شعاع-النور-صفحة-القصة

شعاع النور

عن القصة:

حجبت الغيوم السوداء الكثيفة أشعة الشمس لسنوات طويلة، يحاول فارسان شجاعان إيجاد حلٍ لتلك المشكلة..
ترى ماسبب كل تلك الغيوم؟!

قصة قصيرة من عالم الأساطير الرمزية، بطلها فارسان قررا مواجهة الظلام، الأول يعرف بـ (ناصر الحق) و الثاني يلقب بـ (السباق)..

التصنيف: خيال، مغامرات
بقلم الأستاذة: زينب جلال

جرت أحداث هذه القصة في عالم الأساطير الرمزية في مدينة الظلام تحديدا؛ حيث حجبت الغيوم السوداء الكثيفة أشعة الشمس لسنوات طويلة.

استيقظ أهل المدينة ذات يوم على خبر مفجع، وهرع الجميع إلى الساحة الكبيرة حيث وقف الحاكم معلنا:

–   سيتم إلحاق أقصى أنواع العقوبات بمن حاول تحطيم المصابيح المتبقية لإضاءة المدينة ليغرقها في ظلام دامس، ولن نتهاون في رمي من تسول له نفسه تكرار هذه الفعلة النكراء في وادي النار السحيق.

ورغم القلق الذي استبد بالجميع إلا إنهم انفضوا إلى مزاولة أعمالهم اليومية ولم يبق إلا فارسيين شابين استعر الغضب في نفسيهما مما يحدث في هذه المدينة المظلمة. كانا صديقين حميمين جمعتهما المثل العليا و كرائم الطباع، اشتهر الأول بالسبّاق لأنه ما سمع عن خير قط إلا كان الأسبق إليه، أما الثاني فكان يدعى ناصر الحق وما هذا إلا لقب أيضا وذلك لوقوفه إلى جانب الضعفاء والمظلومين فبات سدا منيعا في وجه من تسول له نفسه الاعتداء على الآخرين.، أما أسماؤهم الحقيقية  فقلة هم من يعرفها، وهكذا العظماء يعرفون بحسن فعالهم لا بلمعان أسمائهم.

زفر السبَاق بضيق:

–   ألا يكفي المدينة ظلامها حتى يأتي من يزيدها منه!!فبالكاد يستطيع ضوء المصابيح الواهنة مواجهة الظلام؛ أفيعقل وجود من يفكر بإغراق نفسه فيه!!!

تنهد ناصر الحق:

–   المجرمون يا صديقي لا يفكرون بهذه الطريقة، فمن ألف قلبه الظلم لم يضره العيش في الظلام، وليس هذا ما يشغلني الآن يا سباق.

–   وهل هناك أكثر من ظلام دامس بات يهددنا والسماء يزداد إظلامها يوما بعد يوم!

–   بل إنني اعني أن هؤلاء الشرذمة من المجرمين ما هم إلا سببا يعجل في إظلام المدينة فحسب، أما الحقيقة المرة فهي أنها ستغرق في الظلام حتما عاجلا أم آجلا. انظر إلى المصابيح؛ إنها واهنة وسيخبو ضوءها بمرور الزمن.

–   وما العمل إذن! أيعقل أن نقف مكتوفي الأيدي أمام هذه الكارثة المروعة، أنترك المجرمين لحال سبيلهم!! مالذي تعنيه يا ناصر الحق؟

–   لا حل سوى البحث عن مصدر نور دائم لا تطوله أيدي المخربين فيزيح هذا الكابوس المريع.

–   كلامك هو الصواب بعينه، ولكن من أين لنا بهذا النور الدائم الذي تتحدث عنه؟ وكيف نبدأ بالبحث عنه؟

–   هذا ما لا اعرفه، و أرى أن نذهب للحكيم نطلب منه النصح والمشورة.

*          *          *

سر الحكيم كثيرا برؤية الفارسين، وبعد أن اخبراه عن سبب مجيئهما ابتسم قائلا:

–   إنكم لتنعشون ذكرى الفرسان الأوائل في مخيلتي، واني لأرى فيكم الأمل الذي سيعيد النور إلى مدينة السلام.

تبادل الفارسان نظرات تساؤل قبل أن يبادر السباق بقوله:

–   تقصد مدينة الظلام!!

أومأ الحكيم برأسه إيجابا:

–   أجل يا بني، هذا اسمها فيما مضى عندما كانت شمس الحق تسطع في سمائها فتنشر الضياء في أركانها نهارا ويعكس نورها وجه القمر ليلا.

تساءل ناصر الحق:

–    ومن أطفأ هذه الشمس الساطعة أيها الحكيم؟

ابتسم الحكيم معلقا:

–   وهل يستطيع أحد إطفاء الشمس أيها الفارس النبيل! إنها مازالت تشع نورا وضياءا في فضائها الرحيب، لكننا نحن من حجبناها عنا بغيوم الظلام الداكنة.

وأغمض الحكيم عينيه  يستذكر قصة قديمة طواها النسيان على مر الزمان..

منذ زمن بعيد عم السلام مدينة السلام ومن السلام جاء اسمها بعد أن وقف الفرسان الأقوياء في وجه التنين الضخم الذي هدد المدن الآمنة وقتل الأبرياء فيها، كانوا سدا منيعا في وجهه برماحهم القوية ودروعهم المتينة وسيوفهم التي قلدت أجسادهم الفتية، فلم يجرؤ على الاقتراب من المدينة او التحليق في سمائها، ثم مضى زمن على هذه الحال إلى أن أمنت المدينة جانب التنين فنسي أمره بل بات ذكره وهم لا يؤبه به. ولم يعد للفرسان دور يذكر ، فلا معنى لحراستهم مدينة آمنة يغمرها السلام فشغلتهم الدنيا ونسوا التنين هم أيضا، أما هو فلم ينسهم، بل كان يرقبهم عن كثب يتحين الفرصة المناسبة للثار من المدينة التي حطمت كبريائه ونجت من سيطرته وسطوه، صبر كثيرا وقد حانت اللحظة المناسبة ليضرب ضربته، فالمدينة عنه غافلة وقد ازداد حجمه وتضاعفت قوته بما فيه الكفاية..

أصبح الناس ذات يوم وقد دب الذعر في قلوبهم وعلا الهرج والمرج بينهم يركضون على غير هدى فها هو التنين يحلق بأجنحته العظيمة في سماء المدينة ناشرا الرعب بشكله المفزع وظهوره المفاجئ، مطلقا السنة اللهب  الحارقة في كل مكان فاشتعلت الحرائق وقتل الكثيرون وعلا الصراخ والعويل دون أن يهب مدافع واحد للتصدي له، في حين أن رمحا واحدا تطلقه ذراع فارس شجاع كفيل بردع التنين عن غيه، فازداد جبروته منتشيا بنصره الساحق حتى إذا ما احكم سيطرته على المدينة بدأ بإملاء شروطه ليرضي غروره ويشبع انتقامه والأخذ بثأره القديم فاتخذ الخدم والعبيد وقدمت له القرابين ينفذ حاكم المدينة أوامره بانصياع تام لا يخالف له طلبا خوفا من غضبه وبطشه.

وجاء اليوم الذي طلب فيه التنين أن تقدم ابنة الحاكم  قربانا له، فجن جنون الحاكم إذ كانت ابنته الوحيدة أغلى ما يملك في الوجود، ورجا التنين متذللا له أقصى درجات التذلل أن يطلب شيئا آخر غير ابنته . كان مشهدا ممتعا للتنين فأسعده، فتغطرس وزمجر ثم نظر وفكر فلم يرض بأقل من عشرة إخوة يقدمون له معا فداء للأميرة ، وعلى الفور أرسل الحاكم جنوده في المدينة يبحثون عن طلب التنين ليساقون بالسلاسل، دون أن يرق قلب الحاكم لتلك الأم المسكينة التي توشك أن تفجع بأولادها العشرة مرة واحدة؛ مادامت ابنته الأميرة المدللة في أمان..

وفي الوقت المحدد ظهر التنين محلقا في سماء المدينة  بشكله المهيب مبتهجا لما سببه من فزع في النفوس وهو يرى القرابين العشرة مصطفة أمامه هدية له، لكنه ما أن اقترب منها حتى ظهرت تلك الأم المظلومة فجأة، مستلة خنجرها، لتقفز بكل قوتها صوب التين. فزع التنين من هول المفاجأة التي لم تخطر بباله قط، وانطلق نحو السماء يتلوى من الم الطعنات المتتالية في حين زاد تشبث الأم به وهي تحاول الوصول إلى قلبه في مشهد مريع اشرأبت إليه الأعناق، حتى تمكنت أخيرا من غرس طعنتها القاتلة في قلب التنين، فصرخ صرخة مجلجلة زلزلت المدينة بأكملها واحترق بنيرانه مخلفا وراءه سحائب الظلام المختلطة برفات أم مظلومة باتت تصب جام غضبها على الظلمة والجبناء. تابع الحكيم كلامه وهو يشهد الأثر العميق الذي تركته تلك القصة في وجوه الفارسين:

– ومنذ ذلك الحين وتلك السحب السوداء المنسوجة بالظلم تحجب شمس الحق عن مدينة السلام لتصبح مدينة الظلام شاهدا على تضحية أم مظلومة إلى يومنا هذا، وهكذا ما ازداد الظلم في المدينة إلا ازداد إظلام السماء وما زلنا نعيش في ظلام إلى ظلام لا ندري منتهاه.

كاد ناصر الحق ينفجر حنقا وغيظا من هول ما سمع، في حين سال السباق:

–   ألا من مخرج لهذا الظلام؟ فهذا ما أتينا من اجله.

تنهد الحكيم:

–   لا حل سوى الحصول على شعاع النور فهو الأمل الوحيد.

تأهب الفارسان بلهفة:

–   وكيف السبيل إلى هذا الشعاع؟ سنبذل جهدنا لإعادة النور إلى المدينة من جديد.

–   إنه يقبع في قمة جبل الزهور الذي ما عاد منه احد ذهب إليه حتى الآن.

تساءل ناصر الحق:

–   أتقصد جبل الصخور!! فهو الجبل الذي لا يجرؤ احد على الاقتراب منه لما يسمع عنه من شائعات.

أومأ الحكيم إيجابا:

– أجل يا بني، لقد كان يعرف بجبل الزهور فقد كان هكذا فيما مضى، أما هذه الصخور فما هي إلا بشر ضلوا السبيل فيه فاستحالوا صخورا لا حياة فيها.

فقال السباق:

–   أتعني أن كل من لم يعد من ذلك الجبل ما هو إلا صخرة فيه الآن!!

–   تماما يا بني، وهنا مكمن الخطر في صعوبة الوصول الى شعاع النور، لقد حاول فرسان قبلكم الذهاب إلى هناك من اجل شعاع النور، لكنهم لم يرجعوا أبدا بل زادوا وعورة الجبل وخطورته بأن أصبحوا صخورا فيه تسد الطريق ويخشى انهيارها في أي لحظة.

قبض السبَاق يده بقوة:

–   لا مفر من مواجهة الخطر؛ إذ لابد من الوصول إلى شعاع النور وإعادة النور إلى المدينة.

أما ناصر الحق فقد سرح فكره في مكان آخر:

–   ألا يمكن لهذه الصخور أن تعود إلى طبيعتها الإنسانية أيها الحكيم؟

ابتسم الحكيم:

–   توقعت منك هذا السؤال يا صاحب القلب الرحيم، فاعلم بأن خلاصهم يكمن في شعاع النور أيضا.

–   إذن لا بد لنا من الحصول على هذا الشعاع مهما كان الثمن.

وأمام الحماس الملتهب في أعين الفارسين قال الحكيم:

–   لذا عليكم الاستماع جيدا لما سأقوله حتى لا يصيبكم ما أصاب من قبلكم فتواجهون المصير نفسه.

أصغى الفارسان بكل اهتمام لكلام الحكيم الذي تابع مشددا:

–   إياكم والثعابين فهي الشر بعينه، واستعينوا بالحمائم البيضاء فهي اعلم بذلك المكان وعجائبه ولكن احذروا الغربان فهي متلونة متحولة وقد تظهر لكم بمظهر الحمائم الوديعة، فإياكم أن تنخدعوا بها.

انقبض صدر ناصر الحق قليلا:

–   ولكن كيف لنا النجاة من حيلها مادامت متلونة متحولة وتمييزها عن الحمائم الحقيقية؟

نظر الحكيم إلى الفارسين متفرسا وهو يقول:

–   انتم فرسان حقيقيون، تملكون قلوبا صافية كالمرآة لا تكذبكم خبرا فعليكم الاستعانة بها، أغمضوا عيونكم وانظروا بقلوبكم فسترون الحقائق كما هي ولن تنخدعوا بالمظاهر الزائفة أبدا، وإياكم أن تكذّبوا قلوبكم من اجل ما تراه عيونكم وإلا فإنها لن تعود قادرة على الرؤية بصفاء.

بدا على الحكيم انه أنهى كلامه، فقال السباق:

–   لم تخبرنا عن شعاع النور، وما علامته؟

فقال الحكيم:

–   إن وصلتم إليه ستعرفونه ولن يخالجكم أدنى شك أنه هو وهذه هي علامته.

نهض الفارسان وهما بالانصراف عندما استوقفهما الحكيم:

–   لن يستحيل عليكم مواجهة المخاطر والعقبات مادامت غايتكم واضحة و ماثلة نصب أعينكم ثم التزمتم بسبل النجاة للوصول إليها.

*          *          *

انطلق الفارسان بعزيمة قوية نحو الجبل فقد بدأت المهمة وقبلا التحدي، رفعا رأسيهما يحاولان رؤية القمة لكن هيهات، فقد حجبتها السحب السوداء. أمسك السباق حبلا متينا ربطه بيده وناول طرفه الآخر لناصر الحق قائلا:

–   سيفيدنا هذا تحسبا لأي خطر يعرض احدنا للسقوط، فالمنحدرات شديدة والحواف ضيقة والصخور تنهار بلا سابق إنذار وعلينا المواجهة معا.

احكم ناصر الحق ربط الحبل على يده وقد وافق صديقه على رأيه، وبعد أن تفحصا مسالك الجبل وطرقه حددا أكثر الأماكن سهولة فيه للانطلاق منها والذي بدا أشبه ما يكون بطريق ممهد، وبحماس شديد وعزيمة وإرادة قوية بدأت رحلة الصعود إلى القمة.

قطع الفارسان شوطا كبيرا وهما في اشد حالات الحذر والترقب حتى أنهكهما التعب ولم يكن لهما بد من اخذ قسطا من الراحة يستردان خلالها عافيتهما، وبعد أن وجدا مكانا ممهدا بين الصخور أسرع ناصر الحق يستلقي على ظهره وهو يلتقط أنفاسه اللاهثة، في حين وضع السَباق الطعام أمامه قائلا:

–   هيا للطعام يا صديقي، فشعوري بالجوع اكبر من شعورك بالتعب.

فابتسم ناصر الحق (مرتكزا على مرفقه):

–   لا مانع لدي من أن تبدأ قبلي فحاجتي للنوم أكثر.

–   سأقاوم جوعي إذن حتى تقوم، فأنت تعلم أنني لا أحب الأكل وحدي.

عندها نهض ناصر الحق:

–   أنت تحرجني بكرمك يا صديقي.

–   كما أحرجتني بتضحيتك.

وضحك الاثنان بمرح وهما يتناولان طعامهما دون أن تغيب مهمتهما الأصلية عن بالهما طرفة عين، حتى إذا ما استردا نشاطهما تابعا السير نحو القمة. لم يعدما الحيلة في تجاوز العقبات؛ تارة يتعاونان في إزاحة الصخور الضخمة عن طريقهما وتارة يستخدمانها سلما يقفزان منها للأعلى فتختصر عليهما مسافة لا بأس بها، وقد حدث أن انزلقت قدم ناصر الحق وهما يحاولان المرور فوق حافة شديدة الضيق لكن سرعان ما تدارك الموقف بمساعدة السبّاق فهما يسيران يدا بيد يربط بينهما حبل متين لا يستهان به. تابع الفارسان طريقهما بسلام إلى أن وجدا نفسيهما أمام صخرة عملاقة يستحيل زحزحتها، ملساء عالية يصعب تسلقها، قال السباق أخيرا:

–   لا مفر أمامنا من العودة إلى الوراء علنا نجد طريقا آخر.

فقال ناصر الحق:

–   لكننا سلكنا أفضل الطرق وقد قطعنا مسافة طويلة حتى وصلنا إلى هنا وان عدنا ضاع وقتنا وربما واجهتنا عقبة اكبر.

–   هذا مجرد احتمال ولا باس من المحاولة فهذا على الأقل أفضل من وقوفنا هنا بلا فائدة وقد مضى يوم كامل لم نحرز خلاله أي تقدم يذكر في مواجهة هذه الأزمة.

ثم رمق الصخرة بنظرة غاضبة وهو يدق عليها بسخط:

–   أيعقل أن تكون هذه الصخرة العنيدة فارسا جاء ليحرر المدينة من ظلامها!! لو علم انه سيكون عقبة في الطريق هكذا لما تمنى الخروج من بيته قط.

لكن ناصر الحق قال وهو يتأمل المكان حوله متفحصا:

–   دعك من إلقاء اللوم على صخرة صماء لا تسمع فهذا لن يفيد الآن وتعال لنفكر في الحل الأمثل..

وبينما هما على تلك الحال، إذ ظهر لهما من بين الصخور ثعبان ضخم أفزعهما بمظهره بداية لكن روح الفرسان القوية سرعان ما قفزت إلى أعينهما لتشع ببريق وهاج ونظرات تحدّ حادة، أفزعت الثعبان نفسه فبدا وديعا على غير طبيعته وهو يبتسم قائلا:

–   رويدكما أيها الصديقان، لقد جئت لمساعدتكما فحسب.

لكن كلام الحكيم وتحذيره الذي مازال نصب أعينهما وقف كالسد المنيع مطلقا لسان السباق بقوة:

–   لم نطلب المساعدة منك أيها الثعبان، وان لم تغرب عن وجهي قطعتك إربا إربا.

لم يكد السبَاق يتم كلامه حتى انكمش الثعبان الضخم فصار حية صغيرة لاذت بالفرار مختبئة في احد الجحور، أمام دهشة الفارسين وعجبهما مما حدث، ثم ابتسم السبَاق:

–   يبدو أن مواجهة الأفاعي هنا أسهل مما توقعت.

فقال ناصر الحق وهو ينظر للأعلى رافعا رأسه نحو القمة:

–   أرجو أن تسير الأمور على هذه الحال، فما هذه إلا البداية فقط وما زال أمامنا مشوار طويل.

رفع السباق رأسه هو الآخر للأعلى متطلعا إلى القمة:

–   معك الحق يا صديقي، فما من فارس وصل القمة وعاد من الجبل حتى الآن.

وكم كانت دهشتهما عظيمة عندما نظرا إلى الصخرة العملاقة فلم يجدا مكانها سوى صخرة صغيرة يسهل تجاوزها.

فقال ناصر الحق:

–   يبدو أن الأمور هنا تسير بصورة عجيبة يصعب تفسيرها.

فأجاب السبَاق:

– المهم أن مشكلتنا حلت وعلينا الإسراع نحو القمة وتعويض ما فاتنا من وقت.

وهكذا تابع الفارسان الطريق من جديد ومضت أيام وأيام والقمة لازالت بعيدة وهم مع ذلك لا تفارق الحماسة عيونهم ولا يتسلل الملل إلى نفوسهم غايتهم العظيمة نصب أعينهم تدفعهم بهمة كبيرة إلى الأمام. وجاء ذلك اليوم الذي حدث فيه انزلاق صخري مهول وهما يسيران فوق حافة ضيقة ملصقين صدورهم وبطونهم بالجبل لئلا تتعثر أقدامهم، فثبتا مكانيهما متشبثين بما يمكن التشبث به بكل قوتهم إلى أن استطاعا بصعوبة تجاوز منطقة الخطر واللجوء إلى كهف صغير للاحتماء به، التقط ناصر الحق أنفاسه بصعوبة:

–   لا اصدق إننا نجونا، فمن الجنون التعرض للخطر بهذه الصورة الصريحة وإلا كنا كمن يسحق آخر أمل للمدينة بيديه.

كان السبَاق لازال يحدق في الصخور المنهارة أمامه من مدخل الكهف:

–   لا مفر من الانتظار هنا ريثما تهدأ هذه الموجة الغاضبة، وأتمنى أن لا يطول انتظارنا.

وفي تلك الأثناء ظهرت أمامهما إوزة بيضاء جميلة ما لبثت أن تهاوت على مدخل الكهف وهي تتأوه ألما وقد بدا جرح عميق في جناحها. هب الفارسان نحوها بسرعة لكن ناصر الحق تذكر فجأة كلام الحكيم فأغمض عينيه ليرى بقلبه وما لبث أن صرخ بفزع:

–   احذر يا سباق، لا تقترب منها إنها مجرد غراب أشعث يلتمع الشر في عينيه، أغمض عينيك وانظر جيدا بقلبك.

انتبه السباق لتحذير صديقه في اللحظة الأخيرة فتسمر مكانه رغم شفقته بالإوزة التي بدأت تستغيث طالبة الماء، وجاهد كي يغمض عينيه والشك يراوده؛ أيعقل أن تكون هذه الإوزة الجريحة غرابا خبيثا!!

أغمض السباق عينيه ليرى أمامه غرابا يبتسم بمكر ودهاء..

فزع السباق من هذا التناقض الرهيب بين ما يراه بعينيه وما يراه قلبه وزادت الشكوك في نفسه ففتح عينيه من جديد ليرى الدم يسيل من الإوزة وهي تنتفض بألم كمن يلفظ النفس الأخير، كان مظهرها مؤثرا حقا وهي تنظر في عينيه بحزن وتوسل:

–   أرجوك، ناولني شربة ماء.

وهم السباق بالتقدم نحوها لولا صراخ ناصر الحق الذي انطلق كالصاعقة على رأسه من جديد فشلّ حركته:

–   لا يا سباق، لا تذهب إليها أرجوك، إنني مازلت أرى غرابا يزداد انتفاخا وغرورا، انه يمكر بك يا صديقي فلا تصدقه.

وأغمض السباق عينيه من جديد، العرق يتصبب منه واستغاثات الإوزة تفطر قلبه، لقد رأى بقلبه غرابا لكنه ليس إلى هذا الحد من السوء الذي يصفه به صديقه، يبدو غرابا وديعا، بل أشبه ما يكون بإوزة بيضاء جميلة!

وفتح السبَاق عينيه مرة أخرى، بدأت الإوزة تهمد إذ خارت قواها وقد سال جرحها دما يغمر الأرض حولها وهي تحشرج بكلمات مخنوقة:

–   الرحـــ…ــمة  .. ماء ..مـ …ــا..ء…أرجـــ..ـو…ك….

لم يتمالك السباق نفسه، فتناول قربته متجها إليها، فقد استغاثت المسكينة به ولن يخذلها أبدا، لكن يد ناصر الحق جذبته جذبة قوية أوقفته مرة أخرى:

–   هل جننت يا صديقي إنني ما أزال انظر إلى هذا الغراب الخبيث الذي يستهزئ بك ويسخر منك، انك تزيده غطرسة وغرورا، إنني أراه جيدا صدقني.

لكن السباق أجابه بحدة:

–   ما هذا الذي تقوله يا ناصر الحق، لقد واجهت هذه الإوزة من انهيار الصخور ما واجهنا فكيف نتركها تموت أمام أعيننا وكل ما تريده شربة ماء!! إنني لأعجب منك يا صاحب القلب الرحيم!!

–   أي رحمة هذه التي تتحدث عنها يا سباق!! إنها في غير موضعها على الإطلاق، انظر بعين قلبك أرجوك ولا تدع المظاهر الزائفة تخدعك. وتابع ناصر الحق بتوسل ورجاء:

–   أنسيت أن شعاع النور هو غايتنا يا صديقي ولا مجال أمامنا لارتكاب الأخطاء!

رق قلب السباق قليلا لكلام صديقه وإلحاحه الشديد وإصراره فأغمض عينيه ولكنه لم يرى هذه المرة سوى إوزة جريحة تنظر إليه بعينين وديعتين! فارتعش جسده وارتعدت أوصاله فهتف:

– أين الرحمة يا ناصر الحق!! إنها إوزة جريحة ولن ادعها تموت أمام عيني.

وقع كلام السباق كالصاعقة على رأس ناصر الحق ودارت الدنيا به فانهارت قواه وهو يتخيل ما قد تجلب عليهما هذه الكارثة من ويلات، لقد تحقق كلام الحكيم في صديقه ولم يعد قلبه صافيا لرؤية الحقائق، ولم يشعر إلا بيد السابق تفلت من قبضته بقوة ليتجه صوب الإوزة، وقبل أن يتمكن ناصر الحق من فعل أي شيء، وفي اللحظة التي لمس فيها السباق الإوزة؛ انقلب إلى صخرة عظيمة سدت مدخل الكهف..

لم تقو قدمي ناصر الحق على حمله؛ وقد ثقلتا بهمه فارتكز على الصخرة يبكي لأول مرة.

 مضى يوم كامل وناصر الحق يبكي صديقه الحميم الذي لم يفارقه لحظة واحدة يتحسس الصخرة بيد مرتعشة، تخنقه العبرات وتكويه الحسرة والألم، فانطلق بمشاعره يحدثه:

–   بالأمس القريب يا صديقي كنت تعجب من صخرة عظيمة كيف لها أن تكون فارسا؛ وها أنت الآن صخرة بل عقبة عظيمة في طريق القمة..

عندها طرق سمعه صوتا من خلفه يقول:

–   و ألست أنت القائل أن لا فائدة من الكلام مع صخرة صماء لا تسمع!!

التفت ناصر الحق خلفه لتقع عيناه على حمامة بيضاء فأسرع يراها بعين قلبه حتى اطمأن لها واستراح، فابتسمت الحمامة:

–   أنت فارس طيب القلب، ولكن؛ هل يبكي الفرسان!!!

أطرق ناصر الحق بصمت، ثم رفع رأسه سائلا:

– من أين جئت أيتها الحمامة؟ وكيف دخلت إلى هذا الكهف المغلق!!

لكن الحمامة أجابته:

– لايهم كيف جئت ومن أين دخلت، لكن المهم حقا هو إلى متى ستبقى على هذه الحال؟ أم تراك نسيت الغاية الحقيقية من مجيئك إلى هذا المكان!!

– لا لم انس. وأطلق زفرة الم طويلة وصورة السباق تلمع أمام عينيه:

– بالأمس كان صديقي عونا لي على اجتياز العقبات أما الآن فقد أصبح عقبة في طريقي عليّ اجتيازها.

ونظر إلى الحمامة متسائلا:

–   فكيف السبيل إلى الخروج من هذا السجن المغلق؛ وهذه الصخرة تسد باب المخرج، و تقف في طريقي نحو القمة وتحقيق الغاية!!!

أجابت الحمامة بهدوء وروية:

–   هذا ما يراه عين حالك، فأنت تحب صديقك ولا تريد التخلي عنه و متابعة المشوار من دونه، في حين أن بكاؤك هنا قربه لن يغير من حاله شيئا أما حصولك على شعاع النور فقد يعيده إلى طبيعته.

عندها تذكر ناصر الحق كلام الحكيم فاشتعل قلبه حماسا بل كأشد ما يشتعل الحماس في القلوب- كيف لا وهو يمني نفسه برؤية صديقه الحميم مرة أخرى- فنهض بعزم جديد وهمة عالية مكفكفا دموعه، سيصل إلى شعاع النور مهما كلفه الأمر ومهما واجه من صعوبات فالمدينة بانتظاره وقبل ذلك.. صديقه الحميم.

لم يكد ناصر الحق ينتهي من خواطره هذه حتى ضمرت الصخرة قليلا منفرجة عن شق يتيح لناصر الحق الخروج منه، فوقف بشموخ قرب الصخرة يطبطب عليها فذرفت من عينه دمعة حملت أسمى معاني الحب والرحمة في قلبه:

–   سأعود إليك حتما يا صديقي، حاملا شعاع النور لنعود به معا إلى مدينتنا.

ثم تلفت ناصر الحق حوله حتى وجد الحبل ملقى على الأرض فتناوله ليلفه حول الصخرة بإحكام والحمامة تنظر إليه بتعجب:

–   ما الذي تنوي فعله !!

ابتسم ناصر الحق وهو يتابع عمله:

–   لن ينقطع الحبل الذي ربطه صديقي بيننا في بداية الرحلة.

–   هل يعني انك ستتابع الطريق نحو القمة وأنت ممسك بطرف الحبل الآخر!!!

أومأ ناصر الحق بالإيجاب فتابعت الحمامة:

–   لكن مدى الحبل قصير، فهل ستقف عند نهايته؟

أجاب ناصر الحق بثقة:

–   بالتأكيد لا، سأتابع الطريق ولن اعدم الحيلة في حفظ الصلة بيني وبين صديقي؛ وان أصبح صخرة صماء.

ثم قطع بعضا من عروق نباتات متسلقة تنمو في الجبل ورفعها أمام ناظري الحمامة قائلا:

–   هذه ستفي بالغرض.

واخذ يصنع منها حبالا متينة ربطها بطرف الحبل ليزيد مداه، فابتسمت الحمامة باطمئنان:

–   لقد ازداد إعجابي بك أيها الفارس الشهم النبيل، لذا سأمنحك هذه البيضات الفضية، إنها صغيرة لكنها مميزة و قوية، و قد تفيدك في طريقك نحو القمة.

تناول ناصر الحق البيوض من الحمامة شاكرا لها صنيعها معه وانطلق نحو القمة من جديد، لا تزيده العقبات إلا إصرارا وثباتا وإقداما فقد أصبح أمامه دافعا آخر وهدفا لن يتنازل عنه أبدا.

مضت أيام وأيام وناصر الحق ماض في طريقه نحو القمة لا تنفك عزيمته ولا تلين إرادته فبات قليلا ما يذكر طعامه، حتى انه هجر راحته فلم يعد يشعر بتعب الطريق وصورة الصخرة أمامه تحثه على متابعة المسير، ولم يعد يستريح إلا عندما يشعر بان الحبل بينه وبين صديقه قد بلغ أقصاه فيقف باحثا عن نباتات جديدة ليزيد مدى الحبل ثم يمضي متابعا طريقه..

ونظر ذات يوم إلى المسافة التي قطعها فإذا به قد ابتعد كثيرا، فحن قلبه إلى صديقه ودمعت عينه لكنه سرعان ما عزى نفسه:

–   انتظرني يا صديقي فلن يطول غيابي ، فما ازددت عنك بعدا إلا لتعود كما كنت فارسا سبّاقا شهما.

سار ناصر الحق أياما طويلة دون أن يأخذ أدنى قسطا من الراحة فأتعب جسده وأرهقه إلى أن وقف أمام منزلق خطر تعلوه حافة ضيقة عليه تجاوزها فحدث نفسه مشجعا:

–   لا بأس سأتجاوز هذه الحافة أولا ثم أستريح .

أحكم ناصر الحق ربط الحبل في يده بعد أن تأكد من طول مداه حتى لا ينقطع أثناء تجاوزه تلك المنطقة الخطرة ثم تابع سيره بحذر شديد، لكنه بدأ يشعر بدوار بعد أن أنهكت قواه، وقد بلغ به التعب أشده فأخذ يحث الخطى ليتجاوز الخطر بسرعة اكبر، وما هي إلا لحظة مفاجئة حتى زلت قدمه عن صخرة لم يتأكد من ثباتها، فانزلق جسده معها لكنه تمكن من التشبث بصخرة أخرى مدببة حالت دون سقوطه في الهوة السحيقة..

ومضى يوم بذل خلاله أقصى ما يستطيع من قوة وجهد للبقاء حتى خارت قواه تماما..

دارت الدنيا بناصر الحق والصور تتوالى أمامه تباعا، بدءا بحياته في المدينة المظلمة برفقة صديقه المخلص السباق وذهابهما إلى الحكيم واللحظات الجميلة التي قضياها معا رغم ما واجهتهم من عقبات إلى أن أصبح صديقه صخرة وعقبة في طريقه عليه تجاوزها..

فهل هذه هي النهاية حقا!! أين هي تلك الآمال العظيمة في إعادة النور إلى المدينة!!! أيكون مصيره ومصير صديقه مثل من كان قبلهم! ألن ينجح أحد في الوصول إلى القمة أبدا!! وتراخت يدا ناصر الحق إذ لم تعودا قادرتين على حمله مع همومه أكثر من ذلك، فأغمض عينيه مطلقا آهات وزفرات كوت قلبه ألما وحسرة..

لقد ضاع كل شئ..

وأفلتت يداه أخيرا لتتركه يهوي في الوادي السحيق..

إلا أن يدا قوية أمسكت به في اللحظة الأخيرة لترفعه بقوة، لم يصدق ناصر الحق عينيه، هل انتقل إلى عالم آخر!! أيعقل هذا، وسرعان ما راوده الشك والارتياب فأغمض عينيه لينظر بعين قلبه.. انه هو!! السبّاق بعينه، وتعانق الصديقان وقد ألجمت الفرحة ناصر الحق فلم يدر ما يقول وان لمع التساؤل في عينيه:

–   ولكن كيف!!!!!

ابتسم السباق:

–   إنها عروق النباتات يا صديقي، فهي لم تكن نباتات عادية على الإطلاق..

لقد نمت العروق باتجاه الصخرة ملتفة حولها حتى إذا لم يبق جزء خاليا منها، عدت إلى طبيعتي كما كنت، وليس هذا فحسب؛ بل إنني شعرت بقوة عجيبة لم اشعر بمثلها قط فتبعت ذلك الحبل الممدود أقطع المسافات الطويلة بسرعة واجتاز العقبات بسهولة، لقد تركت لي طريقا ممهدا خلفك يا صديقي حتى وصلت إليك في اللحظة المناسبة.

تنفس ناصر الحق الصعداء وقد استرد عافيته بسرعة كبيرة:

–   إنني ممتن لك يا صديقي بإنقاذك حياتي.

–   بل أنا المدين لك بنجاتي.

 ثم قبض يده إلى صدره بقوة وهو يلتهب عزيمة وإصرارا:

–  لقد أخطأت بل ارتكبت خطأ فادحا كاد أن يقضي على مستقبل مدينتنا ولكنني سأعوض ما فات ولن أتوانى في الوصول إلى شعاع النور مهما كان الثمن، هذا وعد مني يا ناصر الحق، هذا وعد.

ألهبت كلمات السباق حماس ناصر الحق وأنسته مصابه قبل لحظات، فابتسم بانشراح والسعادة تغمره:

–   انك لأنت السبّاق دوما يا صديقي.

وشد السباق على يد ناصر الحق بقوة وهو يقول:

–   وانك لناصر الحق حقا، فإياك أن تفقد الأمل يوما.

وهكذا تابع الصديقان طريقهما معا نحو القمة من جديد يحذوهما الأمل بعزيمة تشحذ الحديد..

وأخيرا وجدا نفسيهما على مقربة من السحب السوداء التي تحجب قمة الجبل عن الرؤية واشتد عليهما الظلام حلكة وهما يخترقان هذه السحب صاعدين للأعلى، وانقبضت أنفاسهما حتى شعرا بالاختناق لكنهما صبرا وقاوما، ثم استحالت الرؤية تماما فاحكم الفارسان وثاق الحبل بينهما تحسبا لأي خطر مفاجئ وهما يتحسسان الطريق نحو القمة، وبينما هما على هذه الحال إذ ظهر لهما بريق خاطف أثار انتباههما، لكنهما تابعا السير بثبات، ثم ومض البريق مرة أخرى ولمدة أطول فاستطاعا رؤية  بعض ملامح الجبل و طبيعته الوعرة من خلاله، وما لبثا أن سمعا صوتا كأعذب ما يكون من الأصوات:

–   مرحبا بالفرسان الشجعان..

تلفت الفارسان حولهما دون أن يريا شيئا ؛ فقد عاد الظلام حالكا.

جهر ناصر الحق بصوته:

–   من أنت ومن تكون؟

لكنه لم يلق جوابا بل برق الوميض من جديد مظهرا لهما حديقة غناء لم يحلما برؤية مثلها من قبل، كانت المرة الأولى التي يريان فيها ألوان الخضرة تحت أنوار بيضاء هادئة مبهجة عاكسة شتى الألوان، بعد أن عاشا في الظلام الذي تتسلل فيه أضواء باهتة لا تفي بالرؤية الجيدة، وقبل أن يهم الفارسان بإغلاق أعينهما ليتمكنا من رؤية حقيقة الأمر بقلبيهما ، خاصة وأنهما باتا حذرين أكثر من أي وقت مضى، اختفى البريق فجأة كما ظهر فجأة وحل الظلام من جديد فلم يريا شيئا.

قال ناصر الحق:

–   أتراه يكون شعاع النور!!

لكن السباق بدا مرتابا أكثر:

–   لو أنه شعاع النور حقا لما شككنا في أمره، ولعرفناه على الفور، هكذا قال الحكيم.

–   إذن دعنا نكمل طريقنا.

لكن الصوت العذب ظهر مرة أخرى:

–   على رسلكما أيها الفارسان، فقد بذلتما جهدا لايستهان به ولم يبذله أحد قبلكما، وأنتما بحق تستحقان مكافأة عظيمة تليق بالعظماء أمثالكم، فأهلا بكما في حديقة السعادة الأبدية.

شعر الفارسان بانجذاب شديد نحو ذلك الصوت، و ظهرت الحديقة كأبهى ما يكون،لكن مرة أخرى قبل أن يهما بإغماض أعينهما ليرياها بقلبيهما حل الظلام من جديد. عندها قال السباق بحزم وقد بدا غير قادر على تحمل ارتكاب أدنى خطأ جديد:

–   لقد أصبحت الأمور واضحة الآن؛ فلو كان في هذه الحديقة خيرا لتركتنا نراها بقلوبنا.

ثم رفع صوته مؤكدا بتحد:

–   ما جئنا هنا إلا للحصول على شعاع النور، لا لقضاء حياتنا في حديقة جميلة لا نأمن على أنفسنا منها ولن يضرنا تجاوزها على أي حال.

ورفع ناصر الحق رأسه عاليا مؤكدا كلام السباق وهو يشد على يديه في عزيمة وإصرار:

–   هيا لنتابع الطريق نحو القمة يا صديقي فلا مجال لإضاعة الوقت أكثر، وقد أضعناه هنا بما فيه الكفاية.

لم يكد ناصر الحق يتم عبارته حتى انطلق الصوت العذب من جديد بل وبأكثر عذوبة ورقة من أي وقت مضى:

–   أنا الحسناء الزاهية..

      قطوفي منكم دانية..

     مياهي دوما جارية..

وإذ ذاك عادت تلك القوة الخفية لتجذبهما نحوها من جديد ولكن بأضعاف ما كانت عليه أول مرة، وبدأ الفارسان ينجذبان فعلا لتلك القوة الهائلة وهما يقاومانها بأقصى ما لديهما من طاقة حتى كاد قلبيهما أن ينخلعا من جسديهما، ولم يحتمل السبّاق أكثر؛ فنادى بشدة:

–   أرجوك يا ناصر الحق افعل شيئا، لم أعد احتمل المقاومة أكثر فحاول أنت فعل أي شئ؛ فقلبك لم يفقد صفاؤه أبدا حتى الآن.

كان ناصر الحق يقاوم ذلك الانجذاب الخفي هو الآخر وهو يحاول التركيز رغم فكره المشوش:

–   من أين تجذبنا هذه القوة يا ترى!!

في حين اخذ السباق يصرخ بكل قوته:

– كلا، ليس مرة أخرى، لابد من إعادة النور إلى المدينة ولن يضيع عمري هنا..

وأخيرا هتف ناصر الحق وقد تذكر منحة الحمامة:

–   خذ هاتين البيضتين يا سباق وأغلق بهما أذنيك، فان تلك القوة تجذبنا بأسماعنا.

وما أن أغلق الاثنان آذانهما بالبيوض الفضية الصغيرة حتى زالت عنهما تلك الجذبة الهائلة، ليسمعا بعقليهما صوتا كريها نشازا كأبغض ما يكون من الأصوات:

–   سأحطم عالي الهمة..

      فسأغرقه بالظلمة..

      وسينسى أين القمة..

استعر الغضب في قلبي الفارسين، وزاد إصرارهما على متابعة الطريق نحو القمة وتجاوز العقبات في عزم أكيد وتصميم لا حد له لبلوغ الهدف. تجنبا مواطن الشبهات، يكتفون بما يرونه بقلوبهم ويسمعونه بعقولهم، فليس من الحكمة أن يدعا جانب الحيطة والحذر أو يأمنا على نفسيهما من أي خطر، وقد أوشكا الوصول إلى القمة.

وما هي إلا أن هبت عليهما ريح قوية كادت أن تقتلعهم من أماكنهم فتمسكوا بكل ما يمكنهم تثبيت أنفسهم به يشد بعضهم بعضا وهم مع ذلك يتابعون الصعود إلى القمة بهمة عالية، حتى هدأت الريح أخيرا كاشفة معها سحب الظلام ليجد الفارسان نفسيهما فوق ارض منبسطة يغمرها النور، وبصعوبة استطاعا التأقلم عليه بعد أن اعتادت عيونهم الظلمة لوقت طويل..

أغمضا أعينهما وفتحاها مرات عديدة يرون بعيونهم وقلوبهم النور الذي لا ريب فيه ولا بهتان، فلم يزدد النور الذي يرونه بعيونهم إلا نورا في قلوبهم، وتكلم ناصر الحق بتؤدة:

–   لقد وصلنا يا صديقي! انه النور الذي طالما حلمنا برؤيته.

ودمعت عينا السباق:

–   أجل ، لقد وصلنا يا صديقي.. لقد وصلنا أخيرا..

وإذ ذاك انطلق صوت ندي تردد صداه في المكان:

–   نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

سرت قشعريرة عارمة في جسد الفارسين وطمأنينة لا حد لها تغمرهم في الوقت نفسه، فالتفتا إلى مصدر الصوت، فإذا بهدهد لم يريا مثل حسنه من قبل يحييهما باسما:

–   أهلا بمن سمت أرواحهم عن الظلمة، فعلت أجسادهم إلى القمة.

قال ناصر الحق:

–   جئنا باحثين عن شعاع النور، فقد علمنا أن فيه النجاة والسرور، فهلا أرشدتنا إلى مكانه أيها الهدهد الوقور؟

علت السكينة وجه الهدهد وتحلى بابتسامة مشرقة زادته حسنا وبهاء وهو يقول:

–   الله نور السماوات والأرض

اقشعرت جلود الفارسين أكثر من ذي قبل وجثيا على ركبتيهما في خشوع والكلمات تتغلغل في أعماق نفوسهم السحيقة تهز كيانهما هزا: (الله نور السماوات والأرض)

وتابع الهدهد حديثه:

–   لقد أظلمت السماء بالظلم والكفر والطغيان، ظلمات بعضها فوق بعض، وتحجرت القلوب بالجحود والحقد والعصيان فهي كالحجارة أو اشد قسوة، فكم من قلب مظلم علم أن الله هو النور فما استنار بنوره! وكم من نفس ذليلة علمت أن الله هو المعز العزيز فخضعت لمن هو دونه!! وكم من عقل حائر تائه علم أن الله هو الهادي فما اهتدى بهديه!!!

كانت هذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها الفارسان بكل هذه المعاني العظيمة، فسالت دموعهم وزاد خشوع قلوبهم وسجدت جباههم لله الواحد القهار..

وصمت الهدهد قبل أن يقول:

–   ارفعا رأسيكما وانظرا إلى أيديكما الآن..

وكم كانت دهشة الفارسين عظيمة عندما وجد كل واحد منهما في يده شعاع من نور يزيد المكان نورا على نوره ..

قال الهدهد:

–   إن شعاع النور الذي في أيديكم ما هو إلا جذوة الإيمان الصادقة في قلوبكم، فاحرصوا عليها متقدة؛ تنيرون به أنفسكم ومن حولكم..

لم يصدق الفارسان بداية أنهما حصلا على شعاع النور أخيرا، بل وأدركا حقيقته العظيمة التي ما كانت لتخطر ببالهم قط، والأهم من هذا كله أنهم عرفوا السبيل  إلى الحفاظ عليه حتى لا يعودوا إلى الظلام أبدا..

وعادا إلى المدينة يحملان شعاع النور، فلا يمران بصخرة فيمسانها به إلا وعادت إنسانا ينبض قلبه بالحياة، فنمت الزهور من جديد بعد أن سحقتها الصخور المتحجرة..

ووصلا المدينة في موكب مهيب ينشران النور حولهما حتى انقشع الظلام وعاد السلام فعاشت المدينة بسلام ما دامت جذوة الإيمان متقدة فيها.

( أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ، كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون)

*          *          *

وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين

Tags: No tags

إضافة تعليق

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني *الحقول المشار لها بنجمة هي حقول إلزامية