تركته لأجلك! – الحلقة 24
– سوووورا..
جفلت سورا فجأة قبل أن تلتفت إلى صوت مُنادِيتها:
– فاتن!! ماذا تفعلين هنا؟
فرمقتها فاتن بنظرات استفهام غريبة:
– ماذا أفعل!! وهل هذا مكان لا يُفترض بي التواجد فيه!!
ارتبكت سورا قليلا، لكنها سرعان ما استعادت ثبات شخصيتها المعتاد، ففاتن ينقصها الكثير من الذكاء لتفهم الآخرين، وأطلقت ضحكة خافتة:
– لا تحملقي بي هكذا! كنت أسألك وحسب..
فابتسمت فاتن التي كانت رغبتها لتقول ما عندها أكبر من اهتمامها بسماع المزيد من تبريرات سورا:
– أين كنت طوال هذه الفترة؟؟ لقد حاولتُ الاتصال بك مرارا لكن هاتفك كان مغلقا!! قلقت عليك كثيرا!
فقالت سورا بابتسامة مطِمئنة، وقد أدركت تماما أن لهفة فاتن عليها لايعني سوى أنها ترغب في محادثتها بأخبارٍ تجدها مثيرة:
– لكنني لم أتغيب سوى أمس، وهذا اليوم الثاني!
غير أن فاتن التي لم تكن تنتظر منها جوابا، سرعان ما شرعت بالكلام كمن يخشى أن يفوته شيء:
– اليوم لا يوجد دوام في المعهد على أية حال، لذا خرجتُ للتسوق.. تعرفين بالطبع، فاليوم هو افتتاح المعرض، وقد حضرت اللجنة الفنية أمس..
عند تلك الجملة وجدت سورا نفسها مضطرة لمقاطعة فاتن التي كانت مسترسلة بالحديث، فسألتها بدهشة:
– ولكن يُفترض بهم أن يأتوا غدا، أليس كذلك؟؟
شعرت فاتن بنوع من المتعة وهي تثير اهتمام سورا بكلامها، فقالت:
– لقد تفاجأنا بذلك بداية، ولكن كما قالت جولي، يبدو أنهم قاموا بعمل تعديلات سريعة في الجدول، بسبب موعد الانتخابات، وأظن أن مدير المعرض سيرشح نفسه للانتخابات الوزارية المقبلة، أنت تعرفين جولي.. لديها استنتاجات دائما بخصوص كل شيء! على كلٍ كان يوما مثيرا، وليتك رأيتِ وجه نيدو قبل وصول اللجنة وقد بدأت تفقد أعصابها….
كان (نيدو) هو الاسم الذي تعارفت فاتن مع بعض زميلاتها في المعهد على استخدامه لقبا للآنسة ناديا، غير ان سورا قاطعتها بلهجة صارمة:
– ألم تعرض لوحاتي؟؟
انتبهت فاتن إلى أن سورا لم تكن تستمع لما تقوله، وقد أصبح ذهنها مشغولا بفكرة واحدة، فأجابتها ببرود:
– بلى، قامت نيدو بعرضها، حتى أنها تولّت الشرح نيابة عنك، ولكن سواء أحضرتِ أم لا، كانت سوسن ستفوز بالبطاقة الوحيدة بعد ما حدث..
واستدركت بلهجة متحفزة:
– آه.. أجل نسيت أن أخبرك، يبدو ان شاب جديد على وشك الوقوع في حبالها، إنه مسؤول مهم في اللجنة الفنية، ولا أدري إلى أين وصلت به قصة الحب تلك، كان واضحا من نظراته.. وبالطبع لم يخفَ ذلك على أحد منا، تقول جولي بأن قصة حب شائكة ستقع قريبا، ولولا أنني كنتُ أنتظر الفرصة المناسبة للتسوق؛ لذهبتُ مع بقية الفتيات للمعرض لمتابعة فصول هذه القصة المثيرة..
وأطلقت ضحكة عالية، اما سورا التي تعكر مزاجها تماما، فقد حاولت جاهدة الحفاظ على رباطة جأشها وهي تسأل فاتن كمن استوعبت ما سمعته على حين غرة:
– هل قلتِ أنه قد تم افتتاح المعرض العالمي هذا اليوم؟
حملقت فاتن فيها بعينين مفتوحتين عن آخرهما، غير مصدِّقة:
– ألا تعرفين ذلك!! ولماذا أعطتنا الآنسة ناديا اليوم عطلة إذن!! ألم تلاحظي الاعلانات التي ملأتها صورة سوسن في طول المدينة وعرضها؟؟ لا أظن أنه بقي أحد لم يعرف بأن اليوم هو موعد الافتتاح، إذ لم تبقَ صحيفة ولا مجلة ولا أي وسيلة إعلامية إلا ذكرت ذلك!
عضت سورا على شفتيها غيظا، فهي لم تكن لتهتم بإعلان نُشِرت فيه صورة سوسن، كائنا ما كان ذلك الاعلان، وكأن هذا يعطيها شعورا بالرضى؛ لكونهم قد خسروا زبونة مهمة مثلها بسبب سوء استخدامهم للصورة المناسبة!!
لكن فاتن سرعان ما فهمت ما يجول بخلد سورا فغمزتها باسمة:
– على الأقل هذه فرصتك، فأيهم سيكون وحده!!
وتابعت وهي تحاول تلطيف الجو:
– هيا اعترفي.. ألم تكوني تخططين للإيقاع به؟؟
بوغتت سورا بسماع ذلك، وكاد الارتباك أن يفضحها.. هل عرف أحد بما أنوي القيام به حقا!! لكنها انتبهت إلى أن كلام فاتن لا يعدو كونه تعليقا غير مقصود لا أكثر، فابتسمت بمكر وهي تتظاهر بمجاراتها المزاح:
– ولم لا..
فقالت فاتن وقد أعجبتها الفكرة:
– حسنا، ولكن لا تنسِني من الغنيمة..
وضحكت الاثنتان بصوتٍ مرتفع، قبل أن تفترقا..
سارت سورا وحيدة باتجاه منزلها، وكلمات فاتن ترن في أذنها بانتظام، لقد خططت كثيرا، وقد كانت تستعد لخطة محكمة، دون أن تحسب حسابا لفرصة ذهبية كهذه!! فهل تتبع خطتها أم تستثمر هذه الفرصة!! خطواتها يجب أن تكون مدروسة، فلا مجال للخطأ.. وأي تهور من قبلها قد يقلب الأمور رأسا على عقب.. لقد خسرت المشاركة في المعرض العالمي، لكنه لا شيء يُذكر أمام هدفها الأكبر، هدفها الذي يستحق التضحية بكل ما تعنيه الكلمة من تضحية..
وأطلقت تنهيدة طويلة بثتها ما يختزن في صدرها من أشجان:
– الجمال الأخاذ الساحر.. لا يكفي وحده…
قالتها لنفسها وهي تشعر بأن رأسها على وشك الانفجار..
لقد قدم لها جمالها خدمة جليلة فيما مضى، لكنه ليس بالقدر المطلوب ليحقق المزيد من طموحاتها..
وعادت بذاكرتها سنوات طويلة إلى الوراء، لم تعد تهتم بذكر عددها..
طفلة صغيرة لم تتجاوز السادسة من عمرها، وإن بدت أكبر من ذلك بثلاث سنوات على الأقل، تجري حافية القدمين بحماسة وسط الزقاق في أحد الأحياء الفقيرة، وهي تقود خلفها بقية الأطفال المشاغبين، الذين انصاعوا لأوامرها كزعيمة عصابة لا تُقهر، فقد كانت أكثرهم جرأة وقوة في الشخصية، ويكاد الجميع يحسب لها ألف حساب.. كانت زعيمة بفطرتها، بل وموهوبة في السيطرة!!
يومها كانت تجمعهم لوضع خطة محكمة لمهاجمة أكثر البيوت إدقاعا بالفقر في حيهم، تعبيرا عن انتقامهم لبيع صديقتهم الصغيرة سعيدة..
سعيدة.. تلك الطفلة البريئة التي كانت تمثل دور الخادمة المطيعة لجلالتها، بصفتها الزعيمة أو الملكة الآمرة الناهية للجميع.. كان مظهرها يثير الشفقة وهي تبتعد عنهم وقد أمسكتها أمها من يدها، بعد أن قررت ارسالها لمكان يضمن لها مستقبلا أفضل، بدلا من الموت جوعا مع أسرة لم تعد تطيق البقاء في هذه الحياة القاسية.. خاصة وقد تبين جليا أن اسمها وحده لن يجلب لها السعادة ما دامت ستبقى في هذا المكان.. وهكذا اتخذت امها ذلك القرار.. باختصار.. قرار (بيعها)..
لقد بيعت (سعيدة)..!
كم كانت هذه الكلمة قاسية حتى على أطفال لا يفهمون شيئا في عالم التجارة!!
كانت المجموعة قد وقفت في المكان الذي حددته لهم (الزعيمة)، وبدأت تُملي عليهم أوامرها لتنفيذ خطتها الانتقامية، عندما لفت نظرها سيارة فارهة تقف عند بداية الزقاق المؤدي لمنزلها، كان منظرها ملفتا للانتباه بالفعل حتى أن بعض أطفال مجموعتها تجرؤا على مقاطعة حديثها الهام وهم يشيرون إلى السيارة بجلبة واضحة، حتى الزعيمة اندمجت معهم في ذلك الحديث لوهلة:
– هل رأيتم مثلها من قبل؟؟
– ربما.. ولكن ليس في هذا المكان!
– يقول أخي أن حي المدينة الشرقي يزدحم بالسيارات الفارهة من كل نوع! لو رأى هذه السيارة لعرفها بالتأكيد!
– وما أدرى أخوك بذلك!!
– ألا تعرف! إنه يعمل بتنظيف السيارات.. ولديه خبرة واسعة..
– ربما هذه واحدة منها إذن!!
– ولكن ماذا تفعل هنا؟
– هل تظن أنهم أخطئوا العنوان؟
– طبعا.. فما الذي يريده أهلها بحينا؟؟
– أو ربما جاؤا ليبحثوا عن منظف لها..
– ما رأيك يا زعيمة، من يكونون؟
وقبل أن تدلي الزعيمة برأيها حول هذا الموضوع، نزل السائق ليفتح الباب الخلفي من السيارة، فاسحا المجال لسيدته بالنزول، بدت سيدة ثرية جدا في أواسط عمرها، فتعلقت بها نظرات الأطفال وهي تعدل لف فراءٍ باهظ الثمن حول عنقها، فيما حملت حقيبة من الجلد الطبيعي، لا يملك من يراها إلا أن يُقدّر من نظرة واحدة أنها تحوي كنوز الدنيا كلها، واتجهت مباشرة نحوهم فيما تبعها اثنان من حراسها الشخصيين..
كانت لحظات مثيرة تجمد الجميع خلالها في اماكنهم دون أن ينبسوا بكلمة واحدة، حتى الزعيمة.. كانت مثلهم، وكأنهم على موعد مع ملكة من ملكات الأرض، لا يفصلهم عنها سوى بضع خطوات وئيدة من جلالتها..
حدقت بهم السيدة لوهلة بعد أن وقفت على بعد خمس خطوات منهم، فيما اختبأ معظم الأطفال خلف زعيمتهم التي وقفت بانتظار ما تريده تلك السيدة بنظرات متحدية.. اقتربت السيدة منها أكثر وقد افترت شفتاها عن ابتسامة خافتة، قبل أن تلتفت إلى حارسها الواقف عن يمينها قائلة:
– إنها جميلة، أليس كذلك؟ أظنها ستؤدي الغرض..
علا التجهم وجه الطفلة الزعيمة، ولم تنتظر سماع ما تريده تلك السيدة؛ بل بادرتها بلهجة قوية جريئة لا تناسب سنها أبدا:
– ما الذي تريدينه منا؟؟
فابتسمت السيدة برضى:
– تعجبني هذه النظرات الواثقة، هذه هي الشخصية التي تناسبني تماما!! ما اسمك يا صغيرتي؟
أجابتها الطفلة بفخر، فيما ازداد التصاق الأطفال بظهرها:
– سليمة أو الزعيمة، كلاهما سيان عندي..
هزت السيدة رأسها بتفهم، دون أن تلقي بالا لتلك اللهجة ذات الكبرياء الواضح:
– سليمة.. اسم يلائم هذا المكان فقط..
لم تفهم سليمة ما الذي عنته السيدة بقولها، فيما تابعت الأخيرة سؤالها بتودد:
– أين منزلك ايتها الزعيمة؟
أشارت سليمة بيدها إلى أحد الأبواب الكثيرة المتهالكة والملتصقة ببعضها، حتى يشك من يراها أنها تؤدي لبيوت مختلفة، ثم قالت باحتراسٍ قبل أن تلاحظ السيدة أي باب هو المقصود بالضبط:
– ولكن ماذا تريدين منا أيتها السيدة؟؟
فابتسمت السيدة:
– أريد مقابلة والدتك يا عزيزتي، لك عندي مفاجأة ستعجبك بالتأكيد..
ورغم أن كلام السيدة أثار فضول سليمة، إلا أنها تظاهرت بغير ذلك، فاكتفت بإجابة مقتضبة:
– أمي متوفية..
لم تعلق السيدة بكلمة بل اكتفت بتبادل نظرات ذات مغزى مع حارساها، ثم سألت سليمة بشفقة واضحة:
– مع من تسكنين يا صغيرتي؟
لم يرق لسليمة أسلوب السيدة وهي تخاطبها بتلك اللهجة، فأجابتها بلا مبالاة:
– مع أبي وزوجته..
فقالت السيدة وهي تحاول أن تكون أكثر تفهما لشخصيتها لعلها تستميلها إليها:
– حسنا، هلا أخذتِني إليهم؟
ظهرت علامات الشك واضحة في عيني سليمة، وبدت مترددة في الانصياع لكلام هذه المرأة الغريبة، غير أن السيدة شجعتها بقولها:
– ألا تريدين أن تصبحي ملكة!
ورغم ذكاء سليمة اللماح، الذي تضاهي به من يكبرها بعشر سنوات على الأقل، إلا أن روح الطفولة غلبتها، فلم يستغرق الأمر سوى بضع كلمات أخرى من تلك السيدة، حتى كانت سليمة قد أوصلتها إلى المنزل، فالتفتت إليها السيدة بابتسامة مشرقة:
– تستطيعين الذهاب الآن ريثما أنهي بعض الاجراءات..
لم تعرف سليمة في ذلك الوقت ما الذي دار في الداخل، ولم تكن تُدرك أنها لن تكون بحاجة لتنفيذ خطتها الانتقامية ممن تسبب في بيع سعيدة، غير أن ما حدث بعد ذلك أفهمها بأنه قد تم (بيعها) هي الأخرى!!
البؤساء.. كم هم جهلة هؤلاء الذين يظنون أنها مجرد اسم لرواية تصف حالة خاصة في فرنسا في عصر (فيكتور هوجو)..!!
أطلقت سورا تنهيدة طويلة وقد دمعت عيناها إثر تلك الذكرى المريرة في حياتها، فرغم أنها لم تكن تشعر بالانتماء لذلك البيت منذ وفاة والدتها، غير أن فكرة الاستغناء عنها بتلك البساطة سبب لها جرحا غائرا لا يندمل، بل ساهم في زرع المزيد من بذور الحقد في قلبها على هذا العالم..
وأفلتت ضحكة ساخرة من بين شفتيها:
**- يقولون اننا مسلمون.. وللفقراء حق في بيت المال وزكاة الاغنياء.. يا للسخف.. هراء فعلا..!
**
تركته لأجلك! – الحلقة 22
تركته لأجلك! – الحلقة 21
تركته لأجلك! – الحلقة 20
تركته لأجلك! – الحلقة 19
تركته لأجلك! – الحلقة 18
تركته لأجلك! – الحلقة 17
تركته لأجلك! – الحلقة 15
– اوه.. لا بأس.. أعتذر أنا أيضا عن وقوفي هكذا..
قال كلماته تلك ونظراته لا تزال معلقة بها مما أشعرها بالحرج فانحنت جانبا لتتابع صعودها نحو المعهد، غير أنه استوقفها قائلا:
– عذرا يا آنسة.. أليست هذه بناية معهد الفنون الراقي؟
فأومأت سوسن برأسها ايجابا وهي تلتفت إليه:
– أجل، وهو في الطابق الثاني..
فابتسم الشاب:
– إذن أنت متجهة إليه ، هل أنت من فتيات المعهد؟
ولما ردت عليه سوسن بالإيجاب، مد الشاب يده ليصافحها بنشوة لا مبرر لها:
– لقد سررت بلقائك يا آنسة،.. لاشك أنك إحدى الموهوبات في هذا المعهد.. اسمي سامر مبعوث لجنة التقييم الفنية، وقد جئت للتأكد من صحة العنوان قبل وصول البقية.. فقد يتأخروا عن الموعد المقرر قليلا.. حسنا لا بد أنك مستعجلة سأراك لاحقا…
لم تجد سوسن بدا من مجاملته بابتسامة ودودة وهي تمد يدها لمصافحته، رغم أن حدسها نبأها بأن هذا الحديث كله كان مفتعلا إذ لم يكن من داع له! و لا تدري لِمِ تمنت من أعماق قلبها لو يراهما أيهم في هذا الموقف.. ترى.. ماذا ستكون ردة فعله!!!
فوجئت سوسن بالتغييرات الكثيرة التي أعدتها ناديا لاستقبال الضيوف..فوجدت صعوبة في إقناعها بضرورة استرجاع لوحتها الأخيرة من فوق ركيزة العرض لتضيف عليها بعض اللمسات بسرعة، فيما لم تجد ناديا ضرورة لذلك معلقة:
– إنها جيدة.. أضيفي توقيعك عليها وحسب..
غير أنها استسلمت لإلحاح سوسن عليها متمتمة:
– يبدو أن علي أن أكون ممتنة لحضورها على الأقل!
والتفتت نحو إحدى الفتيات:
– ألم ترد عليك سورا بعد!
فردت بارتباك:
– كلا فهاتفها مغلق!!
عضت ناديا على شفتها بغيظ:
– يا لهؤلاء الفتيات المستهترات!!
كان المعهد في حالة استنفار تام، فقد وقفت المرشحات للمشاركة في المعرض العالمي أمام لوَحهن باستعداد لإجابة أي سؤال أو إضافة توضيح، و تقاسمت الأخريات اداء المهمات الاخرى من استقبال وترحيب وتعريف بالمعهد و ما إلى ذلك.. ومع آخر لمسةٍ من ريشة سوسن، أُعلن نبأ وصول الضيوف فرافقت الآنسة ناديا اللجنة المكونة من فنانين وخبراء ونقاد من كلا الجنسين، فيما أسرعت سوسن بوضع لوحتها على ركيزة العرض الخاصة بها واقفة أمام لوحاتها باستعداد وحماسة.. لقد حانت اللحظة الحاسمة أخيرا ..
ولم يطل الأمر كثيرا على سوسن إذ سرعان ما تحلق حولها ثلاثة من الفنانين لتفاجأ بأن ذلك الشاب الذي قابلته على الدرج كان أحدهم بل وبدا أكثرهم مكانة في عالم الفن، فشعرت ببعض الحرج خاصة وأنه أغدق عليها أكيالا من المدح أطرى فيها الجمال في لوحاتها الحالمة، كان وسيما جدا و ذو شخصية مرموقة بدت واضحة من خلال تعامل بقية أعضاء اللجنة معه مما دل على مكانته بينهم، ولم تنتبه سوسن في البداية لتلك النظرات الحانقة التي أثارها اهتمام سامر بها، إلا أن تهامس الفتيات و تغامزهن فيما بينهن أصبح واضحا لها مع انصباب اهتمام معظم أعضاء اللجنة عليها وقد بدوا متلهفين لفتح حديث معها سواء كان له علاقة بمواضيع اللوحات أم لا ..حتى أن سوسن شكّت في أمرها.. أهو انبهارٌ وإعجابٌ يشهد بحرفية رسمها وروعة لوحاتها، أم بشيء آخر! غير أنها حاولت تجاهل ذلك كله لتركز انتباهها مع أسئلة اللجنة، وفيما أخذ أحد النقّاد يثني على براعتها في رسم الصور الشخصية والوجوه، فاجأها سامر بسؤاله وهو يحدق في لوحة رسمت فيها أيهم:
– هذه صورة للنجم المشهور أيهم على ما أعتقد.. هل أنت من معجبيه؟؟
فاحمرت وجنتا سوسن ودق قلبها كعادته حين يُذكر أيهم، قبل أن تقول بلهجة تحمل في طياتها الكثير من الفخر والسعادة:
– أجل إنه أيهم.. خطيبي..
لم يخف على سوسن ملاحظة الضيق الذي ارتسم على وجه سامر، فأدار وجهه متحاشيا النظر إليها وهو يردد بصوت أقرب للهمس:
– إنه محظوظ بلا شك!!
لم تفهم سوسن سر تجهم وجهه وتصرفه الغريب ذاك، غير أنه لم يدعها لحيرتها تلك إذ سرعان ما تدارك نفسه، وابتسم قائلا:
– أنت فنانة بارعة يا سوسن.. يشرفني تعرفي إليك..
ثم تبادل بضع كلمات مع بقية الأعضاء بعد أن انهوا جولتهم في المعهد، لتكون الصدمة القاصمة للفتيات عندما أعلن سامر باسم المجموعة أن المعرض العالمي لن يتسع لغير مشارِكة واحدة وقد فازت سوسن به، فاتحا المجال أمام الألسن لتلوكها بشدة وقد أثار حنقهن، فوجدنها فرصة للاشارة إلى علاقات وهمية وقصص لا أول لها ولا آخر من النوع الذي يأنف الحر من مجرد التفكير فيه!! مما أحال هذه اللحظة، التي يفترض أن تكون من أسعد اللحظات التي انتظرتها سوسن بفارغ الصبر ، إلى خيبة أمل كبيرة لم تتوقعها من ردود أفعال زميلاتها وهمس عباراتهن القاسية تلسع قلبها الرقيق كسياط عقرب سام، خاصة ممن كنّ يؤملن بشدة المشاركة في المعرض العالمي مثلها، فرددت إحداهن بحسرة:
– وما ذنبي إن لم أكن بجمالها؟ أن تكوني جميلة يعني أن تسهل أمورك كلها في هذه الحياة!!
و علقت أخرى:
– ألم تلاحظي كيف كان ينظر إليها!! أتراه كان على علاقة سابقة بها!!
فتجيبها زميلتها:
– ربما .. من يدري!!
و أضافت ثالثة:
– يا لأيهم المسكين.. كم أشفق عليه! لو يأتي الآن لعرف حقيقتها!!
وقالت رابعة بتذمر:
– هذا ليس عدلا.. على اللجنة أن تكون محايدة!!
و رغم أن سوسن لم تركز في كلامهن الجارح الذي حاولت تجاهله؛ إلا أن الدنيا دارت بها.. ألا أستحق المشاركة في المعرض العالمي حقا!!.. ألم يكن اختياري عادلا!!.. بل أين العدل في كلامهن!!.. لِمَ لا يأخذن بعين الاعتبار الجهد الذي ابذله في اتقان لوحاتي! حتى الانسة ناديا تشهد بذلك!.. آه.. ليتك يا نور هنا.. لأخبرتِني بالحقيقـة على الأقل..
ولم تكد سوسن تستغرق في أفكارها تلك حتى انتبهت على صوت سيدة – من عضوات اللجنة- هتفت فجأة وهي تشير إلى إحدى الزوايا:
– ما هذه اللوحات؟؟
فقالت ناديا بفخر وهي تتجه نحوها:
– إنها إحدى انجازات معهدنا..
فسألتها السيدة بلهفة فيما أسرع البقية لرؤية اللوحات:
– وأين هي صاحبة الرسم؟؟
فأجابتها ناديا بضيق:
– لقد حدثت معها ظروف منعتها من الاستمرار معنا..
غير أن السيدة قالت بنبرة شك:
– تقصدين أنها تركت المعهد!!
فردت ناديا بغيظ:
– لقد حصلت معها ظروف خارج عن ارادتها كما ذكرت، لذا لم تستطع الاستمرار معنا..
هزت السيدة رأسها بتفهم، والتفتت لبقية الأعضاء:
– ما رأيكم؟؟
فأجابها أكبر الخبراء سنا:
– حسب تقديري المبدئي.. لوحات كهذه كفيلة بإنجاح أكبر المعارض العالمية على الاطلاق!
وسأل كبير النقاد ناديا:
– ما هي طبيعة شخصية الفتاة بعد إذنك؟
احتارت ناديا في العثور على الجواب المناسب:
– ماذا تقصد؟؟
فقال موضحا طبيعة سؤاله:
– أقصد أنها لابد وأن تكون ذات شخصية مميزة و غير عادية.. اللوحات تحمل معنى عميقا جدا.. بل و عميق للغاية! .. هل هي.. تحمل أفكارا معينة؟ .. متديّنة مثلا!
فتساءلت السيدة قبل أن يسمع الناقد إجابةً لسؤاله:
– هل تمانعين ببيع هذه اللوحات يا آنسة؟
فأجابتها نادية بصرامة لا تراجع فيها- وهي تدرك أهمية لوحاتٍ كهذه لمعهدها:
– إنها ليست للبيع!
فقالت سيدة أخرى أكثر حنكة:
– ولكن بالتأكيد لن تمانعي إن ما شاركت هذه اللوحات في المعرض العالمي بنسبتها لمعهدكم، أليس كذلك؟
فتهلل وجه ناديا بالموافقة:
– إذا اقتصر الأمر على المشاركة وحسب فلا مانع لدي!
عندها التفتت السيدة نحو سامر الذي وقف يعاين اللوحات بانبهار تام، قائلة:
– ما رأيك يا أستاذ سامر؟ إنها من الفن السريالي.. اختصاصك..
وبفضول شديد حاولت سوسن سماع رأيه، وقد أثار اهتمامها ذكر لوحات نور، غير أنها ما أن وقعت عينيها على إحدى اللوحات؛ حتى شعرت بتعرقٍ صاحبه خفقان شديد في قلبها أذهلها عما حولها وكأنه لم يعد في المكان غيرها مع تلك اللوحة التي شعرت بانصهار تام معها..
شجيرة ورد متشابكة الأوراق توسطت اللوحة، برزت في الجانب الأيسر منها – حيث الخلفية السوداء الضبابية- وردة جورية حمراء بدت كمن تستغيث وقد التوى عنقها من تجاذب الأيادى حولها.. أيادٍ كثيرةٍ مختلفة الأحجام والألوان امتدت من وسط الظلام الذي يلف الوردة تحاول جذبها نحوها في صراع مرير، فتناثرت بتلاتها الحمراء بشكل قطرات دم قانية في حالة يرثى لها.. وهناك في الجانب الأيمن حيث النور.. بقعة مضيئة في جانب الشجرة أظهرت بصعوبة وردة حمراء أخرى من بين أوراقٍ أحاطت بها و تدلّت من فوقها بعناية لتخفيها عن الأنظار، وقد ارتسمت عليها بخيالٍ بارعٍ ابتسامة رضا موهومة جسّدت الحياة فيها حتى بدت لناظرها حورية تختبئ في محرابها!
يا إلهي ما هذا، كيف لم انتبه لوجودها من قبل!! نور.. ما الذي تفعلينه بلوحاتك!! أكنت تعلمين بمعاناتي!! أرأيتِ كوابيسي..! ظلام وأيادي تلاحقني.. ما هذا يا إلهـــ…
غير أن صوت سامر أخرجها من دوامة أفكارها:
– ألم تري هذه اللوحة من قبل!!
فهزت رأسها نفيا ببعض الارتباك إذ يبدو أن انفعالاتها فضحتها أكثر مما ينبغي، وبتردد سألها سامر متابعا:
– أكانت صاحبة اللوحة صديقتك!
فأومأت سوسن برأسها إيجابا:
– أجل..
هم سامر بقول شيء تراجع عنه بسرعة، والتقت عيناهما لوهلة أطرق سامر برأسه إثرها وابتعد عن المكان، ملتفتا إلى بقية أعضاء اللجنة:
– أظن أن مهمتنا قد انتهت تقريبا، سأسبقكم إلى الخارج..
بدا خروجه دون أي كلمة أخرى غريبا نوعا ما غير أن كبير الخبراء قال مبررا موقفه:
– الفنان لا يفهمه إلا فنان مثله..لا شك أن اللوحات أثرت به.. إنه مرهف الاحساس جدا….
و بتر عبارة كان يريد اضافتها، مكتفيا بشكر الآنسة ناديا باسم لجنة التقييم الفنية، مؤكدا عليها:
– سنرسل فريق عمّالنا لاصطحاب اللوحات في صباح الغد، أرجو أن يتم تجهيزها ولفها جيدا لسلامة النقل..
فأضافت السيدة:
– و لا تنسي تلك اللوحات رجاءً..
**وصافح أعضاء اللجنة الآنسة ناديا وسوسن وهم يتمنون لها حظا طيبا بعد أن حصلت على بطاقة المشاركة في المعرض العالمي والتي وُقّعت باسمها من قِبَل كبير الخبراء..
**
تركته لأجلك! – الحلقة 14
كانت سوسن سارحة بتأملاتها في الطريق كالعادة عندما رن هاتفها باتصالٍ مفاجئ من الآنسة ناديا:
– سوسن أين أنت؟ ستحضر لجنة التقييم بعد ساعة!! فهل لوحاتك جاهزة؟؟
فوجئت سوسن بهذا الخبر فتساءلت بدهشة:
– ولكن موعدنا معهم بعد يومين.. أليس كذلك!
فجاءها صوت ناديا بنفاد صبر:
– لا يهمني مناقشة ما استجد في أمرهم الآن، ما يهمني هو أن تحضري بأقصى سرعة..
فطمأنتها سوسن:
– لا تقلقي يا آنسة فأنا بالطريق؛ دقائق وأكون عندك..
لم تكد سوسن تنهي الاتصال حتى رُوّعت بميلان حاد أفقدها توازنها لترتطم بالجانب الآخر من السيارة، إثر حادثٍ مروع في الطريق استطاع سائقها تفادي الاصطدام به في اللحظة الأخيرة.. لم يكن ارتطامها قاسيا، وإن كان مؤلما بعض الشيء، فعدّلت جلستها بسرعة قبل أن يوقف مرزوق السيارة على بعد عشرة أمتار من ذلك الحادث.. التفت إليها:
– هل أنت بخير؟
فطمأنته قائلة:
– أجل.. لماذا أوقفت السيارة!! فأمامي موعد مهم في المعهد!
غير أن مرزوق أجابها وهو ينزل من السيارة::
– سأتأكد من سلامة العجل أولا؛ فأظنه تعرض لبعض التلف ولا يمكنني المغامرة..
عندها عرفت سوسن لم نُظمت أشعارٌ على غرار: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ولم يكن خيار أمامها، فنزلت من السيارة هي الأخرى متجهة نحو مرزوق الذي أخذ يتفحص العجل، قائلة:
– أظن أن علي تدبر أمري، سأستقل سيارة أجرة فلا يمكنني التأخر أكثر..
غير أن مرزوق هب مذعورا:
– لا يمكنك ذلك.. سيغضب سيدي.. انتظري لحظة يا آنسة، سأتدبر الأمر بسرعة..فعودي إلى السيارة أرجوك..
فتنهدت سوسن:
– سأهاتف أيهم إذن..
وما أن رفعت ناظريها حتى فوجئت بعدد السيارات التي تجمعت حولها فيما هرع عدد من الشبان – وحتى الكهول – نحوها يعرضون المساعدة!
وكان أسرعهم شاب بدا من النوع المستهتر تماما، اقترب منها قائلا:
– سيارتي في الخدمة..
في حين تبعه ثانٍ:
– أين تريدين يا آنسة، فربما كان مقصدك في طريقي..
فيما تطوع آخر بتقديم المساعدة في إصلاح العجل، وهو يرد على الآخرين:
– لا مشكلة سيتم اصلاح العجل بسرعة فلدي خبرة في ذلك، هل أنت مستعجلة كثيرا يا آنسة!
واقترب رجل بدا في الأربعين من عمره:
– ما هذا الازدحام يا شباب لقد أزعجتم الآنسة..
والتفت نحوها باسما:
– يمكنك المجيء معي إن أردت!
غير أن رجلا آخر غامزه بقوله:
– إلى أين ستهرب بالغزال يا رجل!
شعرت سوسن بالغثيان، بل وبرغبة شديدة في التقيؤ أيضا..وهي تقف مصدومة بما تراه.. ليس لأنها المرة الأولى التي تطالعها بها العيون بهذا الشكل، بل لشيء آخر لم تستطع تفسيره، خاصة مع بساطة مظهرها في هذا اليوم تحديدا.. فرغم أنها كانت تعرف تماما مقدار الجمال الباهر الذي تتمتع به و مدى جاذبية طلتها وقوامها الممشوق الذي ما فتئ أيهم يثني على فتنته.. إلا أنها لم تتيقن من ذلك إلا هذه اللحظة بالذات، صحيح أن بعض نظرات الإعجاب كانت تزيدها ثقة في نفسها أحيانا، لكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فهذا ما لا يعجبها إطلاقا!!
حتى راعها منظر شاب بدا وكأنه قد أنهى للتو محكوميته في سجون اعتى المجرمين خطورة، وهو يوقف سيارته لينزل منها محدقا فيها بنظرات أرعبتها:
– تأمرين بشيء؟
فاكتفت بابتسامة مقتضبة – حاولت أن تخفي خلفها خوفها – شاكرة الجميع بكلمة واحدة، وقد آثرت الانتظار داخل السيارة حتى تنصلح الأمور فلن يعيق وزنها سير عملية الإصلاح تلك.. تهاوت على مقعدها بعد أن أغلقت أمّان الباب، وتناولت هاتفها وقد تذكرت ما كانت تعزم القيام به، وبسرعة جاءها صوت أيهم:
– صباح الخير يا جميلتي، لقد ظننتك لاتزالين نائمة بناء على نصيحة الطبيب، ألم نطلب منك أخذ قسطا كافيا من الراحة!
فأجابته:
– لا بأس فقد شعرت بتحسن كبير..
وهمت بأن تقول له بأن بقاءه إلى جانبها ليلة أمس وتفهمه لها أثّر بشكل كبير في تحسن حالتها، غير أنها عدلت عن ذلك بقولها:
– لقد أخبرتني ناديا بأن لجنة التقييم ستحضر اليوم وعلي الحضور بسرعة.. غير أنني في ورطة الآن، فقد تعطل عجل السيارة..
فجاءها صوت أيهم بلهفة:
– وكيف حالك أنت؟ هل أصبت بأذى؟ هل أنت بخير يا حبيبتي؟
فردت عليه بنبرة تعبر عن سعادتها باهتمامه:
– لا تقلق فقد تفادينا الاصطدام بسيارتين قلبت إحداهما، و من حسن الحظ لم تكن هناك إصابات شديدة على ما يبدو.. ها هي سيارات الشرطة قد حضرت ..
فشهق أيهم:
– وأين أنت الآن!
فأجابته:
– كما قلت لك انتظر إصلاح عجل السيارة، قرب الميدان الرئيسي..
فجاءها صوته متنهدا:
– لو كان بإمكاني الحضور بسرعة لأتيت إليك، لكن للأسف سيأتي المخرج الآن للإشراف على إخراج اسطوانتي الجديدة..
فردت عليه سوسن بتفهم رغم أنها كانت تتمنى حضوره فورا:
– أقدر لك ذلك، لا مشكلة فأظن الأمور ستسير على ما يرام..
فقال لها برقة:
– إذن انتبهي لنفسك جيدا يا ملاكي فلا شك أن وقوف سيارتك أثار اهتمام العديدين..
كانت هذه الجملة بالذات هي ما تنتظره سوسن بفارغ الصبر..وبدأت نفسها تعبر عن مشاعرها باسترسال.. أنت تعرف ذلك يا أيهم إذن ولا يخفى عليك المأزق الذي أجد نفسي فيه الآن؛ فهل تدرك مدى خطورته علي!! ألن يأت اليوم الذي تقترح علي فيه حلا لهذه المشكلة تعبيرا عن اهتمامك بي وخوفك علي…! ألا ترغب بإبعادي عن هذه العيون المتوحشة ! ألا تسوؤك تلك النظرات الـ…!!…… ألا تغـــ….
لكن تساؤلاتها تلك تلاشت أدراج الرياح، لتبقى حبيسة في نفسها إلى أجل غير معلوم.. وقد تذكرت العهد الذي أخذته على نفسها هذا الصباح.. فلن تعكر مزاجها بالمزيد من هذه الأفكار ولن تتطرق لأي موضوع يفسد الود بينها وبين من تحب..
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم