عندما-قطعت-الحبال

عندما قُطعت الحبال

عن القصة:

قصة واقعية، مقتبسة من حادثة حقيقية، لقلب خسر كل شيء تعلق به…

التصنيف: دراما، شريحة من الحياة

لم تعد قدماها تقويان على حملها أكثر، فانهارت على أرض غرفتها وهي تنشج بصوتها الذي بح من كثرة النحيب:
– ما هذا العذاب..ليت الأرض تنشق وتبتلعني.. سكاكين.. رماح .. خناجر مسمومة ، كلها تطعن قلبي!! ياااااااااااااااااااارب ساعدني لم أعد أحتمل المزيد..
لم تدر أحلام كم مر عليها من الوقت وهي على ذلك الحال المأساوي، وقد غدت أشبه ما تكون بحفنة متهالكة من بقايا إنسان، عندما رن جرس هاتفها المحمول.. أسرعت إليه وقلبها يخفق بشدة، كالغريق الذي يتشبث بالقشة، ويؤملها لتمسك بحبال النجاة الوردية الحالمة..
– أتراه راجع نفسه .. سيقول لها أنه لم يكن يعنيها بالتأكيد.. ستقبل عذره هذه المرة.. وهو يواسيها بكلماته، حتى وإن كانت كاذبة، لم يعد يهم ذلك الآن.. فلا بد لها من أن تحافظ على بيتها الذي بدا لها أوهن من بيت العنكبوت!!
وما أن لمحت اسم المتصل حتى بدت لها أحلامها كسراب خانها في أشد لحظات الظمأ، رغم بعض الطمأنينة التي غمرتها لرؤية اسم أنوار، تلك الصديقة المخلصة التي تبثها همومها، وتجدها أمامها في أصعب اللحظات الحرجة. جففت دموعها وفتحت الخط أخيرا بعد أن بح صوت الهاتف من كثرة الرنين:
– أهلا أنوار..
– ما هي أخبارك يا أحلام؟ لماذا لا تردين على اتصالاتنا ؟؟ خشيت أن تكوني قد عدت إلى بلدك دون أن تسلمي علينا!! خير ان شاء الله!! منذ أن ناقشت رسالة الدكتوراة لم نعد نعرف عنك شيئا، كيف حال زوجك؟ لقد قلقت عليك كثيرا يا عزيزتي..
طال صمت أحلام التي انهمرت دموعها دون أن تدري بم تجيب به صديقتها، حتى ظنت أنوار أن الاتصال قد قطع بينهما:
– احلام ..احلام .. هل تسمعينني؟؟؟؟

وأخيرا أجابتها أحلام بصوت تخنقه العبرات:
– هل لي أن أقابلك يا أنوار؟؟
* * *
وتحت شجرة مورقة في الحديقة، جلست أنوار تستمع بكل جوارحها لمأساة أحلام وهي تعمل فكرها بسرعة في محاولة جاهدة لإيجاد الكلمات المناسبة للتخفيف عنها. أطلقت أحلام تنهيدة طويلة وهي تخفي وجهها بين كفيها قائلة:
– هذه هي حياتي.. عذاب في عذاب، لقد تحطم قلبي مرات عديدة، وعندما ظننت أنني حصلت على الحب والسعادة التي أبحث عنها، اكتشفت أنها لم تكن سوى الطعنة القاضية التي أفقدتني قلبي للأبد..
ربتت أنوار على كتفها بحنان:
– لا تقولي هذا يا عزيزتي، إنها لحظة الفرج بإذن الله، فالظلام الحالك يسبق الفجر الباسم دائما..
– هذا كلام جميل أسمعه كثيرا ولكن ماذا بقي لي!! لقد ضحيت بكل شئ من أجله، قبلت باليسير منه وتنازلت عن معظم حقوقي، وقدرت ظروفه كلها ليتم الزواج بسهولة، حتى رسالة الدكتوراة لا أدري كيف ناقشتها، وقد كنت في شغل عنها بسببه..
وأطلقت زفرة طويلة وهي تتابع:
– لا أدري ما الذي غيره، لقد تغير كل شئ بعد الزواج ، ليتني أعرف كيف اختفى ذلك الحب كله، لتتحول أيامنا إلى بؤس وشقاء، حتى أنني عندما صارحته بذلك تجرأ علي وضربني!! كنت أشعر بصدق حبه لي قبلها، فلم أكن تلك الفتاة الساذجة التي يخدعها الرجال، وقد تأكدت من ذلك عندما تقدم للزواج مني فعلا، ورضي بالسفر معي حتى أنتهي من حصولي على درجة الدكتوراة، فلم أكن لأرضى عن استمرار محادثاتنا وكلامنا من دون زواج.. صدقيني لم يكن سيئا على الإطلاق.. وأنت تعرفينني يا أنوار..
لم تنبس أنوار ببنت شفة، فلم يحن الوقت المناسب لإبداء رأيها في هذه النقطة بالذات، فتابعت أحلام:
– لم تعد تجدي محاولاتي كلها للتمسك بحبال الحب بيني وبينه، لم يعد يكلف خاطره حتى بالنظر إلى وجهي وكأنني صخرة أمامه، تقبلت الإهانات كلها أعلل نفسي بتذكر كلماته المعسولة ومراجعة رسائله السابقة، فلم أعد أعاتبه.. أكتفي بالعيش على ذكريات الماضي حتى إذا ما شعرت أن السلام حل بيننا قليلا، وظننت أننا في أحسن حالاتنا، ذكرته بحبنا القديم، وقلت له بأن أحوالنا ستتحسن بلا شك مع قدوم أطفال يملئون حياتنا بهجة وسعادة..
وبترت أحلام كلامها والحزن يقطع كبدها، إذ لم تستطع المتابعة وقد وصلت إلى أحرج جزء في قصتها. نظرت إليها أنوار بعطف:
– بإذن الله يرزقك الله الذرية الطيبة التي تعوضك عن هذا كله و تشعرك بعظيم من الله عليك..
لكن أحلام نظرت إليها والبؤس في عينيها:
– أنت لا تعرفين ماذا كان جوابه.. لقد قال بأنه من الأفضل لنا أن لا نفكر بالأطفال الآن، إذ أن علاقتنا لا يبدو لها أنها ستستمر طويلا!! تخيلي إلى أي درجة وصلت الأمور يا أنوار، لا أمل ..لقد اختفى الحب تماما..
وأجهشت باكية..
كانت أنوار تعرف تماما مدى حساسية أحلام المرهفة ورقة مشاعرها، فهي مثال للفتاة الحالمة بمعنى الكلمة، لا ترى السعادة إلا في أحلام وردية مع فارس يطير بها على حصان أبيض، و ما زالت تذكر قلقها الشديد خوفا من أن لا يتم زواجها من فارس أحلامها الذي قابلته وأحبته، وها هي قد تم لها ما أرادت فأين هي تلك السعادة المرجوة!! وجدت أنوار نفسها في حيرة من أمرها ، كيف لها أن تساعد أحلام للخروج من محنتها هذه! وأخيرا قالت:
– كيف هي علاقتك بالله يا أحلام؟
كان سؤالا مباغتا و كفيلا بتغير مجرى الحديث، حتى أن أحلام صمتت طويلا قبل أن تتهيأ للإجابة عليه، أطرقت برأسها قبل أن تقول:
– قد لا تصدقينني يا أحلام فلا يبدو علي مظاهر التدين والالتزام، فقد نشأت في أسرة بسيطة لا يحكمها غير العادات والتقاليد، ولكنني أقولها لك بصراحة، أنني أشعر بعلاقة مميزة تربطني بالله منذ صغري وفقداني لعطف أبي ورعايته، لقد كنت أشعر بقرب الله مني وعنايته بي وأنا أنتقل في هذه الحياة من مرحلة إلى أخرى، كنت أنجو من المآزق التي أتعرض لها بأعاجيب ليس لها تفسير إلا أنها العناية الإلهية، فليس لي أب يحميني، ولا جاه يضمن لي حقوقي، ولا مال يكفيني، لم أكن أجد من الجأ إليه غير الله فيما يواجهني من محن، أدعوه وأناجيه وأتحدث إليه بما يعتمل في صدري، قد لا تتوقعين سماع هذا مني وأنت تريني تلك الفتاة المرفهة التي تتصرف في أموالها كيف تشاء.. فلا أحد هنا يعرف أحلام الفقيرة المعدمة، ولم أجحد نعم الله علي يوما ولكنني أعترف بتقصيري في شكرها.. صدقيني حتى وأنا بعيدة عن تطبيق ديني وقبل التزامي بحجابي ومحافظتي على صلاتي، لم أكن لأترك مناجاة الله ، لا أبالغ فيما أقوله لك يا أنوار ولكنني سمعتها ممن حولي وهم يرون حالي ويتحدثون عني بقولهم ” هذه الفتاة التي ترعاها العناية الإلهية”
بدا التأثر واضحا على وجه أنوار التي فوجئت بما سمعته للمرة الأولى، لقد عرفت أخيرا من هي أحلام التي أدهشت الجامعة كلها بمناقشة رسالتها في الموعد الذي تريده رغم أنف الجميع، وحصولها على درجة الدكتوراة رغم كل المعوقات التي كانت في طريقها، عوضا عن نفسيتها المرهقة بسبب زوجها اثناء ذلك، أجل أنها شاهدة أيضا على العناية الإلهية التي تحيط بأحلام وترعاها، رغم السنوات القليلة التي قضتها معها، وبعد فترة صمت قالت أنوار:
– أنت طيبة جدا يا أحلام والجميع يشهد بحسن تعاملك وطيبة قلبك، ولا شك أن الله ما ابتلاك بهذا إلا لأنه يحبك، فحتى الشوكة إذا شيك بها المؤمن يحط عنه بها سيئة فما بالك بالخناجر التي تطعن قلبك! إنني لأرجو من الله أن يحط بها عنك سالف الخطايا والأوزار حتى لا يبق عليك منها شئ، فاصبري واحتسبي وأكثري من الاستغفار وأنت أدرى مني بعناية الله ولطفه بك، فلا تيأسي هذه المرة من رحمته.
كانت كلمات أنوار كفيلة بأن تنقل أحلام إلى عالم آخر، فلاحت صورا قديمة أمام ناظريها، وخيل إليها أنها غابت عن الوعي لتدخل عالما وهميا جسد لها فترات حرجة من حياتها وسط دوامة كبيرة، ورياح عاصفة، وأمواج عاتية، أصوات ونداءات مكتومة خرجت من أعماق نفسها وتردد صداها عبر السنين..
– أبي أرجوك انهض لا تترك يدي، انني بحاجة اليك..
– امي لا ترهقي نفسك بالعمل.. لا تذهبي أرجوك، انهم لا يستحقون أن تعملي في بيوتهم مقابل هذا الأجر الزهيد..
– جدتي، استيقظي ولا ترحلي عنا، فأنت الوحيدة التي تفهمني، كنت لنا نعم الحضن الدافئ في هذه الحياة..
– معلمتي.. لماذا تتخلين عني الان بعد أن كنت خير من وقف الى جانبي، لقد احببتك و تعلقت بك كثيرا فلا تتركينني وحدي.. ارجوك..
– يارب ليس لي سواك اعتمد عليه في هذه الحياة..
ثم تناهى إلى سمعها كلمات متناثرة من هنا وهناك، لم يطوها النسيان..
– كيف تحصل هذه الفتاة الفقيرة على بعثة الدولة الوحيدة التي تمنح لأول مرة، وتحرم منها ابنتي وأنا الوزير..هذا مستحيل..
من الذي يسر لي هذا..انه الله..
– منذ متى وأنتم تملكون هذه الدار الفسيحة، كيف تغيرت حالكم، لا أصدق عيناي!!
من الذي أكرمنا بذلك المال لنكون من القلة التي حصلت على التعويضات المالية والمكافآت ..انه الله..
– كيف استطعت الحصول على أوراقك يا أحلام ..في حين ضاعت معظم أوراقنا في الحرب..
من الذي سخر لي ذلك الطالب ليستخرجها لي ويخاطر بنفسه من أجل ذلك.. انه الله..
– هل حصلت على المنحة للمرة الثانية وفي دولة أخرى!! هذا مستحيل كيف حصل هذا!!
انه فضل الله..
وتتابعت الصور المتلاحقة أمام أحلام حتى رأت نفسها أخيرا وهي في أشد حالات بؤسها، وقد تقطعت حبال قلبها، فمن الذي أوحى لأنوار أن تتصل بها في ذلك الوقت بالذات لتكون سببا في إعادة رشدها اليها؟؟ انه الله، فهل آن لها أن تصل حبالها به وحده!!
*
مضت سنة كاملة على سفر أحلام وزوجها وعودتهم إلى بلادهم، بعد أن أنهت الإجراءات اللازمة لاستخراج أوراق درجة الدكتوراة كاملة. كانت أنوار في لهفة عارمة لقراءة أول خطاب تتلقاه من صديقتها بعد أن انقطعت عنها أخبارها، ولم يعد لها سبيل لمواصلتها إلا بالدعاء..
فتحت الظرف ويداها ترجفان، وقرأت:
عزيزتي أنوار
أعتذر عن غيابي الطويل عنك وعدم وفائي بوعدي بإرسال عنواني لك بمجرد وصولي، ولكن الظروف التي مررت بها كانت أقوى مني، وستعذرينني عليها بالتأكيد، فقد ساء وضعي مع زوجي أكثر ولم تعد تجدي كل محاولات الإصلاح لإعادة الوفاق بيننا حتى طلقني، كانت صفعة قوية أيقظتني من غفلتي، فلا سلطة لنا على قلوبنا بل هي ملك لله وحده وما يضعه فيها من حب أو كره، هي إما هبات وعطاءات أو ابتلاءات واختبارات، فمن أشغلته الهبة عن الواهب نزعها منه ، ومن تعلق شيئا عذب به، والله يقلب القلوب كيفما شاء..
أجل لقد كان درسا قاسيا ولكن الله لطف بي وأعانني على تجاوز محنتي لأخرج منها أصلب مما كنت، كما أكرمني بأن كشف عن بصيرتي الزيف والخداع وأراني حقيقة الحب الذي لا مراء فيه، لقد تعلمت بأن لا أعلق حبالي إلا بالله وحده، حتى أصبح شعاري؛
                   إذا صح منك الود فالكل هين    وكل الذي فوق التراب تراب
غدوت حريصة على رضا ربي أكثر من أي وقت مضى، ومنتهى أملي أن يرضى الله عني ويغفر لي ما كان مني، وبدأت حياتي من جديد في ظلال شجرة السعادة الحقيقية ( حب الله)، وها أنا الآن بفضل الله قد استلمت وظيفتي في الجامعة وسعيدة جدا بصحبة طلبتي وزملائي فهم يقدرونني ويحترمونني جدا وأبادلهم حبا بحب، وأزف لك أيضا خبر زواجي الجديد..
أجل.. لقد تزوجت من رجل شهم ونبيل يكبرني ببضع سنوات تقدم لخطبتي فور انتهاء عدتي، وتساءل الناس كالعادة ، كيف حدث هذا !! مطلقة في الثلاثينات من عمرها تتزوج من رجل أعزب ذا مال وجاه ومكانة مرموقة!! والحمد لله لا تتخيلي مدى سعادتي معه ، انه طيب جدا وحنون أيضا ويحبني كثيرا..
انه فضل الله يؤتيه من يشاء، أفلا أحب الله !! كم أحبك ياربي
وأبشرك أخيرا بأنني حامل بطفلي الأول، فادعي الله لنا أن يرزقنا الذرية الصالحة التي تقر أعيننا برضا الله..
وختاما جزاك الله خيرا على وقوفك إلى جانبي، بانتظار أخبارك والله معك يحفظك ويرعاك فرددي دوما
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، انك أنت الوهاب)
                                                                                               أختك أحلام

* * *
تمت بحمد الله
ملاحظة: القصة مستوحاة من قصة حقيقية وقد تكون الحقيقة أغرب من الخيال أحيانا..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Tags: No tags

One Response

إضافة تعليق

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني *الحقول المشار لها بنجمة هي حقول إلزامية