مدير المدرسة

مدير المدرسة (بين القوة و الاحترام)!

عن القصة:

اللين و اللطف مفتاح للتعامل.. لكن ماذا لو انقلب الأمر و أبدى اللين مفعولا عكسيا؟!
مجموعة من الطلبة المشاغبين يجدون أنفسهم فجأة أمام مدير جديد! قصة واقعية، تسلط الضوء على قضية اجتماعية، وشر البلية ما يضحك!

التصنيف: مدرسي، كوميديا

انتشر الخبر كغيره من الأخبار؛ انتشار النار في الهشيم، في مدرسة صلاح الدين الثانوية للبنين!

– سيتقاعد المدير، وسيأتي مدير جديد!

– ترى كيف شكله؟ هل له عضلات؟

– يقولون أنه يحمل شهادة الدكتوراة من جامعة عريقة وراء البحار!

– سمعت أنه لديه الكثير من الأفكار الحديثة التي يسعى لتطبيقها في مدرستنا!

– هل تعتقد أنه سيكون قوياً جدا؟

– ما هي توقعاتكم.. من أقوى هذا المدير أم المدير الجديد؟

كانت الساحة تعج بالطلبة الذين اصطفوا بنظام منقطع النظير، وهم يستمعون لخطاب المدير الأخير:

– أبنائي، يا طلبة ثانوية صلاح الدين العريقة، سأترككم وكلي ثقة…..

ورغم أن عقول معظم الطلبة كانت مشغولة بتساؤلات كثيرة حول المدير الجديد؛ لكن أحدا لم ينبس ببنت شفة!!

وجاء اليوم الموعود أخيراً، ووقف المدير الجديد أمام الطلبة ببدلته الأنيقة، وابتسامته المشرقة، والقى تحية ودودة على مسامع طلبة الثانوية، معلنا عن قدوم عهد جديد، في تاريخها المجيد!

وفي إحدى الفصول، كان أحد الطلبة يزف خبراً هاماً لزملائه بحماسة منقطعة النظير:

– لقد سمعت جزءا من كلام المدير مع الاساتذة، الضرب ممنوع!

في حين دخل طالب آخر إلى الفصل وهو يهتف قائلا:

– لن تصدقوا ما حدث، لقد صافحني المدير بابتسامة عريضة!

وهنا.. أدرك الجميع تماما أنهم أمام عصر جديد بكل ما تحمل الكلمة من معاني!

لم يستغرق الأمر أكثر من سنتين على تلك الحالة؛ حتى تصدرت ثانوية صلاح الدين قائمة أسوأ المدارس في المنطقة!!

هروب من المدرسة، شجار وعصابات في كل زاوية، الأساتذة لا يمكنهم إنهاء الدروس،،،،

لقد خرج الطلبة عن السيطرة تماما!!

ذاع صيت المدرسة، واشتهرت بين طلبة المدارس الأخرى، حتى باتت وكرا للخارجين عن القانون، الذين يحرصون على ارتيادها من كل مكان!! وإذ ذاك وصل خبرها إلى وزارة التربية والتعليم!

***

التفت عدد من طلبة (الصف العاشر شعبة د)، نحو بسام- المشهور بعضلاته المفتولة- وهو يخبرهم عن آخر بطولاته التي تصدى بها لزعيم صفوف الثاني عشر، في حين كان أستاذ الأحياء يحاول جاهداً أن يطلب منهم الهدوء بشتى الوسائل والطرق؛ حتى يتمكن من إنهاء الدرس دون جدوى، إلى أن أعلن الجرس نهاية الحصة، ليريح ذلك الاستاذ- حديث التخرج، ضعيف البنية- من معاناته اليومية!!

كان بعض الطلبة لا يزالون يستعرضون بعض الحركات القتالية، رغم أن استاذ اللغة العربية دخل إلى الفصل ليعلن بداية الحصة التالية!!

حاول ذلك الاستاذ- الذي كان رجلاً طيبا كبيرا في السن نوعا ما- أن يرفع نبرة صوته أكثر؛ حتى يُعلم الطلبة بوجوده، إلى أن بح صوته، فبدأ الدرس بصعوبة شديدة، على أن أمل أن يريح ضميره على الأقل!

وذات يوم، انتشر خبر جديد في المدرسة..

سيستقيل المدير!!

وبدأ الجميع يتساءل عن هوية المدير الجديد..

– ترى كيف سيكون شكله؟

– هل هو محترم؟

– هل تعتقدون أن المدير الجديد سيكون طيبا؟

وذات صباح، وبينما كان الطلبة يتجاهلون أوامر الأساتذة كالعادة في الانتظام بالطوابير، تقدم المدير الجديد من مكبر الصوت، وألقى التحية على المدرسة معلناً استلامه لإدارتها، وبدافع الفضول فقط، استمع له الطلاب لوهلة؛ قبل أن يتابعوا أحاديثهم المعتادة! أما في طابور الصف العاشر د – الذي نال شهرة واسعة على مستوى المدرسة بكونه حوى أكثر طلابها شغبا ورعونة- فقد كان بسّام يوزّع ابتساماته المعتادة على الجميع، وهو يقف مائلاً بجذعه العريض، في وقفة هازئة، قبل أن يضيف عدد من التعليقات الساخرة!

صمت المدير لوهلة، وأشار إليه قائلا:

– أنت هناك، من الصف العاشر د!

فأشار بسام إلى صدره بتساؤل:

– أنا؟

فأومأ المدير برأسه بالايجاب قبل أن يضف بصرامة عبر مكبر الصوت:

– أجل أنت.. تعال إلى هنا!

خيم الصمت على المدرسة وكأن على رؤوسهم الطير وهم يتابعون خطوات بسام المتجهة بثقة نحو المدير، لعل آذانهم تلتقط أول كلمة سيكلم بها المدير ذلك الزعيم القوي!

وما أن اصبح بسام على بعد خطوتين من المدير؛ حتى دوى صوت صفعة قوية استقرت على وجه بسام، ترنح جسده الضخم على إثرها باهتزاز شديد، كاد أن يطرحه أرضاً، وسط دهشة عارمة جحظت بها العيون، وتجمدت فيها العروق، وتدلت الأفواه يشهقة قوية، كادت أن تُخرج من خلالها الأرواح!

(يقول راوي القصة الأصلي أن صدى تلك الصفعة لا يزال يرن في إذنيه، حتى بعد أن أصبح جدا!!)

ولم يقطع لحظات الصمت تلك؛ سوى صوت المدير وهو يخاطب بسام بنبرة قوية:

– عد إلى مكانك الآن!

وبينما كان الأخير يجر جسده جراً إلى مكانه في الطابور، تابع المدير خطابه وسط هدوء لم تشهده ثانوية صلاح الدين منذ زمن!

لم يكد المقام يستقر بطلبة الصف العاشر د في فصلهم، بعد أن صعدت الطوابير؛ حتى تنفسوا الصعداء- وهم يظنون أنهم قد أصبحوا في مأمن الآن- واخذوا يتندرون على بسام ضاحكين:

– ما الذي دهاك يا رجل؟

– خدك متورم، هل لا زالت تؤلم؟

– لقد كان جسدك يهتز بأكمله!

– أكاد أجزم أن هذا المدير ملاكم بارع!

– لقد فاجأنا يا رجل! كنت أظنه سيتفاهم معه أولاً!

وبطبيعة الحال، لم ينتبه الطلبة لدخول استاذ اللغة العربية، الذي كان يلقي التحية على نفسه، وسط نقاشهم المثير ذاك، إلى أن لاح لهم ظل المدير الذي أقبل على حين غرة، ليقف أمام الباب، سادا الفراغ بجسده!

وكمن ضغط على زر التوقف في شاشة عرض؛ تجمد الطلبة في أماكنهم دون أدنى حركة، كأن الشلل أصابهم فجأة! حتى الشخص الذي كان فاتحا فمه بالكلام، لم يستطع إغلاقه، بعد أن فقد جسده القدرة على التجاوب مع إرادته! فبقي فمه مفتوحا، في حين تبخرت الكلمات منه، وكأن الجفاف قد حل عليه دون سابق إنذار!

اشار المدير لعدد من الطلبة بسبابته قائلا:

– أنتم.. تحركوا الآن نحو مكتبي بسرعة!

كانت تلك الاشارة كفيلة ببث الرعب في نفوسهم، فتحركوا كالآلات دون همس أو حتى نِفِس!

وأمام مكتب المدير اصطفوا كما أخبرهم، دون أن يتبادلوا كلمة واحدة، ودون أن يعرفوا ما الذي سيحل بهم بعد ذلك..

مضت الحصة تلو الحصة، وهم على حالهم، أمام مكتب المدير، فيما كان بعض الطلبة الآخرين يمرون من أمامهم ويتساؤلون عن السبب الذي أوقفهم هنك، أو عن المصير المظلم الذي ينتظرهم!

وبعد أربعة حصص من الانتظار المهين، الذي أودى بما تبقى من جلادة أعصابهم، استدعى المدير أول طالب منهم، وأغلق الباب خلفه!! ليترك البقية في حيرتهم!! ما الذي سيجري في الداخل؟!

بدت غرفة المدير لذلك الطالب- من الوهلة الأولى- اشبه بغرفة تحقيق، غير أن مشهد المدير أمامه وهو يخلع معطفه الرسمي، ويضعه بترتيب على كرسيه بهدوء، ليقف بقميصه الابيض الناصع أمامه؛ جعله يتراجع عن رأيه!! خاصة وهو يراه قد بدأ بثني كم قميصه الايمن إلى منتصف ذراعه، ومن ثم فعل الشيء نفسه بالكم الأيسر!! لقد غير الطالب رأيه بسرعة، فلم تكن تلك غرفة تحقيق أبداً، بل كانت غرفة تعذيب بمعنى الكلمة!!!

وهكذا بدأت اللكمات المتتالية تنهال عليه بلا مقدمة، ولا حتى كلمة!!

وأخيرا.. فُتح الباب أمام العيون المتوجسة المترقبة في الخارج، لتشاهد ذلك الطالب وهو يخرج في حالة مزرية، وكأن لسانه انعقد فخيم عليه صمت مطبق، في حين ارتفع صوت المدير من الداخل:

– الطالب التالي!

**

دخل استاذ اللغة العربية على فصل (الصف العاشر الشعبة د) في اليوم التالي، والقى التحية بنبرة واثقة، وهو ينقل بصره بين الطلبة بابتسامة متشفية:

– كيف حال الرجال اليوم؟

-……………………..

– هل أنتم سعداء الآن؟

ولم تكن الأفواه لتجرؤ على النطق بأكثر من همسة واحدة:

– آه..

أما استاذ الأحياء؛ فلأول مرة منذ تعيينه، تمكن من سماع صوته وهو يشرح الدرس!! بل إنه سمع وقع خطواته ايضاً، في إنجاز غير مسبوق من نوعه!

وفي غضون ثلاثة أيام فقط؛ استعادت مدرسة صلاح الدين الثانوية انضباطها القديم، ونظامها الذي اصبح مثالا يحتذى به في جميع مدارس المنطقة!

******* تمت*******

ملاحظة:

القصة الأصلية سمعتها من أحدهم، (الراوي الأصلي للقصة)، ثم خطر ببالي صياغتها في قصة قصيرة، فكانت هذه هي النتيجة!^^

فما هو رأيكم يا ترى؟

ونسأل الله الهداية والصلاح والتوفيق للجميع

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

حب من عبق التاريخ!

عن القصة:

كثيرا ما نجد انفسنا أمام مفترق طرق يتحتم علينا فيها الاختيار بين أمرين، وما أصعب ذلك لو كان على حساب القلب والحب! سيدة عظيمة، تجد نفسها في موقف عصيب بين زوجها الذي تحبه، ووالدها الذي امرها بفراقه، والهجرة امتثالا لأمر الله! فكيف ستتصرف؟!

التصنيف: تاريخي


في زمن الفروسية العربية الأصيلة، حيث كانت تحتل مكانة عظيمة في نفوس العرب، إذ أن من يحظى بلقب “فارس” لديهم؛ فكأنما حيزت له مجامع الخيرات، ووصل إلى أعلى الدرجات، مما جعل الفرسان يتصدرون المراتب العليا في طبقات ذلك المجتمع، فإن اجتمعت لأحد الفرسان ميزة الحنكة التجارية، إضافة إلى شرف النسب؛ فقد تربع على قمة القمم.. 
في ذلك الزمن؛ نشأت بطلة قصتنا “زينب”، وترعرعت في أحد بيوت مكة العريقة، لتكون أولى ثمار حب طاهر جمع والديها تحت سقف واحد.. ولم يكن أحدٌ ليبالغ إن قال بأن ذلك البيت كان من أسعد البيوت وأهنئها، بل وجمع الكمال كله، فالأم سيدة حكيمة من أشرف العائلات، ولها جاذبية كبيرة تفوقت بها على قريناتها، فقد اشتهرت بجمالها وحسبها ومالها وشخصيتها الفريدة.. مما جعل جميع الرجال يتوددون لطلب يدها، غير أن شخصا واحدا فقط، تمكن من التسلل إلى شغاف قلبها حتى استوطن فيه.. إنه ذلك الشاب الوسيم بهي الطلعة، الخلوق الشجاع، والذكي المحنك الذي ما عرف العرب من هو في مكانته بينهم.. فأي سعادة حظيت بها تلك الطفلة، في أحضان والدين متحابين متفاهمين، وعلى درجة كبيرة من الأخلاق!
وكأن الحب أبى إلا أن يولّد معه حبا آخر.. فزينب التي نشأت في كنف والدين متحابين، لم يكن غريبا منها أن تستقي بذلك الحب كله؛ لينعكس على صفاتها وأخلاقها، بل ومظهرها أيضا… حتى بدت كحورية حسناء تتهافت نحوها القلوب.. ولكن… أنى لهم الوصول إليها!!
شاب واحد فقط امتلك حق التردد على ذلك البيت الطاهر وكأنه بيته.. كيف لا وهو بيت خالته التي عدته بمثابة ابنها، حتى زوجها عامله كابن له، بل كان يحبه ويكرمه لحسن أخلاقه وشهامته وأمانته، ولم يخف على أحد ما يكنه ذلك الشاب لذلك البيت من الحب والولاء، فقد كان سرعان ما يهرع لزيارة بيت خالته كلما عاد من رحلة من رحلاته الكثيرة- التي كان مولعا بها – حيث يقص أخبار تلك الرحلات على خالته.. وابنتها تصغي له باهتمام بطبيعة الحال.. ولا شك أن هذا كان من أكثر ما يسعده..
ومرت الأيام وكبرت زينب، فيما كان “هو” ينتظر اللحظة الحاسمة بترقب، بل ولم يخف على أي شاب آخر بأن مجرد حلمه بالوصول إلى “زينب”؛ سيكون مستحيلا ما دام ابن خالتها موجودا في الطريق!! 
كيف لا.. وهو من أبرز فرسان العرب، بل ومن أبرز تجّارهم أيضا!! مما جعله يحتل مكانة مروموقة في قومه، هذا إلى جانب حسبه ونسبه ومكانته من والديّ “زينب”… باختصار.. إنه “أبو العاص بن الربيع”؛ فمن يجرؤ بعد ذلك كله على تجاوزه!!
وأخيرا… زار أبو العاص بيت خالته تلك الزيارة التي أعد لها عدة طويلة.. فاستقبله زوج خالته بحنوه وبشاشة وجهه المعهودة… فلما رآه شعر بالحرج الشديد.. فجلس صامتا، لا يدري من أين يبدأ الحديث.. وكأن زوج خالته أدرك ما يدور بخاطره، فسأله عن حاجته بحنان ليستوثق من طلبه، فلم يستطع أبو العاص سوى أن يردد حروفاً قليلة بحياء:
– أذكر زينب…..
وصمت..
فتبسم زوج خالته، وأخبره بأنه سيستأذن صاحبة الحق أولا..
مرت اللحظات على أبي العاص ثقيلة حرجة.. لم يكن يشك في القبول، لكن الموقف بحد ذاته له هيبته..
كانت الأم تنتظر هذه اللحظة بشوق، فدخلت على ابنتها وأخبرتها بطلب ابن خالتها، فما كان من الفتاة إلا أن صمتت وأرخت عينيها حياء، وقد اصطبغ وجهها بالحمرة، فتهلل وجه الأم بشرا، لتزف البشارة إلى البيت بأسره..
كانت فرحة لا توصف، حبيبين جديدين على وشك أن يبدآ قصة حب جديدة، تبشر بحياة سعيدة، لا ينغصها شيء… هذا ما كان يُخيل لجميع من حضر حفل الزفاف ذلك اليوم، غير أن للقدر حبكة قصصية أخرى… لم تخطر على بال بشر!!
انتقلت زينب إلى بيت زوجها، وقد أهدتها أمها قلادة غالية عليها، بثتها كل الحب، وكأنها تهديها رمزا من رموز ذلك الحب الذي نشأت في أكنافه، ليلازمها في حياتها وبيتها الذي أصبح مهدا جديدا له..
ورغم أن أبا العاص استمر في رحلاته التجارية، إلا أن ذلك لم يؤثر في علاقته بزينب، بل كان ذلك يزيد من قربهما لبعضهما البعض، إذ يبقى الاثنان على موعد يتجدد باستمرار بعد كل رحلة، ولطالما شدى أبو العاص بأشعار يذكرها فيها خلال غربته عنها، حتى لم يبق أحد في مكة، لم يعلم بمقدار حبه لها..
وكان من ذلك..
ذكرت زينب لما ورَّكت إرما
فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة
وكل بعل سيثني بالذي علما 
لكن الأيام لا تدوم على حالها، والبيوت تتعرض لمحن باستمرار، لتختبر صدق أهلها!! وقد آن الأوان لأصعب اختبار أن يظهر في حياة هذين الحبيبين…
كان ذلك بعد إحدى رحلات أبي العاص بن الربيع، حيث كانت زينب تنتظره بشوق شديد، وهي متلهفة للقائه لتخبره بخبر عظيم هز أرجاء مكة، وكلها أمل أن يكون عند حسن ظنها..
ولم يكد يدخل الباب حتى هرعت نحوه مستبشرة، دون أن يخفى عليها ملاحظة غشاوةٌ من حزن تغطي وجهه، فعزت ذلك لطول السفر، فأسرعت تخفف أحماله، وقلبها يخفق بشدة، إذ لم تعد تطيق الانتظار لتخبره..
لقد بُعث أبي نبيا برسالة الاسلام، لعبادة الله وحده ونبذ الاوثان، وقد أسلمتُ مع أمي وأخواتي، وقد أسلم أبو بكر وعثمان.. حتى ابن عمي الصغير علي قد أسلم، وأرجو أن تكون من السابقين للاسلام..
وأمام صمت أبو العاص، مع تلك الغشاوة التي علت وجهه؛ نبض قلب زينب بوجل.. 
ما بالك يا ابا العاص!! هل سيفوتك شرف السبق إلى الاسلام!! أيعقل أن لا تكون أحد السابقين لهذا الدين العظيم!!!!
وأخيرا باح أبو العاص بمكنونات صدره..
أرجوك اعذريني وافهميني.. لم أكن لأكذّب والدك فهو صادق أمين، وثقتي به كبيرة، ولكن… لا يمكنني اتباع دينه…. أنت تعرفين مكانتي بين القوم، فهل تقدرين وضعي؟؟؟
أسقط في يد زينب، وغشيها هم كبير لم تحسب له حسابا!!! زوجها وحبيبها وابن خالتها أبا العاص بن الربيع سيبقى على شركه؛ خشية أن يظن الناس بأنه تخلى عن دين آبائه وأجداده، إرضاء لزوجته!!! أي مصيبة هذه!!
دمعت عيناها ولكنها بذلت جهدها لتقبّل الأمر، فهي تعرف زوجها جيدا، وتدرك ما يعنيه هذا الأمر له، فهو من فرسان قريش وتجّارها المرموقين، وله كبرياؤه بينهم…
ولم يهن على أبا العاص رؤية حزنها، فضمها إلى صدره بحب.. 
أعدك بأن لا أدع هذا الأمر يعكر صفونا، وسأبذل جهدي للوقوف إلى جانبك ما حييت.. 
وهكذا لم تجد زينب بدٌ من التسليم بهذا الواقع المرير.. هي مسلمة مؤمنة تبذل جهدها لمساندة والدها وأمها في هذه الدعوة الجديدة، وزوجها مشرك وله مكانتته ومجلسه في صفوف المشركين، الذين يعملون على محاربة والدها من أجل القضاء على دعوته!!!
ومع ذلك كله.. بقيت له زوجة وفية محبة، تدعو له بالهداية دائما، وقلبها يحترق ألما كلما رأت زوجها مصرا على شركه، فيما يتزايد عدد الرجال المقبلين على الاسلام… لماذا يا أبا العاص.. لماذا!!!!!!!
ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. بل بدأت المحن تتوالى على أهلها الواحدة تلو الأخرى.. ومهما حاول الزوجان أن يتظاهرا بأن الأمور لم تؤثر عليهما.. إلا أنهما لم يكونا بمعزل عما يحيط بهما.. وربما كان بيتهما هو أقل البيوت تضررا في تلك الظروف العصيبة التي زلزلت بيوت مكة، حتى قرر المشركون إمعانا في إيذاء النبي، العمل على تطليق بناته، لعلهم يشغلوه بهمهن عن متابعة دعوته!!
فطلق ابنا أبي لهب، ابنتا الرسول صلى اهاء عليه وسلم رقية وأم كلثوم، والذي كان فكاكا لهما من رجلٍ؛ أعلن العداء جهارا لابن أخيه! بل ويكفي أنه كان فكاكا لهما من حماتهما سليطة اللسان حمالة الحطب!!
وعندما وصل الأمر بالمشركين ليطلبوا من أبا العاص تنفيذ الحكم في حق زوجته، زينب ابنة محمد، على أن يزوجوه من يختار من نساء قريش؛ وقف لهم بالمرصاد وبقوة..
كلا.. لا أطلق زينب أبدا، ولا يمكن لجميع نسائكم وفتياتكم أن يحللن محلها مهما حاولتم.. 
حتى يئست قريش منه على مضض.. ولم يكن أبا جهل ليسكت عن ذلك، فأضمر له الكيد..
حتى إذا اجتمعت قريش في أحد مجالسها ذات مرة، يتحدثون عن أحوالهم وما ينوون فعله؛ علق أبو جهل باستفزاز:
لا تنسوا أن هناك بيننا من ينقلون الأحاديث لزوجاتهم، فيفشون الأسرار….
غير أن أبا العاص لم يحتمل تلك الاهانة الصريحة، فنهض من مجلسه بغضب، صارخا فيه بحمية..
من تقصد يا هذا؟؟ وضّح كلامك إن كانت لك الجرأة على ذلك! 
ولولا تدخل الرجال بينهما لما هدأ ابن العاص حتى ينال منه..
كانت تلك الحوادث تحدث، وزينب لا تنفك عن الدعاء لأبي العاص الذي ما تخلى عنها، رغم كل ما أصابه من قومه بسببها، ليرسم بذلك أسمى لوحات الحب والوفاء، فلم تنسَ له ذلك أبدا.. وأصبحت رحلات أبي العاص أهون عليها من رؤيته في مكة مصرا على شركه، فيما تزداد أعداد المسلمين يوما بعد يوم..
غير أنها كانت تؤمل بأن تكون الأيام القادمة أفضل، فلم تكن لتفقد الأمل بالله أبدا.. ولكن لله سنن، فيها اختبارات وابتلاءات يمحص من خلالها عباده، ليرى صدقهم.. 
فجاء الحصار الظالم ابتلاء عظيم للمؤمنين، بل ولبني هاشم جميعا.. كان قرارا بلغ فيه الظلم منتهاه عندما أعلنت قريش حصارها لبني هاشم، الذين انحازوا في شعب أبي طالب، حماية للرسول صلى الله عليه وسلم، لقد أُعلن القرار ببنوده على الملأ.. فلا يتزوجون منهم ولا يبتاعون ولا يشترون.. وصمد بنو هاشم والمسلمون إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الشعب، الذي كانت فيه زوجته خديجة إلى جانبه، مع ابنتاهما ام كلثوم وفاطمة.. أما رقية فقد كانت في الحبشة مع زوجها عثمان، في حين كانت زينب لا تزال في بيت زوجها أبي العاص ابن الربيع، ترقب تلك الأحداث بحزن وألم، فلم تكن لتقف مكتوفة اليدين وهي ترى أهلها والمسلمون الضعاف يتضورون جوعا، فعزمت أمرها لتكون ضمن أولئك الذين يحملون الطعام سرا لشعب بني طالب إذا جنح الظلام.. ولم يكن أبا العاص ليخفى عليه ألمها الشديد، فلم يكن ليمنعها ويحول بينها وبين ذلك، بل كان من أكثر الداعمين لها في ذلك الموقف.. طوال ثلاث سنوات مريرة من الحصار..
حتى إذا ما فُك الحصار وفُرج عن المسلمين بعد تلك المحنة العصيبة- وذلك بعد أن وقف بضعة رجال من قريش موقف رجولي عادل، في قصة سطرها التاريخ- حلت فاجعة جديدة، وكأن المحن أبت إلا أن تتوالى على زينب وعلى المسلمين، فلم تكد الفرحة تغمرهم بانتهاء الحصار، حتى فجعوا بموت السيدة خديجة التي أنهكها المرض والاعياء خلال السنوات الثلاث.. وكان مصاب الرسول صلى الله عليه وسلم فيها عظيما، فهي أحب الناس إليه، زوجته الحبيبة التي وقفت إلى جانبه بكل ما تملك، ليقول عنها فيما بعد:
“ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها ؛ قد آمَنَتْ بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذا حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء”
تلى ذلك وفاة أبو طالب العم الحاني الذي كان درعا لابن أخيه رغم مخالفته لدينه!! حتى سمي ذلك العام بعام الحزن… وقد كان الحزن فيه حزنا بمعنى الكلمة…
حاول أبو العاص بذل قصارى جهده للتخفيف عن زوجته التي بلغت آلامها ذروتها بفقدان أمها، ومصاب أبيها، لا سيما وقد وجدت قريش فرصة لتنال منه بعد وفاة عمه… هذا إلى جانب قلقها على أخواتها.. لا سيما اختها الصغرى فاطمة، التي كانت بمثابة ابنة لها.. فأي ألم بعد هذا كله!!.. وهي مع ذلك حريصة على القيام بحقوق زوجها، الذي كان يكفيه منها حبها الكبير له، ومشاعرها الفياضة تجاهه..
ومرت الأيام.. ولا يزال أبو العاص على شركه، وحبه في الوقت نفسه.. ولا تزال زينب على ايمانها وحبها.. يؤكد على ذلك طفليهما الصغيرين أمامة وعلي، الذين حاول والداهما غمرهما بالحب، ليعوضا عن كل تلك الأحداث العصيبة التي تحيط بهما، إلى أن بدأ المسلمون بالهجرة سرا أو جهرا إلى المدينة، إذعانا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ليجن جنون قريش، فبدؤا بحبك الخطط خشية أن يفر الرسول من بين أيديهم، فينشر دعوته بين العرب دون أن يملكوا له شيئا… وازداد عدد المهاجرين، ولم يبق في المدينة إلا القلة القليلة… وأخيرا حانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، في حدث عظيم، أصبح تاريخا للمسلمين يؤرخون بها الحوادث والايام!! وهاجرت أخوات زينب كما هاجر معظم المسلمين.. هاجرت رقية مع زوجها عثمان مع المهاجرين السابقين، ثم هاجرت أم كلثوم وفاطمة.. وهكذا.. وجدت زينب نفسها وحيدة في بيت زوجها.. الذي كان يشعر بحزنها وآلامها حتى إن لم تقل له شيئا.. فلا يملك إلا أن يحاول تعويضها عن كل ذلك حبا وحنانا واحتواء، فيما كانت أقصى أمنياتها في ذلك الوقت؛ أن يسلم لتهاجر معه ومع أولادهما، ليلتحقوا جميعاً بركب المسلمين..!!
وأخيرا.. جاء أصعب موقف وجدت زينب نفسها فيه… المشركون في مكة.. سيخرجون لمحاربة المسلمين في المدينة… ووالدها قائد جيش المسلمين، الذين تسأل الله لهم النصر والتمكين، أما زوجها فهو فارس من فرسان قريش الأقوياء، ووجوده في المعركة ضروري جدا أمام قومه، لذا سيخرج في جيش المشركين!!
والدها في جانب… جانب الحق الذي تؤمن به وتتمنى نصره، وزوجها في جانب المشركين!! جانب الباطل الذي تخشى أن يلقى حتفه في ظلاله، فيكون فراقها له أبديا!!!
ولم يكن أبو العاص محبا للخروج في تلك المعركة، ولم يكن يرغب بقتال المسلمين، ولا حاجة له بذلك، وقد حاول طمأنة زينب بأن خروجه للمعركة شكلي فقط، ولكن… أنى لها أن تطمئن!!
مرت تلك الأيام ثقيلة عصيبة على قلب زينب، لم تجد أمامها شيئا تفعله فيها سوى الابتهال إلى الله بدموع عينيها، وبكل ما يحمله قلبها من حرقة، أن ينصر والدها والمسلمين، ويرد لها زوجها سالما ويهديه لطريق الحق المستقيم..
وبقيت متأهبة تتبع الأخبار بقلق، حتى جاءها الخبر اليقين.. لقد انتصر المسلمون، ووقع زوجها بالأسر!
وعرفت أن أهالي الأسرى بدؤا بافتداء أسراهم، فهرعت إلى مالها لتفتدي به زوجها، غير أنها لم تجد لديها ما تفتديه بها؛ أغلى من قلادة أمها الراحلة خديجة.. فدمعت عيناها تأثرا لذكرها.. وذكرى ذلك اليوم..الذي أهدتها فيه هذه القلادة.. يوم زفافها إلى أبي العاص بن الربيع..!! وها هو أبو العاص في الأسر… أفلا تفتديه بقلادة كانت وما زالت رمزا للحب!!
وهكذا حزمت أمرها، وأرسلت أغلى ما تملك؛ لفداء زوجها حبا ووفاء..
وكأن القلادة أبت أن يكون ذلك آخر عهدها في سلسلة الحب، فما أن رآها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى عرفها، فرق لها رقة شديدة، ودمعت عيناه تأثرا لذكرى خديجة.. 
كان موقفا مهيبا اختلطت فيه المشاعر، أبو العاص يرى وفاء زوجته “زينب” له، وهي تفتديه بأغلى ما تملك، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يذكر زوجته الحبيبة خديجة التي كانت نعم المعين له، فما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم، إلا أن استأذن صحابته الكرام بقوله:
(إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيْرَهَا، وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الذي لها) 
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم، إلا ليسارعوا لتلبية رغبة حبيبهم ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا بصوت واحد دون أي تردد:
نعم.. نفعل يا رسول الله..
تلك القلادة… لم تكن مجرد قلادة، بل كانت رمزا قويا للحب والوفاء…
وهكذا.. أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم القلادة لأبي العاص، وطلب منه أن يعيدها لزينب، ثم أسرّ له بسر خطير.. كاد قلب أبو العاص أن يتوقف له ألما… غير أنه، هز رأسه موافقا، وهو يحاول اخفاء دمعات كادت أن تنفر من عينيه، مجيبا بقوله:
أعدك بذلك..
وانطلق أبو العاص عائدا إلى مكة.. ولكن… لم تكن عودته هذه المرة كأي عودة، كيف له أن يخبر زينب بذلك.. كيف!! كان يتمنى أن يهرع إليها، لعله يعبر لها عن حبه الكبير وتقديره لما فعلته من أجله، أما الآن… فقد تلاشى ذلك اللقاء الحميم المتخيل في غياهب الأمنيات البعيدة… 
أما زينب التي كانت تنتظر لحظة عودته بفارغ الصبر؛ فقد راعها مظهره وجموده، فخفق قلبها بشدة… ما الذي جرى؟؟ فأشاح بوجهه عنها، كي لا تلحظ دمعات تهز رجولته:
تجهزي للحاق بأبيك يا زينب.. فقد حرّم الاسلام على المسلمة البقاء تحت رجل مشرك.. وقد وعدتُ والدك بردك إليه وإرسالك للمدينة..
وما أن سمعت زينب ذلك، حتى خشع قلبها.. هذا أمر الله إذن… لم يعد أبو العاص زوجها بعد الآن!!
غير أنها سألته وهي تحاول السيطرة على مشاعرها..
أفلا تسلم يا أبو العاص.. فنهاجر معا؟!!
ولكن.. (إنك لا تهدي من أحببت)..
ولم تكن زينب إلا لتسلّم بقضاء الله، ممتثلة لأوامره، فأسرعت تجهّز عدتها…
ولم ينسَ أبو العاص إعادة القلادة لها، ناقلا وصية أبيها إليها..
إياك أن تفرطي في هذه القلادة مرة أخرى..
وكأن أبا العاص حاول التخفيف عنها، فهو إن لم يذهب معها، فهناك جزء منه سيرحل معها:
سيبقى طفلينا معك.. فاعتني بهما..
ولسان حاله يقول.. حبك محفوظ في قلبي رغم الفراق..
رحمك الله يا أبا العاص.. حتى في فراقك كنت رحيما محبا ووفيا..
ولم يكن أبا العاص ليبقى في ذلك المكان أكثر، ليشاهد آخر لحظاته مع زينب، فأسرع نحوه أخيه “كنانة” الذي كان من أقرب الناس إليه، فهو أخوه الذي ييثق به، ويستأمنه على أموره، فطلب منه مرافقة زينب وأولاده ليوصلهم إلى المدينة، وأوصاه بالعناية بهم في الطريق.. ولم يخف على كنانة، معاناة أخيه باتخاذه ذلك القرار، وهو يعلم تماما مقدار حبه لزينب.. فطمأنه بأنه سيبذل جهده في ذلك.. ويكون عند حسن ظنه..
ودّع أبو العاص طفليه (أمامة وعلي)، فضمهما إلى صدره وهو يبثهما كل ما يمتلك من مشاعر.. 
لا تزال أمامة صغيرة.. ولكنه كان يأمل أن تفهمه، وما زال علي طفلا صغيرا، لكنه بنظره سيكون الرجل الذي سيخلفه ليذكّر زينب به.. رغم أنها هيهات أن تنساه!
اعتنوا بأمكما جيدا.. ولا أريد أن أسمع عنكما إلا كل خير.. إياكما أن تسببا لها المشاكل.. إنني اعتمد عليكما..
لم يستطع وداع زينب، فابتعد عنها ليترك زمام القيادة لأخيه “كنانة”، والذي قدم لها بعيرا، فركبته، وخرج بها وهي على راحلتها في وضح النهار، متجها نحو المدينة، بعد أن حمل قوسه وسهامه، غير أن كفار قريش لم يتركوه وشأنه، فلاحقوه، فيما قام هبار بن الأسود بترصد زينب حتى روعها برمحه، ناخزا ناقتها، حتى سقطت فوق صخرة، سالت عليها دمائها الطاهرة، وكانت حاملا فأجهضت.. وما أن رأى كنانة ما حل بها، حتى كاد أن يفقد صوابه، وقد ثارت حميته، فتصدى للملاحقين ووقف حاميا لها دونهم، ونثر سهامه أمامهم وهو يشد قوسه، متوعدا كل من يفكر بالاقتراب منها بقتله دون تردد، وكان معروفا بمهارته، إذ لم يُخطيء له سهم!
“وَاللهِ لاَ يَدْنُو أَحَدٌ إِلاَّ وَضَعْتُ فِيْهِ سَهْماً”
عندها تدخل أبو سفيان بقوله:
“كُفَّ أَيُّهَا الرَّجُلُ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ
فأرخى كنانة قوسه، ليستمع لأبي سفيان الذي قال له:
إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ، خَرَجْتَ بِالمَرْأَةِ عَلَى رُؤُوْسِ النَّاسِ عَلاَنِيَةً، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيْبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ مُحَمَّدٍ، فَيَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ ذُلٍّ أَصَابَنَا، وَلَعَمْرِي مَا بِنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيْهَا مِنْ حَاجَةٍ، ارْجِعْ بِهَا، حَتَّى إِذَا هَدَتِ الأَصْوَاتُ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّهَا سِرّاً، وَأَلْحِقْهَا بِأَبِيْهَا”
كان كلام أبو سفيان مقنعا، فلم يجد كنانة بدا من الرجوع بزينب إلى بيت زوجها، لا سيما وأنها بحاجة لمداواة جراحها النازفة، وهو يتخيل مشهد أخيه إن عرف بما حدث لزينب.. فيزداد ألما على ألم..
كان ذلك خارج إرادتي.. سامحني أخي… أعدك أن لا يمسها سوء مرة أخرى، حتى تصل سالمة لأبيها..
كان اختبارا قاسيا لأبي العاص.. فهو يعلم أن زينب لم تعد زوجة له، ولا يحق له الاقتراب منها.. ولولا أنه ما أخلف وعدا قطعه على نفسه قط، لما سمح لها بالذهاب!
ولولا إيمان زينب القوي بالله، وحرصها على تطبيق أوامر ربها.. لما استعجلت السفر.. رغم جراحها.. فلم تمضِ سوى ليال قليلة، حتى خرج بها “كنانة” مرة أخرى في هدوء الليل، إلى أن أوصلها إلى مشارف المدينة، حيث كان زيد بن حارثة – رضي الله عنه- مع رجل آخر من الانصار في استقبالها، فأكملوا المسير معها إلى أن دخلت المدينة، لتلتقي بوالدها الحبيب – صلى الله عليه وسلم- وأخواتها والمسلمين.. غير أن فرحتها بلقاء هؤلاء الأحبة، لم تكن لتكتمل ما دام أبو العاص لا يزال على شركه… ولكنها مشيئة الله، ولم تكن بالتي تسخط على قضائه… فالحمد لله على كل حال…
انتقلت زينب مع طفليها إلى بيت جديد إلى جوار والدها- صلى الله عليه وسلم- والذي أحاطها وأحاط طفليها بكل الحب والرعاية، فكان نعم العوض لها عن كل ما مرت به، كيف لا وهو الأب الحاني العطوف، والجد الرؤوف، الذي لم يكن يمانع في حمل حفيدته الصغيرة “أمامة”، حتى في صلاته في المسجد، إذ كان يحملها إذا وقف قائما، ثم يضعها إلى جواره إذا سجد، حتى ينتهي من صلاته وهي معه.. فكان نعم العوض لهذه الطفلة عن أبيها.. بل كان خيرا لها منه..
فصلى الله على الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم..
ورغم انشغال زينب بأمور الحياة، وهموم المسلمين، ومسؤليات بيتها وأطفالها، إلا أن ذلك كله لم يُنسها “أبو العاص”، الذي ما فتأت تذكره في صلواتها ودعائها دون أن تفقد الأمل بربها، وكلها يقين بأن هذا امتحان من الله لصبرها.. ولم يكن هذا ليخفى عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، فلم يأمرها بالزواج مرة أخرى، بعد أن أغلقت أبوابها دون الخطاب، حتى وإن تقدم لها كبار الصحابة وعظماؤهم.. وكلهم يرجو مصاهرته، صلى الله عليه وسلم..
كان- صلى الله عليه وسلم- يعلم بأنها لم تفارق أبا العاص إلا امتثالا لأمر الله، رغم حبها الشديد له، ولم تكن تلك المكانة لأبي العاص في نفس زينب وحسب، بل كانت له مكانته أيضا عنده، صلى الله عليه وسلم، فلطالما ذكره بالخير.. إذ أثنى عليه رغم شركه:
“أبو العاص حدثني فصدقني ووعدني فوفاني”
وقد روي عنه قوله بما معناه: أبو العاص ما آذانا في ابنتنا قط.. و”ما ذممناه صهرا”
ويشاء الله أن تمر الأيام تلو الأيام، والأشهر تلو الأشهر، بل ومرت السنوات، ولا خبر عن أبي العاص بن الربيع..
وهكذا يمحص الله القلوب المؤمنة، فلم يزد ذلك زينبا إلا قربا من الله، وتعلقا به، وهي تناجيه وتدعوه بيقين المؤمنين الصادقين.. أن يهدي أبا العاص بن الربيع، ولا يمته على الكفر، ويقر عينها برؤيته مسلما…
كل ذلك وجسدها يزداد ضعفا يوما بعد يوم، إذ أن جراحها من وقت الهجرة لم تُمحَ آثارها، فقد كانت سقطتها قوية، وجرحها لا يزال غائرا!! 
أجل.. لم يكن فعل الهبار بن الأسود ليغتفر! فأن يستأسد رجل قوي على امرأة ضعيفة، لا حول ولا وقوة لها، جريمة كبيرة، لا مكان لها في المنطق العربي، بل وخارج العرف الانساني بأسره!! فلا عجب أن غضب لها الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى أنه أمر بحرق ذلك المجرم على من ظفر به، غير أنه- صلى الله عليه وسلم- استدرك بأنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار، فأمر بقتله فقط، بعد أن أهدر دمه..
كانت زينب تشعر بدنو أجلها بين لحظة وأخرى.. غير أن ذلك كله لم يكن ليضعف عزيمتها، أو يقنطها من رحمة ربها.. ست سنوات مضت وهي على تلك الحال.. حتى جاء ذلك اليوم..
كان الوقت سحرا، والمسلمون يتأهبون لصلاة الفجر، عندما سمعت صوت طرقات خفيفة على بابها..
فمن هذا الذي يزورها في مثل هذا الوقت!!!
وإذ بصوتٍ تعرفه جيدا، يناديها باسمها همسا:
زينب.. هذا أنا.. أبو العاص بن الربيع..
لم تكد تصدق أذنيها!!
أبو العاص بن الربيع..! بشحمه ولحمه!!! هل هذا حلم!!
وسرعان ما تذكرت بأنه لم يعد من محارمها، فارتدت حجابها، وسألته بلهجة جادة، لم تشأ أن تستبق من خلالها الأحداث، رغم خفقان قلبها.. فهل تراها اللحظة التي أذن الله بها بإجابة دعائها!
ما الذي جاء بك يا ابن الربيع؟ 
فأجابها بانكسار:
جئتك مستجيرا يا زينب.. فقد تمكن أصحاب والدك من قافلتي، غير أنني فررتُ منهم، فهل تجيرينني؟
صور كثيرة مرت بخاطر زينب في تلك اللحظات، غير أنها جمعت شجاعتها، واتخذت قرارها، فأدخلته إلى منزلها، وخرجت هي منه.. حتى إذا ما كبّر الرسول صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، ودخل المسلمون في الصلاة خلفه، صرخت بأعلى صوتها:
“أيها الناس قد أجرتُ أبا العاص بن الربيع فأجيروه..”
وما أن سلم الرسول صلى اله عليه وسلم من الصلاة، حتى التفت إلى أصحابه رضوان الله عليهم:
“أيها الناس هل سمعتم الذي سمعت”؟
قالوا نعم..
قال:
“أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء حتى سمعتموه، وإنه يجير على المسلمين أدناهم”
ثم ذهب- صلى الله عليه وسلم- إلى ابنته التي هرعت إلى استقباله مبررة فعلها..
يا رسول الله.. إن أبا العاص إذا قَرُب فابن خالة، وإذا بَعُد فأبو ولد!
فطمأنها الحبيب صلى الله عليه وسلم، بأنه قبل إجارتها، مذكرا إياها:
“أي بنية، اكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له”
وقد كانت رضي الله عنها وأرضاها حريصة على طاعة أمر ربها، فلم تكن لتتجاوز حدوده أبدا..
ولم يكن أبا العاص ليتجاوز الحدود بينهما أيضا، فشهامته تأبى عليه ذلك، فاكتفى بالجلوس مع طفليه الذين طالت غيبته عنهما.. 
أما آن لك أن تسلم يا أبا العاص!!
وَبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِيْنَ أَصَابُوا مَالَهُ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالاً، فَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَرُدُّوْهُ، فَإِنَّا نُحِبَّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللهِ، فَأَنْتُم أَحَقُّ بِهِ).
قَالُوا: بَلْ نَرُدُّهُ
وفي مسجد النبي حيث اجتمع الحبيب صلى الله عليه وسلم بأصحابه، بعد أن أجلس أبو العاص إلى جواره، وقد أثنى عليه وعلى أخلاقه، بدأ المسلمون بإعادة كل ما غنموه من تلك القافلة، حتى لم يبق لهم منها شيء، وأبو العاص يرى ذلك أمامه بتأثر.. ولم يكن من دأب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُكره أحدا على الاسلام، فلم يجبر أبو العاص على ذلك، محترما خياراته، فما كان من أبي العاص إلا أن جمع أمواله، ثم اتجه إلى مكة عائدا بها، حتى إذا ما وصلها، وأعاد الحقوق إلى أصحابها- إذ كان تاجرا مؤتمنا لدى قريش- قال:
“يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَلْ بَقِيَ لأَحَدٍ مِنْكُم عِنْدِي شَيْءٌ؟
قَالُوا: لاَ، فَجَزَاكَ اللهُ خَيْراً فقد وجدناك وفيا كريما…
قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَاللهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الإِسْلاَمِ عِنْدَهُ إِلاَّ خَوْفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالِكُم”
قال كلماته تلك وانطلق باتجاه المدينة، ليترك القوم خلفه في ذهولهم، بعد أن خسروا أحد أبرز رجالهم، ممن اجتمعت لهم الفروسية والتجارة، ليزيد بذلك رصيد المسلمين من تلك النخبة..
وأخيرا.. اقتربت لحظة اللقاء.. وكبّر المسلمون فرحا بإسلام أبو العاص، الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، بوجه جديد مشرق بنور الايمان والتوحيد..
ما أشبه اليوم بالبارحة.. هاهو يطلب يد زينب من والدها مجددا.. ومشاعره نحوها لم تتبدل أو تتغير، بل لقد ازدادت في قلبه تدفقا..
وخفق قلب زينب ودمعت عيناها.. فسجدت لله شكرا.. أن هدى أبو العاص للتوحيد وانقذه من براثن الشرك..
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.. لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى..
والتقى الحبيبان مرة أخرى، لينعما بعظيم فضل الله على عباده.. لقد قطفت زينب ثمرة صبرها، فشكرت.. لتكون مثالا للمؤمنة الصالحة الصابرة الشاكرة في اختلاف الاحوال..
غير أن طبيعة الحياة تأبى الاستمرار على وتيرة واحدة، وكأن زينب قد استنفدت طاقتها في التجلد طوال السنوات الماضية، وقد أقر الله عينها أخيرا بعودة زوجها لها.. وآن لها أن تستعد لملاقاة خالقها.. بعد أن اشتد بها الوجع.. فلم يمضِ على اجتماعها مع أبو العاص أكثر من سنة واحدة، انتقلت بعدها إلى جوار ربها، متأثرة بجراحها القديمة، حتى رأى البعض أنها ماتت شهيدة.. وقد كان ذلك في السنة الثامنة للهجرة..
حزن عليها الحبيب صلى اهنة عليه وسلم، وحزن عليها أبو العاص حزنا شديدا، فبكى بكاء مريرا، حتى أبكى من حوله.. وربما قام البعض بلومه على ذلك، غير أن الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو أرحم الخلق، روي عنه قوله لهم- صلى الله عليه وسلم:
دعوه.. فإن مصابه عظيم..
وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من النسوة اللاتي غسّلن زينب، أن يخبرنه إذا انتهين، قائلا:

“اغسلنها وتراً، ثلاثاً أو خمساً، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئا من كافور، فإذا غسلتنها،فأعلمنني. فلما غسلناها أعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه.

” ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قبرها، وهو مهموم ومحزون، فلما خرج سري عنه وقال: كنت ذكرت زينب وضعفها، فسألت الله تعالى أن يخفف عنها ضيق القبر وغمه، ففعل وهون عليها””.

فصلى الله على الحبيب محمد، خير زوج وخير أب، وخير حمى وخير جد، وخير صاحب وخير قائد.. خير خلق الله أجمعين.. صلى الله عليه وسلم
ورضي الله عن السيدة زينب.. نعم المؤمنة الصابرة.. ونعم الابنة البارة الصالحة، ونعم الزوجة الوفية المحبة المخلصة..
ورضي الله عن أبي العاص بن الربيع.. نعم الرجل الشهم الوفي الأمين.. ونعم الزوج المحب..ونعم الصهر البار..
ورضي الله عن صحابة الرسول أجمعين، وبناته الطاهرات وزوجاته أمهات المؤمنين..
رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى في عليين..


وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

*(أعطانا حقوه): الحقو وهو مايشبه الحزام كان يربط عند الخصر قديما..

تركته لأجلك! – الحلقة 40

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

أغلقت نور هاتفها وهي ترخي رأسها على مقعد الطائرة، بعد أن تفحصته للمرة العاشرة لعلها تجد شيئا من سوسن، وتحاول اقناع نفسها مهدئة:
– خير إن شاء الله..
مسترجعة آخر حديث دار بينها وبين سوسن قبل يومين، عندما سألتها عن بعض الأمور الفقهية في الطهارة والصلاة، بعد أن أنهت قراءة كتيب في الفقه الميسر نصحتها به سابقا، كما حدثتها عن إنهائها لكتاب الشيخ علي الطنطاوي “تعريف عام بدين الاسلام” ومدى تأثرها به وإعجابها بأسلوبه، أخبرتها بالكثير مما قرأته وتخطط لقراءته..
فابتسمت في سرها مستبشرة:
– إن سوسن تتقدم باستمرار ما شاء الله، لن أتعجب إن فاجأتني بخبر حجابها قريبا..
غير أنها سرعان ما تذكرت الظروف المحيطة بها، فرددت من أعماقها:
– يارب.. ثبتها على الحق والدين، واهدها الصراط المستقيم، ووفقها لما تحب وترضى يا كريم وطمئن قلبي عليها يا أرحم الراحمين..

***

لم تشعر سوسن بعذاب كالذي شعرته في ذلك الوقت.. كانت تقنع نفسها جاهدة بأن الأمور لن تتجاوز ذلك الحد- الأليم بحد ذاته! فهذا وضع طبيعي في عالم “الفن!!”.. عازف يشارك مغنية.. أو ممثلة وحتى… راقصة!! كلهن سيان… متجاهلة معرفتها المسبقة بنوايا سورا الواضحة تجاه أيهم، والتي تمكنت بصعوبة من تجاوز قلقها بشأنها في الفترة الأخيرة.. لكنها هاهي تصر على إثارة مخاوفها وقلقها من جديد..
حتى ذلك التجاهل لم يعد يجدي نفعا أمام ما تراه الآن أمام عينيها، وتشهد عليه بنفسها..
لقد باتت الأمور واضحة لها الآن ولا شك في ذلك..
لم تكن سورا لتغيب عن الساحة مؤخرا إلا لهدف.. وها هي قد أحكمت قبضتها، وربحت الجولة!!!
وكأن تلك الحركات المتعمدة لاستمالة أيهم لم تكن كافية لطعن سوسن في صميم قلبها، فما زالت على قيد الحياة وما زال بإمكانها احتمال المزيد على ما يبدو، إذ راعها انضمام أيهم فجأة لمراقصة سورا بإيحاء منها، في حركة أثارت انبهار الحضور، فتعالت صيحات الاعجاب والتصفيق الحار، أمام تجاوبه معها بتلقائية، كمن يتبع إشارات (مايسترو) محترف، فينفذها تماما كما يريد ومن دون نقاش!!
تمنت سوسن لو انهى قضت نحبها قبل أن تسُقها قدماها لحضور مشهد كهذا! ولم يعد بإمكانها استحداث حجج واهية أخرى تهدئ بها نفسها من أن أيهم ما فعل ذلك إلا مجاملة لها، وأنه لم يكن ليرفض طلبها أمام تصفيق الجموع وتشجيعهم، بل بدا لها مغيبا تماما وهو يغرق في عالم سورا وحدها!!
لم يلتفت نحوها وهي خطيبته الحبيبة كما يقول ولا حتى مرة واحدة منذ أن صعدت سورا المنصة، ولم يبد أنه قد شعر بوجودها في المكان وهو يشارك سورا رقصتها.. بل لقد بدا كمن نسي أن لها وجودا في هذا العالم كله!
كيف لم تنتبه لهذا من قبل!! إنها معزوفة أيهم التي أخبرها ذات مرة، أنها ما كانت لترى النور لولاها! وما حركات سورا الراقصة التي تراها، وانضمام أيهم لها بعد ذلك إلا تجسيدا لمقاطعها، وها هي سورا على وشك تجسيد الفقرة الأخيرة فيها.. “القبلة الأزلية”!!!
كلا.. لا يمكنها مشاهدة المزيد!! ولا يمكنها احتمال البقاء في المكان أكثر، إذ لم يعد في قلبها خلية سليمة يمكن لسهم جديد اختراقها، لقد انفجر المرجل أخيرا..
فجرت خارج القاعة، وهي تجهش ببكاء لم تتمكن من كتم نحيبه، أخذت تجري دون أن تعرف وجهة محددة تذهب إليها، وسياط اللوم تكويها من جهة..
– لماذا لا تتعلمين من أخطائك!! ألم تمري بحالة مشابهة في حفلة سابقة!! إلى متى ستحتملين هذا العذاب ثم تنهارين هكذا فجأة وعلى الملأ!! كان عليك أن تحسبي حساب هذا من قبل!!
وسياط القهر تكويها من جهة أخرى..
– لماذا يا أيهم.. لماذا تطعنني في قلبي وأمام عيني!! لماذا لا تفكر بمشاعري ولو للحظة!! ألم أفعل كل شيء لأرضيك!! حتى حجابي.. تركته من أجلك… كل هذا.. لأنني أحبك.. أفهكذا تدوس على قلبي حتى تسحقه!! أهذا هو الحب العميق الذي سنجتاز به عقبات الحياة!!!
تمنت لو تنشق الأرض وتريحها من هذا العالم، لو أن أمها ما ولدتها، لو أنها…..
ولم تشعر بنفسها إلا وهي بين ذراعين تلقتاها بحنان بالغ، لتضماها بشدة، فيما انخرطت هي ببكاء شديد لم تستطع إيقافه..
ولم تدر كم مر عليها من الوقت وهي على تلك الحال، قبل أن تنتبه لنفسها مرددة:
– أيهم؟؟!!
غير أن صوتا آخر مألوفا لديها أجابها:
– هل أنت بخير يا سوسن؟
فرفعت رأسها نحوه، لتهتف بدهشة:
– الاستاذ سامر!!!
وبسرعة.. انتزعت نفسها منه بصعوبة، وهي تبذل جهدا كبيرا حتى لا تفقد وعيها وهي بين ذراعيه، وتراجعت خطوتين إلى الوراء.. لتقول له دون تفكير:
– لماذا أنت هنا.. أستاذ سامر؟
ورغم سحابة الحزن التي خيمت على وجهه إلا أنه أجابها بابتسامة حانية:
– لأراك.. وأقف إلى جانبك..
غير أن الهتاف الذي علت نبرته من داخل القاعة، أبى إلا أن يذكرها بمأساتها، فالتفتت نحو المنصة البادية من الشرفة، لتراع بما تفضل (لو تُقتل ألف مرة) على رؤيته!! ولم يخفَ على سامر فهم ما بها وهو يرى آخر مشاهد “القبلة الأزلية”، حيث شخصت عينا سوسن، فأسرع يسندها قبل أن تسقط مغشيا عليها من الكرب الشديد، الذي سرى في أنحاء جسدها دون أن يترك فيه شيئا لم يتضرر.. قدماها لم تعودا تقويان على الحراك، ذراعاها ارتختا، وحتى دموعها.. جفت من مآقيها!!
أخذ سامر يهزها من كتفيها برفق وهو يسندها على كرسي أجلسها عليه:
– إنه لا يستحققك أبدا؛ فلماذا تهمّين نفسك من أجله!! أرجوك يا سوسن.. لا تدمري نفسك من أجله، فهناك من يحبك بصدق ومستعد للتضحية بحياته من أجلك… إنني أنا يا سوسن.. أنا سامر الذي لم يستطع العيش لحظة واحدة منذ أن رآك دون التفكير بك.. لقد أتيت هنا لعلي أراك، ولم يكن لي هم سوى ذلك.. أقسم بأنني سأعمل على إسعادك وتحقيق كل ما تريدين.. أرجوك.. فكري بقلب يتعذب في اليوم ألف مرة ببعده عنك.. تماسكي أرجوك.. من أجلي…
لم تكن سوسن تعي ما يقوله سامر، فقد كانت ذاهلة تماما عما يدور أمامها، وقد بدأت تغرق في الظلام الملتف حولها، وهو يمد بأذرعه الأخطبوطية ليخنقها..
ظلام في ظــــــلام في ظـــــــــــــــــــــــــــلام في ظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــلام
ألا من بصيص نور ينقذها!!!!!

***

لم تكد نور تفتح هاتفها بلهفة بمجرد هبوط الطائرة، حتى سرّها استقبالها لتنبيه حول اتصالين من سوسن، وقبل أن تضغط على زر إعادة الاتصال بها، أتاها الاتصال الثالث منها فردت عليها بلهفة:
– الحمد لله أنني تمكنت من سماع صوتك قبل أن نغادر البلاد….
فما راعها إلا صوتٌ ذكوري يجيبها:
– عفوا.. أرجو المعذرة يا سيدة نور لاتصالي المفاجئ بك، معك الاستاذ سامر وقد اتصلت للضرورة بناء على رغبة سوسن..
ألجمت الدهشة فم نور، وعقدت لسانها بشدة، وغاص قلبها أسفل قدميها..
الاستاذ سامر؟؟ ما الذي يجري .. ماذا أصاب سوسن، هل هي بخير؟؟؟؟؟ لطفك يارب..
فيما تابع سامر كلامه أمام صمتها:
– إنها في غرفة العناية، إثر صدمة نفسية عنيفة أفقدتها وعيها، لكنها أفاقت قبل قليل وطلبت الحديث معك فورا، لذا أرجو منك أن لا تثقلي عليها بالحديث من فضلك..
أخذ قلب نور يدق بشدة، وآلاف التساؤلات تزدحم في رأسها من جديد حتى كاد أن ينفجر بها..
لماذا سامر هو من يدير لها الاتصال؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تربطه بسوسن ليحدثها بهذه الطريقة!! أين أيهم عنها؟؟ هل حدث مكروه؟؟ هل وهل….
وأخيرا جاءها صوت سوسن الواهن بجملة واحدة فاجأتها:
– ما هو الحب يا نور؟
 
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 39

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

أشرق وجه سوسن بابتسامة عريضة، وهي تزهو بحجابها الأنيق الذي أخفى شعرها وستر جسدها، قائلة بمرح:
– ما رأيك بهذه المفاجأة؟؟ أردتك أن تكون أول من يطلع عليها يا أيهم..
غير أن تجهم وجهه الشديد أربكها، فقالت بتردد:
– ألم يعجبك لباسي؟
فما كان من أيهم إلا أن أشاح بوجهه بعيدا عنها، قبل أن يتنهد بنبرة لا تخلو من حسرة:
– لقد خيبتِ أملي يا سوسن!
شعرت سوسن بغصة حاولت تجاهلها:
– لماذا يا أيهم!! أريد أن أكون لك وحدك..
إلا أنه لم يُعِر جملتها اهتماما يُذكر، وهو يرد عليها بقوله:
– لم أتوقع منك الاستسلام بسهولة لكلام أولئك الحاسدات.. ظننتك أقوى من ذلك بكثير!
فأسرعت سوسن تدافع عن نفسها قائلة:
– كلا يا أيهم، ليس الامر كما تظن.. إنها قناعة مني، ثم إن هذا أمر من الله….
فقاطعها أيهم:
– سوسن.. لا تتحدثي كالمعقدين أرجوك.. فالله غفور رحيم ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وهذا ليس من وسعنا أبدا ولا يناسبنا، أنت تعرفين ذلك يا عزيزتي..
ورغم تفاجؤ سوسن بمنطق أيهم، لا سيما وأنها المرة الاولى التي تسمع فيها استدلاله بآية من القرآن، إلا أنها أجابته بقولها:
– ولماذا لا يناسبنا!! حتى لو لم يكن هذا أمر من الله، إنني أجد فيه راحة نفسية لي..
عندها بدأ كلام أيهم يسلك مسارا أكثر رقة وهو يقول لها:
– أتفهم موقفك يا سوسن، ولكن هذا لا يناسب مهنتي أبدا، وما لا يناسبني لا يناسبك، ألسنا واحدا!!
وأمام صمت سوسن، تابع أيهم بتودد:
– المهم هو سلامة القلب يا حبيبتي، انظري إلى أخلاق المحجبات السيئة، فهل يسرك أن تكوني مثل سعاد مثلا!!
فردت عليه سوسن بتعحب:
– ولماذا أكون مثلها هي بالذات، أنا لم أقل أنني أريد ذلك، ثم إنه لا دخل للحجاب بتلك الأخلاق التي تتحدث عنها..
وأمسكت لسانها قبل أن يفلت بذكر اسم “نور”، بعد أن همت أن تضربها مثلا لحسن الأخلاق، وقد تذكرت ما يسببه اسمها من حساسية عند أيهم، في حين تابع الأخير كلامه:
– سوسن.. دعيك من التفكير بتلك الطريقة الآن فهي لن تفيدنا بشيء، لا سيما وأن أمامنا حفل النجوم الشهير الذي يتوجب علينا التفكير جديا بالإعداد له.. لذا ركزي على ما حققتيه من نجاح…..
فقاطعته سوسن بنبرة أليمة:
– أنت بقولك هذا تؤكد قول من يقول بأنني لم أكن لأصل إلى ما وصلت إليه لولا مظهري الذي بدأتُ أكرهه لهذا السبب.. لا أريد نجاحا زائفا لا أستحقه يا أيهم، لقد سئمت من هذا كله..
وفاضت عيناها بالدموع وهي تتابع بألم:
– أنت لا تفهمني يا أيهم.. ولا تريد أن تفهمني على ما يبدو!!
ورغم تعاطف أيهم معها بداية، إلا أن جملتها الأخيرة تلك أثارت حفيظته بشدة، فأجابها بعصبية واضحة:
– إذا لم ترغبي بالارتباط بي، فلم لا تقوليها صراحة إذن!!
كانت جملته تلك أشبه بالصاعقة الحارقة على قلبها، فنظرت اليه بدهشة غير مصدقة لما تسمعه، فيما أمعن أيهم النظر اليها بإصرار:
– أجيبيني يا سوسن!! أليست هذه كلها مؤشرات تلمحين من خلالها لرغبتك بالإنفصال عني؟؟ أنت تعلمين بأنه من الاستحالة لي القبول بحجابك بأي شكل من الأشكال.. أم هل تراه ذلك الطبيب حفيد العجوز!!
عندها أسقط في يد سوسن تماما، وشعرت بدوار لم تستطع معه حفظ توازنها، فكادت أن تهوي على الأرض دون حراك، لولا أن أيهم أسرع بإسنادها إلى صدره، وهي في حالة أشبه ما تكون بغياب الوعي..
ألهذا الحد وصلت أفكار أيهم!!
إنها أبعد من أي مدى قد تتصوره أو يخطر لها ببال، ولم تجد كلمة واحدة تعبر فيها عن صدمتها العميقة تلك، وحتى لو وجدت حرفا، لما تمكنت شفتاها من النطق به، فانسكبت دموعها غزيرة، فيما حاول أيهم تدارك خطأه وهو يشعر بندم على تفوهه بتلك الكلمات الجارحة، فضمها إلى صدره بشدة مربتا على رأسها بحب عميق:
– سامحيني أرجوك، لم أكن أقصد ذلك يا حبيبتي، لقد أخذتني الغيرة فحسب..
وترقرقت دمعات في عينيه أثارتها ذكرى قديمة لم يشأ تذكرها أبدا:
– أنت لا تعرفين شيئا يا سوسن، لو كان الأمر بقدرتي لما عارضت رغبتك أبدا، لكنه أكبر من ذلك بكثير.. والتفكير بأن أمرا ما قد يفرق بيننا لهو أشد إيلاما لي من ذلك كله..
لم يسبق لسوسن أن رأت دمعة واحدة في عين أدهم، مما جعلها ترق له بسرعة، وفي عقلها آلاف الأسئلة عن هذا الخطيب الذي تحبه ولا تعرف عنه سوى القليل على ما يبدو!!
فما كان منها إلا أن مسحت بيدها دمعاته برقة، مرددة:
– ولماذا تفكر بأن أمرا قد يفرق بيننا يا أيهم.. إن هذا يؤلمني أيضا، وأنت تدرك هذا جيدا..
وخفضت عينيها، لتبعدهما عن عينيه قبل أن تتابع:
– ربما يمكنني تفهمك يا أيهم؛ فلماذا لا تصارحني بالذي يزعجك من حجابي؟؟ ألستُ خطيبتك التي تشاركك هموم الحياة!!
فأطلق أيهم تنهيدة طويلة بثّتها زفرات صدره:
– لو كنت سأحدث بذلك أحدا، لما بحتُ به لغيرك، ولكنه أمر لا أرغب بتذكره أبدا، فهلا تناسيته أنت أيضا يا حبيبتي.. من أجلي..
لم تستطع سوسن مناقشته أكثر من ذلك، فقد كان الأمر مؤلما جدا بالنسبة له، ولم تكن بالتي تحتمل رؤيته وهو على ذلك الحال، فلم تجد بدا من الخضوع عند رغبته، وتناسي ما طلب منها نسيانه..
– لك ما تريد يا أيهم..
وحاول أيهم جاهدا نفض تلك الذكرى من رأسه بابتسامة ودودة:
– هذه طبيعة الحياة يا عزيزتي لا تخلو من مشكلات، لكننا بتفاهمنا وقوة حبنا سنجتازها معا بالتأكيد..
فبادلته سوسن ابتسامته بابتسامة مشابهة، فيما احتضنها هو بين ذراعيه مجددا:
– سوسن.. إنني أحبك حبا لا أعرف كيف أتصرف به معك.. ولا أعرف كم هي عدد المرات التي سأكررها بهذا القول لعلها تفي بجزء مما يختلج في صدري نحوك..
ولم تكد ترفع عينيها نحو عينيه لتحرك شفتيها بكلمة، حتى عاجلها بقبلة عميقة، انتفضت لها كل خلية في جسدها، وتسارعت لها نبضات قلبها للتتناغم مع دقات قلبه، حتى غديا كقلب واحد ينبض بانسجام..
واستسلمت سوسن أخيرا ليده التي امتدت نحو حجابها، لتزيله عن رأسها برفق، تاركا إياه يتهاوى على الأرض، مع دمعات نفرت من قلبها قبل عينيها لم تستطع لها حبسا، وقد بدأت آمالها المعلقة على الحجاب تنحسر تدريجيا، كسحابة صيف عابرة..

***

شعرت نور ببعض القلق وهي تعاود الاتصال المرة تلو الأخرى بسوسن دون رد منها، خاصة بعد أن تركت لها رسالة وتوقعت منها أن تسرع في الاتصال بها على إثرها، وها قد مرت عدة ساعات دون أي إجابة!!
غير أن صوت عامر، نبهها إلى ضرورة الإسراع في حزم حقائبها:
– ستقلع الطائرة بعد سبع ساعات فقط، وعلينا تسليم مفاتيح الشقة، ومن ثم المرور على والديّ ووالديك خلال هذه الفترة ، هيا أسرعي..
فطمأنته نور بقولها:
– لم يبق أمامي إلا القليل، فقد أنهيت كل شيء تقريبا..
ثم استدركت متسائلة:
– كم ساعة سنلبث في العاصمة بحد علمك؟
فأجابها وهو يقوم بإلصاق بطاقات الأسماء على الحقائب:
– هذا يعتمد على التزام شركة الطيران بمواعيدها، فقد نضطر للمبيت في فندق مطار العاصمة قبل أن يحين موعد إقلاع الطائرة التالية للاسف..
فهتفت نور بسعادة:
– الحمد لله.. هذا رائع!
ثم انتبهت لنفسها، مع نظرات عامر المتعجبة نحوها:
– ما الرائع في الموضوع!! تبدين سعيدة لهذه المماطلة!!
فابتسمت نور:
– دعاء السفر مستجاب، وستكون فرصة لنا لتكثيف الدعوات..
فرمقها عامر بابتسامة ذات معنى:
– يا لك من مراوغة، لم لا تقولين بأن السبب يكمن في شبكة الاتصالات التي تشغلك من الصباح!!
فاحمرت وجنتا نور:
– أريد السلام على صديقاتي قبل السفر إلى الخارج، خاصة وأن السفر بهذه السرعة كان مفاجئا، إذ لم أتوقع أننا سنغادر الليلة!!
فابتسم عامر:
– وكأننا لا نزال في العصر الحجري، أو أننا سننتقل للعيش في غابات الأمازون!! يمكنك استحداث شريحة جديدة عندما نصل إن شاء الله، ومن ثم تتواصلين معهن..
فضحكت نور معلقة:
– إذن عليك أن تستعد لدفع الفواتير أيها الطبيب المحترم..
فعلق عامر بقوله:
– في هذه الحالة.. أصبحت أرى أنه من الرائع فعلا أن تطول فترة انتظارنا في العاصمة حتى تنهي جميع اتصالاتك المهمة أيتها الحكيمة..
وضحك الاثنان بمرح، ورددت جدران الشقة صدى تلك الضحكات، لتخزّن في أعماقها ذكرى زوجين تركا أثرا لا يُمحى؛ حتى وهما يتعاونان في تنظيف الغرف من بقايا آثارهما فيها، بعد أن تم إفراغها من الأثاث الذي بيع جزء كبير منه، فيما تركت نور بعض ما قد تحتاج إليه عند عودتها في مخزن لدى والديها..
وقبل أن تخطو نور آخر خطوة لها خارج شقتها التي لم يمضِ على اسئجارهم لها أكثر من عام واحد، ألقت عليها نظرات مودعة، مر خلالها شريط ذكرياتها فيها كلمح البصر..
ما أقصر هذه الحياة..

***

وقفت سوسن أمام المرآة تتأمل نفسها بذلك الثوب الذي أحضره لها أيهم لتحضر به حفل الليلة.. “حفل النجوم”.. الذي طال انتظاره!
الأكمام لا وجود لها، منطقة الظهر مكشوفة، ومنطقة الصدر لا يسترها سوى غشاء رقيق شفاف، إذ لا يصح إطلاق اسم القماش عليه!
حتى طقم الحلي المرصع بالألماس والعطر الخاص، والحذاء الأنيق ذو الكعب الدقيق.. لم ينس إرفاقهم مع الثوب..
وتنهدت تنهيدة طويلة اختلطت فيها مشاعر الحب والحسرة في آن واحد، وهي تستعيد تلك اللحظات التي بدت لها كحلم قصير استيقظت منه بأسرع مما تتوقع!! فمنذ فترة طويلة لم يخفق قلبها بتلك المشاعر القوية نحو أيهم، والذي شعرت بشفافيته معها للمرة الأولى، وفي الوقت نفسه.. ها هي وبعد أول ارتداء لها للحجاب، تعود لترتدي ثوبا من طرازٍ ظنت أنها لن تعود إليه أبدا؛ منذ أن بدأت بارتداء الثياب المحتشمة..
لقد حسبت أنها تقدمت خطوة، فإذا بها تعود خطوات.. وخطوات كثيرة!
ودمعت عيناها بألم.. ماذا فعلتِ بنفسك يا سوسن!! وإلى أين تتجهين!!
غير أن طرقات الخادمة على الباب نبهتها إلى ضرورة الاستعجال:
– السيد أيهم بانتظارك منذ فترة يا آنسة..
فأجابتها سوسن وهي تكمل تصفيف شعرها المنساب على كتفيها بعذوبة:
– من فضلك، أخبريه بأنني لن أتأخر أكثر..
غير أن الخادمة وقفت لبرهة تتأملها باندهاش شديد:
– ماهذا الجمال الساحر!!! أنت فاتنة جدا يا آنسة!!

***

لم يستطع أيهم انزال ناظريه عن سوسن، وقد نسي ما كان يود إخبارها به من روعة طلّتها، وهي تنزل عن الدرج متجهة نحو الباب حيث وقف بانتظارها، وما أن اقتربت منه حتى تناول يدها اليمنى بيده طابعا قبلة عليها، في حين أحاط خاصرتها بذراعه اليسرى، ليضمها نحوه بقوة:
– أي رجل محظوظ أنا!!
فابتسمت سوسن برقة متجاهلة آلامها:
– من الجيد أنك لم تستقبلني بلوم على التأخير!
فخلل أيهم شعرها المنسدل بأصابعه، ليعاجلها بقبلة ندية:
– وهل يحق لنا لوم الجمال!! أنت الجمال بعينه يا حبيبتي، بل الجمال في حقك قليل!!
عندها همت أن تبوح له برغبتها في عدم الذهاب إلى الحفل، غير أنها عدلت عن ذلك، لترافقه نحو السيارة بهدوء، وهي تُمنّي نفسها بأن تمر الليلة على خير في مسايرتها له، حتى تتمكن بعد ذلك من إيجاد طريقة تفتح فيها النقاش معه حول هذا الموضوع من جديد..

***

مرت الدقائق ببطء شديد، حتى عقرب الثواني.. أصابه الشلل؛ فلم يعد يقفز كعادته! وبدا الليل وكأنه لا يريد أن ينتهي، فما أن تنتهي فقرة، حتى تليها فقرة.. الأجواء صاخبة، والعيون ملتهبة، والرغبات ثائرة..
هذا هو انطباعها عما تراه، وإن تحدث الناس بغير ذلك..! ولا تظن أن هناك مكان قد يُبهج “إبليس” أكثر من هذا المكان!!
تُجامل هذا، وتبتسم لذاك، وتحاول اقتضاب الجمل قدر المستطاع في ردها على عبارات الاطراء والاعجاب المنهمرة عليها من كل جانب، وهي تبذل جهدا كبيرا للحفاظ على مسافة معقولة بينها وبين عشرات الراغبين بقربها.. وملاصقتها!!
أما أيهم.. نجم الحفل الذي سطع بلا منافس… فهل يحق لها أن تغضب من حشد المعجبات حوله!!
نساء كاسيا عاريات، مائلات مُميلات..
جملة أليمة لوصف المشهد، بل هي أكثر ما يؤلمها في هذا المكان، وهل يمكنها لومهن وهي تبدو كواحدة منهن!!
أغمضت سوسن عينيها للحظات، لعلها تهرب بروحها على الأقل من هذه الأجواء القاتلة، وقد نسيت لوهلة أن الحذر واجب في هذا المكان.. فما لبثت أن شعرت بيدٍ غليظة تحط على كتفها، اقشعر لها جسدها فانتفضت من مكانها ملتاعة كمن لدغتها أفعى، لتجد أمامها رجلا أشيبا يغمزها بعينه باسما:
– ما رأيك.. بمائة مليون (من العملة الصعبة)..؟؟
وأمام صمتها “المذهول”، تابع مؤكدا كلامه وهو يتناول دفترا من جيبه:
– إنني جاد تمام.. مائة مليون أو.. أكثر، إذا شئت..
والتقط نفسا عميقا قبل أن يشير بعينه إلى أحد الجهات:
– هناك غرفة فارغة..
لم تكد سوسن تدرك معنى ما يرمي إليه، حتى كادت أن تفقدها صوابها، فأفلتت منها صرخة مكتومة، ضاعت وسط صخب الضحك والغناء، همت بأن تشتمه فيها بأقذع الشتائم التي لا تعرفها، وتفجّر فيه مشاعرها الغاضبة المتراكمة في صدرها المكبوت كمرجل يغلي ولا يجد له متنفسا، لولا خشيتها من إثارة مشكلة لا يكون باستطاعتها ولا باستطاعة أيهم تحمل عقباها خاصة في هذا المكان، فجاهدت لتقول له جملة واحدة:
– إنني خطيبة أيهم..
وأدارت وجهها لتبتعد من أمامه بسرعة، باحثة بعينيها عن أيهم؛ كالغريق الباحث عن خشبة يتعلق بها وسط بحر هائج!
ولم تكد تعثر عليه وهو يحتسي كوبا من الشراب مع إحدى الممثلات الشهيرات، حتى طرق سمعها صوت مقدم الحفل، وهو يعلن عن المفاجأة الختامية لحفل الليلة.. فهدأت الأصوات، وامتلأت النفوس بالفضول مع تقديمه المثير:
” هل سبق وأن شاهدتم قطعة موسيقية تتحرك أمام أعينكم؟؟ أقول شاهدتم.. فركزوا أيها السادة على كلمة شاهدتم وليس (سمعتم)؟؟”
فعلت الهمهمات بين الحضور، في حين تابع المقدم كلامه بحماسة:
“استعدوا لمشاهدة اسطورة العصر، النجمة الواعدة.. التي لم تشهد العصور مثيلا لها في رشاقة الحركات، وتناغم الرقصات، لتروا بأعينكم أشهر معزوفة موسيقية أبدعها نجمنا الكبير.. أيهــــم……”
ومع ذكر اسم “أيهم” غاص قلب سوسن في صدرها، فلم تستمع لبقية الكلام… ألم ينتهي من تقديم فقراته بعد!! لقد كانت تحسب له المعزوفة تلو الأخرى كما أخبرها من قبل، غير أنه لم يأتِ على ذكر شيء من هذا القبيل!.. نجمة وأسطورة!!!
وبينما تعلقت العيون على المنصة، بارتقاب هذه الأسطورة، أشار المضيف لأيهم بالتقدم.. عندها التقت عينيه بعيني سوسن للحظات معدودة؛ أفهمها من خلالها أن الموضوع مفاجئا له هو الآخر!! إذ لا علم له عن وجود “نجمة” بهذه الأوصاف من قبل!!
وبدأ الفريق عزف الموسيقى، أمام لهفة الجميع، لتظهر آخر فتاة ترغب سوسن برؤيتها في هذا المكان بالذات..
لم تصدق عينيها بداية.. فأغلقتهما وفتحتهما عدة مرات لتستوثق من هوية الفتاة الواقفة أمامها.. وأمام أدهم، بجسدها الذي أبرزت مفاتنه بشكل لم تشهد له مثيلا من قبل، والذي لم يستره سوى ثوب- إذا صح إطلاق اسم الثوب عليه- فُصّل خصيصا ليُظهر أكثر مما يُخفي وهو ساكن، فكيف إذا اهتز!!
والأدهى من هذا كله.. أن أيهم بدا هو الآخر متفاجئا من رؤيتها.. بل.. ومبهورا بذلك أيضا!! هذا ما شعرت به عينا سوسن المثبتتين على أدهم بإحكام!!!! ولم تكن لتحتاج لشهادة عينيها وحسب، فقد كان عزفه خير دليل على ذلك، قبل أن يعود إلى طبيعته، وبنسجم الاثنان..
أيهم بعزفه.. وسورا برقصها، في قالب واحد!!!

………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 38

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

قد تكون ثلاثة أشهر مدة قصيرة ليصدر أحكامه هكذا، لكنها كانت كفيلة بما يكفي لتعزيز مكانتها في قلبه.. كانت تساعده في ادخال البيانات الخاصة ببحثه، عوضا عن قيامها بطباعة التقارير له، لا سيما وأنها سريعة في ذلك اضافة الى لغتها الممتازة، بل انها أصبحت مُلمّة بشكل كبير بطبيعة تخصصه من كثرة حديثه عنه، ومع ذلك لم يذكر انها شاركته هما واحدا من همومها، حتى مجال الرسم الذي عرف من والدته عن موهبتها فيه، لم تخبره عنه مطلقا ولا عن هدفها بشأنه؛ إلا بعد أن أثار الموضوع معها.. يومها لحظ تعكر مزاجها لأول مرة، أو ربما خُيّل اليه ذلك، إذ سرعان ما أخبرته عن هدفها؛ لينسجما معا في حديث آخر عن نهضة الأمة وأهدافهما المشتركة بانشاء جيل صالح، كانت أقرب ما يكون للصديق منها للزوجة الحبيبة، وهذا أسعده كثيرا بداية، لكن الآن… أصبح يؤرقه ذلك إلى حد كبير!!
حتى أنه عندما اقترح عليها معاودة الرسم مرة أخرى في تلك المدينة، لم تكن لتبالي بإحضار لوحاتها للمنزل، هل تظنه حقا لا يهتم بها إلى هذه الدرجة!! ربما قد أدركت عدم اهتمامه بالفن، لكن هذا لا يعني انه لا يهتم برسمها هي شخصيا!!
ربما عليه توضيح هذه النقطة لها أكثر!
الهذه الدرجة يحبها! حتى مجال الرسم الذي لا باع له فيه ولا ذراع، ولا يذكر يوما انه فكر بتأمل لوحة عوضا عن رسمها، أصبح مهتما بمعرفة كل شيء عنه من أجلها!!
لقد علم بأنها توقفت عن الرسم لفترة لا بأس بها، أتراها عانت من أمر ما!!
لماذا راوده شعور بأن شرودها ذاك له علاقة بالفن!! إنها من النوع الكتوم جدا كما استنتج مؤخرا، فهل هي بحاجة لفنان مثلها ليفهمها؟؟
شعر بوخزة في صدره إثر تلك الخاطرة!! فصرفها عن رأسه بسرعة، مستعيذا بالله من شرها، فيكفيه أنه لم يستطع فعل أي شيء من قلقه عليها وتفكيره بها، عندما لم تُجِب على اتصاله بداية، بل وقد ازداد الطين بلة عندما اجابته بتلك اللهجة المصطنعة بعد ذلك، لقد شغلت عقله تماما ولم يستطع التفكير بأي شيء سواها في ذلك الوقت، وهو الذي ظن بأنه لا شيء يمكن أن يلهيهه عن عمله وبحثه، كان شغوفا بالقراءة وبالكاد يجد وقتا ليلتهم المزيد من المعلومات التي قد تساعده في بلورة فكرته البحثية، ومع ذلك لم يستطع التركيز في صفحة واحدة من انشغال عقله بها!!
لقد صدقت امه:
– لا تكن واثقا بنفسك كثيرا، فربما تجد نفسك مغرما بها أكثر من بحثك الذي تعشقه!
– اذا كان هذا ما ترينه فلا بأس! رغم انني لا أرغب بالاقدام على شيء يلهيني عن بحثي، فهدفي هو نهضة الأمة قبل أي شيء!
فما كان من امه إلا أن علقت بقولها:
– ما من إفراط إلا وسيعقبه تفريط، والقلوب بيد الله يقلبها كيفما يشاء..
وهاهو الآن يثبت ذلك عمليا!! وإلا.. فما هو التفسير المنطقي لتصرفه ذاك!!
صحيح أنها بجواره الآن، لكنه لم يستطع احتمال فكرة لامبالاتها به في ذلك الوقت، ما هو الشيء الذي يشغل تفكيرها! هل كان غضبه منها بسبب قلقه عليها، أم لأنه شعر بأنها لا تبادله ذلك الاهتمام أبدا!!
أحس برجفة خفيفة في جسده، فهو لا يريد أن ينقلب ذلك وبالا عليه، وهو الذي كان يعيب على المحبين تضييع مصالحهم! صحيح أنها زوجته، لكنها تشغل تفكيره بشكل كبير، أكبر مما يُفترض برأيه، الا يكفي في البيوت الاحترام والتفاهم، وهي لا تقصر في ذلك بشيء!! فما باله الآن يفكر في أمور كهذه لا تسمن ولا تغني من جوع! بالطبع لن يسألها ما إن كانت تحبه أم لا؛ فجوابها سيكون نعم بالتأكيد، يعرف طبيعتها جيدا، لكنه يود لو يشعر بذلك فقط!!
يارب سامحني لم أقصد أن أأذيها!!
وأخذ قلبه يدعو بخشوع وتضرع وانكسار شديد:
– يارب سامحني واغفرلي قسوتي معها، يارب لا تؤاخذني إن أخطأت وأعني على ضبط مشاعري بما يرضيك عني.. فأنت من مكّنت حبها من قلبي، وإني أسألك أن تجعله طريقا لرضاك عنا، وأعوذ بعظمتك من أن ينقلب وبالا علينا، اللهم أنت وحدك تعلم مقدار حبي لها، فلا تريني فيها مكروها أبدا، وارزقني منها ذرية صالحة تقر أعيننا، يارب احفظها لي في الدنيا واجمعني بها في الفردوس الأعلى، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، ويا مصرف القلوب اصرفها إلى طاعتك، يارب احفظ قلوبنا بتقواك وخشيتك، وأعنا على العمل معا لنهضة أمة حبيبك صلى الله عليه وسلم.. لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين..
كان عامر يجلس بهدوء وسكينة على كرسيه، وهو يضع رأسه بين ذراعيه المرتكزتين على الطاولة أمامه، عندما أحس بقدوم نور، فرفع رأسه لتقع عيناه عليها وهي تقف أمامه حاملة صحنا مجوفا، بابتسامة مرحة:
– هذه هي مفاجأتي الصغيرة لك..
فنظر إليها بتأمل، فيما تابعت هي بحماسة:
– الحلوى المثلجة بنكهة الليمون التي تحبها، لقد وجدتُ وصفتها أخيرا، وقمتُ بإعدادها لك بنفسي..
غير أن عامر استمر بالتحديق بها بنظرات أربكتها قليلا، فقالت له:
– هيا.. ألن تجربها؟
وبابتسامة هادئة نهض عامر من مكانه أخيرا، غير أنه بدلا من أن يتناول الصحن من يد نور كما توقعت، وضع يده على خدها الأيمن، مما جعلها تجفل لتلك الحركة غير المتوقعة، فأرخت رأسها، ليفاجئها بعد ذلك بتطويق خاصرتها بذراعه اليسرى، جاذبا إياها نحوه..
لم تعد نور ترى شيئا، فقد كان رأسها مستندا على صدره، فيما تسارعت نبضات قلبها وهي تستمع لحديث نبضاته، وتشعر بأنفاسه الدافئة على شعرها:
– قد أصبر على ابتعادك عني من أجل والديك، ففضلهما لا يمكنني إنكاره أو تجاهله، لكنني لن أحتمل أكثر من ذلك! لذا أرجوك.. لا تشعريني مرة أخرى بأن هناك ما هو أهم مني بالنسبة لك..
لم تصدق نور أن ما سمعته للتو كان صوت عامر، هل هي في حلم أم ماذا!! أهذا عامر حقا!! لم تتوقع أن تسمع منه ما سمعته وبتلك اللهجة المفعمة بعاطفة جياشة، قد تعجز هي نفسها عن امتلاكها!!
ماذا عليها أن تفعل في موقف كهذا!!
غير أنها انتبهت أخيرا للصحن الذي مال بين كفيها، لقد ذاب ما فيه من حرارة تلك المشاعر بلا شك..
– عامر.. لقد سُكِبَت الحلوى!!
فانتبه عامر وهو يبتعد عنها معتذرا:
– ناوليني الملعقة لو سمحت..
فنظرت اليه نور بتساؤل وهو ينحني على الأرض:
– ما الذي ستفعله؟ سأحضر لك صحن آخـر…
فقاطعها وهو يمسكها من يدها ليمنعها من الذهاب:
– سآكل هذه أولا، فقد صنعتِيها من أجلي ولن أترك منها شيئا للشيطان..
فاعترضت نور بقولها:
– ولكنها أصبحت شبه سائلة، وليست من الطعام الذي يمكنك النفخ عليه عندما يقع؟؟
غير أن عامر الذي هم بالفعل بتناول الحلوى من الأرض، فقد قال لها بثقة:
– ألم تنظفي البيت اليوم يا عزيزتي؟؟ ثم إنني لا أقوم بفعل ذلك نزولا عند حكم شرعي كما تظنين، فللمشاعر أحكام أيضا..
لم تجد نور ما ترد به عليه، وهي تتابعه بنظراتها وهو يسمى بالله شارعا بالأكل باستمتاع واضح، حتى رفع رأسه نحوها باسما:
– لذيذ جدا.. ألذ طبق حلوى آكله حتى هذه اللحظة.. جزاك الله خيرا وسلمت يداك..
فابتسمت نور بسعادة:
– الحمد لله أنه أعجبك، رغم أنني كنت أرغب بأن تأكله بشكل أفضل!!
فعلق عامر وهو يتابع الأكل بتلذذ:
– يكفيني أنك صنعتيه بيديك ومن أجلي..
فقالت نور:
– هذا من ذوقك بالطبع..
لكن عامر توقف فجأة، ورفع رأسه نحوها من جديد قبل أن يضيف:
– بل من حبي لك.. وما هذا إلا جزء يسير مما يكنه قلبي.. ولكن يبدو أن رجلا مثلي؛ عليه أن ينتظر طويلا حتى يحظى بجزء من هذه المشاعر منك!
لم تجد نور ما ترد به، وقد ألجمتها المفاجأة من طريقة تفكيره تلك، فتابع عامر كلامه بلهجة مرحة:
– لا أظن أن هناك أحد يمكن أن يتعرفك عن قرب؛ ثم لا تنفجر عواطفه بهذا الشكل!!
فلم تملك نور نفسها من إطلاق ضحكة لتلك الدعابة التي سمعتها:
– هذا ما يُخيّل إليك أنت فقط..
فرد عامر عليها بقوله :
– أرجو ذلك، فلا أظنني سأكون سعيدا لو حصل هذا مع أحد غيري..
وقبل أن يستطرد أكثر، خرجت نور من الصالة مستدركة:
– لم أشعل سخّان الماء للاستحمام بعد..
أخذ عامر يدق بالمعلقة على الأرض مفكرا، بعد أن أتقن أكل الحلوى بامتياز:
– أرجو أن لا تكون قد انزعجت من كلامي!!
إلا أنها عادت بسرعة، وهي تحمل منشفة صغيرة مبللة بالماء لتمسح الأرض، قائلة:
– هل أنت من أشعل السخّان؟ الماء ساخن، يمكنك أخذ حمام الآن فلا شك أنك متعب..
غير أن عامر أسرع بتناول المنشفة منها قائلا:
– لقد تعبتِ اليوم بالتنظيف يا نور، وجاء دوري الآن، خاصة وأنه كان خطئي..
فتظاهرت نور بالغضب وهي ترد عليه:
– وهل تعبيرك عن مشاعرك لي بتلك الطريقة يُعد خطئا!!
لم يبد على عامر أنه قد فهم ما قالته نور، فالتفت إليها متسائلا:
– هلا أعدتِ ما قلتيه رجاء؟
فاستغلت نور تلك الفرصة وشرعت بمسح الأرض قائلة:
– لقد قلت بأن ما فعلتَه لم يكن خطئا..
انتبه عامر لها بعد أن أنهت التنظيف، فأمسكها من يدها قبل أن تذهب:
– لقد ضحكتِ علي اذن، حسنا سأقوم أنا بإزالة البقع عن الملابس!!
فضحكت نور وهي تخلص يدها منه:
– لا تقلق بهذا الشأن، فأدوات التنظيف والغسّالة سيقومون بذلك على أكمل وجه، من الأفضل الآن أن تأخذ حماما ساخنا..
قالت جملتها وهي تهم بالخروج، غير أنه استوقفها بلهجة جادة:
– نور..
فالتفتت إليه بتساؤل، ليتابع قائلا:
– هل لي أن أطلب منك شيئا؟
فهزت نور رأسها إيجابا:
– بالطبع.. سأحاول فعل أي شيء على قدر استطاعتي إن شاء الله ، ماذا هناك؟
فتنهد عامر قبل أن يقول:
– هل يمكنك أن ترسمي لي لوحة؟؟
فنظرت اليه باستغراب، مما جعله يستدرك قائلا:
– لا أقصد لوحة شخصية، وانما لوحة..
وصمت قليلا قبل أن يتابع:
– …تصفين بها مشاعرك نحوي!!
حملقت فيه نور لوهلة غير مصدقة أذنيها، فسألها عامر:
– هل أزعجك طلبي؟
فهزت نور رأسها نفيا:
– لم أقصد ذلك.. ولكنني لم أكن أعلم أنك مهتم بالرسم وشاعري إلى هذه الدرجة!!
فنظر اليها بتأمل عميق:
– وهل يسوؤك هذا!!
ارتبكت نور لتلك الملاحظة واحمرت وجنتيها:
– لم أقصد هذا، كنت متفاجئة فقط!!
فما كان منه إلا أن اقترب منها، وضمها اليه بشدة:
– نور.. لا أعرف ما الذي فعلتيه حتى يضع الله لك كل هذا الحب في قلبي! قد لا تأخذين كلامي على محمل الجد، لكنني صدقا.. أحبك أكثر مما تتخيلين، حتى أنني لا أعرف أحيانا كيف أتصرف بهذا الحب!!

***
فتحت سوسن عينيها لتجد نفسها مستلقية على سريرها بملابس الخروج! كيف حدث هذا!! ما الذي فعلته آخر شيء؟ لقد أوصلها أيهم إلى المنزل بعد العشاء، ثم..
تنهدت سوسن وهي تسرترجع ذلك الموقف الذي تمنت لو أنه مجرد حلم لا أكثر، إلا أنه تمثل أمامها بوضوح، بما لا يدع مجالا للشك بكونه حقيقة لا مراء فيها..
كان سامر ينظر إليها بنظرات لا تجد لها سوى تفسير واحد، خاصة وهو يقدم لها تلك اللوحة بابتسامة لم تدع مجالا لشك في قلبها الذي تسارعت نبضاته:
– لقد أسميتها ” ملاك القلب ومالكته”..
لم تكد عيناها تقعان عليها، حتى شعرت بدوار حقيقي، وهي تجاهد لتكذيب ما تراه، ومن ثم لإنكار ما قد يُفهم من ذلك!!
– شكرا لأنكِ أريتني كيف يُرسم الجمال الحقيقي!!
كان الأمر أكثر من طاقتها فتصلّبت دون أدنى حركة من يدها، التي يفترض بها أن تتناول تلك اللوحة المقدّمة لها من سامر، حتى شفتيها انتقلت لهما عدوى التصلب المفاجئ.. لقد أصبحت أشبه ما تكون بمومياء شاحبة، لم تلبث أن فقدت توازنها!! غير أن أيهم الذي أسندها إلى صدره وهو يحيط خاصرتها بذراعه، أنقذها من السقوط المحتم في اللحظة المناسبة!!
ما الذي كانت ستفعله لو لم يأتِ أيهم!!
لقد تمكن بعدها من مداراة الموقف بدهاء، وهو يبتسم لسامر مبديا إعجابه الشديد برسمه:
– شكرا لك أستاذ سامر، بالتأكيد لن نجد أجمل من هذه اللوحة لنزين بها منزلنا أنا وسوسن!!
شعرت سوسن وقتها أنها في حلم، فقد كانت شبه غائبة عن الوعي من هول الصدمة، لم تتخيل أن ترى رسما لها بتلك الطريقة..
وردة حمراء قانية كبيرة، ألوانها أشبه بالدماء السائلة من قلب نابض، يخرج منها رسم تفصيلي يُظهر رأسها ورقبتها إلى منطقة الكتفين قريبا من الصدر بشكل عاري، فيما تطايرت خصلات من شعرها بشكل ساحر حول تاج برّاق زيّن شعرها، وكأنها حورية حسناء آية في الجمال خرجت من وردة لتتربع على عرش القلب!!
هل يُعقل أنه ظن بأنها ستسعد لذلك!! من الجيد أن أيهم أخذ اللوحة معه..
يجب أن تتخذ خطوة أكثر جرأة، لم يعد هناك مجال للتردد أكثر.. لقد بلغت الذروة في (التأذّي النفسي) ولا يمكنها احتمال المزيد، ومن دون أن تشعر؛ انهمرت الدموع غزيرة من عينيها رثاء لحالها البائس.. وأخذت تلك الكلمة ترن في أذنيها كدقات الساعة..
فلا يؤذًين.. فلا يؤذًين.. فلا يؤذًين.. فلا يؤذًين.. فلا يؤذًين.. فلا يؤذًين.. فلا يؤذًين..
غير أنها هبّت واقفة وقد تذكرت أنها نامت قبل أن تصلي العشاء، فأسرعت تنظر في ساعتها، لتتنفس الصعداء محدثة نفسها:
– الحمد لله لم يطلع الفجر بعد، ما زال أمامي ساعة ونصف على الأقل، يبدو أنني كنت متعبة جدا لأنام هكذا!! حتى أنني لم أغيّر ملابسي!!
وقبل أن تفكر بأي شيء آخر اغتسلت وصلت، وابتهلت الى الله أن يعينها على تحقيق ما تخطط له، لقد اتخذت قرارها أخيرا ولا مجال للتراجع الآن..

***

أخذت نور تمسد على شعر عامر بلطف وهي توقظه:
– السلام عليكم، سيرفع أذان الفجر بعد ربع ساعة، ألا تريد أن تصلي بي ركعتيـ…؟؟
لم تكد تتم جملتها حتى فتح عامر عينيه مرددا:
– الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور..
ثم نظر إلى المنشفة التي لفت بها شعرها المبلل متسائلا:
– ألم تنامي بعد؟؟
فأجابته نور بابتسامة رقيقة:
– لقد استيقظت قبلك بقليل فقط، فأخذتُ حماما سريعا أجدد به نشاطي، وتركت لك ماء ساخنا..
فابتسم عامر وهو يمط ذراعيه ليطرد عنه النعاس:
– جزاك الله خيرا..
وبسرعة تناول منشفته ودخل ليستحم، فيما أخذت نور تجفف شعرها، وكلمات عامر ليلة أمس ترن في أذنيها:
– لوحة تصفين بها مشاعرك نحوي…!
لم تفكر بهذا من قبل، لقد فاجأها جدا كلامه، ما هي مشاعرها تجاهه؟؟ لم تفكر بذلك من قبل بهذا الشكل! أخذت الأمور ببساطة، الزواج مودة وحب ورحمة وتفاهم وانسجام، وهما كذلك كما ترى بفضل الله، فهل يقصد عامر شيء آخر!! عندها عادت بذاكرتها لذلك اليوم الذي أخبرتها والدتها فيه عن الخطبة، عامر ضياء، لقد سمعت باسمه من قبل رغم انها لم ترى صورته، فهو معروف لكل مهتم بعالم الكاراتيه، بعد أن حاز على البطولة الوطنية، لم تتخيل أنه قريب منها لهذه الدرجة، كان هذا أكثر ما أثار حماستها نحو الخاطب الجديد بعد أن أخبرتها أمها عن خُلُقه ودينه، ورغم ذلك.. كان عليها أن تصارح نفسها بصدق، إذ كان طيف سامر يراودها بين الحين والآخر، رغم أنها تركت عالم الفن لأجله، حتى نسيت هدفها تماما بشأنه!! لم ترسم لوحة واحدة بعدها، فقد كان كل شيء يذكرها به وهي تريد أن تنسى، غير أن قدوم هذا الخاطب ذكرها به مرة أخرى، لا يمكنها قبول حياة جديدة وفي قلبها ذكرى قديمة، كان ذلك أقسى موقف مر عليها، فلم تجد سوى اللجوء إلى غرفتها، لتبكي فيها بحرقة وهي تسأل الله أن يعينها على تخطي تلك المرحلة.. الحب ليس كل شيء!
لم يكن هناك أدنى سبب لرفض عامر، وهكذا تم زواجهما وهي تشعر بأنها ارتبطت بصديقٍ متفهم، أكثر من كونه زوج، مما أشعرها بالكثير من الراحة! اهتماماتهما المشتركة في نهضة الأمة، وأبحاثه الطبية التي يسعى لانجازها؛ أثارت لديها حماسة كبيرة، فشاركته همه بكل اهتمام، خاصة وان ذلك تقاطع مع هدفها من دخولها قسم اللغة الانجليزية، لغة العلم والعصر، فرغم انها كانت من الفرع العلمي ولديها ميول لعلم الأحياء خاصة، إلا أنها بعد الاستخارة شعرت بتفضيلها لقسم اللغة الانجليزية، فبهذه الطريقة يمكنها تحقيق أهدافها الدعوية وحتى العلمية والبحثية بشكل أفضل، وها هي الأيام تزيدها قناعة بأن الله قد اختار لها الطريق الانسب لتحقيق هدفها، غير أنها لم تتوقع أن ارتباطها بعامر سيكون سببا أيضا بتخطي تلك الأزمة المهمة في حياتها..
كان ذلك عندما سألها لأول مرة عن اهتماماتها الفنية، لقد عرف عن موهبتها من أمه أوأمها بلا شك، فقد كان الفن كل اهتمامها قبل سنة ونصف من زواجهما، ورغم التوتر الذي أصابها من ذكر ذلك، إلا أنها حاولت تفادي الاشارة الى المعاناة التي تعرضت لها بسبب الفن، ومن لطف الله بها أنها نجحت في تدارك الموقف، بل وكان ذلك سببا في عودتها لعالم الفن من حيث لا تحتسب، لتنفض الغبار عن هدفها القديم..
ودمعت عيناها تأثّرا، يارب سبحانك ما أكرمك، أعطيتني أكثر مما سألت، ورزقتني أكثر مما تمنيت، فلك الحمد حتى ترضى ولك الحمد اذا رضيت ولك الحمد بعد الرضا..
فيارب لا تحرمني بذنوبي فضلك، واحفظ زوجي عامر من كل مكروه وارزقنا الذرية الطيبة الصالحة، واجعلنا جميعا سببا في نهضة هذه الأمة ابتغاءً لمرضاتك، وقرة عين لحبيبك صلى الله عليه وسلم..
وإذ ذاك تذكرت صديقتها سوسن في دعائها:
– يارب اسعد قلبها وتول أمرها واكفها ما أهمها، يارب اصرف عنها شر كل ذي شر واحفظها بحفظك، واهدها لما فيه خير دينها ودنياها..
حتى انتبهت على صوت عامر، الذي ألقى عليها التحية بعد أن ارتدى ملابسه وجفف شعره ومشطه بسرعة:
– لم يبق سوى بضع دقائق لصلاة الفجر، هل أنت جاهزة؟
فنهضت نور وهي تربط شعرها إلى الخلف:
– أجل..
وارتدت ملابس الصلاة لتقف خلفه باتجاه القبلة، فيما كبر هو آمّا بها لصلاة ركعتي القيام..
لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يقومان فيها الليل جماعة، لكن وقعها على قلبها كان مختلفا.. خاصة وهي تستمع لترتيله لآيات من سورة الفرقان بصوته الرخيم:
– (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)..

***

أرجع أيهم رأسه للخلف وهو يرتكز على مسند المقعد الخشبي الذي جلس عليه في الحديقة، لم يعد يطيق الانتظار أكثر، ستوشك الشمس على المغيب..
– ترى ما هي المفاجأة التي أعدتها لي سوسن!!
وترائى أمامه مشهد سامر وهو يتناول اللوحة منه، لا شك أنه متيّم…..
لكن حبل أفكاره قُطع فجأة، إثر شعوره بيدين ناعمتين، تُغمضان عينيه من الخلف، فأمسك بهما وضمهما إليه؛ قبل أن ينهض مستديرا نحوها بسرعة ليطبع قبلة على وجهها، غير أنه تراجع عدة خطوات إلى الوراء، حتى كاد أن يتعثر على الأرض:
– ما هذا!!!!!!!!!!!!!!!
 
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 37

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

أخذت نور تلتقط أنفاسها بصعوبة، بعد عدة مناورات استطاعت فيها تلافي هجمات عامر المسددة نحوها بقوة، لقد كاد أن يصيبها في مقتل!! ماذا لو لم تتمكن من تفادي الضربة في اللحظة المناسبة، هل كان سيؤذيها حقا!!
مهما يكن دافعه ونواياه هذه المرة؛ لم يعد أمامها بدا من الدفاع عن نفسها باستماتة، فلا ضمان للعواقب أبدا على ما يبدو!!
هذا ما شعرت به، وهي تستجمع قواها من جديد، أمام نظراته الحادة المتأهبة!!
ولم تكد تستقر في وقفتها حتى عاجلها بهجوم آخر، استطاعت صده بمهارة فائقة، لتتوالى عليها بعد ذلك ضرباته الهجومية بلا هوادة، فيما استمرت هي بأخذ دور الدفاع فقط! ورغم الانهاك الذي شعرت به، إلا أن الموقف الذي وجدت نفسها فيه زادها اصرارا وعزيمة على التصدي له مهما كلفها الأمر، مما زوّدها بطاقة إضافية مكنتها من الصمود لفترة أطول..
أخذت تحاول جاهدة الحفاظ على طاقتها كي لا تُهدر عبثا، وهي ترى بوضوح وجه عامر الذي لم يَبدُ عليه أدنى أثرٍ للتعب بعد!!
أهذه هي شخصيته التي حذرها منها أيام الخطبة!! لقد قال لها وقتها:
– سأكون صادقا معك يا نور، إنني صعب المراس أحيانا خاصة عند الغضب، رغم انني أحاول جاهدا السيطرة على نقاط ضعفي هذه؛ إلا أنني قد لا أنجح في ذلك أحيانا، وقد تجدين مني شدة في بعض المواقف، فإن استطعتِ أن تعذريني فسأكون شاكرا لك..
يومها أجابته بصراحة:
– من الجيد أنك أخبرتني، فأظن أن أمرا كهذا لا يمكن السكوت عليه! فإنني لا أستطيع ضمان قدرتي على التحمل في ذلك الوقت!
فنظر اليها بتساؤل:
– ما الذي تعنيه!! أنا لم أقصد انني لن أحاول السيطرة على نفسي، من أجل أن يرضى الله عني على الأقل!!
– لقد كنتَ صادقا معي وأحببتُ أن أكون صادقة معك أيضا! لا يمكنني ضمان شيء!!
فما كان منه إلا أن ابتسم برضا:
– هذا يعني أننا متفِقَين! يسعدني أن تكوني قوية، فهذا أفضل بالنسبة لي من زوجة ضعيفة..
يومها فاجأها كلامه، غير أنه دخل قلبها بسرعة لم تتوقعها أبدا، وقد استطاعت بعد ذلك أن تكوّن له صورة واضحة في ذهنها، شخص له مساوءه كغيره من البشر، ويحاول تهذيب نفسه بتقوى الله! رغم أنها لم تر منه أي شيء مناف لحسن الخلق خلال الشهور الثلاثة التي قضتها معه، حتى كادت أن تنسى ما أخبرها به عن نفسه، أما اليوم وبلا أدنى شك؛ هاهي نفسه قد بدأت تتكشف أمامها بوضوح، ولكن.. ما الذي أغضبه تحديدا!!
كان هذا أكثر سؤال يلح على نور في تلك اللحظة، وهي تضع ذراعيها بوضع متعاكس أمام صدرها لصد ضربات عامر الشرسة، متراجعة للخلف في حركات تحاول من خلالها تجنب هجماته، حتى كاد التعب أن يقتلها، فيما بدا عامر مستعد للاستمرار في هجومه إلى ما لا نهاية!
وإذ ذاك تعثرت قدمها فكادت أن تسقط على ظهرها، لولا أنها تداركت ذلك بالإرتكاز على يديها، لتُفاجأ بعامر وهو يسارعها بضربة من قدمه كادت أن تصيبها في خاصرتها، لولا التفافها حول نفسها متفادية ذلك في اللحظة الأخيرة، لتسمع بعدها صوت ارتطام كعب قدمه بالأرض بقوة!! لقد راعها ذاك وأرعبها بشدة.. كاد أن يقتلها بالفعل! لكنها سرعان ما هبّت واقفة لتواجهه من جديد، وهي تستجمع ما تبقى لها من طاقة.. مقنعة نفسه بانها لم تكن لتنتظر شفقته عليها، فهذه فرصتها لتختبر قدراتها الحقيقية!! وهكذا.. لم تعد تراه أبدا الزوج الودود عامر، بل رجلٌ غريب عليها التصدي له بكل ما اوتيت من قوة، حتى لو اضطرت لأذيته!!
الهجوم خير وسيلة للدفاع.. هذه هي القاعدة التي يعرفها الجميع، ولا تحتاج لبديهة خاصة لاستنتاجها، غير أنها لم تخطر ببال نور إلا في وقت متأخر..
من يبدأ أولا سيفوز غالبا.. وهكذا تمكنت أخيرا من تسديد أولى ضرباتها نحوه في حركة مفاجئة، بدلا من أن تقف لالتقاط انفاسها كما كانت تفعل بعد كل جولة التحامية حامية بينهما، غير أن عامر تفادى ضربتها ببراعة، لتعاجله هي بضربات أخرى متوالية، تارة من يدها وتارة بقدمها، دون أن تُلقي بالا لحالة الاجهاد التي تمر بها، فلا وقت للتفكير في ذلك..
ورغم المهارة المذهلة التي أبدتها نور مع قوة التحمل طوال تلك الجولة، إلا أنها لم تتمكن من لمس عامر أبدا عوضا عن إصابته، حتى استنزفت قوتها بالكامل، فوقفت للحظة تحاول اعادة شحن طاقتها، إلا أن عامر عاجلها بهجمة لم تجد أمامها بدا من العودة إلى الدفاع لتلافي ضرباته من جديد، حتى وجدت نفسها محصورة في زاوية بين جدارين، وقد وصل الاجهاد بها إلى الحد الأقصى، فارتكزت على الجدار خشية السقوط وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة شديدة، فيما أخذ عامر يتقدم نحوها بخطوات ثابتة، أشبه ما تكون بخطوات تهديدية!
تلاقت عيناهما.. مازالت نظراته حادة.. ومرعبة!! شعرت بأن دقات قلبها تكاد تخترق صدرها كالخناجر، هل يُعقل أن يكون هذا رجلا آخر بالفعل!! ربما رجل متنكر بزي عامر.. ولم تلبث أن أوغلت بها تلك الأفكار المرعبة إلى حد لم تجد معه بد من تسليم أمرها لله بالكامل، فأغمضت عينيها لتفتحهما بذعر؛ بعد أن سمعت صوت دوي ارتطام قبضته القوية بالجدار إلى جانب أذنها اليمنى، كان الصوت أشبه ما يكون بدوي انفجار مزلزل هائل!!
الحمد لله أنها لم تكن موجهة الى وجهها وإلا لهشمته بالكامل!! هذا أول ما خطر ببالها.. فتمتمت في سرها:
– يارب الطف بي..
غير أنها ما أن فتحت عينيها حتى كادت أن تفلت منها صرخة فَزِعة، وهي تصطدم بنظرات عامر المثبتتة عليها على بعد أُنملة!! فأغمضت عينيها مجددا لتفاجأ بنقرة قوية من إصبعه على جبهتها، تأوهت إثرها تلقائيا، فيما سمعت صوته الذي تعرفه:
– أظن أن هذا يكفي!!
لم تصدق نور أذنيها، أبعد أن وصلت إلى مرحلة جزمت من خلالها أنه شخص آخر؛ يتبين لها أنه عامر!!
أخذت نور تحدق بعامر لتستوثق مما سمعته، فابتسم معلقا:
– هل ترغبين بالمتابعة أم ماذا!!
فتنفست نور الصعداء وجلست على الأرض أخيرا مُركزة ظهرها للجدار، وهي تتحسس جبهتها:
– هذا مؤلم جدا!! لقد أخفتني حقا!
فأجابها عامر- بعد أن أحضر كرسيا وجلس عليه قبالتها:
– تستحقين أكثر من ذلك..
وبما أن جلسته تلك لم تعجبها، فقد حاولت النهوض لتحضر كرسيا آخر مثله، إلا أنها لم تجد في نفسها القوة لفعل ذلك، فاكتفت برفع رأسها نحوه بتساؤل، وقد شعرت بأنها كالتلميذ المخطئ الذي يجلس بين قدمي أستاذه طالبا لعفوه!! ورغم أن تلك الفكرة أزعجتها؛ لكنها لم تجد مفرا من الاستماع لوجهة نظره! وأمام صمته، بادرته السؤال بنوعٍ من الحدة:
– ما الذي تعنيه بقولك يا حضرة الاستاذ عامر!
فتأملها عامر للحظة قبل أن يقول مبتسما:
– مهما حاولتِ التعبير عن غضبك بتلك النبرة، إلا أن هذا لن يجعلني أسامحك بسهولة..
شهقت نور بدهشة:
– ماهذا الذي تقوله!! ما الذي فعلته لك؟؟ هل أنت جاد!!!!
فأومأ عامر برأسه مؤكدا:
– وهل تظنينني أمزح!! إنني جاد بالطبع!
حاولت نور تذكر ما قد يكون صدر عنها دون أن تدري، فلا يعقل أن يعاملها عامر بتلك الطريقة دون مبرر! لكنها أخفقت بالعثور على إجابة شافية، فنظرت نحوه مرة أخرى قائلة:
– لا أذكر أنني أخطأتُ بحقك أبدا، بل على العكس تماما، لقد أعددتُ كل شيء على أكمل وجه من أجل استقبالك، أم أنك لم تلاحظ ذلك؟؟
فعقّب عامر على كلامها بلهجة جادة:
– وعقلك في مكان آخر!!
عندها شعرت نور ببعض القلق، مالذي يقصده بقوله! لكنها أسرعت تقول:
– إنني لا أفهمك! ما الذي تقصده؟؟
فتنهد عامر:
– أشك بأنك لم تفهمي ما أعنيه، إلا إن كنت تعتقدين أن انشغالك عن زوجك الغائب ونسيانك له؛ يُعدّ أمرا طبيعيا!!
ارتبكت نور قليلا وقد فهمت ما يقصده، لكنها ردت عليه بقولها:
– لم أتعمّد تجاهل مكالماتك وقد أخبرتك…
فتابع عامر:
– كنتِ شاردة قليلا!! أليس هذا ما قلتيه!!! إن هذا ما يُطلق عليه العذر الأقبح من ذنب..
لم تستطع نور مجاراته أكثر، فقالت بحزم:
– عامر.. لا يحق لك أن تحاسبني بهذه الطريقة، فأنا بشر وقد شردتُ بالفعل، حتى أنني لم أسمع نداء أمي!!
أطبق صمت ثقيل بينهما للحظات، قبل أن يقطعه عامر بسؤاله:
– وما هو ذلك الشيء الذي أشغلك عنا جميعا؟؟
كان هذا هو أسوأ شيء تتوقع نور سماعه، وتمنت لو أن الأرض تنشق وتبتلعها قبل أن تضطر للإجابة، ما الذي ستجيبه به!! حاولت أن تفكر بأي شيء تقوله دون جدوى، حتى راعها عامر بقوله:
– أهو شيء يتعلق بالفن؟
شعرت نور بأنها تلقت الضربة القاضية أخيرا، إلى أي مدى تصل معلوماته عنها!! لقد افتُضح أمرها بلا شك!!
يارب.. هذا أمر لا أحب أن يتطلع عليه أحد!!
وكأن الله استجاب لدعائها، فقد شعر عامر بنوع من التفهم وهو يتفحص معالم وجهها بتمعن:
– لن أطلب منك أكثر من ذلك، فربما من الأفضل أن لا تخبريني..
والتقط نفسا قبل أن يتابع:
– حتى لو كان أمرا من الماضي، فإنني لا أحتمل أن يستحوذ أي شيء على تفكيرك ويشغلك عني يا نور!
اكتفت نور بالصمت دون أن تنبس ببنت شفة، فأطلق عامر تنهيدة طويلة:
– على كل حال جزاك الله خيرا لحسن استقبالك، رغم أنني لا أريد منك أن تقومي بشيء من أجلي، وكأنك تؤدين واجبا لا أكثر!
ورغم أن تغيير الموضوع أراحها قليلا، إلا أنها شعرت بغصة حقيقية لسماع ذلك منه، فردت عليه بقولها:
– لكنني كنت سعيدة…
ولم تستطع إكمال جملتها إثر تلك النظرة المثبتتة على عينيها، فأرختهما بسرعة وقد شعرت بخفقان في قلبها، واحمرار شديد في خديها لم تشعر بمثله من قبل، فما كان من عامر إلا أن نهض من كرسيه، واقترب منها ليجلس قبالتها على الأرض، متناولا يديها ليضمهما إلى صدره بحنان:
– أرجو المعذرة منك يا نور..
لم تستطع نور احتمال الموقف أكثر من ذلك، فتظاهرت بالغضب ورمته بنظرات عاتبة:
– ماذا لو لقيت حتفي بسببك!!
فابتسم عامر بمودة:
– لكنني كنت حريصا أن لا يصيبك مكروه!!
ففتحت نور عينيها عن آخرهما وهي تقول باستنكار:
– لا تقل لي أنك كنتَ متساهلا معي طوال الوقت!!
فلم يملك عامر نفسه من اطلاق ضحكة صغيرة:
– وهل كنتِ تظنين أنني نازلتك بجدية!!
كان كلامه صدمة حقيقية لها، فقد قدّمت أقصى ما لديها من مهارات، إلا أن عامر أسرع يطييب خاطرها بقوله:
– أنت قوية بالفعل يا نور، لا أظن أن هناك فتاة أخرى ستصمد مثلك..
فابتسمت نور أخيرا باستسلام:
– حسنا لا بأس.. عليّ أن أرضى بالواقع، فمن الحماقة أن أقارن نفسي بالحائز على المركز الأول في الكاراتيه على مستوى الوطن…
لم تكد نور تتفوه بكلماتها تلك، حتى على التجهم وجه عامر، فأفلت يديها قائلا:
– لقد قلت لك سابقا.. لستُ الأول…
فقالت نور بتفهم:
– حسنا حسنا فهمت.. لا زلتَ تصر على تواضعك الغريب هذا، رغم أن المحكّمين…
فما كان من عامر إلا أن قاطعها بلهجة لا تخلو من ضيق:
– أرجوك يا نور.. أخشى أن أكون من الذين يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا…
عندها وضعت نور يدها فوق يده وضغطت عليها برقة:
– أتفهّم موقفك يا عامر، ولكن رفض ذلك الشخص من الظهور في الواجهة، هو الذي جعل المحكمين يقلدونك وسام المركز الأول، أي أنك تستحقه بنظرهم..
فتنهد عامر ولم يقل شيئا، فيما سرحت به أفكاره بعيدا كما بدا لنور، فقالت له:
– أرجوك يا عامر لا تجعل هذه الوساوس تسيطر عليك، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وبإذن الله لن تكون أبدا من اولئك القوم..
فنظر اليها عامر بصمت، قبل أن يطرق رأسه مرددا:
– أرجو ذلك..
همت نور بأن تضيف شيئا، لكنها أمسكت عن ذلك بسرعة، وقد لاحظت أن لدى عامر ما يقوله:
– كلما تذكرتُ ذلك الشاب، راودني شعور غريب، كان غامضا جدا ولطالما شعرتُ بأنه يخفي أمرا في غاية الخطورة! كان قويا ومتمرسا بما يكفي لسحق عشر رجال أشداء بنزال واحد! ورغم أنني كنت أقرب الموجودين إليه إلا أنني لم استطع فهمه ولا مرة واحدة، لكنني لم أتوقع أن يصل به الحد إلى إعلان انسحابه أمامي بتلك الطريقة…..
أخذت نور تُنصت له باهتمام، وهي تتمنى أن تعثر على طريقة تساعده فيها للتخلص من نقطة ضعفه تلك، شخص يظن الجميع أنه الأول على مستوى البلاد؛ بينما يعلم هو يقينا بأنه في المركز الثاني بسبب شخص غامض.. قد لا يكون موضوعا كهذا ذو أهمية، لكنه يعني الكثير لعامر.. إذ لم يكن يمقت شيئا أكثر من مقته لحصوله على شيء لا يستحقه!!
كانت نور تجلس على ركبتيها قبالته وهي تمسك بيده غارقة في تفكير عميق، عندما فاجأها بقبلة خاطفة على جبينها، أخرجتها من أفكارها عنوة، فأرجعت رأسها للخلف بعفوية، فيما ابتسم عامر قائلا:
– لا داعي لأن تشغلي نفسك بالتفكير في هذا الأمر، سأكون بخير ما دمتِ مهتمة بي هكذا! فهذا ليس أشد ايلاما عليّ من ذلك الشرود الذي يُشغلك عني!!
فخفق قلب نور بقلق، وقد عادت مخاوفها لتحدثها:
– لا.. !! ليس مرة أخرى.. أما زال يذكر ذلك..
فضحك عامر لمشهدها وقد خمّن أين وصلت بتفكيرها:
– لا تقلقي يا عزيزتي، فلن أسألك عن ذلك مرة أخرى..
وصمت قليلا قبل أن يتابع:
– حتى وإن أردتِ إخباري فسأوقفك بنفسي..
فنظرت إليه نور بتساؤل وجِل:
– هل تعني أنك غاضب مني؟
فابتسم عامر بلطف:
– كلا لست غاضبا، ولكن بالتفكير الجاد في الأمر، من الأفضل أن لا أعرف بذلك أبدا، فإني طبيب يلِج عليه الكثير من المرضى، ومسلم قبل ذلك، وأخشى أن يكون وراء شرودك شخص ما، فلا أستطيع مسامحته أبدا، بل ربما أفقد سيطرتي على نفسي إن التقيته يوما ما، فالدنيا صغيرة كما تعلمين..
غاص قلب نور إلى أسفل قدميها، إذن.. هو يتوقع أن وراء ذلك شخصٌ ما أيضا!!!!
غير أنها استدركت بسرعة:
– لقد نسيتُ شيئا مهما..
وابتسمت بحبور وهي تنهض بحماسة قائلة:
– انتظر قليلا لو سمحت..
فأومأ عامر برأسه وهو يتأملها بابتسامة مماثلة:
– حسنا..
وما أن غابت عن ناظريه، حتى أعاد ترتيب الصالة إلى ما كانت عليه، وهو يشعر بنوع من الندم على ما فعله بها عند عودته:
– من الجيد أنني لم أتسبب ببكائها مع تلك القسوة، أو ربما كانت تكابر..
وزفر بألم.. لماذا فعلتُ ذلك معها!!
وعادت به ذاكرته إلى ذلك الحوار مع والدته، قبل أربعة أشهر فقط! سبحان مقلب القلوب ومغير الأحوال!!! يومها كان يتوسل إليها بالعدول عن رأيها في تعجيل زواجه:
– ارجوك يا أمي، انني لا أفكر بالزواج الان، لدي الكثير من الابحاث التي أرغب بالقيام بها، ولن أكون متفرغا لحقوق الزوجية!!
– لكنها فتاة لا تعوّض، انها تناسبك تماما..
– لا أظنني امتلك من الرفق ما يكفي لأعامل زوجة، أفضل البقاء عازبا على الاخلال بوصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الرفق بالقوارير، أنت تعرفين الفتيات يبكين لأدنى سبب..
– قلت لك انها مختلفة وذات شخصية قوية جدا، لا أظنك ستجد صعوبة في تعاملك معها، ثم انك ان لم تكن تمتلك مقدارا جيدا من الرفق فمن باب أولى أن تبتعد عن مجال الطب!! فلا تدّعي التورع! هذه طبيعة الحياة فلا تكن عنيدا يا عامر!!
– حسنا استسلمت، إذا كانت كما تصفينها فلا بأس، رغم انني أفضل الارتباط بطبيبة أو ممرضة لتساعدني في الأبحاث..
لولا أن أمه حدجته بنظرات ذات معنى:
– لقد قلت لك، لن تجد فتاة تناسبك أكثر من هذه الفتاة! ثم ان لديها الحزام الاسود في الكاراتيه، لذا لن تجدها ضعيفة أبدا.. أقول هذا لطمأنة ورعك الزائد، رغم انني لست مقتنعة بما تقول أبدا..
فاستسلم عامر لها بابتسامة ودودة:
– حسنا ما دمتِ ترينها كذلك وقد أحببتيها بهذا الشكل، فلا شك أنها ستعجبني..
من الجيد أنه كان يؤمن تماما بنظرية (البوصلة)*، التي تساعده كثيرا في بر أمه، فما دامت أمه تراها مناسبة له فلا شك أنها كذلك، وهذا ما تأكد منه بنفسه في فترة الخطوبة، لقد دخلت قلبه منذ الجلسة الأولى معها، رغم أنها كانت صريحة جدا في التعبير عن رأيها:
– انت الرجل وأنت من بيده القوامة، فلا تتوقع مني احتمال أشياء لا يمكنك احتمالها بنفسك!!
كما قالت أمه، انها قوية بما يكفي ليطمئن على نفسه معها، فقد كان أكثر ما يخشاه الارتباط بفتاة ضعيفة مستكينة، قد يُسيء اليها دون أن يدري! لم يكن مستعدا ليتحمل اثمها امام الله..
لذا كان أكثر ما أعجبه في نور أنها لم تكن من النوع الذي يصنف ضمن الفتيات الحسّاسات كأخته، والتي ما أن يرتطم بها ولو بطريق الخطأ حتى تصرخ متأوهة!! لقد سببت له عقدة حقيقية من الارتباط بأي فتاة؛ حتى خُيّل إليه أنه لو وكز أي فتاة لقضى عليها!! ربما كان متأثرا جدا بقصة سيدنا موسى عليه السلام، وربما كان شيئا آخر.. لكن النتيجة النهائية كانت واحدة..
ورغم أنه لم يشكّ لحظة واحدة بأن نور ستعجبه كما قالت أمه، إلا أن آخر ما كان يخطر بباله هو أن يهيم بها حبا، وهو الذي يعدّ نفسه رجلا عمليا بدرجة كبيرة! كل ما يهمه هو ابحاثه وكتبه، بعد أن سيطر عليه ولعه الشديد بالعلم والأبحاث الطبية الجديدة!!
حتى بعد الزواج، لم يتوقع أن تتطور مشاعره نحوها بذلك الشكل، وهو الذي كان حريصا على توضيح كل الامور المتعلقة بطبيعة عمله لها؛ حتى لا يثير لديها الغيرة بأي شكل من الأشكال! كانت متفهمة جدا أكثر مما توقع، ولم يجد منها تصرف امتعاض واحد تجاه ذلك!! بل إنه لا يذكر أنها قامت بمهاتفته خلال فترة عمله أبدا، لقد تقبلت طبيعة عمله بسرعة، ولم تكن من النوع المتشكي بأي شكل، رغم انه لم يتمكن من قضاء شهر العسل معها كما يُتوقع من عروسين!!
إما انها صبورة جدا ومتفهمة لأبعد الحدود، أو أنها تثق به تماما وتقدر موقفه، أو انها لا تبالي به مطلقا!!
وكان ذلك الاحتمال كفيل بتعكير مزاجه!
 
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 36

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

نزلت نور من السيارة بعد أن أوقفها عامر أمام العمارة التي تقع بها شقتهم، وما أن همّت بمساعدته في حمل الحقائب، حتى أشار اليها بنبرة صارمة:
– دعيها لو سمحتِ واسبقيني الى الداخل..
نظرت اليه نور لوهلة بتعجب، مالذي أصابه! غير أنها اتجهت بهدوء نحو شقتها في الطابق الأرضي من العمارة، ومئات الأفكار تعتمل في رأسها؛ وهي تحاول ايجاد تفسير واحد لتصرفاته الغريبة تلك! آخر مرة حدثها فيها كان يبدو طبيعيا جدا، رغم انها لا تذكر تماما ما الذي دار بينهما من حديث، فقد كان فكرها مشغولا وقتها، بعد ذلك هرعت لمنزلها وشرعت بتنظيفه ونفض الغبار المتكوّم بشكل طبيعي في أي منزل هجره أصحابه لمدة شهر! فمنذ أن عادت لرؤية أمها لم تأتِ ولا مرة واحدة لمنزلها، والذي كانت قد تركته قبل ذلك عندما سافرت مع زوجها للمدينة الأخرى (مدينة سوسن كما يحلو لها أن تسميها أحيانا!!).. حاولت انجاز العمل بسرعة قبل أن تستحم وتذهب لمنزل والديّ عامر، حيث أنه من الطبيعي أن يأتي لزيارتهم أولا فور عودته للمدينة.. ساعدت والدته في اعداد مائدة الطعام، رغم أنها كانت ترغب باستقباله في المطار لا سيما وأن أخاها عرض عليها فكرة التوصيل بسيارته، إلا أن عامر أصر على المجيء بنفسه، خاصة وأنه يرغب باستئجار سيارة من هناك لتبقى معه خلال الفترة الحالية..
لا بأس هو حر فيما يفعله..
تنهدت نور وهي تسترسل بأفكارها حول ما حدث بعد ذلك..
بدت الأمور طبيعية جدا منذ وصوله منزل والديه بعد المغرب، حيث تناول الطعام وتبادل معهم أطراف الحديث بمرح كالعادة، لم يكن هناك أي شيء يثير الريبة أبدا!! غير أنه بمجرد ركوبهما السيارة، تغيّر فجأة وبشكل غريب!! بدا وجهه متجهما وهو يدخل كهف الصمت المخيف، متجاهلا وجودها تماما!! حتى عندما حاولت سؤاله؛ لم يُجِبها ولو بحرفٍ واحدة!!
استعاذت نور بالله من الشيطان الرجيم من تلك الوساوس التي بدأت تراودها، ورددت دعاء دخول المنزل، محاولة طمأنة نفسها..
حسنا ما تزال هناك أمور لا تعرفها عن شخصيته، فلم يمض على زواجهما سوى ثلاثة أشهر، وقد يكون هذا أمرا طبيعيا بالنسبة له.. لا شك أنه متعب ويحتاج للراحة، خاصة وأنه تولى مهمة إخلاء شقتهما المستأجرة في تلك المدينة وحده، إذ لن يعودوا إليها مجددا..
وأخذت تحدث نفسها بثقة:
– ربما هذا كل ما في الأمر ثم تعود الأمور إلى مجاريها بالتأكيد.. كل شيء سيكون على ما يرام.. إهدئي فقط يا نور واستعيني بالله..
وابتسمت لنفسها برضا، وهي تستنشق الرائحة المنعشة التي عطّرت بها المنزل، كل شيء يبدو لامعا وبراقا، ولا شك أن هذا الجو المريح سيعدّل مزاج عامر بالتأكيد..
غير أن نبرة صوته وهو يلقي عليها السلام عندما دخل المنزل، أثارت مخاوفها من جديد، رمقته بقلق وهو يُدخل الحقائب بصمت، فحاولت كسر ذلك الحاجز المفاجئ بينهما:
– جزاك الله خيرا، لقد أنرتَ البيت بعودتك..
ولدهشتها الشديدة أجابها بلهجة جافة، دون أن يكلّف نفسه عناء النظر اليها:
– شكرا..
لم يعد مجالا للشك، هناك خطب ما بالتأكيد!
وقبل أن تجد طريقة مناسبة لمعرفة ما يحدث، خاصة وهو يصر على تجاهلها بهذا الشكل المريب؛ اختفى في غرفة النوم ليتركها شاردة في صالة المعيشة، تؤنس الحقائب بأفكارها المتلاحقة..!
هل حدث معه شيء في رحلته! هل قابل أحدا!! هل سمع شيئا؟؟ هل….!!
وبدأت نبضات قلبها تتسارع، هل يُعقل أنه….
وقبل أن تكتمل الفكرة في ذهنها، فوجئت بسماع صوته:
– اذهبي وارتدي زيك الخاص بسرعة، سأنتظرك في صالة الاستقبال.. لا تتأخرى!
فحملقت فيه بدهشة وهي تتأمله برداء الكاراتيه خاصته، وقد ربط حزامه الاسود من الدرجة التاسعة (دان 9)، حول خاصرته بإحكام! وأمام تصلّبها؛ كرر كلامه بلهجة حادة وهو يعطيها ظهره متجها نحو الصالة:
– قلت لك اسرعي!!
عندها شعرت نور ببعض الغيظ من تصرفه، من يظن نفسه ليملي عليها الأوامر بهذه الطريقة الفوقية الفظّة! أهذا هو خُلق الرجل المسلم!!!
لكنها أقنعت نفسها أخيرا بأنه يمر بحالة طارئة، ولا داعي لإثارة المزيد من المشاكل بسبب ذلك، فاتجهت نحو خزانتها باستسلام وارتدت زيها هي الأخرى، ثم ربطت شعرها على شكل ذيل حصان، دون أن تمنع نفسها من التفكير بدافع عامر هذه المرة، والذي يبدو مختلفا تماما عن أول مباراة دارت بينهما..
كان ذلك في الأسبوع الثالث من زواجهما، بعد أن أخبرها عن رغبته في رؤية مهاراتها القتالية! لا زالت ابتسامته منطبعة في ذاكرتها عندما قال لها:
– أريد التأكد بنفسي من كفاءة فتاة حاصلة على الحزام الأسود!
عندها أخذتها الحمية، وشعرت بمسؤولية كبيرة تجاه ما هي مقدمة عليه، فأجابته بتحد واضح:
– إياك والاستخفاف بنا، سأنازلك بقوة من أجل (فتيات الكاراتيه) قاطبة، فلا تتهاون معي أبدا!
فما كان منه إلا أن أطلق ضحكة مرحة:
– حسنا هيا أريني ما لديك، ابدئي أنت الهجوم، وإن تمكنتِ من لمس رقبتي فسأعترف بك رسميا!
يومها بذلت جهدا كبيرا، لم ترضى بالهزيمة او الاستسلام، فرغم أنه الحائز على المركز الأول في البطولة الوطنية للكاراتيه، إلا أن لمس رقبته لا شيء يُذكر أمام مهاراتها الخاصة! هذا ما كانت تظنه!! وبإصرار شديد تابعت هجماتها، خاصة وأن شعورها بقلقه عليها، وخوفه من أذيتها قد أعطاها فُرُصا أكبر للفوز! صحيح أنها كانت ترغب باختبار مقدرتها الحقيقية، إلا أنها لم تستطع إنكار سعادتها باهتمامه.. أما اليوم.. فالوضع يبدو مختلفا بشكل كبير!!
لكنها طمأنت نفسها، على الأقل ما دام قد طلب منها ارتداء الزي، فهذا يعني أنهما سيخوضان مباراة ودية لا أكثر! فلو أنه ينوي ايذاءها لفعل ذلك مباشرة!!
أم أنه يحاول التغطية على أذيته لها مثلا!!
أرعبتها هذه الفكرة قليلا، لكنها سرعان ما طردتها من رأسها، فهو رجل يخاف الله قبل كل شيء!!
هذا ما أقنعت نفسها به أخيرا وهي تدخل إلى صالة الاستقبال، حيث وجدته بانتظارها بعد أن أخرج كل ما من شأنه أن يعيق نزالهما من الغرفة، مما أشعرها برهبة حقيقية، وكأنها تدلف إلى حلبة ملاكمة لتواجه مصارع غامض لا تعرف عنه شيئا!!
– تأخرتِ كثيرا..
قال جملته باقتضاب ووقف في مواجهتها علامة الاستعداد!
لأول مرة شعرت برعب حقيقي من نظراته، حتى أنها شكّت بكونه زوجها عامر الذي تعرفه، فاتخذت وضعية الاستعداد بسرعة؛ ليعاجلها بهجمته الأولى المفاجئة، والتي تمكنت من تفاديها في اللحظة الأخيرة!! لقد بدأ النزال بالفعل، وبجدية تامة!!!

***

شعرت سوسن بصداع في رأسها فاستأذنت من والديها على مائدة العشاء لتعود الى غرفتها، فيما نظرت اليها امها بقلق:
– تحتاجين لراحة حقيقية بعد هذا المعرض، لقد أجهدتِ نفسك كثيرا يا ابنتي..
وعقّب والدها:
– سمعت ان أداءك كان رائعا، كان بودي الحضور، لكنك تعرفين؛ فهذه الأيام حاسمة بالنسبة لي، أنت تقدرين ذلك بلا شك!
فابتسمت سوسن:
– بالتأكيد يا أبي، أتمنى لك التوفيق في حملتك الانتخابية المقبلة..
فاستدركت أمها قائلة:
– من الجيد أنك ذكّرتني، إذ لم أجد الوقت لاخبارك من قبل، غدا سأرافق والدك في رحلة خارج المدينة من أجل المؤتمر الصحفي، اعتني بنفسك جيدا في غيابي، لقد أوصيتُ بهجة بك، فأظنها أكثر من يفهمك في هذا المنزل..
لم يخف على سوسن نبرة اللوم في كلام والدتها، فأرخت عينيها، وهي تتمنى أن لا تكون العلاقة التي توطدت بينها وبين بهجة مؤخرا، قد أثارت حفيظة والديها، واكتفت بقولها:
– اطمئني يا أمي سأكون بخير..
وبصعوبة استطاعت الصعود إلى غرفتها، وهي تحاول أن لا تبدي لوالديها مدى انهاكها، شعرت بأنها ستستقط على الدرج لكنها تماسكت، حتى اذا ما وصلت غرفتها، رمت بجسدها على السرير بإعياء شديد..
كان يوما عصيبا!!
هذا ما استقر في ذهن سوسن كأفضل وصفٍ لهذا اليوم!! لم تستطع تصديق ما سمعته، ولا ما شاهدته! لقد كانت مزحة بالتأكيد!! أهذا ما عنته نور بتحذيرها يا ترى؟؟
حاولت أن تمد يدها نحو هاتفها لتحادث نور، لكن الارهاق سبقها وقد أخذ منها كل مأخذ، فلم تنتبه لنفسها وهي تغط بنوم عميق..
 
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 35

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

لا تذكر تماما ما الذي حدث بعد ذلك، فقد كانت شبه غائبة عن الوعي وكأنها في حلم، كل ما تذكره أنها انطلقت بسرعة كمن تفر من الجحيم!! حتى إذا ما وجدت نفسها خارج المبنى دون أن يلحظها أحد ترقرقت عيناها بالدموع شكرا لله، وما لبثت أن شعرت بتهالك شديد!! تهالك أشعرها بألم لا يطاق، ليس في جسمها.. بل في قلبها!! كيف آلت الأمور إلى هذا الحال!! كانت على وشك تقديم رسالتها في تلك اللوحة!! لكنها لوحة لم يقدّر الله لها الاكتمال!!
لم تعد إلى البيت مباشرة.. فلم تكن قدماها تقويان على الرجوع.. بل اتجهتا بتلقائية نحو حديقة عامة؛ وجدت لأحزانها مكان فيها تحت ظل شجرة..
وترقرقت عينا نوربالدموع وهي تذكر تلك الكلمات التي خرجت مع آهات قلبها بعد ذلك، فقد اتخذت قرارها، قرارا لا رجعة فيه ولا هوادة، قرارا تطرح من خلاله عاطفتها جانبا، حتى ولو اضطرت لسحق مشاعرها سحقا!!
لم تكن شاعرة، ولم تكن خواطرها المتناثرة مما يصح اطلاق اسم الشعر عليه، غير أن ما جادت به مشاعرها المحطمة آنذاك؛ كان أشبه ما يكون بترانيم حزينة لقلب مكلوم!


إلهي لا تعذبني فقلبي لن يطق صبرا
ظننتُ بداية أني محنّكة وبي الفخرا
فإذ بي ربي مخلوقٌ أصاب غروره الكبرا
فأعمته الغشاوة عن حقيقة نفسه المُرّا
وها أنا يا إله الكون أشهد أنني صفرا
وأشهد أنك الرحمن رب الأرض والشعرى
فهل لي يا رجاء الخلق بعد جنايتي عذرا
فإني في معاناة تفجر أدمعي نهرا
وضاق الصدر بالالام والاحزان وانفطرا
وصار الهم يجري في عروق النفس مستعرا
أحيي الصحب باسمة ولا يدرون بي قهرا
ولكني أرى يأسي من الغفران كالكفرا
فلولا أن لي ربا له يسرٌ يلي عسرا
وأنه سامع النجوى وسري عنده جهرا
وأنه كاشف البلوى مجيب دعاء مضطرا
لما طابت لنفسي العيش في دنيا بها كدرا
ولا صاحبت إخوانا ولا حادثتهم خبرا
ولا سمعت لي الآذان شدو بلابل السحرا
ولا ذقتُ الطعام ولا نعمتُ بأنعمٍ تترى
.
.

– نور.. نور ألا تسمعينني!!
انتبهت نور على صوت والدتها أخيرا، فنهضت من مكانها بسرعة وهي تشعر بالذنب، إذ كان من النادر أن لا تلبي نداء والدتها من المرة الأولى:
– آسفة يا أمي لم انتبه لندائك، هل تريدين شيئا؟؟
فرمقتها أمها بقلق وهي تلاحظ شرودها الغريب:
– ما الذي أصابك يا ابنتي، هل حدث شيء؟؟ عامر يحاول الاتصال بك؛ لكنك لا تردين على هاتفك، فاتصلَ بي، سوف يعود الليلة إن شاء الله..
فهتفت نور بدهشة:
– حقا!! علي أن أعود إلى منزلي وأقوم بنفضه فورا!!
وقبل أن تهم بمعاودة الاتصال بعامر بعد أن رأت ثلاث مكالمات منه، رن هاتفها فردت عليه فورا بلهجة مرتبكة:
– اعذرني يا عامر، فلم انتبه لاتصالك.. لقد أخبرتني أمي الآن وسأنتظرك في المنزل إن شاء الله..
غير أن صوته بدا قلقا بعض الشيء وهو يسألها باهتمام:
– هل أنت بخير يا عزيزتي؟؟
كان سؤاله مباغتا بالنسبة لحالتها فلم تعرف كيف تصيغ إجابة مناسبة، فاصطنعت ابتسامة مرحة بسرعة:
– لا شيء مهم، كنت شاردة فقط، فلا تقلق!!

***

انتبهت سوسن لنداء سيدة أخذت تهتف باسمها من وسط الجمع المحيط بها أمام لوحاتها في المعرض العالمي، فالتفتت نحوها لتجد العجوز التي التقتها في غرفة المصلى سابقا تلوح لها بابتسامة عريضة، فأسرعت نحوها لتحييها بابتسامة مماثلة:
– مرحبا بك يا خالة، لقد افتقدتك أمس وظننتك لن تأتي!
فاعتذرت لها العجوز بضحكة مرحة:
– ها أنت ترينني أمامك الآن يا ابنتي، لقد أخذنا الوقت البارحة ولم نتمكن من العودة لرؤية زاويتك، لذا ألححتُ على حفيدي أن يحضرني اليوم خصيصا لرؤيتها قبل أن يغلق المعرض أبوابه..
فابتسمت سوسن برقة:
– هذا لطف كبير منك يا خالتي، ويسعدني سماع رأيك عنها..
غير أن العجوز بدت قلقة وهي تلتفت يمنة ويسرة فسألتها سوسن بتوجس:
– هل تبحثين عن شيء؟
فتمتمت العجوز بصوت خفيض بالكاد سمعته سوسن:
– غريب.. أين اختفى ذلك الولد! لقد كان يقف إلى جانبي قبل لحظات..
وبتلقائية انتقلت عدوى القلق لسوسن، وكأنها تستمع لحادثة ضياع طفل صغير لم يبلغ سن التمييز بعد! لكن وجه العجوز سرعان ما تهلل بشرا وهي تشير بعينيها إلى شاب ملتح وقف يتأمل اللوحات بعيدا عنهما، فنادته العجوز بعفوية:
– مهند.. ما الذي تفعله عندك؟ لقد قلقتُ عليك يا ولد!
فرد عليها الشاب بأدب، متحاشيا النظر إلى سوسن:
– لا تقلقي يا جدتي إنني أنتظرك..
فضحكت العجوز وهي تخاطب سوسن:
– لا عليك.. لقد أقلقتك معي دون مبرر، فحفيدي خجول بعض الشيء وأخشى عليه الضياع أحيانا..
ورغم احمرار وجنتي سوسن من مفاجأتها برؤية ذلك الشاب الناضج الذي يظهر عليه سيماء التدين والالتزام، والذي ذكرها لوهلة بعامر زوج نور، إلا أنها شعرت برغبة عارمة باطلاق ضحكة كادت أن تفلت منها، وهي تحدث نفسها:
– أهذا هو الطفل الذي تخشى عليه الجدة من الضياع!!!
لكن العجوز لم تتركها لأفكارها كثيرا إذ سرعان ما انخرطت بالسؤال عن أدق التفاصيل في كل لوحة، فيما أخذت سوسن تشرح لها بحماسة منقطعة النظير، أما أيهم الذي عاد للتو من دورة المياه، فلم يخفى عليه ملاحظة ذلك الشاب الواقف بهدوء إلى جانب لوحات سوسن..
أخذ يراقبه بتمعن وقد شعر بأنه رآه من قبل دون أن يذكر أين!! لسبب ما شعر برغبة قوية في مراقبته بتفحص أكثر، وملاحظة نظراته دون أن يشعر، غير أن النتيجة التي حصل عليها كانت واحدة..
لم يره ينظر ولا مرة واحدة نحو سوسن!!
كان هذا هو أكثر ما شغل بال أيهم في تلك اللحظات!! بينما أخذت يده توقع بحركة آلية على دفاتر المعجبات اللاتي اجتمعن حوله، غير أنه انتبه لصوت سيدة عجوز تخاطبه:
– أنت أيهم خطيب سوسن إذن! أنت محظوظ حقا بها يا بني..
فابتسم لها أيهم مجاملة وقد سره ظهورها الذي أراح يده قليلا من كثرة التواقيع؛ بعد أن تحوّلت الانظار نحوها باستفهام غريب، وقبل أن يهم بالرد عليها ولو بكلمة، كانت قد نادت حفيدها قائلة:
– هذا هو أيهم خطيب سوسن، تعال وسلم عليه يا مهند قبل أن نذهب..
وبمنتهى البساطة قامت الجدة بمهمة التعارف بين الشابين، دون أن تبدو أدنى غضاضة على وجه مهند الذي أخذت الجدة تتحدث نيابة عنه كالطفل الصغير، فيما قام هو بمصافحة أيهم بابتسامة بشوشة:
– سررتُ بمعرفتك، أرجو أن لا يكون هذا قد أزعجك؛ فجدتي تعد الجميع إما ابناءها أو أحفادها..
فيما تابعت الجدة كلامها بابتهاج:
– مهند طبيب حاذق جدا ما شاء الله يمكنك استشارته في أي أمر تشاء..
والتفتت نحو مهند قائلة:
– ربما لو أعطيته بطاقتك فسيكون هذا أفضل يا بني..
وبانصياع تام أخرج مهند محفظته وتناول منها بطاقة ناولها لأيهم بابتسامة ودودة:
– يسعدني اتصالك في أي وقت..
وبمجاملة تامة تناول أيهم البطاقة وهو يبتسم باقتضاب:
– شكرا لك..
فيما بقيت نظراته معلقة بذلك الشاب الذي لم يرق له مظهره، حتى توارى عن ناظريه وسط الجموع، فتنهد ملتفتا لسوسن التي أخذت تبلل حلقها من قارورة ماء:
– شاب غريب حقا!! ألا يذكّرك بشخصٍ ما!
همت سوسن أن تجيبه؛ لكنها تداركت نفسها فأمسكت عن الإجابة، فيما تابع أيهم طرح أسئلته بتفحص:
– ما رأيك فيه؟
فوجئت سوسن بسؤاله، هل هو فخ ما، ويُفترض بإجابتها أن تكون على نسق معين!!
فصمتت قليلا قبل أن تقول بعد إلحاحه الشديد:
– إنه شاب مهذب!!
فرمقها أيهم بنظرات ذات معنى:
– أهذا كل ما لديك؟؟
فنظرت اليه سوسن بتعجب، مما جعله يتوجه لسؤاله التالي:
– وكيف استنتجت ذلك؟
فأجابته بعفوية:
– لم يكن ينظر نحوي مطلقا على عكس غيره من الرجال!
فسألها بسرعة كمن يوجه الضربة القاضية:
– وكيف عرفت ذلك؟؟
بوغتت سوسن من ذلك السؤال ولم تجد ما ترد به عليه، فتابع أيهم كلامه:
– يبدو أنك أنتِ من كان ينظر إليه يا سوسن!! أظن أنه النوع الذي بات يستهويك من الرجال!!
فاحمرت وجنتاها بنوعٍ من الغضب، وهي ترد بحدة:
– ما الذي تعنيه بكلامك؟؟ أيهم.. لم أعد أفهمك!!!!
فتدارك أيهم نفسه بسرعة:
– لا تسيئي فهمي يا عزيزتي، كان مجرد تعليق عابر..
وتناول يدها بحركة خاطفة ليقربها من شفتيه هامسا:
– آسف لتعكير مزاجك يا حبيبتي في آخر يوم لك في هذا المعرض..
ولأول مرة لم تفلح تلك الطريقة في امتصاص غضبها، بل زادت من امتعاضها لا سيما وقد أصبحت مركزا لأهداف العيون المحدقة بهما من كل جانب، فسحبت يدها قائلة:
– لا بأس.. كما قلت؛ فاليوم هو آخر أيام المعرض..
وأخذت تنظر في ساعتها قبل أن تتابع:
– لم يبق أمامنا سوى أقل من ساعة…
غير أن أيهم قاطعها وهو يقف أمامها مباشرة معترضا حركتها:
– لا تزالين غاضبة مني أليس كذلك؟؟
فحملقت فيه سوسن لوهلة فيما تابع كلامه بنبرة ودودة:
– حقا إنني أعتذر يا سوسن، لم أقصد ذلك..
والتقط نفسا عميقا قبل أن يقول:
– لا أعرف كيف أبرر ما قلته لك سابقا، لكنني..
وصمت قبل أن يتابع بتردد أكبر:
– لقد شعرتُ بالغيرة فعلا!
خفق قلب سوسن على حين غرة بمجرد سماعها تلك الكلمة وبتلك النبرة!! كان جادا تماما وهو يقولها هذه المرة، فنظرت إليه بابتسامة مطمئنة:
– أيهم.. أنت أكثر من يعلم بأنه من المستحيل على قلبي أن يهتم برجل آخر غيرك..
غير أنها سرعان ما انتبهت للجماهير التي تحلّقت حولهما كالجراد، وكأنهم بصدد مشاهدة عرض مسرحي على الهواء مباشرة، ولم يخف عليها ملاحظة الأيادي التي أخذت تلتقط الصور بحماسة، فالتفتت نحو لوحاتها محاولة تجاهل ما يجري، بينما كان الدم يغلي في عروقها لأقصى درجة، لا شك أن الصور ومقاطع الفيديو ستنتشر عبر جميع الوسائل الاعلامية كانتشار النار في الهشيم بلمح البصر، وعضّت على شفتيها بضيق محدثة نفسها بألم:
– أهذا يعجبك يا أيهم!! ستزيد شعبيتك بالتأكيد!!
كانت تشعر بأنها واقعة تحت ضغط كفيل بسحق أقسى أنواع الصخور المعروفة على وجه الأرض! اختناق كبير لحد الموت، تمنت معه لو أن الأرض تنشق وتنهيها من الوجود! كم تمقت هذا النمط من الحياة…
وقبل أن تغرق في المزيد من تلك الأفكار المظلمة؛ انتبهت على صوتٍ يهتف بإسمها بلطف شديد، فالتفتت نحوه لتفاجأ بسامر وهو يناولها منديلا معطّرا مع ابتسامة رقيقة:
– تبدين منهكة جدا يا سوسن..
وبدلا من أن تجيبه بأي شيء أو تتناول المنديل منه ببساطة، شعرت بارتباك مفاجئ أفقدها توازنها؛ فالتفتت بسرعة تبحث بعينيها عن أيهم، لتجده غارقا وسط معجبيه حتى النخاع!!!

………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 34

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

تنهد سامر وهو يصحو من سيل ذكرياته تلك ليجد نفسه واقفا كما هو أمام لوحات نور في المعرض العالمي، غريب أمر القدر!! لماذا يصر على تذكيره بها كلما ظن أنها خرجت من حياته للأبد!! لوحة الوردة الحمراء تحديدا.. انها الوردة نفسها بلا شك.. تلك التي وقف يتأملها طويلا قبل عامين بعد تلك الحادثة، آخر لوحاتها في معهده.. لوحة لم تكتمل، كانت تلك هي آخر رسائلها إليه!!
ما زال يذكر تفاصيلها وكأنها أمامه..
وردة حمراء يحيط بها جدار منيع له باب وحيد، وأيادي تحاول الوصول إليها عبر النوافذ الضيقة لكنها تنزف وتتقطع قبل أن تتمكن من لمسها…
الرسمة لم تكتمل ولن تكتمل، فقد غادرت نور معهده بلا رجعة!! لكنه فهم مغزاها!! لم يعد يشك بأنها موجهة له شخصيا!! يومها أخذ يتأملها كمن يراها للمرة الأولى، بدت لوحة يتيمة على (مسندها الخشبي)، بعد أن فقدت أمّها قبل الفطام!! منذ متى بدأت برسمها!! هل كانت تحاول منذ البداية ايصال تلك الفكرة اليه! لم يكن متأكدا من هذه النقطة بالذات! لو كانت كذلك فعلا، فهذا يعني انه احتل جزءا من تفكيرها وهو لا يدري!
لقد أوشك على انهاء عقده الثالث دون أن يعثر على فتاة يرضاها شريكة له، كان ذوقه صعب الارضاء، فلم تفلح أي واحدة من قريباته بترشيح من ترضاها روحه!!
أما نور فقد كانت الوحيدة التي تمكنت من التربع على عرش قلبه، وكأنها الفتاة المنشودة التي طالما انتظر ظهورها في عالمه، لولا ذلك الاختلاف بينهما!! أسلوبها المتحفظ الذي لا يناسب أسلوب حياته! ومع ذلك.. كان يرغب في ردم تلك الفجوة بينهما.. لولا ذلك الحادث!! لقد أصبح الوصول إليها مستحيلا! حاول أن ينساها ولكن دون جدوى، لا سيما وأن لوحاتها لم تزل صامدة في معهده! وحتى أن فكّر في إزالتها، فهي محفورة على جدران قلبه!! كانت هذه هي المشكلة الحقيقية، لقد ارتبطت نور بأوثق عالم يخصه.. عالم الفن الذي لا حياة له من دونه! نسيان نور، يعني نسيان عالم الفن، وهذا هو المستحيل بعينه!!
كان يحاول معرفة أخبارها، وتتبع آثارها بين الحين والآخر، حتى جاء اليوم الذي سمع فيه اسوأ خبر يتوقعه، يومها غامت الدنيا في وجهه، وشعر بحزن فاجأه!! لم يكن يتوقع أن تكون ردة فعله ازاء خبر زواجها مؤلما إلى هذه الدرجة!! لم يكن يراها، كما لم تكن بينه وبينها أي وسيلة اتصال خلال سنة ونصف تلت آخر يوم رآها فيه، فما باله يكترث لخبر زواجها بهذا الشكل!! هل كان يحبها حقا!! لو كان كذلك، فلماذا لم يتقدم لخطبتها مباشرة! لماذا لم يبذل أي جهد للمحاولة من أجلها!! ما الذي كان ينتظره!! لقد عرف وقتها معنى الندم لأول مرة في حياته!!
عجيب أمر هذه الحياة.. وعجيب أمر هذا القلب!!
هل كتب عليه أن يعيش مأساة جديدة في أقل من ثلاثة أشهر!!
لقد نجح في تخطي تلك الأزمة، (خبر زواج نور!) بعد أن أقنع نفسه بأنها لم تكن الفتاة التي تناسبه، واكتفى باعتبارها مجرد ذكرى جميلة تركت أثرا حسنا في معهده، وانخرط في عالمه الفني من جديد، مستعيدا حماسته وحيويته، خاصة وقد أصبح مشغولا بالاعداد والتنظيم للمعرض العالمي، حيث تم تعيينه مسؤولا مباشرا عن تقييم اللوحات المشاركة..
حتى ذلك الحين.. لم يكن يؤمن بنظرية الحب من النظرة الأولى!!
لكن رؤية سوسن كان كفيلا بتغيير تلك العقيدة..
لقد دخلت قلبه بلا استئذان ومن النظرة الأولى!! حتى إذا ما كذّب ظنه، جاءت المتواليات بعد ذلك تثبت له أنها هي الفتاة المنشودة هذه المرة، كان ذلك هو احساسه دون أن يجد دليلا واحدا يثبت كلامه!! لسبب ما شعر بأنها نسخة من (نور) في حلة جديدة تناسبه تماما، وكأن ما تفرّق من (نور) قد اجتمع فيها، فغدت مثالا كاملا لما كان يفتقده!! ليكتشف فيما بعد أنها صديقتها! أفيعقل أن يكون هذا هو سبب حبه لسوسن من النظرة الأولى!! هل أدركت روحه ذلك قبل أن يدركه عقله وتبصره عينه!!
لكن الحياة أبت إلا أن تسخر منه مجددا..
فلئن كانت الفتاة الأولى محافظة يصعب التفاهم معها، فالثانية مخطوبة يستحيل الوصول إليها!!
انها مرتبطة بشاب.. تهيم في حبه!!
حاول تجاهل ذلك بداية، حتى إذا ما رأى تلك اللوحة التي أبدعتها أنامل نور، كاد أن يغشى عليه من وابل الذكريات التي انبثقت في وجهه فجأة!! أما زال طيف نور يصر على ملاحقته أينما ذهب!! لقد فهم الرسالة للمرة الثانية.. فلم يستطع البقاء أكثر وقتها!!
تنهد سامر وهو يتأمل اللوحة التي حوت الوردتين مرة أخرى، كالواقفين على الأطلال! اليوم هو اليوم الأخير في المعرض العالمي، وسينتهي كل شيء!!
ما باله يذكر خيبة أمله مع نور في هذه اللحظات بالذات!! هل سيكرر التاريخ نفسه!! لقد حوت اللوحة تحذيرا مبطّنا لسوسن، فهل أقنعتها!!
وأخذ ينفض الفكرة من رأسه خشية أن تؤثر على قلبه فيؤمن بها، وهو يقنع نفسه باستماتة:
– كلا.. سوسن مختلفة.. إنها تشبهني أكثر، ولن يتكرر الموقف مرتين.. فلئن خسرتُ نور إلى الأبد، فهذا لأنها لم تكن (النصف الذي يكملني)، ولا المثال الذي أرجوه! لن أتراجع هذه المرة، سأصارح سوسن بحبي مهما كلفني الثمن، قد لا أرتبط بها ولكن يكفيني إزاحة هذا العبء عن كاهلي، فلن أندم مرتين!!

***

لم تكن نور في حالة جيدة صباح ذلك اليوم، فقد تركت مكالمة سوسن ليلة أمس أثرا أكبر مما تخيلته على نفسها، الاستاذ سامر!! لقد مر على ذلك وقت طويل..
هل كانت تتخيل أن تمر بتجربة كتلك التجربة من قبل!! كان جل تركيزها منصبا على هدف واحد.. فكيف حادت الأمور عن هذا المسار فيما بعد!!
نور.. الفتاة المشهورة بالتزامها الشديد، والتي ما غامرت بدخول معهد الفن الحديث إلا بعد أن علمت بانتساب العديد من الفتيات إليه مما طمأنها لاستحالة وجود أي خلوة محتملة.. فقد كان هدفها ابتغاء رضى الله فيما تسعى لتحقيقه، ومحال أن تسلك طريق لا يرضاه الله لتحقيق ذلك الهدف!
“الدعوة عن طريق الفن”.. حلم راودها لزمن طويل، غير أنه كان ينقصها الخبرة لتتقن لوحاتها بشكل يليق بذلك الهدف السامي، كانت بحاجة ماسة لمرشد يأخذ بيدها، وقد كان الاستاذ سامر ذلك المرشد!! لقد كان بارعا.. فنانا محترفا، شغوفا بعمله ومهتما به، وفوق ذلك كله، كان مثالا لحسن الخلق والذوق في التعامل والاحترام، رغم عدم التزامه الشرعي الواضح..
كان هذا هو انطباعها عنه بداية، ولا زالت تذكر اليوم الذي تمكنت فيه من إنجاز أول لوحة بإتقان، يومها دعت له من أعماق قلبها وهي تشعر بامتنان شديد نحوه.. ومع ذلك؛ كانت حريصة أشد الحرص أن لا يتطور الحديث بينهما إلى أي موضوع جانبي، لا سيما وأنه لم يكن ملتزما من الناحية الشرعية، متحررا بطبعه، ولا يجد أدنى حرج في مصافحة الفتيات وحتى مصادقتهن!
كانت جادة جدا في تعاملها معه، ولم يخطر ببالها أن تأخذ اهتمامه بها على محمل الجد، فقد كانت تلك طبيعته برأيها ولا شيء خاص!! لكن ملاحظة إحدى الفتيات جعلتها تنتبه قليلا:
– الاستاذ سامر مهتم بك يا نور، بل أظنه معحب بك أيضا..
وقتها تمكنت من اخفاء ارتباكها بصعوبة، وهي تحاول اصطناع ابتسامة لا مبالية:
– أي أستاذ يعجب بتلاميذه المجتهدين، هذا كل ما في الأمر!
لكن الفتاة أصرت على رأيها:
– لا أظن ذلك، فدائما ما يسترق النظر إليك خلسة وباهتمام واضح، بل إنه يحرص أن يكون في المكان الذي تجلسين فيه، من الغريب أنك لم تلاحظي ذلك!!
لم تستطع أن تحدد وقتها طبيعة المشاعر التي غلبت عليها إثر تلك الملاحظة، أهو الضيق والخوف أم السرور والفرح!! هل شعرت بسعادة لأنها حازت على ذلك الاهتمام من جانبه!! هل رأى فيها شيئا مميزا يجذبه اليها! هل من الممكن أن يتغير بسببها!! العديد من الاسئلة راودتها، لتكتشف بوضوح أنها تكن له مزيجا من المشاعر، أكثر مما يكنه التلميذ لمعلمه!! غير أن التزامها وخُلُقها كانا يقفان حاجزا أمامها دائما، لا يمكنها التساهل بأي تجاوز مهما كان!!
فأقنعت نفسها بأن ذلك لم يكن إلا وهما، وحاولت ألا تأخذ تلك الملاحظة على محمل الجد، غير أن ما حدث بعد ذلك جعل لتلك الملاحظات أكبر الأثر في قلبها، خاصة وقد بدأت تربط الأحداث ببعضها.. يوم أن لمس يدها أول مرة ليتناول الريشة، هل هي مصادفة حقا!! يومها كادت القشعريرة التي سرت في جسدها أن تلقي بها مترين إلى الوراء!! فهل هذا المكان آمن!!
عندها.. كان عليها أن تواجه نفسها بوضوح.. هل أصبح ذهابها للمعهد من أجل هدفها أم من أجله هو!! لقد اختلطت عليها الأمور بعد أن لم تعد تنكر في نفسها ميلها الشديد إليه!!
لقد أحبته ولكن ما من وسيلة تدعوها للتعبير عن ذلك، فهي ملتزمة وتعرف حدودها جيدا!! يومها شعرت بمعاناة كل فتاة تقع في الحب!! إنه ليس بالأمر الهيّن أبدا!!
إنه ليس من نوعها ولا هي من نوعه، فلماذا استحوذ على تفكيرها!! لماذا أصبحت مهتمة به إلى هذا الحد!! كان قلبها يؤلمها بشدة.. ماذا لو تقدّم لخطبتها رسميا، هل سترضى به!! هل يصلح لأن يكون شريكا لبناء أسرة صالحة!! إنه معلمها ومرشدها لتحقيق حلمها، فإن كان معجبا بها حقا، فلم لا تكون سببا في هدايته!! لمِ لا يتشاركان الحلم سويا، ويعملان معا في نهضة الأمة!! لو تحقق هذا فقط؛ فستكون أسعد فتاة على وجه الأرض..
كان قلبها متشبثا بهذه الفكرة وبشدة.. لو أنه تقدّم رسميا فقط، لربما أعادت التفكير في ارتباطها بشاب لم تكن لِتوافق عليه من قبل مطلقا!!
غير أن شيئا من ذلك لم يحدث، إنه لا يزال يحوم حولها دون أن يطرق الباب، فيما أصبحت سيطرتها على مشاعرها أشد صعوبة من ترويض فرسٍ هائج!!
كان هذا هو أصعب محك وجدت نفسها فيه!! عليها أن تجيب السؤال بوضوح وصدق؛ أين أنتِ من دينك يا نور؟؟ هل أنت حقا تسيرين في طريقٍ يرضي الله!! أم أنه الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء!!
أصبح بكاؤها كل ليلة أمرا حتميا، وما زالت تذكر دعواتها في قيام تلك الليالي:
– ” يارب اغفرلي وارحمني.. يارب لا تحملني ما لا طاقة لي به، فإن كان فيه خير فقرّبه مني، وإن كان غير ذلك فأخرجه من قلبي..”
لا تدري كيف خطر لها بعدها تنفيذ تلك اللوحة..
سيفهمها بالتأكيد.. لو أراد ذلك!!
(وادخلوا البيوت من أبوابها..)
أخذت تعمل في تلك اللوحة بكامل أحاسيسها ومشاعرها، بل هي من أشعلت فيها جذوة حماستها القصوى للفن من جديد، فهي أملها الأخير..
حتى جاء ذلك اليوم الرهيب..
هل يُعقل أنه كان صادقا معها فيما حدثها به من أمر إغلاق الباب!! هل يعقل أن تحدث جميع تلك الأمور بلا قصد منه، وبمحض الصدفة البحتة!!! لا يوجد صدفة في هذه الحياة، فهل هي قدر أزلي لا دخل له به!! يومها كادت أن تدفع بها تلك الأفكار إلى الجنون! ماذا لو كان قد رتّب لحدوث ذلك فعلا!! ما الذي سترجوه بعدها من رجل فقدت الثقة به تماما!!!
إنه أسوأ يوم في حياتها بلا شك!!
قاعة كبيرة مغلقة تجد فيها نفسها وحيدة مع شاب تكن له من مشاعر الحب ما الله به عليم!! أي ترتيب شيطاني دفعهما إلى هذا الحال!! تخيّلت وقتها شياطين الكون مجتمعة في تلك القاعة تمرح وتضحك وتبارك لبعضها ذلك الجمع المأفون!!
كانت تحاول تهدئة نفسها بصعوبة وهي تردد ما تحفظه من آيات وأدعية، إلا أن توترها بات واضحا رغم حرصها الشديد على إخفائه أمامه.. إنه محترم ولن يخطر بباله أي شيء سيء بلا شك، هذا ما كانت تقنع نفسها به، غير أن الأجواء كانت تفرض سيطرتها رغما عن الجميع! الخلوة هي الخلوة!! هل كانت تتخيل أن نظراته لها لم تكن طبيعية! هل كان يحاول التعبير لها عن مشاعره في ذلك الجو المخيف!! ماذا لو أنه فكّر في…!! أولو هم بـ….!!
يا إلهي .. ما هذه المصيبة…!!
بل وماذا لو رآهما أحد على تلك الحال!!!
حتى السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها لم تنجو من حديث الافك!! فبرأها الله من فوق سبع سماوات، فماذا عنها هي!!
كان ذلك جزء بسيط مما خطر ببالها في تلك اللحظات العصيبة، وهي تحاول إعمال فكرها جاهدة للخروج من تلك الورطة، يومها خانتها كل الوسائل المتاحة؛ حتى بطارية هاتفها، كانت فارغة!! أيعقل أنه هو أيضا وراء ذلك!!! ولكن.. حتى لو تمكنت من استعمال هاتفها في ذلك الوقت، ما الذي كانت ستقوله!!!
كانت دقات قلبها تردد وبلا توقف:
– “يارب احفظني واسترني واغفرلي الذنب الذي أدى بي إلى هذا الحال..”
فيما كانت الأفكار المرعبة تتوالى عليها بشدة، حتى لو استطاعت الدفاع عن نفسها في أسوأ الاحتمالات، فكيف سيكون موقفها أمام من سيفتح لهما الباب!!
كانت كل لحظة تمر عليه كأنها سنة من الأفكار المروّعة، حتى عندما انشغل باللوحة أمامه، خُيّل إليها أنه يخطط لأمر ما، ماذا لو أن معه مخدّر!! ربما يكمّم فمه وأنفه قبل أن يفتح عبوة منوّمة لتستنشقها هي!! كانت حريصة على مراقبة تحركات يديه خصيصا، إضافة لحرصها على الابتعاد عن مجال رؤيته وهي في أشد حالات التأهب!! ولكنها قد تكون واهمة فقط، فربما كان منشغلا فعلا بلوحته، أعطاها ذلك شعور بالطمأنينة لبعض الوقت؛ فجلست تستعرض الأفكار المحتملة.. كل شيء كان سيئا!! لو جاء أحدهم لفتح الباب ورآهما على ذلك الحال فهذا سيء، ولو لم يأتِ أحد فهذا أسوأ!!! وتسارعت نبضات قلبها مع تلك الفكرة!! هل يمكن أن لا يقوم الحارس العام بتفقد الطابق الرابع قبل إغلاق البوابة الرئيسية للمبنى!! ستكون تلك الكارثة الكبرى!! أخذت تدرس المنافذ المحتملة، النوافذ مغلقة فهي لا تستخدم للتهوية، وهي من الزجاج القاسي، ولو حطمتها فربما تأذّت بالشظايا لتجد نفسها في موقف لا تحسد عليه، وتزيد الطين بلة! حتى لو نجحت في ذلك فهي على ارتفاع أربعة أدوار، ولا يمكنها المجازفة بالخروج عن طريقها والسير على حافتها للانتقال من طابق إلى طابق، إضافة إلى أن منظرها سيكون مريبا وملفتا للانظار بشكل كبير! وربما تصبح موضوعا للصفحات الاولى في صحف الغد ولمدة شهر كامل!!
ماذا عن الباب!! إنه من الخشب المتين وذو دفتين، تُفتح الأولى فقط في العادة، في حين تثبّت الأخرى على غرار أبواب المراكز والمعاهد.. ولكن هل يمكنها كسره من الضربة الأولى!! فهي لم تكن ترغب ببذل جهد يستنفذ طاقتها دون نتيجة تُذكر، وربما تسبب حركتها تلك بإثارته فيقوم بتصرفات غير مبررة!!
لم تكن واثقة من قدرتها على كسر الباب، رغم أنها حطّمت ألواحا من الخشب أثناء تدريباتها المتقدمة في الكاراتيه!! كان عليها تفحّص الباب جيدا، ومن لطف الله بها أنه لم يكن من الأبواب التي تُصنع لتزويد المكان بحماية رئيسية، فقد كان المعهد في مركز مزوّد بحماية خارجية..
كانت مشغولة تماما بالتفكير في أمر الباب عندما فاجأها بسؤاله الغريب على حين غرة، لحظتها شعرت بالخطر الحقيقي!! هل هذا هو الوقت المناسب لسؤال كهذا!!!
لم تذكر ما الذي أجابته به في ذلك الوقت، فقد أصبح جلّ تركيزها منصبا على طريقةٍ للخروج، وبقرارٍ سريع وجدت نفسها تدق الباب لعل أحدهم يسمعها بعد أن لم يعد أمر الفضيحة يهمها في شيء!! غير أن شعورها به خلفها، كاد أن يفقدها صوابها!! ما الذي يخطط له!! وبلا وعي منها قفزت بسرعة خاطفة على طريقة اللاعبين المحترفين، ومن ثم استخدمت أسلوب التمويه الذي تتقنه، فقد وقفت خلفه تماما دون أن يشعر، لم تكن تتوقع أنها ستستفيد مما تعلمته من تلك الأساليب يوما ما للحفاظ على نفسها، حتى إذا ابتعد مسافة كافية عن الباب لم يكن أمامها سوى خيار واحد!! أغمضت عينيها وهي تستشعر افتقارها الشديد لعون الله لها في تلك اللحظة، وبسرعة اتخذت الوضعية المناسبة وحددت مكان الهدف، قفل الباب الذي يفصل بين الدفتين!! استجمعت طاقتها وبكل ما أوتيت من قوة ركلته بقدمها ركلة اهتز لها الباب بل والمكان كله، وقبل أن يكون هناك مجال لأي ردة فعل؛ أتبعتها بركلة أخرى كانت كفيلة بفتح الباب على مصراعيه!!

………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 33

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

في ذلك اليوم.. غادر معظم الملتحقين بمعهده باكرا، لحضور إحدى الحفلات الغنائية التي ذاع صيتها في المدينة، وبالطبع لم يكن هذا من اهتمامات نور بأي شكل من الأشكال، فلم تكترث للأمر كله منذ بداية الحملات الاعلانية، وقد تزامن ذلك مع أول معرض يسعى معهد الفن الحديث لإقامته، مما جعل طلبه منها بإنجاز عدد من اللوحات يبدو طبيعيا جدا، كانت مستغرقة تماما في لوحاتها دون أن تنتبه لخلو المعهد تماما من سواهما، فقد غادر الجميع باكرا جدا دون أن تنتبه، كما توقع تماما، بل كان حريصا أشد الحرص أن لا تشعر بذلك من الأساس، وزاد على ذلك بترتيب أمر خروج الحارس المكلف بإغلاق الباب عادة، بحجة أنه لم يبق أحدا في معهده وسيقوم هو بنفسه بإغلاقه! لم يكن سامر متأكد من الدافع الحقيقي الذي حدا به لاتخاذ مثل هذه الخطوات الجريئة جدا، لكنه كان مصمما على تنفيذها بشكل غريب!! وما أن وقعت عيناه على نور المنهمكة في عملها بعد أن أحكم إغلاق الباب، حتى تسارعت نبضات قلبه بشكل عنيف، إنهما وحدهما في هذا المكان المعزول، راودته مشاعر غريبة لم يعرفها في نفسه من قبل، لم يشعر بقدميه وهما تتجهان نحوها بتلقائية، وكلما اقترب خطوة منها، زاد غليان الدم في عروقه!! ما الذي سيفعله الآن!! أهذه هي خطته أم ماذا!! هل هو مجنون بها إلى هذه الدرجة، أم أن هذا ما يمليه الجو عليه!!!!! إنها تبدو له جميلة جدا بهيأتها تلك، فكيف بها وهي من دون حجابها؟؟
وأخيرا وجد نفسه واقفا خلفها تماما، وقبل أن تستقر يده على كتفها، قفزت من مكانها بتلقائية كما هو متوقع منها، لتواجه الموقف الرهيب للمرة الأولى..
لقد رأى ذلك في عينيها القلقتين وهما تجوبان المكان الذي خلا إلا منهما، بل وسرعان ما لاحظ عينيها المثبتتين على الباب الذي تم إغلاقه، كان يقرأ ما يدور برأسها بسرعة وهو يتابع تحركاتها بصمت، لقد بدأت بتجهيز أشيائها للمغادرة ولا شك أنها بصدد اختلاق عذر أيضا، ليس هذا غريبا عليها، ولكن ما هي ردة فعلها عندما تكتشف حقيقة إغلاق الباب!!!
– أظن أن هذا يكفي لهذا اليوم، سأكمل اللوحة غدا إن شاء الله..
غير أن سامر الذي لم يحوّل ناظريه عنها، ظل صامتا، هل يتركها تذهب لتكتشف الحقيقة بنفسها، أم يخبرها بذلك وكأنه اكتشف الأمر قبلها!!
لم يستغرق الأمر أكثر من ثوان معدودة كانت كفيلة بتصعيد التوتر عند نور لأقصى درجة، وهي تحاول تكذيب ما تراه، فقالت بصوت بذلت جهدها كي لا يبدو مرتبكا:
– أرجو المعذرة، لكن الباب مغلق يا أستاذ!
عندها تظاهر سامر بالمفاجأة أيضا وهو يقترب من الباب بهدوء، حتى وضع يده أخيرا على المقبض ليجرب فتحه متظاهرا بمعالجة قفله، فيما ابتعدت هي عنه مسافة كافية، ليقول بعدها كمن استدرك أمرا:
– ربما أغلقه الحارس وغادر دون أن ينتبه لوجودنا، فاليوم كما تعلمين حفلة غنائية كبيرة للمشاهير، وعادة ما يحرص الجميع على حضورها!!
فأسرعت نور تقول بعفوية دون أن تترك له مجالا للتفكير:
– بإمكانك الاتصال عليه يا أستاذ، أليس كذلك؟
كان يرمقها بنظرات ثابتة لم يستطع هو نفسه تفسيرها، لكنه انتبه لنفسه فأجابها مصطنعا الجدية:
– حسنا دعيني أرى..
وذهب نحو مكتبه حيث يضع هاتفه عادة، فتناوله وأخذ يبحث فيه، شاعرا بعينيها المثبتتين عليه، قبل أن يقول بخيبة أمل مصطنعة بالتأكيد:
– يبدو أن الارقام مُسحت من هاتفي بالخطأ..
فسألته نور بقلق لم تستطع إخفاؤه:
– ألا تملك نسخة أخرى من المفتاح يا أستاذ؟
فنظر اليها متأملا فيما صرفت بصرها عن الالتقاء المباشر بعينيه، قبل أن يقول مستدركا:
– كنت أمتلك واحدا بالفعل!! لكنني لا أعلم أين هو الآن!!
وشرع بالبحث في أدراج مكتبه، وقد راوده شعور بالسعادة لنظراتها وهي تتابع تحركاته باهتمام واضح، لم يكن ليحظى بكل هذا الاهتمام من جانبها من قبل!! لذا كان بوده أن يعرف فكرتها عنه في تلك اللحظات، هل تراه شابا جذابا يستحق الاعجاب!! بماذا تفكر الان!!!
ورفع رأسه ملتفتا إليها مجددا، كانت حريصة على أن لا تترك فرصةً لالتقاء أعينهما بأي شكل من الأشكال، ما الذي تخفيه في داخلها يا ترى؟؟ أما زال مجرد أستاذ بالنسبة لها لا أكثر!!
لكن سؤالها قطع عليه حبل أفكاره:
– ألم تجد المفتاح يا أستاذ؟
فتنهد وهو يعتدل في وقفته:
– كلا!! لا أظنه معي الآن!!
عندها فقط سادت لحظات صمت، حاول من خلالها استشفاف ما يدور بخلد تلك الفتاة التي أخذت تحاول جاهدة الابتعاد عن مجال رؤيته، ما الذي عليه فعله الآن!! هل يصارحها بما في نفسه!!
ومرة أخرى لم تتركه لأفكاره، إذ سرعان ما قالت:
– لو أننا طرقنا على الباب ونادينا بصوت مرتفع فربما يسمعنا أحد!!
وهمت باتخاذ هذه الخطوة غير أنه استوقفها بقوله:
– لا فائدة، فلا أحد في الطابق الرابع والأخيرغيرنا، فهو خاص بمعهد الفن الحديث، أنت تعرفين هذا جيدا!!
بدا الارتباك عليها بوضوح أكثر هذه المرة، لقد فقدت السيطرة على نفسها بلا شك، فسألته بصوتٍ متهدج:
– ألا يوجد طريقة أخرى يا أستاذ؟؟ ما الذي علينا فعله الآن!! انني مضطرة للذهاب بسرعة!!
عندها كان لا بد له من إبداء بعض الجدية بالموضوع هو الآخر، فتظاهر بالتفكير العميق قبل أن يقول:
– علينا الانتظار..
فقاطعته بانفعال:
– إلى متى سننتظر!! هذا مستحيل!!
وتناولت هاتفها المحمول بعصبية واضحة، فيما أخذ يرمقها بنظرات استغراب، ما الذي تنوي فعله تلك الفتاة!! بالتأكيد لن تجرؤ على محادثة أهلها في مثل هذا الوقت!! ما الذي ستقوله لهم!! الوضع حرج جدا بالنسبة لفتاة مثلها، هي والاستاذ محبوسان في مكان معزول لوحدهما!!
خطرت بباله فكرة للاقتراب منها أكثر، لكنه لم يجرؤ على ذلك وهي في مثل تلك الحالة المتوترة، قد يكون هذا خطيرا بالفعل!! ربما عليه الانتظار قليلا.. فالتقط نفسا عميقا قبل أن يقول:
– هدئي من روعك يا نور، لن يطول انتظارنا، فبمجرد انتهاء وقت الدوام الفعلي لجميع معاهد المركز، سيأتي الحارس العام للمبنى لتفقد الطوابق قبل إغلاق البوابة الرئيسية في الأسفل، عندها بلا شك سينتبهون لنا..
لم يبد على نور أنها استمعت لبقية كلامه، إذ أسرعت تنظر لساعتها قبل أن تقول:
– ما زال أمامنا ساعتين على ذلك، لا يمكنني الانتظار كل هذا الوقت!!
فحاول سامر طمأنتها بقوله:
– لا تقلقي.. سيكون كل شيء على ما يرام، فوقت الدوام الفعلي للمعهد لم ينتهي بعد، ولم تكوني لتغادري قبل انتهاء وقت الدوام في العادة، لذا لن يقلق أهلك، ومن الأفضل أن تتابعي العمل في لوحتك اغتناما للوقت، ويمكنك تأجيل مواعيدك الطارئة الأخرى..
كان سامر يدرك تماما أن جملته الأخيرة تلك كانت مجرد محاكاة لحجتها التي لم تقصد من خلالها سوى تجنب الخلوة معه! ترى هل أدركت هي ذلك أيضا!! سيكون عندها كمن يخدع نفسه أثناء اللعب بأوراق مكشوفة!!
لكنه لم يجد من نور سوى الصمت، صمت كصمت الأموات، هل انهارت حقا أم ماذا!! كان بوده الاقتراب منها أكثر، غير أنه اكتفى بقوله:
– لا يستحق الأمر كل هذا القلق، فأنا معك..
أخذ يشدد على كلماته الأخيرة بوقع مختلف، وهو حريص على متابعة أثرها عليها، لكن ما رآه من ردة فعلها كان شيئا لا يمكن تفسيره، أهو الحرج أم الغضب!! أهو الارتياح أم الضيق!! أو ربما انفراج لأسارير الحب والسعادة أخيرا!!
لقد اختلطت عليه الأمور لوهلة!!
لكنها فرصته على أية حال! ولكن فرصة ماذا!! كان يود التأكد فقط مما سمعه.. يرغب برؤية ردود أفعالها.. فهذه الفتاة تبدو عالما غريبا بالنسبة له، وهو يرغب باكتشافه وحسب! أليس من حقه التعرف على من ستكون شريكته يوما ما!! لم يكن يقصد أكثر من ذلك!! هذا ما كان يبرره لنفسه طوال الوقت! كانت كلمات خالته لا تزال تدوي في أذنيه حتى تلك اللحظة:
– كنتما ثنائيا رائعا!!!
ربما عليه إعادة الكرة، فالتفت نحوها، حيث ابتعدت عن مجال رؤيته مجددا، دون أن تعطيه ظهرها لمرة واحدة، إنها متيقظة بالفعل!! اقترب منها بخطوات واسعة هذه المرة، لكنها كانت حريصة جدا على ترك مسافة كبيرة بينهما، كلما اقترب هو خطوة، تراجعت هي خطوتين، وكأنهما في لعبة مطاردة!! لقد أصبحت أوراقهما مكشوفة تماما الآن، فلم المراوغة والتظاهر بالغباء!!!
فافترت شفتاه عن ابتسامة فاترة وهو يحدق بها بنظرات ذات مغزى، ليسألها بوضوح:
– هل أنت خائفة مني يا نور؟؟
كان سؤاله صريحا ومباشرا حتى أن وقع المفاجأة على وجهها لم يخفى عليه، إلا أنها آثرت الصمت، فقال لها بلهجة رقيقة:
– أخشى أن يكون صمتك هذا دليل الموافقة..
وأمام اصرارها على الصمت، تابع بلهجة أكثر رقة:
– أرجوك لا تقلقي، فأنا لن أوئذيك أبدا يا عزيزتي..
كان يرغب برؤية وقع تلك الكلمة عليها، والتي استخدمها للمرة الأولى.. ومن أعماق قلبه..
إلا أنها بقيت هادئة وكأن ما قيل لا يعنيها، بدت كالصنم الأصم تماما!!
– هكذا إذن!!
قال جملته تلك وتظاهر بأنه سينشغل بالرسم، ولم تقل هي شيئا!! بقيت صامتة وباردة كالثلج!!
اتجه نحو أدواته ومرسمه الخاص، ليعطيها ظهره، فيما بقيت واقفة بسكون على حالها، حتى لم يعد يشعر بوجودها مع مرور الوقت، بل شك فيما إن كانت لا تزال موجودة معه في القاعة نفسها!! هل تبخرت مثلا!!! كان يحاول استراق النظر إليها بين الفينة والأخرى، لكنها كانت دائما خارج نطاق رؤيته، لا شك أنها اختارت الوقوف خلفه تماما، ربما كانت نظراتها مركزة عليه الآن، تراقبه فيما يفعل، ربما قد أُعجبت به أخيرا! ألم يكن شهما معها ولم يمسها بسوء!! لقد شعر بأنها أمنت جانبه تماما.. لكن من ناحية أخرى؛ راودته رغبة ملحة للالتفات نحوها من جديد.. ما الذي تفعله، هل رضخت للأمر الواقع واستكانت أخيرا!! هل تبادله أي مشاعر في هذه اللحظات!! ربما عليه أن يتأكد من ذلك بنفسه، فلن يتوقع من فتاة مثلها مبادرته بشيء!
لم يعد يحتمل المزيد من الانتظار، لقد انتقلت له عدوى التوتر هو الآخر!! ما هذا الهراء الذي يفعله! لِمَ أعد خطته تلك!! أليجلس أمام مرسمه هكذا وحسب!! ما الذي سيقوله الناس الآن!! الحارس سيخبر الجميع بأنه هو من طلب منه الذهاب، وستتضح الأمور عاجلا أم آجلا!! ستكون فضيحة بلا شك!! ومن أجل لا شيء!! هل هذا ما خطط له حقا!!!
المفتاح معه، فهو من أغلق الباب بنفسه، ولكن هل سينهي الامر بهذه السهولة، دون أن يحصل على أي نتيجة!! بل وقد تكون أسوأ نتيجة يتوقعها، ما الذي ستظنه به نور عندئذ!! رجل كاذب ومخادع!! لم يحتمل تلك النظرة منها، ولن يستسلم بسهولة، ما زال هناك أمل! سيتظاهر بأنه عثر على المفتاح في مكان ما! ولكن.. عليه أولا أن يتأكد من حقيقة مشاعرها نحوه..
لم يتوقع سامر أن تصل به الجرأة إلى ذلك الحد، نهض من مكانه دون أن يعمل حسابا لأي حماقة قد يرتكبها بتهوره ذاك، وما أن التفت نحوها بشكل مباشر، حتى نهضت من مكانها بتلقائية، فقد انتهت استراحتها كمحاربٍ مرابطٍ على الثغور!
أخذت خطواته تقترب منها بشكل مريب، فيما تأهّبت هي للمواجهة كمقاتلٍ متمرس بالمناورة، فبادرته بسؤالها مباشرة:
– أستاذ.. هل عثرتَ على طريقةٍ للخروج!
كانت جملتها تلك كفيلة بإعادته لرشده، لكن صبره كان قد نفد أخيرا، فسألها باهتمام:
– نور.. أجيبيني أرجوك، فأنا أريد أن أعرف ما الذي أعنيه لك بصراحة؟؟
وبدلا من إجابته قالت بتجاهلٍ تام لسؤاله:
– استاذ.. يبدو أن هناك أصوات في الخارج، هل نطلب منهم المساعدة؟
عندها شعر برغبة جامحة بتلقينها درسا لا تنساه، لكنه اكتفى بالنظر في ساعته، لا يزال الوقت مبكرا، فأعاد سؤاله عليها بجدية أكبر:
– سألتك يا نور أولا.. ماذا أعني لك؟؟
فجاءه صوتها أخيرا لتجيبه بلهجة حملت في طياتها معانٍ غريبة لم يفهما إلا فيما بعد:
– كنتُ أحترمك يا أستاذ!
قالت جملتها تلك واتجهت نحو الباب تدق عليه بكل قوتها، غير أنها سرعان ما التفتت نحوه قبل أن يقترب منها، لم يعرف كيف ابتعدت بسرعة بعد أن كان على وشك إحاطتها بذراعيه من الخلف، وكأنها شبح اختفى من أمامه فجأة!
كان يرغب هذه المرة بالامساك بها دون أن يعرف سببا حقيقيا يدفعه لفعل ذلك.. ولكن بلا شك كان غائبا عن وعيه تماما في تلك اللحظة!! هذا ما أدركه فيما بعد!! ما الذي كان يريده بالضبط! ولماذا!!!
أجال بصره في المكان!! إنها ليست هنا! هل اختبأت خلف شيء ما!! ما الذي يمكنها الاختباء خلفه!! لوحات.. مقاعد.. مكاتب..!! لا يبدو أن شيئا من ذلك يصلح للاختباء، ولا يمكن لشيء هنا أن يخفيها بسهولة! هل ستفاجئه بضربة قاضية تكسّر فيها أضلاعه مثلا!! ربما.. لم يعد ذلك مستبعدا!! أخذ يبحث عنها بفضول ولهفة، لقد أصبحت اللعبة واضحة الآن، انه الصياد وهي الطريدة!!
ابتعد عن الباب أخيرا وهو يبحث عن المكان المحتمل لاختفائها بتلك الغرابة، ربما خلف الستائر!! هل ستفكّر بتهشيم زجاج النافذة والقفز منها على طريقة أهل الكاراتيه!! ليته يعرف بماذا تفكر الآن، لكن ما سمعه بعد ذلك كان كفيلا بإثارة دهشته بالكامل، وهو يلتفت نحو الباب بسرعة.. ما الذي تحاول فعله تلك الفتاة! لم يلزم الأمر أكثر من ركله أخرى سددتها نور بمهارة نحو مركز القفل، حتى كان الباب قد فتح عنوة على مصراعيه!! حدث ذلك كله في لمح البصر قبل أن يتمكن هو من التفكير بالتقدم خطوة أخرى نحوها!
هل هذا هو ما كانت تخطط له طوال الوقت!!
ما هذه القوة الهائلة!! إنه يحلم بلا شك!! لقد رأى حركة لاعبة الكاراتيه المحترفة أخيرا، فهل سره ذاك!!
وجاءه صوت نور أخيرا ليعيده إلى واقعه:
– أرجو المعذرة يا أستاذ على ما سببته لك من إزعاج، علي الذهاب الآن وسأقوم بتعويض مبلغ إصلاح الباب إن شاء الله..
واختفت من أمامه قبل أن يرد بحرف واحد! لتكون تلك هي المرة الأخيرة التي يراها بها!! وكل ما وصله منها بعد ذلك ظرف يحوي مبلغا من المال أكبر بكثير من أن يكون كلفة إصلاح باب وحسب! لقد حكم بنفسه على أي علاقة محتملة بينهما بالفشل، حتى قبل أن تبدأ!!
 
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم