عندما-أحببت-1

عندما أحببت…

عن القصة:

قصة أشبه برواية قصيرة، ترويها شخصيات مفعمة بالعواطف بين الحاضر والماضي، بآمال تتطلع نحو المستقبل!

التصنيف: رومانسي، دراما، شريحة من الحياة

(1)

“نبيــــــــــــــــل”

كنتُ شاباً مثله..

أجل كنت مثله اتوقد شباباً وحيوية وتفاؤلاً، رغم ظروفنا الصعبة، فرغم أن والدي عامل بناء محترف ومتقنٌ لعمله؛ إلا أنه يتقاضى رواتب متقطعة، بالكاد تفي بحاجاتنا اليومية! وكنتُ سأنضم إليه في عمله، بصفتي ابنه الأكبر والوحيد، لولا أن والدتي أصرّت على إلحاقي بالجامعة، بعد أن أقنعتنا بأن هذا سيكون أفضل للجميع، خاصة وأن علاماتي تؤهلني لدخول أي تخصص أختاره، مما يسهل لي الحصول على وظيفة جيدة فيما بعد، حتى أن أخواتي الثلاث اللاتي يصغرنني بعدة سنوات، كدنَ يطرن من الفرح؛ وهن يعلقن آمالا كبيرة على هذا القرار!

ورغم التقشف الكبير، الذي ضاعفته أسرتي على نفسها من أجلي- مع حرصي الشديد على الاقتصاد، إذ لم أكن أشتري إلا الكتب، التي لا تتوفر في المكتبة العامة- إلا أن سعادتهم بقطعي لسنوات الدراسة، الواحدة تلو الأخرى بنجاح منقطع النظير؛ كان أكبر محركٍ لي كي أبذل جهدي، وأنا أرى الحياة تبتسم لي، والمستقبل تلوح بشائره المزهرة في طريقي، فسأعمل فور تخرجي، لأحول أحلامهم إلى حقيقة، وأمنياتهم إلى واقع!

كان هذا هو الأمر الوحيد الذي يشغل تفكيري، ولم أكن أدرك أن هناك أمراً في هذا الكون، قد يشغلني أكثر منه! غير أن التقائي بتلك الفتاة؛ هز وجداني، بل وقلب كياني رأساً على عقب!!

كنتُ وقتها في السنة الأخيرة، في قسم اللغات والترجمة، وقد تم تقسيمنا إلى مجموعات صغيرة، من أجل مشاريع الترجمة الكبيرة، حيث رأى أستاذنا أن بإمكاننا البدء بترجمة كتب لم يسبق ترجمتها إلى العربية، ومن ثم ترجمة كتب عربية؛ إلى لغات لم يسبق أن تُرجمت إليها، بالطبع كان مشروعا ضخماً، وتحدياً كبيراً، وقد حرصتُ أن أبذل فيه أقصى جهدي، كخيل السباق عندما تقترب من خط النهاية، فلم أنتبه لوجودها معي في المجموعة نفسها، إلا عندما قال لي قائد مجموعتنا “أشرف”- في إحدى اجتماعاتنا لتوزيع جزئيات العمل:

– لقد أثنى الأستاذ على عملك يا “نبيل” بشكل خاص، يقول أن الجزئية التي ترجمتها ممتازة جداً، بل واحترافية أيضاً.. والشيء نفسه ينطبق على “نائلة”..

نطق باسمها وهو يلتفت نحوها، متابعاً كلامه:

– الاستاذ يريد منكِ أنتِ و”نبيل” مقابلته في مكتبه..

يومها فقط، انتبهتُ لوجود “نائلة” في مجموعتي، تلك الفتاة نفسها التي لفتت نظري أول مرة، في اجتماع السنة الأولى مع رئيس القسم، حيث ألقى محاضرة مطولة عن الترجمة ومجالات الابداع والتفوق فيها، وما إلى ذلك، ثم سألنا عن أهدافنا، التي ننوي تحقيقها من دخول هذا القسم.. بالنسبة لي كنتُ واضحاً منذ البداية، فقد ذكرتُ بصريح العبارة، أنني اخترت القسم فقط؛ لأنني وجدتُه أكثر قسمٍ له مجالات عملٍ واسعة ومربحة، فهدفي هو الحصول على عمل ذو دخل ممتاز! هذا كل ما في الأمر! ورغم تنوع الأهداف التي ذكرها الطلبة، إلا أن “نائلة” تمكنت من لفتِ نظري، لدرجة أنني لم أستطع منع نفسي من الالتفات نحو مصدر الصوت، لأرى من تكون هذه الفتاة!! كانت فتاة أنيقة بحجابها، تلوح الثقة من نظراتها، وتتمتع بشخصية فريدة، تجبرك على احترامها!

ما زالت كلماتها ترن في أذني:

“أريد أن أترجم كُتباً للتعريف بالأسلام، لعل الله أن يجعلني سببا في هداية الخلق!”

صحيح أن شعور الإكبار لهذه الفتاة تملكني تماماً وقتها، غير أن مسؤولياتي تجاه أسرتي، كان أكبر همي، فسرعان ما نسيتها، في خضم الواجبات المزدحمة!

كثير من أصدقائي يطلقون عليّ لقب “الابن البار”، غير أنني لا أفعل أكثر مما يحتمه الواجب عليّ، بل لا أتخيل أن هناك من يمكنه فعل غير ذلك، لو كان في مكاني!

لم أدرك أن مشاعري تجاه “نائلة” كانت خامدة في قلبي منذ ذلك الوقت، وإلا.. فما معنى أن يهيج بركان قلبي فجأة؛ بمجرد أن ذّكّرّ “أشرف” اسمها معي!!

لقد وجدتُ نفسي مرتبكاً جداً، ونحن نسير تلبيةً لدعوة الأستاذ، وقد حرصتُ على أن أجعل خطواتي سابقة لخطواتها، خشية أن تفلتَ مني نظرة خاطئة نحوها، فقد كانت أجلُّ قدراً، من أن تدنسها نظراتٌ آثمة!

تهلل وجه الأستاذ لرؤيتنا، وأشار إلى مقعديت أمام مكتبه، فجلّسَت “نائلة”، ثم جلستُ أنا…

كان الأستاذ منفعلاً جداً، بدرجة لم آلفها فيه من قبل، بل إن كرمه علينا بالثناء والمديح، أنساني معظم ما قاله، غير أن بعضاً من كلماته علقت بذاكرتي:

– أنتما أفضل اثنين قمتُ بتدريسهما حتى الآن، إنني حقاً فخورٌ بكما، فلا أكاد أصدق أن بين طلبتي في هذا السن، من يمتلك مثل هذه الاحترافية..

بدا الأستاذ منفعلاً بإنجازنا بلا شك، أما أنا؛ فقد كنتُ أخشى أن يسمع أحدهما تسارع نبضات قلبي، كلما ذكرني معها بلفظ المثنى!! وعندما سألنا عن أهدافنا وطموحاتنا، شعرتُ برغبة في أن أجيبه جواباً يُبهرها، غير أنني لم أكن لأقول شيئا لا أتمثله، فأخبرته بصراحة عن رغبتي في العثور على عمل ذو دخل ممتاز!

وقتها شعرتُ بأنني سكبتُ ماءا مثلّجاً على رأسه، لأنه نظر إليّ بوجوم:

– أهذا كل ما في الأمر!! لا أصدق أنك “نبيل أكرم” الذي يتحدث جميع من في القسم عنه! ألا يوجد لديك طموحات، أهداف عظيمة، مشاريع مستقبيلة، أفكار عالمية،…

لا أعرف ما الذي كان يريد الأستاذ سماعه تحديداً، مما جعله يتابع كلامه بإصرار:

– ألا تفكر في إكمال دراسات عليا!!! أتعرف ما الذي يعنيه أن تكون محترفاً بالترجمة في أربع لغات حيوية عالمية، كتابةً ومحادثة؟؟ إلا تدرك أن اتقانك للترجمة الفورية بهذه اللغات؛ يُعد عملة صعبة في هذه الأيام!!! أنت تمتلك كنزاً لا يقدر بثمن، ويمكن أن تصاحب الوزراء، بل وجلالة الملك نفسه!! ألا تدرك قيمة ذلك!!! الجميع يتحدث بموهبتك الفريدة، وكل ما تريده في النهاية؛ هو الحصول على عمل ذو دخل ممتاز فقط!! لماذا تجهد نفسك كل هذا الجهد إذن!!

لا أعرف لمَ بدا الأستاذ ممتعضاً من إجابتي في ذلك الوقت، فقد اختصرتُ ما قاله لي؛ في جملة واحدة، لا أكثر ولا أقل!! ثم إنني حريصٌ على اتقان عملي مهما يكن، فهذه صفة ورثتها عن والدي.. سواء عملتُ في مكتبٍ صغير، أو مع وزير… اتقان العمل، أمرٌ مفروغ منه بالنسبة لي! ولا أدري كيف ستكون ردة فعل الأستاذ، لو أخبرته بأن دراستي لأكثر من لغتين حسب المقرر، كان من اقتراح أمي، التي قالت بأن هذا سيزيد من فرصة حصولي على عمل!! لذا آثرتُ الصمت..

بالطبع كان عقلي وقتها منشغلاً بما ستجيب به “نائلة”، وبكل ثقة؛ أجابت بما كنتُ أنتظر سماعه، وخفق قلبي بشدة.. ولم أكن أدري، هل خفق من روعة ما نطقت به، أم لشيء آخر لم أكن أدركه!

لا أدري كيف مرت الأيام بعد ذلك، غير أنني بتُ متأكداً من أن “نائلة”؛ هي الفتاة الوحيدة التي ملكت قلبي، لكن مشاعري تلك؛ لم تتجاوز حدود صدري، فما زال أمامي سنة لأتخرج! بقيتُ كما أنا، غير أن تعديلاً طفيفاً وهاماً في الوقت نفسه؛ طرأ على خطتي، بعد أن أصبحت “نائلة” جزءا من هدفي! وكثيراً ما تأملتُ اسمينا معاً.. “نبيل ونائلة”، وكأننا خُلقنا لبعضنا البعض!!

وبدأ المستقبل يلوح أمامي أكثر إشراقاً، سأتخرج وأعمل، وأساعد والدي وأُسعد أسرتي، ثم سأخطب “نائلة” بالتأكيد، ولم أكن لأغرق في أحلام اليقظة، فاتخذتُ من ذلك حافزاً، يزيد من عزيمتي لأمضي قُدُما..

 وجاء اليوم الموعود، فبعد أن تخرجتُ بدرجة الشرف الأولى، واجتزتُ اختبارات القبول لعدد من الوظائف المختلفة، أتاني اتصال هاتفي من رقم خاص.. السفير يطلب مقابلتي شخصيا!!

يومها أقامت أمي حفلة في بيتنا بهذه المناسبة، ورقصت أخواتي طرباً، وكانت كبراهن لا تزال في المرحلة الثانوية، أما أبي.. فقد لمحت دمعة نفرت من عينيه تأثراً، ولا أنسى كلماته لي أبداً:

– رضي الله عنك يا بني وبارك فيك.. إنني حقاً فخور بك..

وبدأت أحلامي تكبر، ستكون فرصة لي لأجوب العالم، وستكون “نائلة” برفقتي، وستحقق أهدافها في الدعوة أيضاً.. وسيدخل الناس في دين الله أفواجا..

غير أن أحلامي السعيدة تلك، ما لبثت أن اصطدمت بالواقع المرير!!

فعندما قابلتُ السفير في مكتبه، فوجئت بوجود زجاجات خمرٍ أمامه هو وضيفه، والذي علمتُ فيما بعد؛ أنه ممثل لإحدى الدول الأجنبية الكبرى! لا أدري لماذا دعوني لمباشرة العمل فوراً، بدل أن يحدثني السفير على انفراد، لنتفق على طبيعة العمل قبل أي شيء!! لقد فوجئت به يحييني بابتسامة ودودة، ويدعوني للجلوس معه هو وضيفه، قائلا لي، بأن هذا عملاً مستعجلاً، وهو بحاجة لمن يترجم له المحادثة، مع هذا الزائر الهام!!

لا أدري كيف تمكنتُ من استيعاب كلماته وقتها، فقد كانت عيناي زائغتان تماماً، بعد أن لمحتُ تلك الزجاجات!! كيف لي أن أجلس في مجلسٍ كهذا!!

ويبدو أن السفير تضايق قليلاً من ترددي، وربما أدرك ما يجول في ذهني، فحاول تلطيف الجو بقوله:

– لستَ مضطراً للشرب، فهذه رسميات ضرورية، وأمور دوبلوماسية هامة! اجلس فقط..

غير أنني أجبته بأدب:

– أرجو المعذرة.. لا يمكنني قبول الوظيفة..

وابتسمتُ لضيفه مُحيياً، ثم خرجت!

غير أن موجةً من الحزن انتابتني بشدة؛ بمجرد أن وطأت قدماي رصيف الشارع! بأي وجه أعود لوالداي وأخواتي الآن، وهم لا يزالون في نشوة الفرح!! ثم تراءت لي “نائلة”.. كيف سأتقدم لخطبتها، إذا لم أحصل على دخلٍ جيد!!! صحيح أن الفرصة لا تزال أمامي في أماكن أخرى، رغم أنني أعلنت انسحابي من معظمها، ولكن.. أحلامي التي بنيتها منذ اتصال السفير؛ تهدّمت، والهوة بيني وبين “نائلة” اتسعت!

مشيتُ على غير هدى، وقادتني قدماي لأقرب مسجد، صليت ركعتين وبكيت بحرقة.. (اللهم اجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها)..

 مكثتُ في المسجد وقتاً أطول مما تخيلت، إذ لم انتبه إلا على صوت أذان العصر، فأديتُ الفريضة، وما أن سلمت؛ حتى تفاجأتُ بـ “أشرف” عن يساري! لم أكن قد رأيته منذ أن تخرجت، ففرحتُ لرؤيته، وعرفتُ أنه تزوج من ابنة عمه، بعد أن طالت خطوبتهما أكثر مما ينبغي، إذ كانت مخطوبة له منذ سنته الجامعية الأولى! ثم باغتني بسؤال لم أتوقعه منه:

– ومذا عنك أنت يا “نبيل”؟ ألم تفكر بالزواج بعد؟!!

أطلقتُ وقتها تنهيدة طويلة، فحالتي المادية، والتزاماتي تجاه أسرتي، لا تسمح لي بالتفكير بذلك أصلاً! وأمامي صمتي، رمقني “أشرف” بابتسامة غريبة:

– ألم تحدثها بشيء بعد؟

حملقتُ فيه بدهشة حقيقة وقتها، إذ لم أكن أتخيل أن مشاعري تجاه “نائلة”؛ ظاهرة إلى ذلك الحد! لكنني سألته باهتمام:

– من تقصد؟

فما كان منه إلا أن أردف بقوله:

– لا تتظاهر بالسذاجة.. أقصد “نائلة” بالطبع، ومن غيرها!!

كانت صدمة حقيقية بالنسبة لي، إذ لم يحدث أن نطقتُ باسمها أمام أحد، بل لم يحدث أن تبادلتُ معها كلمة واحدة، خارج نطاق الضرورة القصوى! بل لم يحدث ذلك أكثر من مرتين على الأكثر!! غير أن “أشرف”؛ كان لا يزال مصراً على كشف أوراقي علانية أمامه، فقال بثقة وكأنه قرأ أفكاري:

– حتى إن لم تخبر أحداً بذلك، فإعجابك بها واضحٌ جداً، ولا عجب في ذلك، فبينكما الكثير من القواسم المشتركة..

كانت جملته تلك مفاجأة أخرى بالنسبة لي، فهل يُعقل أنني أتقاسم مع “نائلة” الكثير من الصفات!! لكنني سرعان ما عزيتُ ذلك إلى كون الأستاذ نادانا معاً في ذلك اليوم، لكن “أشرف” أصرّ على أن يسلك في حديثه منحى مختلفاً عما يدور في ذهني، بقوله:

– كلاكما متميزان، وله جاذبية كبيرة، فهي رغم حجابها؛ من أكثر الفتيات جاذبية، ولولا أنها تعرف كيف ترسم الحدود جيداً، لتهافت الشباب عليها؛ مثلما يتهافت الفراش على النار! وأنتَ أيضا تمتلك الجاذبية نفسها بالنسبة للفتيات، لولا أنك تتجاهل هذه الحقيقة دائماً باصرار، وأعتقد أن أي شاب آخر لو كان في مكانك؛ لأصبح له شأنا مختلفا تماماً!! ألا تنظر لنفسك في المرآة؟؟ وأنت إضافة إلى وسامتك الظاهرة؛ متحدثٌ لبق، ونبرة صوتك وأسلوبك في الكلام يأسران الآذان.. وحتى هدوؤك وصمتك، وتركيزك على دراستك، ومدح الأساتذة لك… كل هذا يجعلك فارس أحلام مثالي بلا شك…

لا أدري ما الذي شعرتُ به تحديداً، عندما تفوه “أشرف” بكل تلك الكلمات، غير أنني آثرتُ الصمت، فيما تابع كلامه:

– وأظن أن “نائلة” معجبة بك أيضاً.. بل أكاد أجزم بذلك، وربما تنتظر اللحظة التي تتقدم فيها لخطبتها، فلا تتأخر عليها..

كانت تصريحاته تلك؛ كفيلة بزلزلة قلبي، فلم يعد قادراً على مزاولة عمله بهدوء، حتى خشيت أن يسمع وجيبه! فما كان من “أشرف” إلا أن ربت على ظهري، وهو يهم بالخروج، قائلاً:

– آمل أن لا تتأخر عليها، فالفتاة لن تنتظر شخصاً لم يَعِدها بشيء، والخطّاب كثيرون!!

كانت تلك الحقيقة المرة، بمثابة الخنجر المسموم، الذي اخترق قلبي دون أدنى رحمة! وكأن “أشرف” أدرك ما يلوح على وجهي من ألم وهم، فقال لي محاولاً طمأنتي:

– إنني واثقٌ من أنها لن ترفضك، فتقدم لخطبتها بسرعة، ولا تتردد..

غير أنني كنتُ واثقاً من إجابتي هذه المرة:

– الزواج مسؤولية كبيرة يا “أشرف”، ولدي التزاماتي تجاه أسرتي قبل ذلك، فهل تريد مني أن القى مصير بطل القصة الفرنسية “الحب والخبز”؟؟

فما كان من “أشرف” إلا أن انفجر ضاحكاً:

– هكذا إذن!! أنت واقعي بدرجة كبيرة يا صديقي، لدرجة أن الأحلام لا تجرؤ على لمسك!! حسناً… بالطبع لا يمكنك الاقدام على زواج؛ دون امتلاكك للقدرة المادية، ولكن على الأقل حاول أن تتواصل معها، وتخبرها بأنك تنوي خطبتها حالما تتوفر لديك الإمكانية، وستنتظرك بالتأكيد..

لا أدري كيف تمكنتُ من السيطرة على غضبي، جراء اقتراحه ذاك، فبأي حق أتواصل مع فتاة بطريقة ملتوية، أتجاوز فيها أهلها!! لكنني كظمتُ غيظي، واكتفيتُ بقولي:

– لا يمكنني أن أعد أحداً بشيء، لا أثق بقدرتي على الوفاء به! حتى الرسول صلى الله عليه وسلم في حثه على الزواج؛ قال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”، ولستُ بالذي يحدّث فتاة؛ قبل أن يتأكد من قدرته على الارتباط بها رسمياً..

وكأن “أشرف” شعر بأنه ضايقني بكلامه، فأسرع يعتذر بقوله:

– صدقني.. لم أكن أقصد سوى الخير لك، فسامحني إن أزعجتك، وحظاً موفقاً لك..

إلا أنني بعد ذلك، لم أكن لأشعر بأي ضيق منه، بل إن كلامه أشعرني بنوعٍ من الراحة، فربما يكون عرف شيئا عن “نائلة” من زوجته، فهما صديقتان على ما يبدو، وهذا ما أوقد عزائمي من جديد، لأباشر البحث عن عمل، وفي أسرع وقت..

ومما خفف عني تلك الليلة، أن والداي باركا موقفي من وظيفة السفير، وقد أكّد أبي عليّ بقوله:

– المال مهم جداً لنا بالطبع، لكن الأهم هو أن يكون حلالاً، ومن طريقٍ حلال..

وهكذا عدتُ لمراسلة بعض المكاتب التي أعتذرتُ لها سابقا، وحصلتُ على وظيفة جيدة؛ في مكتب لترجمة الوثائق الرسمية، والمعاملات الحكومية، وبدأتُ أعد الأيام التي تفصلني عن “نائلة”، بعد أن رتبت سلم أولوياتي المادية..

فبعد أن أساعد أسرتي في شراء منزل مريح وصحيّ، بدلا من الأجرة التي تلاحقنا كل شهر، في منزل لا تدخله الشمس، مما ترك آثارا سلبية على صحة والدتي وأخواتي، كنت أفكر بمفاجأة والديّ برحلة حج، أعبّر من خلالها عن جزء من امتناني الشديد لهما، لا سيما وأنا أدرك تماما مدى رغبتهما بأداء الفريضة، وزيارة الديار المقدسة، وقد كان لدى أمي حصّالة خاصة، تدّخر فيها المال لهذه الرحلة العظيمة، غير أن وفاة زوج عمتي المفاجيء، أجبرها على كسرها، ولم أكن لأنسى دموعها في ذلك الوقت! صحيح أنها كانت تبكي حال عمتي؛ بعد أن تيتم أولادها، لكنني أدرك أنها كانت تبكي أيضا؛ شوقها لبيت الله، الذي كانت تعد له الأيام عداً!! ولا شك أن لرحيل زوج عمتي، أثره الكبير على حياتنا بعد ذلك، مما يعني أن لديّ التزاماً، عليّ أن لا أنساه تجاه أبي، والذي تكفل بإعالة أسرتين، لا كافل لهما- بعد الله- سواه!

وابتسمت لي الأيام مجدداً، إذ سرعان ما لمح صاحب المكتب كفاءتي، فضاعف أجرتي مقابل ساعات إضافية من العمل، فقد بدأ الزبائن يتهافتون على مكتبه دون سواه، وكنت سعيداً بذلك، أعمل بجد، ولا أتردد عن قبول أي أعمال إضافية، فقد كانت الأجرة مجزية جداً، وخلال عام كامل، تمكنتُ من تحقيق إنجازٍ منقطع النظير، فاستعنتُ بصاحب عقارات كان أحد زبائني، وعثرتُ على منزلٍ مناسب جداً، وبعد أن اصطحبتُ والداي إليه، وتأكدتُ من إعجابهما به، سددتُ الدفعة الأولى كاملة، لتنتقل أسرتي إليه في أقل من شهر، وكانت فرحة أمي ودعوات أبي وبهجة أخواتي، كفيلة بإسعاد قلبي.. وكنتُ أتحرق شوقاً للحظة التي أفاجيء بها والداي، برحلة الحج.. حتى إذا ما حان موسمه، وكنتُ قد ادخرتُ مالاً كافياً لهما، شعرتُ بأنني امتلكتُ الدنيا وما فيها، وأنا أقدم لهما تذاكر السفر مع حملة ممتازة، ورغم أن أمي اعترضت بداية بقولها:

– كان عليك أن تفكر بنفسك أولاً وبمستقبلك، فقد أصبحتَ رجلاً، ويجب أن تفكر بعروس مناسبة الآن، يكفي المنزل الذي تكفلتَ بسداد أقساطه..

لكنني طمأنتها بقولي:

– لا تقلقي يا أمي، فقد أصبح لدي دخلاً ثابتاً بفضل الله، وهو دخلٌ ممتاز، ويمكنني تنميته بإذن الله، وأعدك بأننا سنتحدث في هذا الموضوع؛ فور عودتك بالسلامة من الحج، إن شاء الله..

عندها لم تتمالك أمي نفسها، ولم أكن أتخيل أن كلماتي تلك؛ ستملأ المنزل زغاريداً وأفراحاً! لقد أشرق وجهها، كما لو أنه لم يشرق من قبل، فقالت لي:

– سأدعو الله بأن يُنعم عليك بأفضل زوجة في الدنيا كلها، ويرزقك بعشرة أولاد صالحين مصلحين..

فأفلتت مني ضحكة رغماً عني:

– لماذا عشرة بالتحديد؟؟

فضحكت أمي وهي تقرص أذني:

– لا أدري.. هذا ما خطر ببالي الآن!

ونمتُ تلك الليلة، وأنا أفكر بـ “نائلة”، ستحبها أمي بلا شك..

وانطلقت قافلة الحجيج إلى بلد الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وانطلقتُ إلى عملي، أهتم بشؤون أخواتي، وشؤون عمتي وأولادها، نيابة عن أبي، وقد كانت تلك من أسعد اللحظات، التي مرت عليّ حتى ذلك الوقت..

 إنها بضع خطوات فقط، تفصلني عن “نائلة”!!

غير أن للقدر مسارٌ آخر، غير ذاك الذي رسمته في ذهني!!

فبعد عام وثلاثة أشهرٍ من لقائي بـ”أشرف” آخر مرة، فوجئتُ به يزورني في مكتبي، وكانت ملامح وجهه لا تبشر بخير، وهو يقول لي:

– أين كنت؟؟ لقد بحثتُ عنك كثيراً، بعد أن فقدتُ أي وسيلة للاتصال بك!

عندها تذكرتُ بأنني لم أخبره بعنوان منزلنا الجديد، الذي انتقلنا إليه، فاعتذرتُ منه متأسفاً:

– إنني مدين لك باعتذار بالفعل، فقد شغلتني الحياة كثيراً كما ترى..

ثم صمتُ، وأنا أتطلع لحديثه عن “نائلة”، كما فعل آخر مرة، غير أنه اكتفى بقوله:

– جئتُ لأطمئن عليك، كيف حالك؟

كانت كلماته واجمة بشكل كبير، مما أثار مخاوفي، فهتفتُ دون وعي مني:

– هل حدث شيء لـ “نائلة”؟

عندها نظر إلي بعينين لائمتين:

– كنتُ أدرك طوال الوقت أنك مهتم بها، فلماذا تأخرت؟! لقد تزوجت “نائلة” قبل ثلاثة أشهر!

وقتها أدركتُ فقط، كم كنتُ أحبها… ولا يمكنني تخيل حياتي من دونها!

ولا أدري ما الذي جرى لي تحديداً بعدها، فقد كانت تلك أشبه بالضربة القاضية؛ لكل ما بنيته من أحلام وطموح ومجد! ولم أستطع متابعة العمل في ذلك اليوم، فطلبتُ إذناً بالخروج وهِمتُ على وجهي… ما أشبه اليوم بالبارحة!! غير أنني فقدتُ السبب، الذي أحيا عزيمتي أول مرة!!

“نائلة”.. تلك الفتاة التي أحببتها من كل قلبي؛ أصبحت مجرد ذكرى عابرة، بل سراب في صحراء شاسعة، لم أستطع الوصول إليها أبداً، ولا الارتواء بفيء ظلالها..

ما الذي سأقوله لأمي عندما تعود! ما الذي سأحدثها به؟ لقد فقدتُ الرغبة تماماً بالزواج…

وكأن المصائب تأبى أن تأتي فُرادى، لعل بعضها يُنسي بعضاً، فرغم أنني حرصتُ على استقبال والداي، عند عودتهما من الحج، استقبالاً يليق بهما قدر استطاعتي؛ إلا أن وفاة عمتي الكبرى؛ كان صدمة حقيقية للعائلة، فهي لم تكن تشكو من شيء، وكانت بمثابة الجدة لنا بعد جدتنا!

كانت أيام عصيبة، لكنها مرت كما يمر السحاب، وذكرى “نائلة” لا تزال تلوح أمامي في كل خطوة أخطوها، رغم محاولاتي الجاهدة لتناسيها، ولم أكن أدرك كم كانت جذورها متغلغلة في كياني..

حتى جاء اليوم الذي كنتُ أخشاه، يومها طلبت مني أمي الحديث على انفراد..

– بني.. لقد وعدتني بالحديث في موضوع الزواج فور عودتي من الحج، وقد مرت الأيام دون أن تحدثني بشيء! لقد ظننتُ أن هناك فتاة تود خطبتها، وكنتُ سأبذل جهدي من أجلك، حتى ولو طلبتَ بنت السلطان مثل علاء الدين..

كانت أمي تتكلم بجدية كبير، حتى أنني اكتفيت بالابتسام لخيالها الواسع، فيما تابعت هي كلامها بالنبرة نفسها:

– أخبرني يا حبيبي، هل حدث لك شيء؟

كانت كلمات أمي الحبيبة، كفيلة بإذابة الجليد المتراكم على قلبي، فاضطربَت مشاعري، ونفرت دمعاتٌ من عيني، فانكببتُ على يديها أقبلها، وأنا أخفي وجهي في حجرها:

– سامحيني يا أمي.. أنت تعرفين الظروف التي مررنا بها بعد وفاة عمتي، رحمها الله…

فما كان من أمي إلا أن ربتت على شعري بحنان:

– لقد مر على ذلك أكثر من عشرة أشهر، فأخبرني الحقيقة.. هل حدث شيء للفتاة التي كنت تفكر فيها؟

لا أدري كيف وصلت أمي لذلك الاستنتاج، بل لا أعرف كيف عرفت أن هناك فتاة كنتُ أود خطبتها بالفعل، لكنني آثرتُ الصمت، تاركاً العنان لدموعي، لتنساب في حضنها الدافيء، وليكون هذا أبلغ جواب عن سؤالها..

عندها ضمتني إليها كطفلٍ رضيع، وشعرتُ بدموعها تتخلل خصلات شعري:

– لن يضيعك الله أبداً يا بني، ولو كان فيها خيراً لك، لما أبعدها عنك…

كانت لحظات سكينة، اغتسلت روحي في صفائها وطهارتها، حتى شعرتُ بأنني ولِدتُ من جديد..

لم تمضِ على تلك الحادثة سوى أيامٌ معدودة، حتى فوجئتُ بأمي تقول لي:

– سمعتُ عن فتاة طيبة من الحاجّة “أم أسعد”، وأظنها مناسبة لك.. وأنوي زيارتهم والتعرف إليهم غداً، إن شاء الله..

ورغم عدم استعدادي النفسي للارتباط بأي فتاة أخرى، غير “نائلة”؛ إلا أنني وجدتُ نفسي انصاع لكلامها، إذ لم أجد مبرراً واحداً لمجادلتها، أو الاعتراض على عَرضها!

كانت سعادة أمي بالفتاة وعائلتها بعد ذلك، من النوع الذي تعجز الكلمات عن وصفه! فقد كالت لها المدائح كيلاً، من كل حدب وصوب، وكأنني على موعدٍ مع ملاكٍ؛ هبط من السماء فجأة!!

كنتُ أُقنع نفسي بأن موافقة الأهالي المبدئية، لن يترتب عليها أي شيء؛ إلا بعد مقابلتي الشرعية للفتاة، حيث يحق لأي واحدٍ من الطرفين الرفض، وقد ترفضني الفتاة وينتهي كل شيء بسلام، وفي أسوأ الاحتمالات.. فإن أمي وعائلتي بالطبع، لن يهدأ بالهم حتى أتزوج، وإن كنتُ سأتزوج عاجلاً أم آجلاً؛ فلمَ لا أقدم على هذه الخطوة الآن! على الأقل.. هذا سيسعد أمي وأبي، ويدخل البهجة على عائلتي، لا سيما وأن أكبر أخواتي قد تمت خطبتها لابن خالي، وكل شيء يبدو على ما يرُام.. هكذا كنتُ أقنع نفسي بضرورة التأقلم مع الوضع الجديد، وأخذتُ عهداً على نفسي بضرورة نسيان “نائلة” تماماً، فأي مقارنة بينها وبين الفتاة التي سأخطبها، أياً كانت؛ ستظلم الجميع!!

عرفتُ أن اسمها “عفاف جميل”، وبعد مقابلتي لوالدها، قابلتها.. ولا أدري كيف انشَرَحَ لها صدري فجأة، كان هناك توافقٌ عجيبٌ بيننا، وكأنني أعرفها منذ زمنٍ طويل، بل شعرتُ أنني أتحدث مع نفسي، وأرى صورتي في مرآة صافية! كانت تعمل في مجال (البرمجة)، حيث يمكنها مزاولة عملها في المنزل، ثم حدثتني عن أهدافها وطموحاتها، وحدثتها وكأنني أتحدث إلى صديق مقرب؛ أكثر من كوني أتحدث إلى فتاة أنوي خطبتها! وقد أراحني هذا الشعور كثيراً في ذلك الوقت! وكم كانت فرحة أمي وأبي كبيرة، بإعلان الموافقة من الطرفين..

وبعد أن تم ترتيب كافة الأمور بين الأهالي، وتحديد موعد الزفاف؛ شعرتُ بحاجة ماسة للاختلاء بنفسي، فلم تبقَ أمامي سوى أيام معدودة، لأتحمل بعدها مسؤولية كبرى، أُخِذَ مني عليها ميثاقٌ غليظ! فأخبرتُ أمي بأنني ذاهبٌ للنادي الرياضي، وقد أتأخر قليلاً حتى لا تقلق عليّ، وقد ذهبتُ هناك فعلاً، والتقيتُ ببعض الأصدقاء القدامى، ولكنني كنتُ أبحث عن الفرصة التي أخلو فيها بنفسي، فخرجتُ من حدود النادي أتمشى وحيداً، في ممشى شجري، بعيداً عن الضوضاء، أراجع شريط حياتي، تحت ضوء القمر، وكان لا بد لظل “نائلة” أن يظهر من جديد؛ إذ كنتُ أبحثُ عن طريقة لأنساها تماماً، وأُسدل الستار على آخر فصولها، فقد رأيتُ أنه من الخيانة للفتاة، التي ستصبح زوجتي؛ أن تكون هناك فتاة أخرى، لا تزال عالقة في قلبي..

وبينما أنا على تلك الحالة من الحوار الداخلي؛ فوجئتُ بظل شخصٍ، يعترض طريقي!! لم أتبين ملامحه في البداية، غير أنه بدا يتعمد لفت انتباهي، وربما يريد التحدث معي.. لكنني ذُعرتُ تماماً، عندما تبين لي أن ذلك الشخص؛ لم يكن رجلاً!! فاستدرتُ وأنا أنوي العودة من حيث أتيت بأسرع ما يمكن، فليس من الحكمة في شيء، أن أقف وحيداً مع فتاة شابة، على ما يبدو، في مكانٍ معزول كهذا!!!!

وقبل أن أقدم على خطوة أخرى في طريق العودة؛ فوجئتُ بها تهتف باسمي، بنبرة كسيرة، كانت كفيلة بزلزلة أعماقي، لتهيج أعاصير وزوابع، بل تفجّر براكين؛ توهمتُ أنني نجحتُ في إخمادها!

– نبيل.. ألم تعرفني؟ هذا أنا.. “نائلة”!

لم تكن بحاجة للتعريف بنفسها، لأدرك أنها هي بعينها، ورغماً عني وعن كل خططي الدفاعية؛ وجدتُ قلبي يخفق بجنون، حتى أنكرتُ نفسي، وأنا أحدثها باستبسال الغريق الذي يتشبث بالقشة:

– ما الذي أصابك يا نبيل!! ألم تقل قبل لحظات؛ بأنه لا وجود لـ “نائلة” في قلبك بعد اليوم!! أكان هذا اختبار مفاجيء لصدق كلامك، فأعلنتَ فشلك فيه من الكلمة الأولى!!!

تمالكتُ نفسي بصعوبة، لأقول لـ “نائلة”، بأكثر نبرة جادة امتلكتها في حياتي:

– أخشى أن يرانا أحد في هذا المكان وحدنا، فيظن بنا سوءا، ولا أريد أن أسيء لك بأي شكل يا أختي..

غير أنني تشنجتُ مكاني، وكأن الشلل أصاب كل خلية في جسدي، وأنا استمع لشهقاتها الملتاعة، وبكائها المرير! وهممتُ أن أهرع نحوها، لأضمها بين ذراعي، وأقول لها مُطمئِنا:

– “نائلة” يا مالكة قلبي، هوني عليك حبيبتي، وأخبريني، هل حدث لك شيء؛ فأقدم حياتي فداء لك؟

لكنني كبّلتُ قدماي، بأقوى أغلال يمكن أن تثبتهما مكانهما، وألجمتُ لساني بشدة، لأقول لها بلهجة جادة:

– هل يمكنني تقديم أي مساعدة؟

فما كان منها إلا أن جثت على ركبتيها، وهي تنتحب بكلام متهدج؛ كاد أن يفقدني صوابي:

– أعلم أنني أستحق منك هذا التجاهل بعدما حدث.. ولكن صدقني، لم أكن أدرك أنك تحبني أو حتى تهتم لأمري، رغم أنك كنتَ الشخص الوحيد، الذي أحببته طوال حياتي، وكنتُ أفضّل الموت على أن أتزوج برجل آخر! لكن أهلي أرغموني على ذلك.. وها قد مر أكثر من عام على زواجي، دون أن تغيب ذكراك من مخيلتي، إذ كان زوجي كثير السفر والترحال، وبالكاد يذكر أن لديه زوجة، عليه الاهتمام بها!! ربما لم تكن تعرف أن زوجة “أشرف” هي أختي من أمي، وهي أكثر من تعلم بمأساتي، فقد انفصلت أمي عن أبي عندما كنتُ في الثانية من عمري فقط، ثم تزوجَت مرة أخرى وأنجبت أختي تلك، فيما تزوج والدي امرأة أخرى وأنجب منها بقية أولاده، وبقيت أنا أتنقل بين البيوت، تارة في بيت جدي لأبي، وتارة في بيت جدي لأمي، تارة عند أبي وتارة عند أمي، وكبرتُ دون أن أعرف معنى الاستقرار، فأشغلتُ نفسي بالتميز والأهداف العظيمة؛ لعلي أتناسى ذلك النقص الكبير في حياتي، ثم شرعتُ في بناء كياني الخاص! لم يكن ينقصني المال، ولم أكن أدرك أنني كنت أبحث عن الحب والأمان.. حتى التقيتك ووجدتُ فيك كل ما أتمناه! ولكنني لم أكن أجرؤ على المبادرة بشيء قد يُساء فهمه، وكنتُ أنتظرك، وأنا أمنّي نفسي بأن أكون قد وقعتُ في قلبك؛ كما وقعتَ في قلبي.. ولكن مضت الأيام دون أمل، واعتراني الهم، حتى حصل ما حصل!! وقبل أسبوع فقط، عندما كنت أحدث أختي برغبتي في الطلاق من زوجي، بعد أن أصبحت حياتي جحيما لا يُطاق، حدثتني عن لقاء “أشرف” بك… وقتها فقط، شعرتُ بأن القدر قد يبتسم لي من جديد.

    لا أذكر بأنني شعرت بوجود كلمات أكثر صدقاً، تنساب بعذوبة وعفوية كتلك الكلمات من قبل، ولا أعرف كيف تمكنتُ من الصمود في تلك اللحظات، دون أدفئها بلهيب أشواقي المشتعلة، أو أغمرها بسيل مشاعري المتأججة، لأخبئها في أعماقي؛ خشية أن يراها أو يسمعها أحد غيري!

وأي شاب يحتمل رؤية حبيبته الوحيدة، التي قضى أيامه يحلم بالوصول إليها؛ تصارحه بحبها ورغبتها، وهي في أشد حالات اليأس والانكسار، بعد أن فقدَ في وصالها الأمل!! وكأنني غبتُ عن واقعي للحظة، فرأيتني انتشلها من بؤسها، وأخلصها من عذاباتها، فأنا فارسها المنقذ، الذي طال انتظارها له، وآن لها الارتماء في أحضانه، ليحلق بها على صهوة جواده الأبيض، فوق سحائب الهموم والآلام، حيث سنبني قصر حبنا، والذي سيرتع في ظلاله أطفالنا، حتى ننسى أننا ذقنا في حياتنا بؤساً قط!

وكأنها خشِيَت ترددي، فرجتني بنبرة؛ أذابت جليداً؛ حاول أن يصمد في لهيب صدري:

– إن منزلي قريب، وأنا وحيدة، فلا تتركني لأشباح وحدتي، أتجرع مرارة الحرمان من جديد، ولا يهمني ما الذي سيحدث بعد ذلك، فلم تعد الحياة تعني لي شيئا!! وثق بأنني مستعدة لفعل أي شيء من أجلك..

ولكن.. لا أدري أي قوة تلك التي كبحت جماحي، وعقدت لساني، فوقفَتْ سداً منيعاً أمام هوى قلبي، فتجمّد قبل أن ينساب في كلماتٍ؛ تكشف عظيم حبي، وشدة شوقي!

لقد أصابتني رعدة خوفٍ؛ ما شعرتُ بمثلها قط! ولستُ أدري إن كان ذاك خوفاً من ارتكاب عملٍ خاطئ؛ أندم عليه طوال حياتي، أم خوفٌ من ردة فعل أمي، التي بذلت جهدها؛ حتى أتمّت خطبتي، أم خوفٌ من ردة فعل أبي الذي يثق بي، أم خوفٌ من خيانة زوجٍ غائبٍ؛ قد لا يكون له ذنبٌ فيما يجري، أو خيانة فتاةٍ على وشك أن تصبح زوجتي!!

رأيتُ ناراً يقع المجرمون فيها سبعون خريفاً؛ فلا يصلون قعرها، وجنة يخلد الأبرار في نعيمها؛ ولا يملون منها أبداً، وفوق ذلك.. ربٌ عظيمٌ لا تخفى عليه خافية، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها!! فخشع قلبي، وسكنَتْ جوارحي، ونطق لساني، وقدماي تلوذان بالفرار:

– لقد عقدتُ قراني، وسأتزوج بعد عدة أيامٍ، إن شاء الله..

ربما توقعتُ كل شيء، إلا سماع شهقتها الفزعة، وهي تسألني بالتياع:

– وهل كنتَ تحبها؟؟

فوجدتُ لساني يجيبها بتلقائية، وأنا أحث الخطى في الابتعاد:

– لقد أصبحَت زوجتي.. وسأحبها، بإذن الله..

غير أنني توقفتُ فجأة؛ لأقول لها دون أن التفت إليها:

– حتى أنتِ يا أختي.. يمكنك أن تحبي زوجك، وقد يرزقك الله منه طفلا؛ يكون قرة عين لك في الدنيا والآخرة، لذا أرجوكِ، عودي من حيثُ أتيتِ، واستري على نفسك ستر الله عليك..

وهممت بالجري كي أختفي من ناظريها بسرعة، لكنني تذكرتُ أمراً هاماً، ختمتُ به كلامي، قبل أن أطلق ساقاي للريح:

– أنا لم أرَ ولم أسمع شيئاً، ولا أعرف عنكِ سوى أنك الطالبة الخلوقة “نائلة عواد”؛ التي ستسعى بجدٍ لتحقيق هدفها في ترجمة كتبٍ، تكون سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجا..

    ورغم مرور كل تلك السنوات؛ ما زلتُ لا أتمالك دموعي كلما تذكرتُ ذلك الموقف، وذكرتُ حفظك لي فيه يارب، فقد كنتَ سندي في جميع أموري، وأنتَ تعلم أنني ما تتبّعتُ لها خبراً بعد ذلك، ولا كشفتُ لها ستراً، وكنتُ أرجو أن ينصلح حالها بكل خير، ابتغاء مرضاتك، وإنني أتوسل إليك بقدرتك، التي حَفِظَت شاباً هائجاً، وثبّتته في ذلك الموقف العصيب؛ أن تُلهم هذا الطبيب الطيب علاجاً؛ يكون فيه نجاة ابني وحفظه من كل سوء، فقد كنتُ شاباً مثله، وأنتَ على كل شيء قدير..

*************************

(2)

“عفــــــــــــــــــاف”

   أنهار من الدموع لا يمكنني حبسها، وأنىّ لي ذلك! قطعة من فؤادي، ممددة على السرير الأبيض أمامي، ما زال شاباً في عمر الزهور، ولستُ أعترض على أمرك يا إلهي، ولكنني أمتك الضعيفة، التي عوّدتَها رحمتك ولطفك.. لم أكن أعرف ما أدعوك به، غير أنني استودعتك قلبي؛ فحفظته!

كنتُ في عنفوان الشباب والصبا مثله، أتطلع بشغفٍ لليوم، الذي أحقق فيه أمنية والداي؛ بتقديم عملٍ يكون فيه عزة الأمة، فلطالما سمعتهما يتحدثان بألم عن التخلف والضعف الذي يجتاح مجتمعاتنا، في حين تتطور الأمم الأخرى وتزداد قوة، لنبقى نحن عالة عليها! وشعرتُ بأن السيادة في القوة؛ ستكون لمن يمتلك “التكنولوجيا” الأكثر تطوراً، فعزمتُ على دخول عالم البرمجة، وانكببتُ على دراستي، التهمها بنهمٍ كي أسبر غور رموزها، وأكشف ما يخفى بين سطورها، فلم أكن لأدرس من أجل درجاتٍ عاجلة، بل كان هدفي التفوق على مصممي البرامج، ومطوري لغات البرمجة بحد ذاتها، فتعمقتُ في تاريخها، وبذلتُ جهدي حتى أحقق إنجازاً لأمتنا، فأُسعِد والداي، تعبيراً عن تقديري وامتناني لكل ما فعلاه من أجلي، ولأريهما بأنهما حتى وإن لم يُنجبا غيري؛ فقد أنجبا فتاة بأمة، تخلد ذكراهما، وتكون سبباً في جريان الحسنات في سجلاتهما؛ إلى يوم القيامة!!

وقد كنتُ ازداد سعادة مع كل معلومة جديدة أتعلمها، بل إن أساتذتي بُهروا بالبرامج التي كنت أنجزها في وقت قياسي، وقد أصبحت أول تجربة لي في تصميم برنامج خاص، حديث القسم والجامعة بأكملها، وقتها كنتُ مهمومة بمسألة الغزو، الذي يخترق بيوتنا رغماً عنا، وهناك شباب قد يكونوا محافظين، غير أنهم مضطرين لتصفح بعض المواقع، التي لا تخلو من صور لا تليق، هذا سوى الإعلانات الفاضحة؛ التي قد تظهر فجأة في أي لحظة، مما جعلني اتخذ من اسمي، الذي سماني به والداي؛ عنواناً للبرنامج الذي عزمتُ على تنفيذه! كنت لا أزال في بداية السنة الثانية، وخبرتي في البرمجة لا زالت محدودة، ومع ذلك عكفتُ على البرنامج بعزيمة وجد، تباركني دعوات أمي، وتشجيع أبي، حتى خرج برنامج “العفاف” بأفضل حلة، كان برنامجاً سهل التحميل، صغير المساحة، لا يحجب من المواقع سوى الصور غير اللائقة، دون أن يؤثر على الكلام حولها، وهو مع ذلك لا يقوم بالحجب الكامل، الذي قد يعيق عمل الباحثين، وإنما يكتفي بالتظليل التلقائي للصور المستهدفة، وقد كان النجاح الباهر الذي حققه برنامجي؛ أثرٌ كبير في شحذ عزيمتي، غير أن المصادر التعليمية والبحثية في الترجمة؛ كانت محدودة حولي، ولم تكن الشبكة العنكبوتية وقتها؛ لتجود علي بالدروس التي أحتاجها، رغم بحثي الحثيث فيه، وقد كان قسمنا من الأقسام الجديدة في الجامعة، ولم يكن بها من الأساتذة من يتفهم تطلّعي الحقيقي لهذا العلم!! حتى ظهر الأستاذ “باهر”، ذلك الأستاذ الشاب الذي أبهر الجميع بموهبته الفذة، وكفاءته العالية، حتى قيل أنه يعرف جميع لغات البرمجة الموجودة، ويمكنه البرمجة بأكثر من لغة في الوقت نفسه، دون أن يفتح ورقة، أو يرتكب خطأ واحداً!!

ومنذ أول محاضرة؛ بُهِرتُ بطريقة تدريسه، فقد كان “باهراً” بحق، ووجدتُ فيه ضالتي المنشودة، التي سأنهل من معينها ما أحتاجه لتحقيق هدفي، وكم كانت سعادتي كبيرة؛ عندما نزل اسمي ضمن قوائم شعبته، في السنة الأخيرة، حيث كنتُ أخشى التخرج قبل أن أحقق إنجازاً عظيماً؛ يعز الأمة..

كنتُ أسأله بلهفة عن كل صغيرة وكبيرة دون حرج، إذ كان يجيبني باستفاضة دون أن يبخس أي سؤال حقه، وهو إلى جانب ذلك على خُلُق كبير، واحترام فائق، يشهد له الجميع بذلك، ورغم أنني لم أكن أذهب إلى مكتبه وحدي أبداً، ولم أكن لأتجاوز حدودي في الحديث معه؛ إلا أنني اكتشفتُ فيما بعد، أن زمام الأمور أفلتت من يدي، دون أن أدري! إذ انتبهتُ فجأة؛ أن قلبي لم يعد قلبي الذي أعرفه، بل غدا وعاءً؛ امتلأ عن آخره بحبه!! وقد هالني الاكتشاف الخطير؛ بأنني لم أعد أذهب لسؤاله من أجل الأسئلة فقط، بل من أجل رؤيته وسماع صوته، وكان هذا مؤشراً خطيراً، لم يعد بإمكاني تجاهله!! فأخذتُ عهداً صارماً على نفسي؛ لا مزيد من الأسئلة خارج وقت الدرس بعد اليوم!! وتناسيتُ هدفي عامدة، بعد أن ارتبط الأستاذ “باهر” به، حتى أسترد صفاء نفسي، وأراجع حساباتي، وكم كان ذلك شاقاً على قلبي!! وكأنه باء بحمله الثقيل، وشوقه الذي لم يجد متنفّساً لِبَثّه، فضخّ إعيائه مع الدم إلى سائر جسدي، فمرضتُ مرضاً شديداً، ولبثتُ في فراشي طريحة الحمى أسبوعاً، حتى إذا ما تحسنت صحتي، وعدتُ إلى دوامي، استقبلتني صديقتي “لبنى” بقولها:

– لقد بدا الأستاذ “باهر” قلقاً عليك، وقد سأل عنك شخصياً، أكثر من مرة!

ثم تابعت بغمزة باسمة:

– يبدو مهتم بك فعلاً!!

ورغم أنني كنتُ أنوي تسفيه هذا التصريح ونفيه،غير أن ظهور الأستاذ “باهر” في نهاية الممر؛ ألجم لساني، وكأن هذا ما ينقصني!!! ويبدو أن وجهي قد اصطبغ بالحُمرة تماماً، إذ أن صديقتي سرعان ما اتخذت من ذلك ذريعة لها؛ لتقول:

– كنتُ أعلم أنك تكنين له بعض المشاعر أيضاً، على كل حال، نحن على أبواب التخرج ومن الجيد أن تفكري بالموضوع جديّاًّ!

هممتُ أن أصرخ بها لأسكتها، أو أكمّم فمها، خشية أن يسمعها أحد، لا سيما وأن الأستاذ بدأ بالاقتراب منا، لكنني قلت لها بتوسل:

– ما هذا الذي تقولينه يا “لبنى”؟؟؟ لا يوجد أي شيء مما يدور في رأسك! ويا حبذا لو تخفضي صوتك على الأقل!!

وقبل أن تعبر “لبنى” عن اعتذارها، كان الأستاذ قد اقترب، فألقى التحية علينا، دون أن يُخفي ابتهاجه برؤيتي سالمة! وعزوتُ ذلك إلى أن أي أستاذ؛ يهتم بالسؤال عن طلبته، خاصة إن لمس منهم جداً واجتهاداً، وهذا كل ما في الأمر! لكن لبنى عادت لتؤكد كلامها:

– إنني بالفعل أعتذر لك إن كان في كلامي ما أزعجك، ولكنني صدقاً لا أرجو لك إلا الخير، فمن الواضح جداً أن الأستاذ يفكر فيك بشكلٍ جاد، لكن سيكون من الإحراج له- بصفته أستاذاً- أن يعرض على إحدى طالباته الخطبة؛ ثم تقابله بالرفض! لذا من الأفضل أن تلمحي له بالقبول المبدئي، أو تسنحي له بفرصة الحديث معك على انفراد؛ ليتشجع…

لم أستطع تمالك نفسي وقتها، وقد شعرتُ بغضبٍ حقيقي:

– لو لم يكن في هذا الأمر، سوى هتك حاجز الحياء والحشمة؛ لكفاه سوءا!! كيف تعرضين عليّ أن أقوم بأمرٍ كهذا، متجاوزة حدودي، ومتخطية لمقام والديّ!!!!

فما كان من “لبنى” إلا أن أسرعت بالاعتذار مرة أخرى، وهي تبرر كلامها بقولها:

– حقاً سامحيني يا “عفاف”، فلم أقصد الإساءة إليك، أو حملك على فِعلٍ لا يليق بكِ، وأنتِ أكثرنا التزاماً وحرصاً، ولكن هذا ما تقوله الفتيات!!

ورغم رفضي القاطع لتلك الفكرة، لكن صداها أحدث ضجيجاً في داخلي، فقد كنتُ أشعر بأن سعادتي ستكتمل بارتباطي بهذا الأستاذ، الذي بدأت براعم أهدافي تُزهر على يديه، وتخيلتُ نفسي معه، يجمعنا بيتٌ واحد، نكمل فيه مشوارنا معاً، في طريق التطوير وعزة الأمة! ولكن.. ما الذي أعرفه عنه؛ سوى أنه أستاذ عبقري خَلوق أبهرنا بعلمه!! كان يقلقني عدم رؤيته يرتاد المسجد، ولو لمرة واحدة، ولم أكن أعلم إن كان يصلي أم لا، وإن كنتُ أتمنى أن يكون كذلك من كل قلبي! ولطالما تساءلت.. ماذا لو تقدم لخطبتي رسمياً، ثم اكتشفتُ أنه لم يكن ملتزماً بالصلاة! أو كان هناك شرخٌ واضحٌ في دينه!! بالطبع لن أوافق؛ فهذا أمرٌ لا نقاش فيه، ولم أكن أدري بماذا أدعو في صلاتي، فتركتُ دموعي تنهمر لتعبر عن حيرتي وانكساري، حتى ألهمتَني يارب دعوة؛ لم تزل تتردد في ذلك الوقت، على لساني:

“إن كان فيه خيرٌ فقرّبه مني، وإن كان غير ذلك فأخرجه من قلبي” 

وكنتُ أتمنى أن تكون الأولى.. حتى حان موعد تسليم مشروع التخرج النهائي، وكنتُ وقتها منهمكة في إعداده من جهة، ومن جهة أخرى؛ أتعذب ألماً مع مرور كل يوم يقربني من ساعة فراق أستاذي، دون أن أعرف ما سيكون مصيري معه، وكان أكبر همي، أن يتقدم خاطبٌ يوافق عليه أهلي، في حين أنني لا أدري؛ ما هو موقف الأستاذ مني، ولشد ما خشيتُ أن أجد نفسي في موقفٍ أجد فيه نفسي مضطرة للقبول بخاطب من أجل أهلي، ثم يأتي ذلك الأستاذ؛ فأخسر سلامة قلبي! فهل كانت “لبنى” على حق؟!! بدا لي ذلك صراعاً أبدياً سرمدياً، لا مناص منه!! فألححتُ بالدعاء لقلبي، قبل الدعاء لمشروعي، الذي كنتُ أظنه فيما سبق؛ أكبر همي! حتى فوجئتُ بجهازي، الذي أعمل عليه، وقد خزّنت عليه كامل ملفاتي؛ يتعطل قبل اتمامي للخطوة الأخيرة، وكنتُ على وشك تسليم مشروعي خلال يومين فقط!! لم يكن لدي الوقت الكافي للتحسر على تعبي الفائت، وكان عليّ إيجاد أسرع طريقة لتسليم المشروع، فطلبت من والداي الدعاء لي، وقد أشفقت أمي عليّ كثيراً، بعد أن رأت عملي المتواصل على هذا المشروع، خلال الأيام الفائتة..

ذهبتُ إلى أفضل مهندس أعرفه، فأخبرني بأن إصلاح الجهاز، سيتطلب منه عدة أيام حتى يكتشف الخلل! ولم يكن لدي الوقت لأضيعه، فخطر ببالي أن أعيد العمل على المشروع من جديد، وبما أن البرامج التي أعمل عليها لم تكن متوفرة إلا على الأجهزة المتخصصة، فقد طلبتُ إذناً من رئيس قسمنا، ليسمح لي بالدخول إلى قاعة الأجهزة، حيث كانت تُغلق بعد وقت الدرس، ولم يكن طلبي صعباً، فسمعتي طيبةٌ في القسم، وعذري مقبول، بل إنه تم منحي يومين إضافيين لتسليم المشروع، وسرعان ما باشرتُ عملي على أحد الأجهزة، أعيد طباعة ما كتبته سابقاً؛ من نقطة البداية! فلم يعد هناك ما يشغلني؛ أكثر من إنجاز عملي، في أسرع وقتٍ ممكن! بقيتُ على ذلك الحال ثلاثة أيام متواصلة، آتي مبكرة للقاعة، وانصرف قبل أن يُغلق القسم أبوابه..

وفي اليوم الرابع، كنتُ وحدي في القاعة، ويبدو أن الممرات بدأت تخلو من الطلبة، أما باب القاعة؛ فقد أبقيته موارِباً، خشية أن يظن الحارس أن لا أحد في الداخل- عند تفقده لقاعات المبنى- فيغلق عليّ باب القسم، دون أن أنتبه! وبينما كنتُ في أوج تركيزي، وأنا على وشك الوصول إلى الخطوات النهائية؛ فوجئتُ بمن يُلقي عليّ التحية، ولم يكن صوته ليخفى عليّ:

– “عفاف”!! لم أتوقع أن أراك هنا! هل تحتاجين أية مساعدة؟

وكأن قلبي توقف فجأة، ثم قفز من بين أضلعي قفزة؛ زلزلت كل خلية في جسدي! فأوقفتُ أصابعي عنوة؛ حتى لا تُفسد العمل في نهايته، ورددتُ تحيته، وأنا أحاول السيطرة على أنفاسي، خشية أن يفضح اضطرابها؛ ما يجول في أعماقي!! وأجَبتُه بحذر الماشي على خيطٍ رفيعٍ، فوق هوة عميقة؛ بأنني أحاول إكمال مشروعي من أجل التخرج!

نطقتُ كلماتي وأنا أبذل جهداً عظيماً لاستعادة اتزاني، وتجاهل وجيب قلبي، من أجل التركيز على الشاشة أمامي، وإجبار أصابعي على اسئناف العمل بهدوء، وكأن شيئاً لم يكن! غير أنني شعرتُ بخطواته تقترب مني، بعد أن وضع حقيبته على المنضدة الأمامية، مما كاد أن يفقدني أي ذرة تركيزٍ تبقت لديّ، فيما كنتُ أحاول جاهدةً؛ استيعاب ما يدور حولي!! أنا وحدي في القاعة، والأستاذ الذي بُليت بحبه؛ تناول كرسياً وجلسَ إلى جانبي، وألقى نظرة سريعة على الشاشة، فهم منها على ما يبدو، فكرة مشروعي، وهو على أتم الاستعداد لمساعدتي!!!

 توقفتْ يداي عن الطباعة، ولم أعد قادرةً على فعل شيء، بعد أن شعرتُ بأنفاسه القريبة، فسمعته يقول:

– عمل رائع.. ما بالك توقفتِ فجأة؟ الخطوة التي كتبتِها صحيحة، لم يبقَ أمامك الكثير..

 وقبل أن أدرك ما عليّ فعله؛ انتفضتُ من مكاني، وقفزتُ واقفةً، كمن مسته صعقة كهربائية، إذ لم تكد أصابعه تلامس أطراف أصابعي- المثبتة على الأزارير- حتى سحبتها بسرعة، وقد وصل بي الاضطراب ذروته، فيما بدا الأستاذ منشغلاً بطباعة بعض الرموز، وكأنني لم أكن أعرف ما عليّ طباعته، أو كيف أنتقل إلى الخطوة التالية!! ولم يعد هناك مجالٌ للتردد، لا بد لي من الخروج فوراً، فقلتُ دون سابق إنذار، وأنا أجمع أوراقي:

– شكراً لك أستاذ، فقد تأخرتُ كثيراً، وعليّ الذهاب الآن..

وخرجتُ بسرعة، كمن يلوذ بالفرار، لأطلق العنان لدموعي، فانهمرت غزيرة على وجنتي!! لقد بكى قلبي شوقه إليه، ورغبته في البقاء بقربه، بكى تلك الفرصة التي تحدثَت عنها “لبنى”، والتي قد يترتب عليها لقاءٌ أبديٌ لا فراق بعده!! لقد بكيتُ وبكيتُ، ولكنني لم أكن نادمة! وعدتُ في اليوم التالي، في الوقت الذي تقوم فيه عاملات النظافة عادة بالتنظيف، وكنتُ مستعدة للتنازل عن درجة مشروعي النهائي، إذا لزم الأمر!! كنتُ أتمنى أن أجد العمل محفوظاً على الجهاز، فوجدته مكتملاً، وما عليّ سوى تسليمه!! لا أذكر كيف كانت مشاعري وقتها، هل كانت مشاعر سعادة وامتنان لذلك الاستاذ، الذي حاول التعويض عن ارباكي بوجوده؛ أم ضيقٍ وامتعاض!! إذ لم أكن أرضى بأي شكلٍ من أشكال الغش طوال حياتي، وكنتُ أخشى أن أقدم عملاً يخالط أمانته إدنى شائبة، حتى أن صديقاتي كنّ يعتبرنَ ذلك حرصاً زائداً، لا مبرر له! ربما كانت مشاعري مختلطة وقتها، ولم يكن لدي من الوقت الكافي ما يجعلني أتخذ قراراً متزناً، فقد فوجئتُ برئيس القسم- وهو أحد الأساتذة المشرفين على مشاريع التخرج- يمر عليّ في القاعة، وهو برفقة أستاذٍ آخر، وكأنهما في جولة تفقدية:

– ألم تنتهي من المشروع بعد؟؟ لا يمكننا ترك القاعة مفتوحة أكثر، فنحن في آخر العام، وعلينا أن نبدأ بعمليات الصيانة لجميع الأجهزة..

فوجدتُ نفسي أجيبه دون تفكير:

– آسفة لتأخري، المشروع جاهز الآن، وسأقوم بحفظه فوراً على القرص، إن شاء الله..

كان عزائي الوحيد، أنني كنت أعرف تماماً، جميع الخطوات المتبقية في إكمال المشروع، ومع ذلك؛ بقيت هناك غصة في قلبي!

لم أرَ الأستاذ بعدها، وكنتُ أتساءل، هل كان يُفترض بي أن أذهب لأشكره؟ لكنني لم أفعل، فهل تراه فهم من تصرفي، أنه لا يعني لي شيئاً!! كان هذا ما يقلقني، ولكن لم يكن أمامي خيار آخر.. حتى جاء ذلك اليوم، الذي قدّمتُ فيه آخر امتحان لي بالجامعة، وكنتُ أسير مع صديقاتي، فإذا بي ألمح الأستاذ “باهر”، وهو يسير إلى جانب شابة مُسدلةً لشعرها على كتفيها، ويشبكان بين أصابعهما، وكأن “لبنى” لاحظت تغيراً في وجهي؛ لكنها لم تعلق بشيء، في حين قالت صديقة أخرى:

– انظرن.. انه الأستاذ “باهر” مع خطيبته، سمعتُ أنها معيدة في كلية الهندسة..

فسألتها “لبنى” باهتمام:

– منذ متى وهما مخطوبان؟

فأجابتها:

– منذ أقل من أسبوع على ما أعتقد.. هذا ما سمعته!

تمالكتُ نفسي رغم الألم، فقد عرفتُ طبيعة توجه ذلك الأستاذ أخيراً، ومع ذلك، لم أفتأ أدعو له ولزوجته، وأنا أرجو لهما كل الخير، فقد كان له فضل عليّ، ولم أكن لأنسى ما تعلمتُه منه، وقد أدركتُ وقتها؛ أنك اخترتَ لي أمراً، غير الذي تمنيتُه، فاستودعتك قلبي يارب، وسألتك أن لا تعلقه بغيرك، وأن تعوضني برجلٍ صالح تقيّ عفيف، تحبه ويحبك، فأحبه لحبك..

فأكرمتني بزوجٍ لم أظن يوماً؛ أن هناك أحدٌ مثله، ولا زلتَ متكرماً عليّ بفضلك، وجزيل عطاياك، رغم تقصيري.. وها أنا يارب؛ منطرحة بِبَاب رحمتك.. أتوسل إليك وأرجوك، أن تلطف بابني، وترفع عنه هذا البلاء.. يارب.. قد استودعتك قلبي، فربطتَ عليه في ذلك الموقف الأليم، وها هو ابني قطعة من قلبي، فاحفظه من كل سوء، وأنت خير الحافظين ..

*********************

(3)

“عفيـــــــــــــف”

 دوامة كبيرة، ضباب كثيف، لا أكاد أشعر بشيء.. سمعتُ صوتاً يهتف باسمي.. انهض..  

ولكن أنى لي النهوض!! فيداي مكبلتان، ولا يمكنني الحراك..!!

تردد الصوت..

انهض..

شعرتُ بيدٍ حانية تمسك يمناي، ويدٌ أخرى تُمسك يسراي… تحاولان انتشالي.. أتراهما والداي!!!

تكرر الصوت بإصرار ووضوح هذه المرة:

انهض، وافتح عينيك، فبصلاح والديك؛ رفع الله عنك.. فهل جزاء الاحسان إلا الاحسان!!

لم أفهم تماماً ما الذي يعنيه ذاك، غير أنني شعرت بجفناي يرمشان..

رأيت وجه أمي مبتلاً بالدموع، وأبي قد أغمض عيناه في خشوع .. سمعتُ أصواتاً مختلطة، أزيز غريب.. طنين.. هتافٌ صدح في أذني فجأة:.

– الحمد لله.. لقد فعلها الطبيب “معروف”.. لقد فعلها.. المؤشرات الحيوية كلها عادت للعمل.. لقد زال الخطر.. الحمد لله.. الحمد لله..

ما الذي يحدث هنا.. أين أنا.. أغمضتُ عيناي وفتحتهما من جديد، أمي منكبة على وجهي تقبلني، وأبي يحتضن يدي:

– الحمد لله على السلامة يا “عفيف”..

أغمضتُ عيناي من جديد، وسمعت أصواتاً تقول:

– لا تقلقا.. “عفيف” بخير، لكنه متعب فقط… سيستعيد وعيه تدريجيا، بإذن الله..

وبدأتُ أتذكر.. كان حادثاً مريعاً بلا شك..

******************************

(4)

  أسرعت “سامية” بتجفيف يديها، إثر سماعها لصوت زوجها، وهو يلقي التحية على الأولاد، وهرعت لاستقباله:

– “معروف”! لم أتوقع مجيئك الآن، والغداء لم يجهز بعد، هل حدث شيء؟

فرمقها بابتسامة مرحة:

– لا عليك عزيزتي، المهم كيف حال أمي الآن؟

طرح سؤاله، دون أن ينتظر الإجابة، إذ سرعان ما توجه نحو غرفة والدته، فيما أطلقت سامية تنهيدة طويلة، ابتسمت على إثرها؛ مشجعة نفسها، وهي تحدثها:

– لا بأس.. فهي أمه، وقد ضحت بحياتها كلها من أجله، ومن الطبيعي أن تكون محور اهتمامه الأول..

كانت تدرك في قرارة نفسها، أنه لا يحق لها الاعتراض على شيء، فقد وافقت على شرطه منذ البداية، وقبلت أن تقيم مع أمه في المنزل نفسه، وأن تعاملها بكل احترام وتقدير، فهذا منزل الأم قبل أن يكون منزلها، وعليها احترام رغباتها أولاً، فهي صاحبة الأولوية هنا، وهي سيدة المنزل! وربما لم تكن “سامية” لتوافق على شرطٍ كهذا، لو لم تكن يتيمة الأم، عاشت حياتها في أحضان زوجة أبٍ؛ لم تفكر للحظة أن تعاملها كإبنة! ومن حسن حظها أن والدة زوجها كانت سيدة طيبة، وتخشى الله في تعاملها، فاحتضنتها كما تحتضن الأم ابنتها، وكان هذا أكثر ما تتمناه..

أما “معروف” فقد وجد والدته مستلقية على سريرها كعادتها، منذ أن أُصيبت بذلك المرض، وصدر قرار الأطباء؛ بأنه من الأفضل لها أن تقضي بقية أيامها في بيتها، إذ لم يعد هناك ما يمكن تقديمه لها في المشفى!!

ألقى عليها التحية، بصوتٍ خفيض، خشية أن يزعجها إن كانت نائمة، لكنها سرعان ما فتحت عيناها الواهنتين، مبتسمة:

– كنتُ أفكر فيك..

فمازحها معروف باسماً:

– لهذا أتيتُ مبكراً يا أمي..

قال جملته تلك، وهو يقرب كرسياً؛ جلس عليه قبالتها، فهمّت والدته بالنهوض لترتكز على حافة السرير، غير أن “معروف” أسرع يثنيها عن ذلك بقوله:

– لا داعي لذلك يا أمي، سنتحدث وأنتِ مستريحة هكذا، فأنتِ بحاجة للراحة التامة، حتى تتماثلي للشفاء بإذن الله..

غير أن أمه رمقته بنظرة عميقة، حمّلتها كل ما تكنه من شفقة على ابنها الوحيد، فهو يدرك تماماً حالتها، بعد انتشار الورم في جسدها، بل إن بقاءها على قيد الحياة حتى هذه اللحظة؛ يعد ضرباً من الخيال في المفهوم الطبي، ولم يكن يريد تصديق ذلك أبداً!!

 فانطلق يحدثها بحماسة:

– الحمد لله، اليوم حدثت معجزة.. أقصد كرامة.. فقد أحيا الله على يدي شاباً، لم يكن بينه وبين إعلان وفاته رسمياً؛ سوى ثوان معدودة!! وكان الفريق الطبي على وشك توقيع شهادة الوفاة، بعد أن تم تصنيف حالته ضمن الموت السريري، لأكثر من أسبوع!!

فابتسمت له أمه مشجعة، وكأنها تحدث طفلاً في الخامسة من عمره، لا رجلاً في الخمسين:

– وما الذي فعلته أنت يا حبيبي؟

فأجابها “معروف” بانفعال:

– لقد شعرتُ بأن هناك دافعاً قوياً يدفعني دفعاً لمحاولة انعاشه من جديد، خاصة بعد أن سمعت سبب الحادث الذي أدى به إلى ذلك الحال..

واستطرد قائلاً:

– تخيلي يا أمي.. لقد تم القبض على العصابة، التي انتشر خبرها مؤخراً بين الناس، باعتداءاتهم المتكررة على الفتيات الشابات تحديداً، ويقولون أن طبيبة الأسنان الشابة، والتي كانت سبباً في القبض عليهم، هي أول من نجا منهم بأعجوبة، حتى أن أحداً لم يستطع فهم طبيعة ما حدث، يقولون أنها تأخرت في عيادتها على غير عادتها، وكأنها كانت بانتظار أخيها ليصطحبها إلى المنزل، بعد أن تعطلت سيارتها، ورغم أنها كانت وحيدة في العيادة، إلا أن رجل العصابة- الذي حاول التسلل خلسة إليها، فيما كان ينتظره الثلاثة الباقون في السيارة- فرّ هارباً فجأة، وكأن هناك من سيتخطفه، لتنطلق السيارة بالرجال بعد ذلك بسرعة جنونية، عكس المسار، مما سبب اصطداماً عنيفاً بسيارة أخو الطبيبة، الذي كان في طريقه إليها.. والآن اثنين من الرجال في حالة خطرة، والاثنين الاخرين لا يزالا تحت التحقيق، بعد أن تبين أن تلك المجموعة؛ وراء تلك الاعتداءات المتكررة.. وأظن أن هذا كان دافعاً كبيرا لي لانقاذ هذا الشاب تحديداً، وقد شعرتُ بأنه من عائلة مباركة، فصلاح والديه ظاهر..

وابتسم متابعاً بسعادة:

– وقد طلبتُ منهما أن يدعوا الله لك أيضاً يا أمي! بل وقبل أن أطلب منهما ذلك، كانا يلهجان بالدعاء لي ولمن أنجبني.. كانت دعوات صادقة من القلب، لك أنتِ يا أمي الحبيبة..

فدمعت عينا الأم بتأثرٍ شديد، فيما كان ولدها يقبل كفيها بامتنان وحب:

– رضي الله عنك يا بني..

 لكنها استدركت، باهتمام مفاجيء:

– هل تعرف..

لكنها بترت عبارتها، فحثها ابنها على الكلام، فقالت:

– هل تعرف من هي والدة هذا الشاب؟

فهز “معروف” رأسه نفياً، لكنه قال:

– لا أعرف من تكون أمه، ولكن اسمه حسب الكشف الطبي “عفيف نبيل أكرم”..

لم يكد “معروف” ينطق بالاسم، حتى فوجيء، بعينا والدته تجودان بدموع غزيرة، حتى أنها استدارت على جنبها، لتشيح بوجهها عنه، وهي تردد بهمس:

– “نبيل أكرم”!! لا عجب أن يحفظ الله ابنته، ويُنجي ابنه!

ولم يستطع “معروف” سماعها جيداً، فسألها باهتمام:

– هل تعرفين والدته يا أمي؟

غير أنها التفتت إليه، وهي تمد ذراعيها نحوه:

– ساعدني على النهوض..

 فاقترب منها “معروف” وهو يشعر بشفقة عليها، فأخذته بين ذراعيها، لتضمه إلى صدرها، طابعة قبلة حانية على خده:

– إنني حقاً فخورة بك.. لقد أحسنتَ صنعاً هذا اليوم يا بني، بارك الله فيك، وفي زوجتك وذريتك، وعملك ومالك، وفي كل خطوة تخطوها في حياتك..

دمعت عينا “معروف”، وشعر برغبة في البكاء على صدر أمه، وكأنه على موعدٍ أليمٍ لا بد منه! فحاول ثنيها عن القيام، لأجل راحتها، لكنها أصرّت بقولها:

– أرجوك يا بني.. أريد أن أصلي لله ركعتين..

فلاطفها بقوله:

– يمكنك أن تصلي وأنتِ جالسة..

 لكنها نظرت في عينيه بعمق، بثته كل ما حملته له، من عطف وحب:

– قد تكون هذه آخر أمنياتي، فلا تحرمني منها..

لم يستطع “معروف” تمالك نفسه، فانهمرت الدموع من عينيه، وهو ينكب على رأسها يقبلها:

– لا تقولي هذا أرجوك، ستتعافين بإذن الله..

لكن أمه ربتت على رأسه بحنان:

– لا تحزن يا بني، فأنا سعيدة جداً هذا اليوم، بل إن هذا اليوم؛ هو أسعد أيام حياتي كلها، فجزاك الله عني؛ خير ما جازى ابناً باراً عن والدته..

 ولم يجد “معروف” بداً بعد ذلك، من النزول عند رغبتها في القيام، وهو يتمالك نفسه خشية أن ينهار بالبكاء في أية لحظة، فساعدها في الوضوء على أكمل وجهٍ كما أرادت، وقبل أن تشرع في صلاتها؛ التفتت إليه قائلة، بابتسامة مرحة، وقد أشرق وجهها بنورٍ غريب:

– أنت لم تتناول غداءك يا بني، اذهب واجلس مع زوجتك وأولادك.. ودعني في خلوتي قليلاً…

  وفي محراب سجودها، وهي تناجي خالقها؛ سكبت آخر ما تبقى لها من دموع..

يارب.. أكثر من خمسين عاماً وأنا أدعوك؛ أن تغفر زلتي، وتعفو عن حوبتي، وتقبل توبتي..

يارب.. كنتُ على شفير الهاوية، قد عَمِيَ قلبي بحبه، وبلغ بي اليأس ذروته، قد غاب عني كل رادع، وكدتُ أن أتحرر من أي وازع، فأبى أن يدفعني للسقوط، وترفّع عن استغلال ضعفي وحاجتي، فأيقظني بكلماته، وأحيا ضميراً؛ كان قد تاه في سباته، وقد رجوتك أن تعينني على رد معروفه، وأسميتُ ابني معروفاً؛ خشية أن تشغلني الحياة، وتنسيني ديناً في عنقي له!

 لم أكن أخشى لقاءك يارب.. فأنت أرحم الراحمين، ولكنني كنتُ أرجو أن تقر عيني، برد دَيني..  واليوم اطمأن قلبي، فلك الحمد أن جعلتَ من ذريتي، من يكون سبباً في نجاة فلذة كبده، فيا رب.. بارك له في أهله وماله وعقبه، وجازه عني خيراً..

يارب.. يظن الناس بي خيراً وإني.. لشر الخلق إن لم تعفُ عني..

فكما سترتني في الدنيا.. وجعلتَ لذلك سبباً، فلا تخزني يوم العرض عليك، وأحسن وقوفي بين يديك.. توفني وأنتَ راضٍ عني… وألحقني بالصالحين..

*****************

(5)

“عفيـــــــــــــف”

   أشعر بأنني سأقفز من الحماسة، فاليوم هو موعد المفاجأة التي خططنا لها طويلاً، وقد جاءت في وقتها حقاً!! فقد كانت الأشهر الفائتة عصيبة على والداي، بداية من تعرّضي لذلك الحادث المروّع، بعد أسبوع واحدٍ من تخرجي في كلية الطب، وما تلا ذلك من معرفتنا بوفاة والدة الطبيب الذي كان سبباً في نجاتي، فرغم أنه لم تكن تربطنا بهم أي علاقة مسبقة، لكن أمي أصرّت على الذهب للعزاء، فقد رأت أن من واجبنا الوقوف إلى جانبه، وهذا كان رأي أبي أيضاً، وقد ذهبتُ معه، رغم أنني كنتُ لا أزال في فترة النقاهة! لكنني لم أكن أتخيل، أن ذهابنا ذاك؛ سيترك ذلك الأثر على والداي!! لقد بكت أمي تلك السيدة، رغم أنه لم تلتقيها في حياتها، ولم تسمع باسمها من قبل، بعد أن سمعت قصتها من زوجة ابنها الوحيد!! فقد ترمّلت وهي في ريعان الشباب، وقبل أن تنجب طفلها البكر بشهرين! لكنها آثرت أن تتكفل برعايته، بدل الزواج مرة أخرى! ولم تتواني في تربيته والاهتمام به، بعد أن أصبح محور حياتها، وبؤرة اهتمامها؛ حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولم يكن ابنها لينسى فضلها عليه، فكان باراً بها، حتى أنه تأخر في زواجه؛ إلى أن تأكد من عثوره على زوجة ترضى بشرطه! بل- وكما تقول أمي- فقد كانت زوجته، متأثرة جداً لوفاتها، فهي تعدها أماً لها أيضاً..

ربما كان تأثر أمي الشديد على أم الطبيب طبيعياً، فهي حساسة جداً، ولكنني تفاجأتُ حقيقة من ردة فعل أبي!! فبينما كنا في مجلس العزاء، دخل مجموعة من الرجال الأجانب، وسلموا على الطبيب- الذي كان يقاوم حزنه- بحرارة، ثم تحدث أحدهم بلغة أجنبية، فهمها والدي، ويبدو أن الطبيب لم يفهمها، كما لم أفهمها أنا، فنحن نجيد الانجليزية فقط، إلى جانب العربية، على خلاف أبي، المترجم المعروف!! ولم يتردد أبي بالقيام بوساطة الترجمة، بين المتحدث والطبيب، قائلاً بأنه حديث عهدٍ بالإسلام، وكان يبحث عن كتبٍ إسلامية بلغته، فلم يعثر إلا على كتبٍ ترجمتها والدة الطبيب، وعندما سأل عنها؛ للتواصل معها من أجل مساعدته في ترجمة المزيد من الكتب، عرف بوفاتها فأصر على حضور العزاء، وقد عرضَ أبي عليهم مساعدته، بصفته مُترجماً، فتهلل وجه الرجل بذلك، ثم عرّف بأصدقائه ومعظمهم مثله؛ حديثوا عهدٍ بالاسلام، بل ومنهم من أسلم على يديه، بعد أن أهداه من تلك الكتب المترجمة! ثم أخرج أحد الرجال نسخة من الكتاب، مشيراً إلى أنه هو الذي كان سبباً في اسلامه، كان المشهد بالنسبة لي رائعاً، فأن تكون سببا في إسلام أحدهم، أمرٌ لا يقدر بثمن، وقد يكون هذا مؤثراً جداً، لكن أن تنهمر دموع أبي، وهو ينشج بصمت، رغم محاولته اخفاء ذلك، بمجرد أن رأى الكتاب؛ فهذا أمرٌ لم أفهمه!! حتى أنني ألقيتُ نظرة فاحصة على الكتاب مرة أخرى، فلم أجد فيه شيئا غريباً، فعنوانه عادي، ويحمل اسم مؤلفه، ومترجمته، “نائلة عواد”، وعندما سألتُ أبي عن سبب تصرفه ذاك، فيما بعد، اكتفى بقوله: “لئن يهدي بك الله رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم”.. وقد مرت أيام ثقيلة، وكأننا فقدنا شخصاً عزيزاً علينا، وبالطبع كان أبي أكثر تماسكاً من أمي، التي بدت وكأنها فقدت أختها، حتى أنني شعرتُ بالارتياح؛ عندما تولى أبي مهمة التخفيف عنها..

بعد ذلك انشغلنا بخطبة أختي “مريم” ثم زواجها، ويبدو أن الحادثة التي تعرضت لها أكسبتها شعبية خاصة! فقد تقدم لخطبتها في الفترة نفسها؛ أربعة خاطبين على الأقل!! ورغم أن تأخرها في الزواج حتى هذا السن، كان أمراً مقلقاً للبعض، لكنني كنتُ أعتقد أن هذا كان لصالحي شخصياً!! فكَوني “آخر العنقود” في عائلة كبيرة، أفقدني المشاركة في الكثير من الأحداث العائلية الهامة، التي مرت بها أسرتنا! فأنا في عمر ابنة أختي الكبيرة “عفيفة”، وعندما بلغتُ السابعة فقط، على سبيل المثال، كان معظم أخوتي قد تزوجوا، أما عندما صرتُ في الثانية عشرة من عمري، فلم يتبقَ في المنزل مع والداي؛ سواي أنا و”مريم”، التي تكبرني بسبع سنوات، وقد كانوا يظنونها “آخر العنقود”، حتى أتيتُ؛ فسلبتُها اللقب!! كما أنني لم أشهد النقلات النوعية، التي مرت بها أسرتنا! إذ وُلدتُ بعد سنتين من انتهاء بناء منزلنا ذو الطبقتين، والذي قام أخي “كريم” باقتراح تصميمٍ له، وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، كما قالت أمي! ولا أستغرب ذلك، فشهرته الكبيرة- بصفته مهندساً معمارياً مرموقاً في البلاد- لم تأتِ من فراغ، فهو موهوبٌ بفطرته بلا شك! لذا كنتُ حريصاً على معرفة ما فاتني من أحداثٍ قبل ولادتي، فكانت أختي “آسيا” التي تكبر “مريم” بأربع سنوات؛ هي مرشدتي في ذلك، خاصة فيما يتعلق بحكايات أجدادي، الذين لم أرَ أي واحد منهم!! فقد توفيت جدتي لأبي- وهي آخر من بقي من الأجداد- قبل ولادتي بسنة واحدة، وقد حدثتني “آسيا” عن المعاناة التي مر بها أبي في تلك الفترة، وأظن أن هذا هو السبب الذي جعله يتأثر بموت والدة الطبيب، فقد يكون هذا قد ذكّره بوفاة جدتي! كما أخبرتني “آسيا” عن الظروف العصيبة التي تلت ذلك، خاصة عند اكتشاف حَملِ أمي بي، وما صاحبه من قلقٍ على صحتها، فقد كانت في التاسعة والأربعين من عمرها آنذاك، وكان يُخشى عليها وعلى جنينها من هذا الحمل الذي أتعبها كثيراً، ولكن المحنة مرّت على خير، وأتيتُ بفضل الله سالماً ومعافى، بل إن عمتي الصغرى، تقول بأنني أكثر إخواني شبهاً بأبي، وأكاد أكون نسخة طبق الأصل عنه في شبابه، وأحمد الله على نعمة هذا الوجود.. أما بعد زواج “آسيا”، فقد بقيت “مريم” رفيقتي الوحيدة في المنزل! من أجل ذلك كله؛ كان تأخر زواجها؛ لصالحي أنا قبل أي شيء!! وقد ترك انتقالها من بيتنا إلى بيت زوجها، قبل ثلاثة أشهر؛ فراغاً كبيراً لدي، ولدى والديّ أيضاً..

واليوم الجمعة، الموافق للذكرى الخمسون لزواج والديّ، هو يوم المفاجأة الكبرى، التي أعددتها مع أخوتي، لأمي وأبي..

ورغم أنني أصغرهم سناً، ومساهمتي المادية في المفاجأة؛ لا تكاد تُذكر نسبة لإسهاماتهم؛ إلا أن دوري، في الترتيب لذلك الاجتماع الهام؛ كان هو الأهم! إذ كانت السرية جزء من المفاجأة، ولم يكن من السهولة إخفاء حدثٌ كهذا عن والداي، دون أن ينتبها إليه، خاصة وأن من عادتهما يوم الجمعة، الافطار مبكراً، بعد أن يؤديا ركعتي الإشراق، حيث تقوم أمي بإعداد إفطارٍ خفيف لنا نحن الثلاثة، ثم تخلد هي وأبي للراحة، قبل أن نستعد للذهاب إلى صلاة الجمعة، ومن ثم يبدأ منزلنا باستقبال أخوتي وعائلاتهم، كلٌ حسب ظرفه..

ورغم أن الاتفاق بيني وبين أخوتي، هو عدم التلميح لهم بشيء؛ إلا أنني لم أجد بداً من ذلك، بعد أن طلبت منهما بإصرار، الخلود إلى الراحة في غرفتهما بعد صلاة الفجر، على أن لا يخرجا حتى أُعلمهما بذلك، لأنني سأعد لهما إفطاراً ملكياً؛ يليق بهما على ذوقي!! كان هذا هو التلميح الوحيد!!

 وكما توقعت، كانت أختي الكبرى “عفيفة”؛ هي أول الواصلين، فهي العقل المدبر لهذه المفاجأة منذ البداية، رغم أن أخي الأكبر “أكرم” والذي يصغرها بسنة واحدة فقط؛ يقول بأن الفكرة نفسها خطرت بباله، قبل أن تقولها هي!! بغض النظر عن صاحب الفكرة، فإنني حقاً سعيد بفكرة اجتماعنا نحن الأخوة العشرة فقط، مع أمي وأبي، فهذه الفرصة لم أحظى بها من قبل، بل إن هذا الحدثٌ لم أشهده طوال حياتي!

بالطبع وحتى لا يُحدث وصول أخوتي أي جلبة، فقد تم الاتفاق على أن يقوموا بتنبيهي لوصولهم؛ على هاتفي الخاصي، لأقوم بفتح الباب لهم بهدوء؛ بدل قرع الأجراس! ورغم أن غرفة نوم والداي تقع في الطابق العلوي، وقد قمنا باختيار الصالة الكبيرة في الطابق الأول لتكون مركز الحدث؛ إلا أن أختي “عفيفة” كانت على قدرٍ كبير من الحذر والهدوء، وهي تطلب مني مساعدتها في نقل الطاولة، لنضعها في منتصف الصالة!! شعرتُ بامتعاضٍ من طلبها ذاك، فالطاولة ثقيلة جداً، ولا أجد ضرورة لذلك، ولكنني أعرف أن أي اعتراض على قراراتها؛ شبه مرفوض، فقلت لها:

– ما رأيك لو ننتظر البقية، فهي ثقيلة، وإذا لم نمسكها جيداً قد تُحدث جلبة!

وقبل أن تُجبني بشيء، وصلتني الاشارة المتفق عليها من “كريم”، فأسرعت لفتح الباب، وكان قد أحضر معه أخي “سليم”؛ بعد أن استقبله في المطار، والذي جاء خصيصاً من أجل هذا الحدث الهام، فهرعتُ نحوه أسلم عليه بشوق، إذ أنه منذ انتقل للعمل في دولة أخرى، ونحن لا نراه إلا مرة واحدة كل عام، وأعتقد أن مجيئه اليوم؛ سيكون مفاجأة لوالدي بحد ذاتها! وبالطبع لم يكن هناك وقتٌ للكلام الكثير، فأوامر “عفيفة” تقتضي الإسراع بالترتيبات اللازمة! ومن دون نقاش؛ وجدتُ نفسي مع “سليم” و”كريم” ننقل الطاولة إلى حيث أشارت! وبينما قامت هي بترتيب الأطباق، التي أحضرتها معها على الطاولة؛ طلبت مني الاتصال بـ “كريمة” لتطمئن بأن الأصناف التي تكفلت بإعدادها جاهزة، ولم أكد أسمع صوتُ “كريمة” على الطرف الآخر، حتى فوجئتُ بها تقول لي:

– من الجيد أنك اتصلتَ الآن، افتح الباب بسرعة لو سمحت، وتعال ساعدني في حمل الأغراض..

لقد فاجأني ذلك حقاً، فقد كنتُ أتوقع أن تكون آخر الواصلين! فرغم أنها توأم “كريم”، إلا أنها كانت مختلفة عنه بشكل كبير! صحيح أنهما متفاهمان تماماً، لكنهما مختلفان! فـ “كريم” دقيق جداً في مواعيده، وهو أكثر من نعتمد عليه من هذه الناحية، أما “كريمة” فعكسه تماماً، فهي إن قالت بأنها تتوقع أن تكون عندك في الساعة السابعة مثلاً، فإنك تتوقع أن تكون عندك في أي ساعة، إلا السابعة!! ولا ريب أن “عفيفة” كانت قلقة من هذه الناحية، ولكن “كريمة” ولأول مرة.. أتت في الموعد الذي حددته تماماً!!

وبينما كنتُ أحمل الأكياس المتبقية، التي أحضرتها “كريمة” معها، إلى الداخل، وصَلَت “أمامة”، فسلمتُ على زوجها الذي أوصلها بسيارته، وقد بدا مستعجلاً للعودة إلى فراشه قبل موعد الصلاة، فيوم الجمعة بالنسبة له، هو يوم راحته الوحيد، ولا شك أن وجود “أمامة” معنا اليوم، سيعطيه راحة إضافية، إذ لن تطلب منه الخروج في نزهة عائلية، أو ما شابه!!

وفي غضون أقل من ساعة؛ جاءت “آسيا” بصحبة “أكرم”، فمنزلها قريبٌ من منزله، ثم جاءت “مريم”، وأخيراً حضر “رؤوف”؛ وأحضر معه الفواكه المتفق عليها، فشرعت “أمامة” بتقطيعها مع “كريمة” بسرعة، لإعداد سلطة الفواكه الطازجة، بخلطة “كريمة” الشهيرة!

 أما “مريم” فقد انشغلت مع “أكرم” و”كريم” في تركيب الزينة، وتنسيق الزهور، فيما انضمت “آسيا” لـ “سليم” و”رؤوف”، أثناء إعدادهما لجهاز العرض..

وكانت “عفيفة” بالطبع؛ هي المديرة، والمشرفة العامة على ترتيب المكان!

ولأن كل واحدٍ منا يعرف دوره بدقة- إذ كنا قد اتفقنا على كافة التفاصيل، في المجموعة الخاصة التي أنشأتها “آسيا”، عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي- فقد أصبح كل شيء جاهزاً بسرعة، وحان دوري لدعوة والداي..

استأذنتُ عليهما، وطرقتُ الباب بهدوء، قبل أن تفتحه لي أمي بابتسامة مرحة:

– الحمد لله على السلامة! هل انتهيتَ من إعداد فطورك الملكي؟؟

فضحكتُ قائلاً:

– أجل يا سعادة الملكة..

ثم وجّهتُ كلامي لأبي، الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة مشرقة:

– يشرفني دعوة جلالتكم، لحضور حفلنا المتواضع، فشعبكم بانتظاركم..

عندها شعرتُ بانفعال أمي، وهي تسألني بلهفة:

– هل حضر أخوتك أيضاً؟

وهمّت بالجري نحو الطابق الأرضي، لكنني استوقفتها قائلاً:

– على مهلك يا أمي، فعلى الملك أن يصطحب الملكة، في مشية ملكية!

وكان أبي سريع التجاوب معي كالعادة، فأخذ دوره بدقة، ووقف أمام أمي- على طريقة فرسان العصور الوسطى- قبل أن يتأبط ذراعها، ويسير معها نحو الدرج بقامته الممشوقة، حيث سرتُ أمامهما، وأنا حريصٌ على أن أكون أمام أمي تحديداً؛ خاصة عند نزولنا الدرجات، خشية أن تنفعل لرؤية “سليم”؛ فتزل قدمها، لا قدر الله! وقد حدثَ ما توقعته بالفعل، فلم تكد تقع عينا أمي، على إخوتي- الذين تحلقوا حول آخر درجة في الأسفل- حتى هتفت باسم “سليم” بانفعالٍ شديد، وكادت أن تقفز نحوه قفزاً؛ غير أن أبي كان الأسرع في إعادتها لاتزانها، بعد أن ضمها إليه بقوة، قبل أن تنزلق قدمها على الدرجات! فعَلَت أصوات إخوتي بالهتاف والتصفيق لهما، وكأننا أمام مشهدٍ؛ في فلمٍ عاطفي جميل!

وبعد أن تعانق أخوتي مع والداي، وقد كان نصيب “سليم” هو النصيب الأكبر في ذلك العناق بالطبع، أخذت أمي تسأل واحداً واحداً منهم بلهفة:

– أين أولادكم، وكيف حال أزواجكم؟ وزوجاتكم؟ ألم يحضروا معكم؟ “كريمة”.. هل حضرتِ وحدك أيضاً؟ أين أولادك؟ وكيف تركتِ “سمية”؟

بالطبع كان من الغريب أن تحضر “كريمة” وحدها، فهي من النادر أن تترك أولادها، بل لم تكن تتركهم أبداً، فهي الوحيدة بين أخواتي؛ التي آثرت أن تكون ربة بيتٍ فقط، كما أن ابنتها “سمية” لم تتجاوز العامين بعد، لكنها طمأنت أمي بأن ابنتها الكبرى- ذات الأربعة عشر ربيعاً- تكفلت بالعناية بها، وطمأنهَا الجميع على أحوالهم أيضاً، وأخبرناها برغبتنا في أن تكون هذه حفلة خاصة جداً..

  سرنا- بعد ذلك- نحو الصالة، خلفَ والداي، وكأننا في موكبٍ مهيب، ثم قدّم “أكرم” لهما الوسادة الصغيرة ،التي وضعنا فوقها المقص، لقص الشريط على باب الصالة، كما يفعل الرؤساء عند افتتاح الأماكن الهامة، وقالت أختي “عفيفة” باسم الجميع:

– من هذه الصالة نهديكم مفاجأتنا، تعبيراً عن شكرنا وامتناننا لكل ما بذلتوه من أجلنا، لتكون انطلاقتكم الحقيقية إلى العالم، بإذن الله..

ولم يكونا يتوقعان، أنها عنَت المعنى الحرفي لتلك الجملة..

  وكما توقعنا، أمسك أبي بالمقص، وناوله لأمي، ثم وضع يده على يدها؛ ليقصّان الشريط معاً، وهتفنا لهما بحماسة وسعادة، ونحن نسأل الله لهما طول العمر وحسن العمل، مع دوام الصحة والعافية..

ثم تولت “عفيفة” إدارة الحفل، فدعت الجميع إلى طاولة الطعام؛ والتي زخرت بما لذ وطاب، من مأكولات خفيفة، ومعجنات وحلويات، وفاكهة وعصائر، وأخذ كل واحدٍ منا مقعده على جانبي الطاولة المستطيلة، الذكور في طرف، والاناث في الطرف المقابل، فيما جلس أبي قبالة أمي، كل واحدٍ منهما على رأس المائدة.. وبعد أن بدأ أبي بدعاء الطعام، وردده الجميع معه، استمتعنا بألذ وجبة إفطارٍ، حلمتُ بها في حياتي.. كان إفطاراً ملكياً بمعنى الكلمة!!

وبعد أن حمدنا الله على ما رزقنا؛ وجمعنا الطعام الزائد في صحون نظيفة، لحفظها في الثلاجة- إذ لم يكن من عادتنا رمي الطعام أبداً، ولا حتى كسرة خبزٍ منه- انتقلنا إلى المقاعد المدعمة بالوسائد المريحة، حيث جلس أبي إلى جانب أمي، كما يجلس العروسان على عرشهما ليلة الزفاف، فيما جلسنا نحن حولهما، أمام شاشة العرض الكبيرة، التي تولى “سليم” و”رؤوف” تركيبها.. ولم يكن أمام “آسيا”؛ سوى الضغط على زر التشغيل، ليبدأ عرض الفلم- الذي قامت بإعداده، بمساعدة البقية- بعد أن أغلقتُ الستائر المخملية، وكأننا في قاعة عرض حقيقية..

بدأ الفلم بـالعبارة الشهيرة: “حدث في مثل هذا اليوم”

إنها الذكرى الخمسون لزواج والديّ! نصف قرن من الحب والعطاء..

وهاهو أبي يحيط بذراعه اليمنى؛ كتفا أمي- التي جلست عن يمينه- فيما رَمَت هي برأسها على كتفه، أثناء مشاهدتهما للعرض..

لا أعرف كيف أصف مشاعري، كلما رأيتُ والداي معاً، فهما مثالٌ للحب الصادق، الذي يحلم به كل انسان، ولطالما تساءلتُ عن سر هذا الحب الكبير؛ الذي لا ينضب معينه بينهما! فرغم كل هذه السنين؛ إلا أن علاقتهما تبدو شابة فتية، تتوقد باستمرار اهتماماً ولهفة، وكأنهما لا يزالا في شهر العسل! هذا إلى أنهما يتقاسمان الكثير من الاهتمامات، رغم أن أبي أكد لي مراراً وتكراراً؛ أنه لم يكن يعرف أمي قبل الزواج أبداً، والشيء نفسه قالته أمي!! ربما يبدو الأمر غريباً، ولكن هذه هي الحقيقة!! وقد عزيتُ الأمر بداية، إلى أن الحب جاء بعد طول عِشرة، لكن “عفيفة” و”أكرم”، وهما أكبر إخوتي، يقولان بأنه ورغم مرور بعض الأوقات العصيبة، التي تمر بها البيوت عادة؛ إلا أن الحب بين والداي؛ كان سرعان ما يتغلب في النهاية؛ على أعتى مشكلة قد تنشأ بينهما!

وإنني أتساءل.. هل يمكن أن التقي بفتاة؛ تشاركني حياتي بحبٍ واهتمام، مثل أمي وأبي!! ربما آن لي التفكير جدياً في هذا الأمر، فسأنتقل الأسبوع القادم للعمل في المستشفى، من أجل سَنَة الامتياز الطبي، حيث سأتقاضى راتباً لأول مرة..

كان والداي يتابعان الفلم بتأثر واضح، فقد أبدعت “آسيا” في إخراجه، أيّما إبداع، فبعد أن عرضت صوراً متنوعة لحياة والداي خلال مسيرة حياتهما، انتقلت للإنجازات التي حققاها خلال تلك السنوات، وبدأت بأختي الكبرى “عفيفة”، ذات التسعة وأربعين عاماً، والحاصلة على شهادة في علم الأحياء، إضافة لأبحاثها واهتمامها بعلم النفس والطبيعة البشرية، فقد كانت مديرة لأكبر مدرسة للبنات في البلاد، لأكثر من عشرين عاماً، عملَت خلالها على تحويلها لنموذجي مثالي، للبيئة التربوية الصالحة، حتى اشتهرت بنظامها، وحسن سلوك طالباتها، فزاد إقبال الناس عليها، يسعون لالحاق بناتهم بها، إلى أن توسعت مبانيها، ووصلت إلى ما وصلت عليه، ورغم أن “عفيفة” تقاعدت هذه السنة، إلا أنها لم تترك أبحاثها العلمية، وأكاد أجزم أنها تعد بيتها خلية تجاربها الأولى، فلم تكن المدرسة؛ سوى صورة مكبرة عنه، وربما كان هذا هو سر نجاحها! وقد تم تكريمها في حفل تقاعدها الذي حضره كبار الوزراء في البلاد، إذ تم تعيينها كمستشارة بعد ذلك، في وزارة التربية، وقسم تطوير المناهج..

ثم انتقل الفلم إلى “أكرم”، والذي حذا حذو والدي في تعلم اللغات والترجمة، إضافة لاهتمامه بمجال إدارة الأعمال والمحاسبة، فكان يحضر دروساً ودورات مكثفة فيهما، ولم يكن ليكتفي بالعمل الوظيفي بعد ذلك، إذ اقترح تأسيس مركزٍ خاص؛ يجمع بين أعمال الترجمة والبرمجة، على مواصفات قياسية عالمية، فلاقى اقتراحه ترحيباً من أمي، التي وجدتها فرصة لاستثمار جهودها، ودعماً من أبي، الذي فضّل متابعة عمله في وظيفته، مع مساهمته في رأس المال والتأسيس، على أن يستلم “أكرم” الإدارة، وكانت تلك هي بداية انطلاق مركز “مودة للترجمة والبرمجة”، والذي توسعت أعماله، فجلب له أخي باستشارة والدي؛ أشد الموظفين كفاءة واتقاناً، وقد تم تصنيفه عالمياً؛ ضمن أفضل عشرة مراكز تخصصية، على مستوى العالم، بعد أقل من عشرة أعوامٍ على تأسيسه! وقد كان “أكرم” حريصاً جداً؛ فيما يتعلق بالأمور المالية، حتى لا تختلط الأمور، وتضيع الحقوق، أو يتسبب ذلك في أية خلافات..

ثم جاء دور “سليم”، والذي أكمل قبل عدة أيام؛ خمسة وأربعين عاماً من عمره، وهو عبقري العائلة إن صح التعبير، فبعد أن حصل على شهادةٍ عليا في هندسة الاتصالات؛ شرع في دراسة هندسة الالكترونيات، وقد حصل على براءة اختراع، لاختراعه جهازاً ذكياً صغير الحجم، يشبه مكبر الصوت تقريباً، يتم توصيله بجهاز الحاسب، وعند التحدث من خلاله، يقوم بتحويل الموجات الصوتية، إلى كلمات مكتوبة، على الشاشة، وِفق برمجية خاصة، ساهمت “آسيا” في إعدادها، وقد كان هدف هذا الجهاز الذي أسماه “جهاز البِر”، هو تقديمه هدية لأمي، التي تعشق البرمجة، غير أن ضعف نظرها، مع تقدم سنها، حال بينها وبين ذلك، مما جعل أخي سليم يفكر بهذه الهدية! وكم كانت سعادتها بها كبيرة، فما عليها سوى التحدث بالأوامر، باللغة التي تريدها، والتي تحفظها عن ظهر قلب، وهي مغمضة العينين، وستتم كتابة البرنامج تلقائياً على الحاسب!!

وقد استخدمته أمي فعلاً في إعداد عدد من البرامج، كان منها برنامجاً لمحو الأمية، يتم تحميله على أجهزة خاصة، متصلة بجهاز “البِر” الذي ابتكره أخي، حيث يقوم الشخص بنطق أي كلمة، فيقوم البرنامج بتوضيح طريقة كتابتها حرفاً حرفاً، ثم يقوم بتفريق الحروف وإعادة تركيبها، مرة تلوَ الأخرى، حتى ترسخ في الذهن، كما يمكن للمستخدم أن يقوم بتصوير أي جملة يراها، باستخدام الجهاز نفسه، فيقوم البرنامج، بقراءة هذه الجملة- بعد معالجة الصورة- بصوتٍ واضح، ثم يعيد تهجئة أحرفها حرفاً حرفاً، ثم يعيد كتابتها مرة أخرى، بتفريق وجمع الأحرف..

كان هدف أمي من هذا البرنامج، هو توفير الفرصة، للكبار الذين يعانون من الأمية، ولا يستطيعون الذهاب لمراكز محوها! وقد نَوَت بعملها ذاك أن يكون صدقة جارية، عن روح والديها، الذين طالما قالت أنهما كانا يتألمان لحال الأمة، وما ينتشر فيها من جهل، فرفضت بيع حقوق البرنامج، خشية أن لا يتمكن المحتاجون من استخدامه، وعرضته للاستخدام المجاني لكل من يحتاجه..

 وقد قام “سليم” بتطوير جهازه بعد ذلك، فجعله لا سلكياً، وقد قامت كبرى الجامعات العالمية بشرائه، لا سيما وأنه يتيح لأساتذة البرمجة، فرصة تقديم دروسهم، وهم يسيرون بين طلبتهم، فيما تُكتب الأوامر على شاشة العرض، بوضوحٍ أمام الجميع..

 وقد أصرّ على توزيع الربح المالي؛ مناصفة بينه وبين “آسيا”، رغم أنها قالت بأنها لم تفعل شيئا يُذكر!!

ثم انتقل الفلم إلى صورة “أمامة”، وهي تصغر “سليم” بعامين، وهي الآن؛ أستاذة جامعية، ورئيسة قسم التاريخ في واحدة من أكبر جامعات البلاد، وقد تم اعتماد أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراة- “التاريخ من أجل المستقبل”- من قِبَل وزارة التعليم العالي، لتُصبح مَسَاقاً يُدرّس لطلبة قسم التاريخ، في جامعات بلادنا، وقد حذت حذوهم عدة جامعات في دولٍ أخرى، كما حصدت عدداً من الجوائز على أوراقها البحثية في هذا المجال، لا سيما وأنها استخدمت في أطروحاتها بعض الأمثلة العلمية، مثل تطور البرمجيات عبر السنين، وقد أرفقت لذلك صورة للبطاقة المثقّبة، التي كانت تُستخدم في البرمجة، كتبت تحتها، عبارة سمعتها من أمي:

“من يعرف البدايات؛ يسيطر على النهايات”

بعدها جاء دور “كريم”، الذي أكمل الأربعين عاماً من عمره، بموهبته الفذة في الهندسة المعمارية والتصميم، حيث عرض الفلم صوراً للمنشآت المعمارية التي أنجزها، فقد حصل على معظم المراكز الأولى، التي كانت تُطرح في الساحة المعمارية، ومعظم الأبنية الوزارية، والمنشآت الهامة في البلاد، من تصميمه!! وقد قام بتصميم أكبر جامعٍ في البلاد، وُصف أنه الأجمل، والأكثر راحة بين المساجد، من حيث الاضاءة والتهوية الطبيعية، وقد رفض أخي أن يتقاضى أجراً على ذلك، بل ولم يكن يتوانى عن تقديم أي تصميم مجاني، يلائم الموقع المختار، فيما يختص ببناء المساجد، كلما سنحت له الفرصة بذلك..

ثم عرض الفلم صُوَر توأمه “كريمة”، والتي فضّلت البقاء في المنزل، رغم أن بإمكانها فتح عيادة خاصة تدرّ عليها ثروة كبيرة، بصفتها أخصائية تغذية، لكنها كما تقول، بالكاد يمكنها الاهتمام ببيتها، وشؤون أسرتها وأولادها، و”رحم الله امرءاعرف قدر نفسه”، ومع ذلك، فقد اشتهرت بوصفاتها اللذيذة والمفيدة، إذ كانت طاهية ماهرة، تعرف كيف تجعل من الأغذية المفيدة؛ أطباقاً شهية يسيل لها اللعاب، وقد شجعها والدي على جمع وَصفاتِها في كتاب، يفيد الجميع، فإذا به يحقق أرباحاً خيالية؛ لم تكن تتصورها!!

ثم انتقلت الصورة إلى “رؤوف”، الذي يصغر التوأم بثلاث سنوات، وهو مهندس طيران بارع، وقد تمّت ترقيته مؤخراً ليستلم مهام مسؤول كبير، في أفضل شركات الطيران المحلية، وبسبب طبيعة عمله، كنا نحصل على أسعار مخفضة للتذاكر، فإتقان أخي لعمله، وبراعته في إتمام مهامه، منحته الكثير من الامتيازات..

وبدأ العرض يصل إلى نهايته، فسلط الضوء على “آسيا”، التي تصغر رؤوف بسنتين، وهي التي ساعدت “سليم” في “جهاز البر”، من خلال إعدادها لبرنامج خاص، إذ سلكتْ طريق أمي في البرمجة، وكثيراً ما كانتا تقضيان الوقت معاً، وهما يتحدثان في مجالهما المشترك، فقد كانت “آسيا” ساعد أمي الأيمن في مشاريعها، وهي الآن المسؤولة عن توزيع المهام، في قسم البرمجة، في “مركز مَوَدّة للترجمة والبرمجة”، الذي ساهم أبي في تأسيسه، بناء على اقتراح “أكرم”..

ثم ظهرت “مريم”، أختي الأقرب إليّ- والتي تكبرني بسبع سنوات فقط- فهي أكثر من شاركني حياتي الخاصة، وأظنها أكثر من شجعني على التفوق في الدراسة، إذ كانت مجدة لأقصى حد، وقد حصَلَتْ على المركز الأول، على مستوى البلاد، في امتحانات الثانوية العامة، وكانت الفرحة التي غمرتنا جميعاً وقتها، دافعاً لي لمجاراتها، وقد سارت على الدرب نفسه في الاجتهاد، بعد اختيارها لتخصص طب الأسنان، فمن النادر أن يضيع وقتها دون فائدة، حتى عندما  تزاول هوايتها في الرسم، تحرص على أن يرافق ذلك فكرة نافعة! وقبل سنتين شاركت في معرضٍ عالمي للرسم، بناء على اقتراح أمي، وحصلت فيه على جائزة مالية معتبرة، هذا عِوضاً عن كونها أصغر طبيبة أسنان، تمتلك عيادة خاصة بها، مكتظة بالناس!!

ورغم أن الحادثة الأخيرة، جعلت والداي يقلقان بشأن عودتها للعيادة؛ مما جعلها تأخذ إجازة قصيرة حتى تهدأ الأمور، فلم تقبل بحالات جديدة في تلك الفترة؛ إلا أنها حرصت على اتمام ما بدأته للمرضى، وقد شجعها والداي على ذلك..

وبالتفكير في هذا الأمر، لا زلتُ أتساءل.. ما الذي حدث معها بالضبط؟؟ لقد أعدنا مُشاهدة الصُوَر المعروضة في آلات المراقبة، أكثر من مرة، لعلنا نفهم ما الذي جعل أولئك الرجال يفرون هاربين، دون أن يمس أحدهم أختي بسوء!! لا أدري صدقاً.. ولكنني أعتقد بأن انعكاس القمر في تلك الليلة، كوّن ظلالاً مخيفة؛ أفزعتهم!! قد يبدو تفسيراً سخيفاً، لكن هذا ما خطر ببالي!!!

وأخيرا جاء دوري.. فاعتدلتُ في مجلسي، لأشاهد نفسي، وما الذي ذكرته “آسيا” عني، بالطبع كان لا بد لصورة “آخر العنقود” بالتدلي على الشاشة!!

وشعرتُ بمعنى أن يكون الانسان “طفل العائلة المدلل”، وإن كان في سن الرابعة والعشرين!! فقد أسهب الفلم بعرض صُوَري في جميع مراحل حياتي، ربما لأنهم لم يجدوا أي إنجازٍ يُذكر حتى الآن!! وبالطبع تمت الإشارة إلى حصولي على المركز الثاني في امتحانات الثانوية العامة، رغم أنني كنتُ أتمنى التفوق على “مريم”، ولكن الحمد لله، هذه نعمة كبيرة بلا شك، ومن ثم تخرّجي بمرتبة الشرف الأولى في كلية الطب، بفضل الله، ولم تنسَ الاشارة إلى سلسلة “مذكرات طالب طب”، التي نشرتها خلال سنوات دراستي، كان آخرها الجزء السادس! وقد كانت بداية الفكرة، عندما أخذ أبي يُطالع دفتر مذكراتي الخاص، وما كتبته من أحداث، مرت بي في السنة الدراسية الأولى، فاقترح عليّ نشرها في كتاب، لعلها تفيد زملائي من بعدي، وقد أسعدني أن أبي وجدها مذكرات مفيدة حقاً، إذ كنتُ مغرماً بالكتابة، ولم أتوقع أن يكون في ما أكتبه فائدة لغيري! وقد أقبل أصدقائي على مذكراتي بشدة، لا سيما وقد وجدوا فيها ما يلامسهم! ورويداً رويداً زاد عليها الطلب، وهكذا.. وجدتُ نفسي أصدر في نهاية كل سنة دراسية كتاباً، بتوفيق الله..

ثم عرّج الفلم، على الحادثة التي تعرضتُ لها، وخروجي منها سالماً بأمر الله، على يد الطبيب “معروف”، والذي ساعدني فيما بعد، للعثور على فرصة ممتازة في أحد أفضل مستشفيات البلاد، لأبدأ برنامج الامتياز الطبي. ولأن المستشفى في مدينة أخرى، بعيدة عن مدينتنا؛ فسأنتقل للإقامة في سكنٍ خاص، تابع للمستشفى، مما يعني أنني سأفترق عن والداي لأول مرة!!

 وخُتم الفلم- ذو النصف ساعة- بالآية القرآنية:

“أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير”

 تلاها عبارات الحمد والثناء على الله، والشكر لوالدينا، حيث كانت هناك عشر عبارات، كتبها كل واحد منّا على حِدَة، فما هذا إلا جزء من إنجازاتهم، ولم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه، لولا فضل الله علينا، وحسن تربيتهم لنا.. فتربية عشرة أولاد، وتحمل مسؤوليتهم كاملة، كما تقول “عفيفة”؛ ليس عملاً سهلاً أبداً!!

وقد أحسنت “آسيا” في إخراج ذلك كله؛ بعرضٍ رائع، وجذّاب..

انتهى الفلم وفتحنا الستائر، وكان أبي لا يزال على جلسته، وهو يحيط كتفا أمي بذراعه، فيما لم تتمالك هي دموعها، فانهمرت على وجنتيها بتأثر شديد، وقمنا نحن نقبل كفيهما ورأسيهما، بحب وامتنان، لكن أمي استدركت قائلة، وهي تخاطبنا، وكأننا أطفال في الابتدائية:

– هل قرأتم أذكار الصباح يا أولاد؟

وقد أجابها الجميع بالإيجاب، لكنها نظرت أليّ فجأة، كمن يضبط لصاً، يحاول التسلل من قبضة العدالة:

– “عفيف”.. هل قرأت أذكار الصباح؟؟

وحقيقة لم أكن متأكداً مما إذا كنتُ قد قرأتها أم لا، وأمام ترددي في الإجابة، رمقتني أمي بنظراتٍ ثاقبة:

– كم مرة عليّ أن أذكرك؟؟ العين حق، ولا ينقصنا متاعب بسببك!! هيا أسمعني الأذكار الآن..

وساندها أبي بقوله ملاطفاً:

– ستكون فرصة لتُسمعنا صوتك الجميل يا بني..

وبالطبع انطلق لساني يرتل بصوتٍ رخيم، سورة الفاتحة وآية الكرسي، وسورة الاخلاص والمعوذتين، وبقية الأذكار والأدعية..

وكأن والداي ظنا أن الحفلة قد انتهت، دون أن يخطر ببالهما أن المفاجأة الحقيقية لم يُعلن عنها بعد؛ فهمّا بالقيام، لكن “عفيفة” أشارت لهما بالجلوس قائلة:

– والآن.. يشرفنا تقديم هذه الهدية البسيطة لكما، رغم أنها لا تُقارن بعظيم ما قدمتماه لنا..

وأحضر “أكرم” علبة صغيرة، مغلفة بورقٍ مُلوّن برّاق، قدمها لهما، فتناولها أبي وقدمها لأمي كالعادة، فقامت بفتحها والفضول بادٍ في أعينهما، فيما كنّا نتابع ردة فعلهما بترقب!

وكم كانت دهشتهما كبيرة وواضحة- كما أردنا- عندما وجدا جوازات سفرهما في العلبة!!

فتناولت أمي جواز سفرها، وأخذت تقلبه لتتأكد منه، وفعل أبي الشيء نفسه، قبل أن تعلق أمي قائلة:

– ما معنى هذا!!! وكيف وصل جوازي إلى هنا؟

والسؤال نفسه، كان يشع من عيني والدي بطبيعة الحال، فيما حاولتُ اخفاء ابتسامتي وأنا أحدق في السقف، فمن سيأخذ جوازهما غيري، دون أن يُشعرهما بذلك!!

وبعد لحظة صمت، قالت “عفيفة”، وهي بالكاد تسيطر على نفسها من شدة الحماسة، ولم نكن بأقل حماسة منها:

– بما أن “عفيف” سينتقل الأسبوع القادم للإقامة في سكن المستشفى، إن شاء الله، ولن يعود هناك من تقلقا عليه في المنزل؛ فستكون فرصة لكما لتجوبا العالم، في رحلة سياحية حوله؛ من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، ونحن متأكدون من أنكما ستنشران الخير حيث حللتما، وستكونان سبباً في هداية خلقٍ كثير، بإذن الله، فمن يراكما معاً، ويتعامل معكما؛ لا يملك إلا أن يسأل عن معتقدكما، وهذه هي الدعوة الحقيقية..

ويبدو أن أمي لم تستوعب ما قالته “عفيفة” تماماً، فسألتها بتعجب:

– كيف؟

فابتسمت “عفيفة”:

– لقد تم حجز وترتيب كل شيء، تذاكر الطائرات، والفنادق، في رحلة حول العالم لمدة سنتين، إن شاء الله، واطمئنا، فسأمر على المنزل بين الحين والآخر لتهويته، وسنكون معكما على تواصلٍ دائم، بإذن الله، وقد نأتي لزيارتكم مع عائلاتنا، أثناء إجازاتنا، في المكان الذي تقيمان فيه، خلال تلك الفترة..

والتقطت نفساً قبل أن تتابع:

– سنقوم بإصالكما إلى المطار مع “عفيف”، الأسبوع القادم، إن شاء الله، فستنطلق رحلاتكم في اليوم نفسه، وقد أنهينا جميع الترتيبات لذلك، بفضل الله..

فهتفت أمي:

– ما الذي تتحدثين عنه؟؟ هل أنتِ جادة حقاَ!!

والتفتَتْ نحو أبي، تحاول التأكد من أن ما فهمته صحيحاً، فيما فسحت “عفيفة” المجال لـ “سليم”؛ الذي قدم لهما هاتفين حديثَيْن، قائلاً:

– هذه الأجهزة من أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا هذه الأيام، وقد تم توصيلهما بخدمة (انترنت) مفتوحة، متصلة بالأقمار الصناعية مباشرة، يمكنكما استعمالها في أي مكان وزمان، وبهما شرائح اتصال دولية، ترسل وتستقبل المكالمات، من أي مكان في العالم، كما قامت “آسيا”، بتحميل برنامج  مُحاكاة خاص عليهما، يعمل كالدليل السياحي، لمسار هذه الرحلة..

وبسرعة، قمتُ بإغلاق الستائر من جديد، بناء على إشارة “عفيفة”، حيث قام “رؤوف” بعرض مخططٍ لمسار الرحلة، وصوراً للأماكن التي سيزورانها، والفنادق التي سيقيمان فيها، وجميعها من الدرجة الأولى، وقد علق “رؤوف” قائلاً:

– لقد ضَمِنت لي الشركة السياحية، التي أتعامل معها، توفير جميع وسائل الراحة، ولن تجدا ما يؤذيكما من خمور أو ما شابه، لقد أكّدتُ لهما على هذه القضية تحديداً.. وقد حرصتُ على اختيار شركات الطيران بعناية، حيث ستسافران عبر الدرجات الأولى، في جميع الرحلات بإذن الله، بداية إلى الديار المقدسة، حيث تم حجز أسبوع لكما في فندقٍ يطل على ساحة المسجد النبوي الشريف، ثم أسبوع في مكة، في غرفة ذات واجهة زجاجية، تطل على الكعبة المشرفة، ويُمكن أن تُرى، حتى أثناء النوم على السرير..

كان “رؤوف” يتحدث، وهو يشير إلى الصور التوضيحية على الشاشة، وكأن أمي استوعبت أخيراً، طبيعة هديتنا، فسمعنا صوت بكائها من شدة التأثر، فصمتَ “رؤوف”، فيما كان أبي يضم أمي إليه، بحبٍ واضح، وعيناه تترقرقان بالدموع، طابعاً قبلةً حانية على جبينها:

– تستحقين كل الخير يا عزيزتي..

ومن غير ترتيبٍ مسبقٍ بيننا، هتفنا معاً في صوت واحد:

– وأنت أيضا يا أبي، تستحق كل الخير.. وهذا قليل في حقكما..

 وكأن أبي حاول تهدئة أمي، فسأل بابتسامة ذات معنى:

– وماذا عن القدس؟ ألن نزور المسجد الأقصى أيضاً؟؟

وبحركة لا إرادية، هببتُ من مكاني هاتفاً:

– أنا لها.. أنا لها..

وانفجر أخوتي ضاحكين، فيما ابتسمتُ قائلا بثقة- فقد كنت أغبط “رؤوف” على دوره الكبير في هذه المفاجأة:

– سأعمل بجدٍ لتحقيق ذلك يا أبي، إن شاء الله..

ثم قلتُ مداعباً أمي، التي كانت تحاول التقاط أنفاسها:

– لا تنسي قراءة الأذكار في الرحلة، فمن يراكِ؛ لا يصدق أنك قد تجاوزتِ الخمسين من عمرك، بعقدين من الزمان!!

فمدّت أمي يدها لتقرص أذني كعادتها:

– قل “ما شاء الله” يا ولد!

وضحكنا جميعاً بمرح..

 وبعد أن انهى “رؤوف” عرضه، قمنا واغتسلنا استعداداً لصلاة الجمعة، حيث ذهبتُ إلى المسجد مع أبي وإخوتي الذكور، فيما بقيت أخواتي مع أمي في المنزل، فانشغلن بالتنظيف والترتيب، بعد أن أعدتُ مع إخوتي؛ الطاولة الثقيلة إلى مكانها، ليعود كل شيء كما كان..

   لم أستطع النوم تلك الليلة، وأنا أفكر في تلك الأجواء الجميلة، التي لا يمكن أن أنساها ما حييت، وكنتُ أقول لنفسي؛ إذا كان هذا هو عطاء الله في الدنيا، فكيف هو عطاؤه في جنة عرضها السماوات والأرض!!!

 وخرجتُ إلى الشرفة، لأستنشق نسائم الليل المنعشة، لكنني فوجئتُ برؤية أبي هناك، واقفاً يتأمل القمر بشرود!!

لطالما شعرتُ بأن هناك علاقة خاصة، تربط أبي بالقمر! وربما هذا ما جعلني أفكر، بأن لانعكاس أشعة القمر؛ دورٌ في حماية أختي “مريم”!

ألقيتُ على أبي التحية، فردها بأحسن منها، والتفتَ إليّ باسماً:

– أما زلتَ مستيقظاً؟

ثم وضع يده على كتفي بحنان، بعد أن وقفتُ إلى جانبه، نتأمل سكون الليل سوياً، ولا أدري كيف خطرت كلمات خطيب الجمعة ببالي فجأة، فقلتُ لأبي:

– لقد تحدث الخطيب اليوم عن “الخبيئة”، وعن فضل من يكون  بينه وبين الله أسرارٌ من العمل الصالح، وأنها من أسباب دفع الضر، وجلب الخير..

وصمتُّ قليلاً قبل أن أسأل والدي باهتمام:

– هل لك “خبيئة” يا أبي؟

لا أدري ما الذي كان يجول بفكر أبي في تلك اللحظات، إذ تنهد بعمق، ورأيته يحدق في القمر من جديد، دون أن ينبس بكلمة واحدة! فاحترمتُ صمته، وكنتُ أتمنى لو يحدثني بشيء، أستفيد منه في حياتي، إذ طالما تحدثت عماتي عن أبي في شبابه، وقلنَ بأنه كان مثالاً للاستقامة، وأظن أن هذا هو سر شبابه وقوته، رغم بلوغه سن الثالثة والسبعين، فقد قرأتُ ذات مرة؛ قولاً لأحد السلف، بعد أن رآه أحدهم يقفز من سطح السفينة، وقد تجاوز المائة، فسأله عن سر صحته فأجابه بقوله:”حفظنا الله في شبابنا فحفظنا عند كِبَرنا”، لا أذكر الجملة تحديداً، لكن هذا معناها، ولا أستبعد أن الأمر ينطبق على أبي.. وأمي أيضاً..

وبكل ما يعتري صدري من فضول، أعدتُ السؤال على أبي، بطريقة أخرى:

– ألا يمكنك أن تخبرني بالسر يا أبي لأستفيد؟

  وقد نجحتُ فعلاً في إصابة الهدف هذه المرة، فقد تحرّكت شفتاه أخيراً:

– عندما أحببت.. عَفَفْت..

***************

(6)

“عفـــــــــــــــاف”

 لا أدري أي مشاعرٍ اعترتني؛ عندما لمحتُ اسمها على الحقيبة! لا شك في ذلك.. إنها ابنته!!

كنتُ أجلس في قسم النساء، أمام الكعبة المشرفة، بعد صلاة الظهر، بانتظار “نبيل”؛ لنذهب معاً للغداء، في مطعم الفندق.. لكن صوت بكائها المرير، لفتني بشدة؛ فقد كانت تجلس وحيدة، وهي لا تزال شابة، قدّرتُ أنها في عُمُر “مريم” أو “آسيا”!

 شعرتُ أنها إحدى بناتي، فاقتربتُ منها، لعل باستطاعتي التخفيف عنها! ولكن.. عندما وَقَعَتْ عيناي على بطاقة الحملة، الملصقة على حقيبتها، وقد انطبع عليها اسمها بوضوح، “سميرة باهر سمير”؛ عادت بي ذاكرتي، خمسين عاماً إلى الوراء!! فشعرتُ بنداء الواجب، كما لم أشعر به من قبل! فهي ابنة أستاذي، الذي أفادني بعلمه؛ قبل أي شيء!!

وكأن الفتاة اطمأنت لي أخيراً، أو أنها كانت بحاجة لإزاحة الهم الجاثم على صدرها، فانطلقت تحدثني بحرقة:

– لقد ضاع عمري من أجله..

أدركتُ أنها تمر بمعاناة عاطفية مريرة؛ فرَقّ قلبي لها بشدة، وضممتها إلى صدري، بكل ما أملكه من حنان ورحمة:

– لا تقولي هذا يا ابنتي، فقد قطعتِ مسافاتٍ شاسعة لتصلي إلى هنا، وها أنت في بيت الله، فاطلبي منه ما شئتِ، وثقي بأن الكريم لا يرد سائلاً أبداً..

فقالت، وهي تلتقط أنفاسها المتقطعة:

– لشد ما يؤلمني أنني أغضبتُ والداي من أجله! كانا يريدان مني الارتباط بشابٍ تقدم لخطبتي، ولم يكن يعيبه شيء برأيهما، وقد كان مناسباً فعلاً، لكن لم يكونا ليرغماني على شيء لا أريده، إذ كان قلبي معلقاً بذلك الشاب، الذي أحببته منذ سبع سنين، وقد وعدني بالتقدم لخطبتي فور حصوله على عمل مناسب، ليتمكن من مفاتحة والديه بأمر الزواج، وتحمل المسؤولية! وبعد كل تلك السنوات، أرسل لي باعتذارٍ مهين، متذرّعاً بأن والدته مصرّة على خطبة ابنة أختها له!! وقد عرفتُ أنه تزوجها فعلاً، فيما ذَبُل ربيع عمري في انتظاره!! لقد وثقتُ به.. لكنه خذلني!!!

وأجهشَتْ باكية، فربتُّ على كتفها، والدموع تغرق وجهي ألماً لحالها، لكنني قلتُ لها مهدّئة:

– لقد أخطأ في وعده لك منذ البداية، إذ كان وعداً لم يستشِر فيه والديه، ولا يملك الوفاء به! وقد أخطأتِ بتعلقك بوعدٍ كهذا، دون استشارة والديك، وأخذ رأيهما به، وهما الأكثر خبرة ودراية! ولكن لا تقلقي؛ فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فثقي بالله وحده، وسيعوضك خيراً منه بالتأكيد..

لكنها قالت- بنبرة كسيرة:

– لا أعرف ماذا أقول لك يا خالة، فرغم كل ما فعله، إلا أنني لستُ قادرة على الحب من بعده، فقد كان حبي الوحيد، ولا أتخيل كيف بإمكاني متابعة حياتي بعد ذلك.. لشد ما ينتابني القلق من رؤيته مع زوجته، في أي مكان؛ فأفقد أعصابي وأنهار!! لقد بات هذا هاجسٌ يؤرقني بشدة!

عندها قلتُ لها، وآلاف الذكريات تموج في مخيلتي:

– اسمعيني جيداً يا ابنتي، فإنني أعرف شعورك جيداً، أكثر مما تتصوري، فالحياة مدرسة وتجارب، نتعلم منها الكثير..

والتقطتُ نفساً، قبل أن أقول بتأثر واضح:

– أعرف فتاة كانت تحب شاباً، ملك عليها قلبها وأشغل فِكرها، حتى ظنت أنها لن تحب أحداً كحبها له، ولكنه لم يكن من نصيبها، وقد تألمت لذلك بالطبع في البداية، ولكنها وضعت كامل ثقتها بالله، ورضيت بقضائه واختياره، فأبدلها خيراً منه، بل إنها قضت معه أجمل سنين حياتها، ورغم تقدمهما في السن؛ إلا أن قلبها لا يزال شاباً بحبه؛ فقد كان فارس أحلامها الحقيقي..

 ويبدو أنني انسجمتُ في الجو تماماً، إذ لم أكد أُكمل عبارتي، حتى رأيتُ “نبيل” مُقبلاً من بعيد، فخفق قلبي بشدة، وكأنني لا أزال شابة في العشرين! وعندما رأيته يتلفّت بحثاً عني، في المكان المتفق عليه، أشرتُ له هاتفة:

– “نبيل”، أنا هنا.. لحظة من فضلك، سآتي حالاً..

وقبل أن أقول للفتاة شيئا؛ وجدتُها تبتسم في وجهي، قائلة:

– هل كانت تلك هي قصتك يا خالة؟

فغمزتها باسمة، وقد أسعدني إشراقها:

– وربما تكون قصتك أنتِ أيضا يا “سميرة”، فثقي بالله، ولن يضيعك الله، وسأذكرك في دعائي، إن شاء الله.. (ولسوف يعطيك ربك فترضى)..

*************

(7)

“نبيــــــــــــــــــــل”

  كلما نظرتُ إلى القمر؛ أرى حكمتك، ولطف تدبيرك، في كل ما قدرته لنا يارب! وأدرك كم كنتَ ولم تزل بي رحيماً حفيا.. سبحانك ما أعظمك، خالق القلوب ومقلّبها!! عندما أحببتُ أول مرة؛ ظننتُ أن ذلك هو منتهى الحب، الذي لا حب بعده، ثم ربطتَ على قلبي، حتى أدركتُ حكمتك التي خفِيت عني، ورأيتُ بعين قلبي؛ جمال ما خبّأته لي، دون أن أدري!! كان اختباراً؛ فأكرمتني باجتيازه، وشملتني بلطفك ورحمتك، فلا أدري كيف تحول حبي الكبير لـ “نائلة”؛ إلى شفقة عليها!! فدعوتُ لها كما يدعو الأخ المشفق لأخته، وكلمات أمي، لا زال صداها يتردد في أذني: “لو كان فيها خيرٌ لك، لما أبعدها الله عنك!”، وكم تأثرتُ عندما علمتُ أنها حققت حلمها، وسمعتُ عن حسن خاتمتها، وأن الذي كان سبباً في انقاذ ابني هو ابنها!! فارحمها وبارك في ذريتها، وجازِها خيراً يا شكور، وهب لي من زوجتي وذريتي قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما..

كنتُ أجلس مع محدثي الشاب، فوق سطح الفندق، في إحدى ضواحي جنوب بريطانيا الهادئة، بعد أن طلب مني محادثة على انفراد! فاستأذنتُ زوجتي، التي ذهبت للنوم، وأظنها مشغولة الآن بالتواصل مع الأولاد، والحديث معهم، فهذا هو دأبها!! ويبدو أنني سرحتُ بفكري، وأنا أتأمل القمر، إذ كنا نجلس تحت ضوئه، في تلك الليلة الهادئة؛ فأعاد الشاب سؤاله:

– كيفَ كنتَ ستتصرف لو كنت مكاني يا عم؟

كان شاباً عربياً، مبتعثاً للدراسة في هذه البلاد، وقد وقع في حب فتاة أجنبية، لكن عندما أخبر أهله عنها، وصارحهم برغبته بالزواج منها، ثارت ثائرتهم، حتى أن أمه أصرّت عليه؛ ليعود في أسرع وقت إليهم، لعله ينساها، وإن كان ذلك على حساب دراسته!! ولم يكن بالذي يضرب برضا والديه عرض الحائط بسهولة، فجاء يطلب الاستشارة! بعد أن كاد يستسلم لقلبه الولهان بالعشق، وقد توسّم بي الخير على ما يبدو!

فقلتُ له:

– أي بني.. من ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه، وارضاؤك لأمك هو امتثالٌ لأمر ربك، وكن على ثقة بأن الذي أمرك ببرها؛ هو الذي جعلها تطلب منك ذلك الطلب، أفليس في ذلك إشارة واضحة لك؟؟ وإياك أن تعِدَ الفتاة بشيء فتظلمها، راجع حساباتك، واستغفر لذنبك، ولا بأس بمعاودة الحديث مع أمك بهدوء وأدب، دون أن تضغط عليها، أو تحمّلها ما لا تطيق، فلو كان في تلك الفتاة خير لك، سيشرح الله صدرها لها..

قلتُ كلماتي وأنا أرجو أن تجد طريقها إلى ذهن الشاب؛ ليراجعها فكره، ويعرضها على قلبه، فهذه المعتقدات وأمثالها؛ تحتاج حواراً طويلاً مع النفس، حتى تستقر ضمن قناعاتها الداخلية! ولا شك أن الشاب كان بحاجة لتجربة حقيقية؛ تدعّم تلك الأقوال!! ولطالما تمنيتُ أن أخبر الجميع بقصتي، ولولا خشيتي من كشف سر “نائلة”، والإساءة لابنها، بزلة لسان مني؛ لما ترددتُ بنشرها! وبعد فترة صمتٍ خيّمت علينا، ما مللتُ خلالها من تأمل القمر، تكلمتُ أخيراً:

– كنتُ شاباً مثلك يا بني، وكنتُ أظن أن قلبي لن يحب سوى تلك الفتاة، التي لم يقدّرها الله لي، غير أنني اخترتُ طريقاً يُسعد أمي، فقد خشيتُ أن أُقدم على خطوة تُحزنها، وقبلتُ بالفتاة التي اختارتها لي، وقد كانت فعلاً مناسبة تماماً، فشاركتني هموم الحياة، ورزقني الله منها الأولاد، وكان لنا الكثير من الأهداف المشتركة، وإنني أحمد الله في اليوم ألف مرة، أن رزقني زوجة مثلها، فهي حبي الحقيقي، ولا أتخيل كيف كانت حياتي ستكون من دونها!!

لم أكد انتهي من كلماتي، حتى لاحظتُ التأثر الشديد على وجه الشاب، تحت ضوء القمر، وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة؛ إذ قال بانفعال:

– اعذرني يا عم، ولكن عندما كنتُ أراك مع زوجتك، وأنتما تتناولان الطعام في المطعم، أو تتنزهان في الحديقة، وكأنكما لا تزالان في شهر العسل؛ شعرتُ بحاجةٍ للحديث معك، فرغم ما يظهر عليكما من تديّن والتزام، إلا أن الحب واضح بينكما، ما شاء الله، وقد كنتُ أظنكما قد تزوجتما؛ بعد قصة حبٍ عميقة، مما جعلني أرغب بالحديث معك، لعلك تساعدني في مشكلتي، واقناع أهلي.. لكنك فاجأتني حقيقةً؛ بقولك هذا!!!

شعرتُ بارتياحٍ عميقٍ لردة فعله، فابتسمتُ له قائلاً:

– ألم أقل لك يا بني.. من ترك شيئاً لله؛ عوضه الله خيراً منه!

هز الشاب رأسه متفهماً، وبدا متردداً قليلاً قبل أن يقول:

– لا تؤاخذي يا عم، ولكن لدي سؤال أخير يحيّرني فعلاً، فقد تفاجأتُ حقيقة عندما عرفتُ عمرك الحقيقي- وأرجو أن لا يكون في ذلك وقاحة، مني عندما سألتُ عن ذلك- فقد ظننتك أصغر بعشرين عاماً على الأقل!! فهل لذلك علاقة بما أخبرتِني به قبل قليل؟

فأومأتُ رأسي بابتسامة عريضة- إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى، التي أسمع فيها هذا الكلام- وقد وجدتها فرصة مواتية:

– كما قلتُ لك.. عندما كنتُ شاباً وأحببت.. كبحتُ جماح نفسي وعفَفْت، فاحفظ الله يا بني يحفظك، واستعن بالله ولا تعجز..

وإذ ذاك نهض الشاب، وقد بدا متأثراً جداً بما سمعه، فقبّل رأسي- قبْلَ أن انتبه لما ينوي فعله- فنهضتُ من مكاني وعانقته، وربتّ على كتفه مشجعاً، وقد ذكّرني بـ “عفيف”، فيما انطلق لسانه يدندن بكلماتٍ، لم يزل وقعها يرن في أذني:

– تحتَ ضوءِ القمرْ..

 والقمر شاهدُ..

 أنني لن أَخُنْ..

 لحظةً غائبُ..

**********

تمت بفضل الله

ملاحظة: قد لا تكون هذه القصة حقيقية؛ لكن أحداثها.. ليست خيالية!!

(وجعلنا بعضكم لبعضة فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا)

***

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Tags: No tags

إضافة تعليق

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني *الحقول المشار لها بنجمة هي حقول إلزامية