تركته لأجلك! – الحلقة 23
تركته لأجلك! – الحلقة 16
تركته لأجلك! – الحلقة 1
تركته لأجلك!

- الحلقة 1
- الحلقة 2
- الحلقة 3
- الحلقة 4
- الحلقة 5
- الحلقة 6
- الحلقة 7
- الحلقة 8
- الحلقة 9
- الحلقة 10
- الحلقة 11
- الحلقة 12
- الحلقة 13
- الحلقة 14
- الحلقة 15
- الحلقة 16
- الحلقة 17
- الحلقة 18
- الحلقة 19
- الحلقة 20
- الحلقة 21
- الحلقة 22
- الحلقة 23
- الحلقة 24
- الحلقة 25
- الحلقة 26
- الحلقة 27
- الحلقة 28
- الحلقة 29
- الحلقة 30
- الحلقة 31
- الحلقة 32
- الحلقة 33
- الحلقة 34
- الحلقة 35
- الحلقة 36
- الحلقة 37
- الحلقة 38
- الحلقة 39
- الحلقة 40
- الحلقة 41
- الحلقة 42
- حلقة خاصة (ملخص الأجزاء السابقة (1 … 42)، وعرض سريع للشخصيات)
- الحلقة 43
- الحلقة 44
- الحلقة 45
- الحلقة 46
- الحلقة 47
- يتبع…
عندما أحببت…
عن القصة:
قصة أشبه برواية قصيرة، ترويها شخصيات مفعمة بالعواطف بين الحاضر والماضي، بآمال تتطلع نحو المستقبل!
التصنيف: رومانسي، دراما، شريحة من الحياة

(1)
“نبيــــــــــــــــل”
كنتُ شاباً مثله..
أجل كنت مثله اتوقد شباباً وحيوية وتفاؤلاً، رغم ظروفنا الصعبة، فرغم أن والدي عامل بناء محترف ومتقنٌ لعمله؛ إلا أنه يتقاضى رواتب متقطعة، بالكاد تفي بحاجاتنا اليومية! وكنتُ سأنضم إليه في عمله، بصفتي ابنه الأكبر والوحيد، لولا أن والدتي أصرّت على إلحاقي بالجامعة، بعد أن أقنعتنا بأن هذا سيكون أفضل للجميع، خاصة وأن علاماتي تؤهلني لدخول أي تخصص أختاره، مما يسهل لي الحصول على وظيفة جيدة فيما بعد، حتى أن أخواتي الثلاث اللاتي يصغرنني بعدة سنوات، كدنَ يطرن من الفرح؛ وهن يعلقن آمالا كبيرة على هذا القرار!
ورغم التقشف الكبير، الذي ضاعفته أسرتي على نفسها من أجلي- مع حرصي الشديد على الاقتصاد، إذ لم أكن أشتري إلا الكتب، التي لا تتوفر في المكتبة العامة- إلا أن سعادتهم بقطعي لسنوات الدراسة، الواحدة تلو الأخرى بنجاح منقطع النظير؛ كان أكبر محركٍ لي كي أبذل جهدي، وأنا أرى الحياة تبتسم لي، والمستقبل تلوح بشائره المزهرة في طريقي، فسأعمل فور تخرجي، لأحول أحلامهم إلى حقيقة، وأمنياتهم إلى واقع!
كان هذا هو الأمر الوحيد الذي يشغل تفكيري، ولم أكن أدرك أن هناك أمراً في هذا الكون، قد يشغلني أكثر منه! غير أن التقائي بتلك الفتاة؛ هز وجداني، بل وقلب كياني رأساً على عقب!!
كنتُ وقتها في السنة الأخيرة، في قسم اللغات والترجمة، وقد تم تقسيمنا إلى مجموعات صغيرة، من أجل مشاريع الترجمة الكبيرة، حيث رأى أستاذنا أن بإمكاننا البدء بترجمة كتب لم يسبق ترجمتها إلى العربية، ومن ثم ترجمة كتب عربية؛ إلى لغات لم يسبق أن تُرجمت إليها، بالطبع كان مشروعا ضخماً، وتحدياً كبيراً، وقد حرصتُ أن أبذل فيه أقصى جهدي، كخيل السباق عندما تقترب من خط النهاية، فلم أنتبه لوجودها معي في المجموعة نفسها، إلا عندما قال لي قائد مجموعتنا “أشرف”- في إحدى اجتماعاتنا لتوزيع جزئيات العمل:
– لقد أثنى الأستاذ على عملك يا “نبيل” بشكل خاص، يقول أن الجزئية التي ترجمتها ممتازة جداً، بل واحترافية أيضاً.. والشيء نفسه ينطبق على “نائلة”..
نطق باسمها وهو يلتفت نحوها، متابعاً كلامه:
– الاستاذ يريد منكِ أنتِ و”نبيل” مقابلته في مكتبه..
يومها فقط، انتبهتُ لوجود “نائلة” في مجموعتي، تلك الفتاة نفسها التي لفتت نظري أول مرة، في اجتماع السنة الأولى مع رئيس القسم، حيث ألقى محاضرة مطولة عن الترجمة ومجالات الابداع والتفوق فيها، وما إلى ذلك، ثم سألنا عن أهدافنا، التي ننوي تحقيقها من دخول هذا القسم.. بالنسبة لي كنتُ واضحاً منذ البداية، فقد ذكرتُ بصريح العبارة، أنني اخترت القسم فقط؛ لأنني وجدتُه أكثر قسمٍ له مجالات عملٍ واسعة ومربحة، فهدفي هو الحصول على عمل ذو دخل ممتاز! هذا كل ما في الأمر! ورغم تنوع الأهداف التي ذكرها الطلبة، إلا أن “نائلة” تمكنت من لفتِ نظري، لدرجة أنني لم أستطع منع نفسي من الالتفات نحو مصدر الصوت، لأرى من تكون هذه الفتاة!! كانت فتاة أنيقة بحجابها، تلوح الثقة من نظراتها، وتتمتع بشخصية فريدة، تجبرك على احترامها!
ما زالت كلماتها ترن في أذني:
“أريد أن أترجم كُتباً للتعريف بالأسلام، لعل الله أن يجعلني سببا في هداية الخلق!”
صحيح أن شعور الإكبار لهذه الفتاة تملكني تماماً وقتها، غير أن مسؤولياتي تجاه أسرتي، كان أكبر همي، فسرعان ما نسيتها، في خضم الواجبات المزدحمة!
كثير من أصدقائي يطلقون عليّ لقب “الابن البار”، غير أنني لا أفعل أكثر مما يحتمه الواجب عليّ، بل لا أتخيل أن هناك من يمكنه فعل غير ذلك، لو كان في مكاني!
لم أدرك أن مشاعري تجاه “نائلة” كانت خامدة في قلبي منذ ذلك الوقت، وإلا.. فما معنى أن يهيج بركان قلبي فجأة؛ بمجرد أن ذّكّرّ “أشرف” اسمها معي!!
لقد وجدتُ نفسي مرتبكاً جداً، ونحن نسير تلبيةً لدعوة الأستاذ، وقد حرصتُ على أن أجعل خطواتي سابقة لخطواتها، خشية أن تفلتَ مني نظرة خاطئة نحوها، فقد كانت أجلُّ قدراً، من أن تدنسها نظراتٌ آثمة!
تهلل وجه الأستاذ لرؤيتنا، وأشار إلى مقعديت أمام مكتبه، فجلّسَت “نائلة”، ثم جلستُ أنا…
كان الأستاذ منفعلاً جداً، بدرجة لم آلفها فيه من قبل، بل إن كرمه علينا بالثناء والمديح، أنساني معظم ما قاله، غير أن بعضاً من كلماته علقت بذاكرتي:
– أنتما أفضل اثنين قمتُ بتدريسهما حتى الآن، إنني حقاً فخورٌ بكما، فلا أكاد أصدق أن بين طلبتي في هذا السن، من يمتلك مثل هذه الاحترافية..
بدا الأستاذ منفعلاً بإنجازنا بلا شك، أما أنا؛ فقد كنتُ أخشى أن يسمع أحدهما تسارع نبضات قلبي، كلما ذكرني معها بلفظ المثنى!! وعندما سألنا عن أهدافنا وطموحاتنا، شعرتُ برغبة في أن أجيبه جواباً يُبهرها، غير أنني لم أكن لأقول شيئا لا أتمثله، فأخبرته بصراحة عن رغبتي في العثور على عمل ذو دخل ممتاز!
وقتها شعرتُ بأنني سكبتُ ماءا مثلّجاً على رأسه، لأنه نظر إليّ بوجوم:
– أهذا كل ما في الأمر!! لا أصدق أنك “نبيل أكرم” الذي يتحدث جميع من في القسم عنه! ألا يوجد لديك طموحات، أهداف عظيمة، مشاريع مستقبيلة، أفكار عالمية،…
لا أعرف ما الذي كان يريد الأستاذ سماعه تحديداً، مما جعله يتابع كلامه بإصرار:
– ألا تفكر في إكمال دراسات عليا!!! أتعرف ما الذي يعنيه أن تكون محترفاً بالترجمة في أربع لغات حيوية عالمية، كتابةً ومحادثة؟؟ إلا تدرك أن اتقانك للترجمة الفورية بهذه اللغات؛ يُعد عملة صعبة في هذه الأيام!!! أنت تمتلك كنزاً لا يقدر بثمن، ويمكن أن تصاحب الوزراء، بل وجلالة الملك نفسه!! ألا تدرك قيمة ذلك!!! الجميع يتحدث بموهبتك الفريدة، وكل ما تريده في النهاية؛ هو الحصول على عمل ذو دخل ممتاز فقط!! لماذا تجهد نفسك كل هذا الجهد إذن!!
لا أعرف لمَ بدا الأستاذ ممتعضاً من إجابتي في ذلك الوقت، فقد اختصرتُ ما قاله لي؛ في جملة واحدة، لا أكثر ولا أقل!! ثم إنني حريصٌ على اتقان عملي مهما يكن، فهذه صفة ورثتها عن والدي.. سواء عملتُ في مكتبٍ صغير، أو مع وزير… اتقان العمل، أمرٌ مفروغ منه بالنسبة لي! ولا أدري كيف ستكون ردة فعل الأستاذ، لو أخبرته بأن دراستي لأكثر من لغتين حسب المقرر، كان من اقتراح أمي، التي قالت بأن هذا سيزيد من فرصة حصولي على عمل!! لذا آثرتُ الصمت..
بالطبع كان عقلي وقتها منشغلاً بما ستجيب به “نائلة”، وبكل ثقة؛ أجابت بما كنتُ أنتظر سماعه، وخفق قلبي بشدة.. ولم أكن أدري، هل خفق من روعة ما نطقت به، أم لشيء آخر لم أكن أدركه!
لا أدري كيف مرت الأيام بعد ذلك، غير أنني بتُ متأكداً من أن “نائلة”؛ هي الفتاة الوحيدة التي ملكت قلبي، لكن مشاعري تلك؛ لم تتجاوز حدود صدري، فما زال أمامي سنة لأتخرج! بقيتُ كما أنا، غير أن تعديلاً طفيفاً وهاماً في الوقت نفسه؛ طرأ على خطتي، بعد أن أصبحت “نائلة” جزءا من هدفي! وكثيراً ما تأملتُ اسمينا معاً.. “نبيل ونائلة”، وكأننا خُلقنا لبعضنا البعض!!
وبدأ المستقبل يلوح أمامي أكثر إشراقاً، سأتخرج وأعمل، وأساعد والدي وأُسعد أسرتي، ثم سأخطب “نائلة” بالتأكيد، ولم أكن لأغرق في أحلام اليقظة، فاتخذتُ من ذلك حافزاً، يزيد من عزيمتي لأمضي قُدُما..
وجاء اليوم الموعود، فبعد أن تخرجتُ بدرجة الشرف الأولى، واجتزتُ اختبارات القبول لعدد من الوظائف المختلفة، أتاني اتصال هاتفي من رقم خاص.. السفير يطلب مقابلتي شخصيا!!
يومها أقامت أمي حفلة في بيتنا بهذه المناسبة، ورقصت أخواتي طرباً، وكانت كبراهن لا تزال في المرحلة الثانوية، أما أبي.. فقد لمحت دمعة نفرت من عينيه تأثراً، ولا أنسى كلماته لي أبداً:
– رضي الله عنك يا بني وبارك فيك.. إنني حقاً فخور بك..
وبدأت أحلامي تكبر، ستكون فرصة لي لأجوب العالم، وستكون “نائلة” برفقتي، وستحقق أهدافها في الدعوة أيضاً.. وسيدخل الناس في دين الله أفواجا..
غير أن أحلامي السعيدة تلك، ما لبثت أن اصطدمت بالواقع المرير!!
فعندما قابلتُ السفير في مكتبه، فوجئت بوجود زجاجات خمرٍ أمامه هو وضيفه، والذي علمتُ فيما بعد؛ أنه ممثل لإحدى الدول الأجنبية الكبرى! لا أدري لماذا دعوني لمباشرة العمل فوراً، بدل أن يحدثني السفير على انفراد، لنتفق على طبيعة العمل قبل أي شيء!! لقد فوجئت به يحييني بابتسامة ودودة، ويدعوني للجلوس معه هو وضيفه، قائلا لي، بأن هذا عملاً مستعجلاً، وهو بحاجة لمن يترجم له المحادثة، مع هذا الزائر الهام!!
لا أدري كيف تمكنتُ من استيعاب كلماته وقتها، فقد كانت عيناي زائغتان تماماً، بعد أن لمحتُ تلك الزجاجات!! كيف لي أن أجلس في مجلسٍ كهذا!!
ويبدو أن السفير تضايق قليلاً من ترددي، وربما أدرك ما يجول في ذهني، فحاول تلطيف الجو بقوله:
– لستَ مضطراً للشرب، فهذه رسميات ضرورية، وأمور دوبلوماسية هامة! اجلس فقط..
غير أنني أجبته بأدب:
– أرجو المعذرة.. لا يمكنني قبول الوظيفة..
وابتسمتُ لضيفه مُحيياً، ثم خرجت!
غير أن موجةً من الحزن انتابتني بشدة؛ بمجرد أن وطأت قدماي رصيف الشارع! بأي وجه أعود لوالداي وأخواتي الآن، وهم لا يزالون في نشوة الفرح!! ثم تراءت لي “نائلة”.. كيف سأتقدم لخطبتها، إذا لم أحصل على دخلٍ جيد!!! صحيح أن الفرصة لا تزال أمامي في أماكن أخرى، رغم أنني أعلنت انسحابي من معظمها، ولكن.. أحلامي التي بنيتها منذ اتصال السفير؛ تهدّمت، والهوة بيني وبين “نائلة” اتسعت!
مشيتُ على غير هدى، وقادتني قدماي لأقرب مسجد، صليت ركعتين وبكيت بحرقة.. (اللهم اجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها)..
مكثتُ في المسجد وقتاً أطول مما تخيلت، إذ لم انتبه إلا على صوت أذان العصر، فأديتُ الفريضة، وما أن سلمت؛ حتى تفاجأتُ بـ “أشرف” عن يساري! لم أكن قد رأيته منذ أن تخرجت، ففرحتُ لرؤيته، وعرفتُ أنه تزوج من ابنة عمه، بعد أن طالت خطوبتهما أكثر مما ينبغي، إذ كانت مخطوبة له منذ سنته الجامعية الأولى! ثم باغتني بسؤال لم أتوقعه منه:
– ومذا عنك أنت يا “نبيل”؟ ألم تفكر بالزواج بعد؟!!
أطلقتُ وقتها تنهيدة طويلة، فحالتي المادية، والتزاماتي تجاه أسرتي، لا تسمح لي بالتفكير بذلك أصلاً! وأمامي صمتي، رمقني “أشرف” بابتسامة غريبة:
– ألم تحدثها بشيء بعد؟
حملقتُ فيه بدهشة حقيقة وقتها، إذ لم أكن أتخيل أن مشاعري تجاه “نائلة”؛ ظاهرة إلى ذلك الحد! لكنني سألته باهتمام:
– من تقصد؟
فما كان منه إلا أن أردف بقوله:
– لا تتظاهر بالسذاجة.. أقصد “نائلة” بالطبع، ومن غيرها!!
كانت صدمة حقيقية بالنسبة لي، إذ لم يحدث أن نطقتُ باسمها أمام أحد، بل لم يحدث أن تبادلتُ معها كلمة واحدة، خارج نطاق الضرورة القصوى! بل لم يحدث ذلك أكثر من مرتين على الأكثر!! غير أن “أشرف”؛ كان لا يزال مصراً على كشف أوراقي علانية أمامه، فقال بثقة وكأنه قرأ أفكاري:
– حتى إن لم تخبر أحداً بذلك، فإعجابك بها واضحٌ جداً، ولا عجب في ذلك، فبينكما الكثير من القواسم المشتركة..
كانت جملته تلك مفاجأة أخرى بالنسبة لي، فهل يُعقل أنني أتقاسم مع “نائلة” الكثير من الصفات!! لكنني سرعان ما عزيتُ ذلك إلى كون الأستاذ نادانا معاً في ذلك اليوم، لكن “أشرف” أصرّ على أن يسلك في حديثه منحى مختلفاً عما يدور في ذهني، بقوله:
– كلاكما متميزان، وله جاذبية كبيرة، فهي رغم حجابها؛ من أكثر الفتيات جاذبية، ولولا أنها تعرف كيف ترسم الحدود جيداً، لتهافت الشباب عليها؛ مثلما يتهافت الفراش على النار! وأنتَ أيضا تمتلك الجاذبية نفسها بالنسبة للفتيات، لولا أنك تتجاهل هذه الحقيقة دائماً باصرار، وأعتقد أن أي شاب آخر لو كان في مكانك؛ لأصبح له شأنا مختلفا تماماً!! ألا تنظر لنفسك في المرآة؟؟ وأنت إضافة إلى وسامتك الظاهرة؛ متحدثٌ لبق، ونبرة صوتك وأسلوبك في الكلام يأسران الآذان.. وحتى هدوؤك وصمتك، وتركيزك على دراستك، ومدح الأساتذة لك… كل هذا يجعلك فارس أحلام مثالي بلا شك…
لا أدري ما الذي شعرتُ به تحديداً، عندما تفوه “أشرف” بكل تلك الكلمات، غير أنني آثرتُ الصمت، فيما تابع كلامه:
– وأظن أن “نائلة” معجبة بك أيضاً.. بل أكاد أجزم بذلك، وربما تنتظر اللحظة التي تتقدم فيها لخطبتها، فلا تتأخر عليها..
كانت تصريحاته تلك؛ كفيلة بزلزلة قلبي، فلم يعد قادراً على مزاولة عمله بهدوء، حتى خشيت أن يسمع وجيبه! فما كان من “أشرف” إلا أن ربت على ظهري، وهو يهم بالخروج، قائلاً:
– آمل أن لا تتأخر عليها، فالفتاة لن تنتظر شخصاً لم يَعِدها بشيء، والخطّاب كثيرون!!
كانت تلك الحقيقة المرة، بمثابة الخنجر المسموم، الذي اخترق قلبي دون أدنى رحمة! وكأن “أشرف” أدرك ما يلوح على وجهي من ألم وهم، فقال لي محاولاً طمأنتي:
– إنني واثقٌ من أنها لن ترفضك، فتقدم لخطبتها بسرعة، ولا تتردد..
غير أنني كنتُ واثقاً من إجابتي هذه المرة:
– الزواج مسؤولية كبيرة يا “أشرف”، ولدي التزاماتي تجاه أسرتي قبل ذلك، فهل تريد مني أن القى مصير بطل القصة الفرنسية “الحب والخبز”؟؟
فما كان من “أشرف” إلا أن انفجر ضاحكاً:
– هكذا إذن!! أنت واقعي بدرجة كبيرة يا صديقي، لدرجة أن الأحلام لا تجرؤ على لمسك!! حسناً… بالطبع لا يمكنك الاقدام على زواج؛ دون امتلاكك للقدرة المادية، ولكن على الأقل حاول أن تتواصل معها، وتخبرها بأنك تنوي خطبتها حالما تتوفر لديك الإمكانية، وستنتظرك بالتأكيد..
لا أدري كيف تمكنتُ من السيطرة على غضبي، جراء اقتراحه ذاك، فبأي حق أتواصل مع فتاة بطريقة ملتوية، أتجاوز فيها أهلها!! لكنني كظمتُ غيظي، واكتفيتُ بقولي:
– لا يمكنني أن أعد أحداً بشيء، لا أثق بقدرتي على الوفاء به! حتى الرسول صلى الله عليه وسلم في حثه على الزواج؛ قال: “يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء”، ولستُ بالذي يحدّث فتاة؛ قبل أن يتأكد من قدرته على الارتباط بها رسمياً..
وكأن “أشرف” شعر بأنه ضايقني بكلامه، فأسرع يعتذر بقوله:
– صدقني.. لم أكن أقصد سوى الخير لك، فسامحني إن أزعجتك، وحظاً موفقاً لك..
إلا أنني بعد ذلك، لم أكن لأشعر بأي ضيق منه، بل إن كلامه أشعرني بنوعٍ من الراحة، فربما يكون عرف شيئا عن “نائلة” من زوجته، فهما صديقتان على ما يبدو، وهذا ما أوقد عزائمي من جديد، لأباشر البحث عن عمل، وفي أسرع وقت..
ومما خفف عني تلك الليلة، أن والداي باركا موقفي من وظيفة السفير، وقد أكّد أبي عليّ بقوله:
– المال مهم جداً لنا بالطبع، لكن الأهم هو أن يكون حلالاً، ومن طريقٍ حلال..
وهكذا عدتُ لمراسلة بعض المكاتب التي أعتذرتُ لها سابقا، وحصلتُ على وظيفة جيدة؛ في مكتب لترجمة الوثائق الرسمية، والمعاملات الحكومية، وبدأتُ أعد الأيام التي تفصلني عن “نائلة”، بعد أن رتبت سلم أولوياتي المادية..
فبعد أن أساعد أسرتي في شراء منزل مريح وصحيّ، بدلا من الأجرة التي تلاحقنا كل شهر، في منزل لا تدخله الشمس، مما ترك آثارا سلبية على صحة والدتي وأخواتي، كنت أفكر بمفاجأة والديّ برحلة حج، أعبّر من خلالها عن جزء من امتناني الشديد لهما، لا سيما وأنا أدرك تماما مدى رغبتهما بأداء الفريضة، وزيارة الديار المقدسة، وقد كان لدى أمي حصّالة خاصة، تدّخر فيها المال لهذه الرحلة العظيمة، غير أن وفاة زوج عمتي المفاجيء، أجبرها على كسرها، ولم أكن لأنسى دموعها في ذلك الوقت! صحيح أنها كانت تبكي حال عمتي؛ بعد أن تيتم أولادها، لكنني أدرك أنها كانت تبكي أيضا؛ شوقها لبيت الله، الذي كانت تعد له الأيام عداً!! ولا شك أن لرحيل زوج عمتي، أثره الكبير على حياتنا بعد ذلك، مما يعني أن لديّ التزاماً، عليّ أن لا أنساه تجاه أبي، والذي تكفل بإعالة أسرتين، لا كافل لهما- بعد الله- سواه!
وابتسمت لي الأيام مجدداً، إذ سرعان ما لمح صاحب المكتب كفاءتي، فضاعف أجرتي مقابل ساعات إضافية من العمل، فقد بدأ الزبائن يتهافتون على مكتبه دون سواه، وكنت سعيداً بذلك، أعمل بجد، ولا أتردد عن قبول أي أعمال إضافية، فقد كانت الأجرة مجزية جداً، وخلال عام كامل، تمكنتُ من تحقيق إنجازٍ منقطع النظير، فاستعنتُ بصاحب عقارات كان أحد زبائني، وعثرتُ على منزلٍ مناسب جداً، وبعد أن اصطحبتُ والداي إليه، وتأكدتُ من إعجابهما به، سددتُ الدفعة الأولى كاملة، لتنتقل أسرتي إليه في أقل من شهر، وكانت فرحة أمي ودعوات أبي وبهجة أخواتي، كفيلة بإسعاد قلبي.. وكنتُ أتحرق شوقاً للحظة التي أفاجيء بها والداي، برحلة الحج.. حتى إذا ما حان موسمه، وكنتُ قد ادخرتُ مالاً كافياً لهما، شعرتُ بأنني امتلكتُ الدنيا وما فيها، وأنا أقدم لهما تذاكر السفر مع حملة ممتازة، ورغم أن أمي اعترضت بداية بقولها:
– كان عليك أن تفكر بنفسك أولاً وبمستقبلك، فقد أصبحتَ رجلاً، ويجب أن تفكر بعروس مناسبة الآن، يكفي المنزل الذي تكفلتَ بسداد أقساطه..
لكنني طمأنتها بقولي:
– لا تقلقي يا أمي، فقد أصبح لدي دخلاً ثابتاً بفضل الله، وهو دخلٌ ممتاز، ويمكنني تنميته بإذن الله، وأعدك بأننا سنتحدث في هذا الموضوع؛ فور عودتك بالسلامة من الحج، إن شاء الله..
عندها لم تتمالك أمي نفسها، ولم أكن أتخيل أن كلماتي تلك؛ ستملأ المنزل زغاريداً وأفراحاً! لقد أشرق وجهها، كما لو أنه لم يشرق من قبل، فقالت لي:
– سأدعو الله بأن يُنعم عليك بأفضل زوجة في الدنيا كلها، ويرزقك بعشرة أولاد صالحين مصلحين..
فأفلتت مني ضحكة رغماً عني:
– لماذا عشرة بالتحديد؟؟
فضحكت أمي وهي تقرص أذني:
– لا أدري.. هذا ما خطر ببالي الآن!
ونمتُ تلك الليلة، وأنا أفكر بـ “نائلة”، ستحبها أمي بلا شك..
وانطلقت قافلة الحجيج إلى بلد الحبيب، صلى الله عليه وسلم، وانطلقتُ إلى عملي، أهتم بشؤون أخواتي، وشؤون عمتي وأولادها، نيابة عن أبي، وقد كانت تلك من أسعد اللحظات، التي مرت عليّ حتى ذلك الوقت..
إنها بضع خطوات فقط، تفصلني عن “نائلة”!!
غير أن للقدر مسارٌ آخر، غير ذاك الذي رسمته في ذهني!!
فبعد عام وثلاثة أشهرٍ من لقائي بـ”أشرف” آخر مرة، فوجئتُ به يزورني في مكتبي، وكانت ملامح وجهه لا تبشر بخير، وهو يقول لي:
– أين كنت؟؟ لقد بحثتُ عنك كثيراً، بعد أن فقدتُ أي وسيلة للاتصال بك!
عندها تذكرتُ بأنني لم أخبره بعنوان منزلنا الجديد، الذي انتقلنا إليه، فاعتذرتُ منه متأسفاً:
– إنني مدين لك باعتذار بالفعل، فقد شغلتني الحياة كثيراً كما ترى..
ثم صمتُ، وأنا أتطلع لحديثه عن “نائلة”، كما فعل آخر مرة، غير أنه اكتفى بقوله:
– جئتُ لأطمئن عليك، كيف حالك؟
كانت كلماته واجمة بشكل كبير، مما أثار مخاوفي، فهتفتُ دون وعي مني:
– هل حدث شيء لـ “نائلة”؟
عندها نظر إلي بعينين لائمتين:
– كنتُ أدرك طوال الوقت أنك مهتم بها، فلماذا تأخرت؟! لقد تزوجت “نائلة” قبل ثلاثة أشهر!
وقتها أدركتُ فقط، كم كنتُ أحبها… ولا يمكنني تخيل حياتي من دونها!
ولا أدري ما الذي جرى لي تحديداً بعدها، فقد كانت تلك أشبه بالضربة القاضية؛ لكل ما بنيته من أحلام وطموح ومجد! ولم أستطع متابعة العمل في ذلك اليوم، فطلبتُ إذناً بالخروج وهِمتُ على وجهي… ما أشبه اليوم بالبارحة!! غير أنني فقدتُ السبب، الذي أحيا عزيمتي أول مرة!!
“نائلة”.. تلك الفتاة التي أحببتها من كل قلبي؛ أصبحت مجرد ذكرى عابرة، بل سراب في صحراء شاسعة، لم أستطع الوصول إليها أبداً، ولا الارتواء بفيء ظلالها..
ما الذي سأقوله لأمي عندما تعود! ما الذي سأحدثها به؟ لقد فقدتُ الرغبة تماماً بالزواج…
وكأن المصائب تأبى أن تأتي فُرادى، لعل بعضها يُنسي بعضاً، فرغم أنني حرصتُ على استقبال والداي، عند عودتهما من الحج، استقبالاً يليق بهما قدر استطاعتي؛ إلا أن وفاة عمتي الكبرى؛ كان صدمة حقيقية للعائلة، فهي لم تكن تشكو من شيء، وكانت بمثابة الجدة لنا بعد جدتنا!
كانت أيام عصيبة، لكنها مرت كما يمر السحاب، وذكرى “نائلة” لا تزال تلوح أمامي في كل خطوة أخطوها، رغم محاولاتي الجاهدة لتناسيها، ولم أكن أدرك كم كانت جذورها متغلغلة في كياني..
حتى جاء اليوم الذي كنتُ أخشاه، يومها طلبت مني أمي الحديث على انفراد..
– بني.. لقد وعدتني بالحديث في موضوع الزواج فور عودتي من الحج، وقد مرت الأيام دون أن تحدثني بشيء! لقد ظننتُ أن هناك فتاة تود خطبتها، وكنتُ سأبذل جهدي من أجلك، حتى ولو طلبتَ بنت السلطان مثل علاء الدين..
كانت أمي تتكلم بجدية كبير، حتى أنني اكتفيت بالابتسام لخيالها الواسع، فيما تابعت هي كلامها بالنبرة نفسها:
– أخبرني يا حبيبي، هل حدث لك شيء؟
كانت كلمات أمي الحبيبة، كفيلة بإذابة الجليد المتراكم على قلبي، فاضطربَت مشاعري، ونفرت دمعاتٌ من عيني، فانكببتُ على يديها أقبلها، وأنا أخفي وجهي في حجرها:
– سامحيني يا أمي.. أنت تعرفين الظروف التي مررنا بها بعد وفاة عمتي، رحمها الله…
فما كان من أمي إلا أن ربتت على شعري بحنان:
– لقد مر على ذلك أكثر من عشرة أشهر، فأخبرني الحقيقة.. هل حدث شيء للفتاة التي كنت تفكر فيها؟
لا أدري كيف وصلت أمي لذلك الاستنتاج، بل لا أعرف كيف عرفت أن هناك فتاة كنتُ أود خطبتها بالفعل، لكنني آثرتُ الصمت، تاركاً العنان لدموعي، لتنساب في حضنها الدافيء، وليكون هذا أبلغ جواب عن سؤالها..
عندها ضمتني إليها كطفلٍ رضيع، وشعرتُ بدموعها تتخلل خصلات شعري:
– لن يضيعك الله أبداً يا بني، ولو كان فيها خيراً لك، لما أبعدها عنك…
كانت لحظات سكينة، اغتسلت روحي في صفائها وطهارتها، حتى شعرتُ بأنني ولِدتُ من جديد..
لم تمضِ على تلك الحادثة سوى أيامٌ معدودة، حتى فوجئتُ بأمي تقول لي:
– سمعتُ عن فتاة طيبة من الحاجّة “أم أسعد”، وأظنها مناسبة لك.. وأنوي زيارتهم والتعرف إليهم غداً، إن شاء الله..
ورغم عدم استعدادي النفسي للارتباط بأي فتاة أخرى، غير “نائلة”؛ إلا أنني وجدتُ نفسي انصاع لكلامها، إذ لم أجد مبرراً واحداً لمجادلتها، أو الاعتراض على عَرضها!
كانت سعادة أمي بالفتاة وعائلتها بعد ذلك، من النوع الذي تعجز الكلمات عن وصفه! فقد كالت لها المدائح كيلاً، من كل حدب وصوب، وكأنني على موعدٍ مع ملاكٍ؛ هبط من السماء فجأة!!
كنتُ أُقنع نفسي بأن موافقة الأهالي المبدئية، لن يترتب عليها أي شيء؛ إلا بعد مقابلتي الشرعية للفتاة، حيث يحق لأي واحدٍ من الطرفين الرفض، وقد ترفضني الفتاة وينتهي كل شيء بسلام، وفي أسوأ الاحتمالات.. فإن أمي وعائلتي بالطبع، لن يهدأ بالهم حتى أتزوج، وإن كنتُ سأتزوج عاجلاً أم آجلاً؛ فلمَ لا أقدم على هذه الخطوة الآن! على الأقل.. هذا سيسعد أمي وأبي، ويدخل البهجة على عائلتي، لا سيما وأن أكبر أخواتي قد تمت خطبتها لابن خالي، وكل شيء يبدو على ما يرُام.. هكذا كنتُ أقنع نفسي بضرورة التأقلم مع الوضع الجديد، وأخذتُ عهداً على نفسي بضرورة نسيان “نائلة” تماماً، فأي مقارنة بينها وبين الفتاة التي سأخطبها، أياً كانت؛ ستظلم الجميع!!
عرفتُ أن اسمها “عفاف جميل”، وبعد مقابلتي لوالدها، قابلتها.. ولا أدري كيف انشَرَحَ لها صدري فجأة، كان هناك توافقٌ عجيبٌ بيننا، وكأنني أعرفها منذ زمنٍ طويل، بل شعرتُ أنني أتحدث مع نفسي، وأرى صورتي في مرآة صافية! كانت تعمل في مجال (البرمجة)، حيث يمكنها مزاولة عملها في المنزل، ثم حدثتني عن أهدافها وطموحاتها، وحدثتها وكأنني أتحدث إلى صديق مقرب؛ أكثر من كوني أتحدث إلى فتاة أنوي خطبتها! وقد أراحني هذا الشعور كثيراً في ذلك الوقت! وكم كانت فرحة أمي وأبي كبيرة، بإعلان الموافقة من الطرفين..
وبعد أن تم ترتيب كافة الأمور بين الأهالي، وتحديد موعد الزفاف؛ شعرتُ بحاجة ماسة للاختلاء بنفسي، فلم تبقَ أمامي سوى أيام معدودة، لأتحمل بعدها مسؤولية كبرى، أُخِذَ مني عليها ميثاقٌ غليظ! فأخبرتُ أمي بأنني ذاهبٌ للنادي الرياضي، وقد أتأخر قليلاً حتى لا تقلق عليّ، وقد ذهبتُ هناك فعلاً، والتقيتُ ببعض الأصدقاء القدامى، ولكنني كنتُ أبحث عن الفرصة التي أخلو فيها بنفسي، فخرجتُ من حدود النادي أتمشى وحيداً، في ممشى شجري، بعيداً عن الضوضاء، أراجع شريط حياتي، تحت ضوء القمر، وكان لا بد لظل “نائلة” أن يظهر من جديد؛ إذ كنتُ أبحثُ عن طريقة لأنساها تماماً، وأُسدل الستار على آخر فصولها، فقد رأيتُ أنه من الخيانة للفتاة، التي ستصبح زوجتي؛ أن تكون هناك فتاة أخرى، لا تزال عالقة في قلبي..
وبينما أنا على تلك الحالة من الحوار الداخلي؛ فوجئتُ بظل شخصٍ، يعترض طريقي!! لم أتبين ملامحه في البداية، غير أنه بدا يتعمد لفت انتباهي، وربما يريد التحدث معي.. لكنني ذُعرتُ تماماً، عندما تبين لي أن ذلك الشخص؛ لم يكن رجلاً!! فاستدرتُ وأنا أنوي العودة من حيث أتيت بأسرع ما يمكن، فليس من الحكمة في شيء، أن أقف وحيداً مع فتاة شابة، على ما يبدو، في مكانٍ معزول كهذا!!!!
وقبل أن أقدم على خطوة أخرى في طريق العودة؛ فوجئتُ بها تهتف باسمي، بنبرة كسيرة، كانت كفيلة بزلزلة أعماقي، لتهيج أعاصير وزوابع، بل تفجّر براكين؛ توهمتُ أنني نجحتُ في إخمادها!
– نبيل.. ألم تعرفني؟ هذا أنا.. “نائلة”!
لم تكن بحاجة للتعريف بنفسها، لأدرك أنها هي بعينها، ورغماً عني وعن كل خططي الدفاعية؛ وجدتُ قلبي يخفق بجنون، حتى أنكرتُ نفسي، وأنا أحدثها باستبسال الغريق الذي يتشبث بالقشة:
– ما الذي أصابك يا نبيل!! ألم تقل قبل لحظات؛ بأنه لا وجود لـ “نائلة” في قلبك بعد اليوم!! أكان هذا اختبار مفاجيء لصدق كلامك، فأعلنتَ فشلك فيه من الكلمة الأولى!!!
تمالكتُ نفسي بصعوبة، لأقول لـ “نائلة”، بأكثر نبرة جادة امتلكتها في حياتي:
– أخشى أن يرانا أحد في هذا المكان وحدنا، فيظن بنا سوءا، ولا أريد أن أسيء لك بأي شكل يا أختي..
غير أنني تشنجتُ مكاني، وكأن الشلل أصاب كل خلية في جسدي، وأنا استمع لشهقاتها الملتاعة، وبكائها المرير! وهممتُ أن أهرع نحوها، لأضمها بين ذراعي، وأقول لها مُطمئِنا:
– “نائلة” يا مالكة قلبي، هوني عليك حبيبتي، وأخبريني، هل حدث لك شيء؛ فأقدم حياتي فداء لك؟
لكنني كبّلتُ قدماي، بأقوى أغلال يمكن أن تثبتهما مكانهما، وألجمتُ لساني بشدة، لأقول لها بلهجة جادة:
– هل يمكنني تقديم أي مساعدة؟
فما كان منها إلا أن جثت على ركبتيها، وهي تنتحب بكلام متهدج؛ كاد أن يفقدني صوابي:
– أعلم أنني أستحق منك هذا التجاهل بعدما حدث.. ولكن صدقني، لم أكن أدرك أنك تحبني أو حتى تهتم لأمري، رغم أنك كنتَ الشخص الوحيد، الذي أحببته طوال حياتي، وكنتُ أفضّل الموت على أن أتزوج برجل آخر! لكن أهلي أرغموني على ذلك.. وها قد مر أكثر من عام على زواجي، دون أن تغيب ذكراك من مخيلتي، إذ كان زوجي كثير السفر والترحال، وبالكاد يذكر أن لديه زوجة، عليه الاهتمام بها!! ربما لم تكن تعرف أن زوجة “أشرف” هي أختي من أمي، وهي أكثر من تعلم بمأساتي، فقد انفصلت أمي عن أبي عندما كنتُ في الثانية من عمري فقط، ثم تزوجَت مرة أخرى وأنجبت أختي تلك، فيما تزوج والدي امرأة أخرى وأنجب منها بقية أولاده، وبقيت أنا أتنقل بين البيوت، تارة في بيت جدي لأبي، وتارة في بيت جدي لأمي، تارة عند أبي وتارة عند أمي، وكبرتُ دون أن أعرف معنى الاستقرار، فأشغلتُ نفسي بالتميز والأهداف العظيمة؛ لعلي أتناسى ذلك النقص الكبير في حياتي، ثم شرعتُ في بناء كياني الخاص! لم يكن ينقصني المال، ولم أكن أدرك أنني كنت أبحث عن الحب والأمان.. حتى التقيتك ووجدتُ فيك كل ما أتمناه! ولكنني لم أكن أجرؤ على المبادرة بشيء قد يُساء فهمه، وكنتُ أنتظرك، وأنا أمنّي نفسي بأن أكون قد وقعتُ في قلبك؛ كما وقعتَ في قلبي.. ولكن مضت الأيام دون أمل، واعتراني الهم، حتى حصل ما حصل!! وقبل أسبوع فقط، عندما كنت أحدث أختي برغبتي في الطلاق من زوجي، بعد أن أصبحت حياتي جحيما لا يُطاق، حدثتني عن لقاء “أشرف” بك… وقتها فقط، شعرتُ بأن القدر قد يبتسم لي من جديد.
لا أذكر بأنني شعرت بوجود كلمات أكثر صدقاً، تنساب بعذوبة وعفوية كتلك الكلمات من قبل، ولا أعرف كيف تمكنتُ من الصمود في تلك اللحظات، دون أدفئها بلهيب أشواقي المشتعلة، أو أغمرها بسيل مشاعري المتأججة، لأخبئها في أعماقي؛ خشية أن يراها أو يسمعها أحد غيري!
وأي شاب يحتمل رؤية حبيبته الوحيدة، التي قضى أيامه يحلم بالوصول إليها؛ تصارحه بحبها ورغبتها، وهي في أشد حالات اليأس والانكسار، بعد أن فقدَ في وصالها الأمل!! وكأنني غبتُ عن واقعي للحظة، فرأيتني انتشلها من بؤسها، وأخلصها من عذاباتها، فأنا فارسها المنقذ، الذي طال انتظارها له، وآن لها الارتماء في أحضانه، ليحلق بها على صهوة جواده الأبيض، فوق سحائب الهموم والآلام، حيث سنبني قصر حبنا، والذي سيرتع في ظلاله أطفالنا، حتى ننسى أننا ذقنا في حياتنا بؤساً قط!
وكأنها خشِيَت ترددي، فرجتني بنبرة؛ أذابت جليداً؛ حاول أن يصمد في لهيب صدري:
– إن منزلي قريب، وأنا وحيدة، فلا تتركني لأشباح وحدتي، أتجرع مرارة الحرمان من جديد، ولا يهمني ما الذي سيحدث بعد ذلك، فلم تعد الحياة تعني لي شيئا!! وثق بأنني مستعدة لفعل أي شيء من أجلك..
ولكن.. لا أدري أي قوة تلك التي كبحت جماحي، وعقدت لساني، فوقفَتْ سداً منيعاً أمام هوى قلبي، فتجمّد قبل أن ينساب في كلماتٍ؛ تكشف عظيم حبي، وشدة شوقي!
لقد أصابتني رعدة خوفٍ؛ ما شعرتُ بمثلها قط! ولستُ أدري إن كان ذاك خوفاً من ارتكاب عملٍ خاطئ؛ أندم عليه طوال حياتي، أم خوفٌ من ردة فعل أمي، التي بذلت جهدها؛ حتى أتمّت خطبتي، أم خوفٌ من ردة فعل أبي الذي يثق بي، أم خوفٌ من خيانة زوجٍ غائبٍ؛ قد لا يكون له ذنبٌ فيما يجري، أو خيانة فتاةٍ على وشك أن تصبح زوجتي!!
رأيتُ ناراً يقع المجرمون فيها سبعون خريفاً؛ فلا يصلون قعرها، وجنة يخلد الأبرار في نعيمها؛ ولا يملون منها أبداً، وفوق ذلك.. ربٌ عظيمٌ لا تخفى عليه خافية، ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها!! فخشع قلبي، وسكنَتْ جوارحي، ونطق لساني، وقدماي تلوذان بالفرار:
– لقد عقدتُ قراني، وسأتزوج بعد عدة أيامٍ، إن شاء الله..
ربما توقعتُ كل شيء، إلا سماع شهقتها الفزعة، وهي تسألني بالتياع:
– وهل كنتَ تحبها؟؟
فوجدتُ لساني يجيبها بتلقائية، وأنا أحث الخطى في الابتعاد:
– لقد أصبحَت زوجتي.. وسأحبها، بإذن الله..
غير أنني توقفتُ فجأة؛ لأقول لها دون أن التفت إليها:
– حتى أنتِ يا أختي.. يمكنك أن تحبي زوجك، وقد يرزقك الله منه طفلا؛ يكون قرة عين لك في الدنيا والآخرة، لذا أرجوكِ، عودي من حيثُ أتيتِ، واستري على نفسك ستر الله عليك..
وهممت بالجري كي أختفي من ناظريها بسرعة، لكنني تذكرتُ أمراً هاماً، ختمتُ به كلامي، قبل أن أطلق ساقاي للريح:
– أنا لم أرَ ولم أسمع شيئاً، ولا أعرف عنكِ سوى أنك الطالبة الخلوقة “نائلة عواد”؛ التي ستسعى بجدٍ لتحقيق هدفها في ترجمة كتبٍ، تكون سبباً في دخول الناس في دين الله أفواجا..
ورغم مرور كل تلك السنوات؛ ما زلتُ لا أتمالك دموعي كلما تذكرتُ ذلك الموقف، وذكرتُ حفظك لي فيه يارب، فقد كنتَ سندي في جميع أموري، وأنتَ تعلم أنني ما تتبّعتُ لها خبراً بعد ذلك، ولا كشفتُ لها ستراً، وكنتُ أرجو أن ينصلح حالها بكل خير، ابتغاء مرضاتك، وإنني أتوسل إليك بقدرتك، التي حَفِظَت شاباً هائجاً، وثبّتته في ذلك الموقف العصيب؛ أن تُلهم هذا الطبيب الطيب علاجاً؛ يكون فيه نجاة ابني وحفظه من كل سوء، فقد كنتُ شاباً مثله، وأنتَ على كل شيء قدير..
*************************
(2)
“عفــــــــــــــــــاف”
أنهار من الدموع لا يمكنني حبسها، وأنىّ لي ذلك! قطعة من فؤادي، ممددة على السرير الأبيض أمامي، ما زال شاباً في عمر الزهور، ولستُ أعترض على أمرك يا إلهي، ولكنني أمتك الضعيفة، التي عوّدتَها رحمتك ولطفك.. لم أكن أعرف ما أدعوك به، غير أنني استودعتك قلبي؛ فحفظته!
كنتُ في عنفوان الشباب والصبا مثله، أتطلع بشغفٍ لليوم، الذي أحقق فيه أمنية والداي؛ بتقديم عملٍ يكون فيه عزة الأمة، فلطالما سمعتهما يتحدثان بألم عن التخلف والضعف الذي يجتاح مجتمعاتنا، في حين تتطور الأمم الأخرى وتزداد قوة، لنبقى نحن عالة عليها! وشعرتُ بأن السيادة في القوة؛ ستكون لمن يمتلك “التكنولوجيا” الأكثر تطوراً، فعزمتُ على دخول عالم البرمجة، وانكببتُ على دراستي، التهمها بنهمٍ كي أسبر غور رموزها، وأكشف ما يخفى بين سطورها، فلم أكن لأدرس من أجل درجاتٍ عاجلة، بل كان هدفي التفوق على مصممي البرامج، ومطوري لغات البرمجة بحد ذاتها، فتعمقتُ في تاريخها، وبذلتُ جهدي حتى أحقق إنجازاً لأمتنا، فأُسعِد والداي، تعبيراً عن تقديري وامتناني لكل ما فعلاه من أجلي، ولأريهما بأنهما حتى وإن لم يُنجبا غيري؛ فقد أنجبا فتاة بأمة، تخلد ذكراهما، وتكون سبباً في جريان الحسنات في سجلاتهما؛ إلى يوم القيامة!!
وقد كنتُ ازداد سعادة مع كل معلومة جديدة أتعلمها، بل إن أساتذتي بُهروا بالبرامج التي كنت أنجزها في وقت قياسي، وقد أصبحت أول تجربة لي في تصميم برنامج خاص، حديث القسم والجامعة بأكملها، وقتها كنتُ مهمومة بمسألة الغزو، الذي يخترق بيوتنا رغماً عنا، وهناك شباب قد يكونوا محافظين، غير أنهم مضطرين لتصفح بعض المواقع، التي لا تخلو من صور لا تليق، هذا سوى الإعلانات الفاضحة؛ التي قد تظهر فجأة في أي لحظة، مما جعلني اتخذ من اسمي، الذي سماني به والداي؛ عنواناً للبرنامج الذي عزمتُ على تنفيذه! كنت لا أزال في بداية السنة الثانية، وخبرتي في البرمجة لا زالت محدودة، ومع ذلك عكفتُ على البرنامج بعزيمة وجد، تباركني دعوات أمي، وتشجيع أبي، حتى خرج برنامج “العفاف” بأفضل حلة، كان برنامجاً سهل التحميل، صغير المساحة، لا يحجب من المواقع سوى الصور غير اللائقة، دون أن يؤثر على الكلام حولها، وهو مع ذلك لا يقوم بالحجب الكامل، الذي قد يعيق عمل الباحثين، وإنما يكتفي بالتظليل التلقائي للصور المستهدفة، وقد كان النجاح الباهر الذي حققه برنامجي؛ أثرٌ كبير في شحذ عزيمتي، غير أن المصادر التعليمية والبحثية في الترجمة؛ كانت محدودة حولي، ولم تكن الشبكة العنكبوتية وقتها؛ لتجود علي بالدروس التي أحتاجها، رغم بحثي الحثيث فيه، وقد كان قسمنا من الأقسام الجديدة في الجامعة، ولم يكن بها من الأساتذة من يتفهم تطلّعي الحقيقي لهذا العلم!! حتى ظهر الأستاذ “باهر”، ذلك الأستاذ الشاب الذي أبهر الجميع بموهبته الفذة، وكفاءته العالية، حتى قيل أنه يعرف جميع لغات البرمجة الموجودة، ويمكنه البرمجة بأكثر من لغة في الوقت نفسه، دون أن يفتح ورقة، أو يرتكب خطأ واحداً!!
ومنذ أول محاضرة؛ بُهِرتُ بطريقة تدريسه، فقد كان “باهراً” بحق، ووجدتُ فيه ضالتي المنشودة، التي سأنهل من معينها ما أحتاجه لتحقيق هدفي، وكم كانت سعادتي كبيرة؛ عندما نزل اسمي ضمن قوائم شعبته، في السنة الأخيرة، حيث كنتُ أخشى التخرج قبل أن أحقق إنجازاً عظيماً؛ يعز الأمة..
كنتُ أسأله بلهفة عن كل صغيرة وكبيرة دون حرج، إذ كان يجيبني باستفاضة دون أن يبخس أي سؤال حقه، وهو إلى جانب ذلك على خُلُق كبير، واحترام فائق، يشهد له الجميع بذلك، ورغم أنني لم أكن أذهب إلى مكتبه وحدي أبداً، ولم أكن لأتجاوز حدودي في الحديث معه؛ إلا أنني اكتشفتُ فيما بعد، أن زمام الأمور أفلتت من يدي، دون أن أدري! إذ انتبهتُ فجأة؛ أن قلبي لم يعد قلبي الذي أعرفه، بل غدا وعاءً؛ امتلأ عن آخره بحبه!! وقد هالني الاكتشاف الخطير؛ بأنني لم أعد أذهب لسؤاله من أجل الأسئلة فقط، بل من أجل رؤيته وسماع صوته، وكان هذا مؤشراً خطيراً، لم يعد بإمكاني تجاهله!! فأخذتُ عهداً صارماً على نفسي؛ لا مزيد من الأسئلة خارج وقت الدرس بعد اليوم!! وتناسيتُ هدفي عامدة، بعد أن ارتبط الأستاذ “باهر” به، حتى أسترد صفاء نفسي، وأراجع حساباتي، وكم كان ذلك شاقاً على قلبي!! وكأنه باء بحمله الثقيل، وشوقه الذي لم يجد متنفّساً لِبَثّه، فضخّ إعيائه مع الدم إلى سائر جسدي، فمرضتُ مرضاً شديداً، ولبثتُ في فراشي طريحة الحمى أسبوعاً، حتى إذا ما تحسنت صحتي، وعدتُ إلى دوامي، استقبلتني صديقتي “لبنى” بقولها:
– لقد بدا الأستاذ “باهر” قلقاً عليك، وقد سأل عنك شخصياً، أكثر من مرة!
ثم تابعت بغمزة باسمة:
– يبدو مهتم بك فعلاً!!
ورغم أنني كنتُ أنوي تسفيه هذا التصريح ونفيه،غير أن ظهور الأستاذ “باهر” في نهاية الممر؛ ألجم لساني، وكأن هذا ما ينقصني!!! ويبدو أن وجهي قد اصطبغ بالحُمرة تماماً، إذ أن صديقتي سرعان ما اتخذت من ذلك ذريعة لها؛ لتقول:
– كنتُ أعلم أنك تكنين له بعض المشاعر أيضاً، على كل حال، نحن على أبواب التخرج ومن الجيد أن تفكري بالموضوع جديّاًّ!
هممتُ أن أصرخ بها لأسكتها، أو أكمّم فمها، خشية أن يسمعها أحد، لا سيما وأن الأستاذ بدأ بالاقتراب منا، لكنني قلت لها بتوسل:
– ما هذا الذي تقولينه يا “لبنى”؟؟؟ لا يوجد أي شيء مما يدور في رأسك! ويا حبذا لو تخفضي صوتك على الأقل!!
وقبل أن تعبر “لبنى” عن اعتذارها، كان الأستاذ قد اقترب، فألقى التحية علينا، دون أن يُخفي ابتهاجه برؤيتي سالمة! وعزوتُ ذلك إلى أن أي أستاذ؛ يهتم بالسؤال عن طلبته، خاصة إن لمس منهم جداً واجتهاداً، وهذا كل ما في الأمر! لكن لبنى عادت لتؤكد كلامها:
– إنني بالفعل أعتذر لك إن كان في كلامي ما أزعجك، ولكنني صدقاً لا أرجو لك إلا الخير، فمن الواضح جداً أن الأستاذ يفكر فيك بشكلٍ جاد، لكن سيكون من الإحراج له- بصفته أستاذاً- أن يعرض على إحدى طالباته الخطبة؛ ثم تقابله بالرفض! لذا من الأفضل أن تلمحي له بالقبول المبدئي، أو تسنحي له بفرصة الحديث معك على انفراد؛ ليتشجع…
لم أستطع تمالك نفسي وقتها، وقد شعرتُ بغضبٍ حقيقي:
– لو لم يكن في هذا الأمر، سوى هتك حاجز الحياء والحشمة؛ لكفاه سوءا!! كيف تعرضين عليّ أن أقوم بأمرٍ كهذا، متجاوزة حدودي، ومتخطية لمقام والديّ!!!!
فما كان من “لبنى” إلا أن أسرعت بالاعتذار مرة أخرى، وهي تبرر كلامها بقولها:
– حقاً سامحيني يا “عفاف”، فلم أقصد الإساءة إليك، أو حملك على فِعلٍ لا يليق بكِ، وأنتِ أكثرنا التزاماً وحرصاً، ولكن هذا ما تقوله الفتيات!!
ورغم رفضي القاطع لتلك الفكرة، لكن صداها أحدث ضجيجاً في داخلي، فقد كنتُ أشعر بأن سعادتي ستكتمل بارتباطي بهذا الأستاذ، الذي بدأت براعم أهدافي تُزهر على يديه، وتخيلتُ نفسي معه، يجمعنا بيتٌ واحد، نكمل فيه مشوارنا معاً، في طريق التطوير وعزة الأمة! ولكن.. ما الذي أعرفه عنه؛ سوى أنه أستاذ عبقري خَلوق أبهرنا بعلمه!! كان يقلقني عدم رؤيته يرتاد المسجد، ولو لمرة واحدة، ولم أكن أعلم إن كان يصلي أم لا، وإن كنتُ أتمنى أن يكون كذلك من كل قلبي! ولطالما تساءلت.. ماذا لو تقدم لخطبتي رسمياً، ثم اكتشفتُ أنه لم يكن ملتزماً بالصلاة! أو كان هناك شرخٌ واضحٌ في دينه!! بالطبع لن أوافق؛ فهذا أمرٌ لا نقاش فيه، ولم أكن أدري بماذا أدعو في صلاتي، فتركتُ دموعي تنهمر لتعبر عن حيرتي وانكساري، حتى ألهمتَني يارب دعوة؛ لم تزل تتردد في ذلك الوقت، على لساني:
“إن كان فيه خيرٌ فقرّبه مني، وإن كان غير ذلك فأخرجه من قلبي”
وكنتُ أتمنى أن تكون الأولى.. حتى حان موعد تسليم مشروع التخرج النهائي، وكنتُ وقتها منهمكة في إعداده من جهة، ومن جهة أخرى؛ أتعذب ألماً مع مرور كل يوم يقربني من ساعة فراق أستاذي، دون أن أعرف ما سيكون مصيري معه، وكان أكبر همي، أن يتقدم خاطبٌ يوافق عليه أهلي، في حين أنني لا أدري؛ ما هو موقف الأستاذ مني، ولشد ما خشيتُ أن أجد نفسي في موقفٍ أجد فيه نفسي مضطرة للقبول بخاطب من أجل أهلي، ثم يأتي ذلك الأستاذ؛ فأخسر سلامة قلبي! فهل كانت “لبنى” على حق؟!! بدا لي ذلك صراعاً أبدياً سرمدياً، لا مناص منه!! فألححتُ بالدعاء لقلبي، قبل الدعاء لمشروعي، الذي كنتُ أظنه فيما سبق؛ أكبر همي! حتى فوجئتُ بجهازي، الذي أعمل عليه، وقد خزّنت عليه كامل ملفاتي؛ يتعطل قبل اتمامي للخطوة الأخيرة، وكنتُ على وشك تسليم مشروعي خلال يومين فقط!! لم يكن لدي الوقت الكافي للتحسر على تعبي الفائت، وكان عليّ إيجاد أسرع طريقة لتسليم المشروع، فطلبت من والداي الدعاء لي، وقد أشفقت أمي عليّ كثيراً، بعد أن رأت عملي المتواصل على هذا المشروع، خلال الأيام الفائتة..
ذهبتُ إلى أفضل مهندس أعرفه، فأخبرني بأن إصلاح الجهاز، سيتطلب منه عدة أيام حتى يكتشف الخلل! ولم يكن لدي الوقت لأضيعه، فخطر ببالي أن أعيد العمل على المشروع من جديد، وبما أن البرامج التي أعمل عليها لم تكن متوفرة إلا على الأجهزة المتخصصة، فقد طلبتُ إذناً من رئيس قسمنا، ليسمح لي بالدخول إلى قاعة الأجهزة، حيث كانت تُغلق بعد وقت الدرس، ولم يكن طلبي صعباً، فسمعتي طيبةٌ في القسم، وعذري مقبول، بل إنه تم منحي يومين إضافيين لتسليم المشروع، وسرعان ما باشرتُ عملي على أحد الأجهزة، أعيد طباعة ما كتبته سابقاً؛ من نقطة البداية! فلم يعد هناك ما يشغلني؛ أكثر من إنجاز عملي، في أسرع وقتٍ ممكن! بقيتُ على ذلك الحال ثلاثة أيام متواصلة، آتي مبكرة للقاعة، وانصرف قبل أن يُغلق القسم أبوابه..
وفي اليوم الرابع، كنتُ وحدي في القاعة، ويبدو أن الممرات بدأت تخلو من الطلبة، أما باب القاعة؛ فقد أبقيته موارِباً، خشية أن يظن الحارس أن لا أحد في الداخل- عند تفقده لقاعات المبنى- فيغلق عليّ باب القسم، دون أن أنتبه! وبينما كنتُ في أوج تركيزي، وأنا على وشك الوصول إلى الخطوات النهائية؛ فوجئتُ بمن يُلقي عليّ التحية، ولم يكن صوته ليخفى عليّ:
– “عفاف”!! لم أتوقع أن أراك هنا! هل تحتاجين أية مساعدة؟
وكأن قلبي توقف فجأة، ثم قفز من بين أضلعي قفزة؛ زلزلت كل خلية في جسدي! فأوقفتُ أصابعي عنوة؛ حتى لا تُفسد العمل في نهايته، ورددتُ تحيته، وأنا أحاول السيطرة على أنفاسي، خشية أن يفضح اضطرابها؛ ما يجول في أعماقي!! وأجَبتُه بحذر الماشي على خيطٍ رفيعٍ، فوق هوة عميقة؛ بأنني أحاول إكمال مشروعي من أجل التخرج!
نطقتُ كلماتي وأنا أبذل جهداً عظيماً لاستعادة اتزاني، وتجاهل وجيب قلبي، من أجل التركيز على الشاشة أمامي، وإجبار أصابعي على اسئناف العمل بهدوء، وكأن شيئاً لم يكن! غير أنني شعرتُ بخطواته تقترب مني، بعد أن وضع حقيبته على المنضدة الأمامية، مما كاد أن يفقدني أي ذرة تركيزٍ تبقت لديّ، فيما كنتُ أحاول جاهدةً؛ استيعاب ما يدور حولي!! أنا وحدي في القاعة، والأستاذ الذي بُليت بحبه؛ تناول كرسياً وجلسَ إلى جانبي، وألقى نظرة سريعة على الشاشة، فهم منها على ما يبدو، فكرة مشروعي، وهو على أتم الاستعداد لمساعدتي!!!
توقفتْ يداي عن الطباعة، ولم أعد قادرةً على فعل شيء، بعد أن شعرتُ بأنفاسه القريبة، فسمعته يقول:
– عمل رائع.. ما بالك توقفتِ فجأة؟ الخطوة التي كتبتِها صحيحة، لم يبقَ أمامك الكثير..
وقبل أن أدرك ما عليّ فعله؛ انتفضتُ من مكاني، وقفزتُ واقفةً، كمن مسته صعقة كهربائية، إذ لم تكد أصابعه تلامس أطراف أصابعي- المثبتة على الأزارير- حتى سحبتها بسرعة، وقد وصل بي الاضطراب ذروته، فيما بدا الأستاذ منشغلاً بطباعة بعض الرموز، وكأنني لم أكن أعرف ما عليّ طباعته، أو كيف أنتقل إلى الخطوة التالية!! ولم يعد هناك مجالٌ للتردد، لا بد لي من الخروج فوراً، فقلتُ دون سابق إنذار، وأنا أجمع أوراقي:
– شكراً لك أستاذ، فقد تأخرتُ كثيراً، وعليّ الذهاب الآن..
وخرجتُ بسرعة، كمن يلوذ بالفرار، لأطلق العنان لدموعي، فانهمرت غزيرة على وجنتي!! لقد بكى قلبي شوقه إليه، ورغبته في البقاء بقربه، بكى تلك الفرصة التي تحدثَت عنها “لبنى”، والتي قد يترتب عليها لقاءٌ أبديٌ لا فراق بعده!! لقد بكيتُ وبكيتُ، ولكنني لم أكن نادمة! وعدتُ في اليوم التالي، في الوقت الذي تقوم فيه عاملات النظافة عادة بالتنظيف، وكنتُ مستعدة للتنازل عن درجة مشروعي النهائي، إذا لزم الأمر!! كنتُ أتمنى أن أجد العمل محفوظاً على الجهاز، فوجدته مكتملاً، وما عليّ سوى تسليمه!! لا أذكر كيف كانت مشاعري وقتها، هل كانت مشاعر سعادة وامتنان لذلك الاستاذ، الذي حاول التعويض عن ارباكي بوجوده؛ أم ضيقٍ وامتعاض!! إذ لم أكن أرضى بأي شكلٍ من أشكال الغش طوال حياتي، وكنتُ أخشى أن أقدم عملاً يخالط أمانته إدنى شائبة، حتى أن صديقاتي كنّ يعتبرنَ ذلك حرصاً زائداً، لا مبرر له! ربما كانت مشاعري مختلطة وقتها، ولم يكن لدي من الوقت الكافي ما يجعلني أتخذ قراراً متزناً، فقد فوجئتُ برئيس القسم- وهو أحد الأساتذة المشرفين على مشاريع التخرج- يمر عليّ في القاعة، وهو برفقة أستاذٍ آخر، وكأنهما في جولة تفقدية:
– ألم تنتهي من المشروع بعد؟؟ لا يمكننا ترك القاعة مفتوحة أكثر، فنحن في آخر العام، وعلينا أن نبدأ بعمليات الصيانة لجميع الأجهزة..
فوجدتُ نفسي أجيبه دون تفكير:
– آسفة لتأخري، المشروع جاهز الآن، وسأقوم بحفظه فوراً على القرص، إن شاء الله..
كان عزائي الوحيد، أنني كنت أعرف تماماً، جميع الخطوات المتبقية في إكمال المشروع، ومع ذلك؛ بقيت هناك غصة في قلبي!
لم أرَ الأستاذ بعدها، وكنتُ أتساءل، هل كان يُفترض بي أن أذهب لأشكره؟ لكنني لم أفعل، فهل تراه فهم من تصرفي، أنه لا يعني لي شيئاً!! كان هذا ما يقلقني، ولكن لم يكن أمامي خيار آخر.. حتى جاء ذلك اليوم، الذي قدّمتُ فيه آخر امتحان لي بالجامعة، وكنتُ أسير مع صديقاتي، فإذا بي ألمح الأستاذ “باهر”، وهو يسير إلى جانب شابة مُسدلةً لشعرها على كتفيها، ويشبكان بين أصابعهما، وكأن “لبنى” لاحظت تغيراً في وجهي؛ لكنها لم تعلق بشيء، في حين قالت صديقة أخرى:
– انظرن.. انه الأستاذ “باهر” مع خطيبته، سمعتُ أنها معيدة في كلية الهندسة..
فسألتها “لبنى” باهتمام:
– منذ متى وهما مخطوبان؟
فأجابتها:
– منذ أقل من أسبوع على ما أعتقد.. هذا ما سمعته!
تمالكتُ نفسي رغم الألم، فقد عرفتُ طبيعة توجه ذلك الأستاذ أخيراً، ومع ذلك، لم أفتأ أدعو له ولزوجته، وأنا أرجو لهما كل الخير، فقد كان له فضل عليّ، ولم أكن لأنسى ما تعلمتُه منه، وقد أدركتُ وقتها؛ أنك اخترتَ لي أمراً، غير الذي تمنيتُه، فاستودعتك قلبي يارب، وسألتك أن لا تعلقه بغيرك، وأن تعوضني برجلٍ صالح تقيّ عفيف، تحبه ويحبك، فأحبه لحبك..
فأكرمتني بزوجٍ لم أظن يوماً؛ أن هناك أحدٌ مثله، ولا زلتَ متكرماً عليّ بفضلك، وجزيل عطاياك، رغم تقصيري.. وها أنا يارب؛ منطرحة بِبَاب رحمتك.. أتوسل إليك وأرجوك، أن تلطف بابني، وترفع عنه هذا البلاء.. يارب.. قد استودعتك قلبي، فربطتَ عليه في ذلك الموقف الأليم، وها هو ابني قطعة من قلبي، فاحفظه من كل سوء، وأنت خير الحافظين ..
*********************
(3)
“عفيـــــــــــــف”
دوامة كبيرة، ضباب كثيف، لا أكاد أشعر بشيء.. سمعتُ صوتاً يهتف باسمي.. انهض..
ولكن أنى لي النهوض!! فيداي مكبلتان، ولا يمكنني الحراك..!!
تردد الصوت..
انهض..
شعرتُ بيدٍ حانية تمسك يمناي، ويدٌ أخرى تُمسك يسراي… تحاولان انتشالي.. أتراهما والداي!!!
تكرر الصوت بإصرار ووضوح هذه المرة:
انهض، وافتح عينيك، فبصلاح والديك؛ رفع الله عنك.. فهل جزاء الاحسان إلا الاحسان!!
لم أفهم تماماً ما الذي يعنيه ذاك، غير أنني شعرت بجفناي يرمشان..
رأيت وجه أمي مبتلاً بالدموع، وأبي قد أغمض عيناه في خشوع .. سمعتُ أصواتاً مختلطة، أزيز غريب.. طنين.. هتافٌ صدح في أذني فجأة:.
– الحمد لله.. لقد فعلها الطبيب “معروف”.. لقد فعلها.. المؤشرات الحيوية كلها عادت للعمل.. لقد زال الخطر.. الحمد لله.. الحمد لله..
ما الذي يحدث هنا.. أين أنا.. أغمضتُ عيناي وفتحتهما من جديد، أمي منكبة على وجهي تقبلني، وأبي يحتضن يدي:
– الحمد لله على السلامة يا “عفيف”..
أغمضتُ عيناي من جديد، وسمعت أصواتاً تقول:
– لا تقلقا.. “عفيف” بخير، لكنه متعب فقط… سيستعيد وعيه تدريجيا، بإذن الله..
وبدأتُ أتذكر.. كان حادثاً مريعاً بلا شك..
******************************
(4)
أسرعت “سامية” بتجفيف يديها، إثر سماعها لصوت زوجها، وهو يلقي التحية على الأولاد، وهرعت لاستقباله:
– “معروف”! لم أتوقع مجيئك الآن، والغداء لم يجهز بعد، هل حدث شيء؟
فرمقها بابتسامة مرحة:
– لا عليك عزيزتي، المهم كيف حال أمي الآن؟
طرح سؤاله، دون أن ينتظر الإجابة، إذ سرعان ما توجه نحو غرفة والدته، فيما أطلقت سامية تنهيدة طويلة، ابتسمت على إثرها؛ مشجعة نفسها، وهي تحدثها:
– لا بأس.. فهي أمه، وقد ضحت بحياتها كلها من أجله، ومن الطبيعي أن تكون محور اهتمامه الأول..
كانت تدرك في قرارة نفسها، أنه لا يحق لها الاعتراض على شيء، فقد وافقت على شرطه منذ البداية، وقبلت أن تقيم مع أمه في المنزل نفسه، وأن تعاملها بكل احترام وتقدير، فهذا منزل الأم قبل أن يكون منزلها، وعليها احترام رغباتها أولاً، فهي صاحبة الأولوية هنا، وهي سيدة المنزل! وربما لم تكن “سامية” لتوافق على شرطٍ كهذا، لو لم تكن يتيمة الأم، عاشت حياتها في أحضان زوجة أبٍ؛ لم تفكر للحظة أن تعاملها كإبنة! ومن حسن حظها أن والدة زوجها كانت سيدة طيبة، وتخشى الله في تعاملها، فاحتضنتها كما تحتضن الأم ابنتها، وكان هذا أكثر ما تتمناه..
أما “معروف” فقد وجد والدته مستلقية على سريرها كعادتها، منذ أن أُصيبت بذلك المرض، وصدر قرار الأطباء؛ بأنه من الأفضل لها أن تقضي بقية أيامها في بيتها، إذ لم يعد هناك ما يمكن تقديمه لها في المشفى!!
ألقى عليها التحية، بصوتٍ خفيض، خشية أن يزعجها إن كانت نائمة، لكنها سرعان ما فتحت عيناها الواهنتين، مبتسمة:
– كنتُ أفكر فيك..
فمازحها معروف باسماً:
– لهذا أتيتُ مبكراً يا أمي..
قال جملته تلك، وهو يقرب كرسياً؛ جلس عليه قبالتها، فهمّت والدته بالنهوض لترتكز على حافة السرير، غير أن “معروف” أسرع يثنيها عن ذلك بقوله:
– لا داعي لذلك يا أمي، سنتحدث وأنتِ مستريحة هكذا، فأنتِ بحاجة للراحة التامة، حتى تتماثلي للشفاء بإذن الله..
غير أن أمه رمقته بنظرة عميقة، حمّلتها كل ما تكنه من شفقة على ابنها الوحيد، فهو يدرك تماماً حالتها، بعد انتشار الورم في جسدها، بل إن بقاءها على قيد الحياة حتى هذه اللحظة؛ يعد ضرباً من الخيال في المفهوم الطبي، ولم يكن يريد تصديق ذلك أبداً!!
فانطلق يحدثها بحماسة:
– الحمد لله، اليوم حدثت معجزة.. أقصد كرامة.. فقد أحيا الله على يدي شاباً، لم يكن بينه وبين إعلان وفاته رسمياً؛ سوى ثوان معدودة!! وكان الفريق الطبي على وشك توقيع شهادة الوفاة، بعد أن تم تصنيف حالته ضمن الموت السريري، لأكثر من أسبوع!!
فابتسمت له أمه مشجعة، وكأنها تحدث طفلاً في الخامسة من عمره، لا رجلاً في الخمسين:
– وما الذي فعلته أنت يا حبيبي؟
فأجابها “معروف” بانفعال:
– لقد شعرتُ بأن هناك دافعاً قوياً يدفعني دفعاً لمحاولة انعاشه من جديد، خاصة بعد أن سمعت سبب الحادث الذي أدى به إلى ذلك الحال..
واستطرد قائلاً:
– تخيلي يا أمي.. لقد تم القبض على العصابة، التي انتشر خبرها مؤخراً بين الناس، باعتداءاتهم المتكررة على الفتيات الشابات تحديداً، ويقولون أن طبيبة الأسنان الشابة، والتي كانت سبباً في القبض عليهم، هي أول من نجا منهم بأعجوبة، حتى أن أحداً لم يستطع فهم طبيعة ما حدث، يقولون أنها تأخرت في عيادتها على غير عادتها، وكأنها كانت بانتظار أخيها ليصطحبها إلى المنزل، بعد أن تعطلت سيارتها، ورغم أنها كانت وحيدة في العيادة، إلا أن رجل العصابة- الذي حاول التسلل خلسة إليها، فيما كان ينتظره الثلاثة الباقون في السيارة- فرّ هارباً فجأة، وكأن هناك من سيتخطفه، لتنطلق السيارة بالرجال بعد ذلك بسرعة جنونية، عكس المسار، مما سبب اصطداماً عنيفاً بسيارة أخو الطبيبة، الذي كان في طريقه إليها.. والآن اثنين من الرجال في حالة خطرة، والاثنين الاخرين لا يزالا تحت التحقيق، بعد أن تبين أن تلك المجموعة؛ وراء تلك الاعتداءات المتكررة.. وأظن أن هذا كان دافعاً كبيرا لي لانقاذ هذا الشاب تحديداً، وقد شعرتُ بأنه من عائلة مباركة، فصلاح والديه ظاهر..
وابتسم متابعاً بسعادة:
– وقد طلبتُ منهما أن يدعوا الله لك أيضاً يا أمي! بل وقبل أن أطلب منهما ذلك، كانا يلهجان بالدعاء لي ولمن أنجبني.. كانت دعوات صادقة من القلب، لك أنتِ يا أمي الحبيبة..
فدمعت عينا الأم بتأثرٍ شديد، فيما كان ولدها يقبل كفيها بامتنان وحب:
– رضي الله عنك يا بني..
لكنها استدركت، باهتمام مفاجيء:
– هل تعرف..
لكنها بترت عبارتها، فحثها ابنها على الكلام، فقالت:
– هل تعرف من هي والدة هذا الشاب؟
فهز “معروف” رأسه نفياً، لكنه قال:
– لا أعرف من تكون أمه، ولكن اسمه حسب الكشف الطبي “عفيف نبيل أكرم”..
لم يكد “معروف” ينطق بالاسم، حتى فوجيء، بعينا والدته تجودان بدموع غزيرة، حتى أنها استدارت على جنبها، لتشيح بوجهها عنه، وهي تردد بهمس:
– “نبيل أكرم”!! لا عجب أن يحفظ الله ابنته، ويُنجي ابنه!
ولم يستطع “معروف” سماعها جيداً، فسألها باهتمام:
– هل تعرفين والدته يا أمي؟
غير أنها التفتت إليه، وهي تمد ذراعيها نحوه:
– ساعدني على النهوض..
فاقترب منها “معروف” وهو يشعر بشفقة عليها، فأخذته بين ذراعيها، لتضمه إلى صدرها، طابعة قبلة حانية على خده:
– إنني حقاً فخورة بك.. لقد أحسنتَ صنعاً هذا اليوم يا بني، بارك الله فيك، وفي زوجتك وذريتك، وعملك ومالك، وفي كل خطوة تخطوها في حياتك..
دمعت عينا “معروف”، وشعر برغبة في البكاء على صدر أمه، وكأنه على موعدٍ أليمٍ لا بد منه! فحاول ثنيها عن القيام، لأجل راحتها، لكنها أصرّت بقولها:
– أرجوك يا بني.. أريد أن أصلي لله ركعتين..
فلاطفها بقوله:
– يمكنك أن تصلي وأنتِ جالسة..
لكنها نظرت في عينيه بعمق، بثته كل ما حملته له، من عطف وحب:
– قد تكون هذه آخر أمنياتي، فلا تحرمني منها..
لم يستطع “معروف” تمالك نفسه، فانهمرت الدموع من عينيه، وهو ينكب على رأسها يقبلها:
– لا تقولي هذا أرجوك، ستتعافين بإذن الله..
لكن أمه ربتت على رأسه بحنان:
– لا تحزن يا بني، فأنا سعيدة جداً هذا اليوم، بل إن هذا اليوم؛ هو أسعد أيام حياتي كلها، فجزاك الله عني؛ خير ما جازى ابناً باراً عن والدته..
ولم يجد “معروف” بداً بعد ذلك، من النزول عند رغبتها في القيام، وهو يتمالك نفسه خشية أن ينهار بالبكاء في أية لحظة، فساعدها في الوضوء على أكمل وجهٍ كما أرادت، وقبل أن تشرع في صلاتها؛ التفتت إليه قائلة، بابتسامة مرحة، وقد أشرق وجهها بنورٍ غريب:
– أنت لم تتناول غداءك يا بني، اذهب واجلس مع زوجتك وأولادك.. ودعني في خلوتي قليلاً…
وفي محراب سجودها، وهي تناجي خالقها؛ سكبت آخر ما تبقى لها من دموع..
يارب.. أكثر من خمسين عاماً وأنا أدعوك؛ أن تغفر زلتي، وتعفو عن حوبتي، وتقبل توبتي..
يارب.. كنتُ على شفير الهاوية، قد عَمِيَ قلبي بحبه، وبلغ بي اليأس ذروته، قد غاب عني كل رادع، وكدتُ أن أتحرر من أي وازع، فأبى أن يدفعني للسقوط، وترفّع عن استغلال ضعفي وحاجتي، فأيقظني بكلماته، وأحيا ضميراً؛ كان قد تاه في سباته، وقد رجوتك أن تعينني على رد معروفه، وأسميتُ ابني معروفاً؛ خشية أن تشغلني الحياة، وتنسيني ديناً في عنقي له!
لم أكن أخشى لقاءك يارب.. فأنت أرحم الراحمين، ولكنني كنتُ أرجو أن تقر عيني، برد دَيني.. واليوم اطمأن قلبي، فلك الحمد أن جعلتَ من ذريتي، من يكون سبباً في نجاة فلذة كبده، فيا رب.. بارك له في أهله وماله وعقبه، وجازه عني خيراً..
يارب.. يظن الناس بي خيراً وإني.. لشر الخلق إن لم تعفُ عني..
فكما سترتني في الدنيا.. وجعلتَ لذلك سبباً، فلا تخزني يوم العرض عليك، وأحسن وقوفي بين يديك.. توفني وأنتَ راضٍ عني… وألحقني بالصالحين..
*****************
(5)
“عفيـــــــــــــف”
أشعر بأنني سأقفز من الحماسة، فاليوم هو موعد المفاجأة التي خططنا لها طويلاً، وقد جاءت في وقتها حقاً!! فقد كانت الأشهر الفائتة عصيبة على والداي، بداية من تعرّضي لذلك الحادث المروّع، بعد أسبوع واحدٍ من تخرجي في كلية الطب، وما تلا ذلك من معرفتنا بوفاة والدة الطبيب الذي كان سبباً في نجاتي، فرغم أنه لم تكن تربطنا بهم أي علاقة مسبقة، لكن أمي أصرّت على الذهب للعزاء، فقد رأت أن من واجبنا الوقوف إلى جانبه، وهذا كان رأي أبي أيضاً، وقد ذهبتُ معه، رغم أنني كنتُ لا أزال في فترة النقاهة! لكنني لم أكن أتخيل، أن ذهابنا ذاك؛ سيترك ذلك الأثر على والداي!! لقد بكت أمي تلك السيدة، رغم أنه لم تلتقيها في حياتها، ولم تسمع باسمها من قبل، بعد أن سمعت قصتها من زوجة ابنها الوحيد!! فقد ترمّلت وهي في ريعان الشباب، وقبل أن تنجب طفلها البكر بشهرين! لكنها آثرت أن تتكفل برعايته، بدل الزواج مرة أخرى! ولم تتواني في تربيته والاهتمام به، بعد أن أصبح محور حياتها، وبؤرة اهتمامها؛ حتى وصل إلى ما وصل إليه، ولم يكن ابنها لينسى فضلها عليه، فكان باراً بها، حتى أنه تأخر في زواجه؛ إلى أن تأكد من عثوره على زوجة ترضى بشرطه! بل- وكما تقول أمي- فقد كانت زوجته، متأثرة جداً لوفاتها، فهي تعدها أماً لها أيضاً..
ربما كان تأثر أمي الشديد على أم الطبيب طبيعياً، فهي حساسة جداً، ولكنني تفاجأتُ حقيقة من ردة فعل أبي!! فبينما كنا في مجلس العزاء، دخل مجموعة من الرجال الأجانب، وسلموا على الطبيب- الذي كان يقاوم حزنه- بحرارة، ثم تحدث أحدهم بلغة أجنبية، فهمها والدي، ويبدو أن الطبيب لم يفهمها، كما لم أفهمها أنا، فنحن نجيد الانجليزية فقط، إلى جانب العربية، على خلاف أبي، المترجم المعروف!! ولم يتردد أبي بالقيام بوساطة الترجمة، بين المتحدث والطبيب، قائلاً بأنه حديث عهدٍ بالإسلام، وكان يبحث عن كتبٍ إسلامية بلغته، فلم يعثر إلا على كتبٍ ترجمتها والدة الطبيب، وعندما سأل عنها؛ للتواصل معها من أجل مساعدته في ترجمة المزيد من الكتب، عرف بوفاتها فأصر على حضور العزاء، وقد عرضَ أبي عليهم مساعدته، بصفته مُترجماً، فتهلل وجه الرجل بذلك، ثم عرّف بأصدقائه ومعظمهم مثله؛ حديثوا عهدٍ بالاسلام، بل ومنهم من أسلم على يديه، بعد أن أهداه من تلك الكتب المترجمة! ثم أخرج أحد الرجال نسخة من الكتاب، مشيراً إلى أنه هو الذي كان سبباً في اسلامه، كان المشهد بالنسبة لي رائعاً، فأن تكون سببا في إسلام أحدهم، أمرٌ لا يقدر بثمن، وقد يكون هذا مؤثراً جداً، لكن أن تنهمر دموع أبي، وهو ينشج بصمت، رغم محاولته اخفاء ذلك، بمجرد أن رأى الكتاب؛ فهذا أمرٌ لم أفهمه!! حتى أنني ألقيتُ نظرة فاحصة على الكتاب مرة أخرى، فلم أجد فيه شيئا غريباً، فعنوانه عادي، ويحمل اسم مؤلفه، ومترجمته، “نائلة عواد”، وعندما سألتُ أبي عن سبب تصرفه ذاك، فيما بعد، اكتفى بقوله: “لئن يهدي بك الله رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم”.. وقد مرت أيام ثقيلة، وكأننا فقدنا شخصاً عزيزاً علينا، وبالطبع كان أبي أكثر تماسكاً من أمي، التي بدت وكأنها فقدت أختها، حتى أنني شعرتُ بالارتياح؛ عندما تولى أبي مهمة التخفيف عنها..
بعد ذلك انشغلنا بخطبة أختي “مريم” ثم زواجها، ويبدو أن الحادثة التي تعرضت لها أكسبتها شعبية خاصة! فقد تقدم لخطبتها في الفترة نفسها؛ أربعة خاطبين على الأقل!! ورغم أن تأخرها في الزواج حتى هذا السن، كان أمراً مقلقاً للبعض، لكنني كنتُ أعتقد أن هذا كان لصالحي شخصياً!! فكَوني “آخر العنقود” في عائلة كبيرة، أفقدني المشاركة في الكثير من الأحداث العائلية الهامة، التي مرت بها أسرتنا! فأنا في عمر ابنة أختي الكبيرة “عفيفة”، وعندما بلغتُ السابعة فقط، على سبيل المثال، كان معظم أخوتي قد تزوجوا، أما عندما صرتُ في الثانية عشرة من عمري، فلم يتبقَ في المنزل مع والداي؛ سواي أنا و”مريم”، التي تكبرني بسبع سنوات، وقد كانوا يظنونها “آخر العنقود”، حتى أتيتُ؛ فسلبتُها اللقب!! كما أنني لم أشهد النقلات النوعية، التي مرت بها أسرتنا! إذ وُلدتُ بعد سنتين من انتهاء بناء منزلنا ذو الطبقتين، والذي قام أخي “كريم” باقتراح تصميمٍ له، وهو لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، كما قالت أمي! ولا أستغرب ذلك، فشهرته الكبيرة- بصفته مهندساً معمارياً مرموقاً في البلاد- لم تأتِ من فراغ، فهو موهوبٌ بفطرته بلا شك! لذا كنتُ حريصاً على معرفة ما فاتني من أحداثٍ قبل ولادتي، فكانت أختي “آسيا” التي تكبر “مريم” بأربع سنوات؛ هي مرشدتي في ذلك، خاصة فيما يتعلق بحكايات أجدادي، الذين لم أرَ أي واحد منهم!! فقد توفيت جدتي لأبي- وهي آخر من بقي من الأجداد- قبل ولادتي بسنة واحدة، وقد حدثتني “آسيا” عن المعاناة التي مر بها أبي في تلك الفترة، وأظن أن هذا هو السبب الذي جعله يتأثر بموت والدة الطبيب، فقد يكون هذا قد ذكّره بوفاة جدتي! كما أخبرتني “آسيا” عن الظروف العصيبة التي تلت ذلك، خاصة عند اكتشاف حَملِ أمي بي، وما صاحبه من قلقٍ على صحتها، فقد كانت في التاسعة والأربعين من عمرها آنذاك، وكان يُخشى عليها وعلى جنينها من هذا الحمل الذي أتعبها كثيراً، ولكن المحنة مرّت على خير، وأتيتُ بفضل الله سالماً ومعافى، بل إن عمتي الصغرى، تقول بأنني أكثر إخواني شبهاً بأبي، وأكاد أكون نسخة طبق الأصل عنه في شبابه، وأحمد الله على نعمة هذا الوجود.. أما بعد زواج “آسيا”، فقد بقيت “مريم” رفيقتي الوحيدة في المنزل! من أجل ذلك كله؛ كان تأخر زواجها؛ لصالحي أنا قبل أي شيء!! وقد ترك انتقالها من بيتنا إلى بيت زوجها، قبل ثلاثة أشهر؛ فراغاً كبيراً لدي، ولدى والديّ أيضاً..
واليوم الجمعة، الموافق للذكرى الخمسون لزواج والديّ، هو يوم المفاجأة الكبرى، التي أعددتها مع أخوتي، لأمي وأبي..
ورغم أنني أصغرهم سناً، ومساهمتي المادية في المفاجأة؛ لا تكاد تُذكر نسبة لإسهاماتهم؛ إلا أن دوري، في الترتيب لذلك الاجتماع الهام؛ كان هو الأهم! إذ كانت السرية جزء من المفاجأة، ولم يكن من السهولة إخفاء حدثٌ كهذا عن والداي، دون أن ينتبها إليه، خاصة وأن من عادتهما يوم الجمعة، الافطار مبكراً، بعد أن يؤديا ركعتي الإشراق، حيث تقوم أمي بإعداد إفطارٍ خفيف لنا نحن الثلاثة، ثم تخلد هي وأبي للراحة، قبل أن نستعد للذهاب إلى صلاة الجمعة، ومن ثم يبدأ منزلنا باستقبال أخوتي وعائلاتهم، كلٌ حسب ظرفه..
ورغم أن الاتفاق بيني وبين أخوتي، هو عدم التلميح لهم بشيء؛ إلا أنني لم أجد بداً من ذلك، بعد أن طلبت منهما بإصرار، الخلود إلى الراحة في غرفتهما بعد صلاة الفجر، على أن لا يخرجا حتى أُعلمهما بذلك، لأنني سأعد لهما إفطاراً ملكياً؛ يليق بهما على ذوقي!! كان هذا هو التلميح الوحيد!!
وكما توقعت، كانت أختي الكبرى “عفيفة”؛ هي أول الواصلين، فهي العقل المدبر لهذه المفاجأة منذ البداية، رغم أن أخي الأكبر “أكرم” والذي يصغرها بسنة واحدة فقط؛ يقول بأن الفكرة نفسها خطرت بباله، قبل أن تقولها هي!! بغض النظر عن صاحب الفكرة، فإنني حقاً سعيد بفكرة اجتماعنا نحن الأخوة العشرة فقط، مع أمي وأبي، فهذه الفرصة لم أحظى بها من قبل، بل إن هذا الحدثٌ لم أشهده طوال حياتي!
بالطبع وحتى لا يُحدث وصول أخوتي أي جلبة، فقد تم الاتفاق على أن يقوموا بتنبيهي لوصولهم؛ على هاتفي الخاصي، لأقوم بفتح الباب لهم بهدوء؛ بدل قرع الأجراس! ورغم أن غرفة نوم والداي تقع في الطابق العلوي، وقد قمنا باختيار الصالة الكبيرة في الطابق الأول لتكون مركز الحدث؛ إلا أن أختي “عفيفة” كانت على قدرٍ كبير من الحذر والهدوء، وهي تطلب مني مساعدتها في نقل الطاولة، لنضعها في منتصف الصالة!! شعرتُ بامتعاضٍ من طلبها ذاك، فالطاولة ثقيلة جداً، ولا أجد ضرورة لذلك، ولكنني أعرف أن أي اعتراض على قراراتها؛ شبه مرفوض، فقلت لها:
– ما رأيك لو ننتظر البقية، فهي ثقيلة، وإذا لم نمسكها جيداً قد تُحدث جلبة!
وقبل أن تُجبني بشيء، وصلتني الاشارة المتفق عليها من “كريم”، فأسرعت لفتح الباب، وكان قد أحضر معه أخي “سليم”؛ بعد أن استقبله في المطار، والذي جاء خصيصاً من أجل هذا الحدث الهام، فهرعتُ نحوه أسلم عليه بشوق، إذ أنه منذ انتقل للعمل في دولة أخرى، ونحن لا نراه إلا مرة واحدة كل عام، وأعتقد أن مجيئه اليوم؛ سيكون مفاجأة لوالدي بحد ذاتها! وبالطبع لم يكن هناك وقتٌ للكلام الكثير، فأوامر “عفيفة” تقتضي الإسراع بالترتيبات اللازمة! ومن دون نقاش؛ وجدتُ نفسي مع “سليم” و”كريم” ننقل الطاولة إلى حيث أشارت! وبينما قامت هي بترتيب الأطباق، التي أحضرتها معها على الطاولة؛ طلبت مني الاتصال بـ “كريمة” لتطمئن بأن الأصناف التي تكفلت بإعدادها جاهزة، ولم أكد أسمع صوتُ “كريمة” على الطرف الآخر، حتى فوجئتُ بها تقول لي:
– من الجيد أنك اتصلتَ الآن، افتح الباب بسرعة لو سمحت، وتعال ساعدني في حمل الأغراض..
لقد فاجأني ذلك حقاً، فقد كنتُ أتوقع أن تكون آخر الواصلين! فرغم أنها توأم “كريم”، إلا أنها كانت مختلفة عنه بشكل كبير! صحيح أنهما متفاهمان تماماً، لكنهما مختلفان! فـ “كريم” دقيق جداً في مواعيده، وهو أكثر من نعتمد عليه من هذه الناحية، أما “كريمة” فعكسه تماماً، فهي إن قالت بأنها تتوقع أن تكون عندك في الساعة السابعة مثلاً، فإنك تتوقع أن تكون عندك في أي ساعة، إلا السابعة!! ولا ريب أن “عفيفة” كانت قلقة من هذه الناحية، ولكن “كريمة” ولأول مرة.. أتت في الموعد الذي حددته تماماً!!
وبينما كنتُ أحمل الأكياس المتبقية، التي أحضرتها “كريمة” معها، إلى الداخل، وصَلَت “أمامة”، فسلمتُ على زوجها الذي أوصلها بسيارته، وقد بدا مستعجلاً للعودة إلى فراشه قبل موعد الصلاة، فيوم الجمعة بالنسبة له، هو يوم راحته الوحيد، ولا شك أن وجود “أمامة” معنا اليوم، سيعطيه راحة إضافية، إذ لن تطلب منه الخروج في نزهة عائلية، أو ما شابه!!
وفي غضون أقل من ساعة؛ جاءت “آسيا” بصحبة “أكرم”، فمنزلها قريبٌ من منزله، ثم جاءت “مريم”، وأخيراً حضر “رؤوف”؛ وأحضر معه الفواكه المتفق عليها، فشرعت “أمامة” بتقطيعها مع “كريمة” بسرعة، لإعداد سلطة الفواكه الطازجة، بخلطة “كريمة” الشهيرة!
أما “مريم” فقد انشغلت مع “أكرم” و”كريم” في تركيب الزينة، وتنسيق الزهور، فيما انضمت “آسيا” لـ “سليم” و”رؤوف”، أثناء إعدادهما لجهاز العرض..
وكانت “عفيفة” بالطبع؛ هي المديرة، والمشرفة العامة على ترتيب المكان!
ولأن كل واحدٍ منا يعرف دوره بدقة- إذ كنا قد اتفقنا على كافة التفاصيل، في المجموعة الخاصة التي أنشأتها “آسيا”، عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي- فقد أصبح كل شيء جاهزاً بسرعة، وحان دوري لدعوة والداي..
استأذنتُ عليهما، وطرقتُ الباب بهدوء، قبل أن تفتحه لي أمي بابتسامة مرحة:
– الحمد لله على السلامة! هل انتهيتَ من إعداد فطورك الملكي؟؟
فضحكتُ قائلاً:
– أجل يا سعادة الملكة..
ثم وجّهتُ كلامي لأبي، الذي ارتسمت على وجهه ابتسامة مشرقة:
– يشرفني دعوة جلالتكم، لحضور حفلنا المتواضع، فشعبكم بانتظاركم..
عندها شعرتُ بانفعال أمي، وهي تسألني بلهفة:
– هل حضر أخوتك أيضاً؟
وهمّت بالجري نحو الطابق الأرضي، لكنني استوقفتها قائلاً:
– على مهلك يا أمي، فعلى الملك أن يصطحب الملكة، في مشية ملكية!
وكان أبي سريع التجاوب معي كالعادة، فأخذ دوره بدقة، ووقف أمام أمي- على طريقة فرسان العصور الوسطى- قبل أن يتأبط ذراعها، ويسير معها نحو الدرج بقامته الممشوقة، حيث سرتُ أمامهما، وأنا حريصٌ على أن أكون أمام أمي تحديداً؛ خاصة عند نزولنا الدرجات، خشية أن تنفعل لرؤية “سليم”؛ فتزل قدمها، لا قدر الله! وقد حدثَ ما توقعته بالفعل، فلم تكد تقع عينا أمي، على إخوتي- الذين تحلقوا حول آخر درجة في الأسفل- حتى هتفت باسم “سليم” بانفعالٍ شديد، وكادت أن تقفز نحوه قفزاً؛ غير أن أبي كان الأسرع في إعادتها لاتزانها، بعد أن ضمها إليه بقوة، قبل أن تنزلق قدمها على الدرجات! فعَلَت أصوات إخوتي بالهتاف والتصفيق لهما، وكأننا أمام مشهدٍ؛ في فلمٍ عاطفي جميل!
وبعد أن تعانق أخوتي مع والداي، وقد كان نصيب “سليم” هو النصيب الأكبر في ذلك العناق بالطبع، أخذت أمي تسأل واحداً واحداً منهم بلهفة:
– أين أولادكم، وكيف حال أزواجكم؟ وزوجاتكم؟ ألم يحضروا معكم؟ “كريمة”.. هل حضرتِ وحدك أيضاً؟ أين أولادك؟ وكيف تركتِ “سمية”؟
بالطبع كان من الغريب أن تحضر “كريمة” وحدها، فهي من النادر أن تترك أولادها، بل لم تكن تتركهم أبداً، فهي الوحيدة بين أخواتي؛ التي آثرت أن تكون ربة بيتٍ فقط، كما أن ابنتها “سمية” لم تتجاوز العامين بعد، لكنها طمأنت أمي بأن ابنتها الكبرى- ذات الأربعة عشر ربيعاً- تكفلت بالعناية بها، وطمأنهَا الجميع على أحوالهم أيضاً، وأخبرناها برغبتنا في أن تكون هذه حفلة خاصة جداً..
سرنا- بعد ذلك- نحو الصالة، خلفَ والداي، وكأننا في موكبٍ مهيب، ثم قدّم “أكرم” لهما الوسادة الصغيرة ،التي وضعنا فوقها المقص، لقص الشريط على باب الصالة، كما يفعل الرؤساء عند افتتاح الأماكن الهامة، وقالت أختي “عفيفة” باسم الجميع:
– من هذه الصالة نهديكم مفاجأتنا، تعبيراً عن شكرنا وامتناننا لكل ما بذلتوه من أجلنا، لتكون انطلاقتكم الحقيقية إلى العالم، بإذن الله..
ولم يكونا يتوقعان، أنها عنَت المعنى الحرفي لتلك الجملة..
وكما توقعنا، أمسك أبي بالمقص، وناوله لأمي، ثم وضع يده على يدها؛ ليقصّان الشريط معاً، وهتفنا لهما بحماسة وسعادة، ونحن نسأل الله لهما طول العمر وحسن العمل، مع دوام الصحة والعافية..
ثم تولت “عفيفة” إدارة الحفل، فدعت الجميع إلى طاولة الطعام؛ والتي زخرت بما لذ وطاب، من مأكولات خفيفة، ومعجنات وحلويات، وفاكهة وعصائر، وأخذ كل واحدٍ منا مقعده على جانبي الطاولة المستطيلة، الذكور في طرف، والاناث في الطرف المقابل، فيما جلس أبي قبالة أمي، كل واحدٍ منهما على رأس المائدة.. وبعد أن بدأ أبي بدعاء الطعام، وردده الجميع معه، استمتعنا بألذ وجبة إفطارٍ، حلمتُ بها في حياتي.. كان إفطاراً ملكياً بمعنى الكلمة!!
وبعد أن حمدنا الله على ما رزقنا؛ وجمعنا الطعام الزائد في صحون نظيفة، لحفظها في الثلاجة- إذ لم يكن من عادتنا رمي الطعام أبداً، ولا حتى كسرة خبزٍ منه- انتقلنا إلى المقاعد المدعمة بالوسائد المريحة، حيث جلس أبي إلى جانب أمي، كما يجلس العروسان على عرشهما ليلة الزفاف، فيما جلسنا نحن حولهما، أمام شاشة العرض الكبيرة، التي تولى “سليم” و”رؤوف” تركيبها.. ولم يكن أمام “آسيا”؛ سوى الضغط على زر التشغيل، ليبدأ عرض الفلم- الذي قامت بإعداده، بمساعدة البقية- بعد أن أغلقتُ الستائر المخملية، وكأننا في قاعة عرض حقيقية..
بدأ الفلم بـالعبارة الشهيرة: “حدث في مثل هذا اليوم”
إنها الذكرى الخمسون لزواج والديّ! نصف قرن من الحب والعطاء..
وهاهو أبي يحيط بذراعه اليمنى؛ كتفا أمي- التي جلست عن يمينه- فيما رَمَت هي برأسها على كتفه، أثناء مشاهدتهما للعرض..
لا أعرف كيف أصف مشاعري، كلما رأيتُ والداي معاً، فهما مثالٌ للحب الصادق، الذي يحلم به كل انسان، ولطالما تساءلتُ عن سر هذا الحب الكبير؛ الذي لا ينضب معينه بينهما! فرغم كل هذه السنين؛ إلا أن علاقتهما تبدو شابة فتية، تتوقد باستمرار اهتماماً ولهفة، وكأنهما لا يزالا في شهر العسل! هذا إلى أنهما يتقاسمان الكثير من الاهتمامات، رغم أن أبي أكد لي مراراً وتكراراً؛ أنه لم يكن يعرف أمي قبل الزواج أبداً، والشيء نفسه قالته أمي!! ربما يبدو الأمر غريباً، ولكن هذه هي الحقيقة!! وقد عزيتُ الأمر بداية، إلى أن الحب جاء بعد طول عِشرة، لكن “عفيفة” و”أكرم”، وهما أكبر إخوتي، يقولان بأنه ورغم مرور بعض الأوقات العصيبة، التي تمر بها البيوت عادة؛ إلا أن الحب بين والداي؛ كان سرعان ما يتغلب في النهاية؛ على أعتى مشكلة قد تنشأ بينهما!
وإنني أتساءل.. هل يمكن أن التقي بفتاة؛ تشاركني حياتي بحبٍ واهتمام، مثل أمي وأبي!! ربما آن لي التفكير جدياً في هذا الأمر، فسأنتقل الأسبوع القادم للعمل في المستشفى، من أجل سَنَة الامتياز الطبي، حيث سأتقاضى راتباً لأول مرة..
كان والداي يتابعان الفلم بتأثر واضح، فقد أبدعت “آسيا” في إخراجه، أيّما إبداع، فبعد أن عرضت صوراً متنوعة لحياة والداي خلال مسيرة حياتهما، انتقلت للإنجازات التي حققاها خلال تلك السنوات، وبدأت بأختي الكبرى “عفيفة”، ذات التسعة وأربعين عاماً، والحاصلة على شهادة في علم الأحياء، إضافة لأبحاثها واهتمامها بعلم النفس والطبيعة البشرية، فقد كانت مديرة لأكبر مدرسة للبنات في البلاد، لأكثر من عشرين عاماً، عملَت خلالها على تحويلها لنموذجي مثالي، للبيئة التربوية الصالحة، حتى اشتهرت بنظامها، وحسن سلوك طالباتها، فزاد إقبال الناس عليها، يسعون لالحاق بناتهم بها، إلى أن توسعت مبانيها، ووصلت إلى ما وصلت عليه، ورغم أن “عفيفة” تقاعدت هذه السنة، إلا أنها لم تترك أبحاثها العلمية، وأكاد أجزم أنها تعد بيتها خلية تجاربها الأولى، فلم تكن المدرسة؛ سوى صورة مكبرة عنه، وربما كان هذا هو سر نجاحها! وقد تم تكريمها في حفل تقاعدها الذي حضره كبار الوزراء في البلاد، إذ تم تعيينها كمستشارة بعد ذلك، في وزارة التربية، وقسم تطوير المناهج..
ثم انتقل الفلم إلى “أكرم”، والذي حذا حذو والدي في تعلم اللغات والترجمة، إضافة لاهتمامه بمجال إدارة الأعمال والمحاسبة، فكان يحضر دروساً ودورات مكثفة فيهما، ولم يكن ليكتفي بالعمل الوظيفي بعد ذلك، إذ اقترح تأسيس مركزٍ خاص؛ يجمع بين أعمال الترجمة والبرمجة، على مواصفات قياسية عالمية، فلاقى اقتراحه ترحيباً من أمي، التي وجدتها فرصة لاستثمار جهودها، ودعماً من أبي، الذي فضّل متابعة عمله في وظيفته، مع مساهمته في رأس المال والتأسيس، على أن يستلم “أكرم” الإدارة، وكانت تلك هي بداية انطلاق مركز “مودة للترجمة والبرمجة”، والذي توسعت أعماله، فجلب له أخي باستشارة والدي؛ أشد الموظفين كفاءة واتقاناً، وقد تم تصنيفه عالمياً؛ ضمن أفضل عشرة مراكز تخصصية، على مستوى العالم، بعد أقل من عشرة أعوامٍ على تأسيسه! وقد كان “أكرم” حريصاً جداً؛ فيما يتعلق بالأمور المالية، حتى لا تختلط الأمور، وتضيع الحقوق، أو يتسبب ذلك في أية خلافات..
ثم جاء دور “سليم”، والذي أكمل قبل عدة أيام؛ خمسة وأربعين عاماً من عمره، وهو عبقري العائلة إن صح التعبير، فبعد أن حصل على شهادةٍ عليا في هندسة الاتصالات؛ شرع في دراسة هندسة الالكترونيات، وقد حصل على براءة اختراع، لاختراعه جهازاً ذكياً صغير الحجم، يشبه مكبر الصوت تقريباً، يتم توصيله بجهاز الحاسب، وعند التحدث من خلاله، يقوم بتحويل الموجات الصوتية، إلى كلمات مكتوبة، على الشاشة، وِفق برمجية خاصة، ساهمت “آسيا” في إعدادها، وقد كان هدف هذا الجهاز الذي أسماه “جهاز البِر”، هو تقديمه هدية لأمي، التي تعشق البرمجة، غير أن ضعف نظرها، مع تقدم سنها، حال بينها وبين ذلك، مما جعل أخي سليم يفكر بهذه الهدية! وكم كانت سعادتها بها كبيرة، فما عليها سوى التحدث بالأوامر، باللغة التي تريدها، والتي تحفظها عن ظهر قلب، وهي مغمضة العينين، وستتم كتابة البرنامج تلقائياً على الحاسب!!
وقد استخدمته أمي فعلاً في إعداد عدد من البرامج، كان منها برنامجاً لمحو الأمية، يتم تحميله على أجهزة خاصة، متصلة بجهاز “البِر” الذي ابتكره أخي، حيث يقوم الشخص بنطق أي كلمة، فيقوم البرنامج بتوضيح طريقة كتابتها حرفاً حرفاً، ثم يقوم بتفريق الحروف وإعادة تركيبها، مرة تلوَ الأخرى، حتى ترسخ في الذهن، كما يمكن للمستخدم أن يقوم بتصوير أي جملة يراها، باستخدام الجهاز نفسه، فيقوم البرنامج، بقراءة هذه الجملة- بعد معالجة الصورة- بصوتٍ واضح، ثم يعيد تهجئة أحرفها حرفاً حرفاً، ثم يعيد كتابتها مرة أخرى، بتفريق وجمع الأحرف..
كان هدف أمي من هذا البرنامج، هو توفير الفرصة، للكبار الذين يعانون من الأمية، ولا يستطيعون الذهاب لمراكز محوها! وقد نَوَت بعملها ذاك أن يكون صدقة جارية، عن روح والديها، الذين طالما قالت أنهما كانا يتألمان لحال الأمة، وما ينتشر فيها من جهل، فرفضت بيع حقوق البرنامج، خشية أن لا يتمكن المحتاجون من استخدامه، وعرضته للاستخدام المجاني لكل من يحتاجه..
وقد قام “سليم” بتطوير جهازه بعد ذلك، فجعله لا سلكياً، وقد قامت كبرى الجامعات العالمية بشرائه، لا سيما وأنه يتيح لأساتذة البرمجة، فرصة تقديم دروسهم، وهم يسيرون بين طلبتهم، فيما تُكتب الأوامر على شاشة العرض، بوضوحٍ أمام الجميع..
وقد أصرّ على توزيع الربح المالي؛ مناصفة بينه وبين “آسيا”، رغم أنها قالت بأنها لم تفعل شيئا يُذكر!!
ثم انتقل الفلم إلى صورة “أمامة”، وهي تصغر “سليم” بعامين، وهي الآن؛ أستاذة جامعية، ورئيسة قسم التاريخ في واحدة من أكبر جامعات البلاد، وقد تم اعتماد أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراة- “التاريخ من أجل المستقبل”- من قِبَل وزارة التعليم العالي، لتُصبح مَسَاقاً يُدرّس لطلبة قسم التاريخ، في جامعات بلادنا، وقد حذت حذوهم عدة جامعات في دولٍ أخرى، كما حصدت عدداً من الجوائز على أوراقها البحثية في هذا المجال، لا سيما وأنها استخدمت في أطروحاتها بعض الأمثلة العلمية، مثل تطور البرمجيات عبر السنين، وقد أرفقت لذلك صورة للبطاقة المثقّبة، التي كانت تُستخدم في البرمجة، كتبت تحتها، عبارة سمعتها من أمي:
“من يعرف البدايات؛ يسيطر على النهايات”
بعدها جاء دور “كريم”، الذي أكمل الأربعين عاماً من عمره، بموهبته الفذة في الهندسة المعمارية والتصميم، حيث عرض الفلم صوراً للمنشآت المعمارية التي أنجزها، فقد حصل على معظم المراكز الأولى، التي كانت تُطرح في الساحة المعمارية، ومعظم الأبنية الوزارية، والمنشآت الهامة في البلاد، من تصميمه!! وقد قام بتصميم أكبر جامعٍ في البلاد، وُصف أنه الأجمل، والأكثر راحة بين المساجد، من حيث الاضاءة والتهوية الطبيعية، وقد رفض أخي أن يتقاضى أجراً على ذلك، بل ولم يكن يتوانى عن تقديم أي تصميم مجاني، يلائم الموقع المختار، فيما يختص ببناء المساجد، كلما سنحت له الفرصة بذلك..
ثم عرض الفلم صُوَر توأمه “كريمة”، والتي فضّلت البقاء في المنزل، رغم أن بإمكانها فتح عيادة خاصة تدرّ عليها ثروة كبيرة، بصفتها أخصائية تغذية، لكنها كما تقول، بالكاد يمكنها الاهتمام ببيتها، وشؤون أسرتها وأولادها، و”رحم الله امرءاعرف قدر نفسه”، ومع ذلك، فقد اشتهرت بوصفاتها اللذيذة والمفيدة، إذ كانت طاهية ماهرة، تعرف كيف تجعل من الأغذية المفيدة؛ أطباقاً شهية يسيل لها اللعاب، وقد شجعها والدي على جمع وَصفاتِها في كتاب، يفيد الجميع، فإذا به يحقق أرباحاً خيالية؛ لم تكن تتصورها!!
ثم انتقلت الصورة إلى “رؤوف”، الذي يصغر التوأم بثلاث سنوات، وهو مهندس طيران بارع، وقد تمّت ترقيته مؤخراً ليستلم مهام مسؤول كبير، في أفضل شركات الطيران المحلية، وبسبب طبيعة عمله، كنا نحصل على أسعار مخفضة للتذاكر، فإتقان أخي لعمله، وبراعته في إتمام مهامه، منحته الكثير من الامتيازات..
وبدأ العرض يصل إلى نهايته، فسلط الضوء على “آسيا”، التي تصغر رؤوف بسنتين، وهي التي ساعدت “سليم” في “جهاز البر”، من خلال إعدادها لبرنامج خاص، إذ سلكتْ طريق أمي في البرمجة، وكثيراً ما كانتا تقضيان الوقت معاً، وهما يتحدثان في مجالهما المشترك، فقد كانت “آسيا” ساعد أمي الأيمن في مشاريعها، وهي الآن المسؤولة عن توزيع المهام، في قسم البرمجة، في “مركز مَوَدّة للترجمة والبرمجة”، الذي ساهم أبي في تأسيسه، بناء على اقتراح “أكرم”..
ثم ظهرت “مريم”، أختي الأقرب إليّ- والتي تكبرني بسبع سنوات فقط- فهي أكثر من شاركني حياتي الخاصة، وأظنها أكثر من شجعني على التفوق في الدراسة، إذ كانت مجدة لأقصى حد، وقد حصَلَتْ على المركز الأول، على مستوى البلاد، في امتحانات الثانوية العامة، وكانت الفرحة التي غمرتنا جميعاً وقتها، دافعاً لي لمجاراتها، وقد سارت على الدرب نفسه في الاجتهاد، بعد اختيارها لتخصص طب الأسنان، فمن النادر أن يضيع وقتها دون فائدة، حتى عندما تزاول هوايتها في الرسم، تحرص على أن يرافق ذلك فكرة نافعة! وقبل سنتين شاركت في معرضٍ عالمي للرسم، بناء على اقتراح أمي، وحصلت فيه على جائزة مالية معتبرة، هذا عِوضاً عن كونها أصغر طبيبة أسنان، تمتلك عيادة خاصة بها، مكتظة بالناس!!
ورغم أن الحادثة الأخيرة، جعلت والداي يقلقان بشأن عودتها للعيادة؛ مما جعلها تأخذ إجازة قصيرة حتى تهدأ الأمور، فلم تقبل بحالات جديدة في تلك الفترة؛ إلا أنها حرصت على اتمام ما بدأته للمرضى، وقد شجعها والداي على ذلك..
وبالتفكير في هذا الأمر، لا زلتُ أتساءل.. ما الذي حدث معها بالضبط؟؟ لقد أعدنا مُشاهدة الصُوَر المعروضة في آلات المراقبة، أكثر من مرة، لعلنا نفهم ما الذي جعل أولئك الرجال يفرون هاربين، دون أن يمس أحدهم أختي بسوء!! لا أدري صدقاً.. ولكنني أعتقد بأن انعكاس القمر في تلك الليلة، كوّن ظلالاً مخيفة؛ أفزعتهم!! قد يبدو تفسيراً سخيفاً، لكن هذا ما خطر ببالي!!!
وأخيرا جاء دوري.. فاعتدلتُ في مجلسي، لأشاهد نفسي، وما الذي ذكرته “آسيا” عني، بالطبع كان لا بد لصورة “آخر العنقود” بالتدلي على الشاشة!!
وشعرتُ بمعنى أن يكون الانسان “طفل العائلة المدلل”، وإن كان في سن الرابعة والعشرين!! فقد أسهب الفلم بعرض صُوَري في جميع مراحل حياتي، ربما لأنهم لم يجدوا أي إنجازٍ يُذكر حتى الآن!! وبالطبع تمت الإشارة إلى حصولي على المركز الثاني في امتحانات الثانوية العامة، رغم أنني كنتُ أتمنى التفوق على “مريم”، ولكن الحمد لله، هذه نعمة كبيرة بلا شك، ومن ثم تخرّجي بمرتبة الشرف الأولى في كلية الطب، بفضل الله، ولم تنسَ الاشارة إلى سلسلة “مذكرات طالب طب”، التي نشرتها خلال سنوات دراستي، كان آخرها الجزء السادس! وقد كانت بداية الفكرة، عندما أخذ أبي يُطالع دفتر مذكراتي الخاص، وما كتبته من أحداث، مرت بي في السنة الدراسية الأولى، فاقترح عليّ نشرها في كتاب، لعلها تفيد زملائي من بعدي، وقد أسعدني أن أبي وجدها مذكرات مفيدة حقاً، إذ كنتُ مغرماً بالكتابة، ولم أتوقع أن يكون في ما أكتبه فائدة لغيري! وقد أقبل أصدقائي على مذكراتي بشدة، لا سيما وقد وجدوا فيها ما يلامسهم! ورويداً رويداً زاد عليها الطلب، وهكذا.. وجدتُ نفسي أصدر في نهاية كل سنة دراسية كتاباً، بتوفيق الله..
ثم عرّج الفلم، على الحادثة التي تعرضتُ لها، وخروجي منها سالماً بأمر الله، على يد الطبيب “معروف”، والذي ساعدني فيما بعد، للعثور على فرصة ممتازة في أحد أفضل مستشفيات البلاد، لأبدأ برنامج الامتياز الطبي. ولأن المستشفى في مدينة أخرى، بعيدة عن مدينتنا؛ فسأنتقل للإقامة في سكنٍ خاص، تابع للمستشفى، مما يعني أنني سأفترق عن والداي لأول مرة!!
وخُتم الفلم- ذو النصف ساعة- بالآية القرآنية:
“أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير”
تلاها عبارات الحمد والثناء على الله، والشكر لوالدينا، حيث كانت هناك عشر عبارات، كتبها كل واحد منّا على حِدَة، فما هذا إلا جزء من إنجازاتهم، ولم نكن لنصل إلى ما وصلنا إليه، لولا فضل الله علينا، وحسن تربيتهم لنا.. فتربية عشرة أولاد، وتحمل مسؤوليتهم كاملة، كما تقول “عفيفة”؛ ليس عملاً سهلاً أبداً!!
وقد أحسنت “آسيا” في إخراج ذلك كله؛ بعرضٍ رائع، وجذّاب..
انتهى الفلم وفتحنا الستائر، وكان أبي لا يزال على جلسته، وهو يحيط كتفا أمي بذراعه، فيما لم تتمالك هي دموعها، فانهمرت على وجنتيها بتأثر شديد، وقمنا نحن نقبل كفيهما ورأسيهما، بحب وامتنان، لكن أمي استدركت قائلة، وهي تخاطبنا، وكأننا أطفال في الابتدائية:
– هل قرأتم أذكار الصباح يا أولاد؟
وقد أجابها الجميع بالإيجاب، لكنها نظرت أليّ فجأة، كمن يضبط لصاً، يحاول التسلل من قبضة العدالة:
– “عفيف”.. هل قرأت أذكار الصباح؟؟
وحقيقة لم أكن متأكداً مما إذا كنتُ قد قرأتها أم لا، وأمام ترددي في الإجابة، رمقتني أمي بنظراتٍ ثاقبة:
– كم مرة عليّ أن أذكرك؟؟ العين حق، ولا ينقصنا متاعب بسببك!! هيا أسمعني الأذكار الآن..
وساندها أبي بقوله ملاطفاً:
– ستكون فرصة لتُسمعنا صوتك الجميل يا بني..
وبالطبع انطلق لساني يرتل بصوتٍ رخيم، سورة الفاتحة وآية الكرسي، وسورة الاخلاص والمعوذتين، وبقية الأذكار والأدعية..
وكأن والداي ظنا أن الحفلة قد انتهت، دون أن يخطر ببالهما أن المفاجأة الحقيقية لم يُعلن عنها بعد؛ فهمّا بالقيام، لكن “عفيفة” أشارت لهما بالجلوس قائلة:
– والآن.. يشرفنا تقديم هذه الهدية البسيطة لكما، رغم أنها لا تُقارن بعظيم ما قدمتماه لنا..
وأحضر “أكرم” علبة صغيرة، مغلفة بورقٍ مُلوّن برّاق، قدمها لهما، فتناولها أبي وقدمها لأمي كالعادة، فقامت بفتحها والفضول بادٍ في أعينهما، فيما كنّا نتابع ردة فعلهما بترقب!
وكم كانت دهشتهما كبيرة وواضحة- كما أردنا- عندما وجدا جوازات سفرهما في العلبة!!
فتناولت أمي جواز سفرها، وأخذت تقلبه لتتأكد منه، وفعل أبي الشيء نفسه، قبل أن تعلق أمي قائلة:
– ما معنى هذا!!! وكيف وصل جوازي إلى هنا؟
والسؤال نفسه، كان يشع من عيني والدي بطبيعة الحال، فيما حاولتُ اخفاء ابتسامتي وأنا أحدق في السقف، فمن سيأخذ جوازهما غيري، دون أن يُشعرهما بذلك!!
وبعد لحظة صمت، قالت “عفيفة”، وهي بالكاد تسيطر على نفسها من شدة الحماسة، ولم نكن بأقل حماسة منها:
– بما أن “عفيف” سينتقل الأسبوع القادم للإقامة في سكن المستشفى، إن شاء الله، ولن يعود هناك من تقلقا عليه في المنزل؛ فستكون فرصة لكما لتجوبا العالم، في رحلة سياحية حوله؛ من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب، ونحن متأكدون من أنكما ستنشران الخير حيث حللتما، وستكونان سبباً في هداية خلقٍ كثير، بإذن الله، فمن يراكما معاً، ويتعامل معكما؛ لا يملك إلا أن يسأل عن معتقدكما، وهذه هي الدعوة الحقيقية..
ويبدو أن أمي لم تستوعب ما قالته “عفيفة” تماماً، فسألتها بتعجب:
– كيف؟
فابتسمت “عفيفة”:
– لقد تم حجز وترتيب كل شيء، تذاكر الطائرات، والفنادق، في رحلة حول العالم لمدة سنتين، إن شاء الله، واطمئنا، فسأمر على المنزل بين الحين والآخر لتهويته، وسنكون معكما على تواصلٍ دائم، بإذن الله، وقد نأتي لزيارتكم مع عائلاتنا، أثناء إجازاتنا، في المكان الذي تقيمان فيه، خلال تلك الفترة..
والتقطت نفساً قبل أن تتابع:
– سنقوم بإصالكما إلى المطار مع “عفيف”، الأسبوع القادم، إن شاء الله، فستنطلق رحلاتكم في اليوم نفسه، وقد أنهينا جميع الترتيبات لذلك، بفضل الله..
فهتفت أمي:
– ما الذي تتحدثين عنه؟؟ هل أنتِ جادة حقاَ!!
والتفتَتْ نحو أبي، تحاول التأكد من أن ما فهمته صحيحاً، فيما فسحت “عفيفة” المجال لـ “سليم”؛ الذي قدم لهما هاتفين حديثَيْن، قائلاً:
– هذه الأجهزة من أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا هذه الأيام، وقد تم توصيلهما بخدمة (انترنت) مفتوحة، متصلة بالأقمار الصناعية مباشرة، يمكنكما استعمالها في أي مكان وزمان، وبهما شرائح اتصال دولية، ترسل وتستقبل المكالمات، من أي مكان في العالم، كما قامت “آسيا”، بتحميل برنامج مُحاكاة خاص عليهما، يعمل كالدليل السياحي، لمسار هذه الرحلة..
وبسرعة، قمتُ بإغلاق الستائر من جديد، بناء على إشارة “عفيفة”، حيث قام “رؤوف” بعرض مخططٍ لمسار الرحلة، وصوراً للأماكن التي سيزورانها، والفنادق التي سيقيمان فيها، وجميعها من الدرجة الأولى، وقد علق “رؤوف” قائلاً:
– لقد ضَمِنت لي الشركة السياحية، التي أتعامل معها، توفير جميع وسائل الراحة، ولن تجدا ما يؤذيكما من خمور أو ما شابه، لقد أكّدتُ لهما على هذه القضية تحديداً.. وقد حرصتُ على اختيار شركات الطيران بعناية، حيث ستسافران عبر الدرجات الأولى، في جميع الرحلات بإذن الله، بداية إلى الديار المقدسة، حيث تم حجز أسبوع لكما في فندقٍ يطل على ساحة المسجد النبوي الشريف، ثم أسبوع في مكة، في غرفة ذات واجهة زجاجية، تطل على الكعبة المشرفة، ويُمكن أن تُرى، حتى أثناء النوم على السرير..
كان “رؤوف” يتحدث، وهو يشير إلى الصور التوضيحية على الشاشة، وكأن أمي استوعبت أخيراً، طبيعة هديتنا، فسمعنا صوت بكائها من شدة التأثر، فصمتَ “رؤوف”، فيما كان أبي يضم أمي إليه، بحبٍ واضح، وعيناه تترقرقان بالدموع، طابعاً قبلةً حانية على جبينها:
– تستحقين كل الخير يا عزيزتي..
ومن غير ترتيبٍ مسبقٍ بيننا، هتفنا معاً في صوت واحد:
– وأنت أيضا يا أبي، تستحق كل الخير.. وهذا قليل في حقكما..
وكأن أبي حاول تهدئة أمي، فسأل بابتسامة ذات معنى:
– وماذا عن القدس؟ ألن نزور المسجد الأقصى أيضاً؟؟
وبحركة لا إرادية، هببتُ من مكاني هاتفاً:
– أنا لها.. أنا لها..
وانفجر أخوتي ضاحكين، فيما ابتسمتُ قائلا بثقة- فقد كنت أغبط “رؤوف” على دوره الكبير في هذه المفاجأة:
– سأعمل بجدٍ لتحقيق ذلك يا أبي، إن شاء الله..
ثم قلتُ مداعباً أمي، التي كانت تحاول التقاط أنفاسها:
– لا تنسي قراءة الأذكار في الرحلة، فمن يراكِ؛ لا يصدق أنك قد تجاوزتِ الخمسين من عمرك، بعقدين من الزمان!!
فمدّت أمي يدها لتقرص أذني كعادتها:
– قل “ما شاء الله” يا ولد!
وضحكنا جميعاً بمرح..
وبعد أن انهى “رؤوف” عرضه، قمنا واغتسلنا استعداداً لصلاة الجمعة، حيث ذهبتُ إلى المسجد مع أبي وإخوتي الذكور، فيما بقيت أخواتي مع أمي في المنزل، فانشغلن بالتنظيف والترتيب، بعد أن أعدتُ مع إخوتي؛ الطاولة الثقيلة إلى مكانها، ليعود كل شيء كما كان..
لم أستطع النوم تلك الليلة، وأنا أفكر في تلك الأجواء الجميلة، التي لا يمكن أن أنساها ما حييت، وكنتُ أقول لنفسي؛ إذا كان هذا هو عطاء الله في الدنيا، فكيف هو عطاؤه في جنة عرضها السماوات والأرض!!!
وخرجتُ إلى الشرفة، لأستنشق نسائم الليل المنعشة، لكنني فوجئتُ برؤية أبي هناك، واقفاً يتأمل القمر بشرود!!
لطالما شعرتُ بأن هناك علاقة خاصة، تربط أبي بالقمر! وربما هذا ما جعلني أفكر، بأن لانعكاس أشعة القمر؛ دورٌ في حماية أختي “مريم”!
ألقيتُ على أبي التحية، فردها بأحسن منها، والتفتَ إليّ باسماً:
– أما زلتَ مستيقظاً؟
ثم وضع يده على كتفي بحنان، بعد أن وقفتُ إلى جانبه، نتأمل سكون الليل سوياً، ولا أدري كيف خطرت كلمات خطيب الجمعة ببالي فجأة، فقلتُ لأبي:
– لقد تحدث الخطيب اليوم عن “الخبيئة”، وعن فضل من يكون بينه وبين الله أسرارٌ من العمل الصالح، وأنها من أسباب دفع الضر، وجلب الخير..
وصمتُّ قليلاً قبل أن أسأل والدي باهتمام:
– هل لك “خبيئة” يا أبي؟
لا أدري ما الذي كان يجول بفكر أبي في تلك اللحظات، إذ تنهد بعمق، ورأيته يحدق في القمر من جديد، دون أن ينبس بكلمة واحدة! فاحترمتُ صمته، وكنتُ أتمنى لو يحدثني بشيء، أستفيد منه في حياتي، إذ طالما تحدثت عماتي عن أبي في شبابه، وقلنَ بأنه كان مثالاً للاستقامة، وأظن أن هذا هو سر شبابه وقوته، رغم بلوغه سن الثالثة والسبعين، فقد قرأتُ ذات مرة؛ قولاً لأحد السلف، بعد أن رآه أحدهم يقفز من سطح السفينة، وقد تجاوز المائة، فسأله عن سر صحته فأجابه بقوله:”حفظنا الله في شبابنا فحفظنا عند كِبَرنا”، لا أذكر الجملة تحديداً، لكن هذا معناها، ولا أستبعد أن الأمر ينطبق على أبي.. وأمي أيضاً..
وبكل ما يعتري صدري من فضول، أعدتُ السؤال على أبي، بطريقة أخرى:
– ألا يمكنك أن تخبرني بالسر يا أبي لأستفيد؟
وقد نجحتُ فعلاً في إصابة الهدف هذه المرة، فقد تحرّكت شفتاه أخيراً:
– عندما أحببت.. عَفَفْت..
***************
(6)
“عفـــــــــــــــاف”
لا أدري أي مشاعرٍ اعترتني؛ عندما لمحتُ اسمها على الحقيبة! لا شك في ذلك.. إنها ابنته!!
كنتُ أجلس في قسم النساء، أمام الكعبة المشرفة، بعد صلاة الظهر، بانتظار “نبيل”؛ لنذهب معاً للغداء، في مطعم الفندق.. لكن صوت بكائها المرير، لفتني بشدة؛ فقد كانت تجلس وحيدة، وهي لا تزال شابة، قدّرتُ أنها في عُمُر “مريم” أو “آسيا”!
شعرتُ أنها إحدى بناتي، فاقتربتُ منها، لعل باستطاعتي التخفيف عنها! ولكن.. عندما وَقَعَتْ عيناي على بطاقة الحملة، الملصقة على حقيبتها، وقد انطبع عليها اسمها بوضوح، “سميرة باهر سمير”؛ عادت بي ذاكرتي، خمسين عاماً إلى الوراء!! فشعرتُ بنداء الواجب، كما لم أشعر به من قبل! فهي ابنة أستاذي، الذي أفادني بعلمه؛ قبل أي شيء!!
وكأن الفتاة اطمأنت لي أخيراً، أو أنها كانت بحاجة لإزاحة الهم الجاثم على صدرها، فانطلقت تحدثني بحرقة:
– لقد ضاع عمري من أجله..
أدركتُ أنها تمر بمعاناة عاطفية مريرة؛ فرَقّ قلبي لها بشدة، وضممتها إلى صدري، بكل ما أملكه من حنان ورحمة:
– لا تقولي هذا يا ابنتي، فقد قطعتِ مسافاتٍ شاسعة لتصلي إلى هنا، وها أنت في بيت الله، فاطلبي منه ما شئتِ، وثقي بأن الكريم لا يرد سائلاً أبداً..
فقالت، وهي تلتقط أنفاسها المتقطعة:
– لشد ما يؤلمني أنني أغضبتُ والداي من أجله! كانا يريدان مني الارتباط بشابٍ تقدم لخطبتي، ولم يكن يعيبه شيء برأيهما، وقد كان مناسباً فعلاً، لكن لم يكونا ليرغماني على شيء لا أريده، إذ كان قلبي معلقاً بذلك الشاب، الذي أحببته منذ سبع سنين، وقد وعدني بالتقدم لخطبتي فور حصوله على عمل مناسب، ليتمكن من مفاتحة والديه بأمر الزواج، وتحمل المسؤولية! وبعد كل تلك السنوات، أرسل لي باعتذارٍ مهين، متذرّعاً بأن والدته مصرّة على خطبة ابنة أختها له!! وقد عرفتُ أنه تزوجها فعلاً، فيما ذَبُل ربيع عمري في انتظاره!! لقد وثقتُ به.. لكنه خذلني!!!
وأجهشَتْ باكية، فربتُّ على كتفها، والدموع تغرق وجهي ألماً لحالها، لكنني قلتُ لها مهدّئة:
– لقد أخطأ في وعده لك منذ البداية، إذ كان وعداً لم يستشِر فيه والديه، ولا يملك الوفاء به! وقد أخطأتِ بتعلقك بوعدٍ كهذا، دون استشارة والديك، وأخذ رأيهما به، وهما الأكثر خبرة ودراية! ولكن لا تقلقي؛ فالتائب من الذنب كمن لا ذنب له، فثقي بالله وحده، وسيعوضك خيراً منه بالتأكيد..
لكنها قالت- بنبرة كسيرة:
– لا أعرف ماذا أقول لك يا خالة، فرغم كل ما فعله، إلا أنني لستُ قادرة على الحب من بعده، فقد كان حبي الوحيد، ولا أتخيل كيف بإمكاني متابعة حياتي بعد ذلك.. لشد ما ينتابني القلق من رؤيته مع زوجته، في أي مكان؛ فأفقد أعصابي وأنهار!! لقد بات هذا هاجسٌ يؤرقني بشدة!
عندها قلتُ لها، وآلاف الذكريات تموج في مخيلتي:
– اسمعيني جيداً يا ابنتي، فإنني أعرف شعورك جيداً، أكثر مما تتصوري، فالحياة مدرسة وتجارب، نتعلم منها الكثير..
والتقطتُ نفساً، قبل أن أقول بتأثر واضح:
– أعرف فتاة كانت تحب شاباً، ملك عليها قلبها وأشغل فِكرها، حتى ظنت أنها لن تحب أحداً كحبها له، ولكنه لم يكن من نصيبها، وقد تألمت لذلك بالطبع في البداية، ولكنها وضعت كامل ثقتها بالله، ورضيت بقضائه واختياره، فأبدلها خيراً منه، بل إنها قضت معه أجمل سنين حياتها، ورغم تقدمهما في السن؛ إلا أن قلبها لا يزال شاباً بحبه؛ فقد كان فارس أحلامها الحقيقي..
ويبدو أنني انسجمتُ في الجو تماماً، إذ لم أكد أُكمل عبارتي، حتى رأيتُ “نبيل” مُقبلاً من بعيد، فخفق قلبي بشدة، وكأنني لا أزال شابة في العشرين! وعندما رأيته يتلفّت بحثاً عني، في المكان المتفق عليه، أشرتُ له هاتفة:
– “نبيل”، أنا هنا.. لحظة من فضلك، سآتي حالاً..
وقبل أن أقول للفتاة شيئا؛ وجدتُها تبتسم في وجهي، قائلة:
– هل كانت تلك هي قصتك يا خالة؟
فغمزتها باسمة، وقد أسعدني إشراقها:
– وربما تكون قصتك أنتِ أيضا يا “سميرة”، فثقي بالله، ولن يضيعك الله، وسأذكرك في دعائي، إن شاء الله.. (ولسوف يعطيك ربك فترضى)..
*************
(7)
“نبيــــــــــــــــــــل”
كلما نظرتُ إلى القمر؛ أرى حكمتك، ولطف تدبيرك، في كل ما قدرته لنا يارب! وأدرك كم كنتَ ولم تزل بي رحيماً حفيا.. سبحانك ما أعظمك، خالق القلوب ومقلّبها!! عندما أحببتُ أول مرة؛ ظننتُ أن ذلك هو منتهى الحب، الذي لا حب بعده، ثم ربطتَ على قلبي، حتى أدركتُ حكمتك التي خفِيت عني، ورأيتُ بعين قلبي؛ جمال ما خبّأته لي، دون أن أدري!! كان اختباراً؛ فأكرمتني باجتيازه، وشملتني بلطفك ورحمتك، فلا أدري كيف تحول حبي الكبير لـ “نائلة”؛ إلى شفقة عليها!! فدعوتُ لها كما يدعو الأخ المشفق لأخته، وكلمات أمي، لا زال صداها يتردد في أذني: “لو كان فيها خيرٌ لك، لما أبعدها الله عنك!”، وكم تأثرتُ عندما علمتُ أنها حققت حلمها، وسمعتُ عن حسن خاتمتها، وأن الذي كان سبباً في انقاذ ابني هو ابنها!! فارحمها وبارك في ذريتها، وجازِها خيراً يا شكور، وهب لي من زوجتي وذريتي قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماما..
كنتُ أجلس مع محدثي الشاب، فوق سطح الفندق، في إحدى ضواحي جنوب بريطانيا الهادئة، بعد أن طلب مني محادثة على انفراد! فاستأذنتُ زوجتي، التي ذهبت للنوم، وأظنها مشغولة الآن بالتواصل مع الأولاد، والحديث معهم، فهذا هو دأبها!! ويبدو أنني سرحتُ بفكري، وأنا أتأمل القمر، إذ كنا نجلس تحت ضوئه، في تلك الليلة الهادئة؛ فأعاد الشاب سؤاله:
– كيفَ كنتَ ستتصرف لو كنت مكاني يا عم؟
كان شاباً عربياً، مبتعثاً للدراسة في هذه البلاد، وقد وقع في حب فتاة أجنبية، لكن عندما أخبر أهله عنها، وصارحهم برغبته بالزواج منها، ثارت ثائرتهم، حتى أن أمه أصرّت عليه؛ ليعود في أسرع وقت إليهم، لعله ينساها، وإن كان ذلك على حساب دراسته!! ولم يكن بالذي يضرب برضا والديه عرض الحائط بسهولة، فجاء يطلب الاستشارة! بعد أن كاد يستسلم لقلبه الولهان بالعشق، وقد توسّم بي الخير على ما يبدو!
فقلتُ له:
– أي بني.. من ترك شيئاً لله، عوضه الله خيراً منه، وارضاؤك لأمك هو امتثالٌ لأمر ربك، وكن على ثقة بأن الذي أمرك ببرها؛ هو الذي جعلها تطلب منك ذلك الطلب، أفليس في ذلك إشارة واضحة لك؟؟ وإياك أن تعِدَ الفتاة بشيء فتظلمها، راجع حساباتك، واستغفر لذنبك، ولا بأس بمعاودة الحديث مع أمك بهدوء وأدب، دون أن تضغط عليها، أو تحمّلها ما لا تطيق، فلو كان في تلك الفتاة خير لك، سيشرح الله صدرها لها..
قلتُ كلماتي وأنا أرجو أن تجد طريقها إلى ذهن الشاب؛ ليراجعها فكره، ويعرضها على قلبه، فهذه المعتقدات وأمثالها؛ تحتاج حواراً طويلاً مع النفس، حتى تستقر ضمن قناعاتها الداخلية! ولا شك أن الشاب كان بحاجة لتجربة حقيقية؛ تدعّم تلك الأقوال!! ولطالما تمنيتُ أن أخبر الجميع بقصتي، ولولا خشيتي من كشف سر “نائلة”، والإساءة لابنها، بزلة لسان مني؛ لما ترددتُ بنشرها! وبعد فترة صمتٍ خيّمت علينا، ما مللتُ خلالها من تأمل القمر، تكلمتُ أخيراً:
– كنتُ شاباً مثلك يا بني، وكنتُ أظن أن قلبي لن يحب سوى تلك الفتاة، التي لم يقدّرها الله لي، غير أنني اخترتُ طريقاً يُسعد أمي، فقد خشيتُ أن أُقدم على خطوة تُحزنها، وقبلتُ بالفتاة التي اختارتها لي، وقد كانت فعلاً مناسبة تماماً، فشاركتني هموم الحياة، ورزقني الله منها الأولاد، وكان لنا الكثير من الأهداف المشتركة، وإنني أحمد الله في اليوم ألف مرة، أن رزقني زوجة مثلها، فهي حبي الحقيقي، ولا أتخيل كيف كانت حياتي ستكون من دونها!!
لم أكد انتهي من كلماتي، حتى لاحظتُ التأثر الشديد على وجه الشاب، تحت ضوء القمر، وكأنه كان ينتظر هذه الفرصة؛ إذ قال بانفعال:
– اعذرني يا عم، ولكن عندما كنتُ أراك مع زوجتك، وأنتما تتناولان الطعام في المطعم، أو تتنزهان في الحديقة، وكأنكما لا تزالان في شهر العسل؛ شعرتُ بحاجةٍ للحديث معك، فرغم ما يظهر عليكما من تديّن والتزام، إلا أن الحب واضح بينكما، ما شاء الله، وقد كنتُ أظنكما قد تزوجتما؛ بعد قصة حبٍ عميقة، مما جعلني أرغب بالحديث معك، لعلك تساعدني في مشكلتي، واقناع أهلي.. لكنك فاجأتني حقيقةً؛ بقولك هذا!!!
شعرتُ بارتياحٍ عميقٍ لردة فعله، فابتسمتُ له قائلاً:
– ألم أقل لك يا بني.. من ترك شيئاً لله؛ عوضه الله خيراً منه!
هز الشاب رأسه متفهماً، وبدا متردداً قليلاً قبل أن يقول:
– لا تؤاخذي يا عم، ولكن لدي سؤال أخير يحيّرني فعلاً، فقد تفاجأتُ حقيقة عندما عرفتُ عمرك الحقيقي- وأرجو أن لا يكون في ذلك وقاحة، مني عندما سألتُ عن ذلك- فقد ظننتك أصغر بعشرين عاماً على الأقل!! فهل لذلك علاقة بما أخبرتِني به قبل قليل؟
فأومأتُ رأسي بابتسامة عريضة- إذ لم تكن هذه هي المرة الأولى، التي أسمع فيها هذا الكلام- وقد وجدتها فرصة مواتية:
– كما قلتُ لك.. عندما كنتُ شاباً وأحببت.. كبحتُ جماح نفسي وعفَفْت، فاحفظ الله يا بني يحفظك، واستعن بالله ولا تعجز..
وإذ ذاك نهض الشاب، وقد بدا متأثراً جداً بما سمعه، فقبّل رأسي- قبْلَ أن انتبه لما ينوي فعله- فنهضتُ من مكاني وعانقته، وربتّ على كتفه مشجعاً، وقد ذكّرني بـ “عفيف”، فيما انطلق لسانه يدندن بكلماتٍ، لم يزل وقعها يرن في أذني:
– تحتَ ضوءِ القمرْ..
والقمر شاهدُ..
أنني لن أَخُنْ..
لحظةً غائبُ..
**********
تمت بفضل الله
ملاحظة: قد لا تكون هذه القصة حقيقية؛ لكن أحداثها.. ليست خيالية!!
(وجعلنا بعضكم لبعضة فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا)
***
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الحب وحده لا يكفي !
عن القصة:
قصة مدرسية قصيرة، تتحدث عن فتيات مراهقات مولعات بمتابعة القصص الخيالية وقراءة المانجا، يواجهن مشكلة في مفاهيم الحب والحياة.. فكيف ستتصرف المعلمة سلمى؟
التصنيف: مدرسي، شريحة من الحياة

– نغم.. نغم.. ماذا أصابك ألا تسمعينني؟؟؟ إنه وقت الاستراحة، ألن تكملي لنا القصة؟؟ ديمة وروان في الساحة ينتظرونك أيضاً..
التفتت نغم نحو صديقتها المتحمسة بعينين زائغتين، وكأنها لا تفهم ما يجري حولها، فأعادت صديقتها كلامها بإلحاح شديد:
– نغم ماذا أصابك؟؟ لا تبدين بخير أبداً!!! هل كنت منتبهة في الدرس أصلا! لا أظنك لاحظتِ أن الحصة انتهت!! نغم.. أرجوك أجيبيني ولو بكلمة واحدة على الأقل!!
وبدل سماعها إجابة نغم؛ جاءهما صوت المعلمة المناوبة، وهي تصرخ بغضب أثناء مرورها بالطابق:
– ما الذي تفعلانه هنا!! ممنوع البقاء في الفصول خلال فترة الاستراحة، هيا انزلا للساحة بسرعة.. كم مرة علينا إعادة الكلام نفسه!!! يا لكم من جيل مزعج عديم الفهم.. عديم الفائدة.. عديم النفع…
وبالطبع لم تستمع الفتاتان لبقية كلامها، إذ كانتا قد اختفيتا عن أنظارها في طرفة عين!
وما أن وصلتا الساحة- بعد نزولهما جرياً على الدرج- حتى وجدتا نفسيهما محاطتان بديمة وروان، وعتابهما اللاذع:
– كأننا نشتم رائحة خيانة هنا!! هل كنتِ تكملين القصة لرنيم وحدها يا نغم!!
لكن رنيم سرعان ما دفعت الشبهة عن نفسها، وهي تلتقط أنفاسها اللاهثة:
– ليتني استفيد شيئاً من خاصية وجودي معها في الفصل نفسه!! أنتم تعرفون اتفاقنا، ونغم لا تحب إعادة القصة مرتين!!
فبادرتها ديمة بالسؤال:
– لماذا تأخرتما إذن؟!! فترة الاستراحة قصيرة بما يكفي..
فزفرت رنيم باستسلام:
– لا أدري ماذا أصابها اليوم، فهي لم تتكلم معي بكلمة واحدة!
عندها التفتت روان نحو نغم قائلة:
– هيا يا نغم ألن تكملي لنا قصة “ذات الوشاح الأزرق”؟ … نغم.. ألا تسمعيننا؟؟
تبادلت الصديقات الثلاثة النظرات وهن يحدقن بنغم، التي بدت شاردة تماماً، فألحّت عليها روان بقولها:
– أخبرينا ماذا أصابك على الأقل؟؟ هل هناك شيء يزعجك هل تريدين الذهاب للعيادة؟؟
ولم تنتظر ديمة جوابها أكثر، إذ جذبتها من يدها، قائلة:
– سآخذك للعيادة بنفسي، وضعك غير طبيعي أبداً..
لكن نغم أفلتت يدها منها بقوة:
– ألا يمكنكن تركي وشأني!! مزاجي معكر جداً، ولا أريد إيذاء أحد بكلامي.. ولكنكن مزعجات حقا!
عندها انفرجت أسارير الصديقات الثلاثة، معبرين عن ارتياحهن الشديد لسماع ذلك، فقالت روان:
– الحمد لله على الأقل سمعنا صوتك!
وتبادلت ديمة مع رنيم نظرات ذات معنى، قبل أن تقول:
– هل حدث شيء لبطل المانجا التي تتابعينها؟ أنت لم تخبرينا باسمها حتى الآن!
وأمام صمت نغم مع الكآبة التي ظللت وجهها، تم التأكد من الإجابة، فقالت رنيم:
– نحن نعرف أنك اخفيتِ عنا اسم المانجا التي تتابعينها؛ حتى لا يحرقها أحد عليك كما حدث سابقاً، ولكن ألن تخبرينا باسمها على الأقل بعد انهائها؟ صدقيني هذا سيخفف عنك العبء، سنتناقش بالقصة و…
فقاطعتها نغم بضيق:
– لم أنهيها بعد، ولا أريد إنهائها أبداً، ولا حتى تذكر اسمها.. إنها قصة بغيضة بمعنى الكلمة!! لقد كرهت مانجا الشوجو كلها بسببها!!
فتنهدت روان:
– يبدو أن الوضع أسوأ من المرة السابقة!! على الأقل، ما هو الحدث الذي أزعجك؟ أخبرينا عنه بشكل عام بدون ذكر أسماء…
لكن نغم أجابتها ببرود:
– قلتُ لكم أنني لا أريد تذكر أي شيء عن تلك المانجا، سأحاول أن أنساها..
فقالت ديمة بنفاد صبر:
– في هذه الحالة لماذا لا تكملين لنا قصة “ذات الوشاح الأزرق”؟؟ ليس من العدل أن تتركينا في منتصف القصة هكذا، لقد وعدتِ بإكمالها.. لا تقولي أنكِ نسيت اتفاقنا بالأمس على تناول الغداء في المطعم بعد المدرسة حتى تكملي القصة، لقد تعبتُ في الحصول على موافقة أبي من أجل ذلك..
بدا على نغم علامات تأنيب الضميرأخيراً، لكنها قالت بأسف:
– حقا أعتذر عن ذلك، بالطبع لم أنسَ موضوع المطعم وقد أخذتُ موافقة أمي وأبي أيضاً، ولكنني لم أعد مهتمة بتلك القصة، ولا أفكر بإكمال تأليفها أبداً…
لم تكد نغم تكمل جملتها حتى انفجرت ديمة بغضب:
– هذه ليست أول مرة!! لن أصدقك بعد اليوم أبداً ايتها الـ…..
غير أن روان ورنيم حاولتا التدخل بسرعة، لتهدئة الأوضاع قبل أن تلتفت الأنظار إليهم، وإلا.. فكيف سيشرحون هذا الموقف الذي لا يفهمه أحد سواهم!!
ومن لطف الله بهم أن جرس المدرسة أعلن انتهاء فترة الاستراحة، فتنفست رنيم بارتياح وهي تمسك نغم من يدها:
– علينا الاصطفاف بالطوابير بسرعة قبل أن نثير غضب المعلمات، يكفينا التوبيخ السابق، لذا عن إذنكما سنذهب إلى طابور فصلنا..
أما روان، فقد استدركت مخاطبة ديمة:
– كأننا نسينا تناول شطائرنا اليوم!! أرجو أن نتمكن من التركيز في بقية الحصص..
فأجابتها ديمة وهي لا تزال تتميز غيظاً:
– كله بسبب تلك الـ…..
لكن صوت إحدى المعلمات المناوبات، أعادها إلى واقعها المرير:
– هيا إلى الطوابير بسرعة.. ستبدأ الحصة الرابعة خلال خمس دقائق..
وارتفع صوت المرشدة من خلال مكبرات الصوت:
– أنتن هناك.. التزمن الطابور بسرعة.. يا فتيات كل واحدة في طابورها.. نظــــام… كل طابور بدوره .. إياكن الخروج عن المسار.. هيا بسرعة.. إلى الفصول..
وساهمت فتيات الكشافة في تنظيم سير الطوابير في الممرات، وخلال صعود الأدراج، حتى امتلأت الفصول بطالباتها، لتدخل المعلمات إلى حصصهن، وتُستأنف الدراسة كالمعتاد..
حاولت نغم التركيز جاهدة في درس الفيزياء، لكن دون جدوى، فتمنت لو أن المعلمة سلمى لا تلاحظها وتتجاهل وجودها، لهذا اليوم على الأقل، غير أن أمنيتها تحققت بشكل عكسي.. إذ لم يكد هذا الخاطر يتبادر إلى ذهنها حتى سمعت اسمها:
– هيا يا نغم تعالي إلى اللوح، وارسمي لنا العلاقة بين “الإجهاد” و”الانفعال” مع تحديد مناطق المرونة على المخطط البياني..
لم يكن السؤال صعباً، فهذا مراجعة سريعة للدرس الماضي، غير أن نغم شعرت بالارتباك الشديد، وهي تحاول البحث عن عذر مناسب، لتُعفى من الإجابة، ولم يخفَ على المعلمة ملاحظة ذلك، لكنها أصرّت قائلة:
– هيا يا نغم تعالى إلى هنا بسرعة..
ثم تابعت قائلة، وهي تخاطب الطالبات:
– كما استنتجنا من قانون هوك في الحصة الفائتة، كلما زاد الاجهاد على جسم مرن، زاد انفعاله بشكل طردي، وإذا نقص الإجهاد نقص هذا الإنفعال، وهذا صحيح طالما أننا ضمن حد المرونة، أما إذا تجاوزنا حد المرونة بزيادة الإجهاد على هذا الجسم، فلن يعود إلى وضعه الطبيعي أبداً وسيفقد مرونته، وإذا زاد الإجهاد أكثر فسنصل إلى..
وسكتت المعلمة قليلاً وهي تلتفت إلى نغم، لتفسح لها المجال بالإجابة، فأجابت أخيراً:
– سنصل حد الكسر..
فأومأت المعلمة برأسها موافقة:
– ممتاز، والآن مثّلي هذا على اللوح بيانياً..
وبالفعل استطاعت نغم إتمام الرسم البياني على أفضل وجه، فيما علّقت سلمى قائلة:
– وهذا لا ينطبق على الاشياء وحسب، بل على النفوس أيضاً.. وبالطبع لكل جسم ثابت مرونة يختلف عن الآخر، بحسب طبيعة الجسم، لذلك قلنا سابقاً احذرن الوصول إلى حد المرونة مع أي أحد، حتى مع أنفسكم.. فمعظم مشكلاتنا في الحياة اننا لم نفهم “قانون هوك” بشكل جيد، لذا نتفاجأ أحياناً بأن هناك من خسر علاقته مع شخص ما، بسبب كلمة بسيطة أو فعل لا يستحق الغضب، لكن في الحقيقة أن الشخص الآخر يكون قد وصل حد المرونة بالفعل، ولم يعد يحتمل المزيد، وكما قال المثل: إنها الشعرة التي قصمت ظهر البعير..
فرفعت رنيم يدها تستأذن بالمشاركة، قبل أن تضيف:
– أو كما يقولون في المثل الشعبي يا آنسة (مش على رمانة، على قلوب ورمانة)..
فضحكت الفتيات وابتسمت سلمى:
– أجسنتِ، بالضبط هذا ما يحدث، وكلما ابتعدنا عن حد المرونة أكثر، كلما كان هذا أفضل، لنضمن لأنفسنا مساحة كافية ضمن منطقة المرونة، وهذا يذكرنا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، “الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه”، فكأن حد الحرام هو حد المرونة، وكلما ابتعدنا عن هذا الحد، كلما ضمنا لأنفسنا السلامة أكثر.. لذا هل عرفتن أهمية فهم الفيزياء في حياتكن اليومية؟ أريدكن فتيات ناضجات ناجحات دائماً، لذا تذكروا هذا القانون دائماً، ولا تنسوا إخبار الجميع به..
لم تستطع فرح منع نفسها من التعليق قائلة:
– فهمنا يا آنسة، والله فهمنا.. الفيزياء جميلة، وسنجعل الجميع يحبون الفيزياء كما تريدين..
فأفلتت ضحكة صغيرة من سلمى، ضحكت على إثرها الفتيات، لكنها سرعان ما أمسكت زمام الموقف، قائلة:
– حسنا.. نعود إلى الدرس، افتحن الكتب على قسم المسائل في آخر الوحدة، ولنبدأ بحل السؤال الخامس، فهو تطبيق مباشر على القانون…
**
دق جرس المدرسة معلناً نهاية الدوام المدرسي، وخرجت نغم برفقة رنيم من الفصل وهي تشعر ببعض الندم:
– أظن أن ديمة لا تزال غاضبة جدا مني، أخشى أنها وصلت حد المرونة بالفعل!!
فطمأنته رنيم قائلة:
– لا عليكِ، ستحل المشكلة بسرعة إذا أخبرتينا بتكملة قصة “ذات الوشاح الأزرق”، عليكِ أن تفي بوعدك..
فتنهدت نغم بألم:
– المشكلة أنني لا أستطيع، أنتن لا تفهمن هذا! لا أعرف كيف أشرح أكثر!!
عندها لمعت عينا رنيم، فهتفت- كأرخميدس عندما “وجدها”- قائلة :
– لماذا لا تخبرين المعلمة سلمى عن هذا الموضوع؟؟ أنا متأكدة انها ستساعدك في تجاوز هذه الأزمة..
فحملقت فيها نغم بذهول:
– هل أنتِ جادة؟؟ وماذا أقول لها؟؟ شرح المشكلة بحد ذاته أكبر من المشكلة نفسها!
فطمأنتها رنيم:
– أظن أن المعلمة سلمى ستفهم هذا بسرعة، فقد سمعتُ أنها تكتب قصص أيضاً، كما أنها مثلنا تتابع الأنيمي..
شهقت نغم:
– أنتِ تمزحين!! من قال لك هذا؟
فغمزتها رنيم بابتسامة ذات مغزى:
– هذا سر!
لكن نغم جذبتها من يدها:
– هيا أخبريني، لا تكوني لئيمة..
فضحكت رنيم:
– هذا هو بالضبط شعورنا عندما ترفضين إكمال القصص، اشعري معنا قليلاً..
فتوسلت إليها نغم باستعطاف شديد:
– إنني آسفة حقا، فلا تستغلي ضعفي الآن.. ألستِ أنتِ من اقترح علي الذهاب للمعلمة..
وقبل أن ترد عليها رنيم بكلمة؛ تفاجأت الفتاتان بالمعلمة سلمى تلقي عليهما السلام، قائلة:
– ألم تعودا إلى المنزل بعد؟
ومع هول المفاجأة؛ تلجمت ألسنتهما تماماً، حتى أنهما ردّتا السلام بتلعثم واضح، مما أثار تعجب سلمى، فسألتهما باهتمام:
– هل هناك خطب ما؟
وبدون مقدمات؛ قالت رنيم كمن خشي فوات الفرصة:
– في الحقيقة آنسة سلمى، نغم لديها موضوع ترغب باستشارتك فيه..
فالتفتت سلمى نحو نغم، التي ألجمتها الصدمة:
– حسناً يا نغم، هل تحبين التحدث في الموضوع الآن؟ يمكننا الجلوس في الساحة الخارجية، سيكون لدينا بعض الوقت قبل إغلاق المدرسة، فهل لا بأس بذلك؟
فأجابتها رنيم بحماسة:
– لا بأس بذلك طبعاً، فنحن سنمر على المطعم في طريق عودتنا، وأهلنا يتوقعون تأخرنا على أي حال، لذا لا بأس بذلك أبداً يا آنسة..
**
شعرت نغم بتوتر شديد، إذ لم تعرف كيف تبدأ الموضوع، لكن رنيم تشجعت وبادرت بنفسها قائلة:
– ساخبرك القصة من البداية يا آنسة سلمى بكل صراحة، فأنا ورنيم وديمة وروان اصدقاء طفولة، ونعرف بعضنا منذ الابتدائية، كنا نتشارك الاهتمامات نفسها، خاصة متابعة الرسوم المتحركة، وقد كانت نغم أحيانا تقوم بتغيير نهايات بعض القصص التي لا تعجبنا، ثم بدأت بتأليف قصص جديدة، وكنا دائما نحب الاستماع لها ونتابعها بشغف، لكن المشكلة أنها أحيانا تمل من إكمال القصص التي تبدأها، فلا تكملها لنا، ثم تفاجئنا بقصة جديدة، ولم نكن نشعر بالضيق في البداية، إذ سرعان ما كنا ننسجم مع القصة الجديدة، وهكذا.. لكن مؤخراً بدأ هذا الموضوع يزعج بعضنا، خاصة وأنها وعدتنا بإكمال آخر قصة..
وسكتت رنيم لتفسح المجال لنغم حتى تكمل الحديث، فقالت أخيراً:
– ربما تبدو لك المشكلة سخيفة يا ىنسة سلمى ولكنني حقا لا أستطيع إكمال القصص…
فقالت سلمى بنبرة جادة:
– أولاً هذه ليست مشكلة سخيفة أبداً، بل مشكلة حقيقية، وكبيرة جداً، فالوعد وعد مهما كان، وإخلاف الوعود ليس من شيم المؤمنين!
شعرت نغم بالحرج الشديد، وحاولت الدفاع عن نفسها، لكن سلمى تابعت كلامها قائلة:
– ثانيا ليس الموضوع أنك لا تستطيعين، بل الفكرة تكمن في أنك لا تريدين ذلك، وهناك فرق كبير بين الارادة والاستطاعة، لكننا كثيراً ما نخلط بينهما، لذا علينا أن نكون صادقين مع أنفسنا، ونبحث في دواخلنا جيداً عن الأسباب التي أدت بنا إلى هذه الحال..
ثم استدركت قائلة:
– هل هذا هو الموضوع الذي كان سبب شرودك في الحصة اليوم؟
فاحمرت وجنتا نغم، قبل أن تجيب:
– ربما..
لكن رنيم حثتها على الكلام قائلة:
– هناك أمر آخر يزعجها يا آنسة، فقد كان مزاجها معكرٌ منذ الصباح، قبل حدوث المشكلة، وهو السبب وراء امتناعها عن إكمال القصة لنا هذا اليوم على الأغلب، أليس كذلك يا نغم؟
شعرت نغم برغبة عارمة في قرص رنيم حتى يتورم جلدها، لكنها حاولت ضبط نفسها، ولاحظت سلمى ذلك، فابتسمت قائلة:
– لا شيء يدعو للحرج عزيزتي، فحتى أنا احياناً يتعكر مزاجي لأسباب يراها الآخرون تافهة جداً، لذا يمكنك إخباري عن أي شيء بكل راحة.. هل أفترض مثلاً أن هناك قصة لم تعجبك نهايتها مثلاً؟ إذا كانت القصة معك فأعيريني إياها أو اخبريني باسمها وسأحاول قراءتها، لنتناقش فيها فيما بعد، فهذا أفضل.
وغمزتها قائلة:
– فأنا أحب قراءة القصص أيضاً..
وهكذا.. قررت نغم أن تزيح الحمل الثقيل الجاثم على صدرها، فتكلمت أخيراً:
– في الحقيقة يا آنسة هي ليست قصة بمعنى قصة، فهي مانجا.. يعني… يعني هي تشبه…. مممم..
فأومأت سلمى برأسها لتختصر عليها الشرح:
– أجل أعرف أعرف.. فأنا اقرأ المانجا ايضا،..
تهلل وجه نغم:
– حقاً يا آنسة؟؟
فابتسمت سلمى:
– أجل، يمكنك متابعة حديثك..
فقالت نغم:
– حسناً.. في الحقيقة هي مانجا شوجو.. أنت تعرفين تصنيف الشوجو يا آنسة صحيح؟
فهزت سلمى رأسها موافقة، فيما تابعت نغم كلامها بحماسة:
– قبل فترة أنهيت مانجا رائعة من هذا التصنيف وقد أعجبتني جداً، فبحثت عن مانجا أخرى للمؤلفة تفسها، ولكنني عندمابدأتُ قراءتها صدمتُ جدا بما حدث، لم أتوقع من المؤلفة أن تفعل هذا، لقد كرهتُ البطل جدا جدا، فرغم أنه طالب ذكي ومحترم، ولديه صديقة سابقة، لكنه يبدأ بالاهتمام ببطلة القصة، لم أحب الفكرة أبداً..
وبدا التأثر واضحاً على وجه نغم وهي تتابع:
– يُفترض من القصة أن تجعلنا نتحمس لاعتراف البطل لهذه البطلة، بل إنه سيترك صديقته من أجلها…
لكن نغم بترت كلممتها فجأة، وقد انتبهت أنها تحدث معلمة! فاستدركت قائلة:
– طبعاً يا آنسة أنتِ تعرفين أن هذه القصة تعكس بيئة غير عربية، لذلك هذا الوضع مقبول لديهم، يعني هذا ليس قلة أدب عندهم، أو تصرف سيء.. حتى الأهل عندهم لا يمانعون في ذلك… ما أقصده هو أنها تعكس ثقافة مختلفة.. أقصد فكرة الاعتراف وأن تكون هناك صديقة مقربة أو صديق مقرب.. مممم.. يعني يمكنك القول أن هذا يشبه الخطبة عندنا..
فضحكت سلمى قائلة:
– أعرف أعرف، يعني مثل خطبة ران وسينشي في المحقق كونان.. لا تقلقي لن آخذ عنك فكرة سيئة أبداً..
فابتسمت نغم، وضحكت رنيم:
– ألم أقل لك أن المعلمة سلمى ستتفهم..
لكنها أغلقت فمها بسرعة من شدة الحرج، فيما تابعت نغم كلامها، بعد أن دخلت في جو التأثر من جديد:
– المشكلة يا آنسة أن صديقة البطل السابقة تعتبر شخصية ثانوية، لذلك تم تجاهلها في المانجا، رغم أنه بحسب ذكريات البطل فهو أول من اعترف لها، ورغم ترددها في البداية، ومحاوله اقناعها له بأنها مثل أخته فقط؛ إلا أنه أخبرها بأنه يحبها حقا ولن يتخلى عنها أبداً، حتى وثقت به!!
وترقرقت عينا نغم بالدموع، وهي تتابع:
– لم أستطع احتمال ذلك!! لماذا تريد المؤلفة اقناعنا بأن تصرفه صحيح؟؟؟ لماذا سمحت له بأن يحب بطلة القصة؟؟ هل لأنها بطلة القصة فقط!! حتى بطلة القصة كانت مقيتة جدا! فقد ظلت تلاحق البطل وهي تعلم أن لديه صديقة، بحجة أنها لا تريد تجاهل مشاعرها!! هذا مؤلم جدا! والأشد إيلاما من هذا كله، وحتى تريح المؤلفة ضمير البطل؛ جعلت صديقته السابقة تتفهم الأمر، بل وكأنها ترحب في الانفصال!! بالطبع هذا غير مقنع ولكنه ما تريده المؤلفة فقط..
وصمتت قليلاً قبل أن تتابع، فيما كانت سلمى تستمع لها باهتمام:
– هل تصدقي يا آنسة.. أنها أول مرة أقوم فيها بالقفز إلى الفصل الأخير وحرق القصة على نفسي! لم أحتمل الذي حدث وكنتُ أرجو أن يعود لصديقته السابقة، رغم أن رسوم الغلاف واضحة، ومع ذلك.. قفزت للفصل الأخير حتى أتاكد بنفسي!! وللأسف كان البطل والبطلة معا في نهاية سعيدة كما تريدها المؤلفة، ولكنها ليست كذلك ابداً.. فلم يعد لتلك الصديقة السابقة وجود أبدا، فقط لأنها شخصية ثانويةً!! لقد تمت خيانتها تماماً.. لم يكن ليحدث هذا لو أن تلك الصديقة السابقة هي البطلة الاساسية للقصة.. هذا فظيع جدا..
وصمتت نغم بشرود، حتى سألتها سلمى:
– أهذا كل شيء؟
فرفعت نغم عينيها لتواجه عينا معلمتها الثاقبتين:
– آسفة لقد أزعجتك بما يكفي يا آنسة وأنا أعيد وأزيد في الكلام نفسه، ولكنني متألمة جدا من تلك الفكرة، ولا أستطيع تجاهلها! لقد عكرت مزاجي تماماً، فهذا لا يُشعِر بالأمان أبداً..
فطمأنتها سلمى بابتسامة ودودة:
– أتفهم شعورك نغم، ومعك الحق في هذا، حتى أنا كانت تغيظني هذه القصص جداً، ولكن بالتفكير المنطقي في الموضوع، ما حدث هو نتيجة حتمية لمن يبني علاقاته على الحب فقط، لذلك المؤلفة لم تكن مخطئة جداً، فهذا يحدث أحيانا، وهي وصفت واقع موجود.. فلا يوجد ضمان لاستمرار الحب أبداً، القلوب متقلبة….
فاستأذنتها نغم في المقاطعة- بإشارة من يدها- قائلة:
– هذا يعني أنه لا يوجد ضمان أيضاً لاستمرار ذلك البطل وتلك البطلة بعلاقتهما للأبد، كما توحي لنا المؤلفة في النهاية؟
فأومأت سلمى برأسها موافقة:
– كلامك صحيح، ومن يدري.. ربما يعود لصديقته السابقة بعدها.. كل شيء وارد، ولا يعني وقوف المؤلفة عند تلك النقطة أنها النهاية الواقعية فعلاً..
ورغم الارتياح الذي بدا على وجه نغم، لكنه اكفهر من جديد:
– ولكن هذا لا يُشعر بالأمان.. لا يشعر بالأمان أبداً..
فتابعت سلمى كلامها مطمئنة:
– طريق الأمان موجود دائماً لمن يرغب بعبوره، والحمد لله أننا في بيئة عربية اسلامية محافظة، لا تسمح بوجود مثل تلك العلاقات المؤلمة، ألَستِ سعيدة بأننا لا نمتلك مثل هذه الثقافة في مدارسنا؟
ورغم أن رنيم بدت سعيدة لسماع ذلك، كمن يسمع خبراً سعيداً للمرة الأولى، إلا أن نغم لم يبدُ عليها الارتياح كثيراً، إذ قالت بعد تردد:
– ولكن هذا لا ينطبق على المدارس فقط.. حتى نحن.. ربما بطريقة مختلفة، ولكن هذه المشاكل موجودة..
وسالت الدموع غزيرة على خدي نغم، دون أن تنبس ببنت شفة، فربتت سلمى على كتفيها بحنان:
– أتفهم تفاعلك مع القصص يا نغم، فهذا يحدث لي أحيانا.. ولكن أخبريني بصدق، هل هذا القصة تذكرك بشيء حدث حولك؟
وكأن ذلك السؤال كان الشرارة التي أشعلت الفتيل؛ إذ سرعان ما أجهشت نغم بالبكاء بحرارة، فيما حاولت سلمى تهدئتها:
– لا بأس عزيزتي، هذه هي الحياة، فيها دروس وعبر، ولها حكمة حتى ولو كان الحدث مؤلماً، ولكن ثقي بأن كل شيء سيكون بخير إذا أحسنا التعامل معه، وأنا استمع لك الآن، يمكنك إخباري بما تشائين..
أخذت نغم تلتقط أنفاسها بصعوبة، وهي تحاول تهدئة نفسها حتى قالت أخيراً:
– عندما كنت صغيرة، كنت ألعب دائما في منزل جيراننا، كانت جارتنا سيدة لطيفة جدا، وزوجها رجل رائع، كنتُ أحبهما كثيراً…
ولم تستطع نغم إكمال جملتها، إذ خنقتها العبرات، فيما أخفت رنيم وجهها بكفيها لتخفي دموعها المنهمرة هي الأخرى، وشعرت سلمى بأنها ستشاركهما حفلة البكاء تلك إن لم تتدارك الموقف بسرعة، فقالت:
– مهما حدث بين هذين الزوجين، فربما كان خيراً لهما، أنتِ لا تعرفينهما سوى من الظاهر..
لكن نغم قالت بصوت متهدج:
– كانا يحبان بعضهما كثيراً، جميعنا نعرف قصتهما، لقد أحب الرجل زوجته بشكل كبير، بل وقد كان مستعداً لخسارة الجميع من أجلها، لقد أحبها بصدق من أعماق قلبه، واصر على الزواج منها رغم اعتراض أمه، حتى زوجته لم تكن ستوافق على الزواج منه إلا بعد أن تأكدت من صدق حبه له، وإصراره على الارتباط بها رغم كل الظروف، لقد كانت قصتهما مضرب المثل للحب الصادق، ولكن في العام الماضي فقط، بعد أكثر من عشر سنوات على زواجهم.. لا أدري ما الذي حصل.. لقد كانت صدمة لنا جميعاً.. لقد رحلوا من المنزل فجأة، وسمعنا أن الرجل طلق زوجته ليرتبط بامرأة أخرى.. لم نتوقع أن تكون تلك هي النهاية!
وأجهشت نغم بالبكاء مجدداً، حتى رنيم علا نحيبها هذه المرة، ودمعت عينا سلمى لمشهدهما، وهمّت بقول شيء؛ لكنها أمسكت لتترك المجال لنغم التي قالت بصوت باك:
– هذه أول مرة أتحدث فيها عن هذا الموضوع أمام أحد، حتى رنيم لم يسبق لي أن تحدثتُ معها في هذا الشأن منذ تلك الحادثة، رغم أنها جارتنا وتعرفهم جيداً، وأظنها تشعر مثلي أيضاً.. بل جميع الجيران.. كلنا نشعر هكذا ولا أحد يجرؤ على الكلام.. لقد تعبتُ يا آنسة من هذا الموضوع.. لماذا حدث هذا لهما.. لماذا.. إنهما شخصان رائعان.. ورغم كرهي للرجل في البداية، لكنني لا أنسى طيبته معي في صغري، والهدايا التي كان يتحفنا بها دائما.. لقد كان طيبا حقاً، ولا يمكنني تصديق ما حدث!!!!!!! كيف يمكننا تصديق أن رجل مثله قد تخلى عنها بعد أن وقفت إلى جانبه في أسوأ الظروف؟؟ لقد رضيت به رغم كل شيء، من أجل الحب الذي بينهما، وفي النهاية.. لا يمكنني أن أصدق ذلك أبداً.. كانت حالتها يرثى لها… لم أكن أريد تذكر هذا…
قالت جملتها الأخيرة بصعوبة، أما رنيم فقد كانت تحاول كتم أنفاسها الباكية، وهي تشهق بشدة، حتى تمكنت من التحدث، لعلها تزيح هي الأخرى ذلك الحمل الجاثم على قلبها دون أن تشعر:
– هذا صحيح يا آنسة، كل ما ذكرته نغم صحيح.. لم اتوقع أننا كتمنا كل هذا الألم في صدورنا طوال تلك المدة.. كنا نهرب من الواقع وحسب! هل تصدقي يا آنسة أن جارتنا تلك كانت تعطي دروساً عن الحب لكل الفتيات المقبلات على الزواج، بناء على طلبهن؟ لقد كانت مثلهن الأعلى في الحياة الزوجية السعيدة..
وتابعت نغم بألم:
– كيف لنا أن نشعر بالأمان بعد هذا كله يا آنسة؟؟ هل الحب مجرد كذبة خُدِعنا بها؟؟ ألا يوجد حب آمن في هذه الحياة!!
التقطت سلمى نفساً عميقاً وهي تحاول الحصول على إجابة شافية، لعلها تخفف بها عن هاتين الفتاتين هذا الألم الذي يصعب احتماله:
– هذا مؤلم جداً بلا شك، إنني أفهم هذا جيداً.. ولكن لا يوجد شيء بلا سبب، وإذا عرف السبب بطل العجب كما يقولون.. لنعد إلى بداية القصة، فرغم أنني لا أعرفهما، ولكن بحسب ما ذكرتِ يا نغم، أن أم الرجل لم تكن راضية على زواجه…
فأسرعت نغم تدافع عن الموقف قائلة:
– لم يكن الأمر كذلك بالضبط يا آنسة، فهو أعطى وعده للفتاة التي أحبها قبل أن يُخبر أمه، وكان مُصراً على الوفاء بوعده لها، وبالطبع عندما عرفت أمه بهذا؛ لم يكن أمامها سوى الرضى..
وتابعت رنيم الكلام موضحة:
– الأم فقط لم تكن مقتنعة أن تلك الفتاة مناسبة لابنها، ولكنه أثبت لأمه أنه يحبها ولن يرضى بغيرها أبداً، ولم تحاول الأم أن تقف في طريق ابنها أمام إصراره.. صدقيني يا آنسة، ليست المسألة أن الأم لم تكن راضية، فقد تقبلتْ زوجة ابنها بعد ذلك وانتهت المشكلة، حتى أنها ماتت قبل أن تعرف ما الذي حدث مع ابنها وزوجته بوقت طويل.. ربما كانت ستُصدم هي الأخرى؛ لو عاشت لترى ذلك الطلاق بعد أكثر من عشر سنين على زواجهما!!
هزت سلمى رأسها بتفهم، قبل أن تقول:
– الفكرة تكمن في طريقة تعاملنا مع الحب فقط، فالحب وحده لا يكفي.. إنه مثل النكهات الزكية التي تُضاف على الأطعمة، فهل يمكنكما إعداد وجبة حقيقية باستخدام النكهات فقط؟؟ أليست المكونات هي الأهم؟؟ أما إذا كانت المكونات صحيحة وكاملة، فعندها فقط ستضيف النكهات طعما ألذ واشهى للطبخ،أما الاعتماد على النكهات وحدها، في إعداد طعام جيد؛ فهذا أمر خاطيء لا يختلف عليه اثنان..
وكما ذكرتُ سابقاً، القلوب متقلبة، وما يحبه الانسان اليوم قد يكرهه غداً، والعكس صحيح، لذلك فالزواج الناجح لا يبنى على (الحب) وحده، لأن الحب متقلب ومتغير، وليست هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها عن قصص لأناس تزوجوا عن (حب) فقط، انتهت تجربتهم بالفشل الذريع.. لأنه لا يوجد اساس آخر لبناء حياتهم غير (الحب) وهو غير ثابت، فكيف يمكن لأشخاص أن يعلقوا حياتهم على أمر متقلب ثم يتوقعوا الاستمرار!! بينما لو كانت هناك ركائز أخرى غير (الحب) لكانت النتائج أفضل بكثير، (التفاهم، الاحترام، الكفاءة، الاهداف المشتركة، الخ) في هذه الحالة، حتى لو اختفى الحب أو تغير أو زاد أو نقص، لن تتأثر الحياة كثيرا وستستمر غالبا بإذن الله..
ذلك الرجل، ورغم أنه رجل جيد كما تقولون، ونحن لا نريد ذكره بسوء، ولكنه أخطأ بلا شك في البداية، فقد تسرع عندما أعطى كلمته لفتاة بمجرد أن أحبها، دون أن يُلقي بالاً أمه، أو يهتم لسماع رأيها أولاً، وتلك الفتاة أيضاً اخطأت عندما وثقت به لمجرد حبه لها، دون أن تأخذ بعين الاعتبار أن شخصاً لم يقدر تضحية أمه من أجل الحب، سيسهل عليه عدم تقدير أي امرأة بعد ذلك مهما كانت؛ لو ظهر له حب جديد!
عندما يفتر الحب- ولا بد للحب أن يفتر في بعض الفترات كما يزيد وينقص- ستظهر الحقائق واضحة، فإن لم تكن هناك ركائز قوية؛ انهار البنيان بطرفة عين!
صمتت سلمى قليلاً، فيما كانت نغم ورنيم تتابعان كلامها بانتباه، قبل أن تستأنف قائلة:
– والان لنضع مكان كلمة (الحب) كلمة (الحماسة) لعمل معين.. لو كانت الحماسة وحدها هي التي تدفعك لانتاج هذا العمل، فمن الصعب ضمان استمراره، لأن الحماسة متقلبة والنفوس تصاب بالملل.. ولكن لو كان هناك ركائز أخرى، فربما ساعدت على استمرار العمل بشكل أفضل
فلو كان لديك هدف كبير جدا لانتاج هذا العمل مثلاً، كمعالجة مشكلة كبيرة في المجتمع من أجل حياة افضل، أو ابتغاء رضى الله بهذا العمل والجزاء الاوفى منه في الاخرة، وما إلى ذلك، أمور كهذه تساعد على استمرار العمل حتى لو فقدتِ الحماسة، فبلا شك سيكون لديك دافع آخر لإكمال العمل..
ثم غزت نغم بعينها قائلة:
– وطبعا هذا العمل قد يكون تأليف قصة مثلاً..
فهتفت نغم بانفعال:
– هكذا إذن!! فهمتُ قصدك يا آنسة!!
وتابعت القول بحماسة:
– إذن سأبدأ بكتابة قصة هادفة تعالج مشكلة….
لكن سلمى استوقفتها قائلة:
– على مهلك يا نغم، عليك الوفاء بوعك أولاً وإكمال تلك القصة التي بدأتها..
فقالت رنيم بابتهاج:
– أجل.. قصة “ذات الوشاح الأزرق”، سيكون هذا رائعاً..
لكن التردد بدا واضحاً على وجه نغم، قبل أن تقول:
– ولكنها ليست قصة هادفة، إنها مجرد قصة عاطفية تشبه مانجا الشوجو..
فقرصت سلمى أذنها بدعابة قائلة:
– يمكنك إكمال القصة مع تعديل مسارها والإضافة عليها كما تريدين، فالمؤلف الحقيقي لا يعرف الاستسلام، أليس كذلك يا نغم؟
وكأن الفكرة راقت لنغم إذ سرعان ما أخرجت ورقة وقلما من حقيبتها، لتدون عليها شيئاًن فيما تهلل وجه رنيم قائلة:
– لقد جاءتها فكرة على ما يبدو.. شكرا لك يا آنسة، أظن أن المشاكل كلها قد حُلت دفعة واحدة..
في تلك الأثناء، انتبهت سلمى لمرور المديرة التي حيتها، وهي في طريقها لعبور البوابة الخارجية:
– آنسة سلمى! أما زلتِ هنا؟ ستُغلق البوابة، ما الذي تفعله هاتين الفتاتين حتى الآن؟؟
فابتسمت سلمى مطمئنة:
– كانت هناك مشكلة في فهم بعض الدروس، وقد انتهينا الآن والحمد لله..
فضحكت المديرة:
– لا بد أنها دروس الحياة مرة أخرى.. حسناً إلى اللقاء، أراك غداً إن شاء الله، انتبهي لنفسك جيداً..
**
اقتربت رنيم ونغم من المطعم المتفق عليه، فتساءلت نغم بقلق:
– هل تعتقدين أن ديمة وروان سيكونان بانتظارنا هناك؟؟ كان يُفترض أن نلتقي عند بوابة المدرسة، لا أريد العودة قبل حل المشكلة مع ديمة!
فطمأنتها رنيم:
– ربما انتظرتا فعلاً، ولكننا تأخرنا أكثر من المعتاد، إنني واثقة من أن روان ستتصرف، ولن تدع ديمة تعود غاضبة للمنزل بعد ما حدث..
ثم ابتسمت متابعة:
– روان لن تفوت هذه الفرصة، فمن النادر أن يسمح لها والديها التأخر بعد المدرسة، وستقنع ديمة بتناول الغداء معها على الأقل!
وما أن دلفتا إلى المطعم، وهما تقلبان ابصارهما في المكان، حتى أسرع نحوهما النادل قائلاً:
– هل تبحثان عن صديقتيكما؟ لقد قامتا بحجز طاولة في الطابق الثاني..
فابتسمت رنيم لنغم:
– ألم أقل لك.. روان ستتصرف..
وما أن صعدتا الدرج، حتى لوحت روان لهما بيدها منادية:
– نغم.. رنيم.. نحن هنا..
ثم التفتت إلى ديمة بابتسامة مرحة:
– ألم أقل لك، رنيم ستتصرف..
وبسرعة اتجهن تغم لديمة التي بدت مكفهرة الوجه قليلاً:
– ديمة حقا اعذريني، لقد أخطأتُ فعلاً وسأبذل جهدي للوفاء بوعدي هذه المرة..
فهتفت روان بفرح:
– الحمد لله وأخيراً..
وغمزت ديمة باسمة:
– هيا اعترفي.. جاء دورك..
فتنهدت ديمة وقد احمر وجهها، وهي تخرج كراسة من حقيبتها قائلة:
– حسناً وأنا أعتذر يا نغم، فقد تماديتُ في الكلام.. في الحقيقية لقد كنت متحمسة لقصة “ذات الوشاح الأزرق” كثيراً، حتى أنني جربت رسم شخصياتها بأسلوب المانجا، ولكن لا تضحكي على رسمي فلا زلتُ مبتدئة..
ولم تكد عينا نغم تقعان على الرسومات حتى عانقت ديمة بتأثر شديد:
– لا أعرف مذا أقول يا ديمة.. إنها أروع مفاجأة قد أتخيلها في حياتي.. حقا سامحيني.. أعدك أنني سأكون عند حسن ظنكم دائماً..
فيما هتفت رنيم قائلة:
– بسم الله ما شاء الله!! لم أكن أعلم أنك موهوبة يا ديمة!! أين كنتِ تخفين هذا كله طوال الوقت!! أم أن ينبوع الموهبة انفجر فجأة!!
فضحكت روان:
– الآن أصبح لدينا فريق مانجاكا متكامل، مؤلف ورسام واثنان من المساعدين..
فشاركتها رنيم الضحكة:
– أو اثنان من المشجعين، فلا أظننا نصلح للمساعدة بعد!!
فابتسمت ديمة بعد أن انقشعت الغمامة عنها:
– حسناً أيها الفريق المحترم دعونا نأكل قبل أن يبرد الطعام أكثر، بسم الله…
فيما قالت نغم بنبرتها الروائية المعروفة:
– وهكذا قررت ذات الوشاح الأزرق تناول الطعام مع رفيقاتها، قبل أن تكشف عن السر الخطير الذي بقي لأكثر من ثمانين عام طي الكتمان، في قبو القصر المهجور في جزيرة المرجان،….
**
انتهت..
قوس جديد !
عن القصة:
فتى وفتاة شكّلا فريقا لصناعة قصة مرسومة (مانجا) منذ الصغر، غير أن المستقبل لم يكن بالحسبان..
التصنيف: رومانسي، دراما، شريحة من الحياة

قضت زهرة- ذات التسعة عشر ربيعا- ذلك اليوم بأكمله في منزل أختها الكبرى (نورة)، لتساعدها في استقبال ضيوفها القادمين من الخارج! وبينما كانت منهمكة تماما في غسل الأواني بعد وجبة العشاء، في حين كانت السيدات يتجاذبن أطراف الحديث في الصالة؛ دخلت عليها فاتن- التي تصغرها بثلاث سنوات- وحيتها بلكنتها الأعجمية المميزة، قبل أن تطرح عليها سؤالها المباغت:
– أنت تعرفين زاهر منذ الطفولة، فهل أنتما مقربين لبعضكما البعض كثيرا؟
ارتجفت يدا زهرة من هول الصدمة، إذ لم تكن مستعدة لمفاجأة كهذه، حتى كاد الصحن أن ينزلق من بين يديها، فيما خفق قلبها بشدة، لتعود بها الذكريات لأكثر من عقد إلى الوراء!!
كانت في السابعة عندما التقت زاهر- الذي يكبرها بعامين فقط- لأول مرة، في حفل زواج شقيقتها الكبرى نورة من شقيقه الأكبر سامر! ورغم أنهما التقيا كثيرا بعد ذلك، خاصة في المناسبات الاجتماعية التي جمعت العائلتين، والتي اكتشفا خلالها الكثير من القواسم المشتركة بينهما، بداية من الاسم وانتهاء بالأفكار المشتركة؛ إلا أنها لا تزال تذكر جيدا ذلك اليوم الذي وطد علاقتهما أكثر، ليصبغها بصبغة خاصة، ضربت جذورها عميقا في نفسيهما معاً!
حدث ذلك بعد مرور عام من لقائهما الأول، عندما وضعت أختها أول حفيد لكلا العائلتين!
لم تستطع زهرة تمالك نفسها، وهي تتأمل ذلك المخلوق الصغير حديث الولادة، الملفوف بقطعة قماش مزركشة، في حضن والدته المستندة على سريرها في غرفة المستشفى! فأخذت تتحسس اصابعه الصغيرة وتهتف بحماسة:
– أصابع صغيرة جدا!! ما شاء الله ما الطفها!! أرجوك أختي.. دعيني أحمله! أرجوك.. أرجوك..
غير أن أمها نهرتها بلطف، وهي تحاول تهدئتها:
– زهرة كوني عاقلة، من الخطر حمل الأطفال في هذا السن!
وقبل أن تعبر زهرة عن اعتراضها؛ طرق باب الغرفة، فعلقت نورة:
– لا شك أنها خالتي أم سامر..
فهرعت زهرة لفتح الباب، لتجد زاهر واقفاً إلى جانب أمه والفضول يلتمع في عينيه، فبادرته بانفعال شديد:
– إنه صغير جدا، مثل الدمية تماما، ولكن من غير المسموح حمله!
فيما نهضت أمها للترحيب بوالدة سامر، التي القت التحية ببشر واضح، وهي تضع باقة زهور كبيرة مبهجة على الطاولة:
– الحمد لله على السلامة..
قبل أن تستدرك قائلة:
– أبو سامر خارج الغرفة الآن، أين سامر وأبو هيثم؟
فأجابتها أم هيثم- والدة نورة وزهرة- وهي تحكم وضع حجابها على رأسها:
– سامحكم الله، لماذا هذه الرسميات، دعيه يدخل، فنحن عائلة وهذه ابنته وحفيده..
واستطردت موضحة:
– سامر ذهب لإحضار بعض الحاجيات ولن يتأخر، أما أبو هيثم فقد جاءه اتصال هام من العمل، وخرج قبل قليل!
وبينما كان الكبار يتحدثون؛ انشغل زاهر وزهرة بتأمل الصغير عن قرب، وكأنهم يتفحصونه تحت المجهر، وهم يطرحون عشرات الأسئلة على نورة، التي كانت تحاول مجاملتهم بابتسامتها المتفهمة بين الحين والآخر!
قال زاهر بأمل:
– ما رأيكم أن تسمونه زاهر؟ فهو يشبهني، وأنا عمه..
لكن زهرة لكزته وهي تهمس بلسان امرأة ناضجة:
– هذا عيب، سيكون اسمه على اسم جده مراد طبعا، ألا تعرف العادات والتقاليد! ثم إنني خالته أيضا!!
فضحك أبو سامر وهو يستمع لهذه الملاحظة الصادرة عن طفلة لم تتجاوز الثامنة، قبل أن يعلق باسما:
– أنا اسقط حقي في ذلك، ولوالديه حرية اختيار اسم مناسب له..
فقالت نورة بنبرة ودودة:
– لقد اتفقنا على ذلك فعلاً أنا وسامر يا عمي، وأنت الخير والبركة، ثم إن “مراد” اسم جميل..
وأردفت امها مؤكدة:
– عسى الله أن يحقق مراده، ويجعله قرة عين لنا جميعا في الدنيا والآخرة..
وأمّن الجميع على دعائها، قبل أن يرن هاتفها، فنظرت إلى الشاشة قبل أن ترد باسمة:
– إنه هيثم، لقد انتهت محاضرته على ما يبدو..
وخلال حديث أم هيثم مع ابنها؛ عاد سامر وهو يحمل بيده عدد من الأكياس، فقبّل يدا والديه، وتبادل مع الجميع الأحاديث المرحة، قبل أن تستدرك أمه وقد تذكرت شيئا:
– ألم يحن موعد النادي يا زاهر؟؟
غير أن زاهر بدى مشغولا جدا بدراسة الوليد الجديد، فأجابها بعفوية:
– يمكنني التغيب اليوم..
فتدخل سامر قائلاً:
– أليس اليوم هو موعد البطولة! ألم تكن ترفض الذهاب إلى أي مكان خلال تدريبات التايكواندو العادية، وتقول بأنها مرتين في الاسبوع فقط! فهل ستتغيب عنها بسهولة الآن؟؟
وأضافت زهرة بجدية، فيما كان زاهر يحدق بالطفل:
– لا تخف يا زاهر، فالصغير لن يطير!
ورغم ضحكات الكبار لتعليقها ذاك؛ إلا أن عينا زاهر التمعت فجأة، فالتف إليها بنظرات ذات معنى:
– ما رأيك أن تأتي معي أيضا؟ هناك الكثير من الفتيات في النادي، ولطالما أردتِ أن تشاهدي تدريباتنا هناك!
غير أن زهرة اعترضت بسرعة:
– ليس اليوم، ربما في وقت آخر..
فغمزها زاهر بمكر:
– ولماذا ليس اليوم؟ فالصغير لن يطير، كما تقولين!
عندها تدخل أبو سامر ليضع حدا لذلك الجدل:
– هيا يا زاهر، ستتأخر.. ألم تقل ان لديك اليوم مباراة هامة، سآتي معك لمشاهدتها..
واضافت أمه:
– وسآتي معك ايضا..
ثم التفتت إلى أم هيثم التي انهت المكالمة للتو، قائلة:
– ساذهب مع أبو سامر لنادي التايكواندو لتوصيل زاهر..
ورغم أن أم هيثم لم تكن قد استمعت للحوار الذي دار قبل قليل؛ إلا أنها قالت لأم سامر:
– هل بإمكانكم أن تأخذوا زهرة معكم؟ فسأكون منشغلة مع نورة خلال…
وقبل أن تكمل كلامها؛ هتف زاهر بسعادة، وهو يقفز راكلاً الهواء بقدمه، معبراً عن انتصاره:
– رااااائع!
ولم تجد زهرة بد من حضور تلك البطولة، التي لا زالت حاضرة أمام ذهنها، وكأنها تشاهدها أمام عينيها مباشرة، حتى بعد مرور تلك السنوات..
كانت زهرة مبهورة تماما برؤية تلك الحركات المذهلة، حتى أنها نسيت الطفل الصغير تماما، خلال تشجيعها لزاهر بحماسة منقطعة النظير! حتى إذا ما حاز على المركز الأول في النهاية؛ شعرت وكأنها هي من أحرزت ذلك الانتصار!
لم تمضِ سوى أيام قليلة بعد ذلك، حتى اجتمع الاثنان مرة أخرى في بيت سامر ونورة، فاشارت زهرة إلى زاهر أن يتبعها للصالة الداخلية هامسة:
– سأريك شيئاً، ولكن عدني ان لا تضحك عليه!
وأمام رغبة زاهر العارمة بمعرفة ذلك الشيء، أكد لها باهتمام شديد:
– بالطبع لن أضحك! هل هي رسمة جديدة من رسوماتك؟
فأومأت زهرة برأسها باسمة:
– أجل، ولكنها هذه المرة مختلفة..
ثم قالت:
– أغمض عينيك أولاً!
وبعدما نفذ زاهر طلبها؛ أخرجت لوحة من تحت وسادة الكرسي- كانت قد خبأتها هناك- ثم عرضتها أمامه على بعد ذراع واحد من وجهه، قبل أن تقول:
– افتح عينيك الآن!
لم يكد نظر زاهر يقع على تلك اللوحة، التي صورت فيها زهرة إحدى المشاهد القتالية، المستلهمة من حركات التايكوندو؛ حتى هتف بتأثر شديد:
– ما شاء الله!!! مذهل جدا!! انت رائعة يا زهرة!! لقد تطور رسمك كثيرا ما شاء الله! انك محترفة بمعنى المكلمة!
وأخذ اللوحة ليتأملها بحرص شديد:
– رائعة جدا.. مذهلة جدا.. لا أدري ماذا أقول أكثر!! كأنني اشاهد المقاتل النبيل!
ثم قال فجأة:
– زهرة!! ما رأيك أن نقوم بتأليف قصة مصورة معاً! أنا سأخبرك بأحداث القصة، وأنت ترسمينها، مثل الرسوم المتحركة!
فهتفت نورة بانفعال:
– فكرة رائعة، أنا موافقة طبعا..
ثم صمتت قليلا قبل أن تسأل:
– ماذا سيكون عنوان القصة؟ الفارس النبيل مثلا؟
فرد زاهر:
– كلا، هذا سيكون مشابه للمقاتل النبيل، ثم إن البطل لن يكون فارساً، بل لاعب تايكوندو محترف، يساعد الأخيار ويهزم الاشرار!
بدت الحماسة على وجه زهرة:
– لقد تشوقتُ فعلا لرسم القصة الآن، ولكننا بحاجة لمعرفة العنوان أولا!
خيم صمت عليهما لوهلة، قبل أن يقول زاهر:
– “البطل المغوار”.. سيكون هذا هو عنوان القصة!
فسألته زهرة:
وماذا يعني مغوار؟
فأجابها زاهر:
– يعني شجاع ولا يخاف من الأخطار!
فما كان من زهرة إلا أن ابدت إعجابها الشديد قائلة بانبهار:
– البطل المغوار، لا يخاف من الأخطار، يساعد الأخيار، ويهزم الاشرار.. إنها تبدو كنشيد جميل!
فأوضح زاهر، وهو يستعرض معلوماته الأدبية، قائلاً:
– إنها جمل قصيرة على الوزن نفسه.. وستكون هذه هي البداية.. وسيكون اسم البطل “فارس”، فما رأيك الآن؟
انتبهت زهرة من سيل ذكرياتها تلك على سؤال فاتن، الذي أعادته للمرة الثانية بطريقة أخرى، وبالحاح شديد:
– هل علاقتكما مقربة جدا إلى هذا الحد؟ من الواضح أنك تحبينه، أليس كذلك؟
شعرت زهرة بحرج شديد لسماع ذلك بشكل مباشر، فحاولت تدارك الموقف قبل ان تفلت الأمور من يدها، قائلة:
– ما الذي جعلك تقولين شيئا كهذا؟ نحن مجرد فردين من عائلتين جمعهما النسب، ولا يوجد بيننا أي شيء خاص كما تظنين، فنحن من عائلات عربية محافظة يا عزيزتي، وليس من المعتاد أن تكون هناك صداقة خاصة بين شاب وفتاة! بل إننا نعتبر هذا غير لائق في مجتمعنا!
حتى إذا صدف والتقينا في أي مكان، فلا يوجد بيننا أي حديث خاص!
أبدت فاتن تعجبها الشديد مما سمعته، متمتمة:
– غريب!!
ثم استطردت قائلة:
– ولكنكما تذهبان للجامعة نفسها، أليس كذلك؟
فأوضحت زهرة:
– هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، فحتى إذا التقينا لأي سبب من الاسباب، فلا يوجد بيننا أكثر من الأحاديث العامة، في حدود الضرورة فقط!
ورغم الارتياح الذي ظهر على وجه فاتن، إلا أنها تساءلت باهتمام:
– هل هذا يعني أن الفتاة التي تحدث أحد اقربائها غير المحارم؛ تعتبر فتاة غير محترمة؟
فاسرعت زهرة تنفي ذلك، قبل أن يحدث سوء فهم غير محمود العواقب:
– كلا، أنا لم أقل هذا ابدا، ولكن هناك حدود لكل شيء!
فتنهدت فاتن:
– أشعر أن هذا نوع من التعقيد الذي لا أفهمه! أنتِ تعرفين أنني سأنتقل للعيش هنا، بعد أن قرر والداي العودة لأرض الوطن! صحيح أنني سألتحق بمدرسة أجنبية، نظام التدريس فيها مشابهة لما اعتدتُ عليه، إلا أنني لا زلتُ أشعر بالغربة هنا! وقد طلبتُ من ابن خالتي زاهر أن ياخذني في جولة لجامعته، لكنه أخبرني أنه من الأفضل أن اذهب معك، فأنت في الجامعة نفسها!
خفق قلب زهرة بقوة لسماع ذلك، ولسان حالها يقول:
– هل قال زاهر ذلك حقاً!!
لكنها سرعان ما استدركت بابتسامة مرحة، لتخفي حقيقة مشاعرها:
– هذا طبيعي يا عزيزتي، فكما أخبرتك، ليس من المعتاد أن يسير شاب بصحبة فتاة هكذا؛ دون أن يثيرا حولهما الشبهات!
**
شعرت زهرة بمسؤولية كبيرة تجاه فاتن، وكأنها أختها الصغرى التي تحتاج لرعاية حقيقية، قبل أن تغرق في مجتمع لا تعرف عنه شيئاً، خاصة وأنها وحيدة والديها! فحرصت أن تكون جولتهما الاولى ممتعة ومفيدة في الوقتِ نفسه، ولم يخفَ على زهرة الشعور ببهجة فاتن في تلك الجولة؛ مما اشعرها بالارتياح التام، لا سيما وقد انسجمتا تماما، وكأنهما تعرفان بعضهما البعض منذ فترة طويلة! غير أن هناك شيء وحيد كان يؤرق زهرة بشدة! فعلى ما يبدو؛ استطاعت فاتن كسر الحواجز بينها وبين زاهر.. بعفوية وسهولة!
بدت زهرة شاردة الذهن تماما، وهي تحدق بالطريق من خلال نافذة الحافلة، فيما كان عقلها يسترجع حديث فاتن ويحلله، بعد أن أصبح زاهر محور اهتمامها الأول والأخير! فقد أخبرتها فاتن بنبرة لا تخلو من ضيق:
– لقد قال زاهر بأن الحجاب فريضة على كل مسلمة، فهل تعتقدين أنه منزعج مني لأنني غير محجبة؟ ولكنني لا أزال في السادسة عشر من عمري فقط!
وبينما كانت زهرة تستذكر كلام فاتن ذاك بألم؛ طرق سمعها حديث دائرٌ بين فتاتين تجلسان خلفها في الحافلة:
– لا تكوني حمقاء، عليك أن تتخذي خطوة جادة حيال ذلك، حاولي أن توصلي مشاعرك إليه بأي طريقة، قبل أن تسرقه فتاة أخرى، فالفتيات جريئات هذه الأيام ولن تفيدك هذه القيم والمباديء التي تتحدثين عنها! إنه حب حياتك ومن الغباء أن تتجاهلي ذلك.. ستندمين..
عندها.. شعرت زهرة باختناق شديد، وألم حاد في صدرها، ورغبة عارمة بالبكاء، غير أنها جاهدت في كتمان ذلك كله، خشية أن تلفت أنظار الركاب نحوها، فيما رددت بصدق:
– يارب.. استودعتك قلبي، فاحفظني بحفظك، ولا تفتني في ديني..
**
دخلت زهرة إلى غرفتها- بعد أن ألقت التحية على والدتها، وتبادلت معها بضع الكلمات- ثم أخرجت صندوقاً من تحت سريرها، كانت تحتفظ فيه بحاجياتها الثمينة، وتأملت آلة التصوير القديمة، الموضوعة فيه بعناية، فيما انسالت الدموع غزيرة على وجنتيها، بعد أن هجمت عليها موجة من تلك الذكريات..
كانت متحمسة جدا لرسم مشاهد قصة “البطل المغوار” التي ألفها زاهر، لكنها شعرت بصعوبة في رسم خلفية مناسبة لأحد المشاهد، وبعد أن أخبرته بذلك؛ ما كان منه إلا أن طمأنها بقوله:
– لا تقلقي.. يمكنك تأمل الأماكن حولك، واقتباس الخلفية المناسبة مما ترينه! وسأساعدك في ذلك طبعا..
ثم أطرق رأسه وهو يتجول بالغرفة بتفكير عميق، قبل أن يفتح النافذة مشيراً إلى حديقة أحد المنازل، قائلاً:
– ما رأيك بهذه الحديقة؟
فصنعت زهرة إطارا بأصابعها الأربعة- الابهام والسبابة من كل يد- ونظرت من خلالها قائلة:
– ستكون شجرة الليمون في الزاوية اليمنى من الصفحة، يليها المنزل، في حين تغطي الساحة العشبية المقدمة، حيث يقف البطل المغوار، في مواجهة ذلك اللص..
وبدى الرضى على وجهها، فقالت بمرح:
– ممتاز.. أظن أن الخلفية اصبحت واضحة الآن! شكرا لك زاهر، سأستخدم هذه الطريقة من الآن فصاعدا، إنها تشبه النقل من الصور الفوتوغرافية!
ولم يمض على ذلك سوى يومين، حتى فاجأها زاهر بهدية مغلفة، بحجم صندوق صغير، قائلاً لها بابتسامة ودودة:
– إحزري ماذا احضرتُ لك؟
وأمام دهشتها الشديدة، أخرج لها آلة تصوير جديدة، قائلاً بابتهاج:
– ستفيدك هذه كثيرا برسم الخلفيات، فهل أعجبتك؟
أمسكت زهرة آلة التصوير بحذر، وكأنها في حلم تخشى الاستيقاظ منه:
– هل هذه لي؟
فأومأ زاهر رأسه بالايجاب:
– أجل، الم تعجبك؟
فردت زهرة بسرعة:
– بالطبع أعجبتني، ولكن.. من أين حصلت عليها، وهل أمك تعرف عن ذلك؟ لا شك أنها باهظة الثمن!
عندها ابتسم زاهر بفخر:
– لقد اشتريتها من مدخراتي بالكامل، وأمي لم تمانع بالطبع، فهي تعرف عن مشروعنا المشترك..
كانت زهرة غارقة تماما في سيل ذكرياتها، عندما سمعت صوت طرق على الباب، فدست آلة التصوير في الصندوق بسرعة، وأدخلته تحت السرير، قبل ان تجيب بابتسامة مصطنعة:
– تفضل..
فإذا بابنة أخيها هيثم- ذات السنوات الست- تدخل مندفعة نحوها بحبور:
– عمتي عمتي.. انظري ماذا أعطتني المعلمة..
**
بدت نورة مترددة قليلاً، قبل أن تبدأ حديثها، الذي جاءت خصيصاً من أجله:
– لا أعرف ماذا أقول يا أمي، ولكنني قلقة جدا على زهرة! لقد حاولتُ التظاهر بعدم فهمي لمغزى سؤالها؛عندما حاولت ان تستشف مني علاقة زاهر بفاتن، وإن كان لا يمانع بالحديث معها بحرية!! أخشى أن تصاب بصدمة عاطفية لا قدر الله! حقا لا أدري ما الذي عليّ فعله!
لم تستطع الأم إخفاء قلقها مما سمعته، فسألتها بتوجس:
– هل قالت حماتك أي شيء بهذا الخصوص؟
فهزت نورة رأسها نفياً:
– أكاد أجزم أنها لا تحبذ ارتباط ابنها بفاتن، فلطالما لمّحت لي عن زهرة! المشكلة ليست في الحماة، بل في زاهر نفسه، فعلى ما يبدو أنه قد أصبح مهتما بالفعل بأمر فاتن، ومع ذلك لم أجرؤ على قولها لزهرة بوضوح!!
فتنهدت أمها:
– ليس بيدنا فعل شيء غير الدعاء، وأسأل الله أن يختار لأختك الخير..
**
ما أن رأى زاهر صديقه مقبلاً نحوه في المكان المتفق عليه؛ حتى هب نحوه مرحباً:
– رائد، وأخيراً.. كيف حالك يا رجل، لم أرك منذ فترة طويلة، رغم أننا في الجامعة نفسها!
فصافحه رائد بحرارة:
– الحمد لله، لقد شغلتنا الدراسة فعلاً، وبالكاد أخرج من نطاق كليتي!! ما هي أخبارك أنت، وما هو هذا الأمر الطارئ الذي استدعيتني لأجله؟
فابتسم زاهر:
– ألا تجلس أولاً يا أخي، فأنا لم أرك منذ قرون! لقد سمعتُ أنك اصبحتَ تعمل مدربا في نادي التايكواندو بدوام جزئي، لقد أعاد هذا لي الذكريات فعلاً..
وبعد أن تبادل الاثنان الأحاديث العامة، حث رائد صديقه على الدخول بالموضوع الرئيس قائلاً:
– أخشى أن يداهمنا الوقت دون أن نحقق الهدف الاساسي من هذا اللقاء!
فتنهد زاهر ووضع رأسه بين يديه، قبل أن يقول:
– رائد.. أريد أن أسألك سؤالاً شخصياً، ولا أريدك أن تسيء فهمي، فإجابتك هامة جدا بالنسبة لي..
والتقط نفسا قبل أن يتابع:
– هل تذكر تلك الفتاة التي كانت تشاركنا تدريبات التايكوندو عندما كنا صغاراً؟ أظنها ابنة جيرانكم، فقد كنتم تأتون وتذهبون معاً، صحيح؟
فرد رائد:
– تقصد راما؟ أجل كانت ابنة جيراننا، ماذا بشأنها؟ لقد تزوجت قبل شهرين!
لم يكد زاهر يسمع ذلك؛ حتى صرخ بانفعال:
– تزوجت!! هل أنت جاد؟؟ ولكنك كنتَ تحبها جدا! لا يمكنك إنكار هذه الحقيقة، فقد كانت واضحة كالشمس! فلماذا تركتها لغيرك؟!! لماذا يا رائد، لماذا؟؟ أنا متأكد من أنها لم تكن لترفضك أبداً!
وبدت خيبة أمل كبيرة على وجه زاهر، وهو يتابع كلامه بإحباط شديد:
– كنت أريد الاستفادة من تجربتك، فقد توقعت أنك أقدمتَ على خطبتها فعلاً، أو قرأتم الفاتحة على الأقل! لقد كنتَ أنت أول من خطر ببالي، عندما شعرتُ بشيء مشابه!
فأجابه رائد بتفهم:
– أقدر شعورك يا صديقي، كلامك صحيح، لقد أحببتها بصدق حقاً، ولكنني لستُ نادم! فلم أكن مستعدا للارتباط حتى أتقدم لخطبتها! ولم أشأ أن أعلقها بأوهام قد لا تتحقق! كنتُ أنوي الحصول على عمل مناسب أولاً؛ لتأمين المتطلبات الاساسية، وأكون على قدر المسؤولية، وقد بدأتُ فعلاً بالعمل في دوام جزئي قبل التخرج، لتحقيق هذا الغرض، ولكن قدر الله وما شاء فعل!
فقال زاهر بضيق، وكأنه هو من فاتته تلك الفرصة:
– لو أنك لمّحت لها على الأقل بأنك تنوي خطبتها لانتظرتك بلا شك!
فاعترض رائد بقوله:
– ولماذا أعلق الفتاة؟ لماذا أسبب لها خلافاً مع أهلها؛ إن تأخرتُ عليها أو أتاها شخص مناسب خلال فترة انتظارها لي!! ليس من المروءة فعل ذلك أبداً، بل إنني اراها أنانية صرفة مني، ولن أرضى بأن أكون ذلك الوغد، الذي يتلاعب بمشاعر فتاة دون وجه حق! وكما أخبرتك، لستُ نادما على قراري البتة، فزوجها رجل فاضل كما سمعت، وهي تعيش الآن حياة مستقرة معه، وأرجو لهما السعادة من كل قلبي..
فأطرق زاهر رأسه متمتماً:
– هذه مثالية مبالغ فيها منك، ويستحيل أن أكون مثلك..
وخيّم عليهما صمت ثقيل، قطعه رائد بسؤاله:
– دعك الآن مني، فقد أخبرتك كل شيء، فماذا عنك أنت؟
فزفر زاهر بضيق:
– لا أدري ماذا أقول، فأنا في حيرة من أمري! ولن أحتمل تفويت الفرصة مثلك!
والتقط نفساً عميقا قبل أن يستأنف:
– ربما سأتمكن من إيجاد عمل مناسب بنهاية هذه السنة، فتخرجنا بات وشيكاً، ولكن المشكلة أن الفتاة لا زالت في المدرسة، ولا أدري إن كان الأهل سيتقبلون فكرة الخطوبة..
بدت الدهشة على وجه رائد، فسأله بتعجب:
– في المدرسة؟؟ حسب ما أذكر أنها تصغرك بسنتين فقط!
فما كان من رائد إلا أن بادله نظرات الدهشة نفسها، متسائلا بتعجب:
– عمن تتحدث؟
فرد رائد:
– ألا تقصد تلك الفتاة التي كانت تشاركك مشاريعك في كتابة القصص المرسومة؟
عندها فهم زاهر قصده، فابتسم قائلاً:
– لا شك أنك تقصد زهرة، شقيقة زوجة أخي، اليس كذلك؟
فأجابه رائد:
– بالطبع، ومن غيرها؟ لقد كنتَ تتحدث دائماً عنها، وعن مشاريعكما، كما أذكر أنها كانت تأتي لتشجيعك في بطولات التايكوندو!
فتنهد زاهر:
– أجل هذا صحيح، كان ذلك في الماضي عندما كنا صغاراً، أما الآن فلا يوجد شيء مميز بيننا، إنني أتحدث الآن عن ابنة خالتي…
غير أن رائد قاطعه بانفعال مفاجيء غير متوقع:
– وماذا عن تلك القصة؟ لقد صنعتم منها عدة فصول حسبما أذكر، فهل اكملتموها؟
فضحك زاهر:
– تقصد قصة البطل المغوار؟ إنها مجرد قصة طفولية، فمن يأبه بها..
غير أن رائد تابع كلامه بجدية:
– ألم تقل ذات مرة بأن لكتابة القصص رسالة وهدف كبير؟
فحملق فيه زاهر لوهلة، قبل أن يعلق باسما:
– هل قلتُ ذلك حقا؟ يبدو أنني كنت مثالياً أيضا!
قال جملته تلك وانفجر ضاحكاً، فيما لاذ رائد بالصمت، إلى أن استأنف زاهر كلامه:
– آسف لازعاجك يا صديقي، ولكنني بالفعل لم أعد مهتما بتلك القصص، ولا اظنها مهتمة بها أيضا! فقد كبرنا..
فقاطعه رائد:
– وما أدراك أنها لم تعد مهتمة بتلك القصص؟ ثم إن الأمر لا يتعلق بالقصص وحدها، فلطالما كنتَ تتحدث عن أخلاقها وأدبها، حتى أنك بدوتَ معجباً جدا بها ذات يوم!
فتنهد زاهر:
– ربما كنتُ معجباً بها.. فهي بالفعل تكاد أن تكون فتاة مثالية من كافة الجوانب، فهي على درجة عالية من الأخلاق بشهادة الجميع، ولكنني لا أشعر نحوها بانجذاب خاص مقارنة بابنة خالتي!
فأجابه رائد بتفهم:
– هذا لأنها فتاة محافظة، فهل كنت تتوقع منها أن تُقدم على تصرفات تثير اهتمامك؛ حتى تنجذب نحوها مثلا؟
وصمت قليلاً قبل أن يتابع:
– لا أريدك أن تندم يا صديقي، أو تتسرع باتخاذ قرار غير محسوب العواقب، فنحن أصدقاء منذ زمن طويل، وأعرفك بشكل كبير، أكثر مما تتخيل!
تأثر زاهر لتلك النبرة الصادقة في لهجة صديقه، فقال بامتنان:
– أقدر اهتمامك يا صديقي العزيز، ولكن قلبي قد تعلق بالفعل بابنة خالتي، وأخشى أن افقد السيطرة على نفسي، أو ارتكب محظورا لا قدر الله، لذلك فكرتُ بأمر الخطوبة!
وبتفهّم كبير وتعاطف واضح، قال رائد:
– كان الله بعونك، ولكن ما كان عليك أن تترك نفسك حتى تصل إلى هذا الحد يا زاهر! وقدر الله وما شاء فعل!! على كل حال، من الأفضل أن تستشر والديك، فلا أظنني أمتلك النصيحة المناسبة لك، وأسأل الله لك التوفيق..
**
رأت زهرة نفسها في ثوب زفاف أبيض، وسط زغاريد العائلة وأهازيجها المبهجة، فيما همس زاهر بأذنها بحب:
– وأخيراً اجتمعنا يا حبيبتي، لطالما انتظرتُ هذه اللحظة بفارغ الصبر! يمكننا إكمال قصتنا الآن بلا قيود، فهل لا زلتِ تحتفظين بالصفحات السابقة؟
غير أن الواقع سرعان ما تكفل بتمزيق ذلك الأمل إلى أشلاء مبعثرة؛ ليوقظها من أحلامها الوردية على صوته المرير:
“خطوبة زاهر وفاتن؛ تم إعلانها أخيرا، وسيتم تحديد موعد الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة قريباً”!
لم تدرِ زهرة، من أين سمعت الخبر، أو كيف عرفت عنه أول مرة ولأولى، لكنها كانت حريصة أشد الحرص أن لا يبدو عليها أدنى “تأثر” جراء ذلك! فعادت إلى منزلها، وهي تحاول السيطرة على مشاعرها، والتظاهر باللامبالاة المطلقة، فألقت التحية على والدتها بابتسامة زائفة، وهمت بالذهاب إلى غرفتها كالعادة؛ غير أن أمها استوقفتها قائلة:
– لا داعي لأن تغيري ثيابك، فقد سمعت عن افتتاح محل جديد للمشروبات المثلجة، وأريدك أن ترافقيني إليه، فوالدك سيتأخر اليوم في العمل، وستكون فرصة لتغيير الجو من أعباء المنزل!
ورغم أن زهرة لم تكن بمزاج يسمح لها بالخروج؛ لكنها لم تكن لتعارض رغبة والدتها، فوافقت قائلة:
– حسناً أمي، سأصلي العصر فقط، وسأكون مستعدة بعد ذلك، إن شاء الله..
ورغم حرص زهرة، على الظهور أمام والدتها بمظهر طبيعي؛ إلا أنها لم تكد تضع جبهتها على الأرض- في وضعية السجود- حتى سالت دموعها بغزارة، لتبلل سجادة الصلاة، وهي تبثها كل ما يعتريها من حزن وألم..
**
اختارت والدة زهرة طاولة تطل على حديقة ورد متعددة الالوان والأشكال، ثم سحبت أحد المقاعد وجلست إلى جانب زهرة أمام الطاولة، قائلة:
– سبحان الخالق! أليس المنظر بديعاً!
فابتسمت زهرة:
– بالفعل مكان رائع جدا ما شاء الله! سبحان الله!
فتحت الأم قائمة المشروبات، وأخذت تستعرضها مع زهرة بصوت عال؛ قبل أن تشير بإصبعها إلى أحدها قائلة:
– “مشروب الفانيلا المثلج بالكريمة”.. ما رأيك؟ أنتِ تحبين نكهة الفانيلا..
فعلقت زهرة وهي تتأمل القائمة:
– إنه باهظ الثمن بشكل غير معقول!
فضحكت أمها:
– دعينا الآن من التفكير بهذه الأمور المزعجة، فهذه الفرصة لن تتكرر كل يوم! كانت جدتك رحمها الله تقول “ساعة الحظ لا تفوّتها”..
لم يستغرق إعداد الطلب وتقديمه أكثر من بضع دقائق، تبادلت خلالها الأم وابنتها ملاحظاتهما حول المكان، ولم تكد زهرة ترشف الرشفة الأولى من مشروبها؛ حتى هتفت بانتعاش:
– ما شاء الله!!!! لذيذ جدا!!
فعلقت أمها وهي ترتشف بضع رشفات من كأسها هي الأخرى:
– الحق يُقال، إنه يستحق ثمنه بجدارة!
وبينما هما كذلك، إذ قالت الأم فجأة:
– ما أخبار قصتك المرسومة؟ كنتِ تلتقطين الصور للمناظر المختلفة، من أجل رسمها، وأظن أن هذا المنظر يستحق التصوير، فما رأيك؟
فردت زهرة باقتضاب:
– صحيح إنه منظر جميل..
فعلقت أمها باهتمام:
– لم أرك ترسمين منذ فترة، ألا تنوين إكمال القصة؟
فتنهدت زهرة، وآثرت الصمت، فما كان من أمها إلا أن أخرجت ورقة وقلم من حقيبتها، وكتبت عليها قليلا؛ قبل أن تريها لزهرة، قائلة:
– ما رأيك بهذه؟ هل يمكنك ايجاد الجواب الصحيح؟
تناولت زهرة الورقة، وأخذت تتامل ما كُتب عليها بتمعن:
7) x 4 – 3)] x 2 + (3+2)]}
ثم قالت:
– الأقواس غير مغلقة، ولا يمكنني الجزم بالاجابة!
فأومأت الأم موافقة:
– هذا صحيح، ولو أدخلتِها بالآلة الحاسبة هكذا، لما أعطتك أية نتيجة!
صمتت الأم قليلاً قبل أن تتابع:
– هذا ينطبق على حياتنا أيضا يا ابنتي، فإن قمنا بفتح الأقواس فقط دون التفكير بإغلاقها، لبقينا معلقين فقط؛ دون إحراز أي نتائج أو إنجازات تُذكر! عليك أن تغلقي الأقواس دائماً حتى تحصلي على الحل، ومن ثم سيكون بإمكانك أن تفتحي قوس جديد!
خيم صمت لوهلة، قطعته زهرة بقولها:
– أفهم ما تعنيه يا امي، ولكن لا يمكنني إكمال القصة وحدي، فقد كان زاهر..
وغصت الكلمات بحلقها، وتهدج صوتها وهي تحاول المتابعة:
– هو من يكتب القصة وأنا أرسمها وحسب!
بذلت الأم جهدا اضافيا في حبس دموعها، وحمدت الله الذي ألهمها الجلوس في ذلك الموقع إلى جانب ابنتها، بحيث لا تواجه إحداهما الأخرى، ثم قالت بهدوء:
– أنا لم أقل أن عليك اكمال القصة وكتابتها، أغلقي قوسها وحسب!
أثارت تلك الملاحظة اهتمام زهرة، فسألتها بفضول:
– وكيف أغلق قوسها؟ ماذا تقصدين يا أمي؟!
فابتسمت الأم:
– اصنعي نهاية للقصة.. ضعي خاتمة فقط!
وصمتت الأم لتترك لها مساحة للتفكير، قبل أن تُخرج من حقيبتها هدية مغلفة، ناولتها لها مشجعة:
– قد تساعدك هذه في المهمة، هيا افتحيها يا حبيبتي..
اغرورقت عينا زهرة بالدموع، وهي تشاهد آلة التصوير الحديثة، التي فاجأتها بها أمها، معلقة:
– لقد أصبحتْ آلتك السابقة قديمة، وهذه آلة رقمية مطورة، وبها مميزات كثيرة..
فما كان من زهرة إلا أن نهضت من مقعدها، وعانقتها بتاثر شديد، وهي تجهش بالبكاء، غير مبالية إن ما كان هناك أحدٌ حولهما:
– أحبك يا أمي.. لا حرمني الله منك أبدا.. وإن شاء الله أكون عند حسن ظنك دائماً..
وانسابت الدموع غزيرة من عيني الأم وهي تحتضن فلذة كبدها، وقطعة قلبها، هامسة بحب:
– أنت فتاة طيبة يا حبيبتي، وقلبي راضٍ عنك، وأسأل الله أن يرسل لك من يستحقك ويسعدك..
ثم ربتت على كتف ابنتها برفق:
– هيا.. ألن تلتقطي صورة لهذا المنظر الجميل أمامنا؟
مسحت زهرة دموعها، وابتسمت وهي تحاول السيطرة على أنفاسها المتلاحقة أكثر:
– بالتأكيد يا أمي، ولكن قبل ذلك.. أريد أن نلتقط صورة لنا معاً..
**
وضعت زهرة هاتفها في حقيبتها، بعد أن أعلمت والدتها بأنها ستتأخر قليلاً في الجامعة..
كانت تشعر برغبة كبيرة في خلوة تقضيها مع الطبيعة، تفكر خلالها بهدوء وعمق، بعد أن عقدت العزم على وضع نهاية لتلك القصة، مهما كلف الأمر! شعرت بانتعاش عجيب، وهي تسير بين أشجار الصنوبر العملاقة، خاصة وقد بدأت ساحات الجامعة وطرقاتها تخلو من الطلبة، مع نهاية الدوام الرسمي..
أخذت تتأمل الأشجار والنباتات حولها، وكأنها تراها لأول مرة، رغم أنها تمر من بينها تجاه كليتها كل صباح! وإذ ذاك أخرجت آلة التصوير الجديدة، وبدأت بالتقاط الصور بسعادة غامرة، حتى عثرت على مقعد خشبي يتماشى مع أجوائها الملهمة، فاسترخت عليه- بعد أن القت حقيبتها إلى جوارها- وأسندت ظهرها ملقية برأسها إلى الخلف، متأملة أغصان الشجرة المتشابكة فوقها، فيما أرخت سمعها لأروع سيموفونية قد تسمعها في ذلك المكان، من اداء تلك العصافير الصغيرة بديعة الالوان!
وبعد أن حلقت في أجواء من السلام النفسي العجيب؛ أخرجت صفحات مرسومة من حقيبتها، وبدأت تتأملها بروية..
لقد تحسن رسمها كثيرا، مقارنة بالمرة الأولى التي بدأت فيها العمل على هذه القصة!
بذلت جهدا كبيرا في استخراج فكرة مناسبة للخاتمة، وأخذت تخط بعض الخربشات على ورقة بيضاء، أسندتها فوق تلك الصفحات المرسومة على حجرها، لكنها لم تعثر على شيء مميز! فتنهدت بضيق:
– لو أنني أعرف فقط كيف كان زاهر يحصل على الأفكار!
وما أن طرق “زاهر” ذهنها؛ حتى شعرت بوخزة ألم في صدرها، سرعان ما طردتها من رأسها بقوة، فتفلت عن يسارها ثلاثاً، مستعيذة بالله من وساوس الشيطان، مذكرة نفسها:
– لقد وعدتُ أمي.. سأضع نهاية لهذه القصة، إن شاء الله.. فيارب.. ساعدني..
ونهضت من مكانها، وأخذت تتمشى قرب المقعد جيئة وذهاباً، ثم حملت حقيبتها على كتفها، فيما أمسكت الأوراق بيدها، وأخذت تسير ببطء وسط غابة أشجار عملاقة، في الجزء الشمالي من ساحة الجامعة المترامية الأطراف..
لم تدرِ زهرة كم قطعت من مسافات؛ قبل أن يطرق سمعها نعيق الغربان.. لم تلقِ بالاً للأمر في البداية، لكنها فوجئت بها وهي تقترب منها دون خوف، محلقة فوق رأسها باهتياج، فأوجست في نفسها خيفة:
– هل يعقل انها ستهاجمني مثلا!
عندها.. حاولت أن تسرع في مشيتها، غير أن الغربان قد بدأت بشن هجومها فعلاً، فأخذت تطير نحوها من كل اتجاه، فيما حاولت زهرة خفض رأسها أثناء جريها، كلما أحسّت باقترابهم منها.. لقد شعرت بالخوف الحقيقي في هذه الجامعة، لأول مرة!
كانت زهرة تجري بكل قوتها، وهي تلوح بالاوراق في الهواء، خافضة رأسها، لعلها تبعد الغربان عنها، فلم تنتبه للصخرة الصغيرة أمامها، فتعثرت بها لتسقط على الأرض، مرتكزة على يدها اليسرى، لعلها تحمي الاوراق التي تشبثت بها يدها اليمنى بشدة! غير أن ألم السقطة على يدها اليسرى، افقدها السيطرة على نفسها، فتبعثرت الأوراق من يدها على الأرض!!
وكأن الغربان قد تفاجأت من هذا العارض؛ فهدأت قليلاً مرتفعة في الهواء! أخرجت زهرة منديلا من حقيبتها، لتمسح الجروح على باطن كفها الأيسر، وضغطت عليه لتوقف نزف الدماء، فيما حاولت جمع الأوراق المبعثرة بسرعة، قبل أن تستأنف الغربان شن هجومها التالي! وبينما كانت تحاول الاسراع في المشي نحو بوابة الجامعة الشمالية؛ سمعت صوتاً ينادي:
– يا أختي.. يا أختي.. لحظة لو سمحت..
فتوقفت زهرة لبرهة، والتفتت إلى الخلف، لترى شاباً يسرع نحوها، وهو يشير بورقة في يده، فهرعت تتفقد أوراقها، لتكتشف نقصان واحدة منها! حتى إذا ما اقترب منها الشاب، ناولها الورقة بأدب:
– أرجو المعذرة يا أختي، ولكنها سقطت منك..
تناولتها زهرة الورقة منه، وشكرته بامتنان شديد:
– جزاك الله خيرا..
فيما أضاف الشاب، قبل أن يتجاوزها بالمشي:
– من الخطر السير في تلك المنطقة، أثناء خلو الجامعة من الناس، فأعشاش الغربان متمركزة فيها بكثرة!
قال جملته تلك ومضى في حال سبيله، في حين التمعت فكرة في ذهن زهرة، أعادت الحماسة إلى نفسها، فحمدت الله على سلامتها، وهي تقترب من بوابة الأمان، بعيدة عن محيط الغربان، وابتسمت لنفسها مشجعة:
– الحمد لله.. وجدتها.. وجدتها..
**
شعرت زهرة براحة كبيرة، وهي تراجع أسئلة آخر امتحان نهائي لذلك العام مع صديقاتها، بعد خروجهن من القاعة:
– الحمد لله.. المهم أن بإمكاننا الشعور بالحرية أخيرا، بعد ذلك الضغط..
فأكدت هديل كلامها:
– حقا..الحمد لله.. والآن دعونا ننسى أمر الاختبارات، ما هي خططكن لهذه الاجازة يا بنات؟
قالت بسمة:
– أظننا ستقضي الاجازة في بيت جدي في الريف..
فيما قالت نوال وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها:
– أريد أن أنام وحسب.. كل الخطط يمكن تأجيلها بعد ذلك..
فتندرت عليها الفتيات ضاحكات:
– أحلام سعيدة، يا ملكة النوم..
ثم استدركت هديل، موجهة حديثها لزهرة:
– نسيت أن أخبرك بأنني كتبتُ فصلا جديدا للقصة..
فتساءلت بسمة بفضول:
– عن أي قصة تتحدثون؟ ما الذي تخططون له من ورائنا؟
فابتسمت زهرة:
– ليس ذنبنا أنك لم تكوني منتبهة معنا، عندما تحدثنا عن ذلك أول مرة..
فيما أوضحت نوال قائلة:
– باختصار، زهرة وهديل تعملان على قصة مشتركة عن يوميات طالبة جامعية.. هديل تكتب وزهرة ترسم، وأنا أحلم بالأفكار!
فلم تتمالك الفتيات أنفسهن من الضحك، رغم محاولتهن الجاهدة لخفض أصواتهن قدر المستطاع..
عانقت زهرة رفيقاتها بحرارة، قبل أن تودعهن، على أمل اللقاء بهن مجددا في العام القادم، ثم اتجهت نحو موقف حافلات منطقتها، وقبل أن تصل إلى وجهتها، استوقفها صوت ممزوج بحنين الماضي وذكرياته، تعرفه جيدا:
– زهرة.. هل لي بدقيقة من فضلك؟
لم تصدق زهرة عينيها، وهي ترى زاهر يقف أمامها بشحمه ولحمه! كان هو بعينه، بطوله وعرضه، غير أن مسحة حزن كست ملامح وجهه بوضوح! ورغم هول المفاجاة؛ إلا أن زهرة نجحت في السيطرة على انفعالاتها؛ فقالت بنبرة حازمة:
– خير إن شاء الله؟!
فتنهد زاهر، وقال بنبرة لا تخلو من أسى:
– قد تستغربين حديثي معك الآن، ولكنني وجدتُ نفسي مضطر إليه، وأرجو أن لا أسبب لك أي إزعاج بذلك..
والتقط نفساً قبل أن يتابع:
– لن أطيل بالمقدمات، فأنا أعلم أنك مستعجلة، ولكن.. لا أدري كيف أقولها.. اشعر أنني خدعتُ نفسي عندما قررتُ الارتباط بفاتن!
لم تعلق زهرة بشيء، وبدت لزاهر غير متأثرة بما سمعته؛ فلم يشعر بتلك الزلزلة حامية الوطيس التي هزت أرجاء جسدها! وأمام صمتها، تابع قائلاً:
– لقد مضت قرابة السنة على خطوبتنا، لم اكتشف خلالها إلا مدى تنافر شخصياتنا وتباعدها، فلا توجد بيننا أي اهتمامات أو أهداف مشتركة، أشعر وكأنني عالق مع طفلة صغيرة، طلباتها لا تنتهي!! لقد وقعتُ ضحية انبهار عابر، لا يغني عن الحقائق شيئاً، ولا أدري إن كان من الحكمة المضي قدما في علاقة كهذه!!
خيم صمت ثقيل على الاثنين للحظة، قبل أن تقول زهرة بلهجة جادة:
– فاتن فتاة طيبة، ولم يجبرك أحد عليها، وقد كنتَ تعرف مسبقاً أنها لا تزال طالبة في الثانوية، كما أنها انتقلت إلى بيئة جديدة لم تألفها من قبل! جميع الأمور كانت واضحة لك منذ البداية، فليس من العدل أن تتنصل من هذه المسؤولية بسهولة! ثم إنها ابنة خالتك، وهي وحيدة والديها، فلا تتهور بالاقدام على خطوة؛ تكون سببا في نشوب خلافات عائلية غير محمودة العواقب! لقد أحبتك ووثقت بك، فإياك أن تخذلها! عليك أن تتفهم ظروفها واحتياجاتها، ألستَ أنت الرجل الذي بيده القوامة؟ لا تظن أن هناك زواج بلا طلبات أو مسؤوليات، ويا حبذا لو التحقت بدورات تأهيل الزواج، فهذا ليس عيب أبداً..
كان زاهر يستمع إليها مطأطئاً بإنصات، وكأن على رأسه الطير، في حين ختمت زهرة كلامها بثقة:
– الزواج مسؤولية كبيرة، وميثاق غليظ، ومن الأفضل أن تستشير والديك في موضوعك هذا، وأسأل الله أن يبارك لكما ويبارك عليكما، ويجمع بينكما بخير..
وقبل أن تهم بالذهاب، استدركت قائلة:
– بالمناسبة، لقد وضعتُ خاتمة لقصة “البطل المغوار”، ونشرتها على الموقع العربي للقصص المرسومة، كما كتبتُ اسمك أيضاً لحفظ الحقوق..
لم يستوعب زاهر ما سمعه في البداية، وقبل أن يتأكد من زهرة حول ما قالته؛ كانت قد تبخرت من أمامه كطيف عابر!
فأخرج هاتفه الذكي، وتأكد من تفعيل خاصية الاتصال بالشبكة العنكبوتية، ثم ضغط بضع كلمات في محرك البحث، قبل أن تظهر القصة أمامه! وبتصفح سريع، استرجع ذكريات تلك الأحداث التي كتبها من صميم قلبه قبل زمن! فهرع لرؤية الفصل الأخير، ضاغطاً على رابطه، ليبدأ قراءته باهتمام شديد..
لم يكن الفصل يتجاوز بضع صفحات مرسومة بالكامل، تتخللها كلمات متفرقة، وجمل محدودة، أمكنه تلخيصها بفقرة واحدة:
“بعد أن وجد البطل المغوار نفسه محاصرا من الحيوانات المفترسة، استمات في الدفاع عن نفسه، مستخدما كافة الحركات التي تعلمها في تدريبات التايكوندو دون يأس أو استسلام.. حتى إذا ما كان على شفير الهاوية؛ ظهر فارس شجاع من العدم، فأنقذه من براثن تلك الوحوش الكاسرة، وساعده على العودة لقريته بسلام، ورغم اصاباته البليغة، التي حالت دونه ودون العودة لسابق عهده في حماية القرية، مما أشعر الأهالي بالحزن والاحباط؛ إلا أنه بقي متفائلاً متشبثاً بالأمل، فطمأنهم بلهجته الواثقة القوية:
– حتى وإن خسرتم بطلاً واحداً؛ فسيكون هنالك دائما بطلٌ مغوار..
وهكذا.. أغلق البطل المغوار قوس حياته الماضية، وبدأ حياة جديدة؛ تفرغ فيها لكتابة مذكراته، وإفادة الأجيال القادمة بخبراته..”
**
كانت زهرة على وشك الانتهاء من غسل الأواني في مطبخ أختها، بعد عزومة عائلية كبيرة، احتفالاً بقدوم المولودة الرابعة! وبينما هي تدندن بنشيد ألّفته مع هديل، ليتناسب مع قصتهما الجديدة؛ دخلت عليها فاتن وهي تحمل طفلها النائم، الذي لم يتجاوز العام بعد:
– السلام عليكم.. الله يعطيك العافية..
فردت زهرة عليها السلام باسمة:
– الله يعافيك، كيف حال مراد الصغير الآن؟
فتنهدت فاتن:
– الحمد لله حرارته انخفضت، ولكنني مضطرة لتركه هنا مع خالتي، فلدي مراجعة عند الطبيب..
فطمأنتها زهرة بثقة:
– لا تقلقي، سأكون متواجدة أيضاً، وسأنتبه له جيدا، إن شاء الله، المهم اعتني بنفسك جيداً..
فدمعت عينا فاتن بتأثر:
– حقا لا أعرف كيف أشكرك يا زهرة، لقد أثقلتُ عليك كثيرا هذه الأيام، فأمي مسافرة كما تعلمين، و..
فقاطعتها زهرة بعتاب:
– سامحك الله، لا تقولي هذا فنحن أخوات..
وقبل أن تضيف أي منهما كلمة أخرى؛ رن هاتف فاتن، فقالت:
– هذا زاهر، لا شك أنه ينتظرني في الأسفل..
فجففت زهرة يديها من الماء، ثم تناولت الصغير من أمه قائلة:
– سأضعه على السرير الآن، فكوني مطمئنة، ولا بأس عليك طهور إن شاء الله..
**
انتابت زهرة مشاعر مختلطة وهي تستمع لكلام والديها، حول ذلك الخاطب.. لم تكن تشعر بانها مستعدة بعد لخوض هذه التجربة! ولكنها لا تمتلك أي سبب واضح للرفض! فوالدها بدا مبتهجاً جداً، وهو يصفه بقوله:
– ما شاء الله، لم أتوقع أن أقابل شاب مثله في هذا العصر! إنه رجل رائد بمعنى الكلمة، خلق ودين، وأدب لم أجد له مثيلا من قبل، لقد حاولتُ التحري عنه أنا وهيثم، ولم نجد أي شائبة ضده! كما أن أبو سامر صديق قديم لوالده، وهو يعرفهم جيدا، ووصفهم بالعائلة الكريمة المحترمة..
فيما أكدت والدتها ذلك بقولها:
– لقد ارتحت لأمه أيضا، إنها صريحة مثلي، وقد تناقشنا في كل شيء، فهذه حياة وليست لعبة! أراه كنز حقيقي، وفرصة لا تعوّض، فمن النادر أن تجد شاباً مسؤولاً ومستعداً هكذا هذه الايام، أكاد أجزم بأنه لا ينقصه شيء ما شاء الله!
عندها قال الوالد مخاطبا ابنته:
– لم يبق سوى تحديد موعد الجلسة الشرعية، وسيكون القرار النهائي لك يا ابنتي، فلا داعي للقلق..
**
كانت زهرة تشعر ببعض التوتر، وهي تهم بالدخول على ذلك الخاطب، الذي ينتظرها في صالة الاستقبال، فيما أخذت كلمات أمها تتردد في ذهنها، مطمئنة:
– اعتبريه زميل عمل، تتناقشين معه حول مشروع مستقبلي، لا أكثر ولا أقل!
التقطت زهرة نفسا عميقا، ثم دخلت الصالة وألقت السلام، وما أن وقعت عيناها على الشاب الذي نهض واقفا، ليرد عليها التحية؛ حتى شعرت بأنها تعرفه منذ زمن طويل! اختارت المقعد المقابل له، فيما ابتدر هو زمام الحديث بابتسامة ودودة، كاسراً حاجز الحرج بينهما، بقوله:
– لا أظنك تذكرينني، فلم نتقابل سوى بضع مرات في السابق، ولكنني أعرف عنك الكثير، لذا.. دعينا نتحدث كالأصدقاء، لعلنا نفتح قوس جديد..
**
***تمت بحمد الله***
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
المنقذ “بلوك سما”!
عن القصة:
قد يكون “الآرت بلوك” art block هو اسوأ عدو للفنان، حيث يصاب بالاحباط وفقدان الشغف، ويميل للخمول والكسل..
ولكن.. هل هذه الحالة -والتي قد تُعرف بـ “الفتور”- هي امر سلبي دائما؟!!
تابعوا قصة “المنقذ بلوك سما”
التصنيف: خيال، رمزي

– الرحمة الرحمة.. لم أعد استطيع الاحتمال أكثر.. سأموت..
كانت تلك صرخة الاستجداء الأخيرة، التي اطلقتها إحدى خلايا العضلات المرهقة، وهي في حالة احتضار دامية!
غير أن أوامر “النفس” الصارمة، لم تكن تحمل في ثناياها أدنى مقدار من الشفقة، بل تابعت باصرار قائلة:
– لا يزال أمامنا الكثير من الأعمال لانجازها، هيا تابعوا العمل حتى النهاية! لا مجال للكسل ولا للتراجع.. إلى الأمام سر..
لم يكن أمام بقية “الخلايا” سوى الانصياع للأوامر الصارمة، فهم في النهاية مجرد عبيد تحت إمرة سيد قاسي القلب، لا يعرف غير “الانجاز”، والانجاز المستمر فقط!!
كانت الخلايا المتنوعة، على اختلاف قدراتها وأدوارها؛ تتهاوى الواحدة تلو الأخرى، اما “النفس” فلم تكن تبالي بكل ذلك نهائيا!
كانت كلمة “الانجاز” تبدو كالسحر، الذي سرق منها أي شعور آخر تجاه تلك الخلايا المسكينة!
كانت تعاملها بكل جفاء، كالادوات الصماء، لدرجة أنها لم تعد تسمع أي أنين يصدر عنها! ومع زيادة الضغط؛ فقدت تلك الخلايا القدرة على متابعة العمل بالكفاءة المطلوبة؛ مما أغضب النفس عليها بشدة، فأخذت تهددها بسوط الجلاد الذي لا يرحم عبده!
أخذت الخلايا تستغيث بصوت يقطع أقسى القلوب المتحجرة؛ غير أن النفس لم تعد تمتلك قلبا من أي نوع! فلم يؤثر فيها مشهد خلايا العيون المتورمة، ولا خلايا العضلات المتصلبة، ولا خلايا العظام المتيبسة!
وفي اللحظة التي همت فيها النفس باستخدام سوطها القاسي، لاستنزاف ما تبقى من طاقة تلك الخلايا المتهالكة، لتقودهم نحو الموت والهلاك المحقق؛ ظهر “بلوك سما” في الأرجاء، ملوّحا بتهديده الذي لا يُقهر!
وبطرفة عين؛ أمسك بيد “النفس” المسعورة، وجمدها تماما، ليسقط ذلك السوط من يدها!
– لقد تماديت كثيرا ايتها النفس هذه المرة! هل جننتِ؟؟ اتريدين قتل خلاياك الوفية بدم بارد؟؟؟
نطق بلوك سما تلك الكلمات بقوة مجلجلة؛ جعلت النفس ترتعد من شدة الخوف، لتنتبه لأول مرة لخلاياها البائسة! فاعتذرت قائلة:
– لم أكن أقصد ذلك بالتأكيد، كنت أريدهم أن يشعروا بالفخر بذلك الانجاز الذي سـ..
فقاطعها بلوك سما بحدة:
– أي إنجاز هذا الذي تتحدثين عنه؟؟ هل اصابك العمى ام الصمم؟؟ أي انجاز هذا الذي سيفتخرون به، وهم في المقبرة!
كان كلامه صريحا واضحا بدون ذرة مجاملة، مما جعل النفس تنتبه لتلك الحقيقة المرة لأول مرة! غير أنها حاولت التبرير بقولها:
– يكفي أنهم سيموتون بشرف لأجل ذلك “الانجاز”..
عندها لم يستطع بلوك سما الاحتمال أكثر، فألقى عليها تعويذته السحرية قائلا:
– يبدو أن محاولة افهامك خطورة ما تقدمين عليه هو ضرب من الخيال! لذا فلتنعمي أيتها النفس بما تستحقينه!
وبينما كان التجمد يسري في أوصال النفس، كان لسانها يستغيث بمرارة:
– لحظة لحظة من فضلك.. بلوك سما ارجوك، اعطني فرصة أخيرة.. ليس الآن! لا تحبسني في تعويذة “الارت بلوك” مجددا، فما زال هناك الكثير لإنجازه..
وبالطبع لم تحرك كلماتها تلك ساكنا في جسد بلوك سما، فقد بدا راضيا تماما عما يفعله معها، فلم تجد النفس بدا من الاستجداء بتوسل، قبل أن تجمّد التعويذة لسانها أيضا:
– بلوك سمااااااا.. اسمعني ارجوووووك.. فرصة واحدة فقط.. على الأقل أخبرني إلى متى سأبقى حبيسة التعويذة.. ارجوك لا تجعلها تطول.. بلوك سمااااااااااااااا
غير أن بلوك سما تجاهل نداءاتها، وهو يتأمل حال الخلايا المزري، فيما بدأت تلك الخلايا تستعيد أنفاسها تدريجيا، وهي تشعر بامتنان كبير لمنقذها الدائم: “بلوك سما”
****
تمت
على هامش القصة:
هذه القصة هي محاولة لتسليط الضوء على ايجابيات “بلوك سما” العظيمة^^
فنحن لا بد من أن نكون منصفين في كل شيء، حتى مع الاعداء!
ومن باب الانصاف، رأيت أنه من الواجب التحدث عن ايجابيات الارت بلوك^^
فكما قال الشاعر:
وإذا كانت النفوس عظاما
تعبت في مرادها الاجساد!
_
لذلك.. حالة “الفتور” أو “الارت بلوك” التي تصيب الانسان، هي ليست نقمة دائما، بل قد يكون في طياتها نعمة كبيرة، ولولا أن الله سخرها لنا، لربما هلكت أجسادنا منذ وقت طويل ????
فالحمد لله الذي له في كل شيء حكمة ورحمة..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
نحو موسوعة لأفكار عربية مذهلة تميز (قصتك) عن القصة الأجنبية!!!^^
بقلم الاستاذة: زينب جلال
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
نحو موسوعة لأفكار عربية مذهلة تميّز (قصتك) عن القصة الاجنبية وخاصة اليابانية^^
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته(:
قبل كل شيء أود التنويه إلى انني كتبت هذا الموضوع منذ فترة ليست بالقصيرة في أحد المنتديات، وقد قام أحد الاخوة هناك بتنسيقه مشكورا، ولأنني رغبت في أن تعم الفائدة الجميع فقد وجدت أنه من الضروري الاسراع في وضعه في هذا القسم العزيز فنسخته من هناك كما هو تقريبا، وأرجو أن يكون فاتحة خير ونبراسا ينير لكل مبحر في عالم القصص الجميل ^^
**
لذا أرجو أن يكون مرجعا للنقاش بهذا الخصوص ليفيد جميع المهتمين، والله الموفق^^
*********
بداية وكما نعلم جميعا، لا يكاد تخلو مانجا أو انمي ياباني من الاشارة الى عاداتهم وتقاليدهم وثقافتهم في المأكل والمشرب والتاريخ والمواسم والأماكن والمسميات، وحتى الاعتقادات والاساطير، الخ.
ولأننا تعودّنا عليها عند مشاهدة الانمي أو قراءة المانجا، أصبحنا نظن أنه لن يكون لقصتنا طعم ولا رائحة إذا لم تحتوي على مثل هذه الامور!
ولكننا بتعاوننا مستعينين بالله قبل أي شيء، سنغير هذه الفكرة تماما بإذن الله^^
وكنوع من التحفيز من الجيد أن نسلط الأضواء على بعض الروايات العالمية التي وجدت في الثقافة العربية مصدرا خصبا وجميلا لافكارها
(سأذكر ثلاثة من الروايات التي قرأتها، عوضا عن الأمثلة المعروفة كسندباد وعلي بابا وقصص الف ليلة وليلة بشكل عام)
*(الخيميائي): باولو كويلو، هذه الرواية بها كم لا بأس به من الجو العربي، بل وقد استخدم المؤلف فيها احدى الكلمات العربية بالنص (مكتوب) بمعنى القضاء والقدر Maktoob
* في إحدى روايات اجاثا كريستي ، أظنها (الأربعة الكبار)
استخدم هيركول بوارو عبارة (إن شاء الله) وافتتح جلسته بـ
(بسم الله الرحمن الرحيم)، وكان يقصد من ذلك اشارة محددة
*رواية (صياح الدجاجة) لكاتب اسباني- نسيت اسمه- أشار فيها الكاتب إلى بعض العادات العربية ومنها الرابطة الزوجية عند العرب، بشكل يشير إلى اعجابه بذلك
***
يبقى تنويه أخير حول الموضوع، فقد تجدونه طويلا، وليس الهدف أن تتم قراءته مرة واحدة، فهو أشبه ما يكون بالموسوعة التي يذهب اليها الباحث مباشرة للنقطة التي يريدها، لذا يمكنك تجاوز النقاط اللتي لا تناسبك لتنقل إلى ما ترغب بالقراءة عنه، لذا سأذكر بداية المفردات الرئيسية التي يشتمل عليها الموضوع
وهو ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: حول مفردات عامة لا تكاد تخلو منها أي قصة
وستتناول: كلمات شائعة/ الطعام/ الشراب/ الأماكن/ الأسماء والألقاب/ المواسم والمناسبات/ الملابس/ العادات والسمات المميزة/ العبادات..
القسم الثاني: حول أفكار متنوعة (كرؤوس أقلام) لأصناف مختلفة من المانجا
وسنتناول: خارق وما وراء الطبيعة ورعب وأساطير/ رومنسي/ أكشن وقتال/ تاريخ وغموض/ مغامرات مدرسي وشريحة من الحياة/ رياضة/ خيال علمي
وقبل أن ندخل إلى تفاصيل هذين القسمين، أوضح بأنني سأكتفي بالاشارة إلى القواسم المشتركة العامة بين العرب جميعا، ولن أدخل في تفاصيل الفروقات بين الدول، حيث أن بإمكان كل (مانجاكا) أن يكتب عنها بشكل أفضل على حسب طبيعة بلده(:
ومن هذا المنطلق لزم التذكير بأن أهم شخصية توحدنا جميعا، نحن العرب خاصة والمسلمين عامة هي:
شخصية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
وللمعلومية فإن بعض العرب من غير المسلمين، يشعرون أيضا بارتباط قوي بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من باب العروبة!! فمثلا قد تجد أحدهم يقول لصاحبه: ” طيب صلّ على النبي” أي هدئ من روعك، وهم يأخذونها من باب الكلمات العربية الدارجة، وهذا شيئ مشاهد ومعروف..
أعتذر عن الاستطراد والاطالة#8#
والآن للننطلق على بركة الله..
——————————-
——————————-
القسم الأول: (مفردات عامة لا تكاد تخلو منها أي قصة)
1- كلمات شائعة ومميزة عندنا نحن العرب (والمسلمين):
ا- طريقة التحية: السلام عليكم، السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يمكننا التنويع في استخدامها، ويكون الرد كما هو معروف بالمثل أو أحسن، أي لا يصلح إن بدأك أحدهم بـ “السلام عليكم ورحمة الله”، أن ترد عليه بـ ” وعليكم السلام” فقط ، وهكذا
*استخدامنا لهذا الاسلوب سيعطينا تميز، وسنجد اليابانيين عندما يترجمون مانجاتنا، يكتبون ملاحظة ليشرحوا فيها هذه النقطة^^
ب- الشكر: إذا كان لدى اليابانيين مصطلح (اوتسكاري ساما بمعنى شكرا لعملكم الشاق)، فنحن لدينا جملة مميزة جدا “جزاك الله خيرا” وهذه نقولها للشخص الذي نعجز عن شكره
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ “
جـ- عندما نريد أن نفعل شيئا: يجب أن نقول إن شاء الله، إن أعجبنا شيء: ما شاء الله!! عند التعجب: سبحان الله، والضيق: استغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحصول على شيء مفرح: الحمد لله، حصول امر عكس ما توقعنا: قدر الله وما شاء فعل،… الخ
*تخيلوا وقع هذه الكلمات على شخص غير عربي ويقرأ مانجا مميزة تحوي جميع هذه التعبيرات الغريبة عليه والتي قد لا يجد لها مرادفا في لغته؟؟ أظنهم سيتعلمونها وسيستخدمونها هم كما فعل هيركول بواروا في احدى روايات اجاثا كريستي(؛
د- نحن نتميز بالبلاغة والتي من خلالها يمكننا التلاعب بالالفاظ لتدل على امور مختلفة، أضيفوا الى ذلك الشعر، لذا من الجميل جدا أن تكون هناك بعض الاقتباسات الشعرية في المانجا، بما يناسب القصة،
يعجبني مركز الزهرة عندما يدخل في الدبلجة بعض الابيات الشعرية على السن الشخصيات، أظنكم تذكرون حسان من سلام دانك عندما طرد من الملعب فقال(لولا الحياء لهاجني استعبار.. ولزرت الملعب والحبيب يزار)، على غرار قصيدة جرير^^
ولا بأس من أن تكون بعض الشخصيات لديها موهبة شعرية^^
2- الطعام: لدينا آداب محددة اتباعا لهدي النبي صلى الله عليه وسلم، قد لا نجدها عند غيرنا
فإضافة لغسل اليدين وهو معروف، هناك التسمية والأكل باليمين، والأكل مما يليك، ولا نأكل واقفين…..الخ
تخيلوا البطل مثلا وهو يكتب بيده اليمنى وأمامه كوب ماء، وعندما يعطش بدلا من أن يشرب باليد اليسرى، يضع القلم من يده ليشرب بيده اليمنى ثم يستأنف الكتابة، حركة بسيطة، لكنها تلفت النظر إذا ما رُسمت وظهرت بإبداع في قصة المانجا العربية^^
ثم إن لدينا جلسة خاصة مميزة، وهي الجلسة التي علمنا اياها الرسول صلى الله عليه وسلم، تثني رجلك اليسرى وترفع اليمنى، بالطبع الان معظمنا يجلس على الكراسي والطاولات لكن هذا لا يعني أننا لا نجلس أحيانا على الأرض خاصة في النزهات وما إلى ذلك^^
تفاصيل دقيقة كهذه، ستثري المانجا وتميزها بالتأكيد#14#
ومن أشهر الأطعمة التي يفترض بجميع العرب أن يعرفوها هي (الثريد) الطعام المفضل عند الرسول صلى الله عليه وسلم،
“هي الفتة وهي عبارة خبز الشعير يقطع لقيمات صغيرة ويسقي بالحساء ثم يضاف عليه اللحم”
وستجدون في هذا الرابط معلومات مفيدة أيضا:
http://www.lakii.com/vb/a-6/a-704490/
وهناك (التلبينة) وهي نوع من الحلوى، أوصى بها الرسول صلى الله عليه وسلم لجلاء الحزن
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A7%…B9%D8%A7%D9%85)
ولا ننسى أهم الثمار التي تميزنا: ثمار النخلة الطيبة (التمر)
بالمناسبة النخلة موجودة في معظم الدول العربية، من بلاد المشرق الى المغرب، وهي تعد شجرة مميزة جدا عندنا
3- الشراب: هل يوجد عربي (أو مسلم) واحد لا يعرف ما هو (ماء زمزم)؟؟ تخيلوا لو أشرنا الى هذا الماء بشكل مثير؟؟؟
بالطبع لدينا طريقة خاصة في الشرب، فنحن لا نتنفس في الاناء، ونشرب على ثلاث دفعات(؛
4- الأماكن:
نحن جميعا متفقون على أن أهم ثلاث مدن لدينا هي : (مكة والمدينة والقدس) ففيها المساجد التي تشد إليها الرحال
يمكننا استخدام هذه المدن كرموز أو بالاشارة الى الرغبة في زيارتها (كما جاء في رواية الخيميائي لباولو كويلو)، طبعا على حسب طبيعة القصة، وستكون بالطبع مما يميزنا^^
هذا بالاضافة للمساجد، وأماكن الوضوء ( مفردها “ميضأة” )،ولا تنسوا مصليات العيد، كما أن لدينا تقليدا لا يوجد عند غيرنا وهي حلقات المساجد والكتاتيب سابقا
من الممكن أن يتم الاشارة اليها بالمانجات العربية، بشكل جميل وبإبداع..
مثلا يتفق البطل مع صديقه أنه سيقابله بعد الحلقة من أجل مهمة خاصة..الخ
الان تخيلوا المترجمين عندما سيترجمون كلمة (الحلقة) – على أساس أن المانجا ستكون رهيبة جدا ومذهلة ومشوقة لأبعد حد^^- فإذا كانوا سيترجمونها للانجليزية، ستكون ترجمتها الحرفية هكذا:
The ring!!
لذا سيضطرون لاستخدامها كما هي
(Al- halaqa)*
ثم يكتبون في الهامش:
*This is an Arabic expression for religious lessons held at mosques, especially reading and memorizing the Quran (the Muslim holy book), where the students sit around the Sheikh (the religious scholar) on the floor in a circle!
ما رأيكم#12#
5- الألقاب: جميعنا يعرف اساليب النداء على الأسماء عند اليابانيين، باضافة (سما، كن ، شان …الخ)، حسنا نحن أيضا لدينا اسلوب يشترك فيه معظم العرب إن لم يكن جميعهم ولا أظنه يوجد عند سواهم، وهو أسلوب (الكنية)
ويعد من أساليب الاحترام عندنا، مثلا لا يمكنك أن تنادي رجلا لا تعرفه باسمه وانما بكنيته مثلا : أبو العلاء
أيضا: استخدام كلمة (الشيخ فلان)، لتوقير علماء الدين خاصة
كما لدينا ألقاب مميزة، كـ صلاح الدين (اسم القائد صلاح الدين الحقيقي هو يوسف أما صلاح الدين فهو لقب)
وفي الكنية واللقب ورد هذا التعريف: الكنية ما صدر بأب أو أم أو ابن أو عم مثل: أبو بكر , أم كلثوم {بنت النبي صلى الله عليه وسلم } ابن عباس ……
اللقب ما أشعر بمدح مثل شيخ الإسلام , زين العابدين .
أو ذم مثل : أنف الناقة
وهذا ربط ويكيبديا
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%83%D9%86%D9%8A%D8%A9
كما أن الاسم العربي الكامل يتكون من أربع مقاطع أو ثلاث مقاطع على الأقل، خلافا للاسماء الاجنبية، إذ يكفي عندهم الاسم الاول والعائلة، ولا تجد لديهم في اوراقهم الثبوتية اسم من ثلاث مقاطع مثلنا (بصراحة تفاجأت عندما سمعت عن هذه المعلومة لأول مرة)#25#
كما أن لدينا طريقة مميزة في المخاطبة بين الجنسين
مثلا إذا أراد أن يحدث فتى فتاة غريبة عليه، فلا يناديها باسمها وإنما بـ (يا أخت…) وكذلك إذا أرادت الفتاة مناداة الفتى الغريب فيكون بـ (يا أخ …)، وعندما ننادي من هم أكبر منا سنا، فللرجل نقول : (يا عم)، وللمرأة (يا خالة)..
6- المواسم و المناسبات:
لا تكاد تخلو مانجا يابانية أو انمي من الاشارة الى احتفالاتهم ومهرجناتهم التي يقومون فيها بطقوس معينة بناء على معتقداتهم،الخ
ونحن أيضا لدينا مواسم مميزة جدا، قد يكون أهمها موسم رمضان.
وفيه الكثير الكثير من الأمور التي تميزنا، السحور، الافطار في وقت موحد، تجهيز السفر في المساجد والعزائم بين الاقارب والأصدقاء، صلاة التراويح، صلاة التهجد، بالاضافة الى الزينات والعادات المعروفة من فوانيس رمضان، ووجود المسحراتي الذي يطوف على البيوت بطبلته المعروفة، ليلة العيد ويوم العيد وصلاة العيد المميزة الخ، كلها يمكننا الاشارة اليها بشكل مثير لمن لا يعرف ثقافتنا، ولا تنسوا ليلة القدر، ذلك الحدث المهم لدينا.
وسأضع مقطعا من مدرسة الفروسية يشير إلى ذلك:
” أسرع حسام فيما تبعه بقية الاصدقاء- الذين قضوا ليلتهم معتكفين في جامع الفتح- نحو سطح المدرسة، ووقفوا يراقبون بحماسة جهة الشروق، حتى إذا ما بدا قرص الشمس، هتف حسام بلهفة:
– انظروا ان قوس الشمس يبدو ابيض لا شعاع فيه، اظنها كانت ليلة القدر، والله أعلم..
فقال أصيل مناكفا:
– وما أدراك أن الشمس لا تشرق هكذا دائما!
فبادره طلال بالاجابة:
– الفرق واضح بين قرص الشمس اليوم وبين ما كانت عليه في ليالي الحادي والعشرين والثالث والعشرين والخامس والعشرين!
فقال له حسان:
– لا تأخذ كلامه على محمل الجد يا طلال، فهو لا يعدو كونه مناكفة لا أكثر!!
فاعترض أصيل قائلا:
– هذا ما تقوله أنت.. على كل حال لا نستطيع الجزم الآن، فما زالت أمامنا ليلة التاسع والعشرين!
وعلق علاء بقوله:
– لا أظن أن هناك منا من يستطيع الحكم على هذه الأمور أفضل من حسام ما شاء الله..
فأكد صوت من خلفهم كلام علاء:
– وأنا أشهد بذلك..
التفت الجميع للوراء ليفاجؤوا بالمعلم برهان يقولها مبتسما، والى جانبه المعلم أمين الذي أضاف قائلا:
– كما قال حسام والله اعلم كانت تلك ليلة القدر..
وردد فيما أمن الجميع على دعائه:
– ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم..
فما كان من أصيل إلا أن لكز حسام في خاصرت هامسا:
– عش حياتك يا أخي، الجميع يقف معك حتى المعلمين أنفسهم!
وتابع المعلم أمين:
– وأيا كانت تلك الليلة، نسأل الله أن يكتب لنا أجر قيام ليلة القدر ايمانا واحتسابا، ويتقبل منا رمضان ويعيده علينا أعواما عديدة وأزمنة مديدة، ونحن والمسلمون في خير وعافية..
وأضاف المعلم برهان باسما:
– وبهذه المناسبة لدي أخبار سعيدة، خاصة لك يا حسام..
وابتسم متابعا:
– سنبدأ ببناء قبة فلكية لمراقبة النجوم هنا ان شاء الله..
لم يكد المعلم برهان يتم عبارته، حتى قفز حسام نحوه بفرحة منقطعة النظير:
– حقا.. الحمد لله الحمد لله .. جزاك الله خيرا يا معلمي، طوال عمري وانا أحلم بقبة فلكية ومناظير متخصصة، كم أنا سعيد لهذا الخبر..
ابتسم المعلم برهان:
– أرجو أن يسهل الله انجازه ويكون ذا نفع كبير لكم..
وقبل أن يهم المعلم أمين بالنزول التفت إليهم قائلا باسما:
– أرجو أن لا تتأخروا عن الدرس الأول يا شباب..
وما إن نزل المعلمان حتى أخذ حسام يقفز بفرح هنا وهناك:
– يا لسعادتي، أحلامي على وشك التحقق، أخيرا بفضل الله الحمد لله لقد استجاب الله دعائي..
فضحك أصيل معلقا:
– أهذه هي منتهى أحلام شاعرنا الكبير!! لا تقل لي أنك اعتكفت الليلة كلها تدعو من أجل قبة فلكية!!”
7- الملابس:
ملابس الذكور في الوقت الحالي جميعها متشابهة وتتبع الاسلوب الغربي عند معظم الشباب (البنطال والقميص)، وقد تتميز عند الرجال وكبار السن، لكن بشكل عام أهم ما يميز العرب هو تغطية رؤوسهم، وقد قيل في ذلك (العمائم تيجان العرب).
فإذا كان صاحب القصة لا يرغب بأن يُلبس الابطال في قصته (عمامة أو ما شابهها)، فلا بأس بأن تكون هناك على الأقل شخصية او اثنتين ممن هم ملتزمون بهذا التقليد العربي، أو يجعلهم يلبسونها عند ذهابهم للصلاة خاصة يوم الجمعة(:
فحتى اليابانيين لديهم مواسم خاصة يحرصون فيها جميعا على ارتداء زيهم التقليدي
علما بأننا يمكن أن نجعل اللباس مقتبسا من زي الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الرابط وصفا لذلك
http://islamqa.info/ar/126692
كان ذلك بالنسبة لملابس الرجال، أما ملابس النساء فهي أكثر تميزا، إذ أكثر ما يغلب على نساء وفتيات المجتمع العربي هو الحجاب بغض النظر عن طريقة لبسه، وكذلك الحشمة في الملابس نسبة الى غيرهم (نسأل الله أن يزيد ويبارك)، حتى أودا في (ون بيس) ألبس نامي وفيفي غطاء للرأس عندما ذهبوا إلى (الاباستا)!!
لذلك من باب أولى يجب أن لا تخلو مانجا عربية من وجود بعض الفتيات المحجبات على الأقل، وسيكون ذلك بنسبة أكبر في حالة النساء الكبيرات..
8- العادات والسمات المميزة:
أصبحت معظم البيوت العربية في الوقت الحالي، تصمم على أساس أن تحوي غرفتين للاستقبال، واحدة للرجال والأخرى للنساء، وقد يكون هذا أكثر ما يميز البيوت العربية والمسلمة عن غيرها.
كما أن كرم الضيافة أمر يعتبر من المسلمات البديهية عند العرب، ناهيكم عن الصفات الأخرى، مثل الشهامة والمروءة وغض النظر، يعني هذا ما يُفترض في العربي الأصيل!! واي مسلم بطبيعة الحال^^.
كما أن الفتيات معروف عنهن الحشمة والحياء( الحياء محمود وهو غير الخجل المذموم)، ويندر أن تجد فتاة عربية ترضى أن تقيم علاقة خارج الاطار الشرعي وإن فعلت ذلك فهذا يكون بعد شعورها بأنه سيتقدم لطلب يدها لا محالة (طبعا حدث ولا حرج عن المآسي التي تعقب خيبات الأمل هذه): عافانا الله وإياكم).
لكن هذا لا يعني أن الجميع هكذا، وبالطبع لا نتوقع من جميع المانجات العربية أن تكون جميع شخصياتها (ذكورا واناثا) بهذه الصفات، ولكن على الأقل أن تحتوي شخصية او اثنتين على الأقل بهم هذه الصفات الأصيلة^^
أضيف صفة مهمة جدا قد يندر وجودها عند غير العربي، وهي الغيرة على المحارم (الام، الاخت، العمة، الخالة، الزوجة، البنت)، ولا ننسى أن من أهم السمات التي تميز المجتمعات العربية هي وجود الاقارب وكثرة الاختلاط بهم (سواء سلبا او ايجابا)، باختصار العلاقات الاجتماعية عندنا يجب أن تظهر بوضوح في المانجا العربية لتكون مميزة^^
ولا ننسى الجيران، فهم يشكلون جزءا مهما من حياتنا لا سيما وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بالجار
9- العبادات: سيكون من الجميل جدا الاشارة بطرق عابرة الى اداء الصلوات واستخدام السواك قبل ذلك، قراءة القرآن، والدعاء واللجوء الى الله والثقة به، فمثلا تجد الأبطال في بعض الانميات عندما يعبرون عن لجوؤهم الى الله يقبضون اليدين معا وهم يشدون عليها، أو يطبقون الكفين على بعضهما البعض ويرخون رؤوسهم عليها، أما نحن فطريقتنا هي بسط الكفين ورفعهما للأعلى بالدعاء، .
هذه الامور إذا كتبت بطريقة ابداعية تعطي جمالا ودقة وتفاصيل مهمة لنعيش حياة الشخصيات بواقعية أكبر، مما يعزز من قيمتها حتى عند من يقرؤها من غير المسلمين ، فإذا كات الابطال في قصصهم يزورون المعابد أو الكنائس ويقومون بالطقوس التي هم مقتنعون فيها، فلم لا نجعل أبطالنا يزورون المساجد ويؤدون صلاة ركعتي حاجة مثلا قبل الشروع في مهمة خطيرة!!#18#
*–*-*-**-**-*–*
القسم الثاني: (أفكار متنوعة (كرؤوس أقلام) لأصناف مختلفة من المانجا)
1- خارق وما وراء الطبيعة ورعب وأساطير:
أعتقد أن لدى العرب من قصص الكهنة والعفاريت والجن ما يكفي لكتابة آلاف القصص!!
هل سمعتم عن (سطيح) و(شق) أشهر كهان العرب، كان سطيح لحما بدون عظم ومسطحا على الأرض، وإذا غضب انتفخ (هل تتخيلون هذا!!) #21#
حسنا يمكنكم قراءة المزيد، وقد وجدت هذا الرابط
http://hemmain.blogspot.com/2010/05/blog-post_4569.html
بمعنى آخر لمن يفضل قصص المانجا اليابانية والانمي التي تتحدث عن مخلوقات غير بشرية، ويرغب بالكتابة مثلهم، فبإمكانه القراءة عن عالم الجن، وهناك كتب كثيرة تتحدث في هذا الموضوع وبإمكانه الاستفادة منها بما يراه مناسبا، بل إن قراءة تفسير سورة الجن في القرآن قد يوحي لك بالكثير من الأفكار الرائعة..
مثلا نحن نعرف أن الشياطين هم من مردة الجن، وهؤلاء مهما بلغت قوتهم لا يمكنهم الصمود أمام ايمان المؤمن القوي ولا يمكنهم دخول بيت تُقرا فيه سورة البقرة، لكنهم يُرهبون من يخافونهم ويستعينون بهم
(وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا)
لذا قد يكون من الجميل استخدام هذه المعلومات في حبك قصة مذهلة، تجسّد فيها تسلّح بطل القصة بـ (آية الكرسي) مثلا ليحرق بها مارد يحاول اذية انسان أو إرعابه، فيما تكون هناك مجموعة من السحرة الاشرار المتعاونين مع الشياطين يحاولون وضع حد له، الخ
وفي هذا المجال هناك رواية (حوجن) التي اشتهرت مؤخرا، رغم أنها تميل الى الجانب الكوميدي أكثر من كونها قصة مرعبة!
من الأفكار أيضا فكرة (العين الحارقة/ الخارقة)، وما أكثر العيون المميزة في عالم الانمي!
مثلا يكون هناك شخص شرير ذو عين حارقة يتعمد اصابة الناس بها للقضاء عليهم، فلا يصيب بها احد إلا أصابه الشلل أو الاعاقة أو حتى الموت (يستخدمها في القتل)، ويأتي بطل القصة ليبحث عن حل فيعلم مع رفاقه من رجل حكيم أو شيخ طيب (حسب مزاج المؤلف في حبك القصة)، فيخبرهم بأن دواء الاصابة من عينه هو أن يحاولوا الحصول على ماء لامس جسده، فإذا حصلوا عليه صبوه على الشخص المصاب يشفى (بالطبع هذا وراد من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في علاج المعيون ولا ننسى التحصينات النبوية في هذا المجال)
على كل حال هذه مجرد أفكار لمن يرغب بالكتابة في هذا المجال..
أما في الأساطير العربية، فهناك (العنقاء) وهي مشهورة وقد ورد ذكرها عند العرب خاصة في قصص الف ليلة وليلة والسندباد، وهذا رابط ويكيبيديا عنها، وتجدون فيه صورة لمخطوطة من كتاب القزويني
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%…82%D8%A7%D8%A1
و(الغول)، وأظنه من أشهر ما ورد عن العرب في هذا المجال، حتى أنه ورد ذكره في حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويمكنكم القراءة عنه في هذا الرابط
http://fatwa.islamweb.net/fatwa/inde…waId&Id=188597
ثم إن في قصص الأولين الواردة في القرآن الكريم، ما يُثري الخيال في هذا المجال، حتى أنني أعتقد بأن فكرة انمي (الهجوم على العمالقة) مستوحاة بشكل ما من قصة يأجوج ومأجوج والسد الذي بناه ذو القرنين!
ولا تنسوا أخبار الاقوام السابقة من عاد (ارم ذات العماد)، وثمود (الذين جابوا الصخر بالواد)، وفرعون (ذو الاوتاد)، وقوم لوط، وآثارهم لا تزال موجودة، اضافة الى الاخبار الواردة عن المسيح الدجال، الخ
المقصود أن هذه الأمور جميعها يمكن الاستفادة منها بطريقة ما، لحبك قصص مانجا تضاهي المانجا اليابانية..
2- رومنسي:
من المتعارف عليه في القصة اليابانية فكرة (المواعدة) كدلالة للاعتراف بالحب بين الطرفين، وبالطبع جميع “الفانز” يكونون في قمة اللهفة لتلك اللحظة بين البطل والبطلة بعد أحداث طويلة!!!
لكن بالطبع هذه الفكرة باختصار شديد، وقبل أن تكون (مخالفة شرعية) هي بحد ذاتها مرفوضة تماما عند المجتمع العربي، وإن كنا نستمتع بمتابعتها في الانمي والمانجا لدرجة أن البعض سيكتب على غرار ذلك..
فما الحل، هل هذا يعني أن الرومانسية لا تكون إلا بتلك الطريقة، فإما أن نرضى بها هكذا وإما أن نبتعد عنها برمتها!!! هذا للأسف ما توصل إليه معظم المؤلفين، فترى بعضهم إن رغبوا بكتابة قصة في هذا الفرع كتبوها في بيئة مختلفة عن بيئتهم وبأسماء أجنبية بالطبع، ولا داعي لذكر باقي التفاصيل!!
علما بأنه يمكننا كتابة أروع القصص الرومانسية التي ستجذب اليابانيين أنفسهم، وبطابع عربي بل وإسلامي أيضا (لا أبالغ مطلقا)
ألم يشتهر العرب بالحب العذري؟؟ ألم تكن افتتاحيات القصائد الكبرى غزلية دائما؟ حتى قصيدة البردة التي أُلقيت أمام الرسول صلى الله عليه وسلم كان مطلعها (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول)!!!
هناك العديد من الأفكار التي يمكن اخراجها مع حبكة متقنة، لبناء قصة رومانسية وبطابع عربي 100%
فمن القصص الحقيقية يكفي أن تطلعوا على قصة السيدة زينب رضي الله عنها مع أبو العاص بن الربيع، وأنصحكم بقرائتها من كتاب (سيدات بيت النبوة) لعائشة بنت الشاطئ فأسلوبها في قمة الروعة
أما في الروايات الحديثة، فسأضرب ثلاثة نماذج:
النموذج الأول: رواية للكاتبة الباكستانية المسلمة (عميرة أحمد)، وهي بعنوان (بيير كامل/ القائد المثالي)، توجد منها نسخة انجليزية وقد قامت الأخت المبدعة الصوت الحالم بترجمتها للعربية وهي موجودة في قسم قصص الأعضاء المكتملة في مكسات فجزاها الله خيرا، هي رواية طويلة تبدأ بشكل لا يوحي أبدا بأن قصة حب عميقة ستنسج طياتها بين السطور، أحداثها مفاجئة وغير متوقعة أبدا، وتحبس الانفاس في مواطن كثيرة… (يستحيل أن تجدها في قصة يابانية ولا حتى في أي قصة أجنبية أخرى! ومن يشك بهذا فليقرأ القصة بنفسه)
وفي موقع الـ (جود ريدز) الشهير، يمكنكم الاطلاع على انطباعات القراء بشأن الكتاب
http://www.goodreads.com/book/show/3260388
النموذج الثاني: رواية (في قلبي أنثى عبرية) للدكتورة خولة حمدي، وفيها سلطت الاضواء على مدينتين عربيتين (تونس ولبنان)، مع شعورك بجميع الأجواء العربية المحيطة، حتى المقاومة!
وهناك روايتي التي وضعتها في هذا المنتدى ورغبتُ أن تكون نموذجا معتبرا في هذا التصنيف وهي بعنوان (تركته لأجلك..!!)
إذا قرأتموها فيمكنكم الحكم بأنفسكم بعد ذلك^^
ومن الافكار المقترحة، أن تكون البطلة مثلا فتاة ذات شخصية معينة مخالفة لطبيعة أهلها (حسب ما يراه المؤلف) ولكن أهلها يجبروها على الارتباط بابن عمها مثلا (هذا يحدث في بعض اسر العالم العربي للاسف!) بالطبع تشعر بالضيق بداية وتحاول الاعتراض لكن دون جدوى، ولأن أخلاقها لا تسمح لها بارتكاب أي حماقة لا أخلاقية (مثل الهرب من البيت أو الخروج مع صديق تحبه كما يحدث في القصص الغربية)، فإنها لن تجد حلا سوى القبول، بعد ذلك وطوال فترة الخطبة يمكننا تسليط الضوء على مشاعرها وضيقها من اتصالات خطيبها (ابن عمها) والذي يكون على درجة عالية من نبل الطباع وطيب الأصل، فيتفهم تصرفات خطيبته الجافة دون أن يبدي ذلك لها، وبالطبع دائما ما يقدم لها يد المساعدة ويساعدها على تخطي عقبات مهمة في التعامل مع أهلها خاصة، وتستمر الأحداث، ويمكن للمؤلف في هذه اللحظات كتابة ما يحلو له من المواقف (متابعي المانجا والانمي من الصنف الرومانسي الكوميدي يعرفون كيف تسير الأمور في هذه الحالات، ولكن هنا على الأقل الاثنان بينهما رابط شرعي ومقبول في المجتمع العربي)، في النهاية.. تقع الفتاة بحب خطيبها، يكون ذلك بعد موقف يضطر فيه للسفر في مهمة خاصة جدا وقد تكون خطرة (مثلا يعمل في سلك سياسي أو عسكري أو صحفي)، فتشعر لأول مرة بأنها لا تحتمل البعد عنه!!
بالمناسبة، هذه الفكرة ليست خيالية بل حقيقية، وأعرف شخصيا الفتاة التي تعرضت لمثل هذا
الموقف، والآن هي تحب زوجها بشكل يصل الى حد الجنون!!!! أسأل الله أن يتمم لهم على خير^^
أي أنه باختصار يمكننا الكتابة في هذا الصنف كما نشاء وعلى غرار المانجا اليابانية ببعض التعديلات البسيطة التي تناسب ثقافتنا، كما فعلوا مع (ران وسينشي) في الدبلجة العربية عندما قدموهم لنا على أساس أنهم مخطوبان!!#17#
3- أكشن وقتال:
الكثير من انميات الحروب والاكشن اليابانية (مثل هزيم الرعد) تستمد قصتها من النزاعات التي حصلت في اليابان، والامثلة كثيرة، حتى ناروتو وقبله صراع الجبابرة وصقور الأرض، وغيرهم لا تخلو قصصهم من الاستناد على هذه الاقتباسات التاريخية
وماذا عنا نحن؟؟ لا أظن أن هناك أحد قاتل وحارب أكثر من مقاتلة القبائل العربية لبعضها!!): صحيح أن هذا شيء لا يُفتخر به ولكن على الاقل دعونا نستفيد منه لقصص الاكشن^^
شعر الحماسة والفخر والشجاعة
إذا بلغ الفطام لنا رضيعا… تخر له الجبابر ساجدينا!!
معلقة عمرو بن كلثوم الشهيرة بعد أن قطع رأس عمرو بن هند (الملك)
وستجدون في هذا الرابط نبذة عنه
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B9%…AB%D9%88%D9%85
ناهيكم عن حرب داحس والغبراء
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%AF%…B1%D8%A7%D8%A1
ولا تنسوا فئة”الصعاليك” ومنهم من امتهن الصعلة وجعل منها بطولات كالفروسية ومنهم عروة بن الورد، (يذكرك بروبن هود)، وأشهرالصعاليك تأبط شر الذي اشتهر بسرعته فكان يجري ويصطاد الظباء!! وقد جاء في شعره أيضا ذكر (الغول)
هناك الكثير من القصص التي يمكن اقتباس الأفكار منها وهي لاتعد ولاتحصى، وهذا لا يعني أن لا تضيفوا اليها بعضا من خيالكم وابداعكم(:
ثم لا تنسوا أحداثا مهمة (كلها أكشن) حصلت في تاريخنا العربي، معارك وبطولات وامور قد لا تخطر ببالكم
هل تعرفون من هو أسد عين جالوت؟؟ وماذا عن تلك الشخصيات العظيمة الأخرى في تاريخنا التي أبهرت العالم؟؟؟
لدينا الكثير من المصادر الخصبة، فلا تترددوا بالقراءة عنها
وفي هذا الصدد لا بد لنا من التنويه لقصص الدكتور نبيل فاروق خاصة في سلسلة الرجل الستحيل، فهي مثال للابداع العربي في مجال الجاسوسية والاكشن^^
ولو تأملنا في واقع ما حدث ويحدث في فلسطين في الحقبة الأخيرة لكتبنا آلاف وملايين قصص القتال والمناورات والخطط الحربية#19#
4- تاريخ وغموض:
بداية هل تعرفون أن العرب جميعا من المشرق الى المغرب ينحدرون من أصل واحد، فما هو؟؟ ومن أين جاؤوا؟؟ وكيف انتشروا في البلدان واصبح لكل فئة منهم لهجة مختلفة؟؟؟ تفاصيل مثيرة جدا تصلح لقصص مانجا رهيبة إذا تم اخراجها بشكل مبدع.
مثلا تخيلوا لو أنه التقى بطل القصة وهو من المشرق العربي مع شخص من المغرب العربي، تدور بينهم مشاكل او مشاجرات أو اي شيئ (حسب مزاج المؤلف) ثم تتطور الاحداث ليكتشفا في جزء من الحكاية أن لديهما أصول مشتركة من خلال حادثة لا يتوقعونها.. يكون مثلا الجد السابع للاول هو شقيق الجد السابع للثاني، وهذين الشقيقين (اي الجدين) كل واحد منهما أوصى ذريته أن يحاول البحث عن بقية افراد العائلة، وهكذا تتوارث الاجيال هذه الوصية دون أن يعثروا على أحد(بسبب أحداث معينة يكتبها المؤلف) حتى يأتي هذين الشخصين، بالطبع هذه مجرد فكرة^^!!
المهم أن لدينا في تاريخنا العربي مرتعا خصبا جدا للأفكار سواء في العصور الجاهلية قبل الاسلام (ومنها قصص الملك سيف بن ذي يزن)، او عام الفيل والاحداث الكونية العظيمة التي زامنت مولد الرسول صلى الله عليه وسلم (فقد خمدت نيران (فارس) وغاضت بحيرة (ساوة) وسقطت (شرفات) من قصر ملك الفرس، ونكّست (الأصنام) )
ناهيك عما حدث بعد ذلك في العصور الاموية او العباسية أو عصر الاندلس، والمماليك والفاطميين والعثمانيين…الخ (شيئ خرافي)
هل سمعتم عن الأميرين الصغيرين الذين تم اختطافهما ليباعا في سوق العبيد باسم (قطز وجلنار) وبعد أن تم التفريق بينهما التقيا مجددا في قصة أغرب من الخيال؟؟
هذا رواية تاريخية رائعة أحسن الكاتب علي أحمد باكاثير رحمه الله في التعبير عنها في روايته المذهلة (وا إسلاماه)
بالطبع في تاريخنا الكثير من الأحداث الغامضة التي لا تزال تحتاج إلى تفسير خاصة في الحقبة الأخيرة، ما الذي نعرفه عن المؤامرات السرية، والمنظمات المخفية؟؟
روايات الدكتور منذر قباني، “حكومة الظل”، و”عودة الغائب”، ضربت مثالا رائعا للابداع في هذا المجال، أرجو من الجميع أن يبادروا إلى قراءتها، لن تصدقوا أنكم تقرؤون رواية عربية وبأجواء عربية حديثة بها كل ذلك السحر والغموض والابداع وكأنها من كتابات (دان براون)!!!
بالمناسبة لدينا أفضل وسيلة للتشفير عبر السنين ونقل رسائل من أجيال لأخرى، عن طريق الكتاب الذي لا يبدل ولا يحرف أبدا!!
مثلا تخيلوا لو قام أحدهم بكتابة قصة عن سر غامض خبأه في مكان ما، يريد ابلاغه لأحدهم بطريقة مشفرة، فترك له هذه الرسالة
” ستجدها في الكهف بين السدين، فإذا جمعت الرقمين، كان المفتاح!”
ماذا خطر ببالكم؟؟
قد يخطر ببالنا كهف حقيقي علينا البحث فيه وقد تتطور الأحداث في القصة والأبطال يبحثون عن هذا الكهف، ثم وبطريقة ما، يكتشفوا أن المقصود بهذا الكهف هو سورة الكهف عند الاية التي تقع فيها كلمة السدين، فيكون رقم الاية (93) وعند جمعهما 2+9 تكون النتيجة11، وهذا الرقم قد يكون يشير إلى شيء محدد (مثلا صندوق مغلق بنظام الأرقام، أو شيء من هذا القبيل)، على كل حال هذه فكرة سريعة خطرت ببالي أثناء كتابة التقرير، ويمكنكم القياس عليها بما شئتم(؛
فهل مثل هذه الأفكار تجدونها عن اليابانيين؟؟؟ لا أحد في العالم يمتلك كتابا لا يمكن تحريفه سوى نحن إذ لدينا (القرآن الكريم)، والأجمل من ذلك أن القرّاء عندما يتابعون المانجا التي تحوي مثل هذه الالغاز، يستطيعون فتح أي مصحف ليشاركوا أبطال القصة، وهكذا تزيد الاثارة والحماسة^^
اليست هذه هي فرصتنا الذهبية^^
ومن الأمور المهمة في هذه المجال، الحدث الذي رافق سقوط الخلافة العثمانية، وتحول الكتابة من الاحرف العربية الى الأحرف الاعجمية، وقد نشأ عن ذلك وجود مخطوطات باللغة العثمانية (اي لغة تركية مكتوبة بالأحرف العربية)، تحتاج لمتخصصين لقراءتها، خاصة وأن الاتراك الان لا يعرفون القراءة بالعربية!! وقد استخدم هذه الفكرة مؤلف سلسلة المغامرين الثلاثة (عالية وعارف وعامر) في احد قصصه(:
وطبعا لا ننسى التاريخ القديم والذي ورد ذكره في القرآن الكريم، كقصة الطوفان على زمن سيدنا نوح عليه السلام، قصة أصحاب الأخدود (بسم اهسل رب الغلام)، قصة أصحاب الكهف، والتي كتب فيها أحد المؤلفين بابداع رواية (قادم من وراء السنين)، قصص كهذه تثري أفكارنا في كتابة قصص تميزنا عن غيرنا وبجدارة بإذن الله
وقبل الانتهاء من أفكار هذا الصنف، لا بد من الاشارة إلى رواية أجدها قمة الروعة في عرض تاريخ قديم في العصر الفرعوني، وهي رواية (العائش في الحقيقة) لنجيب محفوظ..
5- مغامرات مدرسي وشريحة من الحياة:
هذا أكثر ما يمكننا الكتابة فيه بسهولة، بالطبع سنأخذ بعين الاعتبار أن معظم المدارس في العالم العربي غير مختلطة، فدعونا نتميز عن الانمي الياباني المدرسي بعرض هذه الفكرة والتركيز عليها، يمكننا كتابة الكثير بإذن الله^^
ومن أشهر الأمثلة في هذا المجال، سلسلة المغامرين الخمسة (تختخ وعاطف ولوزة ونوسة ومحب)، للمؤلف محمود سالم، والمغامرين الثلاثة (عارف وعامر وعالية)، و(محسن وهادية وممدوح)، أظنها قدمت نموذجا رائعا، رغم أنها لم تعد متداولة الان كما كانت في السابق..
ولأن رواية (مدرسة الفروسية ) تقريبا تندرج تحت هذا الصنف في أجزائها الاولى، فسأعرض منها بعض النماذج:
هذا مقطع من رواية مدرسة الفروسية، بعد أن وجد بطل القصة نفسه (علاء) في بيت شيخ كبير (الجد سعيد)
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطع أثناء أحد الدروس في مدرسة النصر للفروسية
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطع بعد فترة الدروس الصباحية في مدرسة النصر للفروسية
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطع من حديقة منزل السيد نبيل في أول ليلة من رمضان
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطع تحت الشجرة في ساحة مدرسة النصر
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطع اثناء التدريب المسرحي في قاعة الدراسة
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطع في القاعة المخصصة للدراسة في السكن الداخلي في مدرسة النصر للفروسية
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطعين من مدرسة النور للفتيات اثناء فترة الاستراحة
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطع صغير من منزل المعلم نبراس أثناء زيارة علاء لابنه
https://www.facebook.com/permalink.p…48152108727324
مقطع بعد التدريبات الاضافية التي أرهق بها علاء نفسه ليلحق
https://www.facebook.com/madrasset.a…63367613895060
ويمكنكم الاطلاع على المزيد من التفاصيل حول الرواية في صفحة الفيس بوك الخاصة بها
https://www.facebook.com/pages/%D9%8…48152108727324
6- رياضة:
بما أن أشهر لعبة معروفة حتى الان هي كرة القدم، فبإمكاننا استخدامها لحبك قصة مدهشة نسلط الضوء فيها على عالمنا العربي، وفي هذا المجال لدي فكرة سأعرضها على أمل أن تجد من يعمل عليها يوما ما، إن شاء الله..
يعلن اتحاد الكرة العربية تكوين منتخب عربي كحل للوصول إلى كأس العالم، بما أنه حتى هذه اللحظة لم تنجح أي دولة عربية بالحصول عليه، وأخيرا ينجح بإقناع الاتحاد العالمي لكرة القدم والمسؤولين عن اقامة (كأس العالم) بالسماح للدول العربية بالمشاركة كفريق واحد إذا حققوا الشروط،الخ وهكذا يبدأ تكوين الفريق من مختلف الدول العربية، لنعيش أحداث مثيرة مع حياة كل لاعب والذي سنرى من خلاله طبيعة دولته، فهل سينجح تكوين هذا الفريق؟ وهل سيتمكنون من اللعب معا بانسجام؟ وكيف سيتم اختيار اللاعبين وتوزيعهم بين الدفاع والهجوم وحتى الاحتياط؟ وماذا عن اللاعبين الذي تعاني بلدانهم من مشاكل مع جيرانها العرب؟؟ بل ومن أي دولة سيكون الكابتن؟؟ أسئلة كثيرة تجعلنا نتساءل، هل حقا يمكننا تكوين مثل هذا الفريق الذي سيلعب معا بانسجام واتفاق تام وتعاون ليفوز بكأس العالم!!!!#25#
أعتقد أن هذه ستكون فكرة لمانجا رهيبة جدا، لن تجد مثلها عند اليبانيين، فمثلا في الكابتن ماجد كان تكويّن المنتخب الوطني أمرا ليس بتلك الدرجة من الصعوبة، فهم على الأقل جميعهم من بلد واحدة، أما في الكابتن رابح فقد كان تكوين الفريق (فريق الأجنحة حسب الدبلجة العربية) أكثر صعوبة كونهم من بلدان مختلفة، أما في قصتنا المفترضة فالأمور مختلفة تماما وأكثر تعقيدا، ففي الظاهر جميع اللاعبين (عرب) وأمام العالم سينظرون اليهم كأنهم من بلد واحدة، أما في الواقع الذي يعيشونه، فهم يشعرون أنهم من بلدان وثقافات تكاد تكون مختلفة جدا، وهنا تكمن العقدة!!!!#5#
فهل هناك مانجا يابانية لديها مثل هذه الفكرة المعقدة#9#
بالطبع سيكون من الرائع أن يعمل على هذه المانجا أكثر من مانجاكا، ويُفضل أن يكونوا من بلدان مختلفة ليعكس كل واحد منهم صورة بلده بمصداقية وواقعية في شخصية اللاعب الذي ينتمي إلى بلده..
وتخيلوا لو أننا مثلا أضفنا لهذه المانجا فكرة وجود منظمة سرية تسعى لإعاقة تكوين هذا الفريق، فتعمل في الخفاء لبذر بذور الشقاق بين اللاعبين من خلال اثارة نعرات عصبية بينهم، خاصة وأن معظم الدول العربية لديها بعض الحساسية من الدول العربية المجاورة لها مع الأسف!!#8#
الكثير من الأمور والتفاصيل يمكن مناقشتها بهذا الخصوص، علما بأنها مجرد فكرة وسيجد كل واحد منكم مئات الافكار غيرها سواء في كرة القدم أو غيرها من الرياضات.. المهم أن نكتب بثقافتنا نحن^^
ولا تنسوا رياضة سباق الخيل، من الممكن أن نبدع في هذا المجال جدا إن شاء الله^^ لا سيما وأن أفضل الخيول على الاطلاق، هي الخيول العربية الأصيلة، وكما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (الخيل معقود في نواصيها الخير)
7- الخيال العلمي:
أعتقد برأيي أن من أفضل السلاسل في هذا المجال والتي ظهرت بثقافة عربية اسلامية مبهرة، هي سلسلة الخيال العلمي للدكتور حسام العقاد، وقد قرأتُ منها ( الأشعة الحارقة، الاختراع المدمر، القنبلة الجرثومية، الحلقة السوداء، الظل القاتل)، آمل أن يتمكن جميع محبي هذا الصنف (الخيال العلمي) من الاطلاع عليها، فقد كان دمجه لثقافتنا العربية الاسلامية بلب القصة في منتهى الابداع والروعة ما شاء الله، بالنسبة لي لم أقرأ مثله من قبل..
وطبعا لا بد لنا من ذكر سلسلة (ملف المستقبل) للدكتور نبيل فاروق، بصفتها من أشهر قصص الخيال العلمي التي انتشرت في العالم العربي..
كما قرأتُ من سنتين تقريبا رواية تندرج في قسم الخيال العلمي، بعنوان (صيد الثلج) للمؤلف زهير كمال، وفيها أبرز الكاتب ثقافتنا وواقعنا العربي بشكل مذهل (حلم الحاضر.. حقيقة المستقبل)
هذا ما جمعته من أفكار حتى هذا اللحظة، وما هي إلا غيض من فيض، وبأفكاركم ومشاركاتكم، سنبدع معا من أجل موسوعة عربية تكون مرجعا لجميع المانجاكا والمؤلفين العرب إن شاء الله^^
وفي الختام نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله عملا صالحا مقبولا نافعا، ويرزقنا فيه الاخلاص في القول والعمل والنية، ويوفقنا لما يحب ويرضى
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين