجهي تقبلني، وأبي يحتضن يدي:

– الحمد لله على السلامة يا “عفيف”..

أغمضتُ عيناي من جديد، وسمعت أصواتاً تقول:

– لا تقلقا.. “عفيف” بخير، لكنه متعب فقط… سيستعيد وعيه تدريجيا، بإذن الله..

وبدأتُ أتذكر.. كان حادثاً مريعاً بلا شك..

******************************

(4)

  أسرعت “سامية” بتجفيف يديها، إثر سماعها لصوت زوجها، وهو يلقي التحية على الأولاد، وهرعت لاستقباله:

– “معروف”! لم أتوقع مجيئك الآن، والغداء لم يجهز بعد، هل حدث شيء؟

فرمقها بابتسامة مرحة:

– لا عليك عزيزتي، المهم كيف حال أمي الآن؟

طرح سؤاله، دون أن ينتظر الإجابة، إذ سرعان ما توجه نحو غرفة والدته، فيما أطلقت سامية تنهيدة طويلة، ابتسمت على إثرها؛ مشجعة نفسها، وهي تحدثها:

– لا بأس.. فهي أمه، وقد ضحت بحياتها كلها من أجله، ومن الطبيعي أن تكون محور اهتمامه الأول..

كانت تدرك في قرارة نفسها، أنه لا يحق لها الاعتراض على شيء، فقد وافقت على شرطه منذ البداية، وقبلت أن تقيم مع أمه في المنزل نفسه، وأن تعاملها بكل احترام وتقدير، فهذا منزل الأم قبل أن يكون منزلها، وعليها احترام رغباتها أولاً، فهي صاحبة الأولوية هنا، وهي سيدة المنزل! وربما لم تكن “سامية” لتوافق على شرطٍ كهذا، لو لم تكن يتيمة الأم، عاشت حياتها في أحضان زوجة أبٍ؛ لم تفكر للحظة أن تعاملها كإبنة! ومن حسن حظها أن والدة زوجها كانت سيدة طيبة، وتخشى الله في تعاملها، فاحتضنتها كما تحتضن الأم ابنتها، وكان هذا أكثر ما تتمناه..

أما “معروف” فقد وجد والدته مستلقية على سريرها كعادتها، منذ أن أُصيبت بذلك المرض، وصدر قرار الأطباء؛ بأنه من الأفضل لها أن تقضي بقية أيامها في بيتها، إذ لم يعد هناك ما يمكن تقديمه لها في المشفى!!

ألقى عليها التحية، بصوتٍ خفيض، خشية أن يزعجها إن كانت نائمة، لكنها سرعان ما فتحت عيناها الواهنتين، مبتسمة:

– كنتُ أفكر فيك..

فمازحها معروف باسماً:

– لهذا أتيتُ مبكراً يا أمي..

قال جملته تلك، وهو يقرب كرسياً؛ جلس عليه قبالتها، فهمّت والدته بالنهوض لترتكز على حافة السرير، غير أن “معروف” أسرع يثنيها عن ذلك بقوله:

– لا داعي لذلك يا أمي، سنتحدث وأنتِ مستريحة هكذا، فأنتِ بحاجة للراحة التامة، حتى تتماثلي للشفاء بإذن الله..

غير أن أمه رمقته بنظرة عميقة، حمّلتها كل ما تكنه من شفقة على ابنها الوحيد، فهو يدرك تماماً حالتها، بعد انتشار الورم في جسدها، بل إن بقاءها على قيد الحياة حتى هذه اللحظة؛ يعد ضرباً من الخيال في المفهوم الطبي، ولم يكن يريد تصديق ذلك أبداً!!

 فانطلق يحدثها بحماسة:

– الحمد لله، اليوم حدثت معجزة.. أقصد كرامة.. فقد أحيا الله على يدي شاباً، لم يكن بينه وبين إعلان وفاته رسمياً؛ سوى ثوان معدودة!! وكان الفريق الطبي على وشك توقيع شهادة الوفاة، بعد أن تم تصنيف حالته ضمن الموت السريري، لأكثر من أسبوع!!

فابتسمت له أمه مشجعة، وكأنها تحدث طفلاً في الخامسة من عمره، لا رجلاً في الخمسين:

– وما الذي فعلته أنت يا حبيبي؟

فأجابها “معروف” بانفعال:

– لقد شعرتُ بأن هناك دافعاً قوياً يدفعني دفعاً لمحاولة انعاشه من جديد، خاصة بعد أن سمعت سبب الحادث الذي أدى به إلى ذلك الحال..

واستطرد قائلاً:

– تخيلي يا أمي.. لقد تم القبض على العصابة، التي انتشر خبرها مؤخراً بين الناس، باعتداءاتهم المتكررة على الفتيات الشابات تحديداً، ويقولون أن طبيبة الأسنان الشابة، والتي كانت سبباً في القبض عليهم، هي أول من نجا منهم بأعجوبة، حتى أن أحداً لم يستطع فهم طبيعة ما حدث، يقولون أنها تأخرت في عيادتها على غير عادتها، وكأنها كانت بانتظار أخيها ليصطحبها إلى المنزل، بعد أن تعطلت سيارتها، ورغم أنها كانت وحيدة في العيادة، إلا أن رجل العصابة- الذي حاول التسلل خلسة إليها، فيما كان ينتظره الثلاثة الباقون في السيارة- فرّ هارباً فجأة، وكأن هناك من سيتخطفه، لتنطلق السيارة بالرجال بعد ذلك بسرعة جنونية، عكس المسار، مما سبب اصطداماً عنيفاً بسيارة أخو الطبيبة، الذي كان في طريقه إليها.. والآن اثنين من الرجال في حالة خطرة، والاثنين الاخرين لا يزالا تحت التحقيق، بعد أن تبين أن تلك المجموعة؛ وراء تلك الاعتداءات المتكررة.. وأظن أن هذا كان دافعاً كبيرا لي لانقاذ هذا الشاب تحديداً، وقد شعرتُ بأنه من عائلة مباركة، فصلاح والديه ظاهر..

وابتسم متابعاً بسعادة:

– وقد طلبتُ منهما أن يدعوا الله لك أيضاً يا أمي! بل وقبل أن أطلب منهما ذلك، كانا يلهجان بالدعاء لي ولمن أنجبني.. كانت دعوات صادقة من القلب، لك أنتِ يا أمي الحبيبة..

فدمعت عينا الأم بتأثرٍ شديد، فيما كان ولدها يقبل كفيها بامتنان وحب:

– رضي الله عنك يا بني..

 لكنها استدركت، باهتمام مفاجيء:

– هل تعرف..

لكنها بترت عبارتها، فحثها ابنها على الكلام، فقالت:

– هل تعرف من هي والدة هذا الشاب؟

فهز “معروف” رأسه نفياً، لكنه قال:

– لا أعرف من تكون أمه، ولكن اسمه حسب الكشف الطبي “عفيف نبيل أكرم”..

لم يكد “معروف” ينطق بالاسم، حتى فوجيء، بعينا والدته تجودان بدموع غزيرة، حتى أنها استدارت على جنبها، لتشيح بوجهها عنه، وهي تردد بهمس:

– “نبيل أكرم”!! لا عجب أن يحفظ الله ابنته، ويُنجي ابنه!

ولم يستطع “معروف” سماعها جيداً، فسألها باهتمام:

– هل تعرفين والدته يا أمي؟

غير أنها التفتت إليه، وهي تمد ذراعيها نحوه:

– ساعدني على النهوض..

 فاقترب منها “معروف” وهو يشعر بشفقة عليها، فأخذته بين ذراعيها، لتضمه إلى صدرها، طابعة قبلة حانية على خده:

– إنني حقاً فخورة بك.. لقد أحسنتَ صنعاً هذا اليوم يا بني، بارك الله فيك، وفي زوجتك وذريتك، وعملك ومالك، وفي كل خطوة تخطوها في حياتك..

دمعت عينا “معروف”، وشعر برغبة في البكاء على صدر أمه، وكأنه على موعدٍ أليمٍ لا بد منه! فحاول ثنيها عن القيام، لأجل راحتها، لكنها أصرّت بقولها:

– أرجوك يا بني.. أريد أن أصلي لله ركعتين..

فلاطفها بقوله:

– يمكنك أن تصلي وأنتِ جالسة..

 لكنها نظرت في عينيه بعمق، بثته كل ما حملته له، من عطف وحب:

– قد تكون هذه آخر أمنياتي، فلا تحرمني منها..

لم يستطع “معروف” تمالك نفسه، فانهمرت الدموع من عينيه، وهو ينكب على رأسها يقبلها:

– لا تقولي هذا أرجوك، ستتعافين بإذن الله..

لكن أمه ربتت على رأسه بحنان:

– لا تحزن يا بني، فأنا سعيدة جداً هذا اليوم، بل إن هذا اليوم؛ هو أسعد أيام حياتي كلها، فجزاك الله عني؛ خير ما جازى ابناً باراً عن والدته..

 ولم يجد “معروف” بداً بعد ذلك، من النزول عند رغبتها في القيام، وهو يتمالك نفسه خشية أن ينهار بالبكاء في أية لحظة، فساعدها في الوضوء على أكمل وجهٍ كما أرادت، وقبل أن تشرع في صلاتها؛ التفتت إليه قائلة، بابتسامة مرحة، وقد أشرق وجهها بنورٍ غريب:

– أنت لم تتناول غداءك يا بني، اذهب واجلس مع زوجتك وأولادك.. ودعني في خلوتي قليلاً…

  وفي محراب سجودها، وهي تناجي خالقها؛ سكبت آخر ما تبقى لها من دموع..

يارب.. أكثر من خمسين عاماً وأنا أدعوك؛ أن تغفر زلتي، وتعفو عن حوبتي، وتقبل توبتي..

يارب.. كنتُ على شفير الهاوية، قد عَمِيَ قلبي بحبه، وبلغ بي اليأس ذروته، قد غاب عني كل رادع، وكدتُ أن أتحرر من أي وازع، فأبى أن يدفعني للسقوط، وترفّع عن استغلال ضعفي وحاجتي، فأيقظني بكلماته، وأحيا ضميراً؛ كان قد تاه في سباته، وقد رجوتك أن تعينني على رد معروفه، وأسميتُ ابني معروفاً؛ خشية أن تشغلني الحياة، وتنسيني ديناً في عنقي له!

 لم أكن أخشى لقاءك يارب.. فأنت أرحم الراحمين، ولكنني كنتُ أرجو أن تقر عيني، برد دَيني..  واليوم اطمأن قلبي، فلك الحمد أن جعلتَ من ذريتي، من يكون سبباً في نجاة فلذة كبده، فيا رب.. بارك له في أهله وماله وعقبه، وجازه عني خيراً..

يارب.. يظن الناس بي خيراً وإني.. لشر الخلق إن لم تعفُ عني..

فكما سترتني في الدنيا.. وجعلتَ لذلك سبباً، فلا تخزني يوم العرض عليك، وأحسن وقوفي بين يديك.. توفني وأنتَ راضٍ عني… وألحقني بالصالحين..

*****************

(5)

“عفيـــــــــــــف”

   أشعر بأنني سأقفز من الحماسة، فاليوم هو موعد المفاجأة التي خططنا لها طويلاً، وقد جاءت في وقتها حقاً!! فقد كانت الأشهر الفائتة عصيبة على والداي، بداية من تعرّضي لذلك الحادث المروّع، بعد أسبوع واحدٍ من تخرجي في كلية الطب، وما تلا ذلك من معرفتنا بوفاة والدة الطبيب الذي كان سبباً في نجاتي، فرغم أنه لم تكن تربطنا بهم أي علاقة مسبقة، لكن أمي أصرّت على الذهب للعزاء، فقد رأت أن من واجبنا الوقوف إلى جانبه، وهذا كان رأي أبي أيضاً، وقد ذهبتُ معه، رغم أنني كنتُ لا أزال في فترة النقاهة! لكنني لم أكن أتخيل، أن ذهابنا ذاك؛ سيترك ذلك الأثر على والداي!! لقد بكت أمي تلك السيدة، رغم أنه لم تلتقيها في حياتها، ولم تسمع باسمها من قبل، بعد أن سمعت قصتها من زوجة ابنها الوحيد!! فقد ترمّلت وهي في ريعان الشباب، وقبل أن تنجب طفلها البكر بشهرين! لكنها آثرت أن تتكفل برعايته، بدل الزواج مرة أخرى! ولم تتواني في تربيته والاهتمام به، بعد أن أصبح محور حياتها، وبؤرة اهتمامها؛ حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولم يكن ابنها لينسى فضلها عليه، فكان باراً بها، حتى أنه تأخر في زواجه؛ إلى أن تأكد من عثوره على زوجة ترضى بشرطه! بل- وكما تقول أمي- فقد كانت زوجته، متأثرة جداً لوفاتها، فهي تعدها أماً لها أيضاً..

ربما كان تأثر أمي الشديد على أم الطبيب طبيعياً، فهي حساسة جداً، ولكنني تفاجأتُ حقيقة من ردة فعل أبي!! فبينما كنا في مجلس العزاء، دخل مجموعة من الرجال الأجانب، وسلموا على الطبيب- الذي كان يقاوم حزنه- بحرارة، ثم تحدث أحدهم بلغة أجنبية، فهمها والدي، ويبدو أن الطبيب لم يفهمها، كما لم أفهمها أنا، فنحن نجيد الانجليزية فقط، إلى جانب العربية، على خلاف أبي، المترجم المعروف!! ولم يتردد أبي بالقيام بوساطة الترجمة، بين المتحدث والطبيب، قائلاً بأنه حديث عهدٍ بالإسلام، وكان يبحث عن كتبٍ إسلامية بلغته، فلم يعثر إلا على كتبٍ ترجمتها والدة الطبيب، وعندما سأل عنها؛ للتواصل معها من أجل مساعدته في ترجمة المزيد من الكتب، عرف بوفاتها فأصر على حضور العزاء، وقد عرضَ أبي عليهم مساعدته، بصفته مُترجماً، فتهلل وجه الرجل بذلك، ثم عرّف بأصدقائه ومعظمهم مثله؛ حديثوا عهدٍ بالاسلام، بل ومنهم من أسلم على يديه، بعد أن أهداه من تلك الكتب المترجمة! ثم أخرج أحد الرجال نسخة من الكتاب، مشيراً إلى أنه هو الذي كان سبباً في اسلامه، كان المشهد بالنسبة لي رائعاً، فأن تكون سببا في إسلام أحدهم، أمرٌ لا يقدر بثمن، وقد يكون هذا مؤثراً جداً، لكن أن تنهمر دموع أبي، وهو ينشج بصمت، رغم محاولته اخفاء ذلك، بمجرد أن رأى الكتاب؛ فهذا أمرٌ لم أفهمه!! حتى أنني ألقيتُ نظرة فاحصة على الكتاب مرة أخرى، فلم أجد فيه شيئا غريباً، فعنوانه عادي، ويحمل اسم مؤلفه، ومترجمته، “نائلة عواد”، وعندما سألتُ أبي عن سبب تصرفه ذاك، فيما بعد، اكتفى بقوله: “لئن يهدي بك الله رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم”.. وقد مرت أيام ثقيلة، وكأننا فقدنا شخصاً عزيزاً علينا، وبالطبع كان أبي أكثر تماسكاً من أمي، التي بدت وكأنها فقدت أختها، حتى أنني شعرتُ بالارتياح؛ عندما تولى أبي مهمة التخفيف عنها..

بعد ذلك انشغلنا بخطبة أختي “مريم” ثم زواجها، ويبدو أن الحادثة التي تعرضت لها أكسبتها شعبية خاصة! فقد تقدم لخطبتها في الفترة نفسها؛ أربعة خاطبين على الأقل!! ورغم أن تأخرها في الزواج حتى هذا السن، كان أمراً مقلقاً للبعض، لكنني كنتُ أعتقد أن هذا كان لصالحي شخصياً!! فكَوني “آخر العنقود” في عائلة كبيرة، أفقدني المشاركة في الكثير من الأحداث العائلية الهامة، التي مرت بها أسرتنا! فأنا في عمر ابنة أختي الكبيرة “عفيفة”، وعندما بلغتُ السابعة فقط، على سبيل المثال، كان معظم أخوتي قد تزوجوا، أما عندما صرتُ في الثانية عشرة من عمري، فلم يتبقَ في المنزل مع والداي؛ سواي أنا و”مريم”، التي تكبرني بسبع سنوات، وقد كانوا يظنونها “آخر العنقود”، حتى أتيتُ؛ فسلبتُها اللقب!! كما أنني لم أشهد النقلات النوعية، التي مرت بها أسرتنا! إذ وُلدتُ بعد سنتين من انتهاء بناء منزلنا ذو الطبقتين، والذي قام أخي “كريم” باقتراح تصميمٍ له، وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، كما قالت أمي! ولا أستغرب ذلك، فشهرته الكبيرة- بصفته مهندساً معمارياً مرموقاً في البلاد- لم تأتِ من فراغ، فهو موهوبٌ بفطرته بلا شك! لذا كنتُ حريصاً على معرفة ما فاتني من أحداثٍ قبل ولادتي، فكانت أختي “آسيا” التي تكبر “مريم” بأربع سنوات؛ هي مرشدتي في ذلك، خاصة فيما يتعلق بحكايات أجدادي، الذين لم أرَ أي واحد منهم!! فقد توفيت جدتي لأبي- وهي آخر من بقي من الأجداد- قبل ولادتي بسنة واحدة، وقد حدثتني “آسيا” عن المعاناة التي مر بها أبي في تلك الفترة، وأظن أن هذا هو السبب الذي جعله يتأثر بموت والدة الطبيب، فقد يكون هذا قد ذكّره بوفاة جدتي! كما أخبرتني “آسيا” عن الظروف العصيبة التي تلت ذلك، خاصة عند اكتشاف حَملِ أمي بي، وما صاحبه من قلقٍ على صحتها، فقد كانت في التاسعة والأربعين من عمرها آنذاك، وكان يُخشى عليها وعلى جنينها من هذا الحمل الذي أتعبها كثيراً، ولكن المحنة مرّت على خير، وأتيتُ بفضل الله سالماً ومعافى، بل إن عمتي الصغرى، تقول بأنني أكثر إخواني شبهاً بأبي، وأكاد أكون نسخة طبق الأصل عنه في شبابه، وأحمد الله على نعمة هذا الوجود.. أما بعد زواج “آسيا”، فقد بقيت “مريم” رفيقتي الوحيدة في المنزل! من أجل ذلك كله؛ كان تأخر زواجها؛ لصالحي أنا قبل أي شيء!! وقد ترك انتقالها من بيتنا إلى بيت زوجها، قبل ثلاثة أشهر؛ فراغاً كبيراً لدي، ولدى والديّ أيضاً..

واليوم الجمعة، الموافق للذكرى الخمسون لزواج والديّ، هو يوم المفاجأة الكبرى، التي أعددتها مع أخوتي، لأمي وأبي..

ورغم أنني أصغرهم سناً، ومساهمتي المادية في المفاجأة؛ لا تكاد تُذكر نسبة لإسهاماتهم؛ إلا أن دوري، في الترتيب لذلك الاجتماع الهام؛ كان هو الأهم! إذ كانت السرية جزء من المفاجأة، ولم يكن من السهولة إخفاء حدثٌ كهذا عن والداي، دون أن ينتبها إليه، خاصة وأن من عادتهما يوم الجمعة، الافطار مبكراً، بعد أن يؤديا ركعتي الإشراق، حيث تقوم أمي بإعداد إفطارٍ خفيف لنا نحن الثلاثة، ثم تخلد هي وأبي للراحة، قبل أن نستعد للذهاب إلى صلاة الجمعة، ومن ثم يبدأ منزلنا باستقبال أخوتي وعائلاتهم، كلٌ حسب ظرفه..

ورغم أن الاتفاق بيني وبين أخوتي، هو عدم التلميح لهم بشيء؛ إلا أنني لم أجد بداً من ذلك، بعد أن طلبت منهما بإصرار، الخلود إلى الراحة في غرفتهما بعد صلاة الفجر، على أن لا يخرجا حتى أُعلمهما بذلك، لأنني سأعد لهما إفطاراً ملكياً؛ يليق بهما على ذوقي!! كان هذا هو التلميح الوحيد!!

 وكما توقعت، كانت أختي الكبرى “عفيفة”؛ هي أول الواصلين، فهي العقل المدبر لهذه المفاجأة منذ البداية، رغم أن أخي الأكبر “أكرم” والذي يصغرها بسنة واحدة فقط؛ يقول بأن الفكرة نفسها خطرت بباله، قبل أن تقولها هي!! بغض النظر عن صاحب الفكرة، فإنني حقاً سعيد بفكرة اجتماعنا نحن الأخوة العشرة فقط، مع أمي وأبي، فهذه الفرصة لم أحظى بها من قبل، بل إن هذا الحدثٌ لم أشهده طوال حياتي!

بالطبع وحتى لا يُحدث وصول أخوتي أي جلبة، فقد تم الاتفاق على أن يقوموا بتنبيهي لوصولهم؛ على هاتفي الخاصي، لأقوم بفتح الباب لهم بهدوء؛ بدل قرع الأجراس! ورغم أن غرفة نوم والداي تقع في الطابق العلوي، وقد قمنا باختيار الصالة الكبيرة في الطابق الأول لتكون مركز الحدث؛ إلا أن أختي “عفيفة” كانت على قدرٍ كبير من الحذر والهدوء، وهي تطلب مني مساعدتها في نقل الطاولة، لنضعها في منتصف الصالة!! شعرتُ بامتعاضٍ من طلبها ذاك، فالطاولة ثقيلة جداً، ولا أجد ضرورة لذلك، ولكنني أعرف أن أي اعتراض على قراراتها؛ شبه مرفوض، فقلت لها:

– ما رأيك لو ننتظر البقية، فهي ثقيلة، وإذا لم نمسكها جيداً قد تُحدث جلبة!

وقبل أن تُجبني بشيء، وصلتني الاشارة المتفق عليها من “كريم”، فأسرعت لفتح الباب، وكان قد أحضر معه أخي “سليم”؛ بعد أن استقبله في المطار، والذي جاء خصيصاً من أجل هذا الحدث الهام، فهرعتُ نحوه أسلم عليه بشوق، إذ أنه منذ انتقل للعمل في دولة أخرى، ونحن لا نراه إلا مرة واحدة كل عام، وأعتقد أن مجيئه اليوم؛ سيكون مفاجأة لوالدي بحد ذاتها! وبالطبع لم يكن هناك وقتٌ للكلام الكثير، فأوامر “عفيفة” تقتضي الإسراع بالترتيبات اللازمة! ومن دون نقاش؛ وجدتُ نفسي مع “سليم” و”كريم” ننقل الطاولة إلى حيث أشارت! وبينما قامت هي بترتيب الأطباق، التي أحضرتها معها على الطاولة؛ طلبت مني الاتصال بـ “كريمة” لتطمئن بأن الأصناف التي تكفلت بإعدادها جاهزة، ولم أكد أسمع صوتُ “كريمة” على الطرف الآخر، حتى فوجئتُ بها تقول لي:

– من الجيد أنك اتصلتَ الآن، افتح الباب بسرعة لو سمحت، وتعال ساعدني في حمل الأغراض..

لقد فاجأني ذلك حقاً، فقد كنتُ أتوقع أن تكون آخر الواصلين! فرغم أنها توأم “كريم”، إلا أنها كانت مختلفة عنه بشكل كبير! صحيح أنهما متفاهمان تماماً، لكنهما مختلفان! فـ “كريم” دقيق جداً في مواعيده، وهو أكثر من نعتمد عليه من هذه الناحية، أما “كريمة” فعكسه تماماً، فهي إن قالت بأنها تتوقع أن تكون عندك في الساعة السابعة مثلاً، فإنك تتوقع أن تكون عندك في أي ساعة، إلا السابعة!! ولا ريب أن “عفيفة” كانت قلقة من هذه الناحية، ولكن “كريمة” ولأول مرة.. أتت في الموعد الذي حددته تماماً!!

وبينما كنتُ أحمل الأكياس المتبقية، التي أحضرتها “كريمة” معها، إلى الداخل، وصَلَت “أمامة”، فسلمتُ على زوجها الذي أوصلها بسيارته، وقد بدا مستعجلاً للعودة إلى فراشه قبل موعد الصلاة، فيوم الجمعة بالنسبة له، هو يوم راحته الوحيد، ولا شك أن وجود “أمامة” معنا اليوم، سيعطيه راحة إضافية، إذ لن تطلب منه الخروج في نزهة عائلية، أو ما شابه!!

وفي غضون أقل من ساعة؛ جاءت “آسيا” بصحبة “أكرم”، فمنزلها قريبٌ من منزله، ثم جاءت “مريم”، وأخيراً حضر “رؤوف”؛ وأحضر معه الفواكه المتفق عليها، فشرعت “أمامة” بتقطيعها مع “كريمة” بسرعة، لإعداد سلطة الفواكه الطازجة، بخلطة “كريمة” الشهيرة!

 أما “مريم” فقد انشغلت مع “أكرم” و”كريم” في تركيب الزينة، وتنسيق الزهور، فيما انضمت “آسيا” لـ “سليم” و”رؤوف”، أثناء إعدادهما لجهاز العرض..

وكانت “عفيفة” بالطبع؛ هي المديرة، والمشرفة العامة على ترتيب المكان!

ولأن كل واحدٍ منا يعرف دوره بدقة- إذ كنا قد اتفقنا على كافة التفاصيل، في المجموعة الخاصة التي أنشأتها “آسيا”، عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي- فقد أصبح كل شيء جاهزاً بسرعة، وحان دوري لدعوة والداي..

استأذنتُ عليهما، وطرقتُ الباب بهدوء، قبل أن تفتحه لي أمي بابتسامة مرحة:

– الحمد لله على السلامة! هل انتهيتَ من إعداد فطورك الملكي؟؟

فضحكتُ قائلاً:

– أجل يا سعادة الملكة..

ثم وجّهتُ كلامي لأبي، الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة مشرقة:

– يشرفني دعوة جلالتكم، لحضور حفلنا المتواضع، فشعبكم بانتظاركم..

عندها شعرتُ بانفعال أمي، وهي تسألني بلهفة:

– هل حضر أخوتك أيضاً؟

وهمّت بالجري نحو الطابق الأرضي، لكنني استوقفتها قائلاً:

– على مهلك يا أمي، فعلى الملك أن يصطحب الملكة، في مشية ملكية!

وكان أبي سريع التجاوب معي كالعادة، فأخذ دوره بدقة، ووقف أمام أمي- على طريقة فرسان العصور الوسطى- قبل أن يتأبط ذراعها، ويسير معها نحو الدرج بقامته الممشوقة، حيث سرتُ أمامهما، وأنا حريصٌ على أن أكون أمام أمي تحديداً؛ خاصة عند نزولنا الدرجات، خشية أن تنفعل لرؤية “سليم”؛ فتزل قدمها، لا قدر الله! وقد حدثَ ما توقعته بالفعل، فلم تكد تقع عينا أمي، على إخوتي- الذين تحلقوا حول آخر درجة في الأسفل- حتى هتفت باسم “سليم” بانفعالٍ شديد، وكادت أن تقفز نحوه قفزاً؛ غير أن أبي كان الأسرع في إعادتها لاتزانها، بعد أن ضمها إليه بقوة، قبل أن تنزلق قدمها على الدرجات! فعَلَت أصوات إخوتي بالهتاف والتصفيق لهما، وكأننا أمام مشهدٍ؛ في فلمٍ عاطفي جميل!

وبعد أن تعانق أخوتي مع والداي، وقد كان نصيب “سليم” هو النصيب الأكبر في ذلك العناق بالطبع، أخذت أمي تسأل واحداً واحداً منهم بلهفة:

– أين أولادكم، وكيف حال أزواجكم؟ وزوجاتكم؟ ألم يحضروا معكم؟ “كريمة”.. هل حضرتِ وحدك أيضاً؟ أين أولادك؟ وكيف تركتِ “سمية”؟

بالطبع كان من الغريب أن تحضر “كريمة” وحدها، فهي من النادر أن تترك أولادها، بل لم تكن تتركهم أبداً، فهي الوحيدة بين أخواتي؛ التي آثرت أن تكون ربة بيتٍ فقط، كما أن ابنتها “سمية” لم تتجاوز العامين بعد، لكنها طمأنت أمي بأن ابنتها الكبرى- ذات الأربعة عشر ربيعاً- تكفلت بالعناية بها، وطمأنهَا الجميع على أحوالهم أيضاً، وأخبرناها برغبتنا في أن تكون هذه حفلة خاصة جداً..

  سرنا- بعد ذلك- نحو الصالة، خلفَ والداي، وكأننا في موكبٍ مهيب، ثم قدّم “أكرم” لهما الوسادة الصغيرة ،التي وضعنا فوقها المقص، لقص الشريط على باب الصالة، كما يفعل الرؤساء عند افتتاح الأماكن الهامة، وقالت أختي “عفيفة” باسم الجميع:

– من هذه الصالة نهديكم مفاجأتنا، تعبيراً عن شكرنا وامتناننا لكل ما بذلتوه من أجلنا، لتكون انطلاقتكم الحقيقية إلى العالم، بإذن الله..

ولم يكونا يتوقعان، أنها عنَت المعنى الحرفي لتلك الجملة..

  وكما توقعنا، أمسك أبي بالمقص، وناوله لأمي، ثم وضع يده على يدها؛ ليقصّان الشريط معاً، وهتفنا لهما بحماسة وسعادة، ونحن نسأل الله لهما طول العمر وحسن العمل، مع دوام الصحة والعافية..

ثم تولت “عفيفة” إدارة الحفل، فدعت الجميع إلى طاولة الطعام؛ والتي زخرت بما لذ وطاب، من مأكولات خفيفة، ومعجنات وحلويات، وفاكهة وعصائر، وأخذ كل واحدٍ منا مقعده على جانبي الطاولة المستطيلة، الذكور في طرف، والاناث في الطرف المقابل، فيما جلس أبي قبالة أمي، كل واحدٍ منهما على رأس المائدة.. وبعد أن بدأ أبي بدعاء الطعام، وردده الجميع معه، استمتعنا بألذ وجبة إفطارٍ، حلمتُ بها في حياتي.. كان إفطاراً ملكياً بمعنى الكلمة!!

وبعد أن حمدنا الله على ما رزقنا؛ وجمعنا الطعام الزائد في صحون نظيفة، لحفظها في الثلاجة- إذ لم يكن من عادتنا رمي الطعام أبداً، ولا حتى كسرة خبزٍ منه- انتقلنا إلى المقاعد المدعمة بالوسائد المريحة، حيث جلس أبي إلى جانب أمي، كما يجلس العروسان على عرشهما ليلة الزفاف، فيما جلسنا نحن حولهما، أمام شاشة العرض الكبيرة، التي تولى “سليم” و”رؤوف” تركيبها.. ولم يكن أمام “آسيا”؛ سوى الضغط على زر التشغيل، ليبدأ عرض الفلم- الذي قامت بإعداده، بمساعدة البقية- بعد أن أغلقتُ الستائر المخملية، وكأننا في قاعة عرض حقيقية..

بدأ الفلم بـالعبارة الشهيرة: “حدث في مثل هذا اليوم”

إنها الذكرى الخمسون لزواج والديّ! نصف قرن من الحب والعطاء..

وهاهو أبي يحيط بذراعه اليمنى؛ كتفا أمي- التي جلست عن يمينه- فيما رَمَت هي برأسها على كتفه، أثناء مشاهدتهما للعرض..

لا أعرف كيف أصف مشاعري، كلما رأيتُ والداي معاً، فهما مثالٌ للحب الصادق، الذي يحلم به كل انسان، ولطالما تساءلتُ عن سر هذا الحب الكبير؛ الذي لا ينضب معينه بينهما! فرغم كل هذه السنين؛ إلا أن علاقتهما تبدو شابة فتية، تتوقد باستمرار اهتماماً ولهفة، وكأنهما لا يزالا في شهر العسل! هذا إلى أنهما يتقاسمان الكثير من الاهتمامات، رغم أن أبي أكد لي مراراً وتكراراً؛ أنه لم يكن يعرف أمي قبل الزواج أبداً، والشيء نفسه قالته أمي!! ربما يبدو الأمر غريباً، ولكن هذه هي الحقيقة!! وقد عزيتُ الأمر بداية، إلى أن الحب جاء بعد طول عِشرة، لكن “عفيفة” و”أكرم”، وهما أكبر إخوتي، يقولان بأنه ورغم مرور بعض الأوقات العصيبة، التي تمر بها البيوت عادة؛ إلا أن الحب بين والداي؛ كان سرعان ما يتغلب في النهاية؛ على أعتى مشكلة قد تنشأ بينهما!

وإنني أتساءل.. هل يمكن أن التقي بفتاة؛ تشاركني حياتي بحبٍ واهتمام، مثل أمي وأبي!! ربما آن لي التفكير جدياً في هذا الأمر، فسأنتقل الأسبوع القادم للعمل في المستشفى، من أجل سَنَة الامتياز الطبي، حيث سأتقاضى راتباً لأول مرة..

كان والداي يتابعان الفلم بتأثر واضح، فقد أبدعت “آسيا” في إخراجه، أيّما إبداع، فبعد أن عرضت صوراً متنوعة لحياة والداي خلال مسيرة حياتهما، انتقلت للإنجازات التي حققاها خلال تلك السنوات، وبدأت بأختي الكبرى “عفيفة”، ذات التسعة وأربعين عاماً، والحاصلة على شهادة في علم الأحياء، إضافة لأبحاثها واهتمامها بعلم النفس والطبيعة البشرية، فقد كانت مديرة لأكبر مدرسة للبنات في البلاد، لأكثر من عشرين عاماً، عملَت خلالها على تحويلها لنموذجي مثالي، للبيئة التربوية الصالحة، حتى اشتهرت بنظامها، وحسن سلوك طالباتها، فزاد إقبال الناس عليها، يسعون لالحاق بناتهم بها، إلى أن توسعت مبانيها، ووصلت إلى ما وصلت عليه، ورغم أن “عفيفة” تقاعدت هذه السنة، إلا أنها لم تترك أبحاثها العلمية، وأكاد أجزم أنها تعد بيتها خلية تجاربها الأولى، فلم تكن المدرسة؛ سوى صورة مكبرة عنه، وربما كان هذا هو سر نجاحها! وقد تم تكريمها في حفل تقاعدها الذي حضره كبار الوزراء في البلاد، إذ تم تعيينها كمستشارة بعد ذلك، في وزارة التربية، وقسم تطوير المناهج..

ثم انتقل الفلم إلى “أكرم”، والذي حذا حذو والدي في تعلم اللغات والترجمة، إضافة لاهتمامه بمجال إدارة الأعمال والمحاسبة، فكان يحضر دروساً ودورات مكثفة فيهما، ولم يكن ليكتفي بالعمل الوظيفي بعد ذلك، إذ اقترح تأسيس مركزٍ خاص؛ يجمع بين أعمال الترجمة والبرمجة، على مواصفات قياسية عالمية، فلاقى اقتراحه ترحيباً من أمي، التي وجدتها فرصة لاستثمار جهودها، ودعماً من أبي، الذي فضّل متابعة عمله في وظيفته، مع مساهمته في رأس المال والتأسيس، على أن يستلم “أكرم” الإدارة، وكانت تلك هي بداية انطلاق مركز “مودة للترجمة والبرمجة”، والذي توسعت أعماله، فجلب له أخي باستشارة والدي؛ أشد الموظفين كفاءة واتقاناً، وقد تم تصنيفه عالمياً؛ ضمن أفضل عشرة مراكز تخصصية، على مستوى العالم، بعد أقل من عشرة أعوامٍ على تأسيسه! وقد كان “أكرم” حريصاً جداً؛ فيما يتعلق بالأمور المالية، حتى لا تختلط الأمور، وتضيع الحقوق، أو يتسبب ذلك في أية خلافات..

ثم جاء دور “سليم”، والذي أكمل قبل عدة أيام؛ خمسة وأربعين عاماً من عمره، وهو عبقري العائلة إن صح التعبير، فبعد أن حصل على شهادةٍ عليا في هندسة الاتصالات؛ شرع في دراسة هندسة الالكترونيات، وقد حصل على براءة اختراع، لاختراعه جهازاً ذكياً صغير الحجم، يشبه مكبر الصوت تقريباً، يتم توصيله بجهاز الحاسب، وعند التحدث من خلاله، يقوم بتحويل الموجات الصوتية، إلى كلمات مكتوبة، على الشاشة، وِفق برمجية خاصة، ساهمت “آسيا” في إعدادها، وقد كان هدف هذا الجهاز الذي أسماه “جهاز البِر”، هو تقديمه هدية لأمي، التي تعشق البرمجة، غير أن ضعف نظرها، مع تقدم سنها، حال بينها وبين ذلك، مما جعل أخي سليم يفكر بهذه الهدية! وكم كانت سعادتها بها كبيرة، فما عليها سوى التحدث بالأوامر، باللغة التي تريدها، والتي تحفظها عن ظهر قلب، وهي مغمضة العينين، وستتم كتابة البرنامج تلقائياً على الحاسب!!

وقد استخدمته أمي فعلاً في إعداد عدد من البرامج، كان منها برنامجاً لمحو الأمية، يتم تحميله على أجهزة خاصة، متصلة بجهاز “البِر” الذي ابتكره أخي، حيث يقوم الشخص بنطق أي كلمة، فيقوم البرنامج بتوضيح طريقة كتابتها حرفاً حرفاً، ثم يقوم بتفريق الحروف وإعادة تركيبها، مرة تلوَ الأخرى، حتى ترسخ في الذهن، كما يمكن للمستخدم أن يقوم بتصوير أي جملة يراها، باستخدام الجهاز نفسه، فيقوم البرنامج، بقراءة هذه الجملة- بعد معالجة الصورة- بصوتٍ واضح، ثم يعيد تهجئة أحرفها حرفاً حرفاً، ثم يعيد كتابتها مرة أخرى، بتفريق وجمع الأحرف..

كان هدف أمي من هذا البرنامج، هو توفير الفرصة، للكبار الذين يعانون من الأمية، ولا يستطيعون الذهاب لمراكز محوها! وقد نَوَت بعملها ذاك أن يكون صدقة جارية، عن روح والديها، الذين طالما قالت أنهما كانا يتألمان لحال الأمة، وما ينتشر فيها من جهل، فرفضت بيع حقوق البرنامج، خشية أن لا يتمكن المحتاجون من استخدامه، وعرضته للاستخدام المجاني لكل من يحتاجه..

 وقد قام “سليم” بتطوير جهازه بعد ذلك، فجعله لا سلكياً، وقد قامت كبرى الجامعات العالمية بشرائه، لا سيما وأنه يتيح لأساتذة البرمجة، فرصة تقديم دروسهم، وهم يسيرون بين طلبتهم، فيما تُكتب الأوامر على شاشة العرض، بوضوحٍ أمام الجميع..

 وقد أصرّ على توزيع الربح المالي؛ مناصفة بينه وبين “آسيا”، رغم أنها قالت بأنها لم تفعل شيئا يُذكر!!

ثم انتقل الفلم إلى صورة “أمامة”، وهي تصغر “سليم” بعامين، وهي الآن؛ أستاذة جامعية، ورئيسة قسم التاريخ في واحدة من أكبر جامعات البلاد، وقد تم اعتماد أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراة- “التاريخ من أجل المستقبل”- من قِبَل وزارة التعليم العالي، لتُصبح مَسَاقاً يُدرّس لطلبة قسم التاريخ، في جامعات بلادنا، وقد حذت حذوهم عدة جامعات في دولٍ أخرى، كما حصدت عدداً من الجوائز على أوراقها البحثية في هذا المجال، لا سيما وأنها استخدمت في أطروحاتها بعض الأمثلة العلمية، مثل تطور البرمجيات عبر السنين، وقد أرفقت لذلك صورة للبطاقة المثقّبة، التي كانت تُستخدم في البرمجة، كتبت تحتها، عبارة سمعتها من أمي:

“من يعرف البدايات؛ يسيطر على النهايات”

بعدها جاء دور “كريم”، الذي أكمل الأربعين عاماً من عمره، بموهبته الفذة في الهندسة المعمارية والتصميم، حيث عرض الفلم صوراً للمنشآت المعمارية التي أنجزها، فقد حصل على معظم المراكز الأولى، التي كانت تُطرح في الساحة المعمارية، ومعظم الأبنية الوزارية، والمنشآت الهامة في البلاد، من تصميمه!! وقد قام بتصميم أكبر جامعٍ في البلاد، وُصف أنه الأجمل، والأكثر راحة بين المساجد، من حيث الاضاءة والتهوية الطبيعية، وقد رفض أخي أن يتقاضى أجراً على ذلك، بل ولم يكن يتوانى عن تقديم أي تصميم مجاني، يلائم الموقع المختار، فيما يختص ببناء المساجد، كلما سنحت له الفرصة بذلك..

ثم عرض الفلم صُوَر توأمه “كريمة”، والتي فضّلت البقاء في المنزل، رغم أن بإمكانها فتح عيادة خاصة تدرّ عليها ثروة كبيرة، بصفتها أخصائية تغذية، لكنها كما تقول، بالكاد يمكنها الاهتمام ببيتها، وشؤون أسرتها وأولادها، و”رحم الله امرءاعرف قدر نفسه”، ومع ذلك، فقد اشتهرت بوصفاتها اللذيذة والمفيدة، إذ كانت طاهية ماهرة، تعرف كيف تجعل من الأغذية المفيدة؛ أطباقاً شهية يسيل لها اللعاب، وقد شجعها والدي على جمع وَصفاتِها في كتاب، يفيد الجميع، فإذا به يحقق أرباحاً خيالية؛ لم تكن تتصورها!!

ثم انتقلت الصورة إلى “رؤوف”، الذي يصغر التوأم بثلاث سنوات، وهو مهندس طيران بارع، وقد تمّت ترقيته مؤخراً ليستلم مهام مسؤول كبير، في أفضل شركات الطيران المحلية، وبسبب طبيعة عمله، كنا نحصل على أسعار مخفضة للتذاكر، فإتقان أخي لعمله، وبراعته في إتمام مهامه، منحته الكثير من الامتيازات..

وبدأ العرض يصل إلى نهايته، فسلط الضوء على “آسيا”، التي تصغر رؤوف بسنتين، وهي التي ساعدت “سليم” في “جهاز البر”، من خلال إعدادها لبرنامج خاص، إذ سلكتْ طريق أمي في البرمجة، وكثيراً ما كانتا تقضيان الوقت معاً، وهما يتحدثان في مجالهما المشترك، فقد كانت “آسيا” ساعد أمي الأيمن في مشاريعها، وهي الآن المسؤولة عن توزيع المهام، في قسم البرمجة، في “مركز مَوَدّة للترجمة والبرمجة”، الذي ساهم أبي في تأسيسه، بناء على اقتراح “أكرم”..

ثم ظهرت “مريم”، أختي الأقرب إليّ- والتي تكبرني بسبع سنوات فقط- فهي أكثر من شاركني حياتي الخاصة، وأظنها أكثر من شجعني على التفوق في الدراسة، إذ كانت مجدة لأقصى حد، وقد حصَلَتْ على المركز الأول، على مستوى البلاد، في امتحانات الثانوية العامة، وكانت الفرحة التي غمرتنا جميعاً وقتها، دافعاً لي لمجاراتها، وقد سارت على الدرب نفسه في الاجتهاد، بعد اختيارها لتخصص طب الأسنان، فمن النادر أن يضيع وقتها دون فائدة، حتى عندما  تزاول هوايتها في الرسم، تحرص على أن يرافق ذلك فكرة نافعة! وقبل سنتين شاركت في معرضٍ عالمي للرسم، بناء على اقتراح أمي، وحصلت فيه على جائزة مالية معتبرة، هذا عِوضاً عن كونها أصغر طبيبة أسنان، تمتلك عيادة خاصة بها، مكتظة بالناس!!

ورغم أن الحادثة الأخيرة، جعلت والداي يقلقان بشأن عودتها للعيادة؛ مما جعلها تأخذ إجازة قصيرة حتى تهدأ الأمور، فلم تقبل بحالات جديدة في تلك الفترة؛ إلا أنها حرصت على اتمام ما بدأته للمرضى، وقد شجعها والداي على ذلك..

وبالتفكير في هذا الأمر، لا زلتُ أتساءل.. ما الذي حدث معها بالضبط؟؟ لقد أعدنا مُشاهدة الصُوَر المعروضة في آلات المراقبة، أكثر من مرة، لعلنا نفهم ما الذي جعل أولئك الرجال يفرون هاربين، دون أن يمس أحدهم أختي بسوء!! لا أدري صدقاً.. ولكنني أعتقد بأن انعكاس القمر في تلك الليلة، كوّن ظلالاً مخيفة؛ أفزعتهم!! قد يبدو تفسيراً سخيفاً، لكن هذا ما خطر ببالي!!!

وأخيرا جاء دوري.. فاعتدلتُ في مجلسي، لأشاهد نفسي، وما الذي ذكرته “آسيا” عني، بالطبع كان لا بد لصورة “آخر العنقود” بالتدلي على الشاشة!!

وشعرتُ بمعنى أن يكون الانسان “طفل العائلة المدلل”، وإن كان في سن الرابعة والعشرين!! فقد أسهب الفلم بعرض صُوَري في جميع مراحل حياتي، ربما لأنهم لم يجدوا أي إنجازٍ يُذكر حتى الآن!! وبالطبع تمت الإشارة إلى حصولي على المركز الثاني في امتحانات الثانوية العامة، رغم أنني كنتُ أتمنى التفوق على “مريم”، ولكن الحمد لله، هذه نعمة كبيرة بلا شك، ومن ثم تخرّجي بمرتبة الشرف الأولى في كلية الطب، بفضل الله، ولم تنسَ الاشارة إلى سلسلة “مذكرات طالب طب”، التي نشرتها خلال سنوات دراستي، كان آخرها الجزء السادس! وقد كانت بداية الفكرة، عندما أخذ أبي يُطالع دفتر مذكراتي الخاص، وما كتبته من أحداث، مرت بي في السنة الدراسية الأولى، فاقترح عليّ نشرها في كتاب، لعلها تفيد زملائي من بعدي، وقد أسعدني أن أبي وجدها مذكرات مفيدة حقاً، إذ كنتُ مغرماً بالكتابة، ولم أتوقع أن يكون في ما أكتبه فائدة لغيري! وقد أقبل أصدقائي على مذكراتي بشدة، لا سيما وقد وجدوا فيها ما يلامسهم! ورويداً رويداً زاد عليها الطلب، وهكذا.. وجدتُ نفسي أصدر في نهاية كل سنة دراسية كتاباً، بتوفيق الله..

ثم عرّج الفلم، على الحادثة التي تعرضتُ لها، وخروجي منها سالماً بأمر الله، على يد الطبيب “معروف”، والذي ساعدني فيما بعد، للعثور على فرصة ممتازة في أحد أفضل مستشفيات البلاد، لأبدأ برنامج الامتياز الطبي. ولأن المستشفى في مدينة أخرى، بعيدة عن مدينتنا؛ فسأنتقل للإقامة في سكنٍ خاص، تابع للمستشفى، مما يعني أنني سأفترق عن والداي لأول مرة!!

 وخُتم الفلم- ذو النصف ساعة- بالآية القرآنية:

“أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير”

 تلاها عبارات الحمد والثناء على الله، والشكر لوالدينا، حيث كانت هناك عشر عبارات، كتبها كل واحد منّا على حِدَة، فما هذا إلا جزء من إنجازاتهم، ولم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه، لولا فضل الله علينا، وحسن تربيتهم لنا.. فتربية عشرة أولاد، وتحمل مسؤوليتهم كاملة، كما تقول “عفيفة”؛ ليس عملاً سهلاً أبداً!!

وقد أحسنت “آسيا” في إخراج ذلك كله؛ بعرضٍ رائع، وجذّاب..

انتهى الفلم وفتحنا الستائر، وكان أبي لا يزال على جلسته، وهو يحيط كتفا أمي بذراعه، فيما لم تتمالك هي دموعها، فانهمرت على وجنتيها بتأثر شديد، وقمنا نحن نقبل كفيهما ورأسيهما، بحب وامتنان، لكن أمي استدركت قائلة، وهي تخاطبنا، وكأننا أطفال في الابتدائية:

– هل قرأتم أذكار الصباح يا أولاد؟

وقد أجابها الجميع بالإيجاب، لكنها نظرت أليّ فجأة، كمن يضبط لصاً، يحاول التسلل من قبضة العدالة:

– “عفيف”.. هل قرأت أذكار الصباح؟؟

وحقيقة لم أكن متأكداً مما إذا كنتُ قد قرأتها أم لا، وأمام ترددي في الإجابة، رمقتني أمي بنظراتٍ ثاقبة:

– كم مرة عليّ أن أذكرك؟؟ العين حق، ولا ينقصنا متاعب بسببك!! هيا أسمعني الأذكار الآن..

وساندها أبي بقوله ملاطفاً:

– ستكون فرصة لتُسمعنا صوتك الجميل يا بني..

وبالطبع انطلق لساني يرتل بصوتٍ رخيم، سورة الفاتحة وآية الكرسي، وسورة الاخلاص والمعوذتين، وبقية الأذكار والأدعية..

وكأن والداي ظنا أن الحفلة قد انتهت، دون أن يخطر ببالهما أن المفاجأة الحقيقية لم يُعلن عنها بعد؛ فهمّا بالقيام، لكن “عفيفة” أشارت لهما بالجلوس قائلة:

– والآن.. يشرفنا تقديم هذه الهدية البسيطة لكما، رغم أنها لا تُقارن بعظيم ما قدمتماه لنا..

وأحضر “أكرم” علبة صغيرة، مغلفة بورقٍ مُلوّن برّاق، قدمها لهما، فتناولها أبي وقدمها لأمي كالعادة، فقامت بفتحها والفضول بادٍ في أعينهما، فيما كنّا نتابع ردة فعلهما بترقب!

وكم كانت دهشتهما كبيرة وواضحة- كما أردنا- عندما وجدا جوازات سفرهما في العلبة!!

فتناولت أمي جواز سفرها، وأخذت تقلبه لتتأكد منه، وفعل أبي الشيء نفسه، قبل أن تعلق أمي قائلة:

– ما معنى هذا!!! وكيف وصل جوازي إلى هنا؟

والسؤال نفسه، كان يشع من عيني والدي بطبيعة الحال، فيما حاولتُ اخفاء ابتسامتي وأنا أحدق في السقف، فمن سيأخذ جوازهما غيري، دون أن يُشعرهما بذلك!!

وبعد لحظة صمت، قالت “عفيفة”، وهي بالكاد تسيطر على نفسها من شدة الحماسة، ولم نكن بأقل حماسة منها:

– بما أن “عفيف” سينتقل الأسبوع القادم للإقامة في سكن المستشفى، إن شاء الله، ولن يعود هناك من تقلقا عليه في المنزل؛ فستكون فرصة لكما لتجوبا العالم، في رحلة سياحية حوله؛ من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، ونحن متأكدون من أنكما ستنشران الخير حيث حللتما، وستكونان سبباً في هداية خلقٍ كثير، بإذن الله، فمن يراكما معاً، ويتعامل معكما؛ لا يملك إلا أن يسأل عن معتقدكما، وهذه هي الدعوة الحقيقية..

ويبدو أن أمي لم تستوعب ما قالته “عفيفة” تماماً، فسألتها بتعجب:

– كيف؟

فابتسمت “عفيفة”:

– لقد تم حجز وترتيب كل شيء، تذاكر الطائرات، والفنادق، في رحلة حول العالم لمدة سنتين، إن شاء الله، واطمئنا، فسأمر على المنزل بين الحين والآخر لتهويته، وسنكون معكما على تواصلٍ دائم، بإذن الله، وقد نأتي لزيارتكم مع عائلاتنا، أثناء إجازاتنا، في المكان الذي تقيمان فيه، خلال تلك الفترة..

والتقطت نفساً قبل أن تتابع:

– سنقوم بإصالكما إلى المطار مع “عفيف”، الأسبوع القادم، إن شاء الله، فستنطلق رحلاتكم في اليوم نفسه، وقد أنهينا جميع الترتيبات لذلك، بفضل الله..

فهتفت أمي:

– ما الذي تتحدثين عنه؟؟ هل أنتِ جادة حقاَ!!

والتفتَتْ نحو أبي، تحاول التأكد من أن ما فهمته صحيحاً، فيما فسحت “عفيفة” المجال لـ “سليم”؛ الذي قدم لهما هاتفين حديثَيْن، قائلاً:

– هذه الأجهزة من أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا هذه الأيام، وقد تم توصيلهما بخدمة (انترنت) مفتوحة، متصلة بالأقمار الصناعية مباشرة، يمكنكما استعمالها في أي مكان وزمان، وبهما شرائح اتصال دولية، ترسل وتستقبل المكالمات، من أي مكان في العالم، كما قامت “آسيا”، بتحميل برنامج  مُحاكاة خاص عليهما، يعمل كالدليل السياحي، لمسار هذه الرحلة..

وبسرعة، قمتُ بإغلاق الستائر من جديد، بناء على إشارة “عفيفة”، حيث قام “رؤوف” بعرض مخططٍ لمسار الرحلة، وصوراً للأماكن التي سيزورانها، والفنادق التي سيقيمان فيها، وجميعها من الدرجة الأولى، وقد علق “رؤوف” قائلاً:

– لقد ضَمِنت لي الشركة السياحية، التي أتعامل معها، توفير جميع وسائل الراحة، ولن تجدا ما يؤذيكما من خمور أو ما شابه، لقد أكّدتُ لهما على هذه القضية تحديداً.. وقد حرصتُ على اختيار شركات الطيران بعناية، حيث ستسافران عبر الدرجات الأولى، في جميع الرحلات بإذن الله، بداية إلى الديار المقدسة، حيث تم حجز أسبوع لكما في فندقٍ يطل على ساحة المسجد النبوي الشريف، ثم أسبوع في مكة، في غرفة ذات واجهة زجاجية، تطل على الكعبة المشرفة، ويُمكن أن تُرى، حتى أثناء النوم على السرير..

كان “رؤوف” يتحدث، وهو يشير إلى الصور التوضيحية على الشاشة، وكأن أمي استوعبت أخيراً، طبيعة هديتنا، فسمعنا صوت بكائها من شدة التأثر، فصمتَ “رؤوف”، فيما كان أبي يضم أمي إليه، بحبٍ واضح، وعيناه تترقرقان بالدموع، طابعاً قبلةً حانية على جبينها:

– تستحقين كل الخير يا عزيزتي..

ومن غير ترتيبٍ مسبقٍ بيننا، هتفنا معاً في صوت واحد:

– وأنت أيضا يا أبي، تستحق كل الخير.. وهذا قليل في حقكما..

 وكأن أبي حاول تهدئة أمي، فسأل بابتسامة ذات معنى:

– وماذا عن القدس؟ ألن نزور المسجد الأقصى أيضاً؟؟

وبحركة لا إرادية، هببتُ من مكاني هاتفاً:

– أنا لها.. أنا لها..

وانفجر أخوتي ضاحكين، فيما ابتسمتُ قائلا بثقة- فقد كنت أغبط “رؤوف” على دوره الكبير في هذه المفاجأة:

– سأعمل بجدٍ لتحقيق ذلك يا أبي، إن شاء الله..

ثم قلتُ مداعباً أمي، التي كانت تحاول التقاط أنفاسها:

– لا تنسي قراءة الأذكار في الرحلة، فمن يراكِ؛ لا يصدق أنك قد تجاوزتِ الخمسين من عمرك، بعقدين من الزمان!!

فمدّت أمي يدها لتقرص أذني كعادتها:

– قل “ما شاء الله” يا ولد!

وضحكنا جميعاً بمرح..

 وبعد أن انهى “رؤوف” عرضه، قمنا واغتسلنا استعداداً لصلاة الجمعة، حيث ذهبتُ إلى المسجد مع أبي وإخوتي الذكور، فيما بقيت أخواتي مع أمي في المنزل، فانشغلن بالتنظيف والترتيب، بعد أن أعدتُ مع إخوتي؛ الطاولة الثقيلة إلى مكانها، ليعود كل شيء كما كان..

   لم أستطع النوم تلك الليلة، وأنا أفكر في تلك الأجواء الجميلة، التي لا يمكن أن أنساها ما حييت، وكنتُ أقول لنفسي؛ إذا كان هذا هو عطاء الله في الدنيا، فكيف هو عطاؤه في جنة عرضها السماوات والأرض!!!

 وخرجتُ إلى الشرفة، لأستنشق نسائم الليل المنعشة، لكنني فوجئتُ برؤية أبي هناك، واقفاً يتأمل القمر بشرود!!

لطالما شعرتُ بأن هناك علاقة خاصة، تربط أبي بالقمر! وربما هذا ما جعلني أفكر، بأن لانعكاس أشعة القمر؛ دورٌ في حماية أختي “مريم”!

ألقيتُ على أبي التحية، فردها بأحسن منها، والتفتَ إليّ باسماً:

– أما زلتَ مستيقظاً؟

ثم وضع يده على كتفي بحنان، بعد أن وقفتُ إلى جانبه، نتأمل سكون الليل سوياً، ولا أدري كيف خطرت كلمات خطيب الجمعة ببالي فجأة، فقلتُ لأبي:

– لقد تحدث الخطيب اليوم عن “الخبيئة”، وعن فضل من يكون  بينه وبين الله أسرارٌ من العمل الصالح، وأنها من أسباب دفع الضر، وجلب الخير..

وصمتُّ قليلاً قبل أن أسأل والدي باهتمام:

– هل لك “خبيئة” يا أبي؟

لا أدري ما الذي كان يجول بفكر أبي في تلك اللحظات، إذ تنهد بعمق، ورأيته يحدق في القمر من جديد، دون أن ينبس بكلمة واحدة! فاحترمتُ صمته، وكنتُ أتمنى لو يحدثني بشيء، أستفيد منه في حياتي، إذ طالما تحدثت عماتي عن أبي في شبابه، وقلنَ بأنه كان مثالاً للاستقامة، وأظن أن هذا هو سر شبابه وقوته، رغم بلوغه سن الثالثة والسبعين، فقد قرأتُ ذات مرة؛ قولاً لأحد السلف، بعد أن رآه أحدهم يقفز من سطح السفينة، وقد تجاوز المائة، فسأله عن سر صحته فأجابه بقوله:”حفظنا الله في شبابنا فحفظنا عند كِبَرنا”، لا أذكر الجملة تحديداً، لكن هذا معناها، ولا أستبعد أن الأمر ينطبق على أبي.. وأمي أيضاً..

وبكل ما يعتري صدري من فضول، أعدتُ السؤال على أبي، بطريقة أخرى:

– ألا يمكنك أن تخبرني بالسر يا أبي لأستفيد؟

  وقد نجحتُ فعلاً في إصابة الهدف هذه المرة، فقد تحرّكت شفتاه أخيراً:

– عندما أحببت.. عَفَفْت..

***************

(6)

“عفـــــــــــــــاف”

 لا أدري أي مشاعرٍ اعترتني؛ عندما لمحتُ اسمها على الحقيبة! لا شك في ذلك.. إنها ابنته!!

كنتُ أجلس في قسم النساء، أمام الكعبة المشرفة، بعد صلاة الظهر، بانتظار “نبيل”؛ لنذهب معاً للغداء، في مطعم الفندق.. لكن صوت بكائها المرير، لفتني بشدة؛ فقد كانت تجلس وحيدة، وهي لا تزال شابة، قدّرتُ أنها في عُمُر “مريم” أو “آسيا”!

 شعرتُ أنها إحدى بناتي، فاقتربتُ منها، لعل باستطاعتي التخفيف عنها! ولكن.. عندما وَقَعَتْ عيناي على بطاقة الحملة، الملصقة على حقيبتها، وقد انطبع عليها اسمها بوضوح، “سميرة باهر سمير”؛ عادت بي ذاكرتي، خمسين عاماً إلى الوراء!! فشعرتُ بنداء الواجب، كما لم أشعر به من قبل! فهي ابنة أستاذي، الذي أفادني بعلمه؛ قبل أي شيء!!

وكأن الفتاة اطمأنت لي أخيراً، أو أنها كانت بحاجة لإزاحة الهم الجاثم على صدرها، فانطلقت تحدثني بحرقة:

– لقد ضاع عمري من أجله..

أدركتُ أنها تمر بمعاناة عاطفية مريرة؛ فرَقّ قلبي لها بشدة، وضممتها إلى صدري، بكل ما أملكه من حنان ورحمة:

– لا تقولي هذا يا ابنتي، فقد قطعتِ مسافاتٍ شاسعة لتصلي إلى هنا، وها أنت في بيت الله، فاطلبي منه ما شئتِ، وثقي بأن الكريم لا يرد سائلاً أبداً..

فقالت، وهي تلتقط أنفاسها المتقطعة:

– لشد ما يؤلمني أنني أغضبتُ والداي من أجله! كانا يريدان مني الارتباط بشابٍ تقدم لخطبتي، ولم يكن يعيبه شيء برأيهما، وقد كان مناسباً فعلاً، لكن لم يكونا ليرغماني على شيء لا أريده، إذ كان قلبي معلقاً بذلك الشاب، الذي أحببته منذ سبع سنين، وقد وعدني بالتقدم لخطبتي فور حصوله على عمل مناسب، ليتمكن من مفاتحة والديه بأمر الزواج، وتحمل المسؤولية! وبعد كل تلك السنوات، أرسل لي باعتذارٍ مهين، متذرّعاً بأن والدته مصرّة على خطبة ابنة أختها له!! وقد عرفتُ أنه تزوجها فعلاً، فيما ذَبُل ربيع عمري في انتظاره!! لقد وثقتُ به.. لكنه خذلني!!!

وأجهشَتْ باكية، فربتُّ على كتفها، والدموع تغرق وجهي ألماً لحالها، لكنني قلتُ لها مهدّئة:

– لقد أخطأ في وعده لك منذ البداية، إذ كان وعداً لم يستشِر فيه والديه، ولا يملك الوفاء به! وقد أخطأتِ بتعلقك بوعدٍ كهذا، دون استشارة والديك، وأخذ رأيهما به، وهما الأكثر خبرة ودراية! ولكن لا تقلقي؛ فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فثقي بالله وحده، وسيعوضك خيراً منه بالتأكيد..

لكنها قالت- بنبرة كسيرة:

– لا أعرف ماذا أقول لك يا خالة، فرغم كل ما فعله، إلا أنني لستُ قادرة على الحب من بعده، فقد كان حبي الوحيد، ولا أتخيل كيف بإمكاني متابعة حياتي بعد ذلك.. لشد ما ينتابني القلق من رؤيته مع زوجته، في أي مكان؛ فأفقد أعصابي وأنهار!! لقد بات هذا هاجسٌ يؤرقني بشدة!

عندها قلتُ لها، وآلاف الذكريات تموج في مخيلتي:

– اسمعيني جيداً يا ابنتي، فإنني أعرف شعورك جيداً، أكثر مما تتصوري، فالحياة مدرسة وتجارب، نتعلم منها الكثير..

والتقطتُ نفساً، قبل أن أقول بتأثر واضح:

– أعرف فتاة كانت تحب شاباً، ملك عليها قلبها وأشغل فِكرها، حتى ظنت أنها لن تحب أحداً كحبها له، ولكنه لم يكن من نصيبها، وقد تألمت لذلك بالطبع في البداية، ولكنها وضعت كامل ثقتها بالله، ورضيت بقضائه واختياره، فأبدلها خيراً منه، بل إنها قضت معه أجمل سنين حياتها، ورغم تقدمهما في السن؛ إلا أن قلبها لا يزال شاباً بحبه؛ فقد كان فارس أحلامها الحقيقي..

 ويبدو أنني انسجمتُ في الجو تماماً، إذ لم أكد أُكمل عبارتي، حتى رأيتُ “نبيل” مُقبلاً من بعيد، فخفق قلبي بشدة، وكأنني لا أزال شابة في العشرين! وعندما رأيته يتلفّت بحثاً عني، في المكان المتفق عليه، أشرتُ له هاتفة:

– “نبيل”، أنا هنا.. لحظة من فضلك، سآتي حالاً..

وقبل أن أقول للفتاة شيئا؛ وجدتُها تبتسم في وجهي، قائلة:

– هل كانت تلك هي قصتك يا خالة؟

فغمزتها باسمة، وقد أسعدني إشراقها:

– وربما تكون قصتك أنتِ أيضا يا “سميرة”، فثقي بالله، ولن يضيعك الله، وسأذكرك في دعائي، إن شاء الله.. (ولسوف يعطيك ربك فترضى)..

*************

(7)

“نبيــــــــــــــــــــل”

  كلما نظرتُ إلى القمر؛ أرى حكمتك، ولطف تدبيرك، في كل ما قدرته لنا يارب! وأدرك كم كنتَ ولم تزل بي رحيماً حفيا.. سبحانك ما أعظمك، خالق القلوب ومقلّبها!! عندما أحببتُ أول مرة؛ ظننتُ أن ذلك هو منتهى الحب، الذي لا حب بعده، ثم ربطتَ على قلبي، حتى أدركتُ حكمتك التي خفِيت عني، ورأيتُ بعين قلبي؛ جمال ما خبّأته لي، دون أن أدري!! كان اختباراً؛ فأكرمتني باجتيازه، وشملتني بلطفك ورحمتك، فلا أدري كيف تحول حبي الكبير لـ “نائلة”؛ إلى شفقة عليها!! فدعوتُ لها كما يدعو الأخ المشفق لأخته، وكلمات أمي، لا زال صداها يتردد في أذني: “لو كان فيها خيرٌ لك، لما أبعدها الله عنك!”، وكم تأثرتُ عندما علمتُ أنها حققت حلمها، وسمعتُ عن حسن خاتمتها، وأن الذي كان سبباً في انقاذ ابني هو ابنها!! فارحمها وبارك في ذريتها، وجازِها خيراً يا شكور، وهب لي من زوجتي وذريتي قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما..

كنتُ أجلس مع محدثي الشاب، فوق سطح الفندق، في إحدى ضواحي جنوب بريطانيا الهادئة، بعد أن طلب مني محادثة على انفراد! فاستأذنتُ زوجتي، التي ذهبت للنوم، وأظنها مشغولة الآن بالتواصل مع الأولاد، والحديث معهم، فهذا هو دأبها!! ويبدو أنني سرحتُ بفكري، وأنا أتأمل القمر، إذ كنا نجلس تحت ضوئه، في تلك الليلة الهادئة؛ فأعاد الشاب سؤاله:

– كيفَ كنتَ ستتصرف لو كنت مكاني يا عم؟

كان شاباً عربياً، مبتعثاً للدراسة في هذه البلاد، وقد وقع في حب فتاة أجنبية، لكن عندما أخبر أهله عنها، وصارحهم برغبته بالزواج منها، ثارت ثائرتهم، حتى أن أمه أصرّت عليه؛ ليعود في أسرع وقت إليهم، لعله ينساها، وإن كان ذلك على حساب دراسته!! ولم يكن بالذي يضرب برضا والديه عرض الحائط بسهولة، فجاء يطلب الاستشارة! بعد أن كاد يستسلم لقلبه الولهان بالعشق، وقد توسّم بي الخير على ما يبدو!

فقلتُ له:

– أي بني.. من ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه، وارضاؤك لأمك هو امتثالٌ لأمر ربك، وكن على ثقة بأن الذي أمرك ببرها؛ هو الذي جعلها تطلب منك ذلك الطلب، أفليس في ذلك إشارة واضحة لك؟؟ وإياك أن تعِدَ الفتاة بشيء فتظلمها، راجع حساباتك، واستغفر لذنبك، ولا بأس بمعاودة الحديث مع أمك بهدوء وأدب، دون أن تضغط عليها، أو تحمّلها ما لا تطيق، فلو كان في تلك الفتاة خير لك، سيشرح الله صدرها لها..

قلتُ كلماتي وأنا أرجو أن تجد طريقها إلى ذهن الشاب؛ ليراجعها فكره، ويعرضها على قلبه، فهذه المعتقدات وأمثالها؛ تحتاج حواراً طويلاً مع النفس، حتى تستقر ضمن قناعاتها الداخلية! ولا شك أن الشاب كان بحاجة لتجربة حقيقية؛ تدعّم تلك الأقوال!! ولطالما تمنيتُ أن أخبر الجميع بقصتي، ولولا خشيتي من كشف سر “نائلة”، والإساءة لابنها، بزلة لسان مني؛ لما ترددتُ بنشرها! وبعد فترة صمتٍ خيّمت علينا، ما مللتُ خلالها من تأمل القمر، تكلمتُ أخيراً:

– كنتُ شاباً مثلك يا بني، وكنتُ أظن أن قلبي لن يحب سوى تلك الفتاة، التي لم يقدّرها الله لي، غير أنني اخترتُ طريقاً يُسعد أمي، فقد خشيتُ أن أُقدم على خطوة تُحزنها، وقبلتُ بالفتاة التي اختارتها لي، وقد كانت فعلاً مناسبة تماماً، فشاركتني هموم الحياة، ورزقني الله منها الأولاد، وكان لنا الكثير من الأهداف المشتركة، وإنني أحمد الله في اليوم ألف مرة، أن رزقني زوجة مثلها، فهي حبي الحقيقي، ولا أتخيل كيف كانت حياتي ستكون من دونها!!

لم أكد انتهي من كلماتي، حتى لاحظتُ التأثر الشديد على وجه الشاب، تحت ضوء القمر، وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة؛ إذ قال بانفعال:

– اعذرني يا عم، ولكن عندما كنتُ أراك مع زوجتك، وأنتما تتناولان الطعام في المطعم، أو تتنزهان في الحديقة، وكأنكما لا تزالان في شهر العسل؛ شعرتُ بحاجةٍ للحديث معك، فرغم ما يظهر عليكما من تديّن والتزام، إلا أن الحب واضح بينكما، ما شاء الله، وقد كنتُ أظنكما قد تزوجتما؛ بعد قصة حبٍ عميقة، مما جعلني أرغب بالحديث معك، لعلك تساعدني في مشكلتي، واقناع أهلي.. لكنك فاجأتني حقيقةً؛ بقولك هذا!!!

شعرتُ بارتياحٍ عميقٍ لردة فعله، فابتسمتُ له قائلاً:

– ألم أقل لك يا بني.. من ترك شيئاً لله؛ عوضه الله خيراً منه!

هز الشاب رأسه متفهماً، وبدا متردداً قليلاً قبل أن يقول:

– لا تؤاخذي يا عم، ولكن لدي سؤال أخير يحيّرني فعلاً، فقد تفاجأتُ حقيقة عندما عرفتُ عمرك الحقيقي- وأرجو أن لا يكون في ذلك وقاحة، مني عندما سألتُ عن ذلك- فقد ظننتك أصغر بعشرين عاماً على الأقل!! فهل لذلك علاقة بما أخبرتِني به قبل قليل؟

فأومأتُ رأسي بابتسامة عريضة- إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى، التي أسمع فيها هذا الكلام- وقد وجدتها فرصة مواتية:

– كما قلتُ لك.. عندما كنتُ شاباً وأحببت.. كبحتُ جماح نفسي وعفَفْت، فاحفظ الله يا بني يحفظك، واستعن بالله ولا تعجز..

وإذ ذاك نهض الشاب، وقد بدا متأثراً جداً بما سمعه، فقبّل رأسي- قبْلَ أن انتبه لما ينوي فعله- فنهضتُ من مكاني وعانقته، وربتّ على كتفه مشجعاً، وقد ذكّرني بـ “عفيف”، فيما انطلق لسانه يدندن بكلماتٍ، لم يزل وقعها يرن في أذني:

– تحتَ ضوءِ القمرْ..

 والقمر شاهدُ..

 أنني لن أَخُنْ..

 لحظةً غائبُ..

**********

تمت بفضل الله

ملاحظة: قد لا تكون هذه القصة حقيقية؛ لكن أحداثها.. ليست خيالية!!

(وجعلنا بعضكم لبعضة فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا)

***

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الحب-وحده-لا-يكفي

الحب وحده لا يكفي !

عن القصة:

قصة مدرسية قصيرة، تتحدث عن فتيات مراهقات مولعات بمتابعة القصص الخيالية وقراءة المانجا، يواجهن مشكلة في مفاهيم الحب والحياة.. فكيف ستتصرف المعلمة سلمى؟

التصنيف: مدرسي، شريحة من الحياة

– نغم.. نغم.. ماذا أصابك ألا تسمعينني؟؟؟ إنه وقت الاستراحة، ألن تكملي لنا القصة؟؟ ديمة وروان في الساحة ينتظرونك أيضاً..

التفتت نغم نحو صديقتها المتحمسة بعينين زائغتين، وكأنها لا تفهم ما يجري حولها، فأعادت صديقتها كلامها بإلحاح شديد:

– نغم ماذا أصابك؟؟ لا تبدين بخير أبداً!!! هل كنت منتبهة في الدرس أصلا! لا أظنك لاحظتِ أن الحصة انتهت!! نغم.. أرجوك أجيبيني ولو بكلمة واحدة على الأقل!!

وبدل سماعها إجابة نغم؛ جاءهما صوت المعلمة المناوبة، وهي تصرخ بغضب أثناء مرورها بالطابق:

–  ما الذي تفعلانه هنا!! ممنوع البقاء في الفصول خلال فترة الاستراحة، هيا انزلا للساحة بسرعة.. كم مرة علينا إعادة الكلام نفسه!!! يا لكم من جيل مزعج عديم الفهم.. عديم الفائدة.. عديم النفع…

 وبالطبع لم تستمع الفتاتان لبقية كلامها، إذ كانتا قد اختفيتا عن أنظارها في طرفة عين!

وما أن وصلتا الساحة- بعد نزولهما جرياً على الدرج- حتى وجدتا نفسيهما محاطتان بديمة وروان، وعتابهما اللاذع:

– كأننا نشتم رائحة خيانة هنا!! هل كنتِ تكملين القصة لرنيم وحدها يا نغم!!

لكن رنيم سرعان ما دفعت الشبهة عن نفسها، وهي تلتقط أنفاسها اللاهثة:

– ليتني استفيد شيئاً من خاصية وجودي معها في الفصل نفسه!! أنتم تعرفون اتفاقنا، ونغم لا تحب إعادة القصة مرتين!!

فبادرتها ديمة بالسؤال:

– لماذا تأخرتما إذن؟!! فترة الاستراحة قصيرة بما يكفي..

فزفرت رنيم باستسلام:

– لا أدري ماذا أصابها اليوم، فهي لم تتكلم معي بكلمة واحدة!

عندها التفتت روان نحو نغم قائلة:

 – هيا يا نغم ألن تكملي لنا قصة “ذات الوشاح الأزرق”؟ … نغم.. ألا تسمعيننا؟؟

تبادلت الصديقات الثلاثة النظرات وهن يحدقن بنغم، التي بدت شاردة تماماً، فألحّت عليها روان بقولها:

– أخبرينا ماذا أصابك على الأقل؟؟ هل هناك شيء يزعجك هل تريدين الذهاب للعيادة؟؟

ولم تنتظر ديمة جوابها أكثر، إذ جذبتها من يدها، قائلة:

– سآخذك للعيادة بنفسي، وضعك غير طبيعي أبداً..

لكن نغم أفلتت يدها منها بقوة:

– ألا يمكنكن تركي وشأني!! مزاجي معكر جداً، ولا أريد إيذاء أحد بكلامي.. ولكنكن مزعجات حقا!

عندها انفرجت أسارير الصديقات الثلاثة، معبرين عن ارتياحهن الشديد لسماع ذلك، فقالت روان:

– الحمد لله على الأقل سمعنا صوتك!

وتبادلت ديمة مع رنيم نظرات ذات معنى، قبل أن تقول:

– هل حدث شيء لبطل المانجا التي تتابعينها؟ أنت لم تخبرينا باسمها حتى الآن!

وأمام صمت نغم مع الكآبة التي ظللت وجهها، تم التأكد من الإجابة، فقالت رنيم:

 – نحن نعرف أنك اخفيتِ عنا اسم المانجا التي تتابعينها؛ حتى لا يحرقها أحد عليك كما حدث سابقاً، ولكن ألن تخبرينا باسمها على الأقل بعد انهائها؟ صدقيني هذا سيخفف عنك العبء، سنتناقش بالقصة و…

فقاطعتها نغم بضيق:

– لم أنهيها بعد، ولا أريد إنهائها أبداً، ولا حتى تذكر اسمها.. إنها قصة بغيضة بمعنى الكلمة!! لقد كرهت مانجا الشوجو كلها بسببها!!

فتنهدت روان:

– يبدو أن الوضع أسوأ من المرة السابقة!! على الأقل، ما هو الحدث الذي أزعجك؟ أخبرينا عنه بشكل عام بدون ذكر أسماء…

لكن نغم أجابتها ببرود:

– قلتُ لكم أنني لا أريد تذكر أي شيء عن تلك المانجا، سأحاول أن أنساها..

 فقالت ديمة بنفاد صبر:

– في هذه الحالة لماذا لا تكملين لنا قصة “ذات الوشاح الأزرق”؟؟ ليس من العدل أن تتركينا في منتصف القصة هكذا، لقد وعدتِ بإكمالها.. لا تقولي أنكِ نسيت اتفاقنا بالأمس على تناول الغداء في المطعم بعد المدرسة حتى تكملي القصة، لقد تعبتُ في الحصول على موافقة أبي من أجل ذلك..

بدا على نغم علامات تأنيب الضميرأخيراً، لكنها قالت بأسف:
– حقا أعتذر عن ذلك، بالطبع لم أنسَ موضوع المطعم وقد أخذتُ موافقة أمي وأبي أيضاً، ولكنني لم أعد مهتمة بتلك القصة، ولا أفكر بإكمال تأليفها أبداً…

لم تكد نغم تكمل جملتها حتى انفجرت ديمة بغضب:

– هذه ليست أول مرة!! لن أصدقك بعد اليوم أبداً ايتها الـ…..

غير أن روان ورنيم حاولتا التدخل بسرعة، لتهدئة الأوضاع قبل أن تلتفت الأنظار إليهم، وإلا.. فكيف سيشرحون هذا الموقف الذي لا يفهمه أحد سواهم!!

ومن لطف الله بهم أن جرس المدرسة أعلن انتهاء فترة الاستراحة، فتنفست رنيم بارتياح وهي تمسك نغم من يدها:

– علينا الاصطفاف بالطوابير بسرعة قبل أن نثير غضب المعلمات، يكفينا التوبيخ السابق،  لذا عن إذنكما سنذهب إلى طابور فصلنا..

أما روان، فقد استدركت مخاطبة ديمة:

 – كأننا نسينا تناول شطائرنا اليوم!! أرجو أن نتمكن من التركيز في بقية الحصص..
فأجابتها ديمة وهي لا تزال تتميز غيظاً:

– كله بسبب تلك الـ…..

لكن صوت إحدى المعلمات المناوبات، أعادها إلى واقعها المرير:
– هيا إلى الطوابير بسرعة.. ستبدأ الحصة الرابعة خلال خمس دقائق..
وارتفع صوت المرشدة من خلال مكبرات الصوت:

– أنتن هناك.. التزمن الطابور بسرعة.. يا فتيات كل واحدة في طابورها.. نظــــام… كل طابور بدوره .. إياكن الخروج عن المسار.. هيا بسرعة.. إلى الفصول..

وساهمت فتيات الكشافة في تنظيم سير الطوابير في الممرات، وخلال صعود الأدراج، حتى امتلأت الفصول بطالباتها، لتدخل المعلمات إلى حصصهن، وتُستأنف الدراسة كالمعتاد..

  حاولت نغم التركيز جاهدة في درس الفيزياء، لكن دون جدوى، فتمنت لو أن المعلمة سلمى لا تلاحظها وتتجاهل وجودها، لهذا اليوم على الأقل، غير أن أمنيتها تحققت بشكل عكسي.. إذ لم يكد هذا الخاطر يتبادر إلى ذهنها حتى سمعت اسمها:

– هيا يا نغم تعالي إلى اللوح، وارسمي لنا العلاقة بين “الإجهاد” و”الانفعال” مع تحديد مناطق المرونة على المخطط البياني..

 لم يكن السؤال صعباً، فهذا مراجعة سريعة للدرس الماضي، غير أن نغم شعرت بالارتباك الشديد، وهي تحاول البحث عن عذر مناسب، لتُعفى من الإجابة، ولم يخفَ على المعلمة ملاحظة ذلك، لكنها أصرّت  قائلة:

– هيا يا نغم تعالى إلى هنا بسرعة..

ثم تابعت قائلة، وهي تخاطب الطالبات:

– كما استنتجنا من قانون هوك في الحصة الفائتة، كلما زاد الاجهاد على جسم مرن، زاد انفعاله بشكل طردي، وإذا نقص الإجهاد نقص هذا الإنفعال، وهذا صحيح طالما أننا ضمن حد المرونة، أما إذا تجاوزنا حد المرونة بزيادة الإجهاد على هذا الجسم، فلن يعود إلى وضعه الطبيعي أبداً وسيفقد مرونته، وإذا زاد الإجهاد أكثر فسنصل إلى..
وسكتت المعلمة قليلاً وهي تلتفت إلى نغم، لتفسح لها المجال بالإجابة، فأجابت أخيراً:

– سنصل حد الكسر..

فأومأت المعلمة برأسها موافقة:

– ممتاز، والآن مثّلي هذا على اللوح بيانياً..
وبالفعل استطاعت نغم إتمام الرسم البياني على أفضل وجه، فيما علّقت سلمى قائلة:

– وهذا لا ينطبق على الاشياء وحسب، بل على النفوس أيضاً.. وبالطبع لكل جسم ثابت مرونة يختلف عن الآخر، بحسب طبيعة الجسم، لذلك قلنا سابقاً احذرن الوصول إلى حد المرونة مع أي أحد، حتى مع أنفسكم.. فمعظم مشكلاتنا في الحياة اننا لم نفهم “قانون هوك” بشكل جيد، لذا نتفاجأ أحياناً بأن هناك من خسر علاقته مع شخص ما، بسبب كلمة بسيطة أو فعل لا يستحق الغضب، لكن في الحقيقة أن الشخص الآخر يكون قد وصل حد المرونة بالفعل، ولم يعد يحتمل المزيد، وكما قال المثل: إنها الشعرة التي قصمت ظهر البعير..

فرفعت رنيم يدها تستأذن بالمشاركة، قبل أن تضيف:

– أو كما يقولون في المثل الشعبي يا آنسة (مش على رمانة، على قلوب ورمانة)..
فضحكت الفتيات وابتسمت سلمى:

– أجسنتِ، بالضبط هذا ما يحدث، وكلما ابتعدنا عن حد المرونة أكثر، كلما كان هذا أفضل، لنضمن لأنفسنا مساحة كافية ضمن منطقة المرونة، وهذا يذكرنا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، “الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه”، فكأن حد الحرام هو حد المرونة، وكلما ابتعدنا عن هذا الحد، كلما ضمنا لأنفسنا السلامة أكثر.. لذا هل عرفتن أهمية فهم الفيزياء في حياتكن اليومية؟ أريدكن فتيات ناضجات ناجحات دائماً، لذا تذكروا هذا القانون دائماً، ولا تنسوا إخبار الجميع به..

لم تستطع فرح منع نفسها من التعليق قائلة:

– فهمنا يا آنسة، والله فهمنا.. الفيزياء جميلة، وسنجعل الجميع يحبون الفيزياء كما تريدين..

فأفلتت ضحكة صغيرة من سلمى، ضحكت على إثرها الفتيات، لكنها سرعان ما أمسكت زمام الموقف، قائلة:

– حسنا.. نعود إلى الدرس، افتحن الكتب على قسم المسائل في آخر الوحدة، ولنبدأ بحل السؤال الخامس، فهو تطبيق مباشر على القانون…
**
دق جرس المدرسة معلناً نهاية الدوام المدرسي، وخرجت نغم برفقة رنيم من الفصل وهي تشعر ببعض الندم:

– أظن أن ديمة لا تزال غاضبة جدا مني، أخشى أنها وصلت حد المرونة بالفعل!!

فطمأنته رنيم قائلة:

– لا عليكِ، ستحل المشكلة بسرعة إذا أخبرتينا بتكملة قصة “ذات الوشاح الأزرق”، عليكِ أن تفي بوعدك..

فتنهدت نغم بألم:

– المشكلة أنني لا أستطيع، أنتن لا تفهمن هذا! لا أعرف كيف أشرح أكثر!!

عندها لمعت عينا رنيم، فهتفت- كأرخميدس عندما “وجدها”- قائلة :

– لماذا لا تخبرين المعلمة سلمى عن هذا الموضوع؟؟ أنا متأكدة انها ستساعدك في تجاوز هذه الأزمة..

فحملقت فيها نغم بذهول:

– هل أنتِ جادة؟؟ وماذا أقول لها؟؟ شرح المشكلة بحد ذاته أكبر من المشكلة نفسها!

فطمأنتها رنيم:

– أظن أن المعلمة سلمى ستفهم هذا بسرعة، فقد سمعتُ أنها تكتب قصص أيضاً، كما أنها مثلنا تتابع الأنيمي..

شهقت نغم:

– أنتِ تمزحين!! من قال لك هذا؟

فغمزتها رنيم بابتسامة ذات مغزى:

– هذا سر!

لكن نغم جذبتها من يدها:

– هيا أخبريني، لا تكوني لئيمة..

فضحكت رنيم:

– هذا هو بالضبط شعورنا عندما ترفضين إكمال القصص، اشعري معنا قليلاً..

فتوسلت إليها نغم باستعطاف شديد:

– إنني آسفة حقا، فلا تستغلي ضعفي الآن.. ألستِ أنتِ من اقترح علي الذهاب للمعلمة..

 وقبل أن ترد عليها رنيم بكلمة؛ تفاجأت الفتاتان بالمعلمة سلمى تلقي عليهما السلام، قائلة:

– ألم تعودا إلى المنزل بعد؟

 ومع هول المفاجأة؛ تلجمت ألسنتهما تماماً، حتى أنهما ردّتا السلام بتلعثم واضح، مما أثار تعجب سلمى، فسألتهما باهتمام:

– هل هناك خطب ما؟

 وبدون مقدمات؛ قالت رنيم كمن خشي فوات الفرصة:

– في الحقيقة آنسة سلمى، نغم لديها موضوع ترغب باستشارتك فيه..

فالتفتت سلمى نحو نغم، التي ألجمتها الصدمة:

– حسناً يا نغم، هل تحبين التحدث في الموضوع الآن؟ يمكننا الجلوس في الساحة الخارجية، سيكون لدينا بعض الوقت قبل إغلاق المدرسة، فهل لا بأس بذلك؟

فأجابتها رنيم بحماسة:

– لا بأس بذلك طبعاً، فنحن سنمر على المطعم في طريق عودتنا، وأهلنا يتوقعون تأخرنا على أي حال، لذا لا بأس بذلك أبداً يا آنسة..

**
شعرت نغم بتوتر شديد، إذ لم تعرف كيف تبدأ الموضوع، لكن رنيم تشجعت وبادرت بنفسها قائلة:

– ساخبرك القصة من البداية يا آنسة سلمى بكل صراحة، فأنا ورنيم وديمة وروان اصدقاء طفولة، ونعرف بعضنا منذ الابتدائية، كنا نتشارك الاهتمامات نفسها، خاصة متابعة الرسوم المتحركة، وقد كانت نغم أحيانا تقوم بتغيير نهايات بعض القصص التي لا تعجبنا، ثم بدأت بتأليف قصص جديدة، وكنا دائما نحب الاستماع لها ونتابعها بشغف، لكن المشكلة أنها أحيانا تمل من إكمال القصص التي تبدأها، فلا تكملها لنا، ثم تفاجئنا بقصة جديدة، ولم نكن نشعر بالضيق في البداية، إذ سرعان ما كنا ننسجم مع القصة الجديدة، وهكذا.. لكن مؤخراً بدأ هذا الموضوع يزعج بعضنا، خاصة وأنها وعدتنا بإكمال آخر قصة..

وسكتت رنيم لتفسح المجال لنغم حتى تكمل الحديث، فقالت أخيراً:

– ربما تبدو لك المشكلة سخيفة يا ىنسة سلمى ولكنني حقا لا أستطيع إكمال القصص…

فقالت سلمى بنبرة جادة:

– أولاً هذه ليست مشكلة سخيفة أبداً، بل مشكلة حقيقية، وكبيرة جداً، فالوعد وعد مهما كان، وإخلاف الوعود ليس من شيم المؤمنين!

شعرت نغم بالحرج الشديد، وحاولت الدفاع عن نفسها، لكن سلمى تابعت كلامها قائلة:

– ثانيا ليس الموضوع أنك لا تستطيعين، بل الفكرة تكمن في أنك لا تريدين ذلك، وهناك فرق كبير بين الارادة والاستطاعة، لكننا كثيراً ما نخلط بينهما، لذا علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، ونبحث في دواخلنا جيداً عن الأسباب التي أدت بنا إلى هذه الحال..

ثم استدركت قائلة:

– هل هذا هو الموضوع الذي كان سبب شرودك في الحصة اليوم؟

فاحمرت وجنتا نغم، قبل أن تجيب:

– ربما..

لكن رنيم حثتها على الكلام قائلة:

– هناك أمر آخر يزعجها يا آنسة، فقد كان مزاجها معكرٌ منذ الصباح، قبل حدوث المشكلة، وهو السبب وراء امتناعها عن إكمال القصة لنا هذا اليوم على الأغلب، أليس كذلك يا نغم؟

شعرت نغم برغبة عارمة في قرص رنيم حتى يتورم جلدها، لكنها حاولت ضبط نفسها، ولاحظت سلمى ذلك، فابتسمت قائلة:

– لا شيء يدعو للحرج عزيزتي، فحتى أنا احياناً يتعكر مزاجي لأسباب يراها الآخرون تافهة جداً، لذا يمكنك إخباري عن أي شيء بكل راحة.. هل أفترض مثلاً أن هناك قصة لم تعجبك نهايتها مثلاً؟ إذا كانت القصة معك فأعيريني إياها أو اخبريني باسمها وسأحاول قراءتها، لنتناقش فيها فيما بعد، فهذا أفضل.

وغمزتها قائلة:

– فأنا أحب قراءة القصص أيضاً..

وهكذا.. قررت نغم أن تزيح الحمل الثقيل الجاثم على صدرها، فتكلمت أخيراً:

– في الحقيقة يا آنسة هي ليست قصة بمعنى قصة، فهي مانجا.. يعني… يعني هي تشبه…. مممم..

فأومأت سلمى برأسها لتختصر عليها الشرح:

– أجل أعرف أعرف.. فأنا اقرأ المانجا ايضا،..

تهلل وجه نغم:

– حقاً يا آنسة؟؟

فابتسمت سلمى:

– أجل، يمكنك متابعة حديثك..

فقالت نغم:

– حسناً.. في الحقيقة هي مانجا شوجو.. أنت تعرفين تصنيف الشوجو يا آنسة صحيح؟

فهزت سلمى رأسها موافقة، فيما تابعت نغم كلامها بحماسة:

– قبل فترة أنهيت مانجا رائعة من هذا التصنيف وقد أعجبتني جداً، فبحثت عن مانجا أخرى للمؤلفة تفسها، ولكنني عندمابدأتُ قراءتها صدمتُ جدا بما حدث، لم أتوقع من المؤلفة أن تفعل هذا، لقد كرهتُ البطل جدا جدا، فرغم أنه طالب ذكي ومحترم، ولديه صديقة سابقة، لكنه يبدأ بالاهتمام ببطلة القصة، لم أحب الفكرة أبداً..
وبدا التأثر واضحاً على وجه نغم وهي تتابع:

– يُفترض من القصة أن تجعلنا نتحمس لاعتراف البطل لهذه البطلة، بل إنه سيترك صديقته من أجلها…

لكن نغم بترت كلممتها فجأة، وقد انتبهت أنها تحدث معلمة! فاستدركت قائلة:

– طبعاً يا آنسة أنتِ تعرفين أن هذه القصة تعكس بيئة غير عربية، لذلك هذا الوضع مقبول لديهم، يعني هذا ليس قلة أدب عندهم، أو تصرف سيء.. حتى الأهل عندهم لا يمانعون في ذلك… ما أقصده هو أنها تعكس ثقافة مختلفة.. أقصد فكرة الاعتراف وأن تكون هناك صديقة مقربة أو صديق مقرب.. مممم.. يعني يمكنك القول أن هذا يشبه الخطبة عندنا..

فضحكت سلمى قائلة:

– أعرف أعرف، يعني مثل خطبة ران وسينشي في المحقق كونان.. لا تقلقي لن آخذ عنك فكرة سيئة أبداً..

فابتسمت نغم، وضحكت رنيم:

– ألم أقل لك أن المعلمة سلمى ستتفهم..

لكنها أغلقت فمها بسرعة من شدة الحرج، فيما تابعت نغم كلامها، بعد أن دخلت في جو التأثر من جديد:

– المشكلة يا آنسة أن صديقة البطل السابقة تعتبر شخصية ثانوية، لذلك تم تجاهلها في المانجا، رغم أنه بحسب ذكريات البطل فهو أول من اعترف لها، ورغم ترددها في البداية، ومحاوله اقناعها له بأنها مثل أخته فقط؛ إلا أنه أخبرها بأنه يحبها حقا ولن يتخلى عنها أبداً، حتى وثقت به!!

وترقرقت عينا نغم بالدموع، وهي تتابع:

– لم أستطع احتمال ذلك!! لماذا تريد المؤلفة اقناعنا بأن تصرفه صحيح؟؟؟ لماذا سمحت له بأن يحب بطلة القصة؟؟ هل لأنها بطلة القصة فقط!! حتى بطلة القصة كانت مقيتة جدا! فقد ظلت تلاحق البطل وهي تعلم أن لديه صديقة، بحجة أنها لا تريد تجاهل مشاعرها!! هذا مؤلم جدا! والأشد إيلاما من هذا كله، وحتى تريح المؤلفة ضمير البطل؛ جعلت صديقته السابقة تتفهم الأمر، بل وكأنها ترحب في الانفصال!! بالطبع هذا غير مقنع ولكنه ما تريده المؤلفة فقط..

وصمتت قليلاً قبل أن تتابع، فيما كانت سلمى تستمع لها باهتمام:

– هل تصدقي يا آنسة.. أنها أول مرة أقوم فيها بالقفز إلى الفصل الأخير وحرق القصة على نفسي! لم أحتمل الذي حدث وكنتُ أرجو أن يعود لصديقته السابقة، رغم أن رسوم الغلاف واضحة، ومع ذلك.. قفزت للفصل الأخير حتى أتاكد بنفسي!! وللأسف كان البطل والبطلة معا في نهاية سعيدة كما تريدها المؤلفة، ولكنها ليست كذلك ابداً.. فلم يعد لتلك الصديقة السابقة وجود أبدا، فقط لأنها شخصية ثانويةً!! لقد تمت خيانتها تماماً.. لم يكن ليحدث هذا لو أن تلك الصديقة السابقة هي البطلة الاساسية للقصة.. هذا فظيع جدا..

وصمتت نغم بشرود، حتى سألتها سلمى:

– أهذا كل شيء؟

فرفعت نغم عينيها لتواجه عينا معلمتها الثاقبتين:

– آسفة لقد أزعجتك بما يكفي يا آنسة وأنا أعيد وأزيد في الكلام نفسه، ولكنني متألمة جدا من تلك الفكرة، ولا أستطيع تجاهلها! لقد عكرت مزاجي تماماً، فهذا لا يُشعِر بالأمان أبداً..

فطمأنتها سلمى بابتسامة ودودة:

– أتفهم شعورك نغم، ومعك الحق في هذا، حتى أنا كانت تغيظني هذه القصص جداً، ولكن بالتفكير المنطقي في الموضوع، ما حدث هو نتيجة حتمية لمن يبني علاقاته على الحب فقط، لذلك المؤلفة لم تكن مخطئة جداً، فهذا يحدث أحيانا، وهي وصفت واقع موجود.. فلا يوجد ضمان لاستمرار الحب أبداً، القلوب متقلبة….

فاستأذنتها نغم في المقاطعة- بإشارة من يدها- قائلة:

– هذا يعني أنه لا يوجد ضمان أيضاً لاستمرار ذلك البطل وتلك البطلة  بعلاقتهما للأبد، كما توحي لنا المؤلفة في النهاية؟

فأومأت سلمى برأسها موافقة:

– كلامك صحيح، ومن يدري.. ربما يعود لصديقته السابقة بعدها.. كل شيء وارد، ولا يعني وقوف المؤلفة عند تلك النقطة أنها النهاية الواقعية فعلاً..

ورغم الارتياح الذي بدا على وجه نغم، لكنه اكفهر من جديد:

– ولكن هذا لا يُشعر بالأمان.. لا يشعر بالأمان أبداً..

فتابعت سلمى كلامها مطمئنة:

– طريق الأمان موجود دائماً لمن يرغب بعبوره، والحمد لله أننا في بيئة عربية اسلامية محافظة، لا تسمح بوجود مثل تلك العلاقات المؤلمة، ألَستِ سعيدة بأننا لا نمتلك مثل هذه الثقافة في مدارسنا؟

ورغم أن رنيم بدت سعيدة لسماع ذلك، كمن يسمع خبراً سعيداً للمرة الأولى، إلا أن نغم لم يبدُ عليها الارتياح كثيراً، إذ قالت بعد تردد:

– ولكن هذا لا ينطبق على المدارس فقط.. حتى نحن.. ربما بطريقة مختلفة، ولكن هذه المشاكل موجودة..

وسالت الدموع غزيرة على خدي نغم، دون أن تنبس ببنت شفة، فربتت سلمى على كتفيها بحنان:

– أتفهم تفاعلك مع القصص يا نغم، فهذا يحدث لي أحيانا.. ولكن أخبريني بصدق، هل هذا القصة تذكرك بشيء حدث حولك؟

وكأن ذلك السؤال كان الشرارة التي أشعلت الفتيل؛ إذ سرعان ما أجهشت نغم بالبكاء بحرارة، فيما حاولت سلمى تهدئتها:

– لا بأس عزيزتي، هذه هي الحياة، فيها دروس وعبر، ولها حكمة حتى ولو كان الحدث مؤلماً، ولكن ثقي بأن كل شيء سيكون بخير إذا أحسنا التعامل معه، وأنا استمع لك الآن، يمكنك إخباري بما تشائين..

أخذت نغم تلتقط أنفاسها بصعوبة، وهي تحاول تهدئة نفسها حتى قالت أخيراً:

– عندما كنت صغيرة، كنت ألعب دائما في منزل جيراننا، كانت جارتنا سيدة لطيفة جدا، وزوجها رجل رائع، كنتُ أحبهما كثيراً…

ولم تستطع نغم إكمال جملتها، إذ خنقتها العبرات، فيما أخفت رنيم وجهها بكفيها لتخفي دموعها المنهمرة هي الأخرى، وشعرت سلمى بأنها ستشاركهما حفلة البكاء تلك إن لم تتدارك الموقف بسرعة، فقالت:

– مهما حدث بين هذين الزوجين، فربما كان خيراً لهما، أنتِ لا تعرفينهما سوى من الظاهر..

لكن نغم قالت بصوت متهدج:

– كانا يحبان بعضهما كثيراً، جميعنا نعرف قصتهما، لقد أحب الرجل زوجته بشكل كبير، بل وقد كان مستعداً لخسارة الجميع من أجلها، لقد أحبها بصدق من أعماق قلبه، واصر على الزواج منها رغم اعتراض أمه، حتى زوجته لم تكن ستوافق على الزواج منه إلا بعد أن تأكدت من صدق حبه له، وإصراره على الارتباط بها رغم كل الظروف، لقد كانت قصتهما مضرب المثل للحب الصادق، ولكن في العام الماضي فقط، بعد أكثر من عشر سنوات على زواجهم.. لا أدري ما الذي حصل.. لقد كانت صدمة لنا جميعاً.. لقد رحلوا من المنزل فجأة، وسمعنا أن الرجل طلق زوجته ليرتبط بامرأة أخرى.. لم نتوقع أن تكون تلك هي النهاية!

   وأجهشت نغم بالبكاء مجدداً، حتى رنيم علا نحيبها هذه المرة، ودمعت عينا سلمى لمشهدهما، وهمّت بقول شيء؛ لكنها أمسكت لتترك المجال لنغم التي قالت بصوت باك:

– هذه أول مرة أتحدث فيها عن هذا الموضوع أمام أحد، حتى رنيم لم يسبق لي أن تحدثتُ معها في هذا الشأن منذ تلك الحادثة، رغم أنها جارتنا وتعرفهم جيداً، وأظنها تشعر مثلي أيضاً.. بل جميع الجيران.. كلنا نشعر هكذا ولا أحد يجرؤ على الكلام.. لقد تعبتُ يا آنسة من هذا الموضوع.. لماذا حدث هذا لهما.. لماذا.. إنهما شخصان رائعان.. ورغم كرهي للرجل في البداية، لكنني لا أنسى طيبته معي في صغري، والهدايا التي كان يتحفنا بها دائما.. لقد كان طيبا حقاً، ولا يمكنني تصديق ما حدث!!!!!!! كيف يمكننا تصديق أن رجل مثله قد تخلى عنها بعد أن وقفت إلى جانبه في أسوأ الظروف؟؟ لقد رضيت به رغم كل شيء، من أجل الحب الذي بينهما، وفي النهاية.. لا يمكنني أن أصدق ذلك أبداً.. كانت حالتها يرثى لها… لم أكن أريد تذكر هذا…

قالت جملتها الأخيرة بصعوبة، أما رنيم فقد كانت تحاول كتم أنفاسها الباكية، وهي تشهق بشدة، حتى تمكنت من التحدث، لعلها تزيح هي الأخرى ذلك الحمل الجاثم على قلبها دون أن تشعر:

– هذا صحيح يا آنسة، كل ما ذكرته نغم صحيح.. لم اتوقع أننا كتمنا كل هذا الألم في صدورنا طوال تلك المدة.. كنا نهرب من الواقع وحسب! هل تصدقي يا آنسة أن جارتنا تلك كانت تعطي دروساً عن الحب لكل الفتيات المقبلات على الزواج، بناء على طلبهن؟ لقد كانت مثلهن الأعلى في الحياة الزوجية السعيدة..

وتابعت نغم بألم:

– كيف لنا أن نشعر بالأمان بعد هذا كله يا آنسة؟؟ هل الحب مجرد كذبة خُدِعنا بها؟؟ ألا يوجد حب آمن في هذه الحياة!!

التقطت سلمى نفساً عميقاً وهي تحاول الحصول على إجابة شافية، لعلها تخفف بها عن هاتين الفتاتين هذا الألم الذي يصعب احتماله:

– هذا مؤلم جداً بلا شك، إنني أفهم هذا جيداً.. ولكن لا يوجد شيء بلا سبب، وإذا عرف السبب بطل العجب كما يقولون.. لنعد إلى بداية القصة، فرغم أنني لا أعرفهما، ولكن بحسب ما ذكرتِ يا نغم، أن أم الرجل لم تكن راضية على زواجه…

فأسرعت نغم تدافع عن الموقف قائلة:

– لم يكن الأمر كذلك بالضبط يا آنسة، فهو أعطى وعده للفتاة التي أحبها قبل أن يُخبر أمه، وكان مُصراً على الوفاء بوعده لها، وبالطبع عندما عرفت أمه بهذا؛ لم يكن أمامها سوى الرضى..

وتابعت رنيم الكلام موضحة:

 – الأم فقط لم تكن مقتنعة أن تلك الفتاة مناسبة لابنها، ولكنه أثبت لأمه أنه يحبها ولن يرضى بغيرها أبداً، ولم تحاول الأم أن تقف في طريق ابنها أمام إصراره.. صدقيني يا آنسة، ليست المسألة أن الأم لم تكن راضية، فقد تقبلتْ زوجة ابنها بعد ذلك وانتهت المشكلة، حتى أنها ماتت قبل أن تعرف ما الذي حدث مع ابنها وزوجته بوقت طويل.. ربما كانت ستُصدم هي الأخرى؛ لو عاشت لترى ذلك الطلاق بعد أكثر من عشر سنين على زواجهما!!  

هزت سلمى رأسها بتفهم، قبل أن تقول:

– الفكرة تكمن في طريقة تعاملنا مع الحب فقط، فالحب وحده لا يكفي.. إنه مثل النكهات الزكية التي تُضاف على الأطعمة، فهل يمكنكما إعداد وجبة حقيقية باستخدام النكهات فقط؟؟ أليست المكونات هي الأهم؟؟ أما إذا كانت المكونات صحيحة وكاملة، فعندها فقط ستضيف النكهات طعما ألذ واشهى للطبخ،أما الاعتماد على النكهات وحدها، في إعداد طعام جيد؛ فهذا أمر خاطيء لا يختلف عليه اثنان..

وكما ذكرتُ سابقاً، القلوب متقلبة، وما يحبه الانسان اليوم قد يكرهه غداً، والعكس صحيح، لذلك فالزواج الناجح لا يبنى على (الحب) وحده، لأن الحب متقلب ومتغير، وليست هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن  قصص لأناس تزوجوا عن (حب) فقط، انتهت تجربتهم بالفشل الذريع.. لأنه لا يوجد اساس آخر لبناء حياتهم غير (الحب) وهو غير ثابت، فكيف يمكن لأشخاص أن يعلقوا حياتهم على أمر متقلب ثم يتوقعوا الاستمرار!! بينما لو كانت هناك ركائز أخرى غير (الحب) لكانت النتائج أفضل بكثير، (التفاهم، الاحترام، الكفاءة، الاهداف المشتركة، الخ) في هذه الحالة، حتى لو اختفى الحب أو تغير أو زاد أو نقص، لن تتأثر الحياة كثيرا وستستمر غالبا بإذن الله..

 ذلك الرجل، ورغم أنه رجل جيد كما تقولون، ونحن لا نريد ذكره بسوء، ولكنه أخطأ بلا شك في البداية، فقد تسرع عندما أعطى كلمته لفتاة بمجرد أن أحبها، دون أن يُلقي بالاً أمه، أو يهتم لسماع رأيها أولاً، وتلك الفتاة أيضاً اخطأت عندما وثقت به لمجرد حبه لها، دون أن تأخذ بعين الاعتبار أن شخصاً لم يقدر تضحية أمه من أجل الحب، سيسهل عليه عدم تقدير أي امرأة بعد ذلك مهما كانت؛ لو ظهر له حب جديد!

 عندما يفتر الحب- ولا بد للحب أن يفتر في بعض الفترات كما يزيد وينقص- ستظهر الحقائق واضحة، فإن لم تكن هناك ركائز قوية؛ انهار البنيان بطرفة عين!

صمتت سلمى قليلاً، فيما كانت نغم ورنيم تتابعان كلامها بانتباه، قبل أن تستأنف قائلة:

– والان لنضع مكان كلمة (الحب) كلمة (الحماسة) لعمل معين.. لو كانت الحماسة وحدها هي التي تدفعك لانتاج هذا العمل، فمن الصعب ضمان استمراره، لأن الحماسة متقلبة والنفوس تصاب بالملل.. ولكن لو كان هناك ركائز أخرى، فربما ساعدت على استمرار العمل بشكل أفضل

فلو كان لديك هدف كبير جدا لانتاج هذا العمل مثلاً، كمعالجة مشكلة كبيرة في المجتمع من أجل حياة افضل، أو ابتغاء رضى الله بهذا العمل والجزاء الاوفى منه في الاخرة، وما إلى ذلك، أمور كهذه تساعد على استمرار العمل حتى لو فقدتِ الحماسة، فبلا شك سيكون لديك دافع آخر لإكمال العمل..

ثم غزت نغم بعينها قائلة:

– وطبعا هذا العمل قد يكون تأليف قصة مثلاً..

فهتفت نغم بانفعال:

– هكذا إذن!! فهمتُ قصدك يا آنسة!!

وتابعت القول بحماسة:

– إذن سأبدأ بكتابة قصة هادفة تعالج مشكلة….

لكن سلمى استوقفتها قائلة:

– على مهلك يا نغم، عليك الوفاء بوعك أولاً وإكمال تلك القصة التي بدأتها..

فقالت رنيم بابتهاج:

– أجل.. قصة “ذات الوشاح الأزرق”، سيكون هذا رائعاً..

لكن التردد بدا واضحاً على وجه نغم، قبل أن تقول:

– ولكنها ليست قصة هادفة، إنها مجرد قصة عاطفية تشبه مانجا الشوجو..

فقرصت سلمى أذنها بدعابة قائلة:

– يمكنك إكمال القصة مع تعديل مسارها والإضافة عليها كما تريدين، فالمؤلف الحقيقي لا يعرف الاستسلام، أليس كذلك يا نغم؟

وكأن الفكرة راقت لنغم إذ سرعان ما أخرجت ورقة وقلما من حقيبتها، لتدون عليها شيئاًن  فيما تهلل وجه رنيم قائلة:

– لقد جاءتها فكرة على ما يبدو.. شكرا لك يا آنسة، أظن أن المشاكل كلها قد حُلت دفعة واحدة..

في تلك الأثناء، انتبهت سلمى لمرور المديرة التي حيتها، وهي في طريقها لعبور البوابة الخارجية:

– آنسة سلمى! أما زلتِ هنا؟ ستُغلق البوابة، ما الذي تفعله هاتين الفتاتين حتى الآن؟؟

فابتسمت سلمى مطمئنة:

– كانت هناك مشكلة في فهم بعض الدروس، وقد انتهينا الآن والحمد لله..

فضحكت المديرة:

– لا بد أنها دروس الحياة مرة أخرى.. حسناً إلى اللقاء، أراك غداً إن شاء الله، انتبهي لنفسك جيداً..

**
اقتربت رنيم ونغم من المطعم المتفق عليه، فتساءلت نغم بقلق:

– هل تعتقدين أن ديمة وروان سيكونان بانتظارنا هناك؟؟ كان يُفترض أن نلتقي عند بوابة المدرسة، لا أريد العودة قبل حل المشكلة مع ديمة!

فطمأنتها رنيم:

– ربما انتظرتا فعلاً، ولكننا تأخرنا أكثر من المعتاد، إنني واثقة من أن روان ستتصرف، ولن تدع ديمة تعود غاضبة للمنزل بعد ما حدث..

ثم ابتسمت متابعة:

– روان لن تفوت هذه الفرصة، فمن النادر أن يسمح لها والديها التأخر بعد المدرسة، وستقنع ديمة بتناول الغداء معها على الأقل!

وما أن دلفتا إلى المطعم،  وهما تقلبان ابصارهما في المكان، حتى أسرع نحوهما النادل قائلاً:

– هل تبحثان عن صديقتيكما؟ لقد قامتا بحجز طاولة في الطابق الثاني..

فابتسمت رنيم لنغم:

– ألم أقل لك.. روان ستتصرف..
وما أن صعدتا الدرج، حتى لوحت روان لهما بيدها منادية:

– نغم.. رنيم.. نحن هنا..

ثم التفتت إلى ديمة بابتسامة مرحة:

– ألم أقل لك، رنيم ستتصرف..

وبسرعة اتجهن تغم لديمة التي بدت مكفهرة الوجه قليلاً:

– ديمة حقا اعذريني، لقد أخطأتُ فعلاً وسأبذل جهدي للوفاء بوعدي هذه المرة..

فهتفت روان بفرح:

– الحمد لله وأخيراً..

وغمزت ديمة باسمة:

– هيا اعترفي.. جاء دورك..

فتنهدت ديمة وقد احمر وجهها، وهي تخرج كراسة من حقيبتها قائلة:

– حسناً وأنا أعتذر يا نغم، فقد تماديتُ في الكلام.. في الحقيقية لقد كنت متحمسة لقصة “ذات الوشاح الأزرق” كثيراً، حتى أنني جربت رسم شخصياتها بأسلوب المانجا، ولكن لا تضحكي على رسمي فلا زلتُ مبتدئة..

ولم تكد عينا نغم تقعان على الرسومات حتى عانقت ديمة بتأثر شديد:

– لا أعرف مذا أقول يا ديمة.. إنها أروع مفاجأة قد أتخيلها في حياتي.. حقا سامحيني.. أعدك أنني سأكون عند حسن ظنكم دائماً..

فيما هتفت رنيم قائلة:

– بسم الله ما شاء الله!! لم أكن أعلم أنك موهوبة يا ديمة!! أين كنتِ تخفين هذا كله طوال الوقت!! أم أن ينبوع الموهبة انفجر فجأة!!

فضحكت روان:

– الآن أصبح لدينا فريق مانجاكا متكامل، مؤلف ورسام واثنان من المساعدين..

فشاركتها رنيم الضحكة:

– أو اثنان من المشجعين، فلا أظننا نصلح للمساعدة بعد!!

فابتسمت ديمة بعد أن انقشعت الغمامة عنها:

– حسناً أيها الفريق المحترم دعونا نأكل قبل أن يبرد الطعام أكثر، بسم الله…

فيما قالت نغم بنبرتها الروائية المعروفة:

– وهكذا قررت ذات الوشاح الأزرق تناول الطعام مع رفيقاتها، قبل أن تكشف عن السر الخطير الذي بقي لأكثر من ثمانين عام طي الكتمان، في قبو القصر المهجور في جزيرة المرجان،….

**

انتهت..

قوس-جديد

قوس جديد !

عن القصة:

فتى وفتاة شكّلا فريقا لصناعة قصة مرسومة (مانجا) منذ الصغر، غير أن المستقبل لم يكن بالحسبان..

التصنيف: رومانسي، دراما، شريحة من الحياة

     قضت زهرة- ذات التسعة عشر ربيعا- ذلك اليوم بأكمله في منزل أختها الكبرى (نورة)، لتساعدها في استقبال ضيوفها القادمين من الخارج! وبينما كانت منهمكة تماما في غسل الأواني بعد وجبة العشاء، في حين كانت السيدات يتجاذبن أطراف الحديث في الصالة؛ دخلت عليها فاتن- التي تصغرها بثلاث سنوات- وحيتها بلكنتها الأعجمية المميزة، قبل أن تطرح عليها سؤالها المباغت:

– أنت تعرفين زاهر منذ الطفولة، فهل أنتما مقربين لبعضكما البعض كثيرا؟

 ارتجفت يدا زهرة من هول الصدمة، إذ لم تكن مستعدة لمفاجأة كهذه، حتى كاد الصحن أن ينزلق من بين يديها، فيما خفق قلبها بشدة، لتعود بها الذكريات لأكثر من عقد إلى الوراء!!

كانت في السابعة عندما التقت زاهر- الذي يكبرها بعامين فقط- لأول مرة، في حفل زواج شقيقتها الكبرى نورة من شقيقه الأكبر سامر! ورغم أنهما التقيا كثيرا بعد ذلك، خاصة في المناسبات الاجتماعية التي جمعت العائلتين، والتي اكتشفا خلالها الكثير من القواسم المشتركة بينهما، بداية من الاسم وانتهاء بالأفكار المشتركة؛ إلا أنها لا تزال تذكر جيدا ذلك اليوم الذي وطد علاقتهما أكثر، ليصبغها بصبغة خاصة، ضربت جذورها عميقا في نفسيهما معاً!

حدث ذلك بعد مرور عام من لقائهما الأول، عندما وضعت أختها أول حفيد لكلا العائلتين!

لم تستطع زهرة تمالك نفسها، وهي تتأمل ذلك المخلوق الصغير حديث الولادة، الملفوف بقطعة قماش مزركشة، في حضن والدته المستندة على سريرها في غرفة المستشفى! فأخذت تتحسس اصابعه الصغيرة وتهتف بحماسة:

– أصابع صغيرة جدا!! ما شاء الله ما الطفها!! أرجوك أختي.. دعيني أحمله! أرجوك.. أرجوك..

غير أن أمها نهرتها بلطف، وهي تحاول تهدئتها:

– زهرة كوني عاقلة، من الخطر حمل الأطفال في هذا السن!

وقبل أن تعبر زهرة عن اعتراضها؛ طرق باب الغرفة، فعلقت نورة:

– لا شك أنها خالتي أم سامر..
فهرعت زهرة لفتح الباب، لتجد زاهر واقفاً إلى جانب أمه والفضول يلتمع في عينيه، فبادرته بانفعال شديد:

– إنه صغير جدا، مثل الدمية تماما، ولكن من غير المسموح حمله!

فيما نهضت أمها للترحيب بوالدة سامر، التي القت التحية ببشر واضح، وهي تضع باقة زهور كبيرة مبهجة على الطاولة:

– الحمد لله على السلامة..

قبل أن تستدرك قائلة:

– أبو سامر خارج الغرفة الآن، أين سامر وأبو هيثم؟

فأجابتها أم هيثم- والدة نورة وزهرة- وهي تحكم وضع حجابها على رأسها:

– سامحكم الله، لماذا هذه الرسميات، دعيه يدخل، فنحن عائلة وهذه ابنته وحفيده..

واستطردت موضحة:

– سامر ذهب لإحضار بعض الحاجيات ولن يتأخر، أما أبو هيثم فقد جاءه اتصال هام من العمل، وخرج قبل قليل!

وبينما كان الكبار يتحدثون؛ انشغل زاهر وزهرة بتأمل الصغير عن قرب، وكأنهم يتفحصونه تحت المجهر، وهم يطرحون عشرات الأسئلة على نورة، التي كانت تحاول مجاملتهم بابتسامتها المتفهمة بين الحين والآخر!

قال زاهر بأمل:

– ما رأيكم أن تسمونه زاهر؟ فهو يشبهني، وأنا عمه..

لكن زهرة لكزته وهي تهمس بلسان امرأة ناضجة:

– هذا عيب، سيكون اسمه على اسم جده مراد طبعا، ألا تعرف العادات والتقاليد! ثم إنني خالته أيضا!!

فضحك أبو سامر وهو يستمع لهذه الملاحظة الصادرة عن طفلة لم تتجاوز الثامنة، قبل أن يعلق باسما:

– أنا اسقط حقي في ذلك، ولوالديه حرية اختيار اسم مناسب له..

فقالت نورة بنبرة ودودة:

– لقد اتفقنا على ذلك فعلاً أنا وسامر يا عمي، وأنت الخير والبركة، ثم إن “مراد” اسم جميل..

وأردفت امها مؤكدة:

– عسى الله أن يحقق مراده، ويجعله قرة عين لنا جميعا في الدنيا والآخرة..
وأمّن الجميع على دعائها، قبل أن يرن هاتفها، فنظرت إلى الشاشة قبل أن ترد باسمة:

– إنه هيثم، لقد انتهت محاضرته على ما يبدو..

وخلال حديث أم هيثم مع ابنها؛ عاد سامر وهو يحمل بيده عدد من الأكياس، فقبّل يدا والديه، وتبادل مع الجميع الأحاديث المرحة، قبل أن تستدرك أمه وقد تذكرت شيئا:

– ألم يحن موعد النادي يا زاهر؟؟

غير أن زاهر بدى مشغولا جدا بدراسة الوليد الجديد، فأجابها بعفوية:

– يمكنني التغيب اليوم..

فتدخل سامر قائلاً:

– أليس اليوم هو موعد البطولة! ألم تكن ترفض الذهاب إلى أي مكان خلال تدريبات التايكواندو العادية، وتقول بأنها مرتين في الاسبوع فقط! فهل ستتغيب عنها بسهولة الآن؟؟

وأضافت زهرة بجدية، فيما كان زاهر يحدق بالطفل:

– لا تخف يا زاهر، فالصغير لن يطير!

ورغم ضحكات الكبار لتعليقها ذاك؛ إلا أن عينا زاهر التمعت فجأة، فالتف إليها بنظرات ذات معنى:

– ما رأيك أن تأتي معي أيضا؟ هناك الكثير من الفتيات في النادي، ولطالما أردتِ أن تشاهدي تدريباتنا هناك!

غير أن زهرة اعترضت بسرعة:

– ليس اليوم، ربما في وقت آخر..

فغمزها زاهر بمكر:

– ولماذا ليس اليوم؟ فالصغير لن يطير، كما تقولين!

عندها تدخل أبو سامر ليضع حدا لذلك الجدل:

– هيا يا زاهر، ستتأخر.. ألم تقل ان لديك اليوم مباراة هامة، سآتي معك لمشاهدتها..
واضافت أمه:

– وسآتي معك ايضا..
ثم التفتت إلى أم هيثم التي انهت المكالمة للتو، قائلة:

– ساذهب مع أبو سامر لنادي التايكواندو لتوصيل زاهر..

ورغم أن أم هيثم لم تكن قد استمعت للحوار الذي دار قبل قليل؛ إلا أنها قالت لأم سامر:

– هل بإمكانكم أن تأخذوا زهرة معكم؟ فسأكون منشغلة مع نورة خلال…

وقبل أن تكمل كلامها؛ هتف زاهر بسعادة، وهو يقفز راكلاً الهواء بقدمه، معبراً عن انتصاره:

– رااااائع!

ولم تجد زهرة بد من حضور تلك البطولة، التي لا زالت حاضرة أمام ذهنها، وكأنها تشاهدها أمام عينيها مباشرة، حتى بعد مرور تلك السنوات..

كانت زهرة مبهورة تماما برؤية تلك الحركات المذهلة، حتى أنها نسيت الطفل الصغير تماما، خلال تشجيعها لزاهر بحماسة منقطعة النظير! حتى إذا ما حاز على المركز الأول في النهاية؛ شعرت وكأنها هي من أحرزت ذلك الانتصار!

 لم تمضِ سوى أيام قليلة بعد ذلك، حتى اجتمع الاثنان مرة أخرى في بيت سامر ونورة، فاشارت زهرة إلى زاهر أن يتبعها للصالة الداخلية هامسة:

– سأريك شيئاً، ولكن عدني ان لا تضحك عليه!

وأمام رغبة زاهر العارمة بمعرفة ذلك الشيء، أكد لها باهتمام شديد:

– بالطبع لن أضحك! هل هي رسمة جديدة من رسوماتك؟

فأومأت زهرة برأسها باسمة:
– أجل، ولكنها هذه المرة مختلفة..

ثم قالت:
– أغمض عينيك أولاً!

وبعدما نفذ زاهر طلبها؛ أخرجت لوحة من تحت وسادة الكرسي- كانت قد خبأتها هناك- ثم عرضتها أمامه على بعد ذراع واحد من وجهه، قبل أن تقول:

– افتح عينيك الآن!

لم يكد نظر زاهر يقع على تلك اللوحة، التي صورت فيها زهرة إحدى المشاهد القتالية، المستلهمة من حركات التايكوندو؛ حتى هتف بتأثر شديد:

– ما شاء الله!!! مذهل جدا!! انت رائعة يا زهرة!! لقد تطور رسمك كثيرا ما شاء الله! انك محترفة بمعنى المكلمة!

وأخذ اللوحة ليتأملها بحرص شديد:

 – رائعة جدا.. مذهلة جدا.. لا أدري ماذا أقول أكثر!! كأنني اشاهد المقاتل النبيل!

ثم قال فجأة:

– زهرة!! ما رأيك أن نقوم بتأليف قصة مصورة معاً! أنا سأخبرك بأحداث القصة، وأنت ترسمينها، مثل الرسوم المتحركة!

فهتفت نورة بانفعال:

– فكرة رائعة، أنا موافقة طبعا..

ثم صمتت قليلا قبل أن تسأل:

– ماذا سيكون عنوان القصة؟ الفارس النبيل مثلا؟

فرد زاهر:

– كلا، هذا سيكون مشابه للمقاتل النبيل، ثم إن البطل لن يكون فارساً، بل لاعب تايكوندو محترف، يساعد الأخيار ويهزم الاشرار!

بدت الحماسة على وجه زهرة:

– لقد تشوقتُ فعلا لرسم القصة الآن، ولكننا بحاجة لمعرفة العنوان أولا!

خيم صمت عليهما لوهلة، قبل أن يقول زاهر:

– “البطل المغوار”.. سيكون هذا هو عنوان القصة!

فسألته زهرة:
وماذا يعني مغوار؟

فأجابها زاهر:

– يعني شجاع ولا يخاف من الأخطار!

فما كان من زهرة إلا أن ابدت إعجابها الشديد قائلة بانبهار:

– البطل المغوار، لا يخاف من الأخطار، يساعد الأخيار، ويهزم الاشرار.. إنها تبدو كنشيد جميل!

فأوضح زاهر، وهو يستعرض معلوماته الأدبية، قائلاً:

– إنها جمل قصيرة على الوزن نفسه.. وستكون هذه هي البداية.. وسيكون اسم البطل “فارس”، فما رأيك الآن؟

انتبهت زهرة من سيل ذكرياتها تلك على سؤال فاتن، الذي أعادته للمرة الثانية بطريقة أخرى، وبالحاح شديد:

– هل علاقتكما مقربة جدا إلى هذا الحد؟ من الواضح أنك تحبينه، أليس كذلك؟

شعرت زهرة بحرج شديد لسماع ذلك بشكل مباشر، فحاولت تدارك الموقف قبل ان تفلت الأمور من يدها، قائلة:

– ما الذي جعلك تقولين شيئا كهذا؟ نحن مجرد فردين من عائلتين جمعهما النسب، ولا يوجد بيننا أي شيء خاص كما تظنين، فنحن من عائلات عربية محافظة يا عزيزتي، وليس من المعتاد أن تكون هناك صداقة خاصة بين شاب وفتاة! بل إننا نعتبر هذا غير لائق في مجتمعنا!

 حتى إذا صدف والتقينا في أي مكان، فلا يوجد بيننا أي حديث خاص!

أبدت فاتن تعجبها الشديد مما سمعته، متمتمة:

– غريب!!

ثم استطردت قائلة:

– ولكنكما تذهبان للجامعة نفسها، أليس كذلك؟

فأوضحت زهرة:

– هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، فحتى إذا التقينا لأي سبب من الاسباب، فلا يوجد بيننا أكثر من الأحاديث العامة، في حدود الضرورة فقط!

ورغم الارتياح الذي ظهر على وجه فاتن، إلا أنها تساءلت باهتمام:

– هل هذا يعني أن الفتاة التي تحدث أحد اقربائها غير المحارم؛ تعتبر فتاة غير محترمة؟

فاسرعت زهرة تنفي ذلك، قبل أن يحدث سوء فهم غير محمود العواقب:

– كلا، أنا لم أقل هذا ابدا، ولكن هناك حدود لكل شيء!

فتنهدت فاتن:

– أشعر أن هذا نوع من التعقيد الذي لا أفهمه! أنتِ تعرفين أنني سأنتقل للعيش هنا، بعد أن قرر والداي العودة لأرض الوطن! صحيح أنني سألتحق بمدرسة أجنبية، نظام التدريس فيها مشابهة لما اعتدتُ عليه، إلا أنني لا زلتُ أشعر بالغربة هنا! وقد طلبتُ من ابن خالتي زاهر أن ياخذني في جولة لجامعته، لكنه أخبرني أنه من الأفضل أن اذهب معك، فأنت في الجامعة نفسها!

خفق قلب زهرة بقوة لسماع ذلك، ولسان حالها يقول:

– هل قال زاهر ذلك حقاً!!

لكنها سرعان ما استدركت بابتسامة مرحة، لتخفي حقيقة مشاعرها:

– هذا طبيعي يا عزيزتي، فكما أخبرتك، ليس من المعتاد أن يسير شاب بصحبة فتاة هكذا؛ دون أن يثيرا حولهما الشبهات!

  **

شعرت زهرة بمسؤولية كبيرة تجاه فاتن، وكأنها أختها الصغرى التي تحتاج لرعاية حقيقية، قبل أن تغرق في مجتمع لا تعرف عنه شيئاً، خاصة وأنها وحيدة والديها! فحرصت أن تكون جولتهما الاولى ممتعة ومفيدة في الوقتِ نفسه، ولم يخفَ على زهرة الشعور ببهجة فاتن في تلك الجولة؛ مما اشعرها بالارتياح التام، لا سيما وقد انسجمتا تماما، وكأنهما تعرفان بعضهما البعض منذ فترة طويلة! غير أن هناك شيء وحيد كان يؤرق زهرة بشدة! فعلى ما يبدو؛ استطاعت فاتن كسر الحواجز بينها وبين زاهر.. بعفوية وسهولة!

بدت زهرة شاردة الذهن تماما، وهي تحدق بالطريق من خلال نافذة الحافلة، فيما كان عقلها يسترجع حديث فاتن ويحلله، بعد أن أصبح زاهر محور اهتمامها الأول والأخير! فقد أخبرتها فاتن بنبرة لا تخلو من ضيق:

– لقد قال زاهر بأن الحجاب فريضة على كل مسلمة، فهل تعتقدين أنه منزعج مني لأنني غير محجبة؟ ولكنني لا أزال في السادسة عشر من عمري فقط!

وبينما كانت زهرة تستذكر كلام فاتن ذاك بألم؛ طرق سمعها حديث دائرٌ بين فتاتين تجلسان خلفها في الحافلة:

– لا تكوني حمقاء، عليك أن تتخذي خطوة جادة حيال ذلك، حاولي أن توصلي مشاعرك إليه بأي طريقة، قبل أن تسرقه فتاة أخرى، فالفتيات جريئات هذه الأيام ولن تفيدك هذه القيم والمباديء التي تتحدثين عنها! إنه حب حياتك ومن الغباء أن تتجاهلي ذلك.. ستندمين..

عندها.. شعرت زهرة باختناق شديد، وألم حاد في صدرها، ورغبة عارمة بالبكاء، غير أنها جاهدت في كتمان ذلك كله، خشية أن تلفت أنظار الركاب نحوها، فيما رددت بصدق:

– يارب.. استودعتك قلبي، فاحفظني بحفظك، ولا تفتني في ديني..

**

دخلت زهرة إلى غرفتها- بعد أن ألقت التحية على والدتها، وتبادلت معها بضع الكلمات- ثم أخرجت صندوقاً من تحت سريرها، كانت تحتفظ فيه بحاجياتها الثمينة، وتأملت آلة التصوير القديمة، الموضوعة فيه بعناية، فيما انسالت الدموع غزيرة على وجنتيها، بعد أن هجمت عليها موجة من تلك الذكريات..

كانت متحمسة جدا لرسم مشاهد قصة “البطل المغوار” التي ألفها زاهر، لكنها شعرت بصعوبة في رسم خلفية مناسبة لأحد المشاهد، وبعد أن أخبرته بذلك؛ ما كان منه إلا أن طمأنها بقوله:

– لا تقلقي.. يمكنك تأمل الأماكن حولك، واقتباس الخلفية المناسبة مما ترينه! وسأساعدك في ذلك طبعا..

ثم أطرق رأسه وهو يتجول بالغرفة بتفكير عميق، قبل أن يفتح النافذة مشيراً إلى حديقة أحد المنازل، قائلاً:

– ما رأيك بهذه الحديقة؟

فصنعت زهرة إطارا بأصابعها الأربعة- الابهام والسبابة من كل يد- ونظرت من خلالها قائلة:

– ستكون شجرة الليمون في الزاوية اليمنى من الصفحة، يليها المنزل، في حين تغطي الساحة العشبية المقدمة، حيث يقف البطل المغوار، في مواجهة ذلك اللص..

وبدى الرضى على وجهها، فقالت بمرح:

– ممتاز.. أظن أن الخلفية اصبحت واضحة الآن! شكرا لك زاهر، سأستخدم هذه الطريقة من الآن فصاعدا، إنها تشبه النقل من الصور الفوتوغرافية!

ولم يمض على ذلك سوى يومين، حتى فاجأها زاهر بهدية مغلفة، بحجم صندوق صغير، قائلاً لها بابتسامة ودودة:

– إحزري ماذا احضرتُ لك؟

وأمام دهشتها الشديدة، أخرج لها آلة تصوير جديدة، قائلاً بابتهاج:

– ستفيدك هذه كثيرا برسم الخلفيات، فهل أعجبتك؟

أمسكت زهرة آلة التصوير بحذر، وكأنها في حلم تخشى الاستيقاظ منه:

– هل هذه لي؟

 فأومأ زاهر رأسه بالايجاب:

– أجل، الم تعجبك؟

فردت زهرة بسرعة:

– بالطبع أعجبتني، ولكن.. من أين حصلت عليها، وهل أمك تعرف عن ذلك؟ لا شك أنها باهظة الثمن!

عندها ابتسم زاهر بفخر:

– لقد اشتريتها من مدخراتي بالكامل، وأمي لم تمانع بالطبع، فهي تعرف عن مشروعنا المشترك..

كانت زهرة غارقة تماما في سيل ذكرياتها، عندما سمعت صوت طرق على الباب، فدست آلة التصوير في الصندوق بسرعة، وأدخلته تحت السرير، قبل ان تجيب بابتسامة مصطنعة:

– تفضل..

فإذا بابنة أخيها هيثم- ذات السنوات الست- تدخل مندفعة نحوها بحبور:

– عمتي عمتي.. انظري ماذا أعطتني المعلمة..

**

بدت نورة مترددة قليلاً، قبل أن تبدأ حديثها، الذي جاءت خصيصاً من أجله:

– لا أعرف ماذا أقول يا أمي، ولكنني قلقة جدا على زهرة! لقد حاولتُ التظاهر بعدم فهمي لمغزى سؤالها؛عندما حاولت ان تستشف مني علاقة زاهر بفاتن، وإن كان لا يمانع بالحديث معها بحرية!! أخشى أن تصاب بصدمة عاطفية لا قدر الله! حقا لا أدري ما الذي عليّ فعله!

لم تستطع الأم إخفاء قلقها مما سمعته، فسألتها بتوجس:

– هل قالت حماتك أي شيء بهذا الخصوص؟

فهزت نورة رأسها نفياً:

– أكاد أجزم أنها لا تحبذ ارتباط ابنها بفاتن، فلطالما لمّحت لي عن زهرة! المشكلة ليست في الحماة، بل في زاهر نفسه، فعلى ما يبدو أنه قد أصبح مهتما بالفعل بأمر فاتن، ومع ذلك لم أجرؤ على قولها لزهرة بوضوح!!

فتنهدت أمها:

– ليس بيدنا فعل شيء غير الدعاء، وأسأل الله أن يختار لأختك الخير..

**

ما أن رأى زاهر صديقه مقبلاً نحوه في المكان المتفق عليه؛ حتى هب نحوه مرحباً:

– رائد، وأخيراً.. كيف حالك يا رجل، لم أرك منذ فترة طويلة، رغم أننا في الجامعة نفسها!

فصافحه رائد بحرارة:

– الحمد لله، لقد شغلتنا الدراسة فعلاً، وبالكاد أخرج من نطاق كليتي!! ما هي أخبارك أنت، وما هو هذا الأمر الطارئ الذي استدعيتني لأجله؟

 فابتسم زاهر:

– ألا تجلس أولاً يا أخي، فأنا لم أرك منذ قرون! لقد سمعتُ أنك اصبحتَ تعمل مدربا في نادي التايكواندو بدوام جزئي، لقد أعاد هذا لي الذكريات فعلاً..

 وبعد أن تبادل الاثنان الأحاديث العامة، حث رائد صديقه على الدخول بالموضوع الرئيس قائلاً:

– أخشى أن يداهمنا الوقت دون أن نحقق الهدف الاساسي من هذا اللقاء!

فتنهد زاهر ووضع رأسه بين يديه، قبل أن يقول:

– رائد.. أريد أن أسألك سؤالاً شخصياً، ولا أريدك أن تسيء فهمي، فإجابتك هامة جدا بالنسبة لي..

والتقط نفسا قبل أن يتابع:

– هل تذكر تلك الفتاة التي كانت تشاركنا تدريبات التايكوندو عندما كنا صغاراً؟ أظنها ابنة جيرانكم، فقد كنتم تأتون وتذهبون معاً، صحيح؟

فرد رائد:

– تقصد راما؟ أجل كانت ابنة جيراننا، ماذا بشأنها؟ لقد تزوجت قبل شهرين!

لم يكد زاهر يسمع ذلك؛ حتى صرخ بانفعال:

– تزوجت!! هل أنت جاد؟؟ ولكنك كنتَ تحبها جدا! لا يمكنك إنكار هذه الحقيقة، فقد كانت واضحة كالشمس! فلماذا تركتها لغيرك؟!! لماذا يا رائد، لماذا؟؟ أنا متأكد من أنها لم تكن لترفضك أبداً!

وبدت خيبة أمل كبيرة على وجه زاهر، وهو يتابع كلامه بإحباط شديد:

– كنت أريد الاستفادة من تجربتك، فقد توقعت أنك أقدمتَ على خطبتها فعلاً، أو قرأتم الفاتحة على الأقل! لقد كنتَ أنت أول من خطر ببالي، عندما شعرتُ بشيء مشابه!

فأجابه رائد بتفهم:

– أقدر شعورك يا صديقي، كلامك صحيح، لقد أحببتها بصدق حقاً، ولكنني لستُ نادم! فلم أكن مستعدا للارتباط حتى أتقدم لخطبتها! ولم أشأ أن أعلقها بأوهام قد لا تتحقق!  كنتُ أنوي الحصول على عمل مناسب أولاً؛ لتأمين المتطلبات الاساسية، وأكون على قدر المسؤولية، وقد بدأتُ فعلاً بالعمل في دوام جزئي قبل التخرج، لتحقيق هذا الغرض، ولكن قدر الله وما شاء فعل!

فقال زاهر بضيق، وكأنه هو من فاتته تلك الفرصة:

– لو أنك لمّحت لها على الأقل بأنك تنوي خطبتها لانتظرتك بلا شك!

فاعترض رائد بقوله:

– ولماذا أعلق الفتاة؟ لماذا أسبب لها خلافاً مع أهلها؛ إن تأخرتُ عليها أو أتاها شخص مناسب خلال فترة انتظارها لي!! ليس من المروءة فعل ذلك أبداً، بل إنني اراها أنانية صرفة مني، ولن أرضى بأن أكون ذلك الوغد، الذي يتلاعب بمشاعر فتاة دون وجه حق! وكما أخبرتك، لستُ نادما على قراري البتة، فزوجها رجل فاضل كما سمعت، وهي تعيش الآن حياة مستقرة معه، وأرجو لهما السعادة من كل قلبي..

فأطرق زاهر رأسه متمتماً:

– هذه مثالية مبالغ فيها منك، ويستحيل أن أكون مثلك..

وخيّم عليهما صمت ثقيل، قطعه رائد بسؤاله:

– دعك الآن مني، فقد أخبرتك كل شيء، فماذا عنك أنت؟

فزفر زاهر بضيق:

– لا أدري ماذا أقول، فأنا في حيرة من أمري! ولن أحتمل تفويت الفرصة مثلك!

والتقط نفساً عميقا قبل أن يستأنف:

– ربما سأتمكن من إيجاد عمل مناسب بنهاية هذه السنة، فتخرجنا بات وشيكاً، ولكن المشكلة أن الفتاة لا زالت في المدرسة، ولا أدري إن كان الأهل سيتقبلون فكرة الخطوبة..

  بدت الدهشة على وجه رائد، فسأله بتعجب:

– في المدرسة؟؟ حسب ما أذكر أنها تصغرك بسنتين فقط!

فما كان من رائد إلا أن بادله نظرات الدهشة نفسها، متسائلا بتعجب:

– عمن تتحدث؟

فرد رائد:

– ألا تقصد تلك الفتاة التي كانت تشاركك مشاريعك في كتابة القصص المرسومة؟

عندها فهم زاهر قصده، فابتسم قائلاً:

– لا شك أنك تقصد زهرة، شقيقة زوجة أخي، اليس كذلك؟

فأجابه رائد:

– بالطبع، ومن غيرها؟ لقد كنتَ تتحدث دائماً عنها، وعن مشاريعكما، كما أذكر أنها كانت تأتي لتشجيعك في بطولات التايكوندو!

فتنهد زاهر:

– أجل هذا صحيح، كان ذلك في الماضي عندما كنا صغاراً، أما الآن فلا يوجد شيء مميز بيننا، إنني أتحدث الآن عن ابنة خالتي…

غير أن رائد قاطعه بانفعال مفاجيء غير متوقع:

– وماذا عن تلك القصة؟ لقد صنعتم منها عدة فصول حسبما أذكر، فهل اكملتموها؟

فضحك زاهر:

– تقصد قصة البطل المغوار؟ إنها مجرد قصة طفولية، فمن يأبه بها..

غير أن رائد تابع كلامه بجدية:

– ألم تقل ذات مرة بأن لكتابة القصص رسالة وهدف كبير؟

فحملق فيه زاهر لوهلة، قبل أن يعلق باسما:

– هل قلتُ ذلك حقا؟ يبدو أنني كنت مثالياً أيضا!

قال جملته تلك وانفجر ضاحكاً، فيما لاذ رائد بالصمت، إلى أن استأنف زاهر كلامه:

– آسف لازعاجك يا صديقي، ولكنني بالفعل لم أعد مهتما بتلك القصص، ولا اظنها مهتمة بها أيضا! فقد كبرنا..

فقاطعه رائد:

– وما أدراك أنها لم تعد مهتمة بتلك القصص؟ ثم إن الأمر لا يتعلق بالقصص وحدها، فلطالما كنتَ تتحدث عن أخلاقها وأدبها، حتى أنك بدوتَ معجباً جدا بها ذات يوم!

فتنهد زاهر:

– ربما كنتُ معجباً بها.. فهي بالفعل تكاد أن تكون فتاة مثالية من كافة الجوانب، فهي على درجة عالية من الأخلاق بشهادة الجميع، ولكنني لا أشعر نحوها بانجذاب خاص مقارنة بابنة خالتي!

فأجابه رائد بتفهم:

– هذا لأنها فتاة محافظة، فهل كنت تتوقع منها أن تُقدم على تصرفات تثير اهتمامك؛ حتى تنجذب نحوها مثلا؟

وصمت قليلاً قبل أن يتابع:

– لا أريدك أن تندم يا صديقي، أو تتسرع باتخاذ قرار غير محسوب العواقب، فنحن أصدقاء منذ زمن طويل، وأعرفك بشكل كبير، أكثر مما تتخيل!

تأثر زاهر لتلك النبرة الصادقة في لهجة صديقه، فقال بامتنان:

– أقدر اهتمامك يا صديقي العزيز، ولكن قلبي قد تعلق بالفعل بابنة خالتي، وأخشى أن افقد السيطرة على نفسي، أو ارتكب محظورا لا قدر الله، لذلك فكرتُ بأمر الخطوبة!

وبتفهّم كبير وتعاطف واضح، قال رائد:

– كان الله بعونك، ولكن ما كان عليك أن تترك نفسك حتى تصل إلى هذا الحد يا زاهر! وقدر الله وما شاء فعل!! على كل حال، من الأفضل أن تستشر والديك، فلا أظنني أمتلك النصيحة المناسبة لك، وأسأل الله لك التوفيق..

**

رأت زهرة نفسها في ثوب زفاف أبيض، وسط زغاريد العائلة وأهازيجها المبهجة، فيما همس زاهر بأذنها بحب:

– وأخيراً اجتمعنا يا حبيبتي، لطالما انتظرتُ هذه اللحظة بفارغ الصبر! يمكننا إكمال قصتنا الآن بلا قيود، فهل لا زلتِ تحتفظين بالصفحات السابقة؟

 غير أن الواقع سرعان ما تكفل بتمزيق ذلك الأمل إلى أشلاء مبعثرة؛ ليوقظها من أحلامها الوردية على صوته المرير:

“خطوبة زاهر وفاتن؛ تم إعلانها أخيرا، وسيتم تحديد موعد الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة قريباً”!

   لم تدرِ زهرة، من أين سمعت الخبر، أو كيف عرفت عنه أول مرة ولأولى، لكنها كانت حريصة أشد الحرص أن لا يبدو عليها أدنى “تأثر” جراء ذلك! فعادت إلى منزلها، وهي تحاول السيطرة على مشاعرها، والتظاهر باللامبالاة المطلقة، فألقت التحية على والدتها بابتسامة زائفة، وهمت بالذهاب إلى غرفتها كالعادة؛ غير أن أمها استوقفتها قائلة:

– لا داعي لأن تغيري ثيابك، فقد سمعت عن افتتاح محل جديد للمشروبات المثلجة، وأريدك أن ترافقيني إليه، فوالدك سيتأخر اليوم في العمل، وستكون فرصة لتغيير الجو من أعباء المنزل!

ورغم أن زهرة لم تكن بمزاج يسمح لها بالخروج؛ لكنها لم تكن لتعارض رغبة والدتها، فوافقت قائلة:

– حسناً أمي، سأصلي العصر فقط، وسأكون مستعدة بعد ذلك، إن شاء الله..

ورغم حرص زهرة، على الظهور أمام والدتها بمظهر طبيعي؛ إلا أنها لم تكد تضع جبهتها على الأرض- في وضعية السجود- حتى سالت دموعها بغزارة، لتبلل سجادة الصلاة، وهي تبثها كل ما يعتريها من حزن وألم..

**

اختارت والدة زهرة طاولة تطل على حديقة ورد متعددة الالوان والأشكال، ثم سحبت أحد المقاعد وجلست إلى جانب زهرة أمام الطاولة، قائلة:

– سبحان الخالق! أليس المنظر بديعاً!

فابتسمت زهرة:

– بالفعل مكان رائع جدا ما شاء الله! سبحان الله!

فتحت الأم قائمة المشروبات، وأخذت تستعرضها مع زهرة بصوت عال؛ قبل أن تشير بإصبعها إلى أحدها قائلة:

– “مشروب الفانيلا المثلج بالكريمة”.. ما رأيك؟ أنتِ تحبين نكهة الفانيلا..

فعلقت زهرة وهي تتأمل القائمة:

– إنه باهظ الثمن بشكل غير معقول!

فضحكت أمها:

– دعينا الآن من التفكير بهذه الأمور المزعجة، فهذه الفرصة لن تتكرر كل يوم! كانت جدتك رحمها الله تقول “ساعة الحظ لا تفوّتها”..

  لم يستغرق إعداد الطلب وتقديمه أكثر من بضع دقائق، تبادلت خلالها الأم وابنتها ملاحظاتهما حول المكان، ولم تكد زهرة ترشف الرشفة الأولى من مشروبها؛ حتى هتفت بانتعاش:

– ما شاء الله!!!! لذيذ جدا!!

فعلقت أمها وهي ترتشف بضع رشفات من كأسها هي الأخرى:

– الحق يُقال، إنه يستحق ثمنه بجدارة!

وبينما هما كذلك، إذ قالت الأم فجأة:

– ما أخبار قصتك المرسومة؟ كنتِ تلتقطين الصور للمناظر المختلفة، من أجل رسمها، وأظن أن هذا المنظر يستحق التصوير، فما رأيك؟

فردت زهرة باقتضاب:

– صحيح إنه منظر جميل..

فعلقت أمها باهتمام:

– لم أرك ترسمين منذ فترة، ألا تنوين إكمال القصة؟

فتنهدت زهرة، وآثرت الصمت، فما كان من أمها إلا أن أخرجت ورقة وقلم من حقيبتها، وكتبت عليها قليلا؛ قبل أن تريها لزهرة، قائلة:

– ما رأيك بهذه؟ هل يمكنك ايجاد الجواب الصحيح؟

تناولت زهرة الورقة، وأخذت تتامل ما كُتب عليها بتمعن:

7) x 4 – 3)] x 2 + (3+2)]}

ثم قالت:

– الأقواس غير مغلقة، ولا يمكنني الجزم بالاجابة!

فأومأت الأم موافقة:

– هذا صحيح، ولو أدخلتِها بالآلة الحاسبة هكذا، لما أعطتك أية نتيجة!

  صمتت الأم قليلاً قبل أن تتابع:

– هذا ينطبق على حياتنا أيضا يا ابنتي، فإن قمنا بفتح الأقواس فقط دون التفكير بإغلاقها، لبقينا معلقين فقط؛ دون إحراز أي نتائج أو إنجازات تُذكر! عليك أن تغلقي الأقواس دائماً حتى تحصلي على الحل، ومن ثم سيكون بإمكانك أن تفتحي قوس جديد!

خيم صمت لوهلة، قطعته زهرة بقولها:

– أفهم ما تعنيه يا امي، ولكن لا يمكنني إكمال القصة وحدي، فقد كان زاهر..

وغصت الكلمات بحلقها، وتهدج صوتها وهي تحاول المتابعة:

– هو من يكتب القصة وأنا أرسمها وحسب!

بذلت الأم جهدا اضافيا في حبس دموعها، وحمدت الله الذي ألهمها الجلوس في ذلك الموقع إلى جانب ابنتها، بحيث لا تواجه إحداهما الأخرى، ثم قالت بهدوء:

– أنا لم أقل أن عليك اكمال القصة وكتابتها، أغلقي قوسها وحسب!

أثارت تلك الملاحظة اهتمام زهرة، فسألتها بفضول:

– وكيف أغلق قوسها؟ ماذا تقصدين يا أمي؟!

فابتسمت الأم:

– اصنعي نهاية للقصة.. ضعي خاتمة فقط!

وصمتت الأم لتترك لها مساحة للتفكير، قبل أن تُخرج من حقيبتها هدية مغلفة، ناولتها لها مشجعة:

– قد تساعدك هذه في المهمة، هيا افتحيها يا حبيبتي..

اغرورقت عينا زهرة بالدموع، وهي تشاهد آلة التصوير الحديثة، التي فاجأتها بها أمها، معلقة:

– لقد أصبحتْ آلتك السابقة قديمة، وهذه آلة رقمية مطورة، وبها مميزات كثيرة..

فما كان من زهرة إلا أن نهضت من مقعدها، وعانقتها بتاثر شديد، وهي تجهش بالبكاء، غير مبالية إن ما كان هناك أحدٌ حولهما:

– أحبك يا أمي.. لا حرمني الله منك أبدا.. وإن شاء الله أكون عند حسن ظنك دائماً..

  وانسابت الدموع غزيرة من عيني الأم وهي تحتضن فلذة كبدها، وقطعة قلبها، هامسة بحب:

– أنت فتاة طيبة يا حبيبتي، وقلبي راضٍ عنك، وأسأل الله أن يرسل لك من يستحقك ويسعدك..

ثم ربتت على كتف ابنتها برفق:

– هيا.. ألن تلتقطي صورة لهذا المنظر الجميل أمامنا؟

مسحت زهرة دموعها، وابتسمت وهي تحاول السيطرة على أنفاسها المتلاحقة أكثر:

– بالتأكيد يا أمي، ولكن قبل ذلك.. أريد أن نلتقط صورة لنا معاً..

**

وضعت زهرة هاتفها في حقيبتها، بعد أن أعلمت والدتها بأنها ستتأخر قليلاً في الجامعة.. 

كانت تشعر برغبة كبيرة في خلوة تقضيها مع الطبيعة، تفكر خلالها بهدوء وعمق، بعد أن عقدت العزم على وضع نهاية لتلك القصة، مهما كلف الأمر! شعرت بانتعاش عجيب، وهي تسير بين أشجار الصنوبر العملاقة، خاصة وقد بدأت ساحات الجامعة وطرقاتها تخلو من الطلبة، مع نهاية الدوام الرسمي..

أخذت تتأمل الأشجار والنباتات حولها، وكأنها تراها لأول مرة، رغم أنها تمر من بينها تجاه كليتها كل صباح! وإذ ذاك أخرجت آلة التصوير الجديدة، وبدأت بالتقاط الصور بسعادة غامرة، حتى عثرت على مقعد خشبي يتماشى مع أجوائها الملهمة، فاسترخت عليه- بعد أن القت حقيبتها إلى جوارها- وأسندت ظهرها ملقية برأسها إلى الخلف، متأملة أغصان الشجرة المتشابكة فوقها، فيما أرخت سمعها لأروع سيموفونية قد تسمعها في ذلك المكان، من اداء تلك العصافير الصغيرة بديعة الالوان!

وبعد أن حلقت في أجواء من السلام النفسي العجيب؛ أخرجت صفحات مرسومة من حقيبتها، وبدأت تتأملها بروية..

لقد تحسن رسمها كثيرا، مقارنة بالمرة الأولى التي بدأت فيها العمل على هذه القصة!

بذلت جهدا كبيرا في استخراج فكرة مناسبة للخاتمة، وأخذت تخط بعض الخربشات على ورقة بيضاء، أسندتها فوق تلك الصفحات المرسومة على حجرها، لكنها لم تعثر على شيء مميز! فتنهدت بضيق:

– لو أنني أعرف فقط كيف كان زاهر يحصل على الأفكار!

وما أن طرق “زاهر” ذهنها؛ حتى شعرت بوخزة ألم في صدرها، سرعان ما طردتها من رأسها بقوة، فتفلت عن يسارها ثلاثاً، مستعيذة بالله من وساوس الشيطان، مذكرة نفسها:

– لقد وعدتُ أمي.. سأضع نهاية لهذه القصة، إن شاء الله.. فيارب.. ساعدني..

ونهضت من مكانها، وأخذت تتمشى قرب المقعد جيئة وذهاباً، ثم حملت حقيبتها على كتفها، فيما أمسكت الأوراق بيدها، وأخذت تسير ببطء وسط غابة أشجار عملاقة، في الجزء الشمالي من ساحة الجامعة المترامية الأطراف..

لم تدرِ زهرة كم قطعت من مسافات؛ قبل أن يطرق سمعها نعيق الغربان.. لم تلقِ بالاً للأمر في البداية، لكنها فوجئت بها وهي تقترب منها دون خوف، محلقة فوق رأسها باهتياج، فأوجست في نفسها خيفة:

– هل يعقل انها ستهاجمني مثلا!

عندها.. حاولت أن تسرع في مشيتها، غير أن الغربان قد بدأت بشن هجومها فعلاً، فأخذت تطير نحوها من كل اتجاه، فيما حاولت زهرة خفض رأسها أثناء جريها، كلما أحسّت باقترابهم منها.. لقد شعرت بالخوف الحقيقي في هذه الجامعة، لأول مرة!

 كانت زهرة تجري بكل قوتها، وهي تلوح بالاوراق في الهواء، خافضة رأسها، لعلها تبعد الغربان عنها، فلم تنتبه للصخرة الصغيرة أمامها، فتعثرت بها لتسقط على الأرض، مرتكزة على يدها اليسرى، لعلها تحمي الاوراق التي تشبثت بها يدها اليمنى بشدة! غير أن ألم السقطة على يدها اليسرى، افقدها السيطرة على نفسها، فتبعثرت الأوراق من يدها على الأرض!!

وكأن الغربان قد تفاجأت من هذا العارض؛ فهدأت قليلاً مرتفعة في الهواء! أخرجت زهرة منديلا من حقيبتها، لتمسح الجروح على باطن كفها الأيسر، وضغطت عليه لتوقف نزف الدماء، فيما حاولت جمع الأوراق المبعثرة بسرعة، قبل أن تستأنف الغربان شن هجومها التالي! وبينما كانت تحاول الاسراع في المشي نحو بوابة الجامعة الشمالية؛ سمعت صوتاً ينادي:

– يا أختي.. يا أختي.. لحظة لو سمحت..

فتوقفت زهرة لبرهة، والتفتت إلى الخلف، لترى شاباً يسرع نحوها، وهو يشير بورقة في يده، فهرعت تتفقد أوراقها، لتكتشف  نقصان واحدة منها! حتى إذا ما اقترب منها الشاب، ناولها الورقة بأدب:

– أرجو المعذرة يا أختي، ولكنها سقطت منك..

تناولتها زهرة الورقة منه، وشكرته بامتنان شديد:

– جزاك الله خيرا..

فيما أضاف الشاب، قبل أن يتجاوزها بالمشي:

 – من الخطر السير في تلك المنطقة، أثناء خلو الجامعة من الناس، فأعشاش الغربان متمركزة فيها بكثرة!

قال جملته تلك ومضى في حال سبيله، في حين التمعت فكرة في ذهن زهرة، أعادت الحماسة إلى نفسها، فحمدت الله على سلامتها، وهي تقترب من بوابة الأمان، بعيدة عن محيط الغربان، وابتسمت لنفسها مشجعة:

– الحمد لله.. وجدتها.. وجدتها..

**

شعرت زهرة براحة كبيرة، وهي تراجع أسئلة آخر امتحان نهائي لذلك العام مع صديقاتها، بعد خروجهن من القاعة:

– الحمد لله.. المهم أن بإمكاننا الشعور بالحرية أخيرا، بعد ذلك الضغط..

فأكدت هديل كلامها:

– حقا..الحمد لله.. والآن دعونا ننسى أمر الاختبارات، ما هي خططكن لهذه الاجازة يا بنات؟

قالت بسمة:

– أظننا ستقضي الاجازة في بيت جدي في الريف..

فيما قالت نوال وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها:

– أريد أن أنام وحسب.. كل الخطط يمكن تأجيلها بعد ذلك..

فتندرت عليها الفتيات ضاحكات:

– أحلام سعيدة، يا ملكة النوم..

ثم استدركت هديل، موجهة حديثها لزهرة:

– نسيت أن أخبرك بأنني كتبتُ فصلا جديدا للقصة..

فتساءلت بسمة بفضول:

– عن أي قصة تتحدثون؟ ما الذي تخططون له من ورائنا؟

فابتسمت زهرة:

– ليس ذنبنا أنك لم تكوني منتبهة معنا، عندما تحدثنا عن ذلك أول مرة..

فيما أوضحت نوال قائلة:

– باختصار، زهرة وهديل تعملان على قصة مشتركة عن يوميات طالبة جامعية.. هديل تكتب وزهرة ترسم، وأنا أحلم بالأفكار!

 فلم تتمالك الفتيات أنفسهن من الضحك، رغم محاولتهن الجاهدة لخفض أصواتهن قدر المستطاع..

   عانقت زهرة رفيقاتها بحرارة، قبل أن تودعهن، على أمل اللقاء بهن مجددا في العام القادم، ثم اتجهت نحو موقف حافلات منطقتها، وقبل أن تصل إلى وجهتها، استوقفها صوت ممزوج بحنين الماضي وذكرياته، تعرفه جيدا:

– زهرة.. هل لي بدقيقة من فضلك؟

  لم تصدق زهرة عينيها، وهي ترى زاهر يقف أمامها بشحمه ولحمه! كان هو بعينه، بطوله وعرضه، غير أن مسحة حزن كست ملامح وجهه بوضوح! ورغم هول المفاجاة؛ إلا أن زهرة نجحت في السيطرة على انفعالاتها؛ فقالت بنبرة حازمة:

– خير إن شاء الله؟!

فتنهد زاهر، وقال بنبرة لا تخلو من أسى:

– قد تستغربين حديثي معك الآن، ولكنني وجدتُ نفسي مضطر إليه، وأرجو أن لا أسبب لك أي إزعاج بذلك..

 والتقط نفساً قبل أن يتابع:

– لن أطيل بالمقدمات، فأنا أعلم أنك مستعجلة، ولكن.. لا أدري كيف أقولها.. اشعر أنني خدعتُ نفسي عندما قررتُ الارتباط بفاتن!

لم تعلق زهرة بشيء، وبدت لزاهر غير متأثرة بما سمعته؛ فلم يشعر بتلك الزلزلة حامية الوطيس التي هزت أرجاء جسدها! وأمام صمتها، تابع قائلاً:

– لقد مضت قرابة السنة على خطوبتنا، لم اكتشف خلالها إلا مدى تنافر شخصياتنا وتباعدها، فلا توجد بيننا أي اهتمامات أو أهداف مشتركة، أشعر وكأنني عالق مع طفلة صغيرة، طلباتها لا تنتهي!! لقد وقعتُ ضحية انبهار عابر، لا يغني عن الحقائق شيئاً، ولا أدري إن كان من الحكمة المضي قدما في علاقة كهذه!!

خيم صمت ثقيل على الاثنين للحظة، قبل أن تقول زهرة بلهجة جادة:

– فاتن فتاة طيبة، ولم يجبرك أحد عليها، وقد كنتَ تعرف مسبقاً أنها لا تزال طالبة في الثانوية، كما أنها انتقلت إلى بيئة جديدة لم تألفها من قبل! جميع الأمور كانت واضحة لك منذ البداية، فليس من العدل أن تتنصل من هذه المسؤولية بسهولة! ثم إنها ابنة خالتك، وهي وحيدة والديها، فلا تتهور بالاقدام على خطوة؛ تكون سببا في نشوب خلافات عائلية غير محمودة العواقب! لقد أحبتك ووثقت بك، فإياك أن تخذلها! عليك أن تتفهم ظروفها واحتياجاتها، ألستَ أنت الرجل الذي بيده القوامة؟ لا تظن أن هناك زواج بلا طلبات أو مسؤوليات، ويا حبذا لو التحقت بدورات تأهيل الزواج، فهذا ليس عيب أبداً..

كان زاهر يستمع إليها مطأطئاً بإنصات، وكأن على رأسه الطير، في حين ختمت زهرة كلامها بثقة:

– الزواج مسؤولية كبيرة، وميثاق غليظ، ومن الأفضل أن تستشير والديك في موضوعك هذا، وأسأل الله أن يبارك لكما ويبارك عليكما، ويجمع بينكما بخير..

وقبل أن تهم بالذهاب، استدركت قائلة:

– بالمناسبة، لقد وضعتُ خاتمة لقصة “البطل المغوار”، ونشرتها على الموقع العربي للقصص المرسومة، كما كتبتُ اسمك أيضاً لحفظ الحقوق..

  لم يستوعب زاهر ما سمعه في البداية، وقبل أن يتأكد من زهرة حول ما قالته؛ كانت قد تبخرت من أمامه كطيف عابر!

فأخرج هاتفه الذكي، وتأكد من تفعيل خاصية الاتصال بالشبكة العنكبوتية، ثم ضغط بضع كلمات في محرك البحث، قبل أن تظهر القصة أمامه! وبتصفح سريع، استرجع ذكريات تلك الأحداث التي كتبها من صميم قلبه قبل زمن! فهرع لرؤية الفصل الأخير، ضاغطاً على رابطه،  ليبدأ قراءته باهتمام شديد..

لم يكن الفصل يتجاوز بضع صفحات مرسومة بالكامل، تتخللها كلمات متفرقة، وجمل محدودة، أمكنه تلخيصها بفقرة واحدة:

“بعد أن وجد البطل المغوار نفسه محاصرا من الحيوانات المفترسة، استمات في الدفاع عن نفسه، مستخدما كافة الحركات التي تعلمها في تدريبات التايكوندو دون يأس أو استسلام.. حتى إذا ما كان على شفير الهاوية؛ ظهر فارس شجاع من العدم، فأنقذه من براثن تلك الوحوش الكاسرة، وساعده على العودة لقريته بسلام، ورغم اصاباته البليغة، التي حالت دونه ودون العودة لسابق عهده في حماية القرية، مما أشعر الأهالي بالحزن والاحباط؛ إلا أنه بقي متفائلاً متشبثاً بالأمل، فطمأنهم بلهجته الواثقة القوية:

– حتى وإن خسرتم بطلاً واحداً؛ فسيكون هنالك دائما بطلٌ مغوار..

وهكذا.. أغلق البطل المغوار قوس حياته الماضية، وبدأ حياة جديدة؛ تفرغ فيها لكتابة مذكراته، وإفادة الأجيال القادمة بخبراته..”

**

كانت زهرة على وشك الانتهاء من غسل الأواني في مطبخ أختها، بعد عزومة عائلية كبيرة، احتفالاً بقدوم المولودة الرابعة! وبينما هي تدندن بنشيد ألّفته مع هديل، ليتناسب مع قصتهما الجديدة؛ دخلت عليها فاتن وهي تحمل طفلها النائم، الذي لم يتجاوز العام بعد:

– السلام عليكم.. الله يعطيك العافية..

فردت زهرة عليها السلام باسمة:

– الله يعافيك، كيف حال مراد الصغير الآن؟

فتنهدت فاتن:

– الحمد لله حرارته انخفضت، ولكنني مضطرة لتركه هنا مع خالتي، فلدي مراجعة عند الطبيب..

فطمأنتها زهرة بثقة:

– لا تقلقي، سأكون متواجدة أيضاً، وسأنتبه له جيدا، إن شاء الله، المهم اعتني بنفسك جيداً..

فدمعت عينا فاتن بتأثر:

– حقا لا أعرف كيف أشكرك يا زهرة، لقد أثقلتُ عليك كثيرا هذه الأيام، فأمي مسافرة كما تعلمين، و..

فقاطعتها زهرة بعتاب:

– سامحك الله، لا تقولي هذا فنحن أخوات..

وقبل أن تضيف أي منهما كلمة أخرى؛ رن هاتف فاتن، فقالت:

– هذا زاهر، لا شك أنه ينتظرني في الأسفل..

فجففت زهرة يديها من الماء، ثم تناولت الصغير من أمه قائلة:

– سأضعه على السرير الآن، فكوني مطمئنة، ولا بأس عليك طهور إن شاء الله..

**

انتابت زهرة مشاعر مختلطة وهي تستمع لكلام والديها، حول ذلك الخاطب.. لم تكن تشعر بانها مستعدة بعد لخوض هذه التجربة! ولكنها لا تمتلك أي سبب واضح للرفض! فوالدها بدا مبتهجاً جداً، وهو يصفه بقوله:

– ما شاء الله، لم أتوقع أن أقابل شاب مثله في هذا العصر! إنه رجل رائد بمعنى الكلمة، خلق ودين، وأدب لم أجد له مثيلا من قبل، لقد حاولتُ التحري عنه أنا وهيثم، ولم نجد أي شائبة ضده! كما أن أبو سامر صديق قديم لوالده، وهو يعرفهم جيدا، ووصفهم بالعائلة الكريمة المحترمة..

فيما أكدت والدتها ذلك بقولها:

– لقد ارتحت لأمه أيضا، إنها صريحة مثلي، وقد تناقشنا في كل شيء، فهذه حياة وليست لعبة! أراه كنز حقيقي، وفرصة لا تعوّض، فمن النادر أن تجد شاباً مسؤولاً ومستعداً هكذا  هذه الايام، أكاد أجزم بأنه لا ينقصه شيء ما شاء الله!

عندها قال الوالد مخاطبا ابنته:

– لم يبق سوى تحديد موعد الجلسة الشرعية، وسيكون القرار النهائي لك يا ابنتي، فلا داعي للقلق..

**

كانت زهرة تشعر ببعض التوتر، وهي تهم بالدخول على ذلك الخاطب، الذي ينتظرها في صالة الاستقبال، فيما أخذت كلمات أمها تتردد في ذهنها، مطمئنة:

– اعتبريه زميل عمل، تتناقشين معه حول مشروع مستقبلي، لا أكثر ولا أقل!

التقطت زهرة نفسا عميقا، ثم دخلت الصالة وألقت السلام، وما أن وقعت عيناها على الشاب الذي نهض واقفا، ليرد عليها التحية؛ حتى شعرت بأنها تعرفه منذ زمن طويل! اختارت المقعد المقابل له، فيما ابتدر هو زمام الحديث بابتسامة ودودة، كاسراً حاجز الحرج بينهما، بقوله:

– لا أظنك تذكرينني، فلم نتقابل سوى بضع مرات في السابق، ولكنني أعرف عنك الكثير، لذا.. دعينا نتحدث كالأصدقاء، لعلنا نفتح قوس جديد..

**

***تمت بحمد الله***

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

المنقذ-بلوك-سما

المنقذ “بلوك سما”!

عن القصة:

قد يكون “الآرت بلوك” art block هو اسوأ عدو للفنان، حيث يصاب بالاحباط وفقدان الشغف، ويميل للخمول والكسل..
ولكن.. هل هذه الحالة -والتي قد تُعرف بـ “الفتور”- هي امر سلبي دائما؟!!
تابعوا قصة “المنقذ بلوك سما”

التصنيف: خيال، رمزي

– الرحمة الرحمة.. لم أعد استطيع الاحتمال أكثر.. سأموت..

كانت تلك صرخة الاستجداء الأخيرة، التي اطلقتها إحدى خلايا العضلات المرهقة، وهي في حالة احتضار دامية!

 غير أن أوامر “النفس” الصارمة، لم تكن تحمل في ثناياها أدنى مقدار من الشفقة، بل تابعت باصرار قائلة:

– لا يزال أمامنا الكثير من الأعمال لانجازها، هيا تابعوا العمل حتى النهاية! لا مجال للكسل ولا للتراجع.. إلى الأمام سر..

 لم يكن أمام بقية “الخلايا” سوى الانصياع للأوامر الصارمة، فهم في النهاية مجرد عبيد تحت إمرة سيد قاسي القلب، لا يعرف غير “الانجاز”، والانجاز المستمر فقط!!

كانت الخلايا المتنوعة، على اختلاف قدراتها وأدوارها؛ تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، اما “النفس” فلم تكن تبالي بكل ذلك نهائيا!

كانت كلمة “الانجاز” تبدو كالسحر، الذي سرق منها أي شعور آخر تجاه تلك الخلايا المسكينة!

كانت تعاملها بكل جفاء، كالادوات الصماء، لدرجة أنها لم تعد تسمع أي أنين يصدر عنها! ومع زيادة الضغط؛ فقدت تلك الخلايا القدرة على متابعة العمل بالكفاءة المطلوبة؛ مما أغضب النفس عليها بشدة، فأخذت تهددها بسوط الجلاد الذي لا يرحم عبده! 

أخذت الخلايا تستغيث بصوت يقطع أقسى القلوب المتحجرة؛ غير أن النفس لم تعد تمتلك قلبا من أي نوع! فلم يؤثر فيها مشهد خلايا العيون المتورمة، ولا خلايا العضلات المتصلبة، ولا خلايا العظام المتيبسة!

وفي اللحظة التي همت فيها النفس باستخدام سوطها القاسي، لاستنزاف ما تبقى من طاقة تلك الخلايا المتهالكة، لتقودهم نحو الموت والهلاك المحقق؛ ظهر “بلوك سما” في الأرجاء، ملوّحا بتهديده الذي لا يُقهر!

وبطرفة عين؛ أمسك بيد “النفس” المسعورة، وجمدها تماما، ليسقط ذلك السوط من يدها!

– لقد تماديت كثيرا ايتها النفس هذه المرة! هل جننتِ؟؟ اتريدين قتل خلاياك الوفية بدم بارد؟؟؟

نطق بلوك سما تلك الكلمات بقوة مجلجلة؛ جعلت النفس ترتعد من شدة الخوف، لتنتبه لأول مرة لخلاياها البائسة! فاعتذرت قائلة:

– لم أكن أقصد ذلك بالتأكيد، كنت أريدهم أن يشعروا بالفخر بذلك الانجاز الذي سـ..

فقاطعها بلوك سما بحدة:

– أي إنجاز هذا الذي تتحدثين عنه؟؟ هل اصابك العمى ام الصمم؟؟ أي انجاز هذا الذي سيفتخرون به، وهم في المقبرة!

كان كلامه صريحا واضحا بدون ذرة مجاملة، مما جعل النفس تنتبه لتلك الحقيقة المرة لأول مرة! غير أنها حاولت التبرير بقولها:

– يكفي أنهم سيموتون بشرف لأجل ذلك “الانجاز”..

عندها لم يستطع بلوك سما الاحتمال أكثر، فألقى عليها تعويذته السحرية قائلا:

– يبدو أن محاولة افهامك خطورة ما تقدمين عليه هو ضرب من الخيال! لذا فلتنعمي أيتها النفس بما تستحقينه!

وبينما كان التجمد يسري في أوصال النفس، كان لسانها يستغيث بمرارة:

– لحظة لحظة من فضلك.. بلوك سما ارجوك، اعطني فرصة أخيرة.. ليس الآن! لا تحبسني في تعويذة “الارت بلوك” مجددا، فما زال هناك الكثير لإنجازه..

وبالطبع لم تحرك كلماتها تلك ساكنا في جسد بلوك سما، فقد بدا راضيا تماما عما يفعله معها، فلم تجد النفس بدا من الاستجداء بتوسل، قبل أن تجمّد التعويذة لسانها أيضا:

 – بلوك سمااااااا.. اسمعني ارجوووووك.. فرصة واحدة فقط.. على الأقل أخبرني إلى متى سأبقى حبيسة التعويذة.. ارجوك لا تجعلها تطول.. بلوك سمااااااااااااااا

غير أن بلوك سما تجاهل نداءاتها، وهو يتأمل حال الخلايا المزري، فيما بدأت تلك الخلايا تستعيد أنفاسها تدريجيا، وهي تشعر بامتنان كبير لمنقذها الدائم: “بلوك سما”

****

تمت

على هامش القصة:

هذه القصة هي محاولة لتسليط الضوء على ايجابيات “بلوك سما” العظيمة^^

فنحن لا بد من أن نكون منصفين في كل شيء، حتى مع الاعداء!

ومن باب الانصاف، رأيت أنه من الواجب التحدث عن ايجابيات الارت بلوك^^

فكما قال الشاعر:

وإذا كانت النفوس عظاما

تعبت في مرادها الاجساد!

_

لذلك.. حالة “الفتور” أو “الارت بلوك” التي تصيب الانسان، هي ليست نقمة دائما، بل قد يكون في طياتها نعمة كبيرة، ولولا أن الله سخرها لنا، لربما هلكت أجسادنا منذ وقت طويل ????

فالحمد لله الذي له في كل شيء حكمة ورحمة..

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

انا-الهدد-هاديpng

أنا الهدهد هادي

عن القصة:

جميعنا لدينا احلامٌ تراودنا.. سواءٌ أكانت ممكنةً أم مستحيلة..
ترى ما هي أحلام الهدد هادي؟
وكيف لها أن تكون لو تحققت؟!!

قصة درامية خيالية نفسية قصيرة، لاتصلح للأطفال أبدا..!

التصنيف: خيال، دراما، مأساة، نفسي (+16)


السلام عليكم يا أصدقائي..

أنا الهدهد هادي!!

لحظة.. لحظة من فضلكم، لا تتفاجؤا فأنا بالفعل مجرد هدهد، ولا يغرنكم مظهري الحالي وما أنا عليه الان!! أنا بالفعل هدهد وهذا ليس لقبا فقط، إنه أنا قبل أن تحل علي (اللعنة) كما تقولون!!

حسنا.. قد لا تكون هذه بداية جيدة لقصتي، ولكن من يهتم بأمر البدايات في هذه الحالة التي أنا عليها!! ثم إنها قد لا تكون قصة بطبيعة الحال؛ عدّوها مجرد فضفضة لمخلوقٍ كان هدهدا فيما مضى..

لا أذكر متى تم توجيه أول اتهام لي تحديدا، لكنني أظن أن ذلك حدث يوم أن كنتُ هدهدا حقيقيا، إذ اتهمني بعض الهداهد بالتناقض، رغم أنني لا أجد نفسي كذلك أبدا!! كل ما في الأمر أنني كنت أعترض على طريقة أبي في تذكيري مرارا وتكرارا بأن عليّ مراعاة نسبي الأصيل، والتصرف بما يليق به؛ إذ أننا ننحدر من نسل الهدهد الأعظم، هدهد نبي الله سليمان عليه السلام، والذي تعدّ سلالته أشرف سلالة هداهد على الاطلاق، وكنت أرى أن تصديع رأسي بهذا النسب النبيل؛ مجرد هراء لا طائل منه، فمالي ولهذا النسب إن كان سيحدّ من حرية تصرفاتي!! ثم إن ما يحدد قيمة المخلوق حقا؛ هو عمله وليس نسبه!!

وذات مرة، حاول أحد الهداهد السخيفة إحراجي بتعليق سخيف مثله، فأوقفته عند حده، وعرّفته من أكون!!! فأنا الهدد النبيل سليل عائلة الهدهد الأعظم، وعليه احترام تواجده في حضرتي الجليلة!! لقد صرختُ في وجهه قائلا بالحرف الواحد:

– ” أتجرؤ على إهانتي يا حقير الحسب والنسب، وأنا ابن النبلاء الأكارم، من سلالة الهدهد الأعظم!!”

على كل حال، هذه ليست قصتي التي سأرويها لكم، لذا دعونا نعُد إلى البداية، يوم أن كنت هدهدا عاديا، أو كما يقولون في قبيلتنا؛ مولود على فطرة الهداهد، نغدو خماصا، ونعود بطانا، لا همٌ يؤرقنا، ولا كآبة تتملكنا، فلا نحزن على الماضي، ولا نقلق من المستقبل…

يومها كنت أحلق مع أبي في الفضاء الرحب، عندما استرحنا على غصن شجرة، تطل على بستان وارف الظلال، فطرق سمعنا صوت رخيم يرتّل بصوت جميل جدا:

” لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم”

فانتفضتُ انتفاضة عجيبة، وقلت لأبي: لماذا لستُ انسانا!! هذا ليس عدلا!!!

وقبل أن استمع لنصيحة أبي، الذي أمرني بالتروّي والاستماع لبقية الايات، حلّقتُ بجناحي بعيدا، وأنا في ذروة الغضب!! وكل خلية في جسدي تحاول التمرد على طبيعتي الهدهدية، وهي تردد:

 ” لن أبقى هدهدا بعد الآن!!”

ظننتُ أن الانسانية صفة نبيلة، وأسمى غاية يسعى أي مخلوق للوصول إليها!!

آه.. لو أنني فقط استمعتُ لبقية الحديث!!

 حتى (لو) لم أكن اعرفها من قبل، أما الان فقد باتت أكثر الكلمات شيوعا في أحاديثي!!

ولكن هل سيفيدني الندم الآن!!!

كأنكم تسألونني في فضول ما الذي حدث لي بعد ذلك!! وسأخبركم بأغرب حادثة تمر على هدهد في هذا العالم، فبعد أن ابتعدتُ عن أبي متجاهلا نداآته اللحوحة خلفي، أخذت أطير على غير هدى، باهتياج غاضب، دون أن أدري كم مر عليّ من الوقت وأنا على تلك الحالة، حتى شعرتُ بثقل في جناحاي، ولم أعد أستطيع مواصلة الطيران أكثر، فاسترحتُ قرب جدول ماء صغير، شربت من مائه البارد، ثم استلقيتُ على جذع شجرة تُطلّ عليه..

غير أنني لم أشعر بجسدي إلا وهو يهوي على الأرض فجأة، بعد أن انكسر الجذع الغليظ من تحتي!! كان أمرا عجيبا جدا، إذ لم أتخيل في حياتي كلها أن جذعا قد ينكسر تحت ثقل وزني الخفيف!!

لكن الأعجب من ذلك، أنني لم أكد أهم بالنهوض من سقطتي تلك، مرفرفا بجناحاي؛ حتى افتقدتهما!!

 لم يكن هناك أي جناحين، بل وجدت مكانهما ما أصابني بالرعب!!

وأظنكم عرفتم ما قصدت، وهكذا ما أن القيتُ على نفسي نظرة في مياه الجدول الصافي، حتى راعني ما شاهدت!!!

قد تقولون أن هذه كانت أمنيتي، وأنا أوافقكم الرأي، لكن أن يتحقق ذلك فجأة دون سابق إنذار، لأمرٌ يثير الرعب حقا!!

قد لا يهمكم كثيرا ما حدث بعد ذلك، إذ أنني سرعان ما تدبرتُ أمر الملابس، وهذا من عجائب ما حدث معي أيضا، إذ وجدت ثيابا بالية ملقاة قربي، أظن أن أحدهم استغنى عنها، فلم يجد لها مكانا أفضل من القائها قرب الجدول! لا يهمني أمره كائنا من كان، فقد انتقيتُ منها ما يناسب جسدي الجديد، غير أنني لم أكد ارتديها؛ حتى ظهرت لي حافة جرة مليئة بالذهب، مخبأة في التراب، تمكنتُ من تمييز قيمتها فورا بغريزتي الجديدة، التي بدأت تتغلغل في أعماقي، ولأنني حديث عهد بعالم الانسانية الذي انتقلتُ إليه، فقد جعلتُ انسانيتي هي من تقودني، واتخذتُ لي قانونا (انسانيا جدا)، أسير عليه:

ما أرغب بفعله فسأفعله، وما لا أرغب بفعله فلن أفعله!!

كان قانونا مريحا جدا، ورائعا بالنسبة لي في ذلك الوقت، إلا أن أصواتا مزعجة بدأت تنبعث من داخلي، لا أعرف مصدرها، أخذت تخالف رغباتي الانسانية بشدة كلما هممتُ بتنفيذ رغبة، وتحاول منعي من اتباعها، فما كان مني إلا أن قمتُ بوأدها في المهد، حتى لم أعد أسمع لها صدى أبدا بعد ذلك!! مما أشعرني براحة كبيرة، فقد لا تتاح لي فرصة أخرى لأن أكون انسانا، فلمَ لا أعيش التجربة بكل جوانبها الانسانية!!! هذا ما كنت أفكر فيه، وليتني لم أفعل!!

وهكذا.. استسغتُ الفكرة، وبدأتُ بشق طريقي بناء عليها، ولن أثقل عليكم بذكر كافة التفاصيل المملة، يكفيكم أن تعلموا أنني اشتريت قصرا منيفا، يطل على بحيرة رائعة، واستعملتُ فيه الخدم والحشم، ولم أبخل على نفسي بأي شيء؛ لأعيش أكثر حياة منعمة يحلم بها أي انسان! ولكم أن تتخيلوا ما شئتم، مما يمكن أن يفعله شاب وسيم جدا، غني جدا، لديه فراغ بلا حدود! حسنا لا تستغربوا، فقد كنت وسيما حقا في ذلك الوقت، ولا يغرنكم مظهري الحالي كما قلت لكم!!

وذات يوم وبينما كنت أجلس على شاطيء البحيرة، بصحبة صديقاتي الحسناوات (!)، لفتت نظري شابة فاتنة، لم أحلم برؤية من هي بجمالها قط! فتعلّق نظري بها؛ حتى سرحتُ عن أحاديث صديقاتي، التي باتت مملة جدا أمام ذاك الجمال، فما كان من إحداهن إلا أن وكزتني في ذراعي، قائلة بدلال:

– ما لك ولها يا دودي، إنها فتاة مخطوبة!!

بالطبع لا يخفى عليكم أن دودي هو الاسم الذي تناديني به صديقاتي تحبّبا، ولا أخفيكم أن تلك الفتاة قد أسرت لبي، وأوقعتني لأول مرة بما تسمونه (الحب)!! ولم يعد لي هم بعدها؛ سوى تحقيق رغبتي في الحصول على اهتمامها بأي طريقة كانت!

عشت أياما عصيبة، إذ لم أتخيل أن الوصول إلى قلب فتاة يحتاج كل ذلك الجهد!! لقد صدّتني مرارا وتكرارا، متذرّعة بأنها “مخطوبة” وعليّ احترام ذلك! إلا أن رغبتي في الحصول عليها، كانت هي الأهم بالنسبة لي، فهذا هو قانوني الوحيد الذي أعرفه، لذا لم أستسلم، ولجأتُ إلى كافة الوسائل لأخبرها بأن حبي لها ليس له حدود، وأنني مستعد لفعل أي شيء من أجلها! بل إنني أخبرتها بأنها لن تجد من يحبها أكثر مني، ولا حتى خطيبها نفسه! وقد تبين لنا بعد ذلك؛ أننا نتشارك الكثير من الاهتمامات والصفات، ويكفي أنها أجمل فتاة وأنا أوسم شاب، وحسبما سمعت من قصص شهرزاد، فإن بدر البدور؛ لا بد لها من الارتباط بالامير الوسيم، وإلا لن تستقيم الحكاية!

لقد عرفتُ أنها بدأت تحبني، وتميل نحوي، وهذا هو الامر الصحيح، إلا أن قانونها الصارم الذي تتبعه؛ لا يحل لها خيانة خطيبها كما تقول! مما تطلّب مني جهدا مضاعفا لأقنعها بأنه لا قانون أمام الحب، بل إن الحب هو القانون!!

ما حدث بعد ذلك من التفاصيل لا يهم كثيرا، فقد تزوجنا وقضينا أياما جميلة جدا، نرتوي فيها من كأس الحب كما نشاء، ونستمتع بحياتنا دون حدود، نفعل ما نريد، ولا نفعل ما لا نريد، حتى اسنفذنا كافة الملذات التي نتخيلها، ولم يعد هناك جديد يملأ علينا فراغنا، فأصابنا الملل، وبدأت الخلافات تظهر جليا بيننا، لا سيما وأنها أخذت تتحدث عن رغبتها بالانجاب، وأن عليّ مراجعة الطبيب!!

أمور سخيفة حدثت، لكنها أزعجتني جدا، ولم أعد أرى في زوجتي تلك الحسناء الفاتنة، خاصة بعد أن التقيتُ بإحدى الفتيات على الشاطيء، أثناء هجري لقصري، بسبب المدعوّة زوجتي!!

أما تلك الفتاة، فقد كانت رائعة بقوامها الممشوق، فلم أتردد بإطالة النظر إليها، والتحديق في مفاتنها، ولِمَ لا أفعل ذلك ما دامت هذه هي رغبتي!! وهكذا بدأتُ في تكوين صداقة جديدة، أشغلت فراغي، وأنستني همومي، ولم أجد مشكلة في دعوتها إلى قصري، فهناك يمكننا فعل الكثير من الأمور براحة أكثر! فما كان من زوجتي إلا أن ثارت ثائرتها دون مبرر!! مما أفسد الجو عليّ مع صديقتي فخرجت غاضبة، واتهمتني بالمخادع!!

بالطبع لم أكن لأرضى بما حصل، فهذا ضد رغباتي، فما كان مني إلا أن ضربتُ زوجتي، وطردتها من القصر، فقد كان هذا هو أكثر ما أرغب بفعله في ذلك الوقت، ففعلته! إلا أن زوجتي بدأت تسترحمني باسم الحب الذي بيننا، فأخبرتها بأنه لم يعد موجودا في قلبي، ولم تعد لدي الرغبة في الاستمرار معها بأي شكل! فذكرتني بعقد الزواج الذي بيننا، فأخبرتها بأنه لا يعني لي شيئا أبدا، ما دام لا يوافق رغباتي! وعندما أخبرتني بأن التوقيع على ذلك العقد يجبرني على الالتزام به، قمتُ بتمزيقه فورا!! فما كان منها إلا أن اجهشت بالبكاء، وهي تردد بنشيج، حاولتُ تجاهله لأنه يقف عائقا في طريقي:

– لماذا كذبتَ عليّ أيها المنافق!! لقد أخبرتني بأنك تحبني حبا لا حدود له، وأجبرتني على فسخ خطوبتي من أجل الحب!! فأين هو هذا الحب أيها الوغد، ولماذا قمتَ بالتوقيع على عقد الزواج؛ إن كنت لا تريد الالتزام به!! أبعد أن تخليتُ عن كل شيء من أجلك، تتخلى عني بهذه السهولة!!

 لقد اتهمَتني بالكاذب المنافق الوغد، رغم أنني لم أكذب عليها قط، ولم أنافقها أبدا!! ولم أرَ في نفسي أنني وغدٌ على الاطلاق!! عندما شعرت بالحب الكبير لها، قمتُ بما يمليه عليّ هذا الحب، وعندما شعرتُ برغبة في توقيع عقد الزواج والالتزام بمسؤولياته وقّعته، وعندما لم أشعر برغبة في الالتزام بعقد الزواج مزقته! عندما اختفى الحب اختفى معه كل شيء، وهذا هو الامر الطبيعي، فأين المشكلة إذن!!  ثم إنه لا يحق لها إلقاء اللوم عليّ أبدا، فأنا لم أُجبرها على شيء كما تدّعي، كل ما في الأمر أنني أقنعتها، وهي اقتنعت!!!

أعتقد أنني أسهبتُ في الحديث، رغم أنني لا زلت في بداية الحكاية فقط، ولا أظن أن الوقت سيسعفني لأحدثكم بتفاصيل ما حدث بعد ذلك رغم أهميتها، لذا سأسردها عليكم باختصار شديد قدر المستطاع..

بعد أن انفصلتُ عن زوجتي، بدأت تنتابني حالات غريبة من القلق والتوتر والضيق والكآبة، تعرفتُ خلالها على عدد من الأصدقاء والصديقات، وجربتُ الشراب الذي وجدت فيه نشوة تسكرني عما أجد نفسي فيه من الهم، ثم قادتني رغباتي لتجريب كافة الأمور التي تُذهل الانسان عن واقعه، حتى أدمنتها، ثم خسرتُ أموالي جراء ذلك، وكنت بحاجة ماسة للمال، فحصلت عليه بكافة الطرق الممكنة، ثم وقع خلاف حاد بيني وبين أحدهم، مما أشعل الغضب في نفسي وألحّت عليّ الرغبة في قتله فقتلته، وهكذا بدأت حياتي تتخذ مسارا جديدا، حتى وصلتُ إلى هنا كما ترون، في هذه الزنزانة المعتمة، مكبلا بالأصفاد والسلاسل، بسبب عدد لا أذكره من التهم، منها حوادث قتل واغتصاب وسرقة وسطو واعتداءات مختلفة، وأشياء لا يجدر بي ذكرها لفظاعتها، وعدة اتهامات أخرى من هذا القبيل، نسيت معظمها!!

من العجيب أنهم عندما قبضوا عليّ، كنت أراقب هدهدا لفت نظري، بعد أن وقف على غصن شجرة أمامي، كان يشدو لحنا غريبا هز مشاعري على غير العادة.. إنه أبي!! وأظنه قد عرفني!! فقد كان يحاول أن يقول لي شيئا، غير أنهم لم يمهلوني لحظة واحدة، حتى وجدتُ نفسي في هذه الزنزانة!!

أما الأمر الأغرب من ذلك، أنهم أحضروا لي رجلا يُسمعني الموعظة الأخيرة، قبل انتقالي للعالم الآخر كما يقولون، وبالطبع لم أكن لأهتم لأمره، غير أنه بدأ حديثه بترتيلٍ لم يكن غريبا عليّ:

” والعصر* إن الانسان لفي خسر….”

عندها ثارت ثائرتي، فقد عرفته، أنه ذلك الشخص الذي سمعته يتلو تلك الآية ذات مرة!! فما كان مني إلا أن هممتُ بالامساك به من تلابيب ثوبه، لولا تلك الأصفاد التي تكبلني، فصرخت فيه بغضب:

– ألستَ أنت الذي كنت تتلو ” لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم”!!

فنظر إليّ بدهشة، قائلا بهدوء:

– لا أعرف عن ماذا تتكلم، ولكن هذا ليس كلامي، وإنما كلام الله!!

لقد كان وقع لفظ (الله) عميقا في نفسي، فقد تذكرت طبيعتي الهدهدية عندما كنت لا أفتؤ أسبّح بحمده سبحانه! لكنني بطبيعتي الانسانية؛ شعرتُ برغبة في المكابرة، فجادلته بعناد:

– إن كان هذا كلام الله فكيف تفسر التناقض فيه!! أتارة يكون الانسان في خسر، وتارة في أحسن تقويم!!!!

فأجابني بثبات أدهشني، بعد أن ظننتُ أنني أفحمته:

– كلام الله واضح ولا تناقض فيه، لكنك لم تُعطِ نفسك فرصة لسماع تتمة الآيات..

فقاطعته فورا بنفاد صبر:

– وكيف تفسر ما أنا عليه الآن إذن!! أين التقويم الحسن في مظهري؟؟؟

فأجابني بهدوء كعادته:

– هذا لأنك لم تلتزم الشرط!

وتلى عليّ بصوتٍ مؤثر لم أستطع مقاطعته:

” لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم* ثم رددنه أسفل سافلين* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير ممنون”

لقد وقع الكلام عليّ كالصاعقة!! هكذا إذن!! أسفل سافلين!!!هذا يفسّر كل شيء!!

أظن أن هذا ما كان أبي يود إخباري به طوال الوقت!! لو أنني استمعت له، وعلمتُ أن الانسان لن يرتقي إلا إن كان مؤمنا صالحا، لأدركتُ أن الرضا بما قسمه الله لي؛ هو أحد ركائز هذا الايمان!! ولتوقفت عند طبيعتي الهدهدية البسيطة، دون أن أقحم نفسي في هذه الدوامة المعقدة!!

لقد كنت حديث عهد بالانسانية كما قلت لكم،  فلم التزم الشرط، ولم أدخل في الاستثناء، الذي كان بمقدور عقلي معرفة أهميته لو أنني استخدمته!! لم أكن مؤمنا ولم أعمل الصالحات، فلم يكن أمامي سوى مواجهة النتيجة الحتمية لذلك (الخُسر)!! لم أتوقع أن عليكم يا بني الانسان بذل جهد كبير للنجاة!! الأمر لم يكن بالبساطة التي تخيلتها أبدا!! فبالنسبة لنا معشر الهداهد، غرائزنا ورغباتنا لا تقودنا إلى الشقاء والتعاسة أبدا، على عكسكم أنتم، لذا زوّدكم الله بأسلحة العقل والضمير ونداءات الفطرة الملحّة، التي لن تعرفوا معنى السعادة الحقيقية أبدا إن حاولتم تجاهلها!! وهيهات أن تُفلحوا بعد ذلك!! وهنا يكون مناط التكليف، وتكمن عقدة الاختبار، الذي ستكون نتيجته النهائية؛ إما جنةٌ أو نار!!!

يا للسخرية، يبدو أنني أجيد إسداء النصائح كثيرا!!

حسنا لقد جاؤا الان، فأصواتهم تقترب من زنزانتي، يبدو أن ساعة تنفيذ الحكم قد حانت، ولكن لا بأس؛ فلا أظنكم ستحزنون كثيرا لإعدامي، ثم إنني سألقى حتفي على أية حال بإحدى هذه العاهات التي تشوهني، أو الأمراض الكثيرة التي تفتك بجسدي!

لحظة أو لحظتين، وتحين نهايتي البائسة على منصة الاعدام!!! من كان يتخيل هذا!! والحق يُقال، إنه لكرمٌ منهم أن يمنحوني هذه الفرصة لتلبية أمنيتي الأخيرة في رواية قصتي، فقد أخبرتني أمي ذات يوم، أنها وأبي أختارا لي اسم “هادي”؛ لأكون مثل جدي الهدهد الأعظم، الذي اهتدت بسببه مملكة عظيمة، لذا وبالرغم من أنني خسرتُ كل شيء، إلا أن شعوري بأنني قد وفيتُ هذا الاسم حقه ولو لمرة واحدة، كفيلٌ بعزائي!! فاجعلوا من قصتي هذه هداية لكم، فهي آخر ما سيبقى من آثاري!

قد تقولون إنها مجرد قصة خيالية، وقد يبدو الأمر مستحيلا جدا، ولكن هل يهم هذا فعلا!! فحتى أنا؛ قد لا أكون سوى شخصية خيالية نسجتها إحدى المُخيّلات، لكن هذا لا يهمني أيضا، ما يهمني حقا ويلح علي في لحظتي الأخيرة، هو إن كان بإمكان شيء أن يشفع لي، ويرحم روحي المعذبة، فيمنحني فرصة أُحلّق فيها عاليا من جديد، أو أن يكون هذا كله مجرد كابوس سيختفي فجأة عندما أفيق!! أعلم أنها قد لا تكون أكثر من أمنية بعيدة المنال، فأصوات الثائرين في الخارج تخترق أذني، وهم يطالبون بتعجيل عقوبتي انتقاما لحقوقهم كما يقولون!! وإنني إذ أحدثكم بهذا أغبطكم أن لا تزال أمامكم فرصٌ كثيرة، فاغتنموها وتذكّروني.. أنا الهدهد هادي!!!!!!!!

************

(قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم )

احتفال-الهلال-الخاص

احتفال الهلال الخاص

عن القصة:

هل يمكن للشخصيات داخل أوراق المؤلفين أن تتحرر؟!!
موقف ظريف تعيشع فرح..
فما هو سر احتفال الهلال الخاص؟!

قصة قصيرة خفيفة لطيفة، تجمع بين الخيال و الكوميديا، في إطار تربوي ديني.

التصنيف: خيال/ كوميديا

أخذ يدور بالغرفة بتوتر، وهو يحدث نفسه:
– لماذا أفكاري دائما مكررة وسخيفة! متى سأصل لذلك المستوى الرائع، الذي يجعل الجماهير يتوسلون توقيعي!!! أريد قصة من تصنيف محترم.. وفخم!
وبإحباط شديد، ألقى نظرة سريعة على آخر قصة كتبها، لعله يجد فيها ما يرضي طموحه، كالغريق الذي يتشبث بالقشة، ولكن.. لا أمل!!
حدث نفسه بيأس:
– كلا.. ليس هذا ما أريده.. إنها مجرد قصة أطفال لا أكثر!!
وبغيظ وألم؛ كوّر الأوراق بين يديه بشدة، والقاها من الشباك..


**


كانت فرح -ذات السبعة أعوام- تبكي بشدة؛ عندما سقطت على رأسها كومة ورق مكوّرة، قبل أن تستقر على الرصيف، مما جعلها تجفل للحظة، فرفعت رأسها للأعلى، لترى من هو ذلك الذي تجرّأ على قطع بكاءها المقدس! غير أنها فوجئت بسماع صوت غريب قربها.. فتلفتت حولها باحثة عن مصدره؛ فإذا بالأوراق المتكورة تحاول الانبساط بشكل مريب لافت للنظر.. وما هي إلا لحظات معدودة، حتى قفز منها قزم صغير بملابس مزركشة بالأهلّة الصغيرة، وقبعة فضية لامعة على شكل هلال، وبعد أن نفض ملابسه، وعدّل هندامه، أخذ ينظر داخل الورق، وينادي:
– نجم.. هل تسمعني؟ ما الذي تفعله حتى الآن؟!!
فجاءه صوت ضعيف من الداخل:
– إنني أحاول يا هلال.. انتظر قليلاً..
فاستعجله هلال بنبرة لا تخلو من قلق:
– هيا بسرعة اخرج قبل أن تضيع مع عالم ذلك المؤلف، الذي لا يعرف قيمة الأشياء..
لكن نجم صرخ فجأة:
– ناولني يدك بسرعة يا صديقي، لقد علقت قدمي على ما يبدو..
وبكل ما أوتي هلال من قوة، أدخل يده داخل الورق، وشرع يجذب شيئاً ما بشدة، وهو يعض على اسنانه!!
بصعوبة شديدة.. تمكّن أخيرا من إخراج صديقه نجم من داخل الورق، ليقع الاثنان على الأرض وهما يلتقطان أنفاسهما اللاهثة بصعوبة.. لم يكن نجم يختلف كثيرا في مظهره عن هلال، غير أن ملابسه كانت مزركشة بالنجوم الصغيرة، وقبعته على شكل نجمة..
جلست فرح تتابع المشهد بدهشة، حتى نسيت أنها كانت تبكي!
وقبل أن يغيب القزمان عن ناظريها، لحقت بهما بفضول:
– لحظة من فضلكما.. من أنتما؟ وإلى أين انتما ذاهبان؟
فالتفت هلال نحوها، متسائلا:
– ألستِ أنت الفتاة التي كانت تبكي؟
فهزت فرح رأسها بخجل، والدموع تلتمع في عينيها:
– أجل!
فقال لها نجم:
– نحن لا نحب الأطفال المزعجين، فإذا لم يكن لديك سبب وجيه للبكاء فلن نجيب عن سؤالك..
شعرت فرح برغبة شديدة في البكاء من جديد، لكنها مسكت دموعها بصعوبة، لتقول:
– أمي لا تحبني وهي دائما تضربني بلا سبب، لذلك هربت من البيت..
فتبادل الصديقان نظرات ذات معنى، قبل أن يقول هلال:
– لا توجد أم تكره أطفالها وتضربهم بلا سبب، ولكن يبدو أن الشيطان هو من ضحك عليك وأخبرك بهذا..
فرددت فرح بتعجب:
– الشيطان!!! انا لم أقابل شيطانا من قبل!!
فقال لها نجم:
– إنه حولك دائما، ويخبرك بأشياء سيئة ومزعجة، ليجعلك تبكين..
فتلفتت فرح حولها بدهشة، قبل أن تقول:
– أين الشيطان؟ أنا لا أراه!!
فأجابها هلال موضحا:
– هذا لأنك بشريّة.. أما نحن فيمكننا رؤيتهم بسهولة.. ولكن يمكنك الشعور بهم، فإذا خطرت ببالك أفكار سيئة ومزعجة، فلا تصدقيها لأن الشيطان هو من يخبرك بها..
فقالت فرح بغضب:
– هل تعني أن الشيطان يريدني أن أبكي؟؟
فأومأ هلال ونجم برأسهما إيدابا، مما زاد غضب فرح، فقالت:
– أنا لا أحب الشيطان، ولا أريد أن اسمع كلامه، فماذا أفعل؟!
فتهلل وجه هلال، وقال مبتسما:
– أحسنت يا فرح، انت فتاة شجاعة حقا.. كل ما عليك فعله هو أن تستمعي لكلام أمك، ولا تسببي لها المتاعب في المنزل، وأيضا لا تفكري بالهرب مرة أخرى، فهذا يسعد الشيطان كثيراً، ويجعله يضحك بشدة..
فوعدتهما فرح بأن تكون عند حسن ظنهما، قائلة:
– الآن عرفت لماذا غضبت أمي، فلا شك أن الشيطان هو من أوقع الصحون من خزانة المطبخ، حتى تناثر زجاجها على الأرض، عندما صعدتُ فوق حوض غسل الأواني، لأبحث عن علبة الحلوى!
وأيضا تذكرت الآن.. لماذا بكى أخي الصغير، فالشيطان هو الذي قرصه عندما كنت أحاول الاعتناء به!
وأخذت فرح تتابع كلامها بحماسة منقطعة النظير:
– أجل اجل.. تذكرت أشياء كثيرة، لا بد أن الشيطان هو الذي فعلها.. فهو بلا شك من كسر مزهرية جدتي الأثرية عندما مررتُ قربها، وأوقع نظارة أبي على الأرض ليكسر عدستها عندما حملتها، وحطّم الطاولة عندما قفزتُ عليها، وعطّل الهاتف عندما حملته.. وأدخل عين أختي الرضيعة في يدي بينما كنت أراقبها!
وصمتت قليلا لتلتقط أنفاسها، قبل أن تقول:
– يجب أن أعود للبيت بسرعة، لأخبر أمي أن عليها ضرب الشيطان بدلاً مني، فهو سبب المشاكل..
غير أن هلال استوقفهما بتوسل، وهو يحاول تمالك نفسه حتى لا يُغمى عليه:
– لحظة يا فرح.. لحظة أرجوك.. هناك أمر هام يجب أن تفهميه جيدا..
وتابع نجم موضحاً:
– الشيطان ضعيف جداً، ولا يمكنه أن يقوم بكل تلك الأشياء الفظيعة وحده! هو فقط يشجعك على فعل ذلك، وأنت وحدك من قام بها بلا شك!!
ارتسمت الشكوك على وجه فرح، دون أن تحاول فهم ما يقولانه، فليس من السهل أن تتخلى عن فكرة وجود مخلوق آخر، يتحمل عنها مسؤولية تلك الأفعال!! ولكنها سرعان ما وجدت حل وسطي، فقالت بانفعال:
– اليس الشيطان هو من شجعني على تلك الأفعال السيئة كما تقولان؟ إذن يجب أن يأخذ عني نصف العقوبة على الأقل!! هذا ليس عدلاً!!
فطمأنها نجم باسماً:
– لا تقلقي.. فسيتم حبس الشياطين قريباً، عقابا لهم على أفعالهم السيئة طوال السنة!
فهتفت فرح بمرح وأخذت تقفز بسعادة مردد:
– رائع! رائع.. إنهم يستحقون ذلك.. أريد أن أراهم وهم محبوسون.. أريد أن أراهم.. شكلهم مضحك بلا شك..
لكنها استدركت بنبرة قلق عجيبة:
– ألن يكون هناك شياطين بعدها إلى الأبد؟!! ومن سيسبب المشاكل إذن؟؟!!!
فرد هلال بسخرية:
– لا تقلقي من هذه الناحية، ستكون هناك شياطين صغيرة مزعجة تتكفل بالمهمة، وحتى الشياطين الكبيرة لن يتم حبسهم أكثر من شهر، ثم سيستأنفون أعمالهم بعدها بسرعة!
أما نجم؛ فقد حاول أن يكون أكثر لطفا معها، قائلا:
– عليك أن تستثمري هذا الشهر في تقوية دفاعاتك، حتى تكوني مستعدة لمواجهة الشياطين بقوة بعد خروجهم من الحبس..
فقبضت فرح راحة يدها، وضمتها إلى صدرها بقوة:
– لن اسمح لهم بهزيمتي بعد الآن! فأنا أكره الاستسلام!!
ثم ابتسمت بمكر:
– إذا انتصرت عليهم فسأجعلهم يعملون تحت إمرتي..
وانفجرت ضاحكة بشكل هيستيري، فما كان من هلال إلأ أن التفت نحو نجم قائلاً:
– ماذا يا صديقي؟ هل سنتابع طريقنا ونكمل مهمتنا، أم سنعلق هنا للأبد؟!!
عندها تذكرت فرح أمرهما الغريب، فسألتهما بإلحاح:
– إلى أين انتما ذاهبان؟ لم تخبراني عنكما بعد؟!!
فأجابها نجم على أمل الإصلاح:
– نحن ذاهبون لمدينة السعادة، حيث يعيش الأقزام الطيبون، فعلينا أن نستقبل ذلك الشهر، الذي يحبس فيه الشياطين، بشكل لائق….
فما كان من فرح إلا أن توسلت إليهما بشدة:
– أرجوكما.. أريد أن اتي معكما وأراها ولو لمرة واحدة.. تبدو مدينة رائعة..
فأومأ هلال رأسه موافقاً:
– أجل.. إنها مدينة رائعة بالفعل، وتخلو من الأطفال المزعجين..
فأضاف نجم بسرعة:
– سنأخذك إليها إذا أحسنتِ التصرف، ووعدتِ بطاعة أمك وأباك..
فهتفت فرح وهي تقفز بحماسة:
– موافقة موافقة…
فقال لها نجم:
– تمسّكي بأيدينا وأغمضي عينيك..
وما أن نفّذت فرح ذلك الطلب؛ حتى شعرت بنسائم عليلة، ذات رائحة زكية تداعب وجنتيها، فيما تطاير شعرها خلفها، ولم تعد تشعر بالأرض تحت أقدامها.. وكأنها تطير!
وما هي إلا لحظات.. حتى قال نجم:
– لقد وصلنا.. يمكنك فتح عينيك الآن..
لم تصدق فرح عينيها في البداية، فأغلقتهما وفتحتهما تكرارا ومرارا حتى تأكدت مما تراه..
أكواخ جميلة مزركشة، أزهار متنوعة زاهية، أشجار خضراء مثمرة، وأنهار زرقاء صافية، وغيوم بيضاء قطنية، وشمس صفراء مشرقة، والأجمل من هذا كله.. قوس المطر بألوانه السبعة المجتمعة، والبالونات الملونة الطائرة..
فهتفت فرح بفرح:
– هذا رائع جدا.. مدينتكم رائعة.. لقد أحببتها!
فقال نجم:
– اليوم هو يوم الاستعداد لاحتفال الهلال الخاص، بمناسبة شهر حبس الشياطين..
فقالت فرح بحزن:
– ليتني أتمكن من البقاء هنا أكثر!
فرد عليها هلال:
– لا تقلقي.. يمكنك متابعة هذه الاحتفالات في منزلك ومع أهلك..
ووافقه نجم مؤكداً:
– هذا صحيح.. راقبي السماء هذه الليلة جيدا مع والديك وأسرتك، وإذا رأيتم الهلال، فاعلموا أن الشهر جاء..
بدى الرضا على وجه فرح، وشعرت بحماسة شديدة للعودة إلى منزلها وإخبار والديها بقصة احتفال الهلال، حتى يراقبوه معاً، فساعدها هلال ونجم على العودة بسرعة وهم يتمنون لها حياة هانئة سعيدة، بلا مشكلات..


**


وأنتم أصدقائي.. لا تنسوا مراقبة الهلال، فإذا رأيتموه؛ فاعلموا أن احتفالات الهلال الخاص قد بدأت بالفعل في مدينة السعادة، مع هلال ونجم.. وكل عام وأنتم بخير.. ????

***

(شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) ) (البقرة)

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا لما يحب ويرضى، فلا تنسونا من صالح دعائكم، ولكم بالمثل إن شاء الله ^_^

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

شعاع-النور-صفحة-القصة

شعاع النور

عن القصة:

حجبت الغيوم السوداء الكثيفة أشعة الشمس لسنوات طويلة، يحاول فارسان شجاعان إيجاد حلٍ لتلك المشكلة..
ترى ماسبب كل تلك الغيوم؟!

قصة قصيرة من عالم الأساطير الرمزية، بطلها فارسان قررا مواجهة الظلام، الأول يعرف بـ (ناصر الحق) و الثاني يلقب بـ (السباق)..

التصنيف: خيال، مغامرات
بقلم الأستاذة: زينب جلال

جرت أحداث هذه القصة في عالم الأساطير الرمزية في مدينة الظلام تحديدا؛ حيث حجبت الغيوم السوداء الكثيفة أشعة الشمس لسنوات طويلة.

استيقظ أهل المدينة ذات يوم على خبر مفجع، وهرع الجميع إلى الساحة الكبيرة حيث وقف الحاكم معلنا:

–   سيتم إلحاق أقصى أنواع العقوبات بمن حاول تحطيم المصابيح المتبقية لإضاءة المدينة ليغرقها في ظلام دامس، ولن نتهاون في رمي من تسول له نفسه تكرار هذه الفعلة النكراء في وادي النار السحيق.

ورغم القلق الذي استبد بالجميع إلا إنهم انفضوا إلى مزاولة أعمالهم اليومية ولم يبق إلا فارسيين شابين استعر الغضب في نفسيهما مما يحدث في هذه المدينة المظلمة. كانا صديقين حميمين جمعتهما المثل العليا و كرائم الطباع، اشتهر الأول بالسبّاق لأنه ما سمع عن خير قط إلا كان الأسبق إليه، أما الثاني فكان يدعى ناصر الحق وما هذا إلا لقب أيضا وذلك لوقوفه إلى جانب الضعفاء والمظلومين فبات سدا منيعا في وجه من تسول له نفسه الاعتداء على الآخرين.، أما أسماؤهم الحقيقية  فقلة هم من يعرفها، وهكذا العظماء يعرفون بحسن فعالهم لا بلمعان أسمائهم.

زفر السبَاق بضيق:

–   ألا يكفي المدينة ظلامها حتى يأتي من يزيدها منه!!فبالكاد يستطيع ضوء المصابيح الواهنة مواجهة الظلام؛ أفيعقل وجود من يفكر بإغراق نفسه فيه!!!

تنهد ناصر الحق:

–   المجرمون يا صديقي لا يفكرون بهذه الطريقة، فمن ألف قلبه الظلم لم يضره العيش في الظلام، وليس هذا ما يشغلني الآن يا سباق.

–   وهل هناك أكثر من ظلام دامس بات يهددنا والسماء يزداد إظلامها يوما بعد يوم!

–   بل إنني اعني أن هؤلاء الشرذمة من المجرمين ما هم إلا سببا يعجل في إظلام المدينة فحسب، أما الحقيقة المرة فهي أنها ستغرق في الظلام حتما عاجلا أم آجلا. انظر إلى المصابيح؛ إنها واهنة وسيخبو ضوءها بمرور الزمن.

–   وما العمل إذن! أيعقل أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الكارثة المروعة، أنترك المجرمين لحال سبيلهم!! مالذي تعنيه يا ناصر الحق؟

–   لا حل سوى البحث عن مصدر نور دائم لا تطوله أيدي المخربين فيزيح هذا الكابوس المريع.

–   كلامك هو الصواب بعينه، ولكن من أين لنا بهذا النور الدائم الذي تتحدث عنه؟ وكيف نبدأ بالبحث عنه؟

–   هذا ما لا اعرفه، و أرى أن نذهب للحكيم نطلب منه النصح والمشورة.

*          *          *

سر الحكيم كثيرا برؤية الفارسين، وبعد أن اخبراه عن سبب مجيئهما ابتسم قائلا:

–   إنكم لتنعشون ذكرى الفرسان الأوائل في مخيلتي، واني لأرى فيكم الأمل الذي سيعيد النور إلى مدينة السلام.

تبادل الفارسان نظرات تساؤل قبل أن يبادر السباق بقوله:

–   تقصد مدينة الظلام!!

أومأ الحكيم برأسه إيجابا:

–   أجل يا بني، هذا اسمها فيما مضى عندما كانت شمس الحق تسطع في سمائها فتنشر الضياء في أركانها نهارا ويعكس نورها وجه القمر ليلا.

تساءل ناصر الحق:

–    ومن أطفأ هذه الشمس الساطعة أيها الحكيم؟

ابتسم الحكيم معلقا:

–   وهل يستطيع أحد إطفاء الشمس أيها الفارس النبيل! إنها مازالت تشع نورا وضياءا في فضائها الرحيب، لكننا نحن من حجبناها عنا بغيوم الظلام الداكنة.

وأغمض الحكيم عينيه  يستذكر قصة قديمة طواها النسيان على مر الزمان..

منذ زمن بعيد عم السلام مدينة السلام ومن السلام جاء اسمها بعد أن وقف الفرسان الأقوياء في وجه التنين الضخم الذي هدد المدن الآمنة وقتل الأبرياء فيها، كانوا سدا منيعا في وجهه برماحهم القوية ودروعهم المتينة وسيوفهم التي قلدت أجسادهم الفتية، فلم يجرؤ على الاقتراب من المدينة او التحليق في سمائها، ثم مضى زمن على هذه الحال إلى أن أمنت المدينة جانب التنين فنسي أمره بل بات ذكره وهم لا يؤبه به. ولم يعد للفرسان دور يذكر ، فلا معنى لحراستهم مدينة آمنة يغمرها السلام فشغلتهم الدنيا ونسوا التنين هم أيضا، أما هو فلم ينسهم، بل كان يرقبهم عن كثب يتحين الفرصة المناسبة للثار من المدينة التي حطمت كبريائه ونجت من سيطرته وسطوه، صبر كثيرا وقد حانت اللحظة المناسبة ليضرب ضربته، فالمدينة عنه غافلة وقد ازداد حجمه وتضاعفت قوته بما فيه الكفاية..

أصبح الناس ذات يوم وقد دب الذعر في قلوبهم وعلا الهرج والمرج بينهم يركضون على غير هدى فها هو التنين يحلق بأجنحته العظيمة في سماء المدينة ناشرا الرعب بشكله المفزع وظهوره المفاجئ، مطلقا السنة اللهب  الحارقة في كل مكان فاشتعلت الحرائق وقتل الكثيرون وعلا الصراخ والعويل دون أن يهب مدافع واحد للتصدي له، في حين أن رمحا واحدا تطلقه ذراع فارس شجاع كفيل بردع التنين عن غيه، فازداد جبروته منتشيا بنصره الساحق حتى إذا ما احكم سيطرته على المدينة بدأ بإملاء شروطه ليرضي غروره ويشبع انتقامه والأخذ بثأره القديم فاتخذ الخدم والعبيد وقدمت له القرابين ينفذ حاكم المدينة أوامره بانصياع تام لا يخالف له طلبا خوفا من غضبه وبطشه.

وجاء اليوم الذي طلب فيه التنين أن تقدم ابنة الحاكم  قربانا له، فجن جنون الحاكم إذ كانت ابنته الوحيدة أغلى ما يملك في الوجود، ورجا التنين متذللا له أقصى درجات التذلل أن يطلب شيئا آخر غير ابنته . كان مشهدا ممتعا للتنين فأسعده، فتغطرس وزمجر ثم نظر وفكر فلم يرض بأقل من عشرة إخوة يقدمون له معا فداء للأميرة ، وعلى الفور أرسل الحاكم جنوده في المدينة يبحثون عن طلب التنين ليساقون بالسلاسل، دون أن يرق قلب الحاكم لتلك الأم المسكينة التي توشك أن تفجع بأولادها العشرة مرة واحدة؛ مادامت ابنته الأميرة المدللة في أمان..

وفي الوقت المحدد ظهر التنين محلقا في سماء المدينة  بشكله المهيب مبتهجا لما سببه من فزع في النفوس وهو يرى القرابين العشرة مصطفة أمامه هدية له، لكنه ما أن اقترب منها حتى ظهرت تلك الأم المظلومة فجأة، مستلة خنجرها، لتقفز بكل قوتها صوب التين. فزع التنين من هول المفاجأة التي لم تخطر بباله قط، وانطلق نحو السماء يتلوى من الم الطعنات المتتالية في حين زاد تشبث الأم به وهي تحاول الوصول إلى قلبه في مشهد مريع اشرأبت إليه الأعناق، حتى تمكنت أخيرا من غرس طعنتها القاتلة في قلب التنين، فصرخ صرخة مجلجلة زلزلت المدينة بأكملها واحترق بنيرانه مخلفا وراءه سحائب الظلام المختلطة برفات أم مظلومة باتت تصب جام غضبها على الظلمة والجبناء. تابع الحكيم كلامه وهو يشهد الأثر العميق الذي تركته تلك القصة في وجوه الفارسين:

– ومنذ ذلك الحين وتلك السحب السوداء المنسوجة بالظلم تحجب شمس الحق عن مدينة السلام لتصبح مدينة الظلام شاهدا على تضحية أم مظلومة إلى يومنا هذا، وهكذا ما ازداد الظلم في المدينة إلا ازداد إظلام السماء وما زلنا نعيش في ظلام إلى ظلام لا ندري منتهاه.

كاد ناصر الحق ينفجر حنقا وغيظا من هول ما سمع، في حين سال السباق:

–   ألا من مخرج لهذا الظلام؟ فهذا ما أتينا من اجله.

تنهد الحكيم:

–   لا حل سوى الحصول على شعاع النور فهو الأمل الوحيد.

تأهب الفارسان بلهفة:

–   وكيف السبيل إلى هذا الشعاع؟ سنبذل جهدنا لإعادة النور إلى المدينة من جديد.

–   إنه يقبع في قمة جبل الزهور الذي ما عاد منه احد ذهب إليه حتى الآن.

تساءل ناصر الحق:

–   أتقصد جبل الصخور!! فهو الجبل الذي لا يجرؤ احد على الاقتراب منه لما يسمع عنه من شائعات.

أومأ الحكيم إيجابا:

– أجل يا بني، لقد كان يعرف بجبل الزهور فقد كان هكذا فيما مضى، أما هذه الصخور فما هي إلا بشر ضلوا السبيل فيه فاستحالوا صخورا لا حياة فيها.

فقال السباق:

–   أتعني أن كل من لم يعد من ذلك الجبل ما هو إلا صخرة فيه الآن!!

–   تماما يا بني، وهنا مكمن الخطر في صعوبة الوصول الى شعاع النور، لقد حاول فرسان قبلكم الذهاب إلى هناك من اجل شعاع النور، لكنهم لم يرجعوا أبدا بل زادوا وعورة الجبل وخطورته بأن أصبحوا صخورا فيه تسد الطريق ويخشى انهيارها في أي لحظة.

قبض السبَاق يده بقوة:

–   لا مفر من مواجهة الخطر؛ إذ لابد من الوصول إلى شعاع النور وإعادة النور إلى المدينة.

أما ناصر الحق فقد سرح فكره في مكان آخر:

–   ألا يمكن لهذه الصخور أن تعود إلى طبيعتها الإنسانية أيها الحكيم؟

ابتسم الحكيم:

–   توقعت منك هذا السؤال يا صاحب القلب الرحيم، فاعلم بأن خلاصهم يكمن في شعاع النور أيضا.

–   إذن لا بد لنا من الحصول على هذا الشعاع مهما كان الثمن.

وأمام الحماس الملتهب في أعين الفارسين قال الحكيم:

–   لذا عليكم الاستماع جيدا لما سأقوله حتى لا يصيبكم ما أصاب من قبلكم فتواجهون المصير نفسه.

أصغى الفارسان بكل اهتمام لكلام الحكيم الذي تابع مشددا:

–   إياكم والثعابين فهي الشر بعينه، واستعينوا بالحمائم البيضاء فهي اعلم بذلك المكان وعجائبه ولكن احذروا الغربان فهي متلونة متحولة وقد تظهر لكم بمظهر الحمائم الوديعة، فإياكم أن تنخدعوا بها.

انقبض صدر ناصر الحق قليلا:

–   ولكن كيف لنا النجاة من حيلها مادامت متلونة متحولة وتمييزها عن الحمائم الحقيقية؟

نظر الحكيم إلى الفارسين متفرسا وهو يقول:

–   انتم فرسان حقيقيون، تملكون قلوبا صافية كالمرآة لا تكذبكم خبرا فعليكم الاستعانة بها، أغمضوا عيونكم وانظروا بقلوبكم فسترون الحقائق كما هي ولن تنخدعوا بالمظاهر الزائفة أبدا، وإياكم أن تكذّبوا قلوبكم من اجل ما تراه عيونكم وإلا فإنها لن تعود قادرة على الرؤية بصفاء.

بدا على الحكيم انه أنهى كلامه، فقال السباق:

–   لم تخبرنا عن شعاع النور، وما علامته؟

فقال الحكيم:

–   إن وصلتم إليه ستعرفونه ولن يخالجكم أدنى شك أنه هو وهذه هي علامته.

نهض الفارسان وهما بالانصراف عندما استوقفهما الحكيم:

–   لن يستحيل عليكم مواجهة المخاطر والعقبات مادامت غايتكم واضحة و ماثلة نصب أعينكم ثم التزمتم بسبل النجاة للوصول إليها.

*          *          *

انطلق الفارسان بعزيمة قوية نحو الجبل فقد بدأت المهمة وقبلا التحدي، رفعا رأسيهما يحاولان رؤية القمة لكن هيهات، فقد حجبتها السحب السوداء. أمسك السباق حبلا متينا ربطه بيده وناول طرفه الآخر لناصر الحق قائلا:

–   سيفيدنا هذا تحسبا لأي خطر يعرض احدنا للسقوط، فالمنحدرات شديدة والحواف ضيقة والصخور تنهار بلا سابق إنذار وعلينا المواجهة معا.

احكم ناصر الحق ربط الحبل على يده وقد وافق صديقه على رأيه، وبعد أن تفحصا مسالك الجبل وطرقه حددا أكثر الأماكن سهولة فيه للانطلاق منها والذي بدا أشبه ما يكون بطريق ممهد، وبحماس شديد وعزيمة وإرادة قوية بدأت رحلة الصعود إلى القمة.

قطع الفارسان شوطا كبيرا وهما في اشد حالات الحذر والترقب حتى أنهكهما التعب ولم يكن لهما بد من اخذ قسطا من الراحة يستردان خلالها عافيتهما، وبعد أن وجدا مكانا ممهدا بين الصخور أسرع ناصر الحق يستلقي على ظهره وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة، في حين وضع السَباق الطعام أمامه قائلا:

–   هيا للطعام يا صديقي، فشعوري بالجوع اكبر من شعورك بالتعب.

فابتسم ناصر الحق (مرتكزا على مرفقه):

–   لا مانع لدي من أن تبدأ قبلي فحاجتي للنوم أكثر.

–   سأقاوم جوعي إذن حتى تقوم، فأنت تعلم أنني لا أحب الأكل وحدي.

عندها نهض ناصر الحق:

–   أنت تحرجني بكرمك يا صديقي.

–   كما أحرجتني بتضحيتك.

وضحك الاثنان بمرح وهما يتناولان طعامهما دون أن تغيب مهمتهما الأصلية عن بالهما طرفة عين، حتى إذا ما استردا نشاطهما تابعا السير نحو القمة. لم يعدما الحيلة في تجاوز العقبات؛ تارة يتعاونان في إزاحة الصخور الضخمة عن طريقهما وتارة يستخدمانها سلما يقفزان منها للأعلى فتختصر عليهما مسافة لا بأس بها، وقد حدث أن انزلقت قدم ناصر الحق وهما يحاولان المرور فوق حافة شديدة الضيق لكن سرعان ما تدارك الموقف بمساعدة السبّاق فهما يسيران يدا بيد يربط بينهما حبل متين لا يستهان به. تابع الفارسان طريقهما بسلام إلى أن وجدا نفسيهما أمام صخرة عملاقة يستحيل زحزحتها، ملساء عالية يصعب تسلقها، قال السباق أخيرا:

–   لا مفر أمامنا من العودة إلى الوراء علنا نجد طريقا آخر.

فقال ناصر الحق:

–   لكننا سلكنا أفضل الطرق وقد قطعنا مسافة طويلة حتى وصلنا إلى هنا وان عدنا ضاع وقتنا وربما واجهتنا عقبة اكبر.

–   هذا مجرد احتمال ولا باس من المحاولة فهذا على الأقل أفضل من وقوفنا هنا بلا فائدة وقد مضى يوم كامل لم نحرز خلاله أي تقدم يذكر في مواجهة هذه الأزمة.

ثم رمق الصخرة بنظرة غاضبة وهو يدق عليها بسخط:

–   أيعقل أن تكون هذه الصخرة العنيدة فارسا جاء ليحرر المدينة من ظلامها!! لو علم انه سيكون عقبة في الطريق هكذا لما تمنى الخروج من بيته قط.

لكن ناصر الحق قال وهو يتأمل المكان حوله متفحصا:

–   دعك من إلقاء اللوم على صخرة صماء لا تسمع فهذا لن يفيد الآن وتعال لنفكر في الحل الأمثل..

وبينما هما على تلك الحال، إذ ظهر لهما من بين الصخور ثعبان ضخم أفزعهما بمظهره بداية لكن روح الفرسان القوية سرعان ما قفزت إلى أعينهما لتشع ببريق وهاج ونظرات تحدّ حادة، أفزعت الثعبان نفسه فبدا وديعا على غير طبيعته وهو يبتسم قائلا:

–   رويدكما أيها الصديقان، لقد جئت لمساعدتكما فحسب.

لكن كلام الحكيم وتحذيره الذي مازال نصب أعينهما وقف كالسد المنيع مطلقا لسان السباق بقوة:

–   لم نطلب المساعدة منك أيها الثعبان، وان لم تغرب عن وجهي قطعتك إربا إربا.

لم يكد السبَاق يتم كلامه حتى انكمش الثعبان الضخم فصار حية صغيرة لاذت بالفرار مختبئة في احد الجحور، أمام دهشة الفارسين وعجبهما مما حدث، ثم ابتسم السبَاق:

–   يبدو أن مواجهة الأفاعي هنا أسهل مما توقعت.

فقال ناصر الحق وهو ينظر للأعلى رافعا رأسه نحو القمة:

–   أرجو أن تسير الأمور على هذه الحال، فما هذه إلا البداية فقط وما زال أمامنا مشوار طويل.

رفع السباق رأسه هو الآخر للأعلى متطلعا إلى القمة:

–   معك الحق يا صديقي، فما من فارس وصل القمة وعاد من الجبل حتى الآن.

وكم كانت دهشتهما عظيمة عندما نظرا إلى الصخرة العملاقة فلم يجدا مكانها سوى صخرة صغيرة يسهل تجاوزها.

فقال ناصر الحق:

–   يبدو أن الأمور هنا تسير بصورة عجيبة يصعب تفسيرها.

فأجاب السبَاق:

– المهم أن مشكلتنا حلت وعلينا الإسراع نحو القمة وتعويض ما فاتنا من وقت.

وهكذا تابع الفارسان الطريق من جديد ومضت أيام وأيام والقمة لازالت بعيدة وهم مع ذلك لا تفارق الحماسة عيونهم ولا يتسلل الملل إلى نفوسهم غايتهم العظيمة نصب أعينهم تدفعهم بهمة كبيرة إلى الأمام. وجاء ذلك اليوم الذي حدث فيه انزلاق صخري مهول وهما يسيران فوق حافة ضيقة ملصقين صدورهم وبطونهم بالجبل لئلا تتعثر أقدامهم، فثبتا مكانيهما متشبثين بما يمكن التشبث به بكل قوتهم إلى أن استطاعا بصعوبة تجاوز منطقة الخطر واللجوء إلى كهف صغير للاحتماء به، التقط ناصر الحق أنفاسه بصعوبة:

–   لا اصدق إننا نجونا، فمن الجنون التعرض للخطر بهذه الصورة الصريحة وإلا كنا كمن يسحق آخر أمل للمدينة بيديه.

كان السبَاق لازال يحدق في الصخور المنهارة أمامه من مدخل الكهف:

–   لا مفر من الانتظار هنا ريثما تهدأ هذه الموجة الغاضبة، وأتمنى أن لا يطول انتظارنا.

وفي تلك الأثناء ظهرت أمامهما إوزة بيضاء جميلة ما لبثت أن تهاوت على مدخل الكهف وهي تتأوه ألما وقد بدا جرح عميق في جناحها. هب الفارسان نحوها بسرعة لكن ناصر الحق تذكر فجأة كلام الحكيم فأغمض عينيه ليرى بقلبه وما لبث أن صرخ بفزع:

–   احذر يا سباق، لا تقترب منها إنها مجرد غراب أشعث يلتمع الشر في عينيه، أغمض عينيك وانظر جيدا بقلبك.

انتبه السباق لتحذير صديقه في اللحظة الأخيرة فتسمر مكانه رغم شفقته بالإوزة التي بدأت تستغيث طالبة الماء، وجاهد كي يغمض عينيه والشك يراوده؛ أيعقل أن تكون هذه الإوزة الجريحة غرابا خبيثا!!

أغمض السباق عينيه ليرى أمامه غرابا يبتسم بمكر ودهاء..

فزع السباق من هذا التناقض الرهيب بين ما يراه بعينيه وما يراه قلبه وزادت الشكوك في نفسه ففتح عينيه من جديد ليرى الدم يسيل من الإوزة وهي تنتفض بألم كمن يلفظ النفس الأخير، كان مظهرها مؤثرا حقا وهي تنظر في عينيه بحزن وتوسل:

–   أرجوك، ناولني شربة ماء.

وهم السباق بالتقدم نحوها لولا صراخ ناصر الحق الذي انطلق كالصاعقة على رأسه من جديد فشلّ حركته:

–   لا يا سباق، لا تذهب إليها أرجوك، إنني مازلت أرى غرابا يزداد انتفاخا وغرورا، انه يمكر بك يا صديقي فلا تصدقه.

وأغمض السباق عينيه من جديد، العرق يتصبب منه واستغاثات الإوزة تفطر قلبه، لقد رأى بقلبه غرابا لكنه ليس إلى هذا الحد من السوء الذي يصفه به صديقه، يبدو غرابا وديعا، بل أشبه ما يكون بإوزة بيضاء جميلة!

وفتح السبَاق عينيه مرة أخرى، بدأت الإوزة تهمد إذ خارت قواها وقد سال جرحها دما يغمر الأرض حولها وهي تحشرج بكلمات مخنوقة:

–   الرحـــ…ــمة  .. ماء ..مـ …ــا..ء…أرجـــ..ـو…ك….

لم يتمالك السباق نفسه، فتناول قربته متجها إليها، فقد استغاثت المسكينة به ولن يخذلها أبدا، لكن يد ناصر الحق جذبته جذبة قوية أوقفته مرة أخرى:

–   هل جننت يا صديقي إنني ما أزال انظر إلى هذا الغراب الخبيث الذي يستهزئ بك ويسخر منك، انك تزيده غطرسة وغرورا، إنني أراه جيدا صدقني.

لكن السباق أجابه بحدة:

–   ما هذا الذي تقوله يا ناصر الحق، لقد واجهت هذه الإوزة من انهيار الصخور ما واجهنا فكيف نتركها تموت أمام أعيننا وكل ما تريده شربة ماء!! إنني لأعجب منك يا صاحب القلب الرحيم!!

–   أي رحمة هذه التي تتحدث عنها يا سباق!! إنها في غير موضعها على الإطلاق، انظر بعين قلبك أرجوك ولا تدع المظاهر الزائفة تخدعك. وتابع ناصر الحق بتوسل ورجاء:

–   أنسيت أن شعاع النور هو غايتنا يا صديقي ولا مجال أمامنا لارتكاب الأخطاء!

رق قلب السباق قليلا لكلام صديقه وإلحاحه الشديد وإصراره فأغمض عينيه ولكنه لم يرى هذه المرة سوى إوزة جريحة تنظر إليه بعينين وديعتين! فارتعش جسده وارتعدت أوصاله فهتف:

– أين الرحمة يا ناصر الحق!! إنها إوزة جريحة ولن ادعها تموت أمام عيني.

وقع كلام السباق كالصاعقة على رأس ناصر الحق ودارت الدنيا به فانهارت قواه وهو يتخيل ما قد تجلب عليهما هذه الكارثة من ويلات، لقد تحقق كلام الحكيم في صديقه ولم يعد قلبه صافيا لرؤية الحقائق، ولم يشعر إلا بيد السابق تفلت من قبضته بقوة ليتجه صوب الإوزة، وقبل أن يتمكن ناصر الحق من فعل أي شيء، وفي اللحظة التي لمس فيها السباق الإوزة؛ انقلب إلى صخرة عظيمة سدت مدخل الكهف..

لم تقو قدمي ناصر الحق على حمله؛ وقد ثقلتا بهمه فارتكز على الصخرة يبكي لأول مرة.

 مضى يوم كامل وناصر الحق يبكي صديقه الحميم الذي لم يفارقه لحظة واحدة يتحسس الصخرة بيد مرتعشة، تخنقه العبرات وتكويه الحسرة والألم، فانطلق بمشاعره يحدثه:

–   بالأمس القريب يا صديقي كنت تعجب من صخرة عظيمة كيف لها أن تكون فارسا؛ وها أنت الآن صخرة بل عقبة عظيمة في طريق القمة..

عندها طرق سمعه صوتا من خلفه يقول:

–   و ألست أنت القائل أن لا فائدة من الكلام مع صخرة صماء لا تسمع!!

التفت ناصر الحق خلفه لتقع عيناه على حمامة بيضاء فأسرع يراها بعين قلبه حتى اطمأن لها واستراح، فابتسمت الحمامة:

–   أنت فارس طيب القلب، ولكن؛ هل يبكي الفرسان!!!

أطرق ناصر الحق بصمت، ثم رفع رأسه سائلا:

– من أين جئت أيتها الحمامة؟ وكيف دخلت إلى هذا الكهف المغلق!!

لكن الحمامة أجابته:

– لايهم كيف جئت ومن أين دخلت، لكن المهم حقا هو إلى متى ستبقى على هذه الحال؟ أم تراك نسيت الغاية الحقيقية من مجيئك إلى هذا المكان!!

– لا لم انس. وأطلق زفرة الم طويلة وصورة السباق تلمع أمام عينيه:

– بالأمس كان صديقي عونا لي على اجتياز العقبات أما الآن فقد أصبح عقبة في طريقي عليّ اجتيازها.

ونظر إلى الحمامة متسائلا:

–   فكيف السبيل إلى الخروج من هذا السجن المغلق؛ وهذه الصخرة تسد باب المخرج، و تقف في طريقي نحو القمة وتحقيق الغاية!!!

أجابت الحمامة بهدوء وروية:

–   هذا ما يراه عين حالك، فأنت تحب صديقك ولا تريد التخلي عنه و متابعة المشوار من دونه، في حين أن بكاؤك هنا قربه لن يغير من حاله شيئا أما حصولك على شعاع النور فقد يعيده إلى طبيعته.

عندها تذكر ناصر الحق كلام الحكيم فاشتعل قلبه حماسا بل كأشد ما يشتعل الحماس في القلوب- كيف لا وهو يمني نفسه برؤية صديقه الحميم مرة أخرى- فنهض بعزم جديد وهمة عالية مكفكفا دموعه، سيصل إلى شعاع النور مهما كلفه الأمر ومهما واجه من صعوبات فالمدينة بانتظاره وقبل ذلك.. صديقه الحميم.

لم يكد ناصر الحق ينتهي من خواطره هذه حتى ضمرت الصخرة قليلا منفرجة عن شق يتيح لناصر الحق الخروج منه، فوقف بشموخ قرب الصخرة يطبطب عليها فذرفت من عينه دمعة حملت أسمى معاني الحب والرحمة في قلبه:

–   سأعود إليك حتما يا صديقي، حاملا شعاع النور لنعود به معا إلى مدينتنا.

ثم تلفت ناصر الحق حوله حتى وجد الحبل ملقى على الأرض فتناوله ليلفه حول الصخرة بإحكام والحمامة تنظر إليه بتعجب:

–   ما الذي تنوي فعله !!

ابتسم ناصر الحق وهو يتابع عمله:

–   لن ينقطع الحبل الذي ربطه صديقي بيننا في بداية الرحلة.

–   هل يعني انك ستتابع الطريق نحو القمة وأنت ممسك بطرف الحبل الآخر!!!

أومأ ناصر الحق بالإيجاب فتابعت الحمامة:

–   لكن مدى الحبل قصير، فهل ستقف عند نهايته؟

أجاب ناصر الحق بثقة:

–   بالتأكيد لا، سأتابع الطريق ولن اعدم الحيلة في حفظ الصلة بيني وبين صديقي؛ وان أصبح صخرة صماء.

ثم قطع بعضا من عروق نباتات متسلقة تنمو في الجبل ورفعها أمام ناظري الحمامة قائلا:

–   هذه ستفي بالغرض.

واخذ يصنع منها حبالا متينة ربطها بطرف الحبل ليزيد مداه، فابتسمت الحمامة باطمئنان:

–   لقد ازداد إعجابي بك أيها الفارس الشهم النبيل، لذا سأمنحك هذه البيضات الفضية، إنها صغيرة لكنها مميزة و قوية، و قد تفيدك في طريقك نحو القمة.

تناول ناصر الحق البيوض من الحمامة شاكرا لها صنيعها معه وانطلق نحو القمة من جديد، لا تزيده العقبات إلا إصرارا وثباتا وإقداما فقد أصبح أمامه دافعا آخر وهدفا لن يتنازل عنه أبدا.

مضت أيام وأيام وناصر الحق ماض في طريقه نحو القمة لا تنفك عزيمته ولا تلين إرادته فبات قليلا ما يذكر طعامه، حتى انه هجر راحته فلم يعد يشعر بتعب الطريق وصورة الصخرة أمامه تحثه على متابعة المسير، ولم يعد يستريح إلا عندما يشعر بان الحبل بينه وبين صديقه قد بلغ أقصاه فيقف باحثا عن نباتات جديدة ليزيد مدى الحبل ثم يمضي متابعا طريقه..

ونظر ذات يوم إلى المسافة التي قطعها فإذا به قد ابتعد كثيرا، فحن قلبه إلى صديقه ودمعت عينه لكنه سرعان ما عزى نفسه:

–   انتظرني يا صديقي فلن يطول غيابي ، فما ازددت عنك بعدا إلا لتعود كما كنت فارسا سبّاقا شهما.

سار ناصر الحق أياما طويلة دون أن يأخذ أدنى قسطا من الراحة فأتعب جسده وأرهقه إلى أن وقف أمام منزلق خطر تعلوه حافة ضيقة عليه تجاوزها فحدث نفسه مشجعا:

–   لا بأس سأتجاوز هذه الحافة أولا ثم أستريح .

أحكم ناصر الحق ربط الحبل في يده بعد أن تأكد من طول مداه حتى لا ينقطع أثناء تجاوزه تلك المنطقة الخطرة ثم تابع سيره بحذر شديد، لكنه بدأ يشعر بدوار بعد أن أنهكت قواه، وقد بلغ به التعب أشده فأخذ يحث الخطى ليتجاوز الخطر بسرعة اكبر، وما هي إلا لحظة مفاجئة حتى زلت قدمه عن صخرة لم يتأكد من ثباتها، فانزلق جسده معها لكنه تمكن من التشبث بصخرة أخرى مدببة حالت دون سقوطه في الهوة السحيقة..

ومضى يوم بذل خلاله أقصى ما يستطيع من قوة وجهد للبقاء حتى خارت قواه تماما..

دارت الدنيا بناصر الحق والصور تتوالى أمامه تباعا، بدءا بحياته في المدينة المظلمة برفقة صديقه المخلص السباق وذهابهما إلى الحكيم واللحظات الجميلة التي قضياها معا رغم ما واجهتهم من عقبات إلى أن أصبح صديقه صخرة وعقبة في طريقه عليه تجاوزها..

فهل هذه هي النهاية حقا!! أين هي تلك الآمال العظيمة في إعادة النور إلى المدينة!!! أيكون مصيره ومصير صديقه مثل من كان قبلهم! ألن ينجح أحد في الوصول إلى القمة أبدا!! وتراخت يدا ناصر الحق إذ لم تعودا قادرتين على حمله مع همومه أكثر من ذلك، فأغمض عينيه مطلقا آهات وزفرات كوت قلبه ألما وحسرة..

لقد ضاع كل شئ..

وأفلتت يداه أخيرا لتتركه يهوي في الوادي السحيق..

إلا أن يدا قوية أمسكت به في اللحظة الأخيرة لترفعه بقوة، لم يصدق ناصر الحق عينيه، هل انتقل إلى عالم آخر!! أيعقل هذا، وسرعان ما راوده الشك والارتياب فأغمض عينيه لينظر بعين قلبه.. انه هو!! السبّاق بعينه، وتعانق الصديقان وقد ألجمت الفرحة ناصر الحق فلم يدر ما يقول وان لمع التساؤل في عينيه:

–   ولكن كيف!!!!!

ابتسم السباق:

–   إنها عروق النباتات يا صديقي، فهي لم تكن نباتات عادية على الإطلاق..

لقد نمت العروق باتجاه الصخرة ملتفة حولها حتى إذا لم يبق جزء خاليا منها، عدت إلى طبيعتي كما كنت، وليس هذا فحسب؛ بل إنني شعرت بقوة عجيبة لم اشعر بمثلها قط فتبعت ذلك الحبل الممدود أقطع المسافات الطويلة بسرعة واجتاز العقبات بسهولة، لقد تركت لي طريقا ممهدا خلفك يا صديقي حتى وصلت إليك في اللحظة المناسبة.

تنفس ناصر الحق الصعداء وقد استرد عافيته بسرعة كبيرة:

–   إنني ممتن لك يا صديقي بإنقاذك حياتي.

–   بل أنا المدين لك بنجاتي.

 ثم قبض يده إلى صدره بقوة وهو يلتهب عزيمة وإصرارا:

–  لقد أخطأت بل ارتكبت خطأ فادحا كاد أن يقضي على مستقبل مدينتنا ولكنني سأعوض ما فات ولن أتوانى في الوصول إلى شعاع النور مهما كان الثمن، هذا وعد مني يا ناصر الحق، هذا وعد.

ألهبت كلمات السباق حماس ناصر الحق وأنسته مصابه قبل لحظات، فابتسم بانشراح والسعادة تغمره:

–   انك لأنت السبّاق دوما يا صديقي.

وشد السباق على يد ناصر الحق بقوة وهو يقول:

–   وانك لناصر الحق حقا، فإياك أن تفقد الأمل يوما.

وهكذا تابع الصديقان طريقهما معا نحو القمة من جديد يحذوهما الأمل بعزيمة تشحذ الحديد..

وأخيرا وجدا نفسيهما على مقربة من السحب السوداء التي تحجب قمة الجبل عن الرؤية واشتد عليهما الظلام حلكة وهما يخترقان هذه السحب صاعدين للأعلى، وانقبضت أنفاسهما حتى شعرا بالاختناق لكنهما صبرا وقاوما، ثم استحالت الرؤية تماما فاحكم الفارسان وثاق الحبل بينهما تحسبا لأي خطر مفاجئ وهما يتحسسان الطريق نحو القمة، وبينما هما على هذه الحال إذ ظهر لهما بريق خاطف أثار انتباههما، لكنهما تابعا السير بثبات، ثم ومض البريق مرة أخرى ولمدة أطول فاستطاعا رؤية  بعض ملامح الجبل و طبيعته الوعرة من خلاله، وما لبثا أن سمعا صوتا كأعذب ما يكون من الأصوات:

–   مرحبا بالفرسان الشجعان..

تلفت الفارسان حولهما دون أن يريا شيئا ؛ فقد عاد الظلام حالكا.

جهر ناصر الحق بصوته:

–   من أنت ومن تكون؟

لكنه لم يلق جوابا بل برق الوميض من جديد مظهرا لهما حديقة غناء لم يحلما برؤية مثلها من قبل، كانت المرة الأولى التي يريان فيها ألوان الخضرة تحت أنوار بيضاء هادئة مبهجة عاكسة شتى الألوان، بعد أن عاشا في الظلام الذي تتسلل فيه أضواء باهتة لا تفي بالرؤية الجيدة، وقبل أن يهم الفارسان بإغلاق أعينهما ليتمكنا من رؤية حقيقة الأمر بقلبيهما ، خاصة وأنهما باتا حذرين أكثر من أي وقت مضى، اختفى البريق فجأة كما ظهر فجأة وحل الظلام من جديد فلم يريا شيئا.

قال ناصر الحق:

–   أتراه يكون شعاع النور!!

لكن السباق بدا مرتابا أكثر:

–   لو أنه شعاع النور حقا لما شككنا في أمره، ولعرفناه على الفور، هكذا قال الحكيم.

–   إذن دعنا نكمل طريقنا.

لكن الصوت العذب ظهر مرة أخرى:

–   على رسلكما أيها الفارسان، فقد بذلتما جهدا لايستهان به ولم يبذله أحد قبلكما، وأنتما بحق تستحقان مكافأة عظيمة تليق بالعظماء أمثالكم، فأهلا بكما في حديقة السعادة الأبدية.

شعر الفارسان بانجذاب شديد نحو ذلك الصوت، و ظهرت الحديقة كأبهى ما يكون،لكن مرة أخرى قبل أن يهما بإغماض أعينهما ليرياها بقلبيهما حل الظلام من جديد. عندها قال السباق بحزم وقد بدا غير قادر على تحمل ارتكاب أدنى خطأ جديد:

–   لقد أصبحت الأمور واضحة الآن؛ فلو كان في هذه الحديقة خيرا لتركتنا نراها بقلوبنا.

ثم رفع صوته مؤكدا بتحد:

–   ما جئنا هنا إلا للحصول على شعاع النور، لا لقضاء حياتنا في حديقة جميلة لا نأمن على أنفسنا منها ولن يضرنا تجاوزها على أي حال.

ورفع ناصر الحق رأسه عاليا مؤكدا كلام السباق وهو يشد على يديه في عزيمة وإصرار:

–   هيا لنتابع الطريق نحو القمة يا صديقي فلا مجال لإضاعة الوقت أكثر، وقد أضعناه هنا بما فيه الكفاية.

لم يكد ناصر الحق يتم عبارته حتى انطلق الصوت العذب من جديد بل وبأكثر عذوبة ورقة من أي وقت مضى:

–   أنا الحسناء الزاهية..

      قطوفي منكم دانية..

     مياهي دوما جارية..

وإذ ذاك عادت تلك القوة الخفية لتجذبهما نحوها من جديد ولكن بأضعاف ما كانت عليه أول مرة، وبدأ الفارسان ينجذبان فعلا لتلك القوة الهائلة وهما يقاومانها بأقصى ما لديهما من طاقة حتى كاد قلبيهما أن ينخلعا من جسديهما، ولم يحتمل السبّاق أكثر؛ فنادى بشدة:

–   أرجوك يا ناصر الحق افعل شيئا، لم أعد احتمل المقاومة أكثر فحاول أنت فعل أي شئ؛ فقلبك لم يفقد صفاؤه أبدا حتى الآن.

كان ناصر الحق يقاوم ذلك الانجذاب الخفي هو الآخر وهو يحاول التركيز رغم فكره المشوش:

–   من أين تجذبنا هذه القوة يا ترى!!

في حين اخذ السباق يصرخ بكل قوته:

– كلا، ليس مرة أخرى، لابد من إعادة النور إلى المدينة ولن يضيع عمري هنا..

وأخيرا هتف ناصر الحق وقد تذكر منحة الحمامة:

–   خذ هاتين البيضتين يا سباق وأغلق بهما أذنيك، فان تلك القوة تجذبنا بأسماعنا.

وما أن أغلق الاثنان آذانهما بالبيوض الفضية الصغيرة حتى زالت عنهما تلك الجذبة الهائلة، ليسمعا بعقليهما صوتا كريها نشازا كأبغض ما يكون من الأصوات:

–   سأحطم عالي الهمة..

      فسأغرقه بالظلمة..

      وسينسى أين القمة..

استعر الغضب في قلبي الفارسين، وزاد إصرارهما على متابعة الطريق نحو القمة وتجاوز العقبات في عزم أكيد وتصميم لا حد له لبلوغ الهدف. تجنبا مواطن الشبهات، يكتفون بما يرونه بقلوبهم ويسمعونه بعقولهم، فليس من الحكمة أن يدعا جانب الحيطة والحذر أو يأمنا على نفسيهما من أي خطر، وقد أوشكا الوصول إلى القمة.

وما هي إلا أن هبت عليهما ريح قوية كادت أن تقتلعهم من أماكنهم فتمسكوا بكل ما يمكنهم تثبيت أنفسهم به يشد بعضهم بعضا وهم مع ذلك يتابعون الصعود إلى القمة بهمة عالية، حتى هدأت الريح أخيرا كاشفة معها سحب الظلام ليجد الفارسان نفسيهما فوق ارض منبسطة يغمرها النور، وبصعوبة استطاعا التأقلم عليه بعد أن اعتادت عيونهم الظلمة لوقت طويل..

أغمضا أعينهما وفتحاها مرات عديدة يرون بعيونهم وقلوبهم النور الذي لا ريب فيه ولا بهتان، فلم يزدد النور الذي يرونه بعيونهم إلا نورا في قلوبهم، وتكلم ناصر الحق بتؤدة:

–   لقد وصلنا يا صديقي! انه النور الذي طالما حلمنا برؤيته.

ودمعت عينا السباق:

–   أجل ، لقد وصلنا يا صديقي.. لقد وصلنا أخيرا..

وإذ ذاك انطلق صوت ندي تردد صداه في المكان:

–   نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

سرت قشعريرة عارمة في جسد الفارسين وطمأنينة لا حد لها تغمرهم في الوقت نفسه، فالتفتا إلى مصدر الصوت، فإذا بهدهد لم يريا مثل حسنه من قبل يحييهما باسما:

–   أهلا بمن سمت أرواحهم عن الظلمة، فعلت أجسادهم إلى القمة.

قال ناصر الحق:

–   جئنا باحثين عن شعاع النور، فقد علمنا أن فيه النجاة والسرور، فهلا أرشدتنا إلى مكانه أيها الهدهد الوقور؟

علت السكينة وجه الهدهد وتحلى بابتسامة مشرقة زادته حسنا وبهاء وهو يقول:

–   الله نور السماوات والأرض

اقشعرت جلود الفارسين أكثر من ذي قبل وجثيا على ركبتيهما في خشوع والكلمات تتغلغل في أعماق نفوسهم السحيقة تهز كيانهما هزا: (الله نور السماوات والأرض)

وتابع الهدهد حديثه:

–   لقد أظلمت السماء بالظلم والكفر والطغيان، ظلمات بعضها فوق بعض، وتحجرت القلوب بالجحود والحقد والعصيان فهي كالحجارة أو اشد قسوة، فكم من قلب مظلم علم أن الله هو النور فما استنار بنوره! وكم من نفس ذليلة علمت أن الله هو المعز العزيز فخضعت لمن هو دونه!! وكم من عقل حائر تائه علم أن الله هو الهادي فما اهتدى بهديه!!!

كانت هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها الفارسان بكل هذه المعاني العظيمة، فسالت دموعهم وزاد خشوع قلوبهم وسجدت جباههم لله الواحد القهار..

وصمت الهدهد قبل أن يقول:

–   ارفعا رأسيكما وانظرا إلى أيديكما الآن..

وكم كانت دهشة الفارسين عظيمة عندما وجد كل واحد منهما في يده شعاع من نور يزيد المكان نورا على نوره ..

قال الهدهد:

–   إن شعاع النور الذي في أيديكم ما هو إلا جذوة الإيمان الصادقة في قلوبكم، فاحرصوا عليها متقدة؛ تنيرون به أنفسكم ومن حولكم..

لم يصدق الفارسان بداية أنهما حصلا على شعاع النور أخيرا، بل وأدركا حقيقته العظيمة التي ما كانت لتخطر ببالهم قط، والأهم من هذا كله أنهم عرفوا السبيل  إلى الحفاظ عليه حتى لا يعودوا إلى الظلام أبدا..

وعادا إلى المدينة يحملان شعاع النور، فلا يمران بصخرة فيمسانها به إلا وعادت إنسانا ينبض قلبه بالحياة، فنمت الزهور من جديد بعد أن سحقتها الصخور المتحجرة..

ووصلا المدينة في موكب مهيب ينشران النور حولهما حتى انقشع الظلام وعاد السلام فعاشت المدينة بسلام ما دامت جذوة الإيمان متقدة فيها.

( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون)

*          *          *

وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين