قالت هبة:
– لم تخبريني بعد عن الكيفية التي عدتم بها إلى المنزل ذلك اليوم؛ دون صرف الدينار الثاني؟
فغمزتها نجمة باسمة:
– لقد اعتمدنا بشكل رئيس على الآلة رقم 11!
فعلقت هبة:
– أنا اتحدث بجدية يا نجمة!
فردت نجمة بتبرة مشابهة:
– وأنا أتحدث بجدية أيضا، لقد استخدمنا الآلة نفسها التي استخدمها خالي في الماضي!
قطبت هبة بين حاجبيها بتساؤل واضح، في حين بادرتها نجمة بضحكة مرحة:
– دعيني اخبرك عن قصة هذه الآلة أولاً، وعندها ستعلمين بأنني لا أمزح!
***
عندما كنتُ صغيرة، كنا نقضي معظم إجازة الصيف في بيت جدتي رحمها الله، حيث يعتبر منزلها من أوائل المنازل التي بنيت في منطقة خلاء فسيحة، بعد أن قررتْ الابتعاد عن ضوضاء المدينة، لذا كنا نقضي الوقت باللعب فوق الصخور، ومراقبة الاغنام، والقيام بالعديد من المغامرات الممتعة، التي تنتهي عادة بخدوش أو جراح مؤلمة، وملابس ممزقة!
غير أن أكبر أمنياتنا التي لم تتحقق هي مرافقة خالي في مغامراته الخاصة! إذ كنا نستمع لحكاياته بانبهار شديد، والذي يبدأ عادة بجواب على سؤال بسيط:
– خالي، لماذا تستخدم هذه العصا؟
وهنا تبدأ الحكاية!! كان ماهرا بحكاية القصص، بإخراج مسرحي يحبس الانفاس، ولا زلتُ أذكر حتى الآن ما أخبرنا به من مواجهة الكلاب الشرسة، التي كانت تطارده إثناء ذهابه لصلاة الفجر!! فالمنطقة غير مؤهولة، والطريق للمسجد بعيد، وحتى يختصر الطريق كان بسير عبر الجبل المليء بالاشواك بحذر شديد!!
كنا نتمنى أن نتمكن من المشاركة في مغامرة صلاة الفجر المثيرة!!
وذات يوم، ورغم أنني نسيت التفاصيل، لكنني لا زلتُ أذكر لهفتنا الشديدة لمعرفة كيف عاد خالي إلى المنزل ذلك اليوم! لقد قال لنا بثقة بعد أن باءت محاولات تخميننا بالفشل:
– لقد استخدمت الآلة رقم 11!
وهنا بدأت الحماسة تشتعل من جديد، وبفضول الأطفال وخيالهم الواسع بدأت الأسئلة تنهمر على خالي بغزارة:
– أين هذه الآلة؟
– أرنا إياها يا خالي أرجوك!
– كيف شكلها؟
– من أين حصلت عليها؟
– هل يمكننا استعمالها نحن أيضا؟
وبعد معاناة شديدة، قُتل فيها الفضول بداخلنا قتلاً؛ أجابنا خالي باسما وهو يشير إلى ساقيه:
– هاتين الساقين هما أفضل آلة أنعم الله بها علينا، ألا تشبهان الرقم 11؟
وهنا عرفنا سر الآلة رقم 11 أخيراً، ولا زلتُ أقدّر استعمالها بشدة، حتى هذه اللحظة!
***
ضحكت هبة بعد أن انهت نجمة سرد ذكرياتها، قائلة:
– يا لهذه الآلة العجيبة، لقد شوقتيني لاستخدامها أيضاً..
لكنها هتفت فجأة:
– هل هذا يعني أنكم عدتم في ذلك اليوم مشيا إلى المنزل من المكتبة العامة؟؟ مستحيل فالمكان بعيد جدا!!
فابتسمت نجمة:
– لم يكن الأمر كذلك بالضبط، فبعد خروجنا من المكتبة العامة، سلكنا الطريق الذي اكتشفته في مغامرة سابقة تشبه قصة ليلى والذئب! كان الطريق يؤدي إلى “وسط البلد”، وهناك ركبنا حافلة مجانية، اكتشفتُ وجودها في وقت سابق، بكونها تابعة للأمانة العامة! وهكذا نزلنا عند أقرب نقطة قد توصلنا إلى المنزل، على أمل أن نعثر على سيارة أجرة، لتصعد بنا الطريق الجبلي!! وبالطبع كنا سعداء جدا، لأن صعود الطريق الجبلي في سيارة الأجرة لن يكلفنا أكثر من دينار واحد بالعادة، وهكذا ضمنا طريق العودة!!
لكن انتظارنا طال جدا، حتى ازداد ظلام الليل، دون أن تظهر أمامنا سيارة أجرة فارغة!! وهنا اقترحت أختى صعود الدرج الذي لم أكن أعلم عن وجوده سابقا، لكنها أكدت لي:
– أذكر أنني نزلته مع أمي قبل مدة، إنه يختصر الطريق كثيرا!
وبالطبع، ما دمنا قد قررنا أن نفقد الأمل بالعثور على سيارة أجرة؛ فلم يكن أمامنا بد من الذهاب مشيا إلى المنزل، وسيكون الدرج المختصر هو الحل المثالي بلا شك، بدل السير على الطريق الممهد للسيارات، والملتف حول الجبل صعودا إلى قمته!
لا أنكر أنني تحمستُ للفكرة في البداية، فلم أكن قد سمعتُ عن هذا الدرج من قبل، لا سيما وأنه كان شبه مخفي بين البيوت، كما أنه لم يكن عريضا بما فيه الكفاية لتتم ملاحظته بوضوح!
صعدنا الشارع شديد الانحدار بالبداية ونحن نلتقط انفاسنا بصعوبة؛ حتى وصلنا إلى بداية الدرج! ولأن الظلام قد حل، فلم نتمكن من رؤية نهايته، رغم أننا شاهدنا ما يشبه الجدار على مد البصر أمامنا، وقد خمنتُ في البداية أنه سيكون نهاية الدرج الذي سيوصلنا للشارع العلوي!! كانت البيوت على جانبي الدرج مظلمة، حتى شككتُ أن هناك من يسكنها من الانس!! ومما زاد من شكوكي هو رؤيتنا لبيت مهجور قد تهدمت جدرانه على الجانب الايمن من الدرج!! كان الجو يصلح بشكل مثالي لإخراج قصة رعب من الدرجة الأولى! استعذنا بالله من الشيطان الرجيم، وتأكدنا من قراءة اذكار المساء مرة أخرى، وتابعنا الصعود، حتى لاح أمامنا الجدار الأبيض بشكل واضح!! كدت اصرخ:
– لا تقولي أن الطريق مسدود بعد هذا كله؟!! هل أنت متأكدة من أنه الدرج نفسه الذي نزلتيه مع أمي؟ إنه يقطع الانفاس!
فدافعت أختي عن نفسها بحدة:
– بالفعل نزلناه، ولكن حدث هذا من فترة طويلة، ربما أجروا بعض التعديلات عليه!! ثم إن نزول الدرج ليس كصعوده، عليك أن تعلمي هذا بالبديهة!!
كادت الحيرة أن تقتلنا! هل نتايع صعود هذا الدرج المتعب حتى نتأكد بأنفسنا إن كان الطريق مسدودا أم لا؟ أم ننزل الدرج بعد أن قطعنا شوطا كبير فيه، لنسلك طريق السيارات الطويل الملتف!!!
ومن لطف الله بنا، أن شاهدنا امرأة بشرية تنشر الغسيل على سطح احد البيوت في الجانب الأيسر من الدرج، فألقينا عليها التحية بصوت عال، قبل أن نسألها:
– هل هذا الدرج يؤدي إلى الشارع العلوي؟
فطمأنتنا السيدة بإجابتها التي شجعتنا على المتابعة..
الحمد لله، هناك بشر هنا على الأٌقل!!
وصلنا الجدار الأبيض أخيرا بشق الأنفس، فإذا به فتحة مواربة تؤدي إلى بقية الدرجات الصاعدة للأعلى، ويا للهول!! اكتشفنا أننا لم نصعد سوى نصف الدرج فقط!!! يبدو أن الجدار تم بناؤه حتى يُخفي هذه الحقيقة المرة عن الصاعدين، فلا يصيبهم الاحباط من طول الدرج في البداية!!!
شعرتُ بصداع في رأسي، وكأن فرق الضغط الجوي بدأ يؤثر بي (أو هذا ما توهمته في تلك اللحظة، فنحن لا نصعد جبال الهملايا على أية حال!!) أما أختى فقد قررت الجلوس:
– لا يمكنني المتابعة، أكاد أموت من التعب!
ورغم صداع رأسي، لكنني بقيت صامدة باستماتة شديدة:
– ماذا!! هل سنجلس هنا في هذا المكان الموحش! نحن لا نعرف هذه المنطقة، ولا نعرف من قد يخرج لنا من هذه البيوت!! أو من سيفاجئنا على هذا الدرج، والظلام قد اصبح حالكا أكثر!!
غير أن أختي بدت غير مبالية أبداً بكل ما سمعته! ولستُ ألومها، فقد كانت تساعدني في حمل الكتاب الضخم الذي استعرته من المكتبة، ومن واجبي أن أحرص على راحتها، خاصة وأن الخدمة التي تقدمها لي الآن لا تقدر بثمن!!
ومع ذلك.. قررتُ متابعة الصعود على أمل أن تلحق بي، ولعلي اطمئن قليلا برؤية أنوار الشارع! وبينما أنا كذلك، إذ سمعتُ صوت شاب خلفي!
يا إلهي!! ما الذي تفعله أختي! لقد أصبحنا بعيديتن عن بعضنا البعض! ربما كان علي الانتظار إلى جانبها؟ لكنني لم أتوقع أن تبقى جالسة حتى الآن! أرجو أن لا يكون هذا الشاب شريرا، وإلا فالله وحده يعلم ما الذي قد يحل بنا!
حبستُ أنفاسي قليلا، وبدا الشاب مشغولا بالحديث في هاتفه، ولا أظنه انتبه لوجودنا أصلا، الحمد لله هذا أفضل!
توقفت قليلا حتى لحقتني أختى، دون أن يخفى علينا ملاحظة رشاقة الشاب في صعود الدرج ما شاء الله، وكأنه يقفز في الهواء، حتى وصل الشارع قبلنا!! يبدو أن الآلة رقم 11 الخاصة بنا تعاني من بعض الصدأ، وتحتاج لمزيد من التمرين!!
وصلنا الشارع أخيرا والحمد لله، ولكن.. تبين لي أننا لم نقطع سوى ربع الطريق نحو المنزل!! لقد خيّل لي من طول الدرج بأننا إذا وصنا نهايته فسنكون أمام شارع منزلنا!! ولكن الحمد لله، اصبحت الشوارع أمامنا الآن أقل انحدار، وأكثر إيناسا بأنوارها الساطعة، فتابعنا المشي بهدوء!!
كانت تلك هي المرة الأولى التي اعود فيها للمنزل مشيا من هذا الطريق! وبلا شك؛ كانت فرصة مناسبة للرد على تحدي أختي التي قالت لي ذات مرة أن المجيء من هذا الطريق أقرب لمنزلنا من الطريق الطويلة الأخرى!
لا أظنها الآن ستصر على قولها بأن هذا الطريق أفضل!
******
تنفست نجمة الصعداء وهي تنهي قصتها، فيما قالت هبة:
– الحمد لله على سلامتكم!
وابتسمت متابعة:
– لا شك أن أنفاسك تقطعت مرة أخرى وأنت تستشعرين صعود الدرج، لذا سأدعك تستريحين الآن، قبل أن أسألك عن مغامرتك السابقة وعلاقتها بقصة ليلى والذئب؟
فضحكت نجمة:
– يا لك من صديقة كريمة، وهكذا يمكن لنجمة أن تأخذ استراحة من سرد مغامراتها العظيمة!
غير أن هبة استدركت قائلة:
– لحظة لحظة، هل هذا الباص المجاني التابع للأمانة حقيقي؟
فأومأت نجمة برأسها مؤكدة:
– وهل تظنيني انسج قصصا من وحي الخيال! هناك الكثير من الاشياء التي نجهلها عن مدينتنا، حتى متحف القلعة، دخلته مجانا!
فهتفت هبة بحماسة:
– تقصدين تلك المتعلقة بغامرة “جبل القلعة”؟
فتنهدت نجمة منهية الحديث بابتسامة:
– لقد تشعبنا بعد أن كنتُ على وشك الراحة، وهكذا حان لنجمة أن تأخذ استراحة..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..
وصل اللهم على سيدنا محمد و على آله وصحبه و سلم
_________________
_______تمت_______