عاطل-عن-العمل

عاطل عن العمل

عن القصة:

سمير شاب عاطل عن العمل، يحاول جاهدًا الحصول على عملٍ دون جدوى..
حتى اكتشف في النهاية سر هام!!

التصنيف: علمي، مغامرات، كوميديا

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

عاطل عن العمل!!

قصة علمية قصيرة من ثلاثة أجزاء تفاعلية، توضح مفاهيم فيزيائية (الشغل، والقدرة، والمتجهات)

موعد-مع-المغامرة-سر-الآلة-رقم-11

مغامرات نجمة

عن القصة:

أن ينسى الإنسان محفظة نقوده أو يصاب بالإفلاس لأي سبب؛ لهو شعور مزعج حقًا ويسبب الضيق بلا شك!
ولكن بالنسبة لنجمة فالأمر مختلف! فهذا على رأيها يعني ببساطة أننا على “موعد مع المغامرة”!..
فما هي طبيعة هذه المغامرات التي تخوضها نجمة، وما سر الآلة رقم 11؟!

التصنيف: شريحة من الحياة، مغامرات

الأحلام المتحققة

الأحلام المتحققة

عن القصة:

رواية خفيفة من فصل واحد؛تمثل الجانب الأخر من “الأحلام المرسومة” التي يحلم بها المانجاكا العرب، بطاتها معلمة الفيزياء “سلمى”، الشابة الطموحة الحالمة، التي لا زالت تحب مشاهدة الرسوم المتحركة، و تهوى كتابة القصص، على أمل أن يتحقق حلمها يوما ما..

التصنيف: شريحة من الحياة، كوميديا

فريق الصقور الأصيل

 طريقه صعب طويـــــــــــــــــــــــــل

 يخفق مرة.. يفوز مرة.. فليس هنالك مستحيــــــــــــــــــــــ….

ترررررررررررررررن..

– لاااااااااااا… ليس الآن!!!

تنهدت سلمى وهي تخفض صوت التلفاز قليلا، متجهة نحو الهاتف بضيق؛ أمام إصراره على مواصلة الرنين بحماسة منقطعة النظير!!

كان هذا آخر شيء ترغب في سماعه هذه اللحظات، خاصة بعد أن تهيأت للاستمتاع بوقت فراغها- المسروق من بين كومة الدفاتر والأوراق- مع سلام دانك!!

رغم ذلك كله، رفعت السماعة لتجيب بهدوء:

– السلام عليكم، من معي؟

فجاءها صوت أنثويّ رزين على الجانب الآخر:

– وعليكم السلام أستاذة سلمى، معك الأستاذة سعاد السامر، مديرة (المدرسة الحديثة- قسم الطالبات)، أرجو أن يكون الوقت مناسبا..

عندها عدّلت سلمى هندامها بسرعة، وكأنها تقف أمام مديرتها وجها لوجه، لا سيما وأنها شعرت ببعض الذنب؛ لعدم تمييز صوتها بسرعة، رغم أنها هاتفتها مرتين خلال سنوات عملها في المدرسة:

– أهلا بك أستاذة سعاد.. الوقت مناسب جدا، تفضلي، هل من خدمة؟؟

واستمعت لصوت محدثتها باهتمام، وهي تخبرها بذلك الأمر الهام:

– في الحقيقة حاولت الاتصال على هاتفك النقّال غير أنه كان مغلقا، ورغم معرفتي بأنك مشغولة جدا هذه الأيام، إلا أن إدارة المدرسة رشّحتك لحضور مؤتمر المعلمين؛ لتمثيل قسم العلوم في مدرستنا، ونرجو منك الاستعداد لذلك فغدا سيبدأ أول أيامه كما تعلمين، ولا تقلقي فقد تم تدبر أمر التأشيرة وجواز السفر، كل ما عليك هو أن تكوني مستعدة في تمام الساعة الثامنة صباحا في باحة السكن، لتنطلقي مع وفد المعلمات المشاركات إلى المطار، وستكون العودة مساء الجمعة، فأعدّي نفسك لذلك..

وقع الخبر كالصاعقة على رأس سلمى، فأمامها تل من أوراق الاختبارات، وجبل من دفاتر الواجبات، كلها تنتظر التصحيح! وعليها إنهاء ذلك كله قبل نهاية الأسبوع؛ حتى تتمكن من تسليم درجات الفترة الأولى للإدارة، قبل إصدار الشهادات الخاصة بمائتين وخمسين طالبة!!!

فقالت بتردد:

– أنت تعرفين يا أستاذة سعاد؛ أن اختبار الفيزياء كان آخر اختبارات هذه الفترة، ولم استلم الأوراق إلا السبت، واليوم هو الاثنين، وبطبيعة الحال لم انتهي منها بعد!! في حين أن شهادات الطلبة يُفترض أن تصدر السبت القادم! فكيف لي أن أسافر قبل …

فقاطعتها المديرة بحزم:

– أنه مؤتمر هام يا أستاذة، ويمكن تأجيل كل شيء لأجله!!

همّت سلمى بسرد قائمة من الاحتجاجات الطويلة، فمن حقها الاعتراض على هذه الرحلة المفاجئة، التي تتطلب تحضيرات كثيرة، لم تعمل لها حسابا من قبل!!غير انها استدركت بسرعة:

– حسب ما أذكر أن الاستاذ سند هو من…

فقاطعتها المديرة للمرة التالية بقولها:

– أجل كان هذا هو المفترض، لكنه أصيب بنوبة برد حادة، واعتذر عن الحضور، بل وقد رشحك للقيام بهذه المهمة نيابة عنه، قائلا أن بإمكانك تدبر الأمر! وقد وافق رئيس المدرسة على ذلك، وجهّز لك كل شيء كما أخبرتك..

لم تجد سلمى شيئا تجيب به، فقد حُسم الأمر كما ترى، ولا مجال لابداء رأيها.. فالاستاذ سند هو رئيس قسم العلوم في المدرسة بقسميها (البنين/ البنات)، ورغم انها لم تكن تجتمع معه إلا عند كتابة أسئلة الفيزياء، أو لمناقشة خطة المنهج بداية العام، إلا أن كبر سنه الملحوظ- الذي يُشعرها أنه بمثابة جدها- كان كفيلا بأن يفرض عليها تقدير ظرفه واحترام كلمته..

وأمام صمتها المطبق، أعادت المديرة كلامها للمرة الثانية:

– أنه مؤتمر هام يا أستاذة، ونحن نثق بك!!

فأجابتها سلمى:

– لا مشكلة لدي، غير أنني لا أريد أن تكون الفيزياء هي السبب في تأخر شهادات الطالبات!!

فردت المديرة بنفاد صبر:

– لا بأس في ذلك، سنصدر الشهادات ونخبرهم بأن علامات الفيزياء قد تأخرت لسبب طاريء….

وصمتت قليلا قبل أن تضيف:

– ولا تنس إعداد الكلمة التي ستلقينها باسم مدرستنا يوم الافتتاح غدا، فقد اعتذر رئيس قسم اللغة عن كتابتها لاسباب خاصة!!!!

– ………………!!!!!!!!!!!؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

  لم تدرِ سلمى كيف خُتمت المحادثة بعد ذلك، فقد كان فكرها مشغولا بأمر علامات الفيزياء!!!

لقد بذلت جهدا كبيرا حتى تمكنت من اقناع معظم الطالبات؛ بأن الفيزياء هي ملكة جمال العلم الأنيقة المصونة الموقرة، ولن تسمح لكائن من كان أن يشوّه هذه الصورة الرائعة في ذهن الطالبات، مهما كلفها الأمر..

لا سيما وأنها تُدرك تماما- بخبرتها الطويلة- أن أكثر ما يثير حنق الطلبة؛ هو تأخر إصدار الدرجات، حتى وإن كانوا هم السبب في ذلك!!!! يريدون تسليم الواجب في الوقت الذي يريدونه، ويطلبون من المعلم تسليم الدرجات فورا!!! كم تمقت هذا الصنف من الطلبة!!!

كانت غارقة بأفكارها تماما، عندما انتبهت لصوت التلفاز المنخفض:

فليس هنالك مستحيل
فريق الصقور الأصيل
طريقه صعب طويل
مرر سدد لا تترد، هيا نفذ سلام دانك، سلام دانك

كاد قلبها أن يتوقف من الصدمة:

– هل هذه شارة النهاية!!! أم أن الزمن قد توقف عند شارة البداية فقط!! هل يُعقل أن المكالمة استغرقت منها وقت الحلقة كاملة، وبفواصلها الاعلانية أيضا!! لقد مر وقت طويل إذن!!

وطرق سمعها من جديد:

انتهت رحلتنا في كوكب رياضة

فأغلقت التلفاز مرددة:

– بل بدأت الآن!!!

أمامها سباق (ماراثون)، وليس سباقا عاديا؛ لتنجز كل شيء في وقته المحدد، بالطريقة التي تريدها!!

قلبت بصرها في شقتها الصغيرة، الواقعة ضمن سكنٍ خاصٍ بالمعلمات، والتي أقامت فيها منذ التحاقها للعمل بهذه المدرسة الحديثة، الشبيهة بمدينة متكاملة..

 لا يمكنها ترك الشقة هكذا!!

ولكن.. من أين ستبدأ يا ترى!!!!!

التحضير للمؤتمر وكتابة الكلمة!! أم ترتيب الشقة، وتفريغ الأواني من الطعام الزائد، وإعادتها لجاراتها اللاتي يصررن دائما على مشاركتها طبخاتهن، رغم توسلها إليهن بأن الكميات التي يرسلنها، أكثر من حاجتها بكثير!!!

 عليها جمع بقايا الطعام في حافظات بلاستيكية (تحتفظ بها لهذا الغرض)؛ لتعطيها لمن تراهم من المحتاجين في طريقها- فليس من عادتها رمي الطعام اطلاقا!!!!!

هل تتغاضى عن رغبتها في حفظ كرامة الفيزياء في عيون الطالبات، وتنسى أمر التصحيح نهائيا!!

لو أنها لا تزال طالبة فقط؛ لما اهتمت بهذا كله، فحتى أعتى اختبار يواجهها في المدرسة، ستتجاهله بسهولة في ظرف كهذا، وإن نقصت درجاتها فلن يؤثر ذلك على أحد سواها، أما الآن… فدرجات أكثر من مائتي طالبة أمانة في عنقها، والأهم من ذلك؛ أن عليها أن تكون القدوة في الالتزام بوقت التسليم، وانهاء التزاماتها نحو الطالبات بطريقة متقنة!! ليست العبرة في التصحيح فقط، بل التركيز في ذلك أيضا، فالمسائل كثيرة وطرق الحل متعددة، ولكل طالبة طريقتها الخاصة في ابتكار الأجوبة!!

وهذا كله فوق قدرتها البشرية!!!

لو أنهم أخبروها قبل يوم واحد على الأقل؛ لتداركت أمر التصحيح بسرعة، واختصرت من برامجها المفضلة على سبيس تون!!!!

لكنها سرعان ما طردت هذه الفكرة من بالها، فـ (لو) تفتح عمل الشيطان، واستغفرت الله في سرها، مرددة:

– قدر الله وما شاء فعل.. لعله خير.. يارب سهل الأمور..

وفي تلك اللحظة ارتفع صوت أذان المغرب، ليختصر عليها عناء التفكير بالخطوة الأولى.. ستصلي أولا بالطبع وتبتهل إلى الله أن يعينها، ويلهمها الصواب في ترتيب أولوياتها حتى صباح الغد!!

***

لم تكد سلمى تنهي صلاتها وتفرغ من دعاء الاستخارة بعد ركعتي السنة، حتى سمعت صوت جرس الباب، فأسرعت لتفتحه، وهي تدعو الله أن لايكون طبق طعام آخر، غير أنها فوجئت برؤية نهى، تلك الطفلة البريئة النبيهة، التي لم تكمل عامها الخامس بعد، ابنة معلمة التاريخ الطيبة، الأستاذة لبيبة، (التي كلما سمعت اسمها يتبادر إلى ذهنها تلقائيا المسلسل الكرتوني القديم (اسألوا لبيبة!!)، والذي كانت شارة بدايته؛ إيذانا بانتهاء الفترة المخصصة لمعظم الأطفال، بالطبع هذا إن كان هو المسلسل الأخير الذي سيُعرض على الشاشة ذلك اليوم، ويمكنهم بعدها، وبكل أريحية، تلبية نداء أمهاتهم، والقيام بواجباتهم، وكأن الأوان قد آن لهم لمعرفة صالحهم! أما إن كان سيتبعه مسلسل آخر؛ فستكون هذه فرصة لأخذ استراحة قصيرة، يثبتون فيها لأمهاتهم أنهم لا يضيعون الوقت كثيرا أمام الرسوم المتحركة!! فلا أحد يرغب بسؤال لبيبة أي شيء؛ فجميع المعلومات العلمية التي تذكرها؛ معروفة لهم على ما يبدو!!!!

 بالطبع هناك حالات نادرة تتم فيها مشاهدة حلقات هذا المسلسل، منها على سبيل المثال، أن يكون هو المسلسل الكرتوني الوحيد المتاح لذلك اليوم!!

وقبل أن ترد سلمى التحية، دلفت نهى إلى الشقة بحماسة، وهي تقول:

– هيا.. ألن نلعب لعبة الفيزياء المسلية اليوم؟

فهزت سلمى رأسها قائلة بلطف:

– كلا ليس اليوم يا عزيزتي فأنا مشغولة!!

غير أن نهى ردت باعتراض:

– ولكنك وعدتيني بذلك!! هذا ليس عدلا!!

فوجئت سلمى بذلك، فليس من عادتها نسيان وعد قطعته على نفسها، خاصة مع الأطفال، فهي تُدرك خطورة ذلك وأبعاده على المدى البعيد:

– أنا وعدتك؟؟؟ متى!!!

فأجابتها نهى بإصرار:

– لقد قلتِ لي أنني إذا أنهيتُ واجباتي، واستمعت لكلام أمي، وساعدتها في ترتيب المنزل، فستلعبين معي.. وقد فعلتُ ذلك كله فعلا!!

  شعرت سلمى برغبة شديدة في البكاء!! إنها مؤامرة بلا شك!!!

ما الذي ستفعله مع هذه الطفلة الآن!!!!

حاولت سلمى جاهدة أن تجد مخرجا لها، وهي تشك بنجاحه مع هذه الطفلة العنيدة، غير أنها غامرت بقولها:

– أحسنتِ بفعلك هذا، وإرضائك أمك، لكنني لم انتهي من واجباتي بعد، فهل يرضيك أن تغضب أمي مني؟؟

فضحكت نهى بمرح طفولي:

– هل تضحكين علي يا آنسة!! أنتِ كبيرة ويمكنك أن تفعلي ما تشائين، وليس مثلي!! ثم انك تسكنين وحدك هنا، ولا أحد يحاسبك!!

شعرت سلمى بثقل في قدميها على حين غرة، وتنهدت في سرها:

 – لا أحد يحاسبني!! هكذا إذن، هذا ما تراه الصغيرة!!!

وهمت بأن تقول لها: ” بأن الكبار هم من يحاسبون حقيقة، وليس الصغار، فما من كبيرة لا صغيرة إلا وتُحسب عليهم” غير أنها خشيت أن  تدخل في دوامة لا أول لها ولا آخر.. ومن يدري؛ فربما تعود نهى إلى أمها قائلة بأنه يحق لها فعل ما تشاء ولا حساب عليها!!! كلا لن تضع نفسها في ورطة يصعب إصلاحها كهذه! فلا أحد يتوقع ما الذي تأتي به أفكار هذه الصغيرة!!

وانتبهت من أفكارها على صوت نهى، التي استقر بها المقام على ما يبدو في الشقة:

– قلتِ يا آنسة أن الأشياء تسقط على الأرض لأن هناك قوة تجذبها، أليس كذلك؟

أومأت سلمى برأسها إيجابا، وقد خطر ببالها أن تستغل الفرصة، في ترتيب المطبخ وتنظيفه، فاتجهت إلى هناك لتبدأ عملية افراغ الطعام، مُشيرة إلى نهى أن تتبعها، لتتحدثان هناك، فيما تابعت نهى كلامها قائلة:

– لقد قلتُ هذا لأمي يوم أمس غير أنها لم تصدقني، بل وعاقبتني أيضا!

أثار الكلام فضول سلمى فسألتها باهتمام – دون أن تدري لماذا تبادر إلى ذهنها “غاليلي غاليلو” في هذه اللحظة بالذات:

– قلتِ لها ماذا؟؟

ردت نهى بحماسة:

– عن القوة التي تجذب الأشياء..

فهزت سلمى رأسها لا يعقل أنها عاقبتك لهذا السبب وحده، أخبريني ما الذي حدث بالتفصيل..

فقالت نهى باندفاع:

– بينما كنت أحمل ابريق الماء الزجاجي، سقط من يدي على الأرض، فقلت لأمي أن هناك قوة جذبت الابريق الى الاسفل وكسرته، ولا دخل لي بذلك، لكنها عاقبتني!!!

كادت سلمى أن تنفجر من الضحك غير أنها، بذلت جهدا كبيرا لتقول بوقار:

– يبدو أنك لم تعرفي طبيعة هذه القوة بعد!!

فنظرت إليها نهى باهتمام، فيما تابعت سلمى موضحة:

– هذه القوة لا تجذب الابريق إلى الأسفل وتكسره؛ إلا إذا أفلتيه من يدك، ولهذا السبب عاقبتك أمك، ليس لأنها لم تصدق بوجود القوة، بل لأنك سمحتِ لها بجذب الابريق!!

هزّت نهى رأسها علامة التفهم، لكنها سرعان ما قفزت إلى سؤال آخر:

– هل شاهدتِ “المخترع الصغير” اليوم؟

لم يكن بإمكان سلمى الانكار، فقد كان أول فلم كرتوني تشاهده اليوم على سبيس تون، فور عودتها من المدرسة!

فردت بالايجاب، وهي تفرغ محتويات آخر صحن في الثلاجة، وتجمعها في الحافظة البلاستيكية، فتابعت نهى:

– ما رأيك أن نخترع آله زمن مثله، فأنت معلمة فيزياء وتعرفين كل شيء!

من لطف الله بسلمى، أن جرس الباب قد دُق في تلك اللحظة، فصرخت نهى بفزع، وهي تلف وتدور في الشقة كمن يبحث عن مكان يختبيء فيه:

– لاااااااا ، هذه أختي الكبيرة أرسلتها أمي لتأخذني، أرجوك يا آنسة أخبريها أنك تريدين مني البقاء!!!

لم تعلّق سلمى بشيء؛ فقد كانت ترجو بالفعل أن يأتي من يأخذها، ليس لأنها لا تحب صحبتها، فهي بالنسبة لها؛ مرتعا خصبا لأفكار خلّاقة لا تخطر ببال، ولكن الوقت غير مناسب الآن..

وبالفعل حُلّت المشكلة بسلام، وبأقل الأضرار الممكنة، بعد شد وجذب، ومحاولات مستبسلة في الاقناع! غير أنها لم تكد تدلف إلى المطبخ لتسرع في إنهاء عملها، حتى انتبهت لصوت الآذان، ليحين دورها في البكاء:

– لاااااااااا… لقد أذّن العشاء ولم أفعل شيئا يُذكر بعد!!!

 لقد بكت حقا هذه المرة، بل وأجهشت بالبكاء!!!

ولسان حالها يردد بحرقة:

” أنــــــــا جرح الزمـــــان… أنــــا قصة انسان.. أنا سالي سالي”

***

   جلست سلمى على سجادتها بعد أن أدت صلاة العشاء، تستغفر وتراجع حساباتها، والدموع تنساب على وجنتيها بصمت، كان بودها لو تعرف الذنب الذي أدى بها إلى هذا الحال.. لدرجة أنها لم تعد قادرة على التفكير السليم!!

وسرعان ما تذكرت انها لم تُخبر والدتها بأمر المؤتمر بعد، فرغم أنها لا تتأخر عن إطلاعها بالأحداث الهامة التي تواجهها، إلا انها هذه المرة بالذات، تأخرت أكثر من المعتاد بالنسبة لحدث هام كهذا!!

 حاولت الاتصال بهاتفها النقال من هاتف المنزل لتبحث عنه، فهاتف المنزل لا يسمح بإجراء مكالمات خارجية، إلا انه كان مغلقا!! لقد أخبرتها المديرة بذلك فعلا!! لا بد أن البطارية فارغة، وعليها أن تعثر عليه حسب الطريقة التقليدية في إيجاد الأشياء!!

كان بحثا مضنيا وكأن هذا ما ينقصها!! ولولا أنها حريصة على قراءة سورة البقرة كل ثلاثة أيام في شقتها، لجزمت بأنها مسكونة بالشياطين!! وإلا.. فمن يمكنه أن يُخفي هاتفها هكذا، ولا أحد سواها في الشقة!!!

 جلست على أقرب كرسي أمامها، لتفكر بعمق.. وتحاول استذكار آخر مرة رأت فيها هاتفها، والأماكن المحتملة لتواجده.. فقد كانت هذه طريقة أختها في إيجاد الأشياء!

مهما يكن، على الأقل يظل ضياع الهاتف أهون من ضياع نظارتها الطبية، الذي يُعدّ حدوثه أمرا “كارثيا” بمعنى الكلمة!!! خاصة وأن البحث عن (النظارة)؛ يتطلب بحد ذاته ارتداء (نظارة) بالنسبة لها!!

وما أن طرق هذا الخاطر فكرها، حتى تحسست نظارتها بسعادة، مرددة:

– الحمد لله.. 

 ونهضت لتستأنف البحث، ولسانها يردد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن قعت عيناها على تلك اللوحة المعلقة في صدر الصالة، والتي تحوي بيتين من الشعر بالخط الكوفي الجميل:

“أدم الصلاة على النبي محمد.. فقبولها حتما بدن تردد

أعمالنا بين القبول وردها.. إلا الصلاة على النبي محمد

صلى الله عليه وسلم”

 وما هي إلا لحظات حتى اتخذت قرارها بترتيب مكتبها، وتنظيم الدفاتر والأوراق فوقه ليسهل تصحيحها، استثمارا للوقت، غير أنها لم تكد تفعل ذلك حتى عثرت على هاتفها داخل أحد الدفاتر؛ لقد تذكرت أخيرا أنها وضعته كعلامة تشير إلى حيث وصلت في التصحيح؛ قبل أن تقوم مسرعة لمشاهدة سلام دانك!!!!!

وهكذا تابعت الترتيب ريثما تُشحن بطارية هاتفها، فمن الخطورة استخدامه هكذا!! ففرزت الأوراق المتبقية حسب النماذج، وتفحصت بعضها بسرعة، ممنية نفسها بأنها لن تستغرق منها وقتا طويلا، فمعظم طالبات هذه الشعبة متفوقات، لا مشاكل معهن، ومن الممكن أن تضع للواحدة منهن علامة كاملة بنظرة سريعة! غير أن مزاجها سرعان ما تعكر، برؤية بعض “التخاريف” التي ما أنزل الله بها من سلطان!! وحدثت نفسها:

– لماذا تصر بعض الطالبات على هذا الاستفزاز؟؟؟؟.. هداهن الله!!!

 ثم وجدت أنها لو استراحت من الدفاتر أولا، لكان أفضل…

لم تشعر سلمى بمرورالوقت حتى انتبهت على صوت هاتفها؛ فأسرعت ترد عليه بعد أن رأته يومض برقم والدتها:

– وعليكم السلام أمي، كنت سأتصل بك ريثما ينتهي شحن الهاتف، كيف حالك وكيف حال أبي؟

فجاءها صوت والدتها بانفعال:

– الحمد لله نحن بخير، والدك نائم فقد بقي في العمل لوقت متأخر وكان مرهقا جدا، لكن ماذا عنك، شعرت بالقلق فجأة وقلتُ خيرا إن شاء الله!!

وكأن سلمى لم تكن تنقصها سوى هذه الجملة؛ لتنفجر بعدها بكل ما حدث معها اليوم، مع وصف الكم الهائل من الضغوط التي تكاد تسحقها سحقا..

لم تكد سلمى تُفرغ شكواها في أذن أمها، حتى انهمرت جمل التأنيب واللوم في أذنها بغزارة ودون توقف:

–  اليوم هو الاثنين، وحسب علمي فإن اختبار الفيزياء كان السبت؛ ويُفترض أنك استلمت أوراق الاختبار ظهر ذلك اليوم، وباشرتِ تصحيحها فورا!!!! فما الذي كنتِ تفعلينه طوال تلك المدة!!!!!! لا أستبعد أنك قضيتِ الوقت كله أمام سبيس تون!!! كم مرة أخبرتك أن تبدئي بالتصحيح فورا!!! قلتُ لك ألف مرة؛ لا أحد يدري ما قد يحدث معه في الغد!!! لا تقولي أنك لم تنتهي من تصحيح الدفاتر أيضا؟؟؟؟

ترددت سلمى قبل أن تواجه مصيرها المحتوم وهي تقول:

– حسنا.. بعض الطالبات تأخرن في تسليمه، فأعطيتهن فرصة لوقت الاختبار، وإلا فقد أنهيتُ تصحيح الدفاتر سابقا ولكنني..

غير أن والدتها قاطعتها لتستأنف سلسلة اللوم والتوبيخ:

– ماذا تتوقعين من الطالبات إن كانت أستاذتهن تضيع الوقت أمام افلام الكرتون!! عليك أن تعرفي كيف تديرين مسؤولياتك بالطريقة الصحيحة، فقد أصبحتِ كبيرة بما يكفي لتعتمدي على نفسك!!!

انسابت الدموع غزيرة من عيني سلمى، فقد زاد عليها خيبة أمل والدتها بها وهي الحريصة على إرضائها دائما، فجاهدت لتقول:

– أرجوك أمي.. اعترف بخطئي ولكنني بحاجة لدعواتك الآن، صدقيني ليس الأمر كما تظنين فقد اختصرتُ كثيرا من (الكرتونات)، ولم أعد اتابع سوى القليل منها!!

قالت جملتها تلك، وأخذت تستعرض أسماء ما تتابعه في ذهنها سريعا:

“أجنحة كاندام، النمر المقنع، أنا وأخي، أبطال الديجيتال، سلام دانــ..”

تسارعت نبضات قلبها، القائمة ستبدو طويلة فعلا إن تابعت العد، يجب أن تحذف منها سلام دانك على الأقل، فهي لم تشاهده اليوم بطبيعة حال! وجاءها صوت والدتها على الطرف الآخر:

– رغم أنني أشك بكلامك هذا، لكن يُفترض في حالتك هذه أن لا تشاهدي شيئا حتى تُنهي ما بيدك من مسؤوليات؛ بدلا من الاكتفاء بالاختصار وحسب!! ثم عليك الاهتمام بأمر عيناك قبل كل شيء، أم أنك تريدين ارتداء نظارة أخرى فوق نظارتك- لا قدر الله!!

حاولت سلمى تبرير موقفها قدر المستطاع:

 – قدر الله وما شاء فعل، وسأحاول في المرة القادمة أن أكون أكثر حرصا، لكن الآن أرجوك ادعيلي، فأنا بحاجة لرضاك علي لتسهيل الأمور، خاصة وأنني لستُ المسؤولة عما حدثــ…

فيما تابعت أمها سلسلة اللوم والتأنيب:

– لا تخدعي نفسك بأنك غير سعيدة لأخذ دور سوبرمان في الأزمات!! ألستِ من يتطوع دائما للإشراف على الانشطة الطلابية، وتنظيم الحفلات وإقامة الندوات، وإلقاء الخطابات و(الفلسفات)….

– أرجوك أمي….

– عليك أن تتحملي النتائج!!

لم تجد سلمى بدا من سماع ذلك كله، فهي بحاجة لرضا أمها بأي وسيلة ممكنة، فقالت باستجداء:

– حسنا أمي معك الحق، لكن أليس من الأفضل أن نناقش الحل الآن؟؟؟

وبسرعة جاءها الجواب الحاسم:

– لا يحتاج الأمر إلى تفكير، أولا جهّزي حقيبة السفر؛ فإنني أراهن أنك نسيتِ أمرها وهي أهم ما عليكِ فعله، إبدئي فورا بذلك بمجرد انهاء المكالمة، وإلا فما الذي ستفعليه في الأيام الاربعة القادمة دون حاجياتك!!!

وإياك أن تتركي الشقة متسخة، أو دون ترتيب، فلا أحد يدري ما الذي قد يحدث معه! بعد ذلك اكتبي كلمة تؤدي الغرض بسرعة، أو يمكنك كتابتها في الطائرة، ولا داعي للفلسفة والحذلقة والاستعراض فيها، احذري من العُجب والغرور، فلولا لطف الله بك لما كنتِ شيئا يُذكر!

كانت سلمى تهز رأسها موافقة على كل كلمة تقولها أمها، وهي تردد -كلما أُتيحت لها الفرصة- كلمات من نوع :

– حاضر.. إن شاء الله… سأفعل … اطمئني…

فيما تابعت أمها:

– لا ترهقي نفسك بالسهر فصحتك أولى، ولا تنسي الأذكار المسائية والصباحية وقبل النوم، وأكثري من الاستغفار والصلاة على النبي..

فرددت سلمى:

– صلى الله عليه وسلم، إن شاء الله سأحاول فعل كل ما قلتيه، هذا وعد إن شاء الله، ولكن ماذا عن التصحيح، هل أتجاهل أمره؟؟

فأجابتها أمها بحزم:

– أفضّل أن تنهي مسؤلياتك طبعا، لكن بما أن الوقت تأخر، فنامي واستيقظي قبل الفجر كما كنتِ تدرسين أيام الامتحانات النهائية، وأسأل الله أن يبارك في وقتك وجهدك…

كانت جملتها الأخيرة تلك؛ كفيلة بإزاحة جبل من الهموم عن صدر سلمى، فهتفت بمرح:

– اطمئني امي، إن شاء الله سأكون عند حسن ظنك، فكثّفي من دعواتك الطيبة لو سمحت..

وقبل أن تُنهي المكالمة، سمعت همهمة على الجانب الآخر، قالت أمها على إثره:

– معك عبد الله، يقول أنه يريد إخبارك بأمر هام…

وبسرعة جاءها صوت أخيها الصغير، ذي الاربعة عشر ربيعا، بحماسته المعهودة:

– السلام عليكم سلمى، هل عرفتِ أن كونان سيعود لطبيعته سينشي في الحلقة القادمة التي قد تكون الأخيرة؟

فهتفت سلمى بانفعال:

– حقا!!!! هل أنت متأكد؟؟؟ ربما هي محض إشاعات كالعادة، لقد شاهدتُ آخر حلقة على سبيس تون، ولم يذكروا أن هذا ما سيحدث في الحلقة القادمة!!

وبدلا من أن تسمع سلمى رد عبد الله، سمعت صوت والدتها وهي تجذب الهاتف منه موبخة:

– أهذا وقت كلام كهذا!!! ظننتك ستسألها في درس الفيزياء!!!! إذهب وضع عقلك في رأسك!!!!

فيما أكملت توجيه كلامها للجانب الاخر من الهاتف:

– والكلام نفسه لك يا ابنتي، اذهبي بسرعة وركّزي في أمورك هداك الله…

شعرت سلمى بنوع من الذنب، فهي بالكاد استطاعت أن تُثبت لأمها أنها حسنة السيرة والسلوك فيما يختص بأفلام الكرتون، فختمت حديثها بوعد صادق، أنها ستبذل جهدها لفعل كل ما هو مطلوب منها على أكمل وجه..

***

شعرت سلمى بانشراح كبير لفكرة امها، ولم تدرِ كيف لم تخطر ببالها أصلا! فإذا كانت “كمية” الساعات المتوفرة لا تكفي لإنجاز أعمالها؛ فعليها أن تفكر بـ “النوعية” الجيدة والمناسبة لكل “مهمة”..

فلا أفضل من ساعات “السحر والفجر” للعمل والانجاز، ولن تجد أفضل من ساعات “بعد العشاء” للنوم وتخزين الطاقة! وبالاستثمار الصحيح لكلتا النوعيتين من الساعات؛ ستحقق أفضل النتائج بإذن الله…

ابتسمت برضا وهي تضع اللمسات (الترتيبية) الأخيرة على المطبخ والشقة بشكل عام، فقد أنجزت جزءا كبيرا من ذلك أثناء وجود نهى، ولسانها يلهج بالذكر والدعاء:

– اللهم بارك في وقتي وجهدي..

وعقلها مشغول بأمر الزمن!!

كم كان بودها أن تكتب بحثا مفصلا عن نسبية الزمن، تمدده وتقلصه، علميا وفلسفيا وتجريبيا ودينيا!! أوليس مفهوم “البركة في الوقت” هو أمر معروف لدى المسلمين دينيا! ألم نسمع كلام حبيبنا صلى الله عليه وسلم؛ “اللهم بارك لأمتي في بكورها”!! ومفهوم البركة بلا شك؛ يتضمن فكرة “تمدد الزمن”!

ومن لطف الله بها، أن الليل طويل في مثل هذا الوقت من السنة؛ فقد أنهت كل ما اقترحته أمها عليها دون أن تتجاوز الساعة التاسعة والنصف!!!

 حقا.. “الشتاء ربيع المؤمن”!!!

لم تنسَ سلمى إعداد حقيبتها بسرعة؛ قبل أن تغط في نوم عميق، ولم يكن ذلك يحتاج منها أكثر من بضع دقائق!! فهو أسرع عمل يمكنها إنجازه في حياتها كلها، فجميع ملابسها متشابهة شكلا ولونا، وما عليها سوى نقل ثلاث نسخ من ملابس الخروج إلى حقيبتها بسرعة، في حين أنها أعدت النسخة الرابعة لترتديها صباح الغد!! بالطبع سترتدي فوقها جلبابها المفضل، الذي تملك منه نسخة واحدة أخرى فقط، لأنها لم تعثر على نسخة ثالثة في المحل!! فهو من نوعية ممتازة، لا تبلى بسهولة، ويمكن أن يخدمها عدة سنوات!!! بالطبع لم تنسَ إضافة نسختين من ملابس النوم!!! فمن المؤسف أنهم لم يتمكنوا حتى هذه اللحظة من تصميم ملابس تصلح للنوم والخروج في الوقت نفسه!! ولكن لا بأس.. فحتى الشخصيات الكرتونية تبدل ملابسها عند النوم!!

 لطالما ظن البعض – ممن لا يعرفون طبعها- أنها لا تملك سوى لباس واحد فقط! بل إن هناك من ربط هذا بـ “التدين”!! لدرجة أنها كادت أن تتخلى عن طبعها؛ لكثرة ما أعادت كلامها – مرارا وتكرارا- لتوضيح أن ما تفعله أمر شخصي بحت، ولا علاقة للدين به من قريب أو بعيد، فقد كانت من النوع الذي يكره التغيير الدائم للمظهر العام؛ واللباس الذي يريحها تشتري منه عدة نسخ مكررة تكفيها طوال العام!!!!!!!

وبالطبع لم تخبر أحدا أن ما تفعله يكاد أن يكون كسلا لا أكثر!!

فإذا عثرت على ملابس مناسبة، فلماذا تُتعب نفسها بالبحث عن قطع أخرى، خاصة وأن العثور على ملابس فضفاضة، من النوعية التي تفضلها، أصبح صعبا هذه الأيام!! ومن ثم لماذا تتعب تفكيرها بعد ذلك بانتقاء ما سترتديه كل يوم!!! أليس هذا مضيعة للوقت!!!!! ثم ألا يدل هذا على ذوق رفيع!! وإلا فما بال معظم الشخصيات الكرتونية ترتدي الملابس نفسها من الحلقة الأولى وحتى الأخيرة!!!!

 ومن المفاجآت اللطيفة، اكتشافها ذات مرة؛ أن “برنارد شو” كان يفعل الشيء نفسه!!! مما دعّم حجتها بأنه أمر شخصي لا علاقة للدين به، فالاسلام حسبما تعرف، لم يطلب منا أكثر من أن تكون ثيابنا نظيفة ومرتبة ومحتشمة، دون اسراف أو تبذير، بما يُرضي الله عنا، ولكل فرد حرية الاختيار بعد ذلك ضمن هذه الحدود..

***

فتحت سلمى عينيها قبل أن يبدأ المنبه بالرنين، فرمقت الساعة بابتسامة رضا، انها الواحدة وخمس وأربعون دقيقة بعد منتصف الليل؛ لديها خمس ساعات على الأقل من النوعية الممتازة، فنهضت بنشاط وحيوية ولسانها يردد:

– الحمد لله الذي أحياني بعد أن أماتني وإليه النشور..

توضأت وصلّت ركعتين خفيفتين، دعت الله في سجودهما أن يسهل عليها التصحيح، الذي باشرته فورا بعد ذلك..

كانت الأوراق تنساب بين يديها بسهولة، فمعظم الخطوط واضحة، والاجابات صحيحة؛ مما أعطاها دافعا اضافيا للمتابعة بحماسة، بل انها كانت تستمتع ببعض الأجوبة المميزة، لا سيما مع ورقة حنان، تلك الطالبة العبقرية، التي تفاجئها دائما بطرقٍ فريدة في الحل! ولولا أنها لا تملك من الوقت ما يسمح لها بالاستغراق أكثر في ورقتها؛ لما فرغت من ذلك حتى اليوم التالي! فاكتفت بوضع العلامة الكاملة، على أمل أن تعود للتأمل في تلك الأجوبة المبدعة في وقت لاحق، وقلبها يدعو لها بالمزيد من التوفيق والتميز، وأن يجعلها الله ممن ينهضون بهذه الأمة..

وهكذا.. بدأ تل الأوراق يتضاءل تدريجيا، بين دعوة لهذه بالتوفيق، ودعوة لتلك بصلاح الحال، ودعوة لأخرى بالهداية والمغفرة؛ غير أن شهقة صغيرة أفلتت من حلقها، وهي تطالع ورقة أريج!! الطالبة الخلوقة المجتهدة، والمفضلة لديها من بين جميع الطالبات!! وتمتمت بألم وهي تستعرض الأجوبة الخاطئة:

– لماذا يا أريج!! لقد كان أداؤك رائعا أثناء الحصص!! من المستحيل أن يكون هذا هو مستواك!!!!

ولم تستطع سلمى لوهلة؛ إكمال تصحيح ورقتها، لقد كان ذلك مؤلما حقا!!!

عندها تذكرت حديثا سمعته قديما، ولم تشعر بمعانيه إلا الآن!! أن أعمالنا تُعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد حسنا حمد الله، وإن وجد سوءا استغفر الله لنا..

لم يخطر ببالها وقتها، استشعار المعاني العظيمة فيه كما تستشعرها هذه اللحظة بالذات!!! ورغم انها لا تعرف درجة صحة الحديث، غيرأن التفكير في معانيه كان كافيا لها لمراجعة حساباتها! هل فكرت يوما كيف هو عملها الذي سيُعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم!! هل سيسر برؤيته؟؟ هل سيحمد الله أن وجدها ممن يحملون رسالته، ويبلغون دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة؟؟ والأهم من ذلك كله.. أن يكون قلبها سليما، وسريرتها صالحة، وتعمل بما تقول!! فإذا كان المعلم البسيط يفرح بإحسان تلميذه ويستاء من إساءته؛ فكيف بمعلم البشرية، ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم!!!

ودمعت عيناها تأثرا:

– يارب اغفر ذنبي، واستر عيبي، ولا تُري مني نبيي إلا خيرا؛ يُثلج صدره، ويقر عينه، وأكرمني بشفاعته يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.. يـــــــــارب..

لم تدرِ سلمى كم مر عليها من الوقت، وورقة أريج بين يديها، غير أنها استدركت نفسها أخيرا؛ فتابعت تصحيح الورقة، وقلبها يدعو لطالبتها العزيزة بأن يعوضها الله خيرا، فلولا خشية الله، الذي يراقبها في السر والعلن، لمنحتها درجات إضافية متغاضية عن أخطائها، لكنها أمانة ومسؤولية، وعدل سيحاسبها الله عليه إن أخلّت ميزانه..

وقبل أن تنتقل لورقة أخرى، ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها، وهي تقرأ الملحوظة الصغيرة في هامش الصفحة الأخيرة من الورقة:

” أشعر بالخجل الشديد منك أستاذة سلمى، أرجوك سامحيني فأجوبتي ليست مقياسا لشرحك الرائع وجهدك المبذول معنا، لكنني لا أدري ما الذي جرى لي فجأة.. شكرا جزيلا لتعبك من أجلنا، وإن شاء الله سأبذل جهدي لتعويض ذلك في المرات القادمة”

كان هذا كفيلا بإعطائها دافعا جديدا، للمتابعة بشحنة إضافية من العزيمة على تحقيق الهدف، فحمدت الله كثيرا، وهي تستأنف التصحيح من جديد…

***

 ارتفع صوت أذان الفجر مع انتهائها من تصحيح الورقة الأخيرة…

فشبكّت أصابعها، و (مطّت) ذراعيها بتنهيدة طويلة:

– الحمد لله…

ورددت مع الآذان وهي تستعد لصلاة الفجر بسرعة؛ فما زال أمامها تصحيح الدفاتر، ومن ثم رصد الدرجات، وقبل ذلك لا بد لها من مراجعة التصحيح والجمع!! خاصة وأنه لا أحد يراجع الدرجات خلفها في المدرسة؛ مما يضاعف مسؤوليتها أمام الله..

 وبعد أن صلّت الفجر، وقرأت أذكار الصباح – كما وصّتها أمها- استعرضت كشف الدرجات بنظرة عامة؛ من لطف الله بها انها رصدت معظم درجات الدفاتر سابقا، ولم يتبق أمامها سوى خمسون خانة فارغة في قسم “درجة الواجب”، التي تقابل جبل الدفاتر أمامها، والعائد للطالبات المتأخرات في التسليم، بعد أن منحتهن فرصة اضافية، على أمل ترسيخ المعلومات العلمية في أذهانهن!!

التقطت نفسا عميقا وهي تختلس النظر إلى الساعة أمامها؛ السادسة إلا خمس دقائق! ليتها تملك ساعة مثل ساعة مباراة الكابتن ماجد ضد بسّام! غير أنها سرعان ما طردت الفكرة من رأسها مسمية بالله؛ كمن يستعد للانطلاق على دراجة نارية ملتهبة:

– بسم الله توكلتُ على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله..

 لتبدأ بعدها تصحيح الدفاتر بحماسة.. فرغم أن عدد الأسئلة في الدفتر أكثر من عددها في الاختبار؛ لكن نسبة الخطأ هنا أقل! هذا بالاضافة إلى أنها اعتادت على التصحيح السريع أولا بأول خلال الدراسة، وما عليها الآن سوى عمل تصحيح شامل للتأكد من أن الأخطاء قد تمت مراجعتها من قِبَل الطالبات، لتقدّر بعدها العلامة النهائية المستحقة لكل طالبة..

***

انتبهت سلمى على صوت المنبه قبل أن تتناول الدفتر قبل الأخير! الساعة السادسة والنصف، وهي لم تراجع أوراق الاختبار، ولم ترصد الدرجات بعد، ثم إن عليها أن تقوم بتسليم الكشف للمدرسة قبل السفر، أي قبل الساعة الثامنة؛ وإلا فإن جهودها ستصبح بلا معنى!! ورغم التوتر الذي شعرت به؛ إلا أنها حاولت الاسراع في تصحيح الدفترين الأخيرين..

” يا مستعجل وئّف لهؤلّك!!”؛ مثل مشهور في بلادها! نصّه بالعربية الفصحى: ” أيها المستعجل: قِف؛ لِأقول لك شيئا!”، ورغم أنه يعبر عن ضيق المستعجل بما يعيقه عن متابعة حركته، إلا أنها طبقته حرفيا بعد أن انتهت من الدفاتر!! فقد حملقت قليلا في الساعة وغرقت في تفكير عميق؛ ما الذي عليها فعله حقا!

هل تتنازل عن مراجعة الدرجات، وتبدأ برصدها فورا لتتمكن من تسليمها للمدرسة! لا سيما وانها قد عملت في حسابها أن تأخذ معها ما جمعته من بقايا الطعام في الحافظات البلاستيكية، فهي دائما ما تقابل في طريقها بعض المحتاجين ممن يقتاتون على جمع العلب المعدنية من الحاويات! لا تزال أمامها مهمة إعادة الأطباق الفارغة للجيران، والمشي إلى المدرسة يستغرق عشر دقائق، هذا إن ذهبت هرولة!  بالطبع عليها أن تضاعف تلك المدة لأنها ستحتاج مثلها عند العودة، فالحافلة المتجهة إلى المطار ستأخذها من باحة شقق المعلمات السكنية!!

شعرت بحاجة ماسة لسؤال أحدهم، وطلب المساعدة!

– يــــارب ساعدني!!

عندها أخذت نغمات قديمة تدندن في رأسها:

“أنا لبيبة.. اسألوني

اسألوا اسألوووووووووووني

عندي لكل سؤال جواب..

اسألوا لبيبـــــــــــــة”

كيف لم تخطر ببالها جارتها الطيبة، والدة نهى، الاستاذة لبيبة!!

لقد آن أوان سؤالك يا لبيبة!!!

نظرت إلى الساعة فوجدتها: السادسة وسبع وثلاثون دقيقة فقط!!

من الرائع أن ذلك “المونولوج” الداخلي؛ لم يستغرق منها أكثر من ثوانٍ معدودة، لقد فهمت أخيرا سر الكابتن ماجد!!!

اتخذت قرارها بسرعة، سترصد درجات الدفاتر أولا، ومن ثم ستراجع أوراق الاختبار، بعد ذلك ستعطيها للاستاذة لبيبة مع كشف الدرجات، وتطلب منها تسليم ذلك للإدارة ليتولوا مسؤولية رصد درجات الاختبار، بالطبع ستحادث مديرتها عندما تستقر أمورها، وبالتأكيد ستقدّر الموقف! ما يهمها الآن هو أن تبدأ بتنفيذ خطة الطواريء هذه  قبل أن تذهب الاستاذة لبيبة إلى المدرسة، فعادة ما تبدأ الاستاذات بالتحرك من السكن؛ في السابعة والربع، وأمامها الآن نصف ساعة وثمان دقائق!! وهكذا انطلقت بمحركٍ نفاثٍ جديد، فهذا سباق مع الزمن، ولا مجال للتراجع!!

***

– الحمد لله رب العالمين..

قالتها سلمى وهي تسترخي على مقعدها للحظة واحدة، بعد أن أنهت رصد درجات الدفتر، ومراجعة أوراق الاختبار.. ومن فضل الله عليها؛ أنها لم تجد سوى خطأ واحد في ورقة احدة؛ نسيت فيها أن تضيف ربع درجة للعلامة النهائية! فأضافتها، وهي تشعر بتأنيب ضمير شديد، نحو تلك الفكرة التي كادت أن تسيطر عليها بالاستغناء عن المراجعة!!!

الساعة السابعة و ثلاثة عشر دقيقة!

ارتدت غطاء الصلاة بسرعة، وهرعت نحو الباب، خشية أن تكون الأستاذة لبيبة قد بكّرت في ذهابها إلى المدرسة، وما أن فتحته حتى وجدتها أمامها بانتظار المصعد، فالتقطت أنفاسها وهي تقول باندفاع:

– السلام عليكم أستاذة لبيبة، الحمد لله أنني أدركتك!! لحظة من فضلك أرجوك..

وأسرعت للداخل، لتضع أوراق الإختبار في مظروف خاص مع كشف الدرجات، ثم ناولته للأستاذة لبيبة، التي أخذت تحملق فيها بدهشة:

– خير إن شاء الله! ماذا حدث يا سلمى؟؟ ألن تذهبي إلى المدرسة اليوم؟؟

فشرحت لها سلمى على عجالة ما حدث معها، ولم تكن تحتاج لمزيد من التوضيح بشأن درجات الفيزياء؛ فقد ابتسمت لبيبة مُطمئنة:

– حسنا لا بأس، إن شاء الله سيكون كل شيء على ما يُرام، توكّلي على الله، ولا تُشغلي بالك..

وصافحتها قائلة:

– انتبهي لنفسك يا سلمى، ولا تنسينا من دعائك، فأنت في طريق سفر، “أستودع الله دينك وآمانتك وخواتيم أعمالك”..

وردت عليها سلمى، بعد أن انزاح هم ثقيل عن كاهلها:

– ” أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه”، وأنت أيضا لا تنسيني من دعائك أستاذة لبيبة، وجزاك الله خيرا كثيرا لكل شيء..

حقا كما يقول المثل: “أرسل لبيبا ولا توصه”!!، إنها فعلا لبيبة واسم على مسمى.. وهذا من فضل الله عليها فالحمد لله أولا وأخيرا!!

***

شعرت سلمى بحاجة ماسة للراحة؛ فاستلقت على سريرها قليلا، قبل أن تنهض لتتابع سباق “الماراثون”، فأمامها خمس وثلاثون دقيقة فقط، وعليها أن ترتب سريرها وتستحم بسرعة، وتعيد الصحون لجارتين من جاراتها، الأولى في الطابق العلوي، والثانية في الطابق الأرضي، ومن فضل الله عليها أنها أعادت صحون الاستاذة لبيبة مع نهى وأختها ليلة أمس!

غير أنها تذكّرت فجأة أنهن معلمات وقد ذهبن جميعا لدوام المدرسة!

فاستدركت:

– حسنا لا بأس.. سأتركها عند الحارس إن شاء الله..

وفي غضون ثمان دقائق؛ أخذت حماما دافئا، أقرب للبرودة منه إلى السخونة، ثم لفّت شعرها بمنشفة خاصة، لها قدرة عالية على الامتصاص، إذ لم تكن معتادة على استخدام مجفف الشعر الكهربائي، ولم تكلف نفسها عناء الحصول على واحد أصلا! ثم سارعت بارتداء ملابسها، واستدركت اضافة ثلاثة أزواج من جواربها القطنية البيضاء، في الحقيبة، بعد أن ارتدت واحدا، وهمّت بالاستفادة من خاصية حجابها لهذا اليوم فقط، وتأجيل تمشيط شعرها لوقت لاحق، عندما تصل غرفتها في الفندق مثلا، غير أن جملة والدتها الشهيرة، انتصبت متجسدة أمامها بقوة ووضوح:

– “الحجاب عبادة تتقربين بها إلى الله، وليس ذريعة للكسل!”

فأسرعت تتناول مشطها بتحدي، كمن يدخل معركة لا مناص منها، ولولا خشيتها من تكرار مأساة شخصيتها المفضلة “جو” من مسلسلها الكرتوني المفضّل “نساء صغيرات”؛ لقصّت شعرها منذ وقت طويل!!! وأخذت تشجع نفسها بترديد أغنية الاطفال القديمة:

مشّط شعرك يا قمر

بالصابون والحجر

وينك يا قمر؟؟

بمشّط شعريـ…

آآآآآآآآآآآآآآآآه

صدرت منها صرخة الألم تلك على حين غرة، بعد أن علق المشط في شعرها المتشابك؛ بينما كانت تجذبه بشدة! فالتقطت نفسا عميقا وهي تحدث نفسها مهدئة:

– استغفر الله.. يبدو أنه لا قمر ولا حجر ولا يحزنون، (يا قاتل، يا مقتول)!!

هذا مثل مشهور في بلدها أيضا؛ يعبر عن عدم التراجع في (معركة حاسمة)، فإما قاتل أو مقتول!!!!!

أخذت سلمى تحاول إعمال المشط في شعرها بحكمة أكبر، ولم يرُعها إلا رؤيتها لعقرب الدقائق؛ وهو يشير إلى التاسعة!! ظنّت لوهلة أن الساعة هي التاسعة فعلا، غير أنها استدركت بسرعة:

– الحمد لله.. إنها الثامنة إلا ربع فقط!! ولكن هذا لا يعني أن أمامي وقتا لأضيعه!

فأمسكت المشط بتحدٍ أكبر هذه المرة:

– باسم الله توكلت على الله..

عليها التجلّد بعزيمة وإرادة عملاقة، مع قوة احتمال لا نهائية للألم، فلا بد لها من استخدام “ضربة ماجد الصاروخية” هذه المرة، وأخذت تردد بحماسة كبيرة- وهي تمشّط شعرها بسرعة رهيبة، تتجاوز جميع القوانين المسموح بها في عالم القيادة:

” بسيوف أقوى من نار عرفت كيف الرد

ما هنتِ ولم تهني بل من أجلك ثار اشتد

هزيم الرعد

هزيم الرعد..

لن نستسلم مهما ازداد الظالم بغيا

سنهب بوجه الطغيان..

أجنحة كاندام.. أجنحة كاندام..

سجل أهدافا لا تيأس لا تخشَ المرمى

كن حسن الخلق مع الخصم فأهدافك أسمى

كابتن ماجد.. ترالالالا

كابتن ماجد.. ترالالالا

عاد إليكم من جديد…”

وخلال دقيقتين فقط؛ كانت قد أحكمت ربط شعرها، وارتدت حجابها، قبل أن يدق الحكم صفارة النهاية، لتحصل على كأس العالم، وتعتلي عرش الانتصار بكل فخر!! (أو هذا ما خُيّل إليها في تلك اللحظات)!!!

وقبل أن تنتعل حذاءها الطبي، صّلت ركعتي الضحى، وسجدت سجود شكر لله، أن سهّل لها إتمام جزء كبير من مهمتها بنجاح، ثم تناولت الصحون، وأسرعت بها نحو الحارس، الذي كان محل ثقة كبيرة لدى الجميع دون استثناء، ووعدها خيرا، وقبل أن تعود إلى شقتها لتحضر الحقيبة، لمحت امرأة محتاجة، ممن أعتدن جمع العلب المعدنية، تقف قرب حاوية القمامة المقابلة لفناء الباحة، فذهبت إليها مسلّمة بمودة، طالبة منها بأدب جم، الانتظار قليلا ريثما تحضر بعض الطعام، وبينما أسرعت سلمى إلى شقتها، أخذ لسان المرأة يلهج بالدعوات وهي تتابع عملها بجد..

صعدت سلمى بسرعة إلى الشقة عن طريق الدرج، فلم تكن لتنتظر المصعد حتى يؤدي دوره نحو الطابق الثاني، بعد أن منّ الله عليها برؤية تلك المرأة، ولم تكد تناولها الطعام مع ما تيسّر لها من مال،  حتى تنفست الصعداء براحة كبيرة، لقد أنجزت جميع مهامها الآن بسلام!!

وقبل أن تلتفت لتصعد نحو الشقة للمرة الثانية، رأت باص المعلمات المخوّل بنقلها إلى المطار، قادم من نهاية الشارع! فأشارت إليه بأنها قادمة، وأسرعت تصعد الدرج من جديد، لتحضر حقيبتها، وقبل أن تدلف إلى الشقة؛ سمعت صوت هاتفها يستصرخ بغضب، فجَرَت نحوه، لتجيبه وهي تلهث- فلا شك أنها أمها:

– السلام عليكم أمي، سأحادثك فيما بعد إن شاء الله، الباص بالأسفل ينتظرنـ..

غير أنها استدركت بسرعة؛ بعد سماع صوت والدها:

– كيف حالك أبي؟ كنت سأحادثك عندما أصل المطار إن شاء الله، كما أن هناك “كلمة” عليّ كتابتها، وأرغب باستشارتك بشأنها..

فجاءها رد والدها بنبرة حانية:

– حسنا لا تتأخري، فلدي اجتماع هام في التاسعة.. الأهم من ذلك؛ هل تناولتِ إفطارك جيدا؟

 فأجابته سلمى، وهي تنظر إلى الساعة المُشيرة إلى “السابعة وسبع وخمسون دقيقة”:

– إطمئن أبي سأتناوله في المطار إن شاء الله، فسيكون لدي وقت هناك قبل صعود الطائرة، وسأحدثك بالتفاصيل لاحقا، إن شاء الله، فالباص ينتظرني..

وقبل أن تنتهي المكالمة، سمعت صوت أمها على الجانب الآخر بسرعة:

– إياك أن تنسي المفتاح داخل الشقة، أغلقي الباب جيدا، وتأكدي من إغلاقه..

فردت سلمى وهي تجر حقيبتها نحو الخارج:

– حاضر أمي.. اطمئني كل شيء على ما يرام بفضل الله، سأكلمك فور ركوبي الباص إن شاء الله..

وقبل أن تخرج، تذكرت أنها لم تلقِ على نفسها نظرة خاطفة في المرآة، فأسرعت نحو واحدة علّقتها قرب المدخل، وأمسكت طرف نظارتها الطبية العزيزة، بثلاثة أصابع من أصابع يدها اليمنى، وثبتتها جيدا أمام عينيها، لتبتسم برضا، مثنية على ذوقها ومظهرها العام:

– بسم الله ما شاء الله تبارك الله، ولا حول لا قوة إلا بالله!! الحمد لله.. هذا من فضل ربي، “اللهم كما حسنت خلقي فحسّن خُلُقي”..

ثم أغلقت باب الشقة بهدوء، مرددة:

– ” بسم الله آمنت بالله اعتصمت بالله، توكلت على الله ولا حول لا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يُجهل علي”..

وابتسمت وهي تتخيل منظر الشيطان يعود خاسئا خائبا، ليقول لصاحبه- كما ورد عن الرسل صلى الله عليه وسلم، لمن يقول ذلك الدعاء-  ” كيف لك بمن وُقي وكفي وهدي”!!!

وكأي أستاذة قديرة محترمة، طلبت المصعد؛ لتنزل به مع حقيبتها المحترمة، بكل وقــــار!!!

حتى إذا ما استقرّت في مقعد الباص؛ هاتفت أمها بصوت خافت، قائلة لها بمرح، على غرار القصص البوليسية:

– الحمد لله..

MISSION COMPLETED!

( لقد تم انجاز المهمة بنجاح، سيدى)

***********

   مرت أيام المؤتمر على خير إجمالا؛ بالطبع لم يكن من الغريب اكتشاف سلمى، فور وصولها الفندق، نسيانها لبعض حاجياتها الضرورية، كالمشط وفرشاة الاسنان والمعجون، غير أنها أمور يُمكن تدبرها بسهولة من أي مكان!! بشكل عام؛ كانت رحلة موفقة، وعادية في الوقت نفسه، فلا شيء فيها قد خالف مساره المتوقع له منذ البداية!! وهاهي الآن في المطار، تجلس باسترخاء في صالة الانتظار، حتى يحين موعد الصعود إلى الطائرة..

 كانت غارقة تماما في كتابٍ أثار اهتمامها بشدة، اشترته من أحد المكتبات القريبة من فندقها، بعنوان “سنة التفاضل، وما فضل الله به النساء على الرجال”، وقد ظنته بداية للشيخ “علي الطنطاوي” رحمه الله، غير أنها اكتشفت بعد ذلك أنه قد قدّم له وحسب، في حين أنه من تأليف حفيدته “عابدة المؤيد العظم”!

كما يتفق معظم القرّاء؛ هناك طريقتان يمكننا من خلالها اصدار حكم مبدئي على كتاب ما، أولهما؛ عنوان الكتاب وتصنيفه، وقد بدأ يدخل مؤخرا ضمن هذا الطريق؛ شكل الكتاب وإخراجه، وعادة لا يكون هذا مؤشرا دقيقا عن جودة الكتاب، أما الطريق الثاني فهو “اسم المؤلف”! وبالنسبة لها، كان اسم الشيخ “علي الطنطاوي” وحده، كفيلا للدلالة على جودة الكتاب، مهما كان شكله وعنوانه! لا زالت تذكر ردود أفعال الآخرين حول رأيها هذا، بداية من ابنة عمها وحتى طالباتها!! أما ابنة عمها فقد كانت تُبغض القراءة بغضا شديدا، وتتعجب من كل مَن يمسك كتابا ليقرؤه بمحض إرادته! فبرأيها؛ ما الكتب إلا أدوات نُجبر على دراستها، لنحصل على الشهادة!! غير أنها استطاعت بحيلة ما، اقناع ابنة عمها هذه، بقراءة كتاب (صور وخواطر) للشيخ علي الطنطاوي، فكانت المفاجأة، التي أذهلت سلمى نفسها، عندما رفضت ابنة عمها إعادة الكتاب! لقد تعلقت به لدرجة لا توصف، بعد أن أصبح رفيقها المؤنس الضاحك! وأصبحت ترجوها إعارتها المزيد من كتبه!!! لا أحد يُنكر.. للشيخ علي الطنطاوي سحر في كتاباته لا يُقاوم، وإن من البيان لسحرا!! بل إنها تكاد تجزم أنه سيد (الكوميديا) الكتابية، إن صح التعبير!! ومن لم يصدّق، فليقرأ مقالاته عن الأعرابي في كتابه المذكور!

 وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون سيد (التراجيديا)! فهي لا تذكر أن مشاعرها اهتزت وتأثرت، بل وبكت وأجهشت، كما حدث يوم قراءتها لقصة (محمد الصغير)، من كتابه (قصص من التاريخ)!!! ربما كانت وقتها صغيرة، ولم تكن تعرف عن (محاكم التفتيش)، ولم تطلع على الكثير من الأساليب؛ ومع ذلك فالشيخ علي الطنطاوي برأيها؛ أسطورة الأدب العربي، ومن لم يقرأ له، فقد فاته الكثير بلا شك!! فمن هذا الذي استطاع الجمع بين الأدب والحكمة، والعلم والدين، والفقه والتاريخ، مع الفن الضاحك في الوقت نفسه!!

هذا ما حدثت به طالباتها في نادي القراءة، الذي أسسته معهن في المدرسة، يومها اقترحت عليهن كتاب “تعريف عام بدين الاسلام” للشيخ علي الطنطاوي، فتململت إحدى الطالبات بقولها:

– إننا مسلمين ونعرف ما هو الاسلام، والكتب الاسلامية على الرأس والعين، ولكننا نريد كتابا أكثر جاذبية ومتعة؛ لنشجع الأخريات على القراءة، فهذا هو هدفنا في النادي!

فسألتها إن ما كانت قد قرأت للشيخ علي الطنطاوي سابقا، ولما أجابت بالنفي؛ قالت لها بكل ثقة:

– معك الحق في أن العنوان يبدو مملا، لكن اسم الشيخ علي الطنطاوي؛ كفيل بتغيير أكثر العناوين جمودا، إلى أكثر الكتب متعة!

ولم يكن كلامها ليُقنع الطالبة في ذلك الوقت، غير أن ثقة سلمى بكلامها؛ دفع الفتيات لخوض هذه التجربة والحكم عليها بأنفسهن! أما ما حدث بعد ذلك، فقد أدهش سلمى نفسها!!

كانت سلمى غارقة في ذلك الكتاب، الذي أثار اهتمامها بالكامل، فأسلوب المؤلفة يشبه إلى حد كبير أسلوب جدها علي الطنطاوي رحمه الله، بالإضافة إلى أنه يعالج مشكلة تكاد أن تكون منتشرة في معظم البيوت العربية للأسف! بل ودائما ما تحاول إفهام الطالبات اللاتي يعرضن مشاكلهن عليها، أن الاسلام لم يظلم البنت، وإنما هي موروثات مجتمعية خاطئة، ومرفوضة تماما من وجهة نظر إسلامية!

– لا بد أن أعرض هذا الكتاب على طالبات نادي القراءة، سيعجبهن بالتأكيد..

تلك هي الفكرة التي استقرّت في ذهنها، عندما طرق سمعها “كلمة” أثارت انتباهها، في حوار بين اثنتين جلستا قربها..

فتوقفت عن القراءة، والتفتت نحوهما باهتمام، لا شك أنهما ممن حضرن الاجتماع، فشكلهما يبدو مألوف لها..

تابعت الأولى كلامها:

– …فهل سمعت بهذا من قبل؟؟

فأجابتها الثانية بتعجب:

– “مانغاكا”؟؟؟

فأكدت الأولى:

– أجل هذا ما قاله لي المدير، وحسب ما فهمت منه، أن له علاقة بالرسوم والقصص، شيء من هذا القبيل!! تخيّلي أن هذا قد أصبح هدفه ومنتهى طموحه!! ولولا أنه طالب متميز ويهمنا أمره، لما ألقيتُ لهذا الكلام بالا!!

لم تستطع سلمى الاستمرار بالاستماع لهما هكذا، دون الإشارة إلى ذلك، فقد خشيت أن يكون نوع من التجسس! فإما أن تستأذنهما وتشاركهما الحديث، وإما أن تتوقف عن التركيز في كلامهما! فاختارت الثانية، واستأنفت القراءة في كتابها بشغف..

*****

أنهت سلمى محادثة طويلة مع والديها، طمأنتهم فيها عنها، بعد وصولها شقتها بسلام..

 صلّت العشاء وهاهي الآن تستعد لتنام على فراشها الذي افتقدته خلال الأيام الفائتة..

وقبل أن تشرع بقراءة أذكار النوم، لاحت لها تلك الكلمة مجددا، “مانغاكا”!!! وراودتها رغبة عارمة بالبحث عن معناها، وحديث المعلمتين يتردد صداه في أذنيها..

ودون تردد قررت الاستعانة بمحركات البحث على الشبكة العنكبوتية، فهرعت إلى حاسوبها لتبحر في عالمه باهتمام واضح! أخذت تنتقل بين الروابط، فتعريف الـ “مانغاكا”؛ يتضمن كلمة “المانغا”، وعندما بحثت عنها، فوجئت بعدد من الأمثلة عليها تضمنت “سلام دانك”!! إنه مسلسل كرتوني معروف بالنسبة لها، فكيف أصبح ضمن “المانغا”؟؟ فخطر لها البحث تحت بند ” المانغا وأفلام الكرتون”، ولدهشتها الشديدة، ظهر لها مصطلح آخر لم تكن تعرفه من قبل، ألا وهو “الانمي”!! وقد راعها الكم الهائل من المواقع والمنتديات، التي تدخل تحت هذا التصنيف!! وهكذا.. وجدت نفسها أمام عالم واسع، انفتحت لها أبوابه على مصارعها، وعلى حين غرة!!

وبعد بحث وقراءة، تكوّنت لديها صورة “شبه واضحة” عن الموضوع! فـ “الانمي” تعبير ياباني، يُطلق على الرسوم المتحركة المعروفة لدينا مثل “دراغون بول” و”سلام دانك”، ومعظمها ياباني الأصل، وهذه الرسوم المتحركة في الأساس مقتبسة من “المانغا”، وهي مجلات يابانية تحوي قصص مرسومة!!

شعرت بالرضا عن تلك المعلومات، فهي كافية لها حتى هذه اللحظة، وأخذت تفكر في كلام تلك المعلمة، عن ذلك الفتى المتميز، الذي يطمح لأن يكون “مانغاكا”!! عندها قفز استنتاج خطير إلى ذهنها:

“الطريق لصناعة أفلام الكرتون يبدأ من المانغا!!”

 فقفزت على إثره من مقعدها، وهي تردد بحماسة:

“رأيت الحقيقة خلف البصر

رسمت الحروف بعمق الحجر

أنرت الطريق.. وجدت اليقين

رفعت الجباه والهمم

أزلت الغبار عن وجه الحنين

أيقظت الرؤى والهمم

دراغون بول..”

اتجهت بسرعة نحو خزانتها، وأخذت تبحث عن تلك الأوراق، بل عن حلمها القديم الجديد، الذي لا يزال حيا في مخيلتها منذ أكثر من عشر سنوات!!!

“سأكتب أفضل قصة إن شاء الله، ثم أعمل على تحويلها لأروع فلم كرتوني على الاطلاق.. بإذن الله”

هذا ما أخبرت به أهلها وصديقاتها منذ وقت طويل!! لم تنسَ حلمها يوما واحدا، وإن أشغلتها الحياة بواجباتها، منذ أن كانت طالبة في المدرسة! بل إن حياتها أصبحت جزءا من قصة حلمها، تلك القصة التي بدأت على شكل حكاية قبل النوم، قَصّتها على أخويها الصغيرين عمر وعلي، بعد تأثرهم جميعا بالفلم الكرتوني القديم “فرقة الفرسان”!

يومها أخذ الاثنان يتبارزان بعصا المكانس، بعد نهاية الحلقة الأخيرة منه، باعتبار أن أحدهما “آثوس” والآخر ” دارتانيان”، وهما يرددان العبارة:

 “الواحد للجميع والجميع للواحد”

وبما أنها كانت متأثرة جدا بالقصة مثلهما، فقد شعرت برغبة في محاكاتها، فخطر لها اسم “فرسان النجوم”، وجعلت من “عمر” و”علي” أسماء لاثنين من شخصياتها، ومن ثم أضافت اسم “عبد الله”، اسم أخوها الأصغر آخر العنقود، والذي كان لا يزال رضيعا في ذلك الوقت!

لا زالت تذكر كم كانت سعادة أخويها كبيرة وهما يستمعان إليها، مما شجعها على إضافة المزيد من الأحداث، حتى أخبرتها أمها بضرورة التوقف، ليخلد الجميع إلى النوم!

غير أن هذه القصة احتلت مكانة خاصة في قلبها، فلم تكن مثل غيرها من القصص التي قصّتها من وحي اللحظة، لتذهب بعد ذلك مع الريح، بل شعرت برغبة كبيرة باستمرارها، وهذا ما فعلته صباح اليوم التالي، عندما قامت بتدوينها، قبل ذهابها إلى المدرسة!

ولأنها كانت في مرحلة حاسمة تلك السنة، لا سيما وأن اختبارات الثانوية العامة على الأبواب، فقد اضطرت لتأجيل التفكير في موضوع هذه القصة إلى ما بعد التخرج، بالطبع بعد أن عرضتها على صديقتها المقربة (رحاب)، والتي بدورها شجعتها على فكرة تحويلها لفلم كرتوني مستقبلا! ومن ثم عرضت كتابتها على والدها، الذي اعتاد تصحيح قواعد اللغة العربية لها ولأخوتها منذ أن كانوا صغارا..

  حدث هذا في وقت لم يكن أحد قد سمع فيه عن الانمي أو المانغا، بل ولم يكن هناك من يتوقع وجود شيء مثل “الشبكة العنكبوتية”، التي ربطت العالم ببعضه دون عناء!!! كان حلما أشبه بالمستحيل، ولم تكن تدري السبيل إلى تحقيقه بغير الدعاء، والعمل الجاد على تطوير قصتها، التي ما فتئت تضيف إليها الفكرة تلو الفكرة، حتى زاد عدد صفحات مسودتها- إلى يومها هذا- عن ستمائة صفحة!!

أمسكت سلمى ملف القصة الذي تحتفظ به ضمن حاجياتها الثمينة جدا، وأخذت تقلب أوراق المسودة بين يديها، لقد مر شهر كامل منذ آخر مرة فتحت فيه هذا الملف، فقد انشغلت في أعباء المدرسة والطالبات!

أخذت تطالع بعينيها مقدمة القصة التي كتبتها قبل زمن:

” بعد خمسمائة عام من تحرير المسجد الأقصى، عم خلالها السلام أرجاء الأرض، حتى نسي معظم الناس ما ورد في كتب التاريخ عن الحروب، ولم تعد أذهانهم قادرة على تخيل شكلها، وما تجره من ويلات على الشعوب، بل ولم يعد هناك من يصدق بوجودها حقيقة، وظنوا انما هي مبالغات من المؤرخين ليضيفوا الاثارة إلى كتاباتهم!!

وكيف لهم أن يصدقوا بوجود شيء لم يروا شبيها له!! إذ لم يكن لهم هم إلا بما يتعلق بكيفية تطوير الأجهزة (المتطورة أصلا)؛ لاكتشاف المزيد من عجائب هذا الكون، أو الانشغال بأمور الابتكارات والبحوث في شتى المجالات، أو الإعمار ومد الجسور بين القارات ليسهل  تنقل الافراد الراغبون بالاكتشاف والمغامرة،  دون الحاجة للاستعانة بوكالات السياحة السفر أو اسخدام وسائل التنقل الحديثة..

بعد تلك الأعوام الهادئة التي سعدت فيها البشرية، في ظل حكم اسلامي عادل، أخذت منظمة خفية، تزاول أنشطتها السرية، فوق جزيرة مهجورة مخفية، بانتظار اللحظة المناسبة لتنفيذ مخططها الخبيث، فالسلام وإن كان نعمة بنظر الأغلبية، إلا أنه يعطّل مصالح بعض الفئات الشاذة من البشرية! والتي تتغذى على الدماء، وتزدهر معيشتها في الليالي الحالكة السوداء!!!

وهكذا بدأت تلك المنظمة الاستعداد للضربة القاصمة، التي ستوجهها إلى إحدى المناطق الغربية، ومن ثم تُلبس التهمة إحدى المناطق الشرقية، لتشعل بهذا فتنة كبيرة تعم الكرة الارضية، وتُعلن عن بداية حقبة جديدة من تاريخ البشرية..

في ذلك الوقت تحديدا، وفي الجانب الآخر.. برزت عشر شخصيات أسطورية، بقدرات خارقة، اتخذت من العشر المبشرين بالجنة قدوة، فتسمّت بإسمائهم، دون أن يعلم أحدهم عن وجود الآخر، فقد كانوا من بلاد مختلفة، ولكل منهم قصة وحكاية، حتى ساقهم القدر المحتوم للإجتماع في بقعة احدة، في يوم واحد، على صعيد واحد….”

  توقفت سلمى عن القراءة، وأخذت تطالع ملف الشخصيات العشرة، الذي أعدته بشكل منفصل على مدار السنوات، فتصفحت الأسماء بسرعة..

“فرسان النجوم”

1- بلاد النيل: الزبير

2- بلاد الرافدين: علي

3- بلاد الأناضول: عثمان

4- بلاد الشام: عامر

5- شبه الجزيرة العربية: عبد الله

6- بلاد المغرب العربي: عمر

7- بلاد فارس وما وراء النهر: طلحة (.. الهند والسند)

8-  بلاد الروس والصين العظيمة: عبد الرحمن

9- بلاد اللاتين والاوروبيين (.. اوروبا واللاتين): سعيد

10- بلاد الهنود الحمر (العالم الجديد) : سعد

لا تزال بعض أماكن الشخصيات بحاجة لتعديل، فهي لم تجزم أمرها بشأنهم بعد!

وابتسمت وهي تتذكر تعليق صديقتها رحاب:

– لماذا تجعلين شخصياتك الرئيسة من الذكور؟؟؟

فأجابتها وقتها بعفوية:

– لم يخطر ببالي غير ذلك، فالقصة أصلا كانت موجهة لأخوتي الصغار، وهم ذكور بطبيعة الحال! كما تلاحظين فإن اختياري للأسماء كان بناء على أسمائهم في البداية، (عمر وعلي وعبد الله)، ثم خطر ببالي إضافة بقية أسماء العشرة المبشرين بالجنة!

فنبّهتها رحاب بقولها:

–  ولكن القصة لن تكون جميلة وواقعية دون الشخصيات الانثوية! أم أنك ستساهمين في تهميش دور المرأة، كمعظم الرجال العرب!!!!

عندها حملقت فيها، لتقول بسذاجة:

– أحقا هم يفعلون هذا!!!!!!!!!!!

لم تكن سلمى قد انتبهت لتلك النقطة الخطيرة، لولا أن سخر الله لها رحاب، مما جعلها تتدارك الأمر بابتكار شخصيات أنثوية لا تقل أهمية عن دور الفرسان، فكان سببا في تأخر كتابتها لأحداث القصة، حتى وجدت مخرجا لتلك الإضافات، بما يتناسب مع الحبكة الرئيسة..

تنهدت سلمى وهي تستذكر ذلك كله:

– لقد أخذ ذلك وقتا طويلا فعلا، فها أنا قد أصبحت معلمة، ورحاب طبيبة.. ترى ما هي أخبارها الآن؟؟

غير أنها انتبهت لمرور الوقت، وخشيت أن تفوتها صلاة الفجر إن سهرت أكثر، فجمعت اوراقها في الملف وخبأتها في الخزانة، ثم هيأت منبه ساعتها لينبهها على وقت الفجر..

نفضت فراشها ثلاثا، ثم استلقت عليه مرددة:

– باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين..

 وبعد أن قرأت المعوذات، أطبقت جفنيها بهدوء، فيما حلقت روحها في عوالم من الذكريات، والأحلام الجميلة المتحققة..

هل كانت تتخيل يوما، أن هناك عالَما يلتقي فيه محبي الرسوم المتحركة وأفلام الكرتون!! بل وأن يكون هناك من العرب من يطمح لأن يصبح (مانغاكا)!! أليس هذا كله أشبه ما يكون بزهور أمل في طريقها، نحو انتاج فلم كرتوني عربي اسلامي بجودة عالمية!!!

فيما مضى لم يكن هناك ما يُعرف بالأطباق الفضائية (الستالايت)، وكل فرد ملزم بمشاهدة ما تعرضه عليه قنوات بلده، بالطبع هذا إن قرر المشاهدة! وفي الغالب كانت لمعظم الدول العربية قناتين اثنتين، تُفتتحان وتُختتمان بالقرآن والنشيد الوطني، الأولى بالعربية والثانية باللغة الاجنبية! ولفترة الأطفال وقت محدد، إما يشاهدون ما يُعرض فيه، وإما ستفوتهم ثلاثة أرباع أعمارهم (حسبما كانوا يظنون!!)، بالطبع يصبح هذا كارثيا إن فاتتهم الحلقة الأخيرة، إذ لا مجال للتعويض!!! غير أن هناك من سيتمكن من مشاهدتها على أشرطة الفيديو، الذي كان ممنوعا في قوانين والدتها الصارمة! ففترة الأطفال كافية جدا برأيها، ولو فاتتهم.. فهذا أفضل!!

بالطبع حال الأطفال يتفاوت نسبيا بين دولة عربية وأخرى؛ فبعض الدول تكتفي بمسلسل كرتوني مدبلج واحد فقط لا غير، ليُعرض في فترة الأطفال القصيرة، ثم لا تتوانى عن إلغاء عرضه لأي سبب، أو قطع الحلقة من المنتصف، بغض النظر عن مشاعر آلاف الأطفال المشاهدين! والبعض الآخر يتكرم بجعل الفترة أطول قليلا، خاصة في فصل الصيف، مع استفتاء يشارك فيه الفتيان والفتيات لاختيار المسلسلات الكرتونية المفضلة لديهم، وهناك دول تبالغ في تدليل أطفالها فتجعل لهم- بالاضافة للمسلسلات الكرتونية- برنامجا خاصا، يستقبلون من خلاله رسائلهم، التي يطلبون فيها عرض مقاطع من أفلام كرتونية يحبونها! ورغم أن كل فرد ملزم بمشاهدة قنوات بلده فقط في ذلك الوقت، كما ذُكر سابقا، إلا أن بعض الدول العربية تمتاز أسطح منازلها بأعمدة هوائية طويلة، قادرة على التقاط ترددات قنوات دول عربية أخرى مجاورة!! مما يزيد من مدة الفترة المخصصة للأطفال في ذلك البلد!!! 

لقد كان منتهى أحلامها عندما كانت طفلة، أن تكون هناك قناة تلفزيونية خاصة بالرسوم المتحركة! ولطالما جلست هي وأختها وابنة خالتها وبنات خالها يتخيلن وجود مثل هذه القناة، ويقضين الساعات وهن يحلمن بأسماء مسلسلاتهن الكرتونية المفضلة التي ستُعرض عليها، وتبدأ المباريات بينهن لِتعداد أسمائها، فتستلم هي زمام المبادرة بقولها:

النسر الذهبي، زينة ونحول، الأحلام الذهبية، هايدي، جونكر، السيدة ملعقة، نساء صغيرات، ماروكو الصغيرة، قرية التوت، نيلز، مخلص صديق الحيوان، البدايات المضيئة، حكايات عالمية، زهرة البراري، الرغيف العجيب، التوأمان، عبقور، جزيرة الدب، فلونة،…

فتتابع أختها:

الشجعان الثلاثة، ساسوكي، الصياد الصغير، ساندي بل، الحوت الأبيض، كان يا مكان، ابنتي العزيزة راوية، بليانا، أحلى الأيام، ليدي ليدي، وادي الأمان، مدينة النخيل، عدنان ولينا،…

وتقول ابنة خالها الكبرى:

بيرين، الفتى النبيل، حكيم الأقزام، جريندايزر، أبطال الملاعب، فارس الشجاع، الغابة الخضراء، سالي، الرجل الحديدي، أكاديمية الشرطة، موكا موكا، جزيرة الكنز،….

وتتابع ابنة خالتها:

– نعنوع الدلوع، كعبول، مغامرات بسيط، ماوكلي، طمطوم، مغامرات سنبل، بل وسبستيان، السندباد، بيف وهيركول، ريمي (الفتى)، ميمونة ومسعود، صاحب الظل الطويل،…

ثم تقترح ابنة خالها الوسطى أن تأخذ المباريات طابعا آخر، عن طريق ذكر كلمات الشارة، ومن ثم معرفة اسم المسلسل، فتعود هي لأخذ زمام المبادرة مدندنة بالكلمات:

“الرحالة الصغير

 يعيش في الفضاء

 يلتقط النجوم

و بها يطير

ويوما ما..

سيزورنــــــا”

فترد عليها ابنة خالها الصغرى معترضة:

– الاسم واضح من كلمات الشارة! نريد شيئا أكثر غموضا واثارة!

فتضحك أختها قائلة:

– ما رأيكن أن نعكس اللعبة؟؟

وبعد موافقتهن، تبدأ ابنة الخال الصغرى سؤالها:

– ما هي شارة الهداف؟

فتنطلق الأصوات بالترديد معا:

– نحن فريق عقد العزم

أن لا يُهزم أن لا يُهزم

حتى يصبح منذ اليوم

نجم الكرة ونجم الملعب

أنا هداف أنا هداف

لالا لا لا لالا لا لا…

وتتعالى أصوات الضحكات، في تلك الأمسيات الرائعة، من ليالي الصيف الهادئة، حيث تجتمع العائلة، ويتابعن سرد الأحلام والأمنيات، على أمل أن يزورهن الرحالة الصغير يوما ما؛ كما تقول الانشودة!!

 كان حلما لم تصدق بإمكانية تحقيقه؛ حتى سمعت عن إطلاق قناة “سبيس تون”، أثناء دراستها الجامعة!! ولم يمضِ على ذلك سوى القليل من الوقت، حتى تحقق الحلم الثاني بسماح والدتها إدخال تلك القناة لمنزلهم، وفق شروط محددة تم الاتفاق عليها مُسبقا! أما الحلم الثالث الذي دمعت عيناها تأثرا به، فهو ما لا يمكنها البوح به أمام مَن لا يقدّر موقفها، ويفهم حقيقة مشاعرها..

كان ذلك عنما سمعت شارة بداية الجزء الثالث من (الكابتن ماجد)، بعد إنهائها الدراسة الجامعية!!!

قد يبدو الموضوع غريبا على من يسمعه للمرة الأولى، لذا لا بد من العودة إلى بداية القصة، أي قبل أكثر من سبعة عشر عاما، يوم أن كانت لا تزال في المرحلة الابتدائية! كانت كغيرها من أبناء جيلها، تتابع (الكابتن ماجد)، والذي احتل بجزأيه الاثنين، مكانة لا يُستهان بها في حياتها، حتى إذا ما جاءت الحلقة الأخيرة من الجزء الثاني، قفزت من فرط السعادة بتكوين المنتخب الوطني، والذي ضم بسّام وماجد في فريق واحد، فباتت ليلتها على أمل مشاهدة الجزء الثالث في اليوم التالي، غير أنها صُدمت بمسلسل كرتوني آخر، دون مراعاة لمشاعرها، ومشاعر آلاف المتابعين لـ (الكابتن ماجد)!!!!!!!!!!! – بالطبع من لم يتابع الكابتن ماجد حلقة بحلقة، لن يُدرك أهمية اجتماع بسام وماجد في الفريق نفسه!

لقد دعت وقتها من أعماق قلبها، أن يأتي الجزء الثالث!! ورغم أنها رضيت بعد ذلك بمشاهدة (الصياد الصغير) بديلا عنه، إلا أن حلم مشاهدة الجزء الثالث من (الكابتن ماجد)، استقر في أعماق عقلها الباطن، وإن تلاشي تدريجيا مع مرور السنوات من عقلها الواعي، حتى إذا ما سمعت عن مجيئه بعد كل تلك السنوات، لم تتمالك دموعها التي انهمرت بغزارة، كمن التقى بصديق عزيز قديم، بعد انقطاع السبُل!

ألا يكفي أن الله استجاب دعوتها!!!

وها هي الآن، بدأت ترى طلائع دعوة أخرى لا تزال ترددها، وتزداد يوم بعد يوم يقينا بقدرة الله على تحقيقها:

– ” يــــارب.. وكما أنعمت علي بنعمة الكتابة، بفضلك ومنك وكرمك وجودك وإحسانك، فوفقني لكتابة أفضل قصة في العالم، وسهل انتاجها لتكون أفضل فلم كرتوني عالمي، يجذب الاطفال والشباب والكبار، ويكون سببا في نهضة هذه الأمة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، واجعل ذلك قرة عين لوالديّ، ونبيي صلى الله عليه وسلم، حتى تكرمني بشفاعته، وترضى عني، وتجعلني من أهل الفردوس الأعلى “

لقد دعت هذه الدعوة، دون أن تدري في أي اتجاه عليها السير في ذلك الوقت، فمن هذا الذي كان يهتم بانتاج فلم كرتوني اسلامي؟؟ بل وأين هم الذين يهتمون بالإعلام من وجهة نظر دينية!!! ربما كانوا مجودين لكن أين هم؟؟ ومن ستسأل؟؟ وكيف ستعرف إن كان هناك من يشاطرها حلمها فتتعاون معه؟؟ وقتها لم تجد سبيلا غير الدعاء، مع التركيز على كتابة قصتها، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا..

ثم لاحت بادرة أمل بظهور “اقرأ” على ساحة القنوات الفضائية، بعد أن ساد الاعتقاد بأن هذه الأطباق ما هي إلا شر محض، علينا محاربته بكل ما أوتينا من قوة!!! وهكذا فُتح الطريق أمام عشرات القنوات الاسلامية المختلفة، عوضا عن المواقع الالكترونية، فأصبح لكل فرد حرية الغناء على ليلاه!!!

هل كانت تحلم بهذا كله سابقا!!!

الدعاء مع العمل وبذل كافة الاسباب المتاحة على ضآلتها؛ هو طريق “الاحلام المتحققة”…

هذا ما تعلمته منذ الصغر، فكل الشكر لوالديها، اللذان حرصا على توجيهها التوجيه السليم، وأخذا بيديها إلى الطريق الذي تتحقق عبره الأحلام، فكانا السبب في ما وصلت إليه الآن بعد توفيق الله، بل والسبب في تلك العلاقة الوثيقة التي تربطها مع القصص منذ نعومة أظافرها، فقد كان والدها يتحفها وأخوتها بقصص الأنبياء والصحابة والصالحين، ولهم موعد مع والدتها كل ليلة في حكاية قبل النوم، حتى إذا ما تعلمت القراءة، زخرت مكتبتها الصغيرة؛ بعشرات السلاسل القصصية المصورة، خاصة قصص الاستاذ “محمد موفق سليمة”، وهاهي قد أصبحت معلمة، فيما أصبحت أختها التي تصغرها بثلاثة أعوام طبيبة أسنان، وأخوها عمر على وشك انهاء دراسته الجامعية في قسم الهندسة، وعلي في سنته الثانية الجامعية، ولا يزال عبد الله في المدرسة! لقد كبر الجميع وكبرت أحلامهم، وهاهو حلمها يزداد نضجا، فيما تزداد هي تفاؤلا ويقينا بقرب تحقيقه، بإذن الله، فالحمد لله رب العالمين على عظيم عطاياه…

وانطلقت تلك الكلمات تدندن بسرور، في سماء أحلامها:

“غدا..

 أو بعد غدٍ…

 تكبرون تفرحون تعملون

وبإذن الله، الله.. تنجحون

لكنكم تذكرون..

كما نواااااااااااااااار..

بعد سنوات…”

*****

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

مدير المدرسة

مدير المدرسة (بين القوة و الاحترام)!

عن القصة:

اللين و اللطف مفتاح للتعامل.. لكن ماذا لو انقلب الأمر و أبدى اللين مفعولا عكسيا؟!
مجموعة من الطلبة المشاغبين يجدون أنفسهم فجأة أمام مدير جديد! قصة واقعية، تسلط الضوء على قضية اجتماعية، وشر البلية ما يضحك!

التصنيف: مدرسي، كوميديا

انتشر الخبر كغيره من الأخبار؛ انتشار النار في الهشيم، في مدرسة صلاح الدين الثانوية للبنين!

– سيتقاعد المدير، وسيأتي مدير جديد!

– ترى كيف شكله؟ هل له عضلات؟

– يقولون أنه يحمل شهادة الدكتوراة من جامعة عريقة وراء البحار!

– سمعت أنه لديه الكثير من الأفكار الحديثة التي يسعى لتطبيقها في مدرستنا!

– هل تعتقد أنه سيكون قوياً جدا؟

– ما هي توقعاتكم.. من أقوى هذا المدير أم المدير الجديد؟

كانت الساحة تعج بالطلبة الذين اصطفوا بنظام منقطع النظير، وهم يستمعون لخطاب المدير الأخير:

– أبنائي، يا طلبة ثانوية صلاح الدين العريقة، سأترككم وكلي ثقة…..

ورغم أن عقول معظم الطلبة كانت مشغولة بتساؤلات كثيرة حول المدير الجديد؛ لكن أحدا لم ينبس ببنت شفة!!

وجاء اليوم الموعود أخيراً، ووقف المدير الجديد أمام الطلبة ببدلته الأنيقة، وابتسامته المشرقة، والقى تحية ودودة على مسامع طلبة الثانوية، معلنا عن قدوم عهد جديد، في تاريخها المجيد!

وفي إحدى الفصول، كان أحد الطلبة يزف خبراً هاماً لزملائه بحماسة منقطعة النظير:

– لقد سمعت جزءا من كلام المدير مع الاساتذة، الضرب ممنوع!

في حين دخل طالب آخر إلى الفصل وهو يهتف قائلا:

– لن تصدقوا ما حدث، لقد صافحني المدير بابتسامة عريضة!

وهنا.. أدرك الجميع تماما أنهم أمام عصر جديد بكل ما تحمل الكلمة من معاني!

لم يستغرق الأمر أكثر من سنتين على تلك الحالة؛ حتى تصدرت ثانوية صلاح الدين قائمة أسوأ المدارس في المنطقة!!

هروب من المدرسة، شجار وعصابات في كل زاوية، الأساتذة لا يمكنهم إنهاء الدروس،،،،

لقد خرج الطلبة عن السيطرة تماما!!

ذاع صيت المدرسة، واشتهرت بين طلبة المدارس الأخرى، حتى باتت وكرا للخارجين عن القانون، الذين يحرصون على ارتيادها من كل مكان!! وإذ ذاك وصل خبرها إلى وزارة التربية والتعليم!

***

التفت عدد من طلبة (الصف العاشر شعبة د)، نحو بسام- المشهور بعضلاته المفتولة- وهو يخبرهم عن آخر بطولاته التي تصدى بها لزعيم صفوف الثاني عشر، في حين كان أستاذ الأحياء يحاول جاهداً أن يطلب منهم الهدوء بشتى الوسائل والطرق؛ حتى يتمكن من إنهاء الدرس دون جدوى، إلى أن أعلن الجرس نهاية الحصة، ليريح ذلك الاستاذ- حديث التخرج، ضعيف البنية- من معاناته اليومية!!

كان بعض الطلبة لا يزالون يستعرضون بعض الحركات القتالية، رغم أن استاذ اللغة العربية دخل إلى الفصل ليعلن بداية الحصة التالية!!

حاول ذلك الاستاذ- الذي كان رجلاً طيبا كبيرا في السن نوعا ما- أن يرفع نبرة صوته أكثر؛ حتى يُعلم الطلبة بوجوده، إلى أن بح صوته، فبدأ الدرس بصعوبة شديدة، على أن أمل أن يريح ضميره على الأقل!

وذات يوم، انتشر خبر جديد في المدرسة..

سيستقيل المدير!!

وبدأ الجميع يتساءل عن هوية المدير الجديد..

– ترى كيف سيكون شكله؟

– هل هو محترم؟

– هل تعتقدون أن المدير الجديد سيكون طيبا؟

وذات صباح، وبينما كان الطلبة يتجاهلون أوامر الأساتذة كالعادة في الانتظام بالطوابير، تقدم المدير الجديد من مكبر الصوت، وألقى التحية على المدرسة معلناً استلامه لإدارتها، وبدافع الفضول فقط، استمع له الطلاب لوهلة؛ قبل أن يتابعوا أحاديثهم المعتادة! أما في طابور الصف العاشر د – الذي نال شهرة واسعة على مستوى المدرسة بكونه حوى أكثر طلابها شغبا ورعونة- فقد كان بسّام يوزّع ابتساماته المعتادة على الجميع، وهو يقف مائلاً بجذعه العريض، في وقفة هازئة، قبل أن يضيف عدد من التعليقات الساخرة!

صمت المدير لوهلة، وأشار إليه قائلا:

– أنت هناك، من الصف العاشر د!

فأشار بسام إلى صدره بتساؤل:

– أنا؟

فأومأ المدير برأسه بالايجاب قبل أن يضف بصرامة عبر مكبر الصوت:

– أجل أنت.. تعال إلى هنا!

خيم الصمت على المدرسة وكأن على رؤوسهم الطير وهم يتابعون خطوات بسام المتجهة بثقة نحو المدير، لعل آذانهم تلتقط أول كلمة سيكلم بها المدير ذلك الزعيم القوي!

وما أن اصبح بسام على بعد خطوتين من المدير؛ حتى دوى صوت صفعة قوية استقرت على وجه بسام، ترنح جسده الضخم على إثرها باهتزاز شديد، كاد أن يطرحه أرضاً، وسط دهشة عارمة جحظت بها العيون، وتجمدت فيها العروق، وتدلت الأفواه يشهقة قوية، كادت أن تُخرج من خلالها الأرواح!

(يقول راوي القصة الأصلي أن صدى تلك الصفعة لا يزال يرن في إذنيه، حتى بعد أن أصبح جدا!!)

ولم يقطع لحظات الصمت تلك؛ سوى صوت المدير وهو يخاطب بسام بنبرة قوية:

– عد إلى مكانك الآن!

وبينما كان الأخير يجر جسده جراً إلى مكانه في الطابور، تابع المدير خطابه وسط هدوء لم تشهده ثانوية صلاح الدين منذ زمن!

لم يكد المقام يستقر بطلبة الصف العاشر د في فصلهم، بعد أن صعدت الطوابير؛ حتى تنفسوا الصعداء- وهم يظنون أنهم قد أصبحوا في مأمن الآن- واخذوا يتندرون على بسام ضاحكين:

– ما الذي دهاك يا رجل؟

– خدك متورم، هل لا زالت تؤلم؟

– لقد كان جسدك يهتز بأكمله!

– أكاد أجزم أن هذا المدير ملاكم بارع!

– لقد فاجأنا يا رجل! كنت أظنه سيتفاهم معه أولاً!

وبطبيعة الحال، لم ينتبه الطلبة لدخول استاذ اللغة العربية، الذي كان يلقي التحية على نفسه، وسط نقاشهم المثير ذاك، إلى أن لاح لهم ظل المدير الذي أقبل على حين غرة، ليقف أمام الباب، سادا الفراغ بجسده!

وكمن ضغط على زر التوقف في شاشة عرض؛ تجمد الطلبة في أماكنهم دون أدنى حركة، كأن الشلل أصابهم فجأة! حتى الشخص الذي كان فاتحا فمه بالكلام، لم يستطع إغلاقه، بعد أن فقد جسده القدرة على التجاوب مع إرادته! فبقي فمه مفتوحا، في حين تبخرت الكلمات منه، وكأن الجفاف قد حل عليه دون سابق إنذار!

اشار المدير لعدد من الطلبة بسبابته قائلا:

– أنتم.. تحركوا الآن نحو مكتبي بسرعة!

كانت تلك الاشارة كفيلة ببث الرعب في نفوسهم، فتحركوا كالآلات دون همس أو حتى نِفِس!

وأمام مكتب المدير اصطفوا كما أخبرهم، دون أن يتبادلوا كلمة واحدة، ودون أن يعرفوا ما الذي سيحل بهم بعد ذلك..

مضت الحصة تلو الحصة، وهم على حالهم، أمام مكتب المدير، فيما كان بعض الطلبة الآخرين يمرون من أمامهم ويتساؤلون عن السبب الذي أوقفهم هنك، أو عن المصير المظلم الذي ينتظرهم!

وبعد أربعة حصص من الانتظار المهين، الذي أودى بما تبقى من جلادة أعصابهم، استدعى المدير أول طالب منهم، وأغلق الباب خلفه!! ليترك البقية في حيرتهم!! ما الذي سيجري في الداخل؟!

بدت غرفة المدير لذلك الطالب- من الوهلة الأولى- اشبه بغرفة تحقيق، غير أن مشهد المدير أمامه وهو يخلع معطفه الرسمي، ويضعه بترتيب على كرسيه بهدوء، ليقف بقميصه الابيض الناصع أمامه؛ جعله يتراجع عن رأيه!! خاصة وهو يراه قد بدأ بثني كم قميصه الايمن إلى منتصف ذراعه، ومن ثم فعل الشيء نفسه بالكم الأيسر!! لقد غير الطالب رأيه بسرعة، فلم تكن تلك غرفة تحقيق أبداً، بل كانت غرفة تعذيب بمعنى الكلمة!!!

وهكذا بدأت اللكمات المتتالية تنهال عليه بلا مقدمة، ولا حتى كلمة!!

وأخيرا.. فُتح الباب أمام العيون المتوجسة المترقبة في الخارج، لتشاهد ذلك الطالب وهو يخرج في حالة مزرية، وكأن لسانه انعقد فخيم عليه صمت مطبق، في حين ارتفع صوت المدير من الداخل:

– الطالب التالي!

**

دخل استاذ اللغة العربية على فصل (الصف العاشر الشعبة د) في اليوم التالي، والقى التحية بنبرة واثقة، وهو ينقل بصره بين الطلبة بابتسامة متشفية:

– كيف حال الرجال اليوم؟

-……………………..

– هل أنتم سعداء الآن؟

ولم تكن الأفواه لتجرؤ على النطق بأكثر من همسة واحدة:

– آه..

أما استاذ الأحياء؛ فلأول مرة منذ تعيينه، تمكن من سماع صوته وهو يشرح الدرس!! بل إنه سمع وقع خطواته ايضاً، في إنجاز غير مسبوق من نوعه!

وفي غضون ثلاثة أيام فقط؛ استعادت مدرسة صلاح الدين الثانوية انضباطها القديم، ونظامها الذي اصبح مثالا يحتذى به في جميع مدارس المنطقة!

******* تمت*******

ملاحظة:

القصة الأصلية سمعتها من أحدهم، (الراوي الأصلي للقصة)، ثم خطر ببالي صياغتها في قصة قصيرة، فكانت هذه هي النتيجة!^^

فما هو رأيكم يا ترى؟

ونسأل الله الهداية والصلاح والتوفيق للجميع

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

حب-من-عبق-التاريخ

حب من عبق التاريخ!

عن القصة:

كثيرا ما نجد انفسنا أمام مفترق طرق يتحتم علينا فيها الاختيار بين أمرين، وما أصعب ذلك لو كان على حساب القلب والحب! سيدة عظيمة، تجد نفسها في موقف عصيب بين زوجها الذي تحبه، ووالدها الذي امرها بفراقه، والهجرة امتثالا لأمر الله! فكيف ستتصرف؟!

التصنيف: تاريخي


في زمن الفروسية العربية الأصيلة، حيث كانت تحتل مكانة عظيمة في نفوس العرب، إذ أن من يحظى بلقب “فارس” لديهم؛ فكأنما حيزت له مجامع الخيرات، ووصل إلى أعلى الدرجات، مما جعل الفرسان يتصدرون المراتب العليا في طبقات ذلك المجتمع، فإن اجتمعت لأحد الفرسان ميزة الحنكة التجارية، إضافة إلى شرف النسب؛ فقد تربع على قمة القمم.. 
في ذلك الزمن؛ نشأت بطلة قصتنا “زينب”، وترعرعت في أحد بيوت مكة العريقة، لتكون أولى ثمار حب طاهر جمع والديها تحت سقف واحد.. ولم يكن أحدٌ ليبالغ إن قال بأن ذلك البيت كان من أسعد البيوت وأهنئها، بل وجمع الكمال كله، فالأم سيدة حكيمة من أشرف العائلات، ولها جاذبية كبيرة تفوقت بها على قريناتها، فقد اشتهرت بجمالها وحسبها ومالها وشخصيتها الفريدة.. مما جعل جميع الرجال يتوددون لطلب يدها، غير أن شخصا واحدا فقط، تمكن من التسلل إلى شغاف قلبها حتى استوطن فيه.. إنه ذلك الشاب الوسيم بهي الطلعة، الخلوق الشجاع، والذكي المحنك الذي ما عرف العرب من هو في مكانته بينهم.. فأي سعادة حظيت بها تلك الطفلة، في أحضان والدين متحابين متفاهمين، وعلى درجة كبيرة من الأخلاق!
وكأن الحب أبى إلا أن يولّد معه حبا آخر.. فزينب التي نشأت في كنف والدين متحابين، لم يكن غريبا منها أن تستقي بذلك الحب كله؛ لينعكس على صفاتها وأخلاقها، بل ومظهرها أيضا… حتى بدت كحورية حسناء تتهافت نحوها القلوب.. ولكن… أنى لهم الوصول إليها!!
شاب واحد فقط امتلك حق التردد على ذلك البيت الطاهر وكأنه بيته.. كيف لا وهو بيت خالته التي عدته بمثابة ابنها، حتى زوجها عامله كابن له، بل كان يحبه ويكرمه لحسن أخلاقه وشهامته وأمانته، ولم يخف على أحد ما يكنه ذلك الشاب لذلك البيت من الحب والولاء، فقد كان سرعان ما يهرع لزيارة بيت خالته كلما عاد من رحلة من رحلاته الكثيرة- التي كان مولعا بها – حيث يقص أخبار تلك الرحلات على خالته.. وابنتها تصغي له باهتمام بطبيعة الحال.. ولا شك أن هذا كان من أكثر ما يسعده..
ومرت الأيام وكبرت زينب، فيما كان “هو” ينتظر اللحظة الحاسمة بترقب، بل ولم يخف على أي شاب آخر بأن مجرد حلمه بالوصول إلى “زينب”؛ سيكون مستحيلا ما دام ابن خالتها موجودا في الطريق!! 
كيف لا.. وهو من أبرز فرسان العرب، بل ومن أبرز تجّارهم أيضا!! مما جعله يحتل مكانة مروموقة في قومه، هذا إلى جانب حسبه ونسبه ومكانته من والديّ “زينب”… باختصار.. إنه “أبو العاص بن الربيع”؛ فمن يجرؤ بعد ذلك كله على تجاوزه!!
وأخيرا… زار أبو العاص بيت خالته تلك الزيارة التي أعد لها عدة طويلة.. فاستقبله زوج خالته بحنوه وبشاشة وجهه المعهودة… فلما رآه شعر بالحرج الشديد.. فجلس صامتا، لا يدري من أين يبدأ الحديث.. وكأن زوج خالته أدرك ما يدور بخاطره، فسأله عن حاجته بحنان ليستوثق من طلبه، فلم يستطع أبو العاص سوى أن يردد حروفاً قليلة بحياء:
– أذكر زينب…..
وصمت..
فتبسم زوج خالته، وأخبره بأنه سيستأذن صاحبة الحق أولا..
مرت اللحظات على أبي العاص ثقيلة حرجة.. لم يكن يشك في القبول، لكن الموقف بحد ذاته له هيبته..
كانت الأم تنتظر هذه اللحظة بشوق، فدخلت على ابنتها وأخبرتها بطلب ابن خالتها، فما كان من الفتاة إلا أن صمتت وأرخت عينيها حياء، وقد اصطبغ وجهها بالحمرة، فتهلل وجه الأم بشرا، لتزف البشارة إلى البيت بأسره..
كانت فرحة لا توصف، حبيبين جديدين على وشك أن يبدآ قصة حب جديدة، تبشر بحياة سعيدة، لا ينغصها شيء… هذا ما كان يُخيل لجميع من حضر حفل الزفاف ذلك اليوم، غير أن للقدر حبكة قصصية أخرى… لم تخطر على بال بشر!!
انتقلت زينب إلى بيت زوجها، وقد أهدتها أمها قلادة غالية عليها، بثتها كل الحب، وكأنها تهديها رمزا من رموز ذلك الحب الذي نشأت في أكنافه، ليلازمها في حياتها وبيتها الذي أصبح مهدا جديدا له..
ورغم أن أبا العاص استمر في رحلاته التجارية، إلا أن ذلك لم يؤثر في علاقته بزينب، بل كان ذلك يزيد من قربهما لبعضهما البعض، إذ يبقى الاثنان على موعد يتجدد باستمرار بعد كل رحلة، ولطالما شدى أبو العاص بأشعار يذكرها فيها خلال غربته عنها، حتى لم يبق أحد في مكة، لم يعلم بمقدار حبه لها..
وكان من ذلك..
ذكرت زينب لما ورَّكت إرما
فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة
وكل بعل سيثني بالذي علما 
لكن الأيام لا تدوم على حالها، والبيوت تتعرض لمحن باستمرار، لتختبر صدق أهلها!! وقد آن الأوان لأصعب اختبار أن يظهر في حياة هذين الحبيبين…
كان ذلك بعد إحدى رحلات أبي العاص بن الربيع، حيث كانت زينب تنتظره بشوق شديد، وهي متلهفة للقائه لتخبره بخبر عظيم هز أرجاء مكة، وكلها أمل أن يكون عند حسن ظنها..
ولم يكد يدخل الباب حتى هرعت نحوه مستبشرة، دون أن يخفى عليها ملاحظة غشاوةٌ من حزن تغطي وجهه، فعزت ذلك لطول السفر، فأسرعت تخفف أحماله، وقلبها يخفق بشدة، إذ لم تعد تطيق الانتظار لتخبره..
لقد بُعث أبي نبيا برسالة الاسلام، لعبادة الله وحده ونبذ الاوثان، وقد أسلمتُ مع أمي وأخواتي، وقد أسلم أبو بكر وعثمان.. حتى ابن عمي الصغير علي قد أسلم، وأرجو أن تكون من السابقين للاسلام..
وأمام صمت أبو العاص، مع تلك الغشاوة التي علت وجهه؛ نبض قلب زينب بوجل.. 
ما بالك يا ابا العاص!! هل سيفوتك شرف السبق إلى الاسلام!! أيعقل أن لا تكون أحد السابقين لهذا الدين العظيم!!!!
وأخيرا باح أبو العاص بمكنونات صدره..
أرجوك اعذريني وافهميني.. لم أكن لأكذّب والدك فهو صادق أمين، وثقتي به كبيرة، ولكن… لا يمكنني اتباع دينه…. أنت تعرفين مكانتي بين القوم، فهل تقدرين وضعي؟؟؟
أسقط في يد زينب، وغشيها هم كبير لم تحسب له حسابا!!! زوجها وحبيبها وابن خالتها أبا العاص بن الربيع سيبقى على شركه؛ خشية أن يظن الناس بأنه تخلى عن دين آبائه وأجداده، إرضاء لزوجته!!! أي مصيبة هذه!!
دمعت عيناها ولكنها بذلت جهدها لتقبّل الأمر، فهي تعرف زوجها جيدا، وتدرك ما يعنيه هذا الأمر له، فهو من فرسان قريش وتجّارها المرموقين، وله كبرياؤه بينهم…
ولم يهن على أبا العاص رؤية حزنها، فضمها إلى صدره بحب.. 
أعدك بأن لا أدع هذا الأمر يعكر صفونا، وسأبذل جهدي للوقوف إلى جانبك ما حييت.. 
وهكذا لم تجد زينب بدٌ من التسليم بهذا الواقع المرير.. هي مسلمة مؤمنة تبذل جهدها لمساندة والدها وأمها في هذه الدعوة الجديدة، وزوجها مشرك وله مكانتته ومجلسه في صفوف المشركين، الذين يعملون على محاربة والدها من أجل القضاء على دعوته!!!
ومع ذلك كله.. بقيت له زوجة وفية محبة، تدعو له بالهداية دائما، وقلبها يحترق ألما كلما رأت زوجها مصرا على شركه، فيما يتزايد عدد الرجال المقبلين على الاسلام… لماذا يا أبا العاص.. لماذا!!!!!!!
ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. بل بدأت المحن تتوالى على أهلها الواحدة تلو الأخرى.. ومهما حاول الزوجان أن يتظاهرا بأن الأمور لم تؤثر عليهما.. إلا أنهما لم يكونا بمعزل عما يحيط بهما.. وربما كان بيتهما هو أقل البيوت تضررا في تلك الظروف العصيبة التي زلزلت بيوت مكة، حتى قرر المشركون إمعانا في إيذاء النبي، العمل على تطليق بناته، لعلهم يشغلوه بهمهن عن متابعة دعوته!!
فطلق ابنا أبي لهب، ابنتا الرسول صلى اهاء عليه وسلم رقية وأم كلثوم، والذي كان فكاكا لهما من رجلٍ؛ أعلن العداء جهارا لابن أخيه! بل ويكفي أنه كان فكاكا لهما من حماتهما سليطة اللسان حمالة الحطب!!
وعندما وصل الأمر بالمشركين ليطلبوا من أبا العاص تنفيذ الحكم في حق زوجته، زينب ابنة محمد، على أن يزوجوه من يختار من نساء قريش؛ وقف لهم بالمرصاد وبقوة..
كلا.. لا أطلق زينب أبدا، ولا يمكن لجميع نسائكم وفتياتكم أن يحللن محلها مهما حاولتم.. 
حتى يئست قريش منه على مضض.. ولم يكن أبا جهل ليسكت عن ذلك، فأضمر له الكيد..
حتى إذا اجتمعت قريش في أحد مجالسها ذات مرة، يتحدثون عن أحوالهم وما ينوون فعله؛ علق أبو جهل باستفزاز:
لا تنسوا أن هناك بيننا من ينقلون الأحاديث لزوجاتهم، فيفشون الأسرار….
غير أن أبا العاص لم يحتمل تلك الاهانة الصريحة، فنهض من مجلسه بغضب، صارخا فيه بحمية..
من تقصد يا هذا؟؟ وضّح كلامك إن كانت لك الجرأة على ذلك! 
ولولا تدخل الرجال بينهما لما هدأ ابن العاص حتى ينال منه..
كانت تلك الحوادث تحدث، وزينب لا تنفك عن الدعاء لأبي العاص الذي ما تخلى عنها، رغم كل ما أصابه من قومه بسببها، ليرسم بذلك أسمى لوحات الحب والوفاء، فلم تنسَ له ذلك أبدا.. وأصبحت رحلات أبي العاص أهون عليها من رؤيته في مكة مصرا على شركه، فيما تزداد أعداد المسلمين يوما بعد يوم..
غير أنها كانت تؤمل بأن تكون الأيام القادمة أفضل، فلم تكن لتفقد الأمل بالله أبدا.. ولكن لله سنن، فيها اختبارات وابتلاءات يمحص من خلالها عباده، ليرى صدقهم.. 
فجاء الحصار الظالم ابتلاء عظيم للمؤمنين، بل ولبني هاشم جميعا.. كان قرارا بلغ فيه الظلم منتهاه عندما أعلنت قريش حصارها لبني هاشم، الذين انحازوا في شعب أبي طالب، حماية للرسول صلى الله عليه وسلم، لقد أُعلن القرار ببنوده على الملأ.. فلا يتزوجون منهم ولا يبتاعون ولا يشترون.. وصمد بنو هاشم والمسلمون إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الشعب، الذي كانت فيه زوجته خديجة إلى جانبه، مع ابنتاهما ام كلثوم وفاطمة.. أما رقية فقد كانت في الحبشة مع زوجها عثمان، في حين كانت زينب لا تزال في بيت زوجها أبي العاص ابن الربيع، ترقب تلك الأحداث بحزن وألم، فلم تكن لتقف مكتوفة اليدين وهي ترى أهلها والمسلمون الضعاف يتضورون جوعا، فعزمت أمرها لتكون ضمن أولئك الذين يحملون الطعام سرا لشعب بني طالب إذا جنح الظلام.. ولم يكن أبا العاص ليخفى عليه ألمها الشديد، فلم يكن ليمنعها ويحول بينها وبين ذلك، بل كان من أكثر الداعمين لها في ذلك الموقف.. طوال ثلاث سنوات مريرة من الحصار..
حتى إذا ما فُك الحصار وفُرج عن المسلمين بعد تلك المحنة العصيبة- وذلك بعد أن وقف بضعة رجال من قريش موقف رجولي عادل، في قصة سطرها التاريخ- حلت فاجعة جديدة، وكأن المحن أبت إلا أن تتوالى على زينب وعلى المسلمين، فلم تكد الفرحة تغمرهم بانتهاء الحصار، حتى فجعوا بموت السيدة خديجة التي أنهكها المرض والاعياء خلال السنوات الثلاث.. وكان مصاب الرسول صلى الله عليه وسلم فيها عظيما، فهي أحب الناس إليه، زوجته الحبيبة التي وقفت إلى جانبه بكل ما تملك، ليقول عنها فيما بعد:
“ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها ؛ قد آمَنَتْ بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذا حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء”
تلى ذلك وفاة أبو طالب العم الحاني الذي كان درعا لابن أخيه رغم مخالفته لدينه!! حتى سمي ذلك العام بعام الحزن… وقد كان الحزن فيه حزنا بمعنى الكلمة…
حاول أبو العاص بذل قصارى جهده للتخفيف عن زوجته التي بلغت آلامها ذروتها بفقدان أمها، ومصاب أبيها، لا سيما وقد وجدت قريش فرصة لتنال منه بعد وفاة عمه… هذا إلى جانب قلقها على أخواتها.. لا سيما اختها الصغرى فاطمة، التي كانت بمثابة ابنة لها.. فأي ألم بعد هذا كله!!.. وهي مع ذلك حريصة على القيام بحقوق زوجها، الذي كان يكفيه منها حبها الكبير له، ومشاعرها الفياضة تجاهه..
ومرت الأيام.. ولا يزال أبو العاص على شركه، وحبه في الوقت نفسه.. ولا تزال زينب على ايمانها وحبها.. يؤكد على ذلك طفليهما الصغيرين أمامة وعلي، الذين حاول والداهما غمرهما بالحب، ليعوضا عن كل تلك الأحداث العصيبة التي تحيط بهما، إلى أن بدأ المسلمون بالهجرة سرا أو جهرا إلى المدينة، إذعانا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ليجن جنون قريش، فبدؤا بحبك الخطط خشية أن يفر الرسول من بين أيديهم، فينشر دعوته بين العرب دون أن يملكوا له شيئا… وازداد عدد المهاجرين، ولم يبق في المدينة إلا القلة القليلة… وأخيرا حانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، في حدث عظيم، أصبح تاريخا للمسلمين يؤرخون بها الحوادث والايام!! وهاجرت أخوات زينب كما هاجر معظم المسلمين.. هاجرت رقية مع زوجها عثمان مع المهاجرين السابقين، ثم هاجرت أم كلثوم وفاطمة.. وهكذا.. وجدت زينب نفسها وحيدة في بيت زوجها.. الذي كان يشعر بحزنها وآلامها حتى إن لم تقل له شيئا.. فلا يملك إلا أن يحاول تعويضها عن كل ذلك حبا وحنانا واحتواء، فيما كانت أقصى أمنياتها في ذلك الوقت؛ أن يسلم لتهاجر معه ومع أولادهما، ليلتحقوا جميعاً بركب المسلمين..!!
وأخيرا.. جاء أصعب موقف وجدت زينب نفسها فيه… المشركون في مكة.. سيخرجون لمحاربة المسلمين في المدينة… ووالدها قائد جيش المسلمين، الذين تسأل الله لهم النصر والتمكين، أما زوجها فهو فارس من فرسان قريش الأقوياء، ووجوده في المعركة ضروري جدا أمام قومه، لذا سيخرج في جيش المشركين!!
والدها في جانب… جانب الحق الذي تؤمن به وتتمنى نصره، وزوجها في جانب المشركين!! جانب الباطل الذي تخشى أن يلقى حتفه في ظلاله، فيكون فراقها له أبديا!!!
ولم يكن أبو العاص محبا للخروج في تلك المعركة، ولم يكن يرغب بقتال المسلمين، ولا حاجة له بذلك، وقد حاول طمأنة زينب بأن خروجه للمعركة شكلي فقط، ولكن… أنى لها أن تطمئن!!
مرت تلك الأيام ثقيلة عصيبة على قلب زينب، لم تجد أمامها شيئا تفعله فيها سوى الابتهال إلى الله بدموع عينيها، وبكل ما يحمله قلبها من حرقة، أن ينصر والدها والمسلمين، ويرد لها زوجها سالما ويهديه لطريق الحق المستقيم..
وبقيت متأهبة تتبع الأخبار بقلق، حتى جاءها الخبر اليقين.. لقد انتصر المسلمون، ووقع زوجها بالأسر!
وعرفت أن أهالي الأسرى بدؤا بافتداء أسراهم، فهرعت إلى مالها لتفتدي به زوجها، غير أنها لم تجد لديها ما تفتديه بها؛ أغلى من قلادة أمها الراحلة خديجة.. فدمعت عيناها تأثرا لذكرها.. وذكرى ذلك اليوم..الذي أهدتها فيه هذه القلادة.. يوم زفافها إلى أبي العاص بن الربيع..!! وها هو أبو العاص في الأسر… أفلا تفتديه بقلادة كانت وما زالت رمزا للحب!!
وهكذا حزمت أمرها، وأرسلت أغلى ما تملك؛ لفداء زوجها حبا ووفاء..
وكأن القلادة أبت أن يكون ذلك آخر عهدها في سلسلة الحب، فما أن رآها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى عرفها، فرق لها رقة شديدة، ودمعت عيناه تأثرا لذكرى خديجة.. 
كان موقفا مهيبا اختلطت فيه المشاعر، أبو العاص يرى وفاء زوجته “زينب” له، وهي تفتديه بأغلى ما تملك، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يذكر زوجته الحبيبة خديجة التي كانت نعم المعين له، فما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم، إلا أن استأذن صحابته الكرام بقوله:
(إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيْرَهَا، وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الذي لها) 
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم، إلا ليسارعوا لتلبية رغبة حبيبهم ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا بصوت واحد دون أي تردد:
نعم.. نفعل يا رسول الله..
تلك القلادة… لم تكن مجرد قلادة، بل كانت رمزا قويا للحب والوفاء…
وهكذا.. أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم القلادة لأبي العاص، وطلب منه أن يعيدها لزينب، ثم أسرّ له بسر خطير.. كاد قلب أبو العاص أن يتوقف له ألما… غير أنه، هز رأسه موافقا، وهو يحاول اخفاء دمعات كادت أن تنفر من عينيه، مجيبا بقوله:
أعدك بذلك..
وانطلق أبو العاص عائدا إلى مكة.. ولكن… لم تكن عودته هذه المرة كأي عودة، كيف له أن يخبر زينب بذلك.. كيف!! كان يتمنى أن يهرع إليها، لعله يعبر لها عن حبه الكبير وتقديره لما فعلته من أجله، أما الآن… فقد تلاشى ذلك اللقاء الحميم المتخيل في غياهب الأمنيات البعيدة… 
أما زينب التي كانت تنتظر لحظة عودته بفارغ الصبر؛ فقد راعها مظهره وجموده، فخفق قلبها بشدة… ما الذي جرى؟؟ فأشاح بوجهه عنها، كي لا تلحظ دمعات تهز رجولته:
تجهزي للحاق بأبيك يا زينب.. فقد حرّم الاسلام على المسلمة البقاء تحت رجل مشرك.. وقد وعدتُ والدك بردك إليه وإرسالك للمدينة..
وما أن سمعت زينب ذلك، حتى خشع قلبها.. هذا أمر الله إذن… لم يعد أبو العاص زوجها بعد الآن!!
غير أنها سألته وهي تحاول السيطرة على مشاعرها..
أفلا تسلم يا أبو العاص.. فنهاجر معا؟!!
ولكن.. (إنك لا تهدي من أحببت)..
ولم تكن زينب إلا لتسلّم بقضاء الله، ممتثلة لأوامره، فأسرعت تجهّز عدتها…
ولم ينسَ أبو العاص إعادة القلادة لها، ناقلا وصية أبيها إليها..
إياك أن تفرطي في هذه القلادة مرة أخرى..
وكأن أبا العاص حاول التخفيف عنها، فهو إن لم يذهب معها، فهناك جزء منه سيرحل معها:
سيبقى طفلينا معك.. فاعتني بهما..
ولسان حاله يقول.. حبك محفوظ في قلبي رغم الفراق..
رحمك الله يا أبا العاص.. حتى في فراقك كنت رحيما محبا ووفيا..
ولم يكن أبا العاص ليبقى في ذلك المكان أكثر، ليشاهد آخر لحظاته مع زينب، فأسرع نحوه أخيه “كنانة” الذي كان من أقرب الناس إليه، فهو أخوه الذي ييثق به، ويستأمنه على أموره، فطلب منه مرافقة زينب وأولاده ليوصلهم إلى المدينة، وأوصاه بالعناية بهم في الطريق.. ولم يخف على كنانة، معاناة أخيه باتخاذه ذلك القرار، وهو يعلم تماما مقدار حبه لزينب.. فطمأنه بأنه سيبذل جهده في ذلك.. ويكون عند حسن ظنه..
ودّع أبو العاص طفليه (أمامة وعلي)، فضمهما إلى صدره وهو يبثهما كل ما يمتلك من مشاعر.. 
لا تزال أمامة صغيرة.. ولكنه كان يأمل أن تفهمه، وما زال علي طفلا صغيرا، لكنه بنظره سيكون الرجل الذي سيخلفه ليذكّر زينب به.. رغم أنها هيهات أن تنساه!
اعتنوا بأمكما جيدا.. ولا أريد أن أسمع عنكما إلا كل خير.. إياكما أن تسببا لها المشاكل.. إنني اعتمد عليكما..
لم يستطع وداع زينب، فابتعد عنها ليترك زمام القيادة لأخيه “كنانة”، والذي قدم لها بعيرا، فركبته، وخرج بها وهي على راحلتها في وضح النهار، متجها نحو المدينة، بعد أن حمل قوسه وسهامه، غير أن كفار قريش لم يتركوه وشأنه، فلاحقوه، فيما قام هبار بن الأسود بترصد زينب حتى روعها برمحه، ناخزا ناقتها، حتى سقطت فوق صخرة، سالت عليها دمائها الطاهرة، وكانت حاملا فأجهضت.. وما أن رأى كنانة ما حل بها، حتى كاد أن يفقد صوابه، وقد ثارت حميته، فتصدى للملاحقين ووقف حاميا لها دونهم، ونثر سهامه أمامهم وهو يشد قوسه، متوعدا كل من يفكر بالاقتراب منها بقتله دون تردد، وكان معروفا بمهارته، إذ لم يُخطيء له سهم!
“وَاللهِ لاَ يَدْنُو أَحَدٌ إِلاَّ وَضَعْتُ فِيْهِ سَهْماً”
عندها تدخل أبو سفيان بقوله:
“كُفَّ أَيُّهَا الرَّجُلُ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ
فأرخى كنانة قوسه، ليستمع لأبي سفيان الذي قال له:
إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ، خَرَجْتَ بِالمَرْأَةِ عَلَى رُؤُوْسِ النَّاسِ عَلاَنِيَةً، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيْبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ مُحَمَّدٍ، فَيَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ ذُلٍّ أَصَابَنَا، وَلَعَمْرِي مَا بِنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيْهَا مِنْ حَاجَةٍ، ارْجِعْ بِهَا، حَتَّى إِذَا هَدَتِ الأَصْوَاتُ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّهَا سِرّاً، وَأَلْحِقْهَا بِأَبِيْهَا”
كان كلام أبو سفيان مقنعا، فلم يجد كنانة بدا من الرجوع بزينب إلى بيت زوجها، لا سيما وأنها بحاجة لمداواة جراحها النازفة، وهو يتخيل مشهد أخيه إن عرف بما حدث لزينب.. فيزداد ألما على ألم..
كان ذلك خارج إرادتي.. سامحني أخي… أعدك أن لا يمسها سوء مرة أخرى، حتى تصل سالمة لأبيها..
كان اختبارا قاسيا لأبي العاص.. فهو يعلم أن زينب لم تعد زوجة له، ولا يحق له الاقتراب منها.. ولولا أنه ما أخلف وعدا قطعه على نفسه قط، لما سمح لها بالذهاب!
ولولا إيمان زينب القوي بالله، وحرصها على تطبيق أوامر ربها.. لما استعجلت السفر.. رغم جراحها.. فلم تمضِ سوى ليال قليلة، حتى خرج بها “كنانة” مرة أخرى في هدوء الليل، إلى أن أوصلها إلى مشارف المدينة، حيث كان زيد بن حارثة – رضي الله عنه- مع رجل آخر من الانصار في استقبالها، فأكملوا المسير معها إلى أن دخلت المدينة، لتلتقي بوالدها الحبيب – صلى الله عليه وسلم- وأخواتها والمسلمين.. غير أن فرحتها بلقاء هؤلاء الأحبة، لم تكن لتكتمل ما دام أبو العاص لا يزال على شركه… ولكنها مشيئة الله، ولم تكن بالتي تسخط على قضائه… فالحمد لله على كل حال…
انتقلت زينب مع طفليها إلى بيت جديد إلى جوار والدها- صلى الله عليه وسلم- والذي أحاطها وأحاط طفليها بكل الحب والرعاية، فكان نعم العوض لها عن كل ما مرت به، كيف لا وهو الأب الحاني العطوف، والجد الرؤوف، الذي لم يكن يمانع في حمل حفيدته الصغيرة “أمامة”، حتى في صلاته في المسجد، إذ كان يحملها إذا وقف قائما، ثم يضعها إلى جواره إذا سجد، حتى ينتهي من صلاته وهي معه.. فكان نعم العوض لهذه الطفلة عن أبيها.. بل كان خيرا لها منه..
فصلى الله على الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم..
ورغم انشغال زينب بأمور الحياة، وهموم المسلمين، ومسؤليات بيتها وأطفالها، إلا أن ذلك كله لم يُنسها “أبو العاص”، الذي ما فتأت تذكره في صلواتها ودعائها دون أن تفقد الأمل بربها، وكلها يقين بأن هذا امتحان من الله لصبرها.. ولم يكن هذا ليخفى عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، فلم يأمرها بالزواج مرة أخرى، بعد أن أغلقت أبوابها دون الخطاب، حتى وإن تقدم لها كبار الصحابة وعظماؤهم.. وكلهم يرجو مصاهرته، صلى الله عليه وسلم..
كان- صلى الله عليه وسلم- يعلم بأنها لم تفارق أبا العاص إلا امتثالا لأمر الله، رغم حبها الشديد له، ولم تكن تلك المكانة لأبي العاص في نفس زينب وحسب، بل كانت له مكانته أيضا عنده، صلى الله عليه وسلم، فلطالما ذكره بالخير.. إذ أثنى عليه رغم شركه:
“أبو العاص حدثني فصدقني ووعدني فوفاني”
وقد روي عنه قوله بما معناه: أبو العاص ما آذانا في ابنتنا قط.. و”ما ذممناه صهرا”
ويشاء الله أن تمر الأيام تلو الأيام، والأشهر تلو الأشهر، بل ومرت السنوات، ولا خبر عن أبي العاص بن الربيع..
وهكذا يمحص الله القلوب المؤمنة، فلم يزد ذلك زينبا إلا قربا من الله، وتعلقا به، وهي تناجيه وتدعوه بيقين المؤمنين الصادقين.. أن يهدي أبا العاص بن الربيع، ولا يمته على الكفر، ويقر عينها برؤيته مسلما…
كل ذلك وجسدها يزداد ضعفا يوما بعد يوم، إذ أن جراحها من وقت الهجرة لم تُمحَ آثارها، فقد كانت سقطتها قوية، وجرحها لا يزال غائرا!! 
أجل.. لم يكن فعل الهبار بن الأسود ليغتفر! فأن يستأسد رجل قوي على امرأة ضعيفة، لا حول ولا وقوة لها، جريمة كبيرة، لا مكان لها في المنطق العربي، بل وخارج العرف الانساني بأسره!! فلا عجب أن غضب لها الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى أنه أمر بحرق ذلك المجرم على من ظفر به، غير أنه- صلى الله عليه وسلم- استدرك بأنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار، فأمر بقتله فقط، بعد أن أهدر دمه..
كانت زينب تشعر بدنو أجلها بين لحظة وأخرى.. غير أن ذلك كله لم يكن ليضعف عزيمتها، أو يقنطها من رحمة ربها.. ست سنوات مضت وهي على تلك الحال.. حتى جاء ذلك اليوم..
كان الوقت سحرا، والمسلمون يتأهبون لصلاة الفجر، عندما سمعت صوت طرقات خفيفة على بابها..
فمن هذا الذي يزورها في مثل هذا الوقت!!!
وإذ بصوتٍ تعرفه جيدا، يناديها باسمها همسا:
زينب.. هذا أنا.. أبو العاص بن الربيع..
لم تكد تصدق أذنيها!!
أبو العاص بن الربيع..! بشحمه ولحمه!!! هل هذا حلم!!
وسرعان ما تذكرت بأنه لم يعد من محارمها، فارتدت حجابها، وسألته بلهجة جادة، لم تشأ أن تستبق من خلالها الأحداث، رغم خفقان قلبها.. فهل تراها اللحظة التي أذن الله بها بإجابة دعائها!
ما الذي جاء بك يا ابن الربيع؟ 
فأجابها بانكسار:
جئتك مستجيرا يا زينب.. فقد تمكن أصحاب والدك من قافلتي، غير أنني فررتُ منهم، فهل تجيرينني؟
صور كثيرة مرت بخاطر زينب في تلك اللحظات، غير أنها جمعت شجاعتها، واتخذت قرارها، فأدخلته إلى منزلها، وخرجت هي منه.. حتى إذا ما كبّر الرسول صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، ودخل المسلمون في الصلاة خلفه، صرخت بأعلى صوتها:
“أيها الناس قد أجرتُ أبا العاص بن الربيع فأجيروه..”
وما أن سلم الرسول صلى اله عليه وسلم من الصلاة، حتى التفت إلى أصحابه رضوان الله عليهم:
“أيها الناس هل سمعتم الذي سمعت”؟
قالوا نعم..
قال:
“أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء حتى سمعتموه، وإنه يجير على المسلمين أدناهم”
ثم ذهب- صلى الله عليه وسلم- إلى ابنته التي هرعت إلى استقباله مبررة فعلها..
يا رسول الله.. إن أبا العاص إذا قَرُب فابن خالة، وإذا بَعُد فأبو ولد!
فطمأنها الحبيب صلى الله عليه وسلم، بأنه قبل إجارتها، مذكرا إياها:
“أي بنية، اكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له”
وقد كانت رضي الله عنها وأرضاها حريصة على طاعة أمر ربها، فلم تكن لتتجاوز حدوده أبدا..
ولم يكن أبا العاص ليتجاوز الحدود بينهما أيضا، فشهامته تأبى عليه ذلك، فاكتفى بالجلوس مع طفليه الذين طالت غيبته عنهما.. 
أما آن لك أن تسلم يا أبا العاص!!
وَبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِيْنَ أَصَابُوا مَالَهُ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالاً، فَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَرُدُّوْهُ، فَإِنَّا نُحِبَّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللهِ، فَأَنْتُم أَحَقُّ بِهِ).
قَالُوا: بَلْ نَرُدُّهُ
وفي مسجد النبي حيث اجتمع الحبيب صلى الله عليه وسلم بأصحابه، بعد أن أجلس أبو العاص إلى جواره، وقد أثنى عليه وعلى أخلاقه، بدأ المسلمون بإعادة كل ما غنموه من تلك القافلة، حتى لم يبق لهم منها شيء، وأبو العاص يرى ذلك أمامه بتأثر.. ولم يكن من دأب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُكره أحدا على الاسلام، فلم يجبر أبو العاص على ذلك، محترما خياراته، فما كان من أبي العاص إلا أن جمع أمواله، ثم اتجه إلى مكة عائدا بها، حتى إذا ما وصلها، وأعاد الحقوق إلى أصحابها- إذ كان تاجرا مؤتمنا لدى قريش- قال:
“يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَلْ بَقِيَ لأَحَدٍ مِنْكُم عِنْدِي شَيْءٌ؟
قَالُوا: لاَ، فَجَزَاكَ اللهُ خَيْراً فقد وجدناك وفيا كريما…
قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَاللهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الإِسْلاَمِ عِنْدَهُ إِلاَّ خَوْفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالِكُم”
قال كلماته تلك وانطلق باتجاه المدينة، ليترك القوم خلفه في ذهولهم، بعد أن خسروا أحد أبرز رجالهم، ممن اجتمعت لهم الفروسية والتجارة، ليزيد بذلك رصيد المسلمين من تلك النخبة..
وأخيرا.. اقتربت لحظة اللقاء.. وكبّر المسلمون فرحا بإسلام أبو العاص، الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، بوجه جديد مشرق بنور الايمان والتوحيد..
ما أشبه اليوم بالبارحة.. هاهو يطلب يد زينب من والدها مجددا.. ومشاعره نحوها لم تتبدل أو تتغير، بل لقد ازدادت في قلبه تدفقا..
وخفق قلب زينب ودمعت عيناها.. فسجدت لله شكرا.. أن هدى أبو العاص للتوحيد وانقذه من براثن الشرك..
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.. لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى..
والتقى الحبيبان مرة أخرى، لينعما بعظيم فضل الله على عباده.. لقد قطفت زينب ثمرة صبرها، فشكرت.. لتكون مثالا للمؤمنة الصالحة الصابرة الشاكرة في اختلاف الاحوال..
غير أن طبيعة الحياة تأبى الاستمرار على وتيرة واحدة، وكأن زينب قد استنفدت طاقتها في التجلد طوال السنوات الماضية، وقد أقر الله عينها أخيرا بعودة زوجها لها.. وآن لها أن تستعد لملاقاة خالقها.. بعد أن اشتد بها الوجع.. فلم يمضِ على اجتماعها مع أبو العاص أكثر من سنة واحدة، انتقلت بعدها إلى جوار ربها، متأثرة بجراحها القديمة، حتى رأى البعض أنها ماتت شهيدة.. وقد كان ذلك في السنة الثامنة للهجرة..
حزن عليها الحبيب صلى اهنة عليه وسلم، وحزن عليها أبو العاص حزنا شديدا، فبكى بكاء مريرا، حتى أبكى من حوله.. وربما قام البعض بلومه على ذلك، غير أن الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو أرحم الخلق، روي عنه قوله لهم- صلى الله عليه وسلم:
دعوه.. فإن مصابه عظيم..
وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من النسوة اللاتي غسّلن زينب، أن يخبرنه إذا انتهين، قائلا:

“اغسلنها وتراً، ثلاثاً أو خمساً، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئا من كافور، فإذا غسلتنها،فأعلمنني. فلما غسلناها أعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه.

” ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قبرها، وهو مهموم ومحزون، فلما خرج سري عنه وقال: كنت ذكرت زينب وضعفها، فسألت الله تعالى أن يخفف عنها ضيق القبر وغمه، ففعل وهون عليها””.

فصلى الله على الحبيب محمد، خير زوج وخير أب، وخير حمى وخير جد، وخير صاحب وخير قائد.. خير خلق الله أجمعين.. صلى الله عليه وسلم
ورضي الله عن السيدة زينب.. نعم المؤمنة الصابرة.. ونعم الابنة البارة الصالحة، ونعم الزوجة الوفية المحبة المخلصة..
ورضي الله عن أبي العاص بن الربيع.. نعم الرجل الشهم الوفي الأمين.. ونعم الزوج المحب..ونعم الصهر البار..
ورضي الله عن صحابة الرسول أجمعين، وبناته الطاهرات وزوجاته أمهات المؤمنين..
رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى في عليين..


وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

*(أعطانا حقوه): الحقو وهو مايشبه الحزام كان يربط عند الخصر قديما..

الذبابة-الشريرة

الذبابة الشريرة

عن القصة:

كيف لكلمة أن تثير المشاكل، أو أن تحل خلاف؟!!
راوية وريم وروعة، ثلاث أخوات يعشن بسعادة في ظل والدين كريمبن، فكل واحد يعرف دوره ويقوم بواجبه، حتى حدث أمر لم يكن بالحسبان، فقلب حياتهن رأسا على عقب!
ترى.. ما قصة الذبابة الشريرة، وكيف استطاعت افساد حياة الأخوات الثلاث؟!

قصة للأطفال، نُسِجت بخيوط التسلية والمتعة..

التصنيف: خيال، شريحة من الحياة

كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، ولا يطيب الكلام، إلا بذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله، خير الأنام (صلى الله عليه وسلم)..

كان هناك مستنقع كبير في إحدى الغابات الكبيرة، يضم مختلف أنواع الحشرات، ورغم أن تلك الحشرات اشتهرت بسوء أدبها وإيذائها للجميع، إلا أن أكثرهم سوءا؛ كانت ذبابة سوداء، لم يسلم من شرها أحد، ولا حتى الحشرات نفسها! إذ كانت دائما ما تثير الفتن والمشاكل بينهم، حتى عقدت الحشرات اجتماعاً طارئاً؛ قرروا من خلاله طرد الذبابة الشريرة من المستنقع، وعدم السماح لها بالسكن قربهم أبداً…

غادرت الذبابة الشريرة المستنقع، وهي تهدد وتتوعد بأنها ستنتقم من الجميع شر انتقام، ولأن الشر يسري في دمها، فقد أخذت تبحث عن مكان جديد، تمارس فيه هواياتها الشريرة!

وفي طرف الغابة، وجدت الذبابة الشريرة ما تبحث عنه، حيثُ عثرتْ على كوخ جميل، تقيم فيه عائلة سعيدة، مكونة من أب وأم وثلاث بنات..

كان الأب حطاباً، يخرج لعمله قبل شروق الشمس، مصطحباً فأسه، ليعود قبيل الغروب مع رزمة الحطب، وفي نهاية كل أسبوع، يذهب إلى المدينة لبيعه وقبض الثمن، في حين تقضي الأم وقتها في الخياطة، حيث تبيع ما تنجزه لأهل المدينة، كما تقوم بشراء الحاجيات الأساسية للمنزل، عند ذهابها إلى هناك..

أما البنتين الكبرى والوسطى؛ فقد تقاسمتا الأعمال المنزلية المطلوبة، إذ تقوم الأخت الكبرى (راوية) بإحضار الماء من النهر، لتملأ الدِلاء في المنزل، وتزويده بحاجتهم من الماء، وتقوم الأخت الوسطى (ريم) بالتنظيف والترتيب، فيما تقضي الأخت الصغرى (روعة) معظم وقتها باللعب مع الدمى؛ فهي لا تزال صغيرة على العمل..

وبالطبع كانوا يجتمعون على العشاء، وأحياناً على الغداء أيضاً، حيث تعد لهم الأم أشهى الوجبات المفيدة والمغذية..

كانت حياة العائلة منظمة، الكل يعرف واجباته، ويقوم بها على أكمل وجه، فكانوا مثالا للأسرة السعيدة الراضية..

لكن الذبابة الشريرة لم يعجبها هذا الوضع من الاستقرار، الذي تنعم به العائلة؛ فقررت التدخل!

ذهبت في البداية إلى الأخت الكبرى (راوية)، وهمست في أذنها قائلة:

– أنتِ تتعبين كثيراً عند جلب الماء إلى المنزل، في حين تنعم أختاك بالراحة، أختك الوسطى تقوم بأعمال بسيطة فقط، وأختك الصغرى تعفيها أمك من المسؤوليات؛ رغم أنها قد كبرت الآن، وهذا ليس عدلاً!

أخذت راوية تتلفّت حولها بتعجب، وهي تتساءل:

– من هذا الذي يحدثني؟

ولكن الذبابة الشريرة كانت ماهرة بالاختباء بسرعة، فلم تدع راوية تلاحظ وجودها، وعندما حاولت راوية تجاهلها، عادت الذبابة من جديد لتهمس في أذنها:

– فكري جيداً بالموضوع، أختك الوسطى مرتاحة في المنزل الآن، وستقوم بسكب الماء الذي تتعبين بإحضاره، لتتظاهر بالتنظيف؛ في حين أنها تتسلى بذلك! أما أنتِ فتتعبين تحت أشعة الشمس!

وأخيراً وقفت راوية للحظة، تفكر بما سمعته، ثم شعرت بالغضب يشتعل في نفسها، فألقت بالدلوِ من يدها، وعادت إلى المنزل غاضبة، وهي تردد:

– لن أقوم بحمل دلاء الماء بعد اليوم أبداً..

وعندما وصلت إلى البيت، وجدت أختها الوسطى (ريم) بانتظارها، وهي تحمل مقشة التنظيف في يدها، لكنها تفاجأت عندما لم تجد دلو الماء معها، فسألتها بدهشة:

– أين الماء يا راوية؟ لقد أنهيتُ ترتيب البيت، لكنني لم أستطع تنظيفه بعد، فقد نَفِد الماء من عندنا!

فما كان من راوية إلا أن صرخت بوجهها قائلة:

– إذا أردتِ الماء فاذهبي وأحضريه بنفسك، بدل اللعب به هنا..

غضبت ريم من طريقة أختها في الكلام، فردت عليها بصراخٍ مماثل:

– ماذا!! هل تقولين بأن تنظيفي للمنزل لعباً!! وما الذي تفعلينه أنتِ إذن! لا فائدة تُرجى منكِ أبداً، ولا تستحقين أن تكوني أختاً كبيرة..

ولم تحتمل راوية إهانة أختها، مما أدى إلى دخولهما في شجار عنيف، حتى أن الأخت الصغرى (روعة) اختبأت تحت السرير من شدة الخوف، إذ لم تعتد على وجود الشجار في منزلهم قبل اليوم..

أما الذبابة الشريرة فقد أخذت تضحك بسعادة، وهي تشاهد ذلك الشجار، لكن عودة الأم أفسدت عليها هذه المتعة!

كانت الأم سيدة حكيمة، فسرعان ما أنهت الخلاف بين البنتين، بعد أن سمعت منهما ما حدث، فأفهمت راوية بأن عَمَل ريم في المنزل؛ لا يقل أهمية عن عملها في جلب الماء، ثم قالت لريم بأنه ما كان عليها أن ترد على راوية بالأسلوب الغاضب نفسه، لتزيد الطين بلة! فاعتذرت البنتان عن فعلتهما، ليعم الوفاق بينهما من جديد..

لكن الذبابة الشريرة لم يهدأ بالها، وشعرت بالغيظ، فأخذت تخطط لفكرة شريرة أخرى، تُفسد من خلالها جو العائلة الهاديء!

وفي اليوم التالي، وبينما كانت الأخت الوسطى (ريم) منشغلة بترتيب البيت، سمعت صوتاً يهمس في أذنها:

– رغم أنك لستِ الأخت الكبرى؛ إلا أن المسؤولية الملقاة عليكِ كبيرة جداً، تهتمين بأمور المنزل، وتعتنين بأختك الصغرى، بينما تخرج أختك الكبرى إلى الغابة بحجة إحضار الماء، فتلعب هناك وتستريح، ولا تعود إلا بعد أن تتأكد من أنك انتهيتِ من الترتيب، حتى لا تساعدك فيه!

التفتت ريم حولها بفزع:

– من هناك؟ من هذا الذي يكلمني هكذا؟

غير أن الذبابة الشريرة اختبأت بسرعة كالمعتاد، فلم تتمكن ريم من رؤيتها، وعندما حاولت أن تستأنف عملها في المنزل، عادت الذبابة لتهمس في أذنها من جديد:

– انظري إلى أختك الصغرى، إنها تلهو بمرح ولا مبالاة، ولا تفكر بمساعدتك أبداً، رغم أنك عندما كنتِ في مثل عمرها؛ بدأتِ بالمساعدة في المنزل، وهذا ليس عدلاً!!

في تلك الأثناء، دخلت روعة مسرعة إلى المطبخ، وهي تحمل دميتها الصغيرة، لتشرب كوباً من الماء، فلم تنتبه للمكنسة التي وضعتها ريم في الطريق، ريثما تُحضر ما تجمع به الأتربة المتكومة على الأرض، فما كان من روعة إلا أن ارتطمت بها، لتتبعثر الأتربة في كل مكان! وفي تلك اللحظة أقبلت ريم، وعندما رأت ما أحدثته روعة من فوضى، ثار غضبها بشدة، فضربتها، وهي تصرخ بها بغضب:

– ألا يكفي أنك مدللة وعديمة الفائدة! لم أعد أحتمل أكثر من هذا أبداً!!

وأخذت روعة تبكي وتنتحب بأعلى صوتها، فيما أثار ذلك غضب ريم أكثر، فأخذت تهزها وتنهرها بشدة:

– اصمتي ايتها المدللة لم أفعل لك أي شيء، هذا يكفي!!

فيما كانت روعة تصرخ وتبكي بإصرار، وهي تدفعها بيديها:

– أنتِ قاسية.. لا أحبك.. لم أفعل لك شيئا لتضربيني.. سأخبر أمي..

وعندما عادت راوية ورأت الشجار بين أختيها؛ حاولت التدخل لحل المشكلة، لكن ذلك زاد الأمر سوءا! إذ سرعان ما وجّهت ريم غضبها نحوها باتهامٍ صريح:

– هل عدتِ من اللعب أخيراً!

وكانت جملتها تلك كفيلة بإثارة غضب راوية، التي ردت عليها بحدة:

– هل تُسمّين جلب الماء تحت أشعة الشمس لَعِباً!!

ولم تتمالك الذبابة الشريرة نفسها، فاستلقت على ظهرها فوق أحد الرفوف، من شدة الضحك!!

وعندما عادت الأم فوجئت بحالهن، فهذه روعة تبكي، وراوية وريم تتجادلان بحدة!!

وكما فعلت في المرة الماضية، حاولت أن تحل المشكلة بينهن بحكمة، حتى هدأت الأمور من جديد..

لكن تكرار المشاكل مرتين متتاليتين؛ أثار ريبة الأم، فعزمت على أمرٍ ما..

في اليوم التالي، خرج الأب إلى عمله كالمعتاد، وخرجت الأم إلى السوق، وذهبت راوية لإحضار الماء، وبدأت ريم بكنس أرضية المنزل، في حين أخذت روعة تلعب بألعابها في الغرفة، عندما سمعت صوتاً يهمس في أذنها:

– لا أحد يحبك في هذا البيت، ولا أحد يهتم باللعب معك أبداً، أنتِ دائماً وحيدة، والجميع يُملي عليك الأوامر فقط! حتى أختك ريم تعاملك بشكل سيء، وأنتِ تطيعينها فقط! عليكِ أن تثبتي لها بأنك حرة ولا دخل لها بك، وليس من حقها أن تحرمك من اللعب بالطين كما تشائين!!

فكّرت روعة بما سمعته، فألقت الدمى والألعاب على الأرض بغير ترتيب، ونهضت من مكانها، وقررت أن تفعل ما يحلو لها، مما أسعد الذبابة الشريرة كثيراً، فأخذت تتبعها، وتحثّها على ارتكاب الأخطاء، وهي تترقب ما سيحدث من مشاكل جديدة، بسعادة كبيرة! ولكن قبل أن تفعل روعة أي شيء؛ دخلت أمها فجأة:

– هل ستستمعين لكلام الذبابة يا روعة؟

نظرت روعة إلى أمها بدهشة، وسألتها بتعجب:

– أي ذبابة يا أمي؟

أما الذبابة فقد كادت أن تموت من الخوف، فلم تكن تعرف أن الأم كانت تراقبهم من النافذة، فحاولت الهرب من المنزل بسرعة، لكن الأم تمكنت من الإمساك بها، ثم وضعتها في علبة زجاجية صغيرة، وأغلقتها عليها بإحكام، فأخذت الذبابة الشريرة تصرخ وتستغيث:

– أخرجوني من هنا… أخرجوني بسرعة..

وضعت الأم العلبة على طاولة المطبخ، ونادت على ريم- التي تفاجأت من عودة أمها من السوق بسرعة- ثم انتظرت راوية ريثما تعود من الخارج، وبعد أن اجتمعت الفتيات الثلاثة حول الطاولة، كما طلبت منهن أمهن، قالت لهن:

– هذه الذبابة هي من كانت توسوس لكم بالأفكار الشريرة، لتثير المشاكل بينكن..

تفاجأت الفتيات الثلاثة مما قالته أمهن، ونظرنَ إلى بعضهن البعض بتعجب، وقد فهمنَ كل شيء!! فقد عرفن أخيراً من كان يهمس في آذانهن بتلك الأفكار!!

فيما تابعت الأم كلامها:

– وقد تكون هناك ذبابات أخرى، فهل ستسمحن لحشرة صغيرة بأن تضحك عليكن هكذا؟

شعرت الفتيات الثلاثة بالخجل من أنفسهن، ووعدن أمهن بأنهن لن يستمعن لأية أفكار سيئة مهما كانت..

في تلك الأثناء عاد الأب من عمله، بعد أن انتهى من بيع الحطب باكراً، ومعه ثلاث هدايا للبنات، فشكرنه ووعدنه بأن يكنّ دائماً عند حسن الظن..

وهكذا… عاشت العائلة بسعادة ورضا من جديد، الكل يعرف واجبه، ويقوم به على أكمل وجه، ويحسن الظن بالآخرين..

***

تمت

ملاحظة ختامية على هامش القصة: قبل بضع سنوات وخلال إحدى الاجتماعات العائلية؛ حدث شجار (أو خلاف طفولي ^^) بين ثلاث فتيات صغيرات من الأقارب، فخطر ببالي حل المشكلة (كالعادة) عن طريق قصة انسجها لهن من واقع الحدث، فجاءت هذه القصة من وحي اللحظة (بإلهام من الله)، ومن فضل الله أن براءة الطفولة تتفاعل مع القصص المَحكِيّة وتأخذها على محمل الجد، مما ترك أثراً إيجابيا على الفتيات والحمد لله في ذلك الوقت ^^
وقد خطر ببالي وقتها أن أقوم بكتابة هذه القصة، وكتبتُ ملاحظة بذلك، ولكن لم يتسنى لي تنفيذ هذه المهمة إلا بعد سنتين تقريبا من تلك الحادثة، وجزى الله خيرا من كان السبب..
بالطبع، أجريتُ تعديلا طفيفاً على القصة من حيث تغيير نوع الحشرة، فوقتها كانت هناك فراشة شريرة تم طردها من مملكة الفراش!! أما عند الكتابة ففضلتُ أن تكون الحشرة ذبابة؛ لنضرب عصفورين بحجر واحد كما يقول المثل (وبالطبع لا أحب ضرب أي عصفور^^)
كما أنني نسيتُ أسماء الأخوات الثلاثة، فأضفتُ أسماء جديدة، وما سوى ذلك؛ فالقصة تقريباً هي هي كما أتذكرها، وقد تم تحويلها فقط لأحرف مطبوعة^^

شيء آخر… عندما حكيتُ القصة أول مرة ورأيتُ تفاعل الفتيات معها (والحمد لله) أخبرتهم بأن عمل الشيطان هو الوسوسة، لذا نحن نتفل عن يسارنا ثلاث مرات ونقول “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” إذا خطرت ببالنا أفكار شريرة…
وأرجو أن تكون هذه الفكرة ذات فائدة لكل طفل تقصون عليه هذه القصة، فعندما كنتُ صغيرة وكنا نرتكب الأخطاء، كانت جدتي (رحمها الله) تقول لنا عند أي خطأ، أو عندما نشرع بالبكاء المزعج: – الان الشيطان يضحك عليكم وسيذهب لأخذ جائزة من أمه! وطبعا نحن لا نريد لهذا الشيطان أن يضحك علينا ولا نريده أن يأخذ جائزة من أمه، لذلك نكف عن الازعاج^^
(رحمك الله يا جدتي وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة)

وها نحن في هذه الايام الفضيلة من عشر ذي الحجة؛ نجدد نشر هذه القصة مع خلفيتها على نبراس المانجاكا، لعلها تكون نبراساً للصغار وللكبار على حد سواء، بل ونبراسا للمؤلفين والمانجاكا وكل من يسعى لنشر خير او دفع شر، والكلمة الطيبة صدقة ^^

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعا لكل خير، ويجعل أعمالنا وأقوالنا وكتاباتنا صالحة ولوجهه خالصة، ويتقبلها منا بقبول حسن..

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كلمات

كلمات

عن القصة:

كانت مهيبة تحاول مقاومة المرض بصعوبة وهي تتشبث بدفترها البلوري، مرددة:
– يجب أن أفعل شيئا قبل أن تبتلعه الهاوية!
فيما تطايرت الفراشات حولها بقلق!!
فما هي قصة هذا الدفتر وما علاقته بالفراشات؟

التصنيف: خيال, رمزي

في إحدى قلاع العالم الأسطوري المهيبة؛ تراقصت فراشات مضيئة لامعة فوق أحد الرفوف المكتظة بالأوراق القديمة..
قالت إحداها بقلق:
– أخشى أن تكون حالة سيدة القلعة أسوأ مما نتصور، فهي لم تحرك قلمها منذ اسبوع!
فعلقت أخرى بحزن:
– نحن نبذل جهدنا من أجلها، ولكن ما باليد حيلة! فلا زالت تهذي باسم “الأمين” منذ ذلك الحين، إلى أن فقدت وعيها وهي تكتب في دفترها الخاص! يبدو أن غيابه أثّر عليها كثيرا!
عضّت الفراشة السوداء على أسنانها بغيظ:
– يا له من فتى عديم المسؤولية…
فأسرعت الفراشة الحمراء لتسكتها:
– إياك أن ترفعي صوتك بهذا، فهذا سيؤلم السيدة مهيبة أكثر! أنت تعرفين مكانته لديها، وأجزم أنها تعتبره كابنها!
– بل أتحدى أنه لو كان لديها ابن، لما اظنها أحبته واهتمت به أكثر منه! أخشى أن تعلقها به أثر على صحتها!

**

وفي إحدى الغرف؛ كانت مهيبة مستلقية على مكتبها، فوق دفترها البلوري الخاص، عندما فتحت عينيها فجأة وهي تشعر بحرارة شديدة، فتلفتت حولها محاولة تذكّر ما الذي كانت تفعله! وما أن وقعت عيناها على السطر الأخير، الذي كتبته في دفترها؛ حتى ارتجف قلبها، وبصعوبة حاولت امساك القلم، غير أن أصابعها لم تسعفها، فتهاوت على المنضدة بإنهاك تام، فيما نفرت الدموع من عينيها، وهي تتمتم:
– يجب أن أفعل شيئا قبل أن تبتلعه الهاوية.. يجب أن أقاوم المرض.. يجب أن انتهي من هذا كله قبل فوات الأوان…
غير أن فراشة زرقاء زاهية، قالت لها:
– هوّني عليك يا سيدتي! لا داعي لأن تضغطي على نفسك من أجل شخص مثله، إنه حتى لم يكلف نفسه عناء السؤال عنك…
غير أن مهيبة رمقتها بنظرات كادت أن تحرقها:
– كم مرة عليّ أن أكرر كلامي؟ انا لا يهمني أي شيء من ذلك! ولطالما كررتها.. حتى إن لم أعد أعني أي شيء للأمين، فهو لا يزال يعني لي كل شيء، وأريد منكم جميعا أن تدركوا هذا جيدا، إذا كنتم تهتمون لأجلي حقا؛ فأرجو منكم مساعدته والوقوف إلى جانبه..
وتهدج صوتها بانكسار يغلفه حزن شديد:
– إنني أرجوكم.. إذا كان هناك أي شيء يمكن فعله لأجل الأمين، فلا تترددوا في ذلك..
– ارجوك كوني واقعية! انه ليس ابنك من لحمك ودمك!! لذا توقفي عن معاملته وكأنه كذلك، لأنك عاجلا أو آجلا ستندمين!!
بوغتت مهيبة بتلك الحقيقة، لكنها سرعان ما قالت:
– قد لا يكون ابنا من لحم ودم، ولكنه ابن الروح والقلب، ولن أتوانى عن تقديم كل ما أملك لأجله..
وتنهدت:
– أنا لا اعرف إلى متى ستظل مشاعري نحوه بهذه الطريقة، ولا يهمني أن أعرف، ولكن طالما أنه يعني لي كل هذا، ويحتل كل هذه المكانة لديّ؛ فأنا لا أريد الشعور بالندم لتقصيري نحوه!
لم تحتمل الفراشة السوداء سماع المزيد، فهمست بغيظ:
– ليتني أفهم عقلية مهيبة وكيف تفكر! أشعر أنني لم أعد أطيق الأمين بسببها! فتى عديم المسؤولية، يتلقى كل هذا الاهتمام منها، ونحن بالكاد تلتفت إلينا؟ أشعر وكأنه سحرها…
– أجل.. هذا صحيح.. لقد سحرها حقا وما أنتم سوى جزء من هذا السحر!
تلفتت الفراشات بحثا عن مصدر الصوت بتعجب:
– من يتحدث؟
– لا أظنكم تعرفون الحقيقة، ولا حتى تدركونها.. مهيبة كانت على شفير الهاوية، وكادت أن تفقد آخر معنى لها في الحياة، إلى أن ظهر “الأمين”، فكان سببا لإعادة الحياة لروحها اليائسة!
فقالت الفراشات بصوت واحد:
– هراء! لا نذكر أي شيء من هذا!! نحن صديقات مهيبة… نحن من يلازم مهيبة دوما ويؤنسها.. ونحن الأقرب إلى قلبها.. نحن…..
– وهنا مربط الفرس! ما أنتم سوى كلمات الأمين التي امتزجت بمشاعر مهيبة.

***

أطبق صمت مهيب لم تستطع أي فراشة الافلات منه بسهولة، فيما أخذت فراشات ذهبية جديدة بالتكاثر من مداد كلمات مهيبة، المنسكبة على أوراق دفترها البلوري!
تنهدت الفراشة الزرقاء، وهي ترى سيل الفراشات الذهبية الجديدة المندفعة باتجاه النافذة، والتي لم يشك أحد بأنها تتجه صوب الأمين، بحثا عنه، وإنقاذا له:
– أظنني بدأت افهم ما يجري هنا! فإذا كنا نحن “كلمات الأمين” التي رفرفت حول مهيبة ردحا من الزمن، فهذا يفسر كل شيء!!
غير أن الفراشة السوداء قالت بامتعاض:
– لا أريد أن أصدق بأنني جزء من ذلك الفتى، رغم أنها تبدو الحقيقية! فلا أذكر أي وجود لي قبله!
ثم ابتسمت بسخرية:
– يبدو أنني أمثل الجانب المظلم من كلماته!
– بل أنت الجانب الأكثر اهتماما وصراحة!
لم تنتظر الفراشة الزرقاء ردا على جملتها تلك؛ بل رفرفت عاليا في السماء، لتتبع سيل الفراشات الذهبية، قائلة:
– إذا كانت “كلمات” الأمين سببا في وجودنا هنا؛ فحريٌّ بنا أن نكون أولى من يهب لإنقاذه! وهذا أكثر ما تريده منا “مهيبة” الآن!

*****
تمت
*****

همسة:
قد لا نتصور احيانا مدى تأثير “الكلمات” على النفس، حتى نجرب ذلك بأنفسنا!!!
كلمة واحد قد تصنع فارقا كبيرا، أكثر مما يتصوره العقل والمنطق!
ولذلك ضرب الله بها مثلا!
(مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها)
وقد روي في الحديث:
(إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالا يرفعه الله بها درجات وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالا يهوي بها في جهنم)
وإذا كان تأثير الكلمات كبير جدا على الآخرين بشكل عام، فهو ذو تأثير مضاعف بلا شك، على الاشخاص الذين يهتمون لأمرك كثيرا!!!
كلمة واحدة من شخص يهمك أمره، قد تصنع حياتك؛ أو تقلبها رأسا على عقب!
ولأن أكثر من يهتم لأمرنا هم “والدينا”، بل ولن تجد أحد في العالم يحبك ويهتم لأمرك أكثر من والديك؛ فقد كانت لطريقة “الكلمات” معهما أهمية خاصة جدا، لدرجة أن نزلت بذلك آيات عظيمة!
(ولا “تقل” لهما أف)
(و”قل” لهما قولا كرما)
(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة و”قل” رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)

***

نسأل الله ان يهدينا لافضل الاقوال والاعمال والنيات، ويوفقنا جميعا لما يحب ويرضى
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ملكة-النجوم-السعيدة

ملكة النجوم السعيدة

عن القصة:

لم تكن النجمة الزرقاء نجمة عادية، إذ سرعان ما احتلت مكانة خاصة استثنائية لدى “ملكة النجوم السعيدة”
وفي اليوم الذي كانت تخطط فيه الملكة لاطلاعها على سر خطير؛ حدث ما لم يكن بالحسبان!
فهل ستتمكن ملكة النجوم السعيدة من تجاوز ذلك؟!

التصنيف: خيال, نفسي

يُحكى أنه في أحد الكواكب البعيدة، كانت تعيش فتاة وحيدة، تُعرف بملكة النجوم السعيدة..

كانت سماء الكوكب مزدانة بالنجوم الملونة بجميع الألوان والأحجام، وكانت الملكة تحرص أشد الحرص على أن تنعم جميعها بالسعادة، وتبذل جهدها لأجل ذلك..

وذات يوم، لمعت نجمة زرقاء فريدة في سمائها على غير العادة، لتلقي عليها التحية بابتسامة تشع سعادة، قبل أن تقول:

– لم أرَ سماء مليئة بالنجوم كهذه السماء من قبل! تبدو مميزة جدا بشكل خاص، ألهذا سر يا ترى؟

أطرقت الملكة برأسها قليلا، في محاولة للتذكر، ثم أجابت:

– ربما كان لذلك سببا لكنني لا أذكره، المهم أن منظرها يبعث على السعادة وهذا يكفي..

قالت الملكة كلمتها الأخيرة، وهي ترفع ذراعيها عاليا وتفتح كفيها بابتهاج شديد، وكأنها تحتضن السماء، فعلقت النجمة الزرقاء:

– يعجبني تفاؤلك ونشاطك الدائم أيتها الملكة، فمنذ أن رأيتك وأنا معجبة بهمتك، أتمنى أن تظلي سعيدة هكذا دائما، ويشرفني أن أكون بصحبتك..

تأثرت الملكة بكلمات النجمة الزرقاء بشكل غريب، حتى ان دمعة نفرت من عينها، بل إنها لم تستطع الكلام لوهلة؛ فآثرت الصمت، فيما تابعت النجمة الزرقاء كلامها بمرح، وهي تلاحظ توهّج جواهر تاج الملكة:

– أنت حقا محظوظة بامتلاكك هذا التاج الجميل، فجواهره تبدو بهية، خاصة تلك الجوهرة الوردية!

فابتسمت الملكة:

– اعتبريه هدية لك إذا أحببت..

وهمّت الملكة برفع التاج عن رأسها، غير أن النجمة الزرقاء بادرتها بسرعة:

– لا يمكنني أخذ شيء كهذا أيتها الملكة، إنه كنزك الثمين، وما أنا إلا نجمة عادية!

غير أن الملكة أكدت بشدة:

– لستِ عادية أبدا! منذ فترة طويلة لم تظهر في سمائي نجمة مثلك! ولن أمانع أن أعطيك تاجي متى رغبتِ!

شعرت النجمة الزرقاء بالخجل الشديد، فأسرعت تغيّر دفة الحديث بقولها:

– يبدو أنك لم تغادري هذا الكوكب منذ فترة طويلة أيتها الملكة، فما رأيك أن تأتي معي في رحلة ترين فيها سماوات كواكب مختلفة؟

غير أن الملكة ردت بحزم:

– هذا مستحيل! فأنا ملكة هذا الكوكب، ويجب أن اضمن سعادة نجومي السعيدة دائما!

ثم استدركت بسرعة:

– ولكن بالطبع سيسعدني أن تخبريني عن تلك الكواكب وكأنني أراها، فما رأيك؟

وبالفعل انطلقت النجمة الزرقاء تحدث الملكة بكل شيء رأته خلال تجوالها في الفضاء الشاسع، وكانت الملكة تسعد بحديثها، وتأنس بقربها، حتى أنها بدأت ولأول مرة تتحدث عن نفسها، بدل الحديث عن نجومها فقط! ومع مرور الأيام؛ تأكدت الملكة أكثر وأكثر ان الشيء الذي كانت تفتقده طوال الوقت؛ قد وجدته أخيرا في النجمة الزرقاء، مما جعلها تحتل مكانة مميزة لديها، وكأنها جزء من روحها! فبدأت تطلعها على أخبار مملكتها، وأدق أسرارها، وتشاركها اتخاذ قراراتها وتهتم برأيها، ولم تكن النجمة الزرقاء لتبخل عليها بأي نصيحة أو مساعدة، مما ساعد في ازدهار الكوكب أكثر وأكثر..

وذات صباح، وبينما كانت الملكة تستعد لاطلاع النجمة الزرقاء على آخر أسرارها، لعلها تزيح حملا ثقيلا عن رأسها؛ تفاجأت باختفائها من سمائها!

في البداية لم تكترث للأمر كثيرا، فلا شك أن النجمة الزرقاء اشتاقت للتجول في الفضاء كسابق عهدها، وقد تعود لها بقصص جديدة كعادتها! غير أن انتظار الملكة طال كثيرا، وبدأ القلق ينتابها تدريجيا مع مرور الأيام، حتى انطفأت البهجة من عينيها، ولم تعد قادرة على أداء واجباتها، بل شعرت بالمرض يتسلل إلى جسدها، وهي تترقب ظهور النجمة الزرقاء في كل لحظة دون فائدة!

لو أنها فقط تعرف إلى أين ذهت؛ لربما غادرت مملكتها بحثا عنها، ولكن هيهات لها ذلك!!

كان الألم والحزن يعتصران فؤادها عصرا، ولم يكن هناك أحد يمكنه إدراك ما يحل بها، خاصة مع حرصها على الظهور بمظهر الملكة الواثقة أمام نجماتها السعيدة مهما كلفها الأمر، ومع ذلك.. لم يعد باستطاعتها رؤية سعادة النجوم حولها، فتنهدت:

– لماذا أشعر أن السماء أظلمت، وكأن النجمة الزرقاء وحدها من كانت تنيرها؟ ألهذه الدرجة خطفت بصري فلم أعد أرى غيرها، أم أن تلك هي الحقيقة فعلا؟ ليتني أذكر كيف كنت أعيش قبلها! بل هل كنت أعيش أصلا قبلها؟ لم أعد أدري!!

وإذ ذاك سمعت صوتا يصدر من قلبها:

– يبدو أنك نسيت النجمة الزهراء!

اقشعر جسد الملكة لوهلة، وهي تتلفت حولها بتوجس:

– من أنت؟

فجاءها الجواب بنبرة تنبعث من الأعماق:

– أنا ذكرياتك التي قمتِ بدفنها في أعماق نفسك السحيقة..

صمتت الملكة لبرهة من الزمن، لتتنهد بعدها بعمق قائلة:

– فهمت.. أنا لم انس النجمة الزهراء، فقد كانت صديقتي المقربة..

– هل هذا يعني أنها لم تعد كذلك؟

– ليس الأمر هكذا.. فأنا أسعد برؤيتها بين الحين والآخر بلا شك..

– وماذا إن غابت عنك لفترة طويلة؟

– أنا أقدر انشغالها بلا شك، فأنا أيضا قد لا أكون متفرغة لها دائما..

– ولماذا لا تفترضين الشيء نفسه مع النجمة الزرقاء؟

بوغتت الملكة بسماع هذا، فاستدركت بسرعة:

– النجمة الزرقاء مختلفة.. إنني اعتبرها جزء مني. لا يمكن مقارنة غيابها بنجمة أخرى!

– أليس هذا ما كنت تقولينه عن النجمة الزهراء في الماضي؟ يبدو أنك نسيت الأمر حقا!

صمتت الملكة مرة أخرى، وقد بدأت تشعر بصداع خفيف:

– لست متأكدة.. النجمة الزهراء لا زلت اعتبرها صديقتي، ولكن اهتماماتنا أصبحت مختلفة..

– ألا يمكن أن ينطبق الكلام نفسه على النجمة الزرقاء أيضا؟

– مستحيل! أنا والنجمة الزرقاء متشابهتان تماما، وهي أكثر من تشاركني الاهتمامات نفسها، إنها الوحيدة التي يمكنني أن ابوح لها بأفكاري الخاصة، التي بالكاد أواجه نفسي بها! لذلك لا يمكن مقارنتها بأحد!!

– يبدو أنك نسيت كلامك السابق عن النجمة الزهراء!

– لا أدري لم تحاولين اقحام النجمة الزهراء في الموضوع الآن!!

– الدهر كالدهر والايام واحدة…..

فأسرعت الملكة تقطع ذلك الحديث:

– لا.. لا يمكن للنجمة الزرقاء أن تكون مثلها، إنها مختلفة!!

– ألم تكن النجمة الزهراء مختلفة أيضا؟

– ربما كانت كذلك فعلا! لكن.. بالطبع ليست كالنجمة الزرقاء المتفردة..

– أنت حقا بدأت تنسين الماضي بسرعة! هل نسيت ماذا حدث مع النجمة الزهراء؟

– كان سوء فهم بسيط..

– ومع ذلك.. هل نسيت كم استغرقك الأمر حتى تعافيت منه؟ هل تريدين تكرار التجربة؟

– ولكن اليس من المبكر افتراض ذلك؟ لم يحدث أي سوء فهم بيني وبين النجمة الزرقاء، بل كنا متفاهمتين تماما..

– إذن لم أنت حزينة؟

– إنني قلقة عليها وحسب.. فلا أدري ما هو سبب اختفائها بعد، ولا أصدق أنها قد تختفي هكذا دون سبب.. أخشى أن يكون أصابها مكروها!

– وهل لو عرفت أنها بخير ستكونين سعيدة؟

– أجل بالطبع..

– حتى ولو لم تعد لسمائك مجددا؟

خيّم الصمت على الملكة كجبل ثقيل يكاد يقصم ظهرها، إلى أن تساءلت بصعوبة:

– ولم قد تفعل ذلك؟ السنا أصدقاء؟

– هذا ما تفترضينه أنت، ولكن ماذا عنها هي؟؟ قد لا تكوني أكثر من محطة عابرة في طريق رحلتها، فأنت بالنسبة لها ملكة هذا الكوكب، ولك شعبك الخاص! ربما لا تعلم بأهمية وجودها لك..

– هذا مستحيل.. فقد أخبرتها بذلك مرارا وتكرارا، إنها تدرك تماما مكانتها عندي، وتعرف إلى أي درجة قد افتقدها!

– حسنا.. لنفترض أنها تعلم، ومع ذلك لا تهتم.. فماذا ستفعلين؟

تحشرجت الحروف والكلمات في حلق الملكة، حتى شعرت بالاختناق، فيما تابعت تلك النبرة العميقة كلامها بحزم:

– هي ليست مجبرة أصلا أن تكوني محل اهتمامها، فهل ستقتلين نفسك من الهم؟

وبصعوبة خرجت الحروف ببطء شديد من جوف الملكة:

– ربما لو كنت قد أخبرتها بأنـ….

– بدون “لو”!! يجب أن تحذفي هذه القنبلة الموقوتة من قاموسك، فهي أخطر من السم الزعاف..

– وماذا بعد؟

– إن كنت تحبين النجمة الزرقاء حقا؛ فيفترض أن ذكراها الجميلة ستبقى في قلبك، فلا تجعليها عقبة في دربك! تابعي بكل تفاؤل حياتك، وتذكري أن النجوم السعيدة بانتظارك..

بدأت الغمامة تنقشع تدريجيا عن ذكريات الملكة، فهتفت بدهشة وهي ترى تلك اللوحة القديمة بوضوح:

– أجل تذكرت.. لقد اتخذت وقتها قرارا، وكان لا بد من تنفيذه.. السعادة قرار، وها أنا سأقرر مجددا.. مهما حدث.. يجب أن أكون سعيدة!

وأخيرا.. ابتسمت الملكة برضا، فيما انهمرت دموعها كسيل جارف، استحالت قطراته نجوم لامعة، رصعت سماءها بسعادة! وإذ ذاك سطعت من رأسها جوهرة كبيرة، بلون زرقة السماء الصافية، لم ير أحد أكبر منها ولا أروع؛ توسطت جواهر تاجها، طاغية على وجود بقية الجواهر بوهجها، وكأن التاج لا يحمل غيرها..

*********

تمت..

ملاحظة:
خطرت هذه الفكرة ببالي على غرار قصة الامير الصغير على الاغلب! وأيا ما كان السبب، فأرجو أن تحمل في طياتها بلسما شافيا، وسعادة لكل قلب.. ^^
فإذا رايتم النجوم في السماء، فاذكرونا بصالح الدعاء، ونسأل الله أن يرزقنا جميعا عيش السعداء..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ضربة-حظ-أم-ضربة-ملاكم

ضربة حظ أم ضربة ملاكم؟!!

عن القصة:

لطالما وجدنا انفسنا غارقين في ادنى مستويات اليأس؛ عاجزين امام صدمات الحياة ولكماتها المباغتة، غير ان الموازين قد تنقلب فجأة بطريقة لا تخطر لنا ببال، فهل هي ضربة حظ، ام ضربة ملاكم؟

التصنيف: قصة رمزية

– من الذي أطفأ الأنوار؟ بل كيف غربت الشمس فجأة!!

نطقت تلك الكلمات بحشرجة مخنوقة لم تتجاوز حلقها؛ ظلمة حالكة هبطت عليها؛ لتغرقها بسوادها القاتم، حتى أطبقت على أنفاسها، دون أن تترك لها بصيص أمل للنجاة!

وبقدر عتمة تلك الظلمة؛ سطع نقيضه ببريق وهّاج مفاجئ، كاد أن يخطف بصرها، فلم تنتبه لتلك الاسطوانة الحديدية الصلبة المندفعة نحوها بكل اصرار ،على شكل كيس ملاكمة قرر الانتقام أخيرا من جميع ملاكمي العالم عبر التاريخ فجأة! كل شيء كان يحدث فجأة.. الشيء ونقيضه فجأة، فكيف لها أن تتدارك الأمر بسرعة فجأة!!

– إنها النهاية بلا شك!

غير أنه في اللحظة الأخيرة، والتي أوشكت فيها تلك الاسطوانة على تهشيم وجهها، لتحيله إلى عجينة بائسة مختلطة بالدماء؛ اندفعت يد قوية من خلفها لتصد الاسطوانة بقوة رهيبة أذهلتها، حتى أنها شكت في نفسها، إن كان ما تراه حقيقيا، أم أنها قد بدأت أولى مراحل الغيبوبة إثر الصدمة!

– لا بأس عليك.. أنت لستِ وحدك في هذه الحياة!

كانت تلك الكلمات كالبلسم الشافي لها بلا شك، غير أن قوة المفاجآت المتتالية؛ لم تسعفها في العثور على كلمات شكر مناسبة!

وبينما كانت غارقة في صمتها، علّها تعثر على شيء تقوله؛ سمعت الصوت محذرا:

– انتبهي.. عليك أن تكوني أكثر حذرا الآن، فهذه الاسطوانة ستعود مرة أخرى ولكن بقوة أكبر، إنه قانون كيس الملاكمة المعروف، والذي يخضع لأحد أكثر قوانين الفيزياء صرامة!! أخشى أن يدي لن تكون كافية هذه المرة!

عندها.. انفرجت شفتاها عن ابتسامة امتنان عميقة، لتخرج كلماتها من حلقها بصوت مسموع أخيرا، وهي تشد على قبضتها بقوة:

– لا بأس.. فهذه المرة ستكون هناك يدان باستقبالها، لتدفعانها بقوة أكبر!

ساد صمت عميق، قبل أن يتكلم الصوت من جديد بنبرة ذات مغزى:

– ولكن هذا يعني أن ضربتها التالية ستكون أقوى وأقوى؛ فمن أين لنا بيد ثالثة عندها؟

فابتسمت وقد أدركت فحوى ذلك السؤال:

– إما أن تظهر لنا اليد الثالثة كما ظهرت يدك فجأة، او أننا سنكون معا أكثر قوة، فالله لم يخلق الناس للناس عبثا، أليس هذا هو فن التعامل مع لكمات الحياة؟!!

***

انتهت

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الرجل-العظيم

الرجل العظيم

عن القصة:

“شاب أسمه #هوتارو فى الـ 20 من عمره يحب فتاه أسمها #هينامى, وقام بخطبتها وكان يحبها حباً شديداً وبعد ان حددوا موعد الزواج، فجأه وصله خبر ان بعض اللصوص قامو باختطاف حبيبته .. ويبدأ هو وقتها رحلته بالبحث عن حبيبته من بلد لآخرى الخ…”

كان ذلك هو نص “★ المسابقه عن صنع قصه رومانسيه★” التي تم طرحها في إحدى مجموعات الأنمي الكبرى عام 2015، وكان من شروطها ان يكون “عدد الشخصيات التى بالقصه من 2 او 3 شخصيات كحد أقصى، ويكون افضل لو لم تكن القصه طويله كثيراً ” بناء على ذلك، وانطلاقا من الاعتقاد الراسخ بأن بامكاننا ادراج ثقافتنا العربية الاسلامية في مجال الأنمي، بما يوافق الذوق السائد للشباب؛ تم اعداد هذه القصة لتكون ردا على كل من يظن أنه لن يكون بامكاننا صناعة قصص أنمي من وحي ثقافتنا، أو أن ثقافتنا العربية قد تقيّد ابداعنا، او ستكون عائقا امامنا! وهكذا جاءت هذه القصة لتكون مثالا عمليا يقطع الشك باليقين، فتفضلوا لقراءة قصة: “الرجل العظيم”!

التصنيف: رومانسي، أكشن

أخذت السفينة تبتعد تدريجيا عن الميناء، فيما ازدحم المسافرون على واجهة السفينة المقابلة له؛ يلوحون لأهلهم وأصدقائهم في مشهد مثير، رغم كثرة تكراره!!

غير أن شاب واحد فقط وقف على الجهة الاخرى، يحدق في الافق البعيد، بعينين يشوبهما الشوق والحنين، لم يشعر بمضي الوقت وهو يقف على حالته تلك، كتمثال نُحت ليؤدي دوره في ذلك المكان، فلم ينتبه إلى صوت الربان وهو يعطي تعليماته، فقد كان غارقا تماما في عالم آخر.. عالم لم يستطع معه الشعور بما حوله، ولا مشاهدة أسراب النورس المحلقة فوقه، عوضا عن سماع أصواتها..

غير أن لفحة باردة من نسيم البحر، أثارت قشعريرة في جسده، وهي تلامس وجهه برقة، ذكرته بها، فأطلق تنهيدة طويلة:

– لقد بدأت الرحلة إذن! هينامي.. انتظريني وكوني بخير.. فأنا قادم..

وترقرقت عبرة في عينه، أثارتها أمواج من الذكريات اجتاحت مخيلته، عادت به إلى ذلك اليوم.. اليوم الذي رآها فيه أول مرة، فلم يعد يرى غيرها..

كان آنذاك فتى هادئا وخجولا في المرحلة الثانوية، يقضي معظم وقته وحيدا، حتى في أوقات الاستراحة، إذ كان يفضل الجلوس تحت شجرة لتناول شطريرته بعيدا عن ازعاج الطلبة، حتى جاء ذلك اليوم الذي لمح فيه تلك الفتاة الفاتنة، وهي تحاول التملص بلباقة من شاب حاول التقرب منها، لتنضم سريعا إلى صديقاتها، متخذة منهن درعا واقيا لها! كانت تلك هي المرة الاولى التي عرف بوجودها في مدرسته، كانت فتاة جميلة، بل فائقة الجمال، ذات شخصية آسرة ولطيفة، ورغم ذلك استطاعت أن ترسم حولها حدودا صارمة منعت المنحرفين من الاقتراب منها! لم يكن يعرف عن طبيعة ذلك الشيء الذي تحرك في قلبه تجاهها، غير أنه لم يجرؤ ولو لمرة واحدة على لفت نظرها لوجوده، ولو بحديث عابر، وآثر مراقبتها بصمت حتى بات يحفظ تحركاتها عن ظهر قلب، ولم يكن شيء يجلب له السعادة، أكثر من أن يوافق تنبؤه بتصرفاتها بما يصدر عنها فعلا، ومع ذلك بقي على مسافة كافية منها، فيما ازداد حبه لها بصمت مكبوت.. لم يدرك طبيعة ذلك الحب حتى جاء اليوم الذي سمع عددا من الطلبة في صفه يتحدثون عنها وعن الطريقة التي تمكنهم الوصول إليها خاصة وانها لم تواعد أحدا بعد، مما أشعره بغضب شديد وكأنهم يتحدثون عن ملكه الشخصي، وقتها همّ بافتعال شجار عنيف معهم لولا دخول المعلم!

عرف أنها تصغره بعام مما زاد من ألمه، إذ كان على وشك التخرج، فيما ستبقي هي سنة أخرى بعده، كان يائسا جدا ومحبطا إذ لم يجد طريقة تناسبه في الوصول إليها، لدرجة أنه بدأ بالتفكير في الاعتذار عن دخول الاختبارات أو التعمد في إهمالها ليتمكن من إعادة السنة، لولا خشيته من أن يزيد هذا من الفجوة بينهما، لا سيما وأنها فتاة مجتهدة، ولن يرضيها بالتأكيد الارتباط بفتى فاشل! كان ذلك هو الدافع الوحيد له ليتقدم نحو الامام، إلى أن حدث ما لم يكن بحسبانه، عندما ذهب لمقابلة المدير بشأن مشكلة حدثت في أوراق تخرجه، وقد فقد الامل تماما من الوصول الى الفتاة الوحيدة التي ملكت عليه فؤاده، فإذا به يراها أمامه وجها لوجه هناك!! شعر وقتها بارتباك مفاجيء كاد أن يفقده توازنه، وهم بالتراجع إلى الخلف وهو يشعر بحرج شديد إذ لم يكن يعلم أن لدى المدير زائرا آخر، غير أنه فوجيء به يناديه:

– هوتارو.. لقد جئت في وقتك يا بني..

والتفت إلى الفتاة الواقفة أمامه بأدب:

– هينامي، هذا من أفضل الطلبة في المدرسة وسيساعدك بالتأكيد على اختيار المراجع التي ستفيدك في السنة الاخيرة..

كانت تلك هي الهبة السماوية التي لم يحلم هوتارو بها أبدا، ولم يدر كيف استطاع تجاوز حرجه الشديد خلال تلك الفترة، حتى تمكن من خطبتها رسميا..

أفاق هوتارو من سيل ذكرياته على الحقيقة المرة التي يواجهها الآن! فقبض يده بشدة وهو يحترق ألما كلما تخيل ما حدث:

– لماذا هانيمي بالذات! لماذا؟؟؟؟

لقد مر أسبوع على ذلك الحادث الذي لم يستطع تصديقه بسهولة، فبعد أن حددا موعد الزفاف، هرع إلى منزلها بابتهاج شديد ليبشرها بنتيجة اختباراته الجامعية لهذه السنة، والتي أهلته للحصول على وظيفة بدوام جزئي قبل تخرجه، غير أنه فوجيء بمظهر والدتها الباكي، وهي تسوق له ذلك الخبر الصادم!!

لقد اختفت هانيمي، وعلى الأغلب أن ذلك كان اختطافا، فقد عثر أحد معارفها على بعض حاجياتها ملقاة على الارض، فيما تحدث بعض الاطفال عن رؤيتهم لرجلين أجبرا فتاة شابة على الذهب معهما!!

خرج وقتها كالمسعور يجري في الشوارع على غير هدى، وهو ينادي باسمها في كل مكان، فيما سُددت نحوه النظرات المتجهمة المستهجنة، بين مشفق ومستنكر، حتى سقط من التعب ينتحب نحيبا يائسا دون أن يدري ما الذي عليه فعله!

مرت أيام عصيبة، حاول خلالها التماسك واستعادة توازنه؛ ليستعيد حبيبته، فيما تولى والدها تبليغ السلطات والمسؤولين في البلاد عن تلك الحادثة..

أحكم هوتارو قبضته على تلك اللفافة في جيبه، وهو يحدق في البحر الممتد أمامه، مسترجعا تلك الكلمات التي ألقاها المحقق الخاص في إذنه:

– انها عصابة لها أهداف منحرفة وقد بدأت نشاطاتها بالانتشار في الاونة الاخيرة، وأظنهم سيتجهون الان نحو هذا الهدف لتسليم بضاعتهم..

وأشار بأصبعه على نقطة محددة فوق الخريطة الممتدة أمامه..

شعر هوتارو بالدم يغلي في عروقه لسماع تلك العبارة، وتلك الكلمة تحديدا!! فصرخ في وجهه بغضب:

– هينامي ليست بضاعة!! سحقا لاولئك الاوغاد سحقا لهم.. سحقا..

أخذ يردد تلك الكلمة وهو يضرب بقبضة يده اليسرى على حافة السفينة بقهر شديد، وقد استعاد كافة انفعالاته المتعلقة بذلك الموقف، وكأنه يعيشه مرة أخرى..

مرت أيامٌ عصيبة؛ حاول فيها هاتوري جاهدا السيطرة على نفسه، والتركيز على هدفه خلال تلك الرحلة الطويلة على ظهر السفينة، فانشغل بدراسة تلك اللفافة جيدا، والتي بين له فيها المحقق طبيعة ذلك المكان المجهول الذي سيزوره لأول مرة في حياته! إضافة إلى محاولته الجاهدة اتقان لغة تلك البلاد، عن طريق تلك الكتب التي ناوله إياها والد هينامي في اللحظة الاخيرة، فرغم أنه لم يخبر والدا هينامي بعزمه على السفر، إلا أنه فوجيء بوالدها يستوقفه قبل صعوده الى السفينة:

– ما الذي ستفعله وحدك يا هاتوري!! أرجوك يا بني لا تقدم على تصرف متهور، فالسلطات العليا ستتولى هذه القضية!

غير أن هوتارو أصر على موقفه:

– لا يمكنني الوقوف مكتوف اليدين بانتظارهم، سأفعل أي شيء من أجل هينامي، فثق بي أرجوك..

عندها ابتسم والدها وهو يقدم له عدة كتب:

– كنت أعلم أنك ستقول هذا، لذا أحضرت لك هذه الكتب لعلها تساعدك على تعلم لغة تلك البلاد..

***

استقرت السفينة أخيرا في ميناء تلك البلاد، وبدأ هوتارو رحلة البحث عن حبيبته دون أن يمتلك خطة واضحة المعالم لذلك، فالمكان كان غريبا جدا بالنسبة له، رغم جميع التوضيحات التي بينها المحقق في اللفافة، هذا إضافة إلى كونها بلاد واسعة مكتظة بالناس ذووي اللباس الغريب، فكان أشبه بالابرة الضائعة وسط كومة قش!

كان حب هينامي الجامح في قلبه، هو دافعه الوحيد للاستمرار في البحث عنها، فمضى في طريقه يحاول التماس الاخبار عن طريق المقاهي والمحلات، لعله يجد طرف خيط يوصله إلى مقر العصابة، فيما أخذت الايام والليالي تمضي تباعا، دون أن يصل إلى نتيجة مرضية! حتى أنهك التعب جسده، وبدأ اليأس يتسلل إلى نفسه، والقهر الشديد يعمل في قلبه عمل الخنجر، وهو يتذكر آخر تلك اللحظات السعيدة التي أمضاها مع هينامي، فيما بقيت كلماتها العذبة تتردد في أذنه:

– كم أنا سعيدة.. أخيرا سنتمكن من العيش معا تحت سقف واحد.. أحبك هوتارو..

ولم تعد قدما هوتارو تحتملان الصمود أكثر تحت ثقل همومه، وهو يرى ما آلت إليه حالهما، فلم يشعر بنفسه وهو يهوي على الارض بعد أن فقد وعيه..

***

احتاج هوتارو لعدة لحظات- بعد أن فتح عينيه- ليتذكر ما حدث معه! لقد كان آخر عهده بنفسه في أحد الشوارع، فما الذي أتى به هنا إلى هذا الفراش الوثير!!

 غير أن صوت أتى من جانبه الأيمن، لم يتركه في حيرته كثيرا، وهنو يقول له بكلمات تمكن من فهمها بصعوبة:

– الحمد لله على سلامتك، لقد كنت فاقد الوعي عندما وجدتك ممددا في الطريق، وأظنك غريب عن هذه المنطقة..

التفت هوتارو إلى محدثه، ليجد أمامه شابا وسيما قد أشرق وجهه بابتسامة حانية، رغم قوة جسده التي استطاع تمييزها من خلال عضلات ذراعيه،

ورغم شعوره بالارتياح نحوه، إلا أنه آثر الحذر مع هذا الغريب، والتزم الصمت لفترة طويلة، غير أن ذلك الشاب بادره بقوله:

– لقد كنت تهذي باسم هينامي طوال الوقت، وأظنها زوجتك التي تبحث عنها، أليس كذلك؟

فوجيء هوتارو من تلك الملاحظة السريعة، غير أن الشاب طمأنه بسرعة:

– يندر وجود الغرباء في هذا المكان، وقد خمنت من طبيعة حالتك التي وجدتك عليها، أنك كنت تبحث عن أحد ما، وعندما سمعتك تردد ذلك الاسم كثيرا خلال نومك، افترضت أنها زوجتك، هذا كل ما في الامر..

ولم ينتظر الشاب سماع رده، بل نهض من مكانه، ليحضر له طبق طعام ساخن بقوله:

– لقد طلبتُ من الطبيب المجيء للاطمئنان عليك، وقد أخبرني بأنك مرهق فقط وبحاجة إلى الراحة وتناول الطعام الجيد، وقد أعددتُ لك هذا الطبق بنفسي..

وأمام صمت هوتارو، استدرك الشاب نفسه:

– أرجو المعذرة، لقد افترضتُ جدلا أنك تفهم لغتي أليس كذلك؟

عندها أومأ هوتارو برأسه مجيبا بكلمة واحدة:

– أجل

فابتسم الشاب:

 – هذا جيد، وإلا لكنت مضطرا لمخاطبتك بلغتك رغم أنني لا أتقنها كثيرا

عندها سأله هوتارو بتعجب:

– وهل تعرف ما هي لغتي؟

فأجابه الشاب بابتسامة مرحة:

– بالتأكيد أعرف، فلدي خبرة كبيرة في تمييز الوجوه وبلادها، فهذا مجال عملي..

واستدرك قائلا بدعابة:

– بالمناسبة، ربما من الأفضل أن نبدأ حفل التعارف بيننا، ما رأيك يا صديقي؟

عندها انفرجت شفتا هوتارو عن ابتسامة صغيرة، شجعت الشاب على متابعة كلامه:

– سأعرفك بنفسي أولا، كما ترى فأنا أعيش في هذه الشقة الصغيرة لوحدي، إذ أن أهلي يقيمون في مدينة أخرى، وقد انتقلت مؤخرا بسبب طبيعة عملي، إذ أنني أعمل في مجال الترجمة وتداول العملات

فعلق هوتارو:

– هكذا إذن، هذا يفسر معرفتك بلغتي..

فابتسم الشاب مؤكدا:

– بالضبط..

ثم تابع كلامه بمرح:

– أظن أن علي أن أبدأ بالاسم أولا أليس كذلك! سأفقد أي وظيفة أتقدم إليها إن بدأت بالتعرييف بنفسي هكذا!!

فضحك هوتارو وقد بدأ يألف الشاب، وكأنه صديق قديم التقاه بعد فترة غياب طويلة، فيما تابع الشاب كلامه:

– اسمي محمد، وهو اسم مألوف جدا في بلادنا..

فأكد هوتارو كلامه:

– أجل لقد لاحظت ذلك فعلا، لقد سمعت هذا الاسم كثيرا منذ وصولي إلى هنا..

فقال محمد:

– هذا لأنه اسم رجل عظيم جدا نؤمن برسالته، غير أن القلة هم من يحفظون لهذا الاسم مكانته..

وتابع وهو يغمزه بعينه:

– وأنا أحاول أن أكون منهم..

كانت تلك البداية المشجعة، كفيلة بجعل هوتارو يتخفف قليلا من همومه، فانفرجت اساريره أخيرا، ليخبر محمد بكامل قصته، ولم يكد ينهي كلامه حتى لاحظ تغيرا كبيرا في وجه محمد، والذي استحال إلى اللون الاحمر من شدة الغضب، مما أربك هوتارو قليلا، وأثار حفيظته، فشعر ببعض القلق، وهو يحدث نفسه:

– ماذا لو كان هذا الشاب متآمرا معهم، أو فردا من تلك العصابة!!

غير أن محمد سرعان ما انتبه لذلك، فطمأنه بقوله:

– لا تقلق، فقد جئت في وقتك تماما، هذا بالفعل من حسن تقدير الله في الامور

لم يفهم هوتارو المقصود بالجملة الاخيرة، غير أن محمد تابع كلامه موضحا:

– اسمعني جيدا، فهذا سر لم أبح به لأحد من قبل.. منذ فترة وأنا أتتبع عصابة شعرتُ بنشاطاتها الخطيرة التي بدأتُ ألاحظها في بلادنا، فهي تسعى لإغواء الشباب والرجال، من أجل نهب أموالهم، فبدؤوا بإحضار الفاتنات من كل مكان، لاستغلالهن في هذا العمل الشنيع، إنها جريمة أخلاقية من كافة الجوانب لا يمكن السكوت عنها..

لم يستطع هوتارو احتمال سماع ذلك فصرخ وهو ينتفض بغضب:

– مجرمون، أوغاد، لن أسمح لهم بمس شعرة من هينامي..

فهدأه محمد بقوله:

– سأبذل جهدي لمساعدتك، ومن خلال تحرياتي السابقة عرفت أن من المشتركين في هذه الجريمة، رجل صاحب نفوذ كبير في البلاد، مما يعني صعوبة الوصول إليهم، ولكنني بالامس فقط، تمكنت من العثور على مخبئهم الذي يستقبلون به ضحاياهم الجدد..

فنهض هوتارو وقد شعر بطاقة نارية تجري في عروقه:

– خذني إلى هناك بسرعة.. أرجوك

***

 مرت اللحظات بصعوبة شديدة على نفس هوتارو، وهو يتخيل في كل لحظة ما يمكن أن يحل بهينامي، فيما كان يراقب ذلك المنزل بصمت مع محمد، والذي أرشده إلى أفضل خطة يمكن اتباعها من أجل النجاة بخطيبته…

وأخيرا استعد هوتارو لتفيذ دوره بعد أن أعطاه محمد شارة الانطلاق، فالتقط نفسا عميقا، ومشى بخطوات ثابتة نحو الباب الكبير، بلباسه الأنيق، وهو يحمل حقيبة سوداء فاخرة، من النوعية نفسها التي يحملها كبار رجال الأعمال عادة. وقف قليلا يراجع دوره بحذر؛ قبل أن يقرع الجرس، ثم انتظر لحظة أو لحظتين، حتى سمع صوت جلبة عند الباب، ليفتحه له خادم استقبال في لباس رسمي من الدرجة الاولى، وبعد أن رمقه الخادم بنظرة فاحصة سريعة، لم يشك فيها لحظة واحدة أنه رجل أعمال من الطراز الأول، سأله بأدب:

– عفوا.. هل من خدمة يا سيدي؟

تظاهر هوتارو بأنه لم يفهم لغة الرجل، فأبدى استنكارا واضحا وهو يتابع بلغته:

– أخشى أنني أخطأتُ العنوان، فقد أخبرني صديقي سيتيكاوا أن لديكم فتاة حضرت مؤخرا، وسترضيني جدا خلال فترة اقامتي القصيرة في هذه البلدة..

لم يكد الخادم يسمع اسم (سيتيكاوا) حتى أبدى اهتماما واضحا بالزائر، وهو يدعوه إلى الداخل معتذرا بلطف، وبلغة هوتارو نفسها:

– أرجو المعذرة، لم أكن أعلم أنك صديق السيد سيتيكاوا شخصيا..

قال الخادم جملته وهو يقوده إلى صالة استقبال ذات أثاث فاره جدا، وبعد أن استقر هوتارو في مقعد وثير، انحنى الخادم نحوه بأدب قبل أن يسرع بالذهاب قائلا:

– أرجو أن تمنحني بضع دقائق سيدي ريثما أعود..

ومع اختفاء الخادم؛ تنفس هوتارو الصعداء، محدثا نفسه:

– من الجيد أن معلومات محمد كانت دقيقة بهذا الشأن، أرجو أن تمر بقية الامور على خير..

أما محمد الذي كان يراقب المنزل عن كثب، تحسبا لأي طاريء، فقد أثارت انتباهه، أصواتٌ هامسة على مقربة منه، فحبس أنفاسه، وسكن في مكانه بين أغصان الشجرة الملتفة، التي اتخذ منها مكمنا له، وحاول ارخاء سمعه قدر المستطاع، حتى تمكن من تمييز بعض الكلمات بلغة اجنبية أخرى غير لغة هوتارو، فحدث نفسه، وقد استشاط غيظا، وهو يتذكر تلك اللغة::

– توقعت أن تكون عصابة متعددة الاجناس، ولكن كيف لم يخطر ببالي أن يكون هؤلاء الأوغاد ضمنهم!! ما الذي أتى بهم إلى بلادنا!! كان علي أن أعرف أن لهم يدا في هذا الأمر البغيض!!!

وحاول التركيز أكثر فأكثر، إلى أن استطاع تمييز صوتين لرجلين يدور بينهما حوار سري للغاية على ما يبدو، كان أحدهما يقول لصاحبه:

– أنت تعلم أن المال ليس هدفا رئيسا لدى قيادتنا العليا؛ لذا لا بأس من زيادة حصتنا منه؛ ما دمنا نحقق هدفهم الأساسي، ولن يلاحظ أحد أبدا عمليات الاختلاس هذه؛ فسنجريها بطريقة منظمة، وستساعدني – بخبرتك- على ذلك..

فرد عليه الاخر:

– ولكن إن كُشِف أمرنا فسنفقد ثقتهم إلى الابد، وربما نلاقي ما هو أسوأ بكثير!

فأجابه بنفاد صبر:

– لا تكن أحمقا، فنحن لسنا وحدنا في المنظمة على أية حال، وهدف القيادة اكبر بكثير من مجرد الحصول على المال كما أخبرتك، ولا أظنك تجهل حقيقة ذلك بالفعل! هل نسيت آخر لقاء لنا معهم؟ لقد كانوا سعداء جدا بالنتائج التي حصدناها، فالعديد من شباب هذه البلاد باتوا منغمسين تماما في بحار الرذيلة، ولن يعودوا للتفكير مجددا باستعادة أمجادهم السابقة، مما يعني زيادة فرص دولتنا في بسط سيطرتها عليهم، حتى لا تقوم لهم قائمة أبدا بعد ذلك..

بدا على الرجل الآخرالاقتناع بكلام رفيقه فعلا، غير أنه قال بعد فترة صمت:

– ولكن ماذا عن السيد ضرار؟ لا أظنه يقاسمهم هذه الاهداف، لا سيما وأن هذه البلاد بلاده!

فطمأنه رفيقه:

– لا تُشغل بالك بهذا الرجل الدنيء، فرغم أنه وزير كبير في هذه البلاد، إلا أن شراء سكوته- إن كَشَف أمرنا- لن يكون صعبا! وفي أسوأ الاحوال قد نضطر لرشوته ببعض المال، فهذا هو أكبر همه!

كان محمد يستمع لهما بصمت قاتل، وهو يحاول جاهدا كبت أنفاسه الغاضبة من الانفجار، غير أن بعض الاصوات المحتدة التي صدرت من جهة المنزل، أعادته إلى رشده، وقد أدرك ما حدث:

– لا شك أن هوتارو فقد السيطرة على نفسه في اللحظة الأخيرة، ولا يمكنني أن الومه!

وبسرعة عزم أمره على التدخل، وهو يرى الرجلين يهرعان ناحية المنزل..

****

لم يستطع هوتارو السكوت أكثر، بعد أن أثار ذلك الرجل حفيظته، فبدلا من أن يحضر له هينامي حسب ما هو متوقع، وجد أمامه فتاة أخرى، أحضرها الخادم معه، فيما تابع الرجل كلامه قائلا:

– أرجو المعذرة، فحتى لو كنت صديق السيد سيتيكاوا المقرب، إلا أن تلك الفتاة التي وعدك بها؛ قد حُجزت لشخص ذا نفوذ كبير ولا يمكننا تجاوزه بأي حال أبدا، مما يعني أن تلك الفتاة لن تتمكن من قضاء الليالي القادمة معك، لذا يمكنك حجزها للاسبوع القادم، وأظن أن السيد سيتيكاوا سيتفهم ذلك بلا شك! ثم إن هذه الفتاة جيدة أيضا، وسترضيك بلا شك!

كان ذلك أكثر مما يحتمل هوتارو سماعه، فانفجر غاضبا، مسددا لكمة قوية بقبضته كادت أن تستقر في وجه الرجل أمامه، غير أنه تفاداها بمهارة فائقة، فيما كان هوتارو يصرخ بغضب:

– هينامي ليست للعبث أيها الأنذال، ولن يحلم أي وغد منكم بمس شعرة منها..

وبسرعة التف هوتارو على نفسه؛ ليعاود الانقضاض على ذلك الرجل، الذي أشار لخادمه ببعض التعليمات، فانسل خارجا بسرعة، فيما اشتبك هوتارو مع الرجل الذي انضم له رجلين آخرين، وقد بدا كوحش هائج يستحيل ترويضه!

في ذلك الوقت لم يجد محمد بدا من التسلسل خلسة عبر أحد النوافذ، مستغلا تلك الجلبة في الأسفل التي أحدثها هوتارو، وأسرع نحو الطابق العلوي الذي خمن وجود هينامي فيه، وهو يدعو في سره أن يجدها بسرعة، رغم أنه لا يعرف شكلها! ولم يكن بحاجة للمزيد من التفكير، إذ لفت انتباهه رجلين يجريان بسرعة نحو غرفة محددة، قال أحدهما للآخر:

– هل أنت متأكد أن هذا هو مفتاح الغرفة؟ أخشى أن نتأخر في هذه الفتاة إلى المخبأ الاخر بسرعة، قبل أن يأتي أحد معاوني ذلك الزائر الغريب!

– اطمأن سيكون كل شيء على ما يرام، فالخادم دقيق جدا في تنفيذ مهامه، ولم يحدث أن أخطأ مرة واحدة من قبل

اختبأ محمد خلف أحد الزوايا بهدوء، منتظرا اللحظة المناسبة، حتى إذا ما دلف الرجلان عبر الباب، بعد فتحه بمفتاحه خاص، انقض عليها من الخلف بسرعة مباغتة، انقضاض الصقر على فريسته، دون أن يترك لهما فرصة التفكير بأدنى حركة للمقاومة، فعاجل الأول بضربة على رأسه أفقدته صوابه، اتبعها بركلة احترافية أسقطت الاخر أرضا، ليَسقط الرجلان فاقدي الوعي دون حراك، فيما انكمشت هينامي على نفسها في زاوية الغرفة، وقد هالها المشهد المفاجيء، وما أن وقعت عينا محمد عليها؛ حتى راعه جمالها الساحر لوهلة، غير أنه سرعان ما صرف بصره عنها، وهو يناولها رداءه الذي استخدمه للتخفي، قائلا لها بلغتها مطمئنا:

– آنسة هينامي، أرجو منك الالتحاف بهذا الرداء بسرعة، حتى نتمكن من الهرب من هنا، فخطيبك هوتارو بانتظارك..

لم تكد هينامي تسمع اسم هوتارو، حتى تهلل وجهها فرحا، فهتفت:

– هل جاء هوتارو هنا حقا! أين هو الان؟؟

غير أن محمد أدار لها ظهره قائلا:

– ستعرفين كل شيء لاحقا، فلا وقت لدينا الان، لذا أرجو منك أن تتمسكي بي جيدا، إذ أننا سنضطر للقفز من النافذة..

ودون تردد أسرعت هينامي لتنفيذ أمره، بعد أن سمعت صوت اقتراب خطوات مسرعة نحو الغرفة، فلفت ذراعيها حول رقبته من الخلف، بعد أن التحفت بردائه تماما حتى لم يعد يظهر منها شيء، فيما أسرع محمد بإحكام رباط حول وسطهما حتى بديا كجسد واحد، وهو يقول معتذرا:

– أرجو المعذرة فلا خيار آخر لدي، جميع المخارج ستكون محاصرة تماما، وهناك سبع رجال في هذا المنزل على الأقل، ولا مجال للمخاطرة..

ورغم الخوف الذي تسلل الى قلب هينامي؛ من رؤية ذلك الارتفاع تحت النافذة، إلا أن أن ثقة محمد بقدرته على فعلها، أشعرتها ببعض الطمأنينة، وفي اللحظة التي دلف فيها رجلين آخرين إلى الغرفة، كان محمد قد قفز من النافذة- دون أن يترك خلفه أدنى أثر- نحو غصن شجرة باسقة، يبعد عنه ثلاثة أمتار، والذي انحنى تحت وطأة ثقلهما المفاجيء، فانتقل منه إلى غصن آخر قبل أن ينكسر، في حركة متتالية لتوزيع الحمل، فيما كان يحاول التركيز على أفضل وضعية للهبوط، دون أن تتأذى هينمامي الملتصقة بظهره، والتي آثرت إغماض عينيها خلال تلك الوضعية الخطرة!

 وأخيرا تمكن محمد من الهبوط بسلام على قدميه، ليحل رباطه بهينامي، منطلقا معها في جري سريع، وهو يتخذ من الأشجار غطاء لهما، قبل أن يلحق بهما أحد..

أما هوتارو الذي دخل في اشتباك عنيف مع ثلاثة رجال دفعة واحدة، فقد كان على وشك السقوط أرضا أمام ضربة كادت تفقده صوابه، لولا دخول الخادم الذي صرخ معلنا:

– لقد اختفت الفتاة يا سيدي! واثنين من رجالنا فقدوا الوعي!!

فصرخ الرجل الذي بدى السيد هنا، بغضب شديد:

– إلا هذه!!!! كيف سمحتم بذلك أيها الحمقى! أين بقية الرجال؟؟؟؟

وهرع إلى الخارج بعد أن أعطى تعليماته بمحاصرة المكان، صائحا بالجميع:

– لا يمكن أن تكون قد ابتعدت كثيرا، إياكم وأن تسمحوا لها بالهرب، وإلا لقيتم حسابا عسيرا من السيد الكبير..

أما هوتارو الذي وقف مشدوها للحظات، يحاول استيعاب ما يجري، فقد  ارتكز إلى قطعة أثاث قبل أن يهوي على الأرض، إذ لم يكن ممن اعتاد الدخول في اشتباكات عنيفة مع الاخرين، ولم يكن يعرف كيف تدفقت في عروقه تلك القوة المفرطة، التي مكنته من مواجهة ثلاث رجال معا! التقط نفسا عميقا يحاول من خلاله استعادة بعض طاقته المستنزفة:

– لا شك أن محمد قد فعلها، أرجو أن تكوني بخير يا هينامي..

ولكن ماذا عليه أن يفعل الان! بالتاكيد عليه الخروج من هنا على الأقل!! لقد كان الاتفاق أن يعود هو بصحبة هينامي إلى منزل محمد، وهناك يقومان بتدبير بقية الامور، ولا شك أن محمد قد اصطحب هينامي إلى منزله الان إن نجح بالفرار، وعليه اللحاق بهما فورا..

كان ذلك هو ما دار بذهن هوتارو، وقبل أن يهم بالخروج من المنزل، اعترضه رجلان بابتسامة متشفية:

– هل تظن بأنك ستخرج من هنا بسهولة بعد كل ما حدث، عليك أن تدفع الثمن أولا أيها السيد المحترم!!

***

استطاع محمد مراوغة مطارديه، وعبور منطقة الخطر بصحبة هينامي بسلام، إلا أنه لم يتوقف أبدا، إلى أن دلف إلى منزله متنفسا الصعداء، فيما ارتمت هينامي على الأرض تلتقط أنفاسها اللاهثة بصعوبة، لكنها سرعان ما التفتت نحوه بعيون متسائلة:

– أين هوتارو؟؟؟؟

***

كان هوتارو قد استنفذ جهده كاملا، خلال محاولاته اليائسة لفك وثاقه المحكم، في تلك الغرفة المظلمة، فسكن في مكانه يلتقط أنفاسه المحطمة، ويستعرض ما حل به وبخطيبته التي أحبها من أعماق قلبه، وكان على وشك اتمام زواجه بها خلال أيام قليلة!! فتنهد بألم شديد، ومرارة البؤس تعتصر فؤاده:

– هل تمكن محمد من انقاذها فعلا!!

عندها لاحت أمامه صورة أسوأ بكثير من كل ما قد يخطر بباله، فهز رأسه بعنف يحاول طرد تلك الفكرة منه، إلا أن تلك الفكرة القاتلة أصرت على التمثل أمامه بإلحاح شديد، كخنجر مسموم اخترق قلبه:

 – ماذا لو.. لو فكّر محمد بهينامي!! إنه شاب يافع وقوي، ووسيم أيضا.. ماذا لو.. لو وجد فيها فتاته المنشودة، وهو يعلم أنني لن أتمكن من النجاة من بين يدي هؤلاء المجرمين!!!!! سيكون ذلك.. سيكون سهلا جدا بالنسبة له!!

إلا أن فكرة أخرى، أخذت تصارع تلك الأفكار باستماتة، وهو يحاول التمسك بها بيأس شديد:

– كلا.. لا يمكن لمحمد أن يفعلها أبدا، فهو يحمل اسم رجل عظيم كما أخبرني، ولا يمكن للرجل العظيم أن يخون من ائتمنه مهما حدث..

***

في ذلك الوقت كان محمد قد تمكن من تحديد وضع هوتارو، أثناء عودته لمراقبة المنزل بصمت، بعد أن طلب من هينامي انتظارهما في منزله ريثما يعودان، وكان قد طمئنها بقوله:

– هوتارو يبذل جهده من أجلك، وستجدين حقيبته في تلك الغرفة، فلا تقلقي.. قد نتأخر قليلا ولكننا بالتأكيد سنعود إن شاء الله، لذا تصرفي وكأنك في منزلك، ولا تقومي بالرد على أحد خلال فترة غيابنا..

وفي اللحظة المناسبة تماما، وخلال اقتياد الرجال لهوتارو نحو العربة لنقله إلى مكان آخر؛ باغتهم محمد بقنبلة دخانية، اربكتهم قليلا، مما أكسبه بعض الوقت لتنفيذ خطته المحكمة، والتي تعتمد بشكل كبير على الدقة وعنصر المفاجأة وسرعة التنفيذ، ولم يشعر هوتارو – الذي أعماه الدخان هو الآخر- إلا بيدين تحلان وثاقه بمهارة، لتقوده بسرعة بعد ذلك خارج المجموعة، وقبل أن يتمكن الرجال من استعادة رباطة جأشهم، وسط صراخهم وتهديدهم المتوعد، كان هوتارو قد اختفى تماما عن الانظار بصحبة محمد..

****

لم يصدق هوتارو عينيه وهو يرى هينامي أمامه، بعد تلك المحنة القاسية، وبينما غرق الاثنان في عناق طويل، تبلله الدموع، استدار محمد بتأثر شديد، لينسل خارج المنزل بهدوء، فقد كانت أمامه بعض الأمور الضرورية وعليه إنجازها بسرعة..

أخذ هوتارو يستمع باهتمام شديد لما روته له هينامي، حول ما لاقته خلال الأيام الماضية، وهو يشعر بالغيظ تارة من اولئك المجرمون، والألم تارة أخرى على فتاته الرقيقة، التي لم تعتد تلك المعاملة الوحشية، حتى إذا ما ذكرت له ما حدث معها ومع محمد، شعر بامتنان شديد نحو ذلك الشاب الشهم، خاصة وهي تعبر عن ذلك بقولها:

– لقد شعرت بأنه أخٌ حقيقي، بل لقد كان كذلك فعلا، لقد كان عفيفا لأبعد درجة، وهذا ما لم أجده في أي شاب آخر من قبل!!

  عندها انتبه هوتارو لغياب محمد، فالتفت نحو هينامي متسائلا:

– ترى أين ذهب؟؟

فهزت رأسها في حيرة:

– لا أدري، فأنا لا أعرف عنه أكثر مما حدثتك به!!

ولم يطل تساؤلهما كثيرا، إذ سرعان ما عاد محمد، وهو يحمل في إحدى يديه تذكرتي سفر، وفي اليد الأخرى سلة طعام بدى ساخنا وجاهزا للأكل، قائلا:

– أرجو المعذرة إن قطعت حديثكما، ولكن من الأفضل أن تغادرا هذه البلاد بسرعة، قبل أن يتمكن المجرمون من الوصول إليكما بطريقة أو بأخرى، وقد استطعت بفضل الله حجز تذكرتين لكما على متن السفينة التي ستغادر خلال ساعتين من الآن.. العربة جاهزة، فهل أنتما مستعدان للذهاب؟

عندها ترقرقت دمعات في عين هوتارو لم يتمكن من حبسها، وهو يشد على يد محمد بامتنان شديد:

– لا أعرف كيف سأشكرك يا صديقي، لذا أرجو أن تقبل مني على الأقل ثمن التذاكر، فهذا كثير جدا علي!

غير أن محمد غمزه باسما:

– ألم أخبرك بأنني أحمل اسم رجل عظيم!! ومن واجبي إكرام ضيفي، لذا لا داعي لشكري أبدا، بل أنا من عليه شكرك لإتاحتك هذه الفرصة لي..

***

صعد المسافرون، ورُفعت الالواح الخشبية، وانتشرت الأشرعة، وعلا صفير المدخنة، وهي تنفث أبخرتها منذرة بالرحيل، لتشق السفينة طريقها بعد ذلك، وتمخر عباب الماء..

 وقفت هينامي إلى جانب هوتارو، الذي ظل يحدق في نقطة محددة، بدأت تتلاشى عن ناظرية تديجيا مع ابتعاد السفينة، فوضعت يدها على كتفه:

– لا زلت شاردا يا هوتارو، فما الذي تفكر به يا عزيزي؟

فانتبه هوتارو إلى نفسه، والتفت إليها بابتسامة مُحِبة:

– كنت أفكر بطفلنا القادم..

فاحمرت وجنتا هينامي، وأسندت رأسها على كتفه بمحبة، فيما تابع هوتارو كلامه، وهو يحيط كتفيها بذراعه، مانعا شعرها المنسدل على ظهرها من التطاير مع لفحات النسيم العذبة:

– هل تمانعين يا حبيبتي في أن نطلق عليه اسم (محمد)؟

عندها رفعت هينامي رأسها تتأمله بدهشة، قبل أن تقول باسمة:

– هل تصدق أن هذه الفكرة قد خطرت ببالي فعلا، لولا أن الاسم سيبدو غريبا في بلادنا، ثم إننا لا نعرف الكثير عن هذا الشخص العظيم الذي اتخذه صديقك قدوة له!

فأجابها هوتارو:

– يكفي أننا التقينا برجلٍ عظيمٍ، يحاول السير على نهجه! وأريد لابننا أن يصبح رجلا عظيما..

وصمت هنيهة قبل أن يضيف:

– إن شاء الله..

فسألته هينامي بتعجب:

– ما الذي تعنيه هذه الجملة؟؟

فأجابها هوتارو وهو يتأمل أطلال الميناء أمامه:

– لا أدري، ولكن محمد كان يستخدمها كثيرا، وأظنها تجلب الحظ الجيد..

فأومأت هينامي برأسها موافقة:

– أجل تذكرت، لقد سمعته يقولها أيضا، إنها جملة تجلب الحظ الجيد بالتأكيد..

وقبل أن يضيف أي منهما كلمة أخرى، انتبها إلى عامل السفينة، الذي قدم نفسه لهما معتذرا بأدب:

– أنت السيد هوتارو أليس كذلك؟

فأومأ هوتارو برأسه إيجابا، فتابع العامل كلامه وهو يقدم له طردا مغلفا:

– لقد ترك أحدهم لك هذا قبل أن تغادر السفينة الميناء، وأرجو منك التوقيع على استلامه هنا لو سمحت..

 فتبادل هوتارو مع هينامي نظرات متسائلة، قبل أن ينفذ ما طلبه العامل منه، ثم قرأ بصوت مرتفع، ما كُتب على البطاقة الملصقة على المغلّف، لتسمعه هينامي:

” العزيزين هوتارو وهينامي..

أدعو الله أن يرزقكما الحياة السعيدة، في الدنيا والاخرة، وأهنئكما مقدما بزواجكما، راجيا أن تتقبلا هديتي لكما بهذه المناسبة، فهي تعني لي الكثير..

محمد “

وبلهفة شديدة أسرع هوتارو بفتح المغلف، ليظهر أمامه كتاب مترجم بلغته، تركزت عليه أنظاره مع هينامي، وهما يقرآن معا عنوان الكتاب:

سيرة الرجل العظيم، خاتم الأنبياء والمرسلين، وخير خلق الله أجمعين

محمد

صلى الله عليه وسلم

*******

وعلى قمة مرتفعة تطل على البحر، وقف محمد يتأمل مشهد السفينة العملاقة، وهي تتوارى خلف الأفق، بسعادة يشوبها الألم، لما آلت إليه حال بلاده، مستشعرا عِظَم المسؤولية الملقاة على عاتقه، في نشر الوعي بين شباب أمته، والتصدي لتلك المخططات الآثمة التي تستهدفهم، فدمعت عيناه، وردد قلبه:

– يارب.. لا حول ولا قوة لنا إلا بك، فاحفظ أمة حبيبك ونبيك سيدنا محمد من الشرور والفتن، ما ظهر منها وما بطن، وردنا إليك ردا جميلا، وارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، واجعلنا ممن تقوم على أيديهم نهضة هذه الأمة..

****
النهاية

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم