تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 57

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

ما أن أنهت نور تجهيز نفسها للزيارة المرتقبة؛ حتى بدأ التوتر يتسلل إليها، فهذه المرة الأولى التي ستقابل فيها هدى أخيراً، ولم تستطع إبعاد ذلك الكابوس عن مخيلتها، وشعرت بأنها على وشك الغرق في هواجسها من جديد، فأسرعت تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، محدثة نفسها بثقة:

– كما قالت الخالة نبيلة، الابتلاء لا يُسعى إليه ولا يُطلب، والأولى أن نسأل الله العافية، فالله قادر على إسعاد الجميع بحل من عنده سبحانه، لذا لن أسمح لهذه الوساوس بالسيطرة على تفكيري بعد الآن، فهي لا تجلب سوى الحزن، وهذا من الشيطان.. وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم..

ومع ذلك.. تمنت بشدة؛ لو تعثر هدى على زوج مناسب بأسرع وقت، بعيداً عن عامر! بل إنها تمادت بالتفكير، حتى فكرت في أخيها!! لو أنه لم يكن مرتبطاً؛ لرشحته لهدى بلا شك، حتى يرتاح بالها وتطمئن!! لكنها قاومت هذه الأفكار من جديد:

– الله أعلم بماهو الأفضل للجميع، فهو يخلق ما يشاء ويختار سبحانه، فيارب عافني واعف عني، ولا تحملني ما لا طاقة لي به، واكتب لنا الخير ورضّنا به..

وبسرعة، تناولت هاتفها واتصلت عبر الشبكة العنكبوتية بوالدتها، لعلها تزيح عنها ذلك القلق، فهي ليست أمها وحسب؛ بل صديقتها المقربة، وأكثر من تثق به في هذه الدنيا..

أجابت والدتها الاتصال، بعد بضع دقائق:

– سبحان الله كنتُ أفكر فيك قبل قليل، كيف هي أحوالك؟

فدمعت عينا نور، قبل أن تقول بنبرة مبتهجة:

– القلوب عند بعضها يا أمي، المهم دعواتك الطيبة، فاليوم كما تعلمين موعد زيارتنا لبيت أم جابر، والدة الطبيبة هدى التي تعمل مع عامر، الذين حدثتك عنهم..

ورغم أن نور لم تصارح أمها بحقيقة هواجسها، لكن قلب الأم لم يخفَ عليه استشعار ذلك منها، فطمأنتها بقولها:

– بإذن الله تكون الزيارة رائعة، فهذه فرصة لك لتكوين شبكة معارف جديدة في تلك البلاد، وكما أخبرتِني من حديث أم جابر، فهي تبدو سيدة طيبة ما شاء الله، إنني متفائلة بهم خيراً..

وقبل أن تضيف نور كلمة أخرى، رن هاتفها، فاستأذنت أمها قائلة:

– عن إذنك أمي، ها هي الخالة نبيلة تتصل..

فعلقت أمها:

– بنت حلال.. ردي عليها وها أنا ذا أنتظرك..

وما أن أجابت اتصالها وردت السلام، حتى جاءها صوت نبيلة:

– كنت أريد التأكيد على موعدنا اليوم، لا تتناولوا أي طعام قبل مجيئكم، فأنتم مدعوون على الغداء كما تعلمين، والسفرة جاهزة..

فابتسمت نور:

– أجل يا خالة، لم أنسَ بالطبع، وبمجرد عودة عامر سنأتي إليكم إن شاء الله..

فجاءها صوت نبيلة المندهش:

– ألم يعد بعد؟ قالت لي هدى أن اليوم هو نصف دوام فقط!

فردت نور:

– هذا صحيح، ولكنه أخبرني بأنه سيختم بعض الأوراق، لذا قد يتأخر قليلاً..

أسرعت نور تعاود الحديث مع أمها، التي كانت لا تزال تنتظر على الجانب الآخر من الجهاز:

– السلام عليكم أمي، كانت تريد التأكيد على الموعد وحسب..

فأجابتها أمها:

– يسّر الله أمركم، وصرف عنكم كل سوء يا حبيبتي.. لا تنسي الاتصال بي من عندها؛ حتى أشكرها بدوري أيضاً..

ثم استطردت وهي تذكّر ابنتها قائلة:

– أهم شيء لا تبالغي بالوصف والمدح والثناء أمام زوجك بعد نهاية الزيارة، وتذكري حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما نهى المرأة أن تصف المرأة لزوجها، فهذا أفضل لسلامة الجميع، فلا تكوني مثل بعض النساء الجاهلات، اللاتي لا يبالين بوصف النساء الأخريات أمام أزواجهن، فيفسدن قلوبهم ويجنين على أنفسهن بأيديهن، ثم يندمن ساعة لا ينفع الندم! فلا تغتري بنفسك، وتظني أنك مهما قلت أو فعلتِ، فهذا لن يؤثر فيك أو في زوجك، فأنتم بشر في النهاية، مهما بلغتم من الصلاح..

فطمأنتها نور وقد شعرت براحة كبيرة، بعد أن أزاحت عبئاً ثقيلاً عن كاهلها:

– جزاك الله خيرا لهذه النصائح القيمة يا أمي، وإن شاء الله أكون عند حسن ظنك..

عندها استدركت أمها وقد تذكرت شيئاً:

– صديقتك سوسن، ماذا كان اسم والدها؟

فأجابتها نور باهتمام:

– كارم بهاء رجل الأعمال المعروف، هل حدث شيء؟

فقالت أمها:

– كنت أريد التأكد فقط، أنت تعلمين أنه ترشح لرئاسة الوزراء..

فأجابت نور:

– أجل، أعرف أنه كان المرشح الأول، فهل فاز؟

وبدل أن تسمع الإجابة عن سؤالها، سمعت سؤالاً آخر من أمها:

– ألم تتمكنِي من التواصل مع سوسن حتى الآن؟

فردت نور بالنفي:

– للأسف لا، فهاتفها لا يزال مغلقاً، ولم أجد طريقة أخرى للتواصل معها..

وهمّت نور بسؤالها عن كارم أكثر، لكن رنين هاتفها نبّهها إلى ضرورة الاستعجال، فقالت لأمها معتذرة:

– هذا عامر، لا شك أنه وصل.. عن إذنك أمي، يجب أن أنزل الآن حتى لا نتأخر..

فجاءها صوت أمها:

– استودعك الله يا حبيبتي.. في أمان الله..

**

ما كاد المجلس يستقر بنور، في الصالة الداخلية من بيت نبيلة- بعد أن أدخل والد هدى عامر إلى صالة الاستقبال الأمامية- حتى شعرت بارتياح كبير، بعد أن زال منها القلق نهائياً، إثر ذلك الاستقبال الحار الذي قابلتها به نبيلة، وابنتها الطبيبة هدى! ورغم أنها المرة الأولى التي تلتقي فيه نور بهدى، إلا أنها شعرت وكأنها تعرفها منذ زمن بعيد، فسرعان ما انسجمتا، ليأخذهما الحديث في شتى الشعاب، غير أن نبيلة أشارت لهما بتناول الغداء أولاً، حتى إذا ما فرغوا منه، رددت نور الدعاء:

– “أكل طعامكم الأبرار وأفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة وذكركم الله فيمن عنده”، جزاكم الله خيرا..

وعندما حاولت المساهمة في رفع الأطباق مع هدى، ونقلها إلى المطبخ؛ أصرّت عليها نبيلة بالجلوس، ثم نادت ابنتها لتجلس وتغتنم الوقت مع نور، معلقة على ذلك بابتسامة لطيفة:

– لسنا مستعجلين على غسل الأطباق، فكما يقول المثل: “ساعة الحظ لا تفوتها”، وهذه فرصة نادرة لكما..

فجاءها صوت هدى من المطبخ:

– لا تقلقي يا أمي، بالطبع لن أفوت الفرصة، ها أنا قادمة..

فابتسمت نور، وأثنت على أصناف الأطعمة المقدمة، قائلة:

– يبدو أن وصفات الطعام في هذه البلاد لذيذة جداً..

فابتسمت نبيلة:

– يمكنك القول أن معظمها من اختراعات “الشيف هدى” ما شاء الله..

فهتفت نور بإعجاب، موجهة حديثها لهدى التي أقبلت عليهما في تلك اللحظة:

– ما شاء الله! يمكنك تأليف كتب طبخٍ رائجة بهذه الطريقة!

فضحكت هدى:

– كنتُ أفكّر بذلك فعلاً، ولطالما راودني حلم افتتاح مطعم، بدل العمل في المستشفى..

فعلقت أمها:

– يا خسارة الطب والتعليم!

وضحكت الفتاتان، فيما استأذنت الأم بالذهاب إلى غرفتها- لتفسح المجال لهما بالحديث براحة- فقالت هدى موضحة:

– لا أنكر أنني دخلت الطب برغبة شديدة مني بالإضافة لتشجيع والداي، خاصة وأن العمل في قسم النسائية والتوليد أصبح أمراً ضروري من أجل النساء المسلمات، ولكنني في الوقت نفسه؛ لا يمكنني مقاومة رغبتي في ابتكار الوصفات الجديدة في المطبخ.. يمكنك اعتبارها هوايتي المفضلة، وهناك رواية قرأتها قبل فترة، يقول فيها الحكيم لبطل القصة، وهو يوضح له طرق التعامل مع الحياة، وبناء الشخصية الجيدة:

“كل شخص يمكنه صناعة حساء رائع، هذا يعتمد فقط على المكونات التي سيضعها فيه، إنها اختياراتك!”

حيث يشبّه بناء الشخصية بصنع الطعام، فكما أن نوع “الطبخة أو المرقة” تختلف بناء على ما يوضع في القدر، وكذلك الشخصيات تختلف. وهذا بالطبع زاد شغفي بالطهي..

وصمتت هدى قليلاً، وهي تحاول تذكر الحوار جيداً، لكنها قالت أخيراً:

– انتظري لحظة، أذكر أنني نقلت هذه الفقرة من ترجمة وجدتها على الشبكة العنكبوتية..

ونهضت هدى، فيما تذكرت نور رغبة والدتها بالتحدث مع أم جابر، فأخرجت هاتفها، وهي توجه حديثها لنبيلة، التي عادت للمجلس:

– أمي ترسل لك التحية، فقد أخبرتها عنك يا خالة، وهي ترغب بالسلام عليك..

فتهلل وجه نبيلة بشراً:

– هذا لطفٌ كبير منها، يسعدني هذا..

وبأقل من دقيقة، كانت والدة نور قد أجابت الاتصال، فتحدثت السيدتان بود كبير، وكأنهما أختين فرّق المكان بينهما!

لم تستغرف المكالمة سوى بضع دقائق، كانت هدى قد عادت بعدها وهي تحمل دفتر ملاحظات صغير، فتحته على صفحة محددة، وأخذت تقرأ منه لنور، إحدى الجمل:

– “نحن نختلف أيضا، بناء على ما نضعه في وعائنا الخاص.”

ثم وضحت قائلة:

– بطل القصة يُدعى “زاك” واسم الحكيم “هاوك” الآن تذكرتُ هذا، وهكذا يبدأ “هاوك” بالاستطراد في الحديث مع “زاك” حول هذا المثل، موضحاً أن خياراتنا في الحياة، هي التي ستبني شخصياتنا، وستحدد كيف تكون مستقبلا، بناء على هذه الخيارات التراكمية، عندها يجيبه “زاك” بأن هذا مخيب للآمال! فهذا يعني أن خياراتنا التي اتخذناها ونحن غير مدركين لخطورته خاصة ونحن صغارا، أو ما تم إجبارنا على اتخاذه بسبب قلة وعينا، سيؤثر على شخصيتنا بالتأكيد! وهذا مُحبط! فيطمئنه “هاوك” بقوله…

وهنا قلبت هدى إحدى ورقات الدفتر، لتستأنف القراءة:

“لا يوجد شيء مُحبط! فكل ما عليك فعله هو تغيير اتجاه حصانك! أصنع “طبخة” جديدة!! وهذا بالطبع يحتاج إلى جهد وطاقة، ولكن للأسف معظم الناس لا يعيرونه أدنى اهتمام”

عندها يقول “زاك”:

“ولكن كيف يمكن للانسان أن يصنع “طبخة” جديدة ذات مذاق جيد، إذا كان قدر الطعام ممتلأ بمذاقات سيئة؟؟”

فأجابه:

“قد يأخذ هذا وقتا إضافيا، ولكن مع استمرارك في إضافة النكهات الجيدة، سيتحسن الطعم بالتأكيد. ثم من قال بأن هناك ما يمنع من إخراج بعض المكونات السيئة من القِدر؟ افترض أن زوجة أبيك أضافت كمية كبيرة من البصل دون قصد إلى قِدر الطعام، فماذا ستفعل؟؟ بالتأكيد ستقوم بالتقاط الكمية الزائدة من القدر، لتخرجها منه، حتى لا يُفسد الطعم، أليس كذلك؟؟ والشيء نفسه مع صناعة “الشخصية” الجيدة”

توقفت هدى عن القراءة، وهي تلتفت لنور، التي بدت مأخوذة جداً بما سمعت، قائلة:

– ما رأيك؟ أليست رائعة؟

فأومأت نور بانبهار واضح:

– إنها أروع مما تخيلت! لم يحدث أن سمعتُ مثل هذا التشبيه من قبل!! ما اسم الرواية لو سمحت؟ فقد تحمستُ لقراءتها..

فأجابت هدى:

– للأسف استعرت الرواية من إحدى الصديقات منذ فترة طويلة، كما أنني لم أعثر عليها في المكتبات بعد ذلك، ولو كانت عندي لأعرتك إياها، أظنها رواية قديمة، وهي بعنوان:

GRAYFOX

بالطبع هي تحتوي بعض المخالفات العقائدية بالنسبة لنا، ولكنها بشكل عام رائعة جدا..

فوافقتها نور:

– هذا واضح بالفعل، أحب قراءة الروايات من هذه النوعية كثيراً..

فعلقت نبيلة، التي كانت تشاركهم الجلسة أحياناً، وتتركهم لوحدهم أحيانا اخرى:

– ما شاء الله.. هذا يعني أنكما تتشاركان الاهتمامات نفسها أيضاً..

وغمزت نور باسمة:

– ألم أقل لك أنكما ستتوافقان بسرعة؟

فابتسمت نور:

– بالضبط.. تماماً كما قلتِ يا خالة..

وضحكت هدى بمرح:

– منذ أن قابلتك أمي أول مرة، وهي تحدثني عنك، حتى كدتُ أشعر بالغيرة! ولكن كما وصفتك تماماً، أنتِ تدخلين القلب بسرعة ما شاء الله..

فاحمرت وجنتا نور، قائلة:

– وأنتم أيضاً تدخلون القلب بسرعة، أشعر أنني وسط أهلي وعائلتي..

فقالت نبيلة:

– أنتِ بالفعل بين أهلك يا ابنتي..

عندها استدركت هدى قائلة:

– وماذا عنك يا نور؟ ما هي هواياتك المفضلة؟

فأخبرتها نور عن ولعها بالرسم، والأفكار التي تعبر عنها من خلاله، وإذ ذاك هتفت هدى بإعجاب شديد:

– أنتِ رسامة إذن ما شاء الله! ألا تحتفظين ببعض رسومك، أرغب برؤيتها بشدة!

فسألتها نور باهتمام:

– وهل تحبين الرسم أيضا؟

فابتسمت هدى:

– حسناً.. لا أمانع بتأمل اللوحات الجميلة طبعا، ولكن هوايتي المفضلة تظل في المطبخ كما أخبرتك، ولكنني متشوقة لرؤية لوحاتك وما تعرضين فيها من أفكار! يبدو هذا مثير جداً للاهتمام ما شاء الله..

واستطردت قائلة:

– كما أن صديقتي في المستشفى ليزا، رسامة ماهرة، بل وتعشق الرسم كثيراً، وسيكون من الرائع أن أعرفك إليها، ربما تصلها أفكارك أيضاً، فالفنان لا يفهمه إلا فنان مثله كما يقولون..

ثم ضربت بقبضتها على كفها بحماسة، قبل أن تقول:

– ما رأيك أن نخرج نحن الثلاثة معاً؟ ستكون فرصة رائعة لتعريف ليزا بالمسلمين أكثر!

فتحمست نور للفكرة:

– سيسعدني هذا بالطبع.. سأخبر عامر بذلك، وأرد لك خبراً إن شاء الله..

فرفعت هدى يديها علامة الانتصار:

– اتفقنا إذن..

وقبل أن تضيف أي منهما كلمة أخرى، رن هاتف نور، فأجابت الاتصال:

– حسناً خمس دقائق، وأكون مستعدة إن شاء الله..

وبعد أن أغلقت الخط، قالت هدى:

– ما زال الوقت مبكراً!!

فابتسمت نور:

– في الحقيقة لقد بقينا أكثر من المتوقع، ولا شك أن عامر كان يتوقع مني الاتصال به، لكنني لم أفعل.. فقد نسيت نفسي على ما يبدو..

ثم التفتت إلى نبيلة، التي انضمت إلى الجلسة مجدداً:

– جزاكم الله خيرا للضيافة الرائعة يا خالة، لقد سعدتُ بالتعرف إليكم حقاً..

فقالت نبيلة، وهي تحثها على الجلوس أكثر:

– ما هذا!! لا يزال الوقت باكراً، وأنتم لم تشربوا القهوة بعد..

فهمت نور بالاعتراض، ولكن نبيلة قالت:

– لا تقلقي.. لقد أخبرتُ أبو جابر بأن ينتظر القهوة..

وبسرعة هبت هدى نحو المطبخ لتعد القهوة، فيما أخذت نبيلة توصي نور قائلة:

– أرقام هواتفنا أنا وهدى معك، فلا تترددي بالاتصال بنا إن احتجتِ أي شيء..

فشكرتها نور من أعماق قلبها:

– لا تقلقي يا خالة، فأنتم أهلي هنا بعد كل شيء.. ألم نتفق على هذا..

فابتسمت نبيلة بارتياح:

– يسعدني سماع هذا..

وخلال أقل من عشر دقائق، بعد شرب القهوة؛ كانت نور تجلس إلى جانب عامر في السيارة، والذي سألها باهتمام:

– كيف كانت الزيارة؟

فابتسمت نور، قائلة باقتضاب:

– الحمد لله جيدة، إنهم أناس طيبون فعلاً ما شاء الله..

فسألها عامر مرة أخرى:

– وكيف وجدتِ هدى؟ هل انسجمت معها؟

فرمقته نور بنظرات ذات معنى، قبل أن تقول:

– وما شأنك أنت بنا معشر النساء؟

تفاجأ عامر من ردة فعل نور، لكنه سرعان ما انفجر ضاحكاً:

– فهمت.. فهمت يا عزيزتي.. أنا لم أقصد ذلك بالطبع، ولكنني كنتُ أريد الاطمئنان عليك أكثر..

فقالت نور:

– قلتُ لك أن الزيارة كانت جميلة، والناس طيبون، وبالطبع انسجمنا معاً، وإلا لكنتُ اتصلتُ بك حتى نعود بسرعة، فماذا تريد أن تعرف أكثر؟

فابتسم عامر:

– بالطبع لا شيء.. ولكن هل تصدقين..

وصمت قليلاً- فيما تحفزت نور لما سيقوله- قبل أن يتكلم بابتسامة ودودة:

– إنني سعيد لسماع هذا منك.. لم أكن أعلم أنك تغارين عليّ إلى هذه الدرجة!

فما كان من نور إلا أن قرصت كتفه، وقد احمرت وجنتيها:

– يا لك من مزعج فعلاً!

فضحك عامر، وهو يتظاهر بالألم، متأوهاً من قرصتها:

– إنني أمزح فقط.. مجرد مزحة لا أكثر..

لكن نور استدركت قائلة:

– بالمناسبة، اقترحت هدى أن نخرج معاً، مع صديقة لها في المستشفى، فما رأيك؟

فعلق عامر بابتسامة متفاجئة:

– ماشاء الله! لقد وصلتم إلى هذا الحد إذن! ومتى الموعد؟

فأجابته نور:

– لم نحدد بعد، فقد أخبرتها بأنني سأناقش الأمر معك أولاً..

فابتسم عامر، بسعادة واضحة:

– أنتِ تعلمين أنني لن أمانع، بل يسعدني سماع هذا، فالصحبة الصالحة لا تعوّض..

ثم تابع ممازحاً:

– أخشى أن تتطور الأمور أكثر حتى تنسي أن لك زوجاً!!

فلكزته نور بيدها ممازحة:

– لا تكن غيوراً.. واحدة بواحدة!

وضحك الاثنان، في حين أوقف عامر السيارة قليلاً، قبل أن يغير وجهتها بعيداً عن المنزل، وتناول يدها اليمنى ليطبع عليها قبلة، قائلاً:

– والآن يا أميرتي.. هل أنتِ مستعدة للمفاجأة!

فارتبكت نور قليلا، قبل أن تجيبه بدهشة:

– منذ متى وأنت تتصرف هكذا يا عامر!! أنتَ لا تبدو على طبيعتك أبداً!

فأبدى عامر خيبة أمل على وجهه وهو يقول:

– يؤسفني سماع هذا منك! كنتُ أظن أنني أكثر لطفاً معك!

فلم تتمالك نور نفسها من إطلاق ضحكة:

– لا تقل أنك بدأت تتدرب على الإخراج المسرحي!

فنظر إليها عامر:

– أهذا رأيك حقا! يبدو أنني أسوأ مما تتصورت، أليس من الطبيعي أن يلاطف الرجل زوجته!!

فابتسمت نور:

– بل طبيعي جداً، ولكن لا تبالغ كثيراً، فلستُ معتادة على ذلك!!

فضحك عامر:

– لا بأس ببعض التغيير بين الفينة والأخرى..

مضت بضع ساعات من القيادة، خارج المدينة، قبل أن تلوح أمامهما لافتة خشبية، توحي لمن يشاهدها بأنها قادمة من عصر الفرسان، تشير نحو بوابة ضخمة يعلوها قوس مهيب، فالتفتت نور نحو عامر الذي بدأ بتخفيف سرعة السيارة، متسائلة بدهشة واضحة:

– هل هذا هو المكان الذي ستأخذني إليه!

فابتسم عامر:

– ما رأيك؟ لقد بحثتُ كثيراً قبل أن أعثر عليه في الدليل.. إنها أكبر مساحة برية لركوب الخيول في هذه البلاد!

فهتفت نور بحماسة:

– وأخيراً.. ستريني مهاراتك في الركوب! هذا رائع! لطالما تحدثت أمك عن براعتك في ذلك ما شاء الله!!

فسعل عامر بحرج، وهو ينزل من السيارة، بعد أن أوقفها في المصف:

– حسناً.. أنت تعرفين أنني لم أمارس هذه الرياضة منذ فترة طويلة، لذا لا ترفعي سقف توقعاتك عالياً..

فغمزته نور ممازحة:

– لا تكن متواضعاً هكذا، فأنت فارسي البطل..

فأدار عامر رأسه باتجاه صالة الاستقبال قائلاً:

– أنتِ تعرفين كيف تحفزينني فعلاً، يا لك من داهية..

فوضعت نور يدها على فمها؛ لتكتم صوت ضحكتها، من ردة فعله الخجلة، وهي تتبعه سيراً نحو الصالة..

ما أن أنهى عامر الاجراءات اللازمة، مع المسؤولين، بعد أن سلّم بطاقته الشخصية، ودفع الأجرة المطلوبة؛ حتى أخذه السائس نحو اصطبلات الخيول المعدة للركوب، ليختار منها ما يشاء.. وبالطبع ترك الاختيار لنور، التي هتفت بانفعال، بمجرد أن وقع عينها على حصان أشهب جميل، تعلو جبينه نجمة سوداء:

– ما شاء الله!! سبحان الخالق!!

والتفتت نحو عامر:

– ما رأيك بهذا؟ أليس رائعاً؟

فأومأ عامر رأسه موافقاً، ثم التفت إلى السائس يخبره عن اختياره، ليسوقه بعد ذلك إلى منصة الركوب..

ساعد عامر نور أولاً على ركوب الحصان، ثم صعد ليجلس أمامها ممسكا باللجام، وقبل أن ينطلق، قال لها:

– تمسكي جيداً..

فأمسكت قماش قميصه الخلفي، بيديها، فما كان منه إلا أن جذب ذراعيها بيديه، وأحاط بهما خاصرته، ليلتصق صدرها بظهره قائلاً:

– قلتُ لك تمسكي جيدا يا حبيبتي..

فخفق قلب نور بشدة، وكأنها تسمعها منه للمرة الأولى، حتى شعر بنبضات قلبها، فيما أسندت خدها الأيمن على ظهره، وأحكمت لف ذراعيها على وسطه، متشبثة به بقوة، كمن تخشى افلاته، والدموع تسيل على خديها مرددة في سرها:

– يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، يارب لك الحمد على هذه النعمة.. يارب.. لا أعرف كيف أشكرك.. لطفتَ بي ورحمت قلبي فلك الحمد.. الحمد لله.. الحمد لله .. الحمد لله.. يارب.. احفظ لي عامر.. ولا ترني فيه ما يسوؤني.. وبارك في حبنا ولا تعلق قلوبنا بغيرك.. اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.. فأعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..

فيما ردد عامر- بصوت عال- وهو يستعد للانطلاق:

– بسم الله.. سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون..

ثم شد اللجام وهو يهتف:

– هيا بنا..

وانطلق الجواد.. يحلق بهما، فوق مروج خضراء زاهية، نحو غد مشرق، مفعم بالتفاؤل والأمل، بعد أن تلاشت غمامة سوداء؛ كادت أن تجثم على قلب نور، وتسرق البسمة من محياها الجميل..

**

خيّم الصمت على قاعة المحكمة، بعد أن طرق القاضي بمطرقته ثلاث طرقات.. ولم تمضِ سوى لحظات قليلة، حُبِست خلالها الأنفاس، واشرأبت الأعناق، قبل أن ينطق بالحكم في قضية المتهم “كارم بهاء”، أمام الجميع..

حاولت سوسن تقبل الأمر برباطة جأش، من أجل أمها على الأقل، وحمدت الله أن دلها إلى طريق الهداية، قبل حصول هذه المصيبة، إذ ستكون أحوج ما تكون إلى ملاذ آمن تبثه شجونها، في هذه الفترة العصيبة من حياتها، بل وحياة عائلها..

فشرعت تناجي ربها بصمت، فهو وحده.. يسمعها.. يفهمها.. ويريح قلبها..

وسالت الدموع غزيرة من عينيها..

يارب.. ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، الطف بنا.. وفرج هذا الكرب عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين..

رب اغفر لي ولوالدي.. رب ارحمهما كما ربياني صغيرا..

********

**نهاية القسم الثاني من الرواية**

بانتظاركم في القسم الثالث إن شاء الله..

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 56

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

لم يدر كارم كم مر عليه من الوقت- بصحبة رامز في سيارته الخاصة- وهو يبوح له أخيراً بكل ما أخفاه عن الجميع، طوال عشرين سنة الماضية!

كان رامز يستمع إليه بانصات شديد، في جلسة أشبه ما تكون بالفضفضة؛ عوضاً عن كونها لتوثيق حقائق أو ادلاء بمعلومات!

ورغم أن الظلام قد حل على المدينة، إلا أن إضاءة الشوارع كانت كافية لرامز؛ كي يتبين موقع المنزل الذي أشار إليه كارم، في شارع صلاح الدين، بعد أن أوقف سيارته، إلى جانب الرصيف، قائلاً:

– هنا كان منزلي السابق، وقد بعته بمجرد انتقالي إلى منزلي الحالي، أما ذلك المنزل المقابل، فهو منزل ثائر وليد.. كما ترى.. إنه مهجور منذ ذلك الحين، بعد أن تم الحجز على جميع أملاكه، ووضعها تحت رقابة الدولة، إثر تلك القضية، حتى يتم البت في أمرها! غير أن الموضوع تم نسيانه على ما يبدو بمرور السنين، فقد مرت البلاد بما يكفي من أزمات؛ لتشغل المسؤولين عن متابعته!

وبعد صمت، سأله رامز:

– قلتَ بأن له زوجة وابنا، فما الذي حل بهما بعد ذلك؟

فأطرق كارم:

– سمعتُ أن زوجته انتقلت للعيش مع أهلها في مدينتها السابقة، وأخذت ابنها معها، فلم يكن قد تجاوز السابعة أو الثامنة في ذلك الوقت..

وصمت قبل أن يتابع بألم:

– قد لا تصدقني، ولكنني كنت أعتبر ذلك الفتى بمثابة ابني الذي لم أنجبه! بل لو كان لي ابن؛ لما أحببته أكثر منه! لم أتوقع يوماً أن تؤول الأمور بيننا إلى هذه الحال.. بالطبع لا يمكنني أن ألومه، فأنا من حطم ثقته بي أولاً!

فسأله رامز باهتمام:

– هل تعني أن ذلك الفتى؛ هو المسؤول عما يحدث الآن؟

فأومأ كارم برأسه:

– لا شك عندي بهذا، رغم أنني لا أعرف كيف أصبح ذلك الفتى بعد تلك السنين، وإلى أي حد وصل؛ لكنني لا أعتقد أن للرجلين الآخرين علاقة بذلك، إذ تمكن كلاهما من مغادرة البلاد بسرعة؛ قبل القبض عليهما، وأظنهما استأنفا حياتهما من جديد في الخارج.. والد الفتى وحده كان الأسوأ حظاً بين الجميع..

ساد الصمت مجدداً، قبل أن يسأله رامز:

– قلتَ أن والد الفتى.. أقصد ثائر وليد، قد أودع السجن في ذلك الوقت، فهل لا يزال في السجن وعلى قيد الحياة حتى الآن؟

فأطرق كارم:

– أجل.. فما زلتُ أتابع أخباره بين فينة وأخرى، لأطمئن على صحته من بعيد، بطريقتي الخاصة، فوخز الضمير لم يفارقني منذ ذلك الحين، ولا أخفيك أنني لم أفكر بخوض غمار الترشح لرئاسة الوزراء في هذا الوقت بالذات؛ إلا من أجل إيجاد مخرج لثائر والبحث في قضيته من جديد، بعد أن نأيتُ بنفسي عن جميع المناصب الوزارية منذ تلك الحادثة!

وتنهد بألم:

– لم يكن ثائر جاري المقرب وحسب، بل كان صديقاً عزيزا جداً، والأقرب إليّ من بين الثلاثة، ولم أكن لأقدم على ذلك الأمر سوى مُكرهاً، ولأجل الضرورة، ومصلحة الجميع، فكان هو الضحية.. ولكن من سيفهمني؟

لم يعلق رامز بشيء، وبدا أن الإحباط قد بلغ بكارم مبلغه، فقال بانكسار:

– لستَ مضطرا لتصديقي أيها المحقق، ولكنني أقسم لك أن هذه هي الحقيقة..

وأخيراً، قال رامز الذي بدا غارقاً في تفكير عميق:

– وهل حُلت مشكلة البلاد بعد ذلك فعلاً؟

فأجاب كارم:

– بعد أن نفذ رئيس الوزراء قراره، الذي اصطبغ بالشرعية الوطنية، تم تسوية الخلاف بالفعل مع مجلس اتحاد الحلفاء. وحتى لا تقع البلاد في حالة فوضى، إثر الغاء النظام الملكي بتلك الطريقة، مما قد يؤثر سلباً على استقرار المنطقة أيضاً؛ فقد تم الاسراع بتشكيل حكومة مؤقتة، يترأسها مجلس اتحاد الحلفاء، بإسم الحاكم العام لبلادنا، من أجل إدارة الشؤون الخارجية، مع تعيين نائب له في البلاد، يكون كحلقة وصل مع مجلس الوزراء، الذي حافظ على صلاحياته كما هي، فيما يتعلق بالشؤون الداخلية، ليصبح رئيس الوزراء بعدها؛ صاحب السلطة الأعلى في البلاد! ومنذ ذلك الحين؛ تم إغلاق تلك القضية نهائياً، ومُنع الحديث فيها بالقوة، من أجل استتباب الأمن، وإعادة ترتيب شؤون البلاد، رغم استياء شريحة كبيرة من المواطنين، في حين بقيت أسرة الملك الراحل بالخارج، ولم تعد منذ ذلك الوقت..

كان رامز يستمع بتركيز شديد، عندما سمع صوت تنبيه هاتف كارم، معلناً عن وصول رسالة جديدة، فأسرع كارم يفتحها بلهفة:

“اهلاً بك في منزل وزير الخارجية المغدور “ثائر وليد”..

إن أردتَ رؤية ابنتك فتعال لرؤيتها هناك”

لم يخف على رامز رؤية حالة الذهول، التي سيطرت على كارم، فسأله باهتمام:

– هل الرسالة من المختطفين؟

فما كان من كارم إلا أن ناوله هاتفه، وهو يهم بالنزول من السيارة، لولا أن رامز أمسكه من ذراعه مستوقفاً، بعد أن قرأ الرسالة بسرعة:

– عليك أن تكون أكثر حذراً يا سيد كارم.. قد يكون هذا مجرد كمين، فنحن الآن تحت المراقبة بلا شك!

وكأن اليأس والاحباط وتأنيب الضمير قد فعلوا فعلتهم بكارم، حتى ما عاد يبالي بأي طريق سيهلك، فجذب ذراعه من يد رامز، قائلاً بلا مبالاة:

– كنتُ مستعداً لفعل أي شيء من أجل هذه المواجهة، ولا أبالي بما سيحدث بعدها..

قال جملته تلك، وقفز من السيارة باتجاه ذلك المنزل المهجور أمامه.. منزل ثائر وليد..

أما رامز، فقد أخرج هاتفه بسرعة، ليطلب رقماً محدداً، لكن دهشته كانت عظيمة عندما تعذر عليه إجراء الاتصال، رغم أن هاتفه لا زال في الخدمة، فحاول طلب أرقام أخرى؛ لكن النتيجة كانت نفسها في كل مرة! فهتف بضيق:

– مستحيل! كيف حدث هذا!!

وعندما حاول إرسال رسالة؛ أدرك أخيرا ما حدث مع أمل!!

كان كارم قد اختفى داخل المنزل، ولم يجد رامز بداً من التحرك بسرعة؛ فقفز إلى مقعد القيادة، وهم بإدارة المفتاح الذي تركه كارم خلفه، غير أن يد غليظة- امتدت من نافذته على حين غرة- قامت بإيقافه، فيما أمسكت يد أخرى بمسدس مصوّب إلى صدغه، ليسمع بعدها صوتاً يهمس في أذنه بقسوة:

– أنتَ مدعوٌ إلى حفلتنا أيضاً..

**

كانت صحة سوسن قد تحسنت بشكل ملحوظ، منذ مجيء أمل، لا سيما وأن معنوياتها ارتفعت بوجودها إلى جانبها في هذه الغرفة، بعد تلك الأيام المظلمة في القبو، حيث لم تر أحداً غير أولئك الرجال! والأهم من هذا كله؛ أن أمل ساعدتها على معرفة الأوقات، كما أرشدتها إلى اتجاه القبلة!

ابتسمت لها أمل، وهي تهم بمغادرة الغرفة:

– الوقت أصبح متأخراً الآن، لذا حاولي النوم، فهذا أفضل لصحتك..

فبادلتها سوسن الابتسام:

– سأحاول، ولكنني نمتُ كثيراً اليوم، حتى لم أعد أشعر برغبة في المزيد..

ثم استطردت قائلة بامتنان شدسد:

– شكرا جزيلاً لك يا أمل، إنني حقاً مدينة لك بالكثير، ولا أعرف كيف أشكرك أو أوفيك حقك.. جزاك الله خيرا..

فغمزتها أمل باسمة- لتواري حرجها من هذا الاطراء:

– بل الشكر لذلك الشاب الذي فعل المستحيل من أجلك..

فحملقت فيها سوسن بتعجب:

– أي شاب!!

فأفلتت من أمل ضحكة خافتة، وهي تقول:

– ربما لا يزال من المبكر الافصاح عن ذلك، فستكتشفينه بنفسك يوماً ما..

وبلا تردد، سألتها سوسن باهتمام:

– هل هو أيهم؟

فصمتت أمل قليلاً، وهي تستذكر ما دار بينها وبين رامز من حديث حول حياة سوسن، فراوغت إجابتها قائلة:

– ألم تفسخي خطوبتك منه بنفسك؟

فأطرقت سوسن بألم:

– أجل هذا صحيح.. ولكن ليس لأني لا أحبه، لم يكن هناك خيار آخر أمامي..

وهمت أمل بسؤالها عن ذلك أكثر، غير أن سوسن ألحّت عليها بالسؤال مرة أخرى:

– أرجوك أخبريني.. هل هو ذلك الشاب الذي تتحدثين عنه حقاً؟ أليس أيهم هو من أخبرك بما حدث بيننا، وطلب منك مساعدتي؟

وأمام لهفة سوسن، شعرت أمل برغبة شديدة في تجاهل إجابتها، فقد يكون هذا أفضل من إصابتها بخيبة أمل! غير أن صمتها ذاك؛ كان كافياً لسوسن حتى تعرف الإجابة المريرة، فتنهدت قائلة:

– لا بأس، لقد فهمت.. لا داعي لإزعاج نفسك، فلم يعد هذا يهمني كثيراً..

فأسرعت أمل ترد عليها بابتهاج:

– لعله خير، فأنتِ لا تعرفين ما تخبئه لك الحياة، وقد يكون هناك حب أكبر بانتظارك يا عزيزتي..

وقبل أن تضيف أمل كلمة أخرى، سمعت صوتاً مريباً أفزعها؛ فأسرعت خارجة من الغرفة، دون أن تقفل الباب بعدها، كما كانت تفعل، بناء على وصية ذلك الشاب!

هرعت نحو الدرج المؤدي للبهو السفلي، حيث انبعثت أصواتٌ مختلفة، اختلط بعضها ببعض لتشكل مزيجاً غريباً، لم تألفه في هذا المنزل، منذ أن جاءت إليه! ولم تكد تطل من السلم المؤدي إلى الصالة السفلية؛ حتى راعها ما رأت، فكتمت صرخة فزع كادت أن تفلت منها، فيما أخذت الصور تتلاحق أمامها، وهي تسترجع ما حدث معها، منذ أن تركت رامز..

فما أن وصلت إلى العنوان المطلوب، وتأكدت من رقم المنزل في شارع صلاح الدين، حتى هالها مشهد المنزل الفارِه، الذي يحمل الرقم (20)، كان البستاني يعمل في الحديقة بجد، يسقي الزرع ويقلع الحشائش، ولم يبدُ على المكان ما يثير الريبة أبداً، فنزلت أمل من السيارة بعد أن نقدت سائقها أجرته، واتجهت مباشرة نحو البوابة.. وبعد أن القت التحية؛ أقبل نحوها البستاني الحارس:

– هل من خدمة يا آنسة؟

فأجابته أمل، وهي تحمل حقيبتها التي تشير إلى طبيعة مهنتها:

– أنا الممرضة أمل، ولدي مقابلة مع السيد ثائر، بخصوص ابنته..

فرمقها البستاني بنظرات استنكار، قبل أن يجيبها:

– لا شك أنك أخطأتِ العنوان يا آنسة..

ورغم توقع أمل لهذه الاجابة، إلا أنها تظاهرت بالدهشة، التي لم تكن مصطنعة بالكامل:

– أليس هذا هو المنزل ذو الرقم عشرين، في شارع صلاح الدين من الحي الشرقي؟

فأومأ البستاني رأسه إيجاباً، لكنه قال:

– أجل إنه هو، ولكن ربما هناك خطأ..

وقبل أن يضيف أي منهما كلمة أخرى، رن هاتف أمل فأسرعت تجيبه، وهي تتعمد رفع صوتها أمام البستاني كي يسمعها:

– إنني أمام المنزل مباشرة، ولكن يبدو أن هناك خطأ ما، ألم ترسل لي في العنوان أن رقم المنزل عشرين؟

لكنها صمتت قليلاً، إذ بدا أن المتصل قاطعها، قبل أن تقول:

– تقصد أنه المنزل الثاني؟ عذرا لم انتبه للرسالة الأخرى..

وما أن أغلقت الخط، حتى التفتت نحو البستاني موضحة:

– عذرا للازعاج، قال بأن الصفر أضيف إلى الرقم بشكل خاطيء..

وهمت بأن تسأل البستاني عن موقع المنزل الثاني، لكن شاب أطل بسيارته؛ قاطعهما قائلاً:

– أرجو المعذرة، هل أنتِ الممرضة أمل؟

فالتفتت أمل نحوه، فإذا به شاب أنيق، بدا في أواخر العشرين من عمره، حياهما مبتسما ومعتذراً في الوقت نفسه، فرد عليه البستاني التحية بابتسامة مماثلة، قبل أن يستأنف عمله:

– وعليكم السلام، لا بأس لا بأس.. حصل خير..

أما أمل، التي بدت مشدوهة برؤية هذا المشهد، والذي بدا طبيعياً أكثر من المتوقع، فقد انتبهت أنها لم تجب الشاب عن سؤاله بعد- والذي كان لا يزال ينظر إليها بتساؤل- فارتبكت قائلة:

– أجل.. أنا الممرضة أمل..

فعرض عليها الشاب الصعود إلى السيارة، وهو يشير بيده إلى الجهة اليمنى، موضحاً:

– المنزل في آخر هذا الشارع، فهل تمانعين في الركوب، أم تفضلين الذهاب مشياً؟

بدا التردد على أمل قليلاً، إذ لم تتوقع شيئاً كهذا، فهل عليها الذهاب مشياً مما قد يفضح قلقها وتوجسها، أم تصعد إلى السيارة؟

وأمام ترددها ذاك، أخذ الشاب زمام المبادرة، وهو يتحرك بسيارته نحو الاتجاه الذي أشار إليه، قائلاً لها بتفهم:

– لا بأس سأسبقك نحو المنزل، فالمسافة ليست بعيدة، وشكرا لمجيئك..

ما أن تحركت السيارة، حتى أخذت أمل تحث الخطا في ذلك الاتجاه، وهي تحاول التركيز فيما عليها فعله، خاصة وقد شعرت بارتياح عجيب نحو ذلك الشاب، الذي بدى لها مألوفاً نوعاً ما! وهمّت بالاتصال برامز، لكنها خشيت أن تكون تحت المراقبة، فلم تكن من النوع الذي يتخلى عن شكوكه بسهولة، ثم تذكرت ما أخبرها به الشاب عن الرسالة التي ورد فيها تصحيح الرقم، وشعرت برغبة شديدة في التأكد منها، إذ أنها لم تسمع منبه الرسائل، ولكنها آثرت تجاهل ذلك حتى لا تثير أدنى شبهة، كما أنها لم تعد واثقة؛ إن ما كان هؤلاء هم المختطفون حقاً أم لا!

كانت البيوت تصطف على جانبي الشارع، مما أعطى أمل شعور مضاعف بالأمان، والشك في الوقت ذاته، فيما كانت سيارة ذلك الشاب تلوح أمامها وهي تسير ببطء، حتى توقفت أمام مرأب أحد البيوت، فأدركت أمل أنه البيت المطلوب، وعندما شعرت بأن الشاب لا يمكنه رؤيتها من مرآة السيارة؛ أدخلت يدها في حقيبتها، وطبعت رسالة سريعة على هاتفها لرامز، تخبره فيه عن تغيير رقم المنزل، بكلمات موجزة:

“رقم المنزل 2”

ثم أرسلت الرسالة، دون أن تدري أنها لن تصل أبداً!

فكيف تم خداعها بعد ذلك، وهي التي احتاطت لكل شيء!!

بدا المنزل مهجوراً، على خلاف بقية المنازل المجاورة، لا سيما مع وجود تلك السلسلة الحديدية الضخمة، المربوطة بقفل محكم، حول بوابته الرئيسة، المؤدية لحديقة مزروعة بأشجار عملاقة، تُخفي ما خلفها، مما أصابها بالهلع في البداية، إلا أنه عرف كيف يكسب ثقتها، فتغدى بها قبل أن تتعشى به! كان آخر ما تتوقعه؛ أن يصارحها بتلك الحقيقة قبل دخولهما إلى المنزل- عبر باب جانبي مخفي تحت نباتات متسلقة، نمت حوله بعشوائية، ذكرتها بقصة “الجميلة النائمة”- وهو يهمس لها قائلاً:

– اسمعيني ايتها الممرضة، فلن أخفي عنك شيئاً، لقد تعمدتُ أن أخطيء في كتابة رقم المنزل، حتى تكون أمامي فرصة للحديث معك على انفراد، فهناك فتاة مختطفة في الداخل، ولكنني تمكنتُ من مراوغة المختطفين واقناعهم بأنني إلى جانبهم، حتى أتمكن من انقاذ الفتاة، وهي الان مريضة، فأقنعتُهم مرة أخرى بأن علينا احضار ممرضة قبل أن يسوء وضع الفتاة ونتورط أكثر! هذه هي الحقيقة يا آنسة، وأرجو أن لا يزعجك هذا، فقد كنتُ بحاجة لمن يساعدني.. ولا تقلقي فسأكون إلى جانبك دائماً، ولكن عليك التظاهر بأنك لا تعرفين شيئاً مما حدث، وكوني حذرة.. فالمختطفين يراقبون المنزل جيداً، وسأخبرك بتفاصيل ما عليك فعله، فنحن بحاجة لخطة محكمة، حتى نتمكن من النجاة، وإنقاذ الفتاة في الوقت نفسه..

لقد نجح في كسب ثقتها تماماً، حتى يضمن أن لا تقوم بحركة تفسد مخططاته، ولم يخطر ببالها أنه كشفها قبل أن تكشفه!

حتى عندما تصدر عنه تصرفات مريبة، كانت تعزو ذلك إلى حقيقة كونه واقع بحب الفتاة، كما أوهمها، أو أنها هي من أوهمت نفسها بذلك!

أخذت أمل تعض على شفتها غيظاً لهذا الطعم الذي ابتلعته بسهولة، وهي تحدث نفسها بغضب:

– ذلك الوغد!! لقد ظننته مجرد شاب أحبها، فإذا به سيد المختطفين، وأساس البلاء كله!! لن أسامحه على جعلي أضحوكة هكذا، بل وجعلني أرفع آمال سوسن بلا طائل! لن أسامحه أبداً.. لن أسامحه..

كان المشهد أمامها لا يزال كما هو، وكأن جميع تلك الصور قد مرت في ذهنها بطرفة عين!

ولأول مرة؛ سمعت أمل نبرة مختلفة من ذلك الشاب- الذي اعتادت على لطفه، منذ أن قابلته- وهو يوجه حديثه لكارم ورامز، الذين أحكم وثاقهما، وقد أحاط بهما أربعة رجال أشداء ملثمين:

– أظن أن الجولة قد شارفت على الانتهاء، فلا تحاول مراوغتي..

غير أن كارم رد عليه مؤكداً:

– قلت لك بأنني سأفعل ما تريده، فقد كنت أنتظر هذه اللحظة للحديث معك وجها لوجه، ولم أكن امتلك الطريقة لتحقيق ذلك! أما وإنني هنا أمامك، فيمكنك أن تفعل بي ما تشاء، ولكن لا تتعرض لأحد غيري.. فدع هذا الشاب وشأنه، فلا علاقة له بما حدث بيننا، وأعد ابنتي إلى أمها على الأقل..

فما كان من الشاب إلا أن قال بسخرية:

– لا تظن بأنك قادر على خداعي بكلامك هذا، فالغادر لا أمان له..

فطأطأ كارم رأسه، قائلاً:

– فارس.. هذا يكفي يا بني.. قلت لك…

غير أن فارس قاطعه بغضب:

– لا يحق لك أن تخاطبني بهذه الطريقة بعد كل ما فعلته! لقد وثق أبي بك، ووثقتُ بك لثقة أبي، ولكنك تخليتَ عن هذا كله بسهولة، لأجل مصالحك الخاصة..

عندها تدخل رامز الذي كان صامتاً طوال الوقت، وهو يرمق فارس بنظرات عميقة:

– قد يكون هذا الرجل خصمنا نحن الاثنين يا أخي، ولكن إذا كان والدنا نفسه قد تخلى عن بعض أبنائه الذين من صلبه، لأجل مصالحه الخاصة أيضاً؛ فلا يمكنك عندها لوم هذا الرجل!

وشدد رامز على الحروف لتظهر بشكل واضح، وهو يتابع:

– أفهمتَ ما أعنيه.. يا أخي الأصغر؟

كان كارم قد التفت نحوه بغير تصديق وقد ألجمته الصدمة؛ فيما حملق فارس فيه للحظة، كمن انتبه لوجوده فجأة، قبل أن يرد عليه باستنكار:

– ما هذا الذي تهذي به يا هذا! فلم يكن لي إخوة أبداً..

فرد رامز بسرعة:

– وكيف ستعرف عن شيء حدث قبل مولدك، بل وقبل زواج والدتك؟

غير أن فارس أجابه بتحد واضح:

– لا يهمني أن أعرف عن أي هراء تتحدث؛ فلن أدع أي شيء يشتت انتباهي عن هدفي الذي عشتُ لأجله طوال السنين الماضية!

كانت أمل لا تزال تراقب المشهد من الأعلى بصمت، وهي تحاول إيجاد طريقة تُخرج بها الجميع من هذا المأزق؛ عندما سمعت شهقة سوسن من خلفها، وهي تهتف:

– أبي!!

ولم تكد تنطق بهذه الكلمة؛ حتى هرعت نحو الأسفل، غير مبالية بما يدور حولها، فيما اتجهت الأنظار نحوها وسط دهشة عارمة، فدمعت عينا كارم وهم بالجري نحوها هو الآخر- لولا أن قيوده منعته- هاتفاً بفرح:

– سوسن.. ابنتي.. الحمد لله أنك بخير يا حبيبتي..

غير أن أحد الرجال- وكان الأسرع حركة- اتجه نحو سوسن ليوقفها، فما كان من فارس إلا أن صرخ به بحدة:

– دعها يا هادر!

وأمام تعجب الجميع؛ استأنف فارس كلامه لرجاله موضحاً:

– لم نعد بحاجة لها بعد الآن، فقد انتهت اللعبة..

ولم يكد يتم جملته؛ حتى كانت سوسن تعانق أبيها، وهي تبكي بحرقة، حتى إذا ما هدأت قليلاً، التفت كارم نحو فارس، قائلاً:

– لقد وعدتك بأنني لن أقاومك بعد الآن، ولن أخلف وعدي معك.. ولكن.. اسمح لي بطلب أخير.. أرجوك.. دعني أخبر ابنتي بما حدث، فهذا أقل ما يمكنني فعله من أجلها، في الوقت الحالي.. وعُدّ هذا اعترافاً آخر مني، يمكنك تسجيله!

وأمام صمت فارس، الذي أشاح بوجهه بعيداً عن نظرات سوسن المسددة نحوه؛ تحدث كارم كمن يستعيد ذكريات قديمة، يقصها على ابنته قبل النوم:

– كانت بلادنا تعاني من أزمات اقتصادية كبيرة، عندما مرض الملك أحمد الثالث، وخرج للعلاج بصحبة عدد من أفراد أسرته، بما فيهم ولي عهده “عبد المجيد”، الذي كان لا يزال في السادسة عشر من عمره، مما جعل رئيس الوزراء “أسعد محمود” يتولى مهمة قيادة البلاد الفعلية، بصفته نائباً للملك في تلك الفترة. ولأن البلاد كانت إحدى دول مجلس اتحاد الحلفاء- الذي يضم عدداً من الدول العربية المتجاورة- فقد كان لا بد للمجلس من المساهمة في تخفيف تلك الأزمة، وتقديم المساعدة لنا؛ بحسب نصوص الوثيقة الموقّعة من جميع الدول الحلفاء، غير أن اتهامات سرية، كانت قد وجّهت للملك أحمد الثالث، من قِبَل المجلس؛ حالت دون تقديم تلك المساعدات لبلادنا، بحجة خيانة ملكنا لمجلس الاتحاد، وتسريبه معلومات هامة، لدول أعداء! ومما زاد الوضع سوءا، هو موت الملك في الخارج، في حين كانت البلاد على وشك الانهيار! فلم يجد رئيس الوزراء آنذاك بداً من تسوية الخلاف مع مجلس اتحاد الحلفاء بنفسه، غير أن المشكلة كانت أعقد مما تصور! ولأن البلاد كانت بحاجة ماسة لدعم المجلس في تلك الفترة الحرجة؛ فقد أسرع بعقد جلسة وزارية مغلقة، ضمّت وزراء البلاد آنذاك، اقترح فيها إعلان براءة البلاد من الملك أحمد الثالث، وسحب الاعتراف به كملك سابق لها، غير أن بعض الوزراء اعترض على هذا القرار، بصفته يمس سيادة البلاد وكرامتها، كما أنه سيثبت التهمة على الملك دون محاكمة عادلة، أو دليل قاطع!

وصمت كارم قليلاً قبل أن يتابع بنبرة ألم واضحة:

– لم يكن الوقت في صالحنا، خاصة وقد بدأت الأطماع الخارجية تتجه نحونا، وكان الأفضل لنا هو الاسراع في تسوية الامور مع مجلس اتحاد الحلفاء، فعلى الأقل.. هناك اتفاقات واضحة تضمن لنا حقوقنا، غير أن رئيس الوزراء لم يكن يستطيع المضي في هذا الطريق، مع وجود معارضة قوية لقراره من بعض الوزراء، لا سيما وأن من بينهم ثلاثة وزراء؛ هم الأكثر تأثيراً وقوة، وقد يؤثرون بآرائهم على الغالبية؛ فكان لا بد من إزاحتهم عن الطريق!!

وصمت كارم، قبل أن يستأنف:

– كنتُ وزير الاقتصاد في تلك الفترة، وكنت أرزخ تحت ضغط كبير أكثر من أي شخص آخر، لا سيما وأن أكبر مشاكل البلاد في ذلك الوقت؛ كانت اقتصادية، ويهمني أكثر من الجميع؛ الوصول إلى تسوية سريعة مع مجلس اتحاد الحلفاء، للحصول على دعم ينقذ اقتصاد البلاد.. ولأنني كنت الأقرب إلى اولئك الوزراء الثلاثة، إذ كانت بيننا علاقات قديمة، قبل أن تجمعنا الوزارة؛ حيث كنا نقيم في الحي نفسه- الحي الشرقي، شارع صلاح الدين، والذي عُرف أيضا في تلك الفترة باسم شارع الوزراء- فقد حاولتُ اقناعهم بضرورة الموافقة على قرار رئيس الوزراء، والتخلي عن عنادهم من أجل مصلحة البلاد، غيرَ أنني لم أجنِ من ذلك سوى عداوتهم والاتهام بالضعف.. عندها.. اتخذتُ قراري…

ودمعت عينا كارم، وبدا غير قادر على اتمام الحديث، فيما أخذت دموع سوسن تسيل بغزارة على خديها بصمت، وهي تستمع لاعترافات والدها، التي ماكانت تخطر لها ببال، فقال فارس بحدة، كمن خشي أن ينجرف مع التيار:

– لا أظنك شعرتَ بالندم وقتها، وأنتَ تلفق تهم فساد واختلاس وخيانة لألئك الرجال الثلاثة؛ زوراً وبهتانا، حتى تبعدهم عن الطريق، من أجل تحقيق أهدافك الخاصة..

حاول كارم الدفاع عن نفسه، قائلاً:

– حتى وإن لم تصدقني، فلم يكن هذا في نيتي أبداً، لقد كانت مصلحة البلاد…

فقاطعه فارس بحدة:

– إن كانت مصلحة البلاد تهمك إلى هذه الدرجة، وما زلتَ مستعد للتضحية بالبعض من أجل الكل؛ فعليك أن تكون مديناً لي، لأنني سأمنحك فرصة التضحية بنفسك، من أجل انقاذ البلاد، ووضع حد للشائعات والفتن التي تنهشها الآن!

وتابع بثقة:

– بل وإعادة الأمور إلى نصابها أيضاً.. فالأمير “عبد المجيد”، أو بالأصح، جلالة الملك “عبد المجيد” الملك الشرعي لهذه البلاد؛ لن يبقى صامتاً للأبد!

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 55

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

كان الوقت لا يزال باكراً في تلك المدينة- وراء البحار- عندما طلب عامر أحد الأرقام على هاتفه، وهو يقف إلى جانب بوابة المستشفى من الخارج. أخذ ينتظر الرد وهو يعاين ساعة معصمه، وما هي إلا لحظات؛ حتى سمع إلقاء التحية من الجانب الآخر، فأجاب بلهفة:

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كيف حالك أمي؟ لم أسمع صوتك منذ يومين.. لا أدري كيف مر الوقت بسرعة! فقد كان عليّ الكثير من الأمور لإنجازها، ولم أكن أعود للمنزل إلا في وقت متأخر!!

فجاءه صوتها الحاني:

– رضي الله عنك يا بني، حاول أن لا تجهد نفسك.. ثم ما قصة هذه الحوالة! المبلغ كبير جداً وأنتَ لا زلتَ في البداية! كان الأولى أن تحتفظ به لإدارة شؤونك أنت وزوجتك في بلاد الغربة، ونحن كما تعلم لسنا بحاجة بفضل الله!

فرد عليها عامر:

– سامحك الله يا أمي لا تقولي هذا، فهذه مجرد هدية بسيطة، من أول دفعة حصلتُ عليها من المستشفى، فهذا هو نظام التعاقد هنا مع الأطباء الجدد! أفلا تريدين مشاركتي الفرحة، مع حصولي على البركة والأجر!

فشعر بتبسم أمه وهي تجيبه:

– حسناً حسناً هدية مقبولة أسعدك الله وبارك فيك، ولكن انتبه لنفسك جيداً، فقد سمعتُ قبل فترة عن شخص أصيب بنوبة قلبية من شدة الإجهاد في العمل، وأسال الله أن يبعد عنك الشر..

فطمأنها عامر:

– لا تقلقي أرجوك، فلستُ من هذا النوع، صحيح أن الأيام الأولى كانت متعبة، ولكن سرعان ما سيستقر الوضع، وتنتظم ساعات العمل وأيام الإجازة، بإذن الله..

فسألته أمه باهتمام:

– وماذا عن الطعام؟ أرجو أنكم تأكلون جيدا..

فلم يستطع عامر تمالك نفسه من الضحك:

– لا تقلقي من هذه الناحية، فنحن لن نموت من الجوع هنا، بالأمس ذهبت نور للتسوق، وصنعت لنا دجاج محشي مع خضراوات متنوعة، والثلاجة ممتلئة والحمد لله..

فاستدركت أمه بقلق:

– هل تركت نور تذهب لوحدها؟ وماذا عنك أنت؟؟ لماذا لا تذهب معها؟ ماذا لو تعرضت للسوء في بلاد الغربة، وأنتم لا تعرفون أحد هناك؟

فأسرع عامر يوضح لها الأمر:

– كما قلتُ لك يا أمي كنتُ منشغلاً جداً، كما أن المتجر على بعد خطوتين من المنزل، والمدينة آمنة بفضل الله، والناس يتحركون بحرية، لهذا لم أعارضها عندما اقترحت الذهاب للتسوق وحدها..

عندها سألته أمه:

– قلتَ أنها صنعت دجاج محشي، هل تأكدتم من أنه حلال؟

فضحك عامر:

– لا تقلقي أيضاً بشأن هذا، فأنتِ تعرفين نور!

فقالت أمه:

– رضي الله عنكم وبارك فيكم وحفظكم من كل سوء..

فردد عامر:

– آمين.. جزاك الله خيرا أمي الحبيبة..

ثم استدرك قائلاً:

– كيف حال أبي؟ لم اسمع صوته منذ مدة، هل هو قربك؟ فاليوم عندكم عطلة..

فأجابته أمه:

– كالعادة مشغول بمناقشة الأخبار والسياسة التي لا تنتهي، وقبل قليل جاء أبو راشد، وها هما الاثنان في الصالة، يناقشون آخر أخبار الوزارة والانتخابات، وكأنهم سيحلون مشكلة الكرة الأرضية!

فابتسم عامر بتفهم:

– أجل صحيح.. فهذه فترة إعلان رئيس الوزراء الجديد، بالمناسبة من فاز في النهاية؟

فجاءه صوت أمه بتبرّم:

– وكأن هذا سيشكل فارقاً كبيراً! رئيس جاء ورئيس ذهب، والبلد كما هي! الاقتصاد متأزّم، وأوضاع البلاد حرجة، والناس منشغلون بالشائعات حول سبب تغيب رئيس الوزراء عن خطابه!!

هم عامر بالاستفسار منها أكثر عن ذلك، ولكنه قرر تأجيل هذا، إلى الوقت الذي يتحدث فيه مع والده، فاكتفى بقوله:

– هذه حال الدنيا والله المستعان..

فأضافت أمه:

– لو أن كل شخص انشغل بأموره، وأدى واجباته على أكمل وجه، لصلح الحال، لذلك ركز على أولوياتك يا بني، وكن متوازناً، ولا تجعل عملك يشغلك عن بيتك وزوجتك، خاصة وأن نور لا تزال شابة، وأنت بالنسبة لها كل شيء في تلك البلاد الغريبة..

لم تكد أمه تنطق بتلك الجملة، حتى تسارعت نبضات قلبه بشكل أدهشه، فيما سمع ضحكات أمه على الجانب الآخر:

– الحب في القلب وحده لا يكفي يا بني، فالزوجة بحاجة لاهتمام زوجها بشكل عملي أيضاً!

وإذ ذاك شعر عامر بوخزٍ في قلبه، هل تراه قصّر في شيء مع نور؟ فهي لم تبدو على طبيعتها هذا الصباح، لكن صوت أمه قطع عليه أفكاره:

– عامر.. هل تسمعني؟

فأجابها بسرعة:

– أجل أجل.. أسمعك يا أمي..

ثم استدرك بقلق:

– هل قالت لك نور شيئاً؟

فردت أمه بارتياب:

– كلا لم تخبرني بأي شيء، ولكن لماذا تسأل! هل حدث شيء بينكما؟

فأسرع عامر يجيبها بالنفي:

– لا.. لا.. لم يحدث أي شيء ولله الحمد، لذلك تفاجأت من كلامك..

فضحكت أمه:

– لا تجعل فكرك يذهب بعيداً، كل ما في الأمر أنني أعرف ابني عندما ينشغل بعمله، فأحببتُ تذكيرك..

فتنهد عامر بارتياح:

– جزاك الله خيراً لتوجيهاتك القيمة، بالتأكيد.. سأذكر هذا دائماً إن شاء الله..

فجاءه سيل من دعواتها الطيبة، قبل أن تقول:

– أظن أن دوامك بدأ الآن، لا أريد تأخيرك أكثر..

فطمأنها بقوله:

– لا تزال هناك عشر دقائق، وأنا أمام بوابة المستشفى فلا تقلقي.. أبلغي سلامي لوالدي، وإن شاء الله سأحاول الاتصال به في وقت لاحق..

فسمع صوتها وهي تهم بإنهاء الاتصال:

– وفقك الله يا بني وأخذ بيدك لكل خير، انتبه لنفسك جيداً، والله معك..

فرد عامر:

– وأنتِ أيضاً.. انتبهي لنفسك جيداً يا غالية.. في أمان الله..

لم يكد عامر ينهي اتصاله، ويدخل المستشفى؛ حتى فاجأه سائد من خلفه، وهو يسند يده على كتفه، أثناء سيرهما باتجاه قاعة الاجتماعات، ممازحاً:

– ماذا لدينا أيها الشاب مع هذا الصباح!! أهي حبيبتك؟

كان عامر قد اعتاد مزاح سائد، رغم قصر المدة التي قابله فيها، فأجابه بابتسامة واثقة:

– أجل.. إنها أمي الحبيبة!!

فما كان من سائد إلا أن أطلق صافرة طويلة، قبل أن يتساءل باهتمام:

– أأنت جاد؟

فرد عليه عامر:

– وهل تراني أمتهن المزاح مثلك!

غير أن سائد قال بنبرة جادة هذه المرة:

– حسناً لم أكن أنوي مراقبتك أو الاستماع لحديثك، ولكنك كنت تتحدث أمام المشفى، فرأيتك وأنا أنزل من السيارة.. لم أتوقع أنها أمك!! هل أنت معتاد على الحديث معها هكذا؟

فأجابه عامر بسؤال آخر:

– وهل من الغريب أن يحادث الرجل أمه! من الطبيعي أنني سأفعل ذلك ما دمتُ لا أستطيع زيارتها وأنا في هذه البلاد!

فشهق سائد:

– وهل كنتَ ملزماً بزيارتها باستمرار وأنت في بلادك!

فرد عليه عامر بود:

– بالنسبة لي.. لا أرى الأمر إلزاماً؛ بقدر كونه محبة ووفاء، بل إنني بحاجة لذلك أكثر منها!! إنها أمي قبل أي شيء!

فتنهد سائد:

– لا أدري.. ولكن هذا لا يبدو طبيعياً بالنسبة لي!!

كان الاثنان قد وصلا إلى قاعة غرفة الاجتماعات الصباحية، حيث اجتمع الأطباء والاستشاريون لمناقشة الحالات، فالتفت عامر نحو سائد قبل أن ينهيا الحديث، قائلاً بود:

– يا أخي.. إذا لم يكن فينا خير لأمهاتنا، فأي خير سيبقى بعد ذلك!

**

أخذ رامز يذرع شقته جيئة وذهاباً بتوتر واضح، وهو يحمل هاتقه بين يديه، معاوداً الاتصال من جديد، فلم يسمع سوى صوت المجيب الآلي يكرر جملته المعهودة:

“الرقم المطلوب لا يمكن الاتصال به الآن، يرجى المحاولة في وقت لاحق”

فزفر بضيق:

– ما كان عليّ السماح لها بالذهاب، وموافقتها على تنفيذ هذا الهراء!!

وأخذ يسترجع ما أخبرته به أمل عن ذلك الاتصال:

– إنني متأكدة بنسبة كبيرة أن هذا له علاقة بسوسن! الاتصال هذه المرة مختلف! علينا اغتنام الفرصة حالاً..

فأجابها بتوجس:

– وما الذي جعلك متأكدة هكذا؟ ثم ما قصة هذا الاعلان الذي تتحدثين عنه؟

فما كان منها إلا أن أطلقت ضحكة مجلجلة، قبل أن تقول بتهكم:

– يا لنباهتك المدهشة أيها المحقق العظيم، توقعتك أذكى من ذلك!

فتجاهل رامز سخريتها قائلاً:

– إذا كنتِ تظنين أن المختطفين سيصدقون إعلاناً مكشوفاً كإعلانك، ويخاطرون بأنفسهم من أجل جلب ممرضة غريبة؛ لضمان صحة رهينتهم، فأنتِ بلا شك، تبالغين في أحلامك!

فزمت أمل شفتيها:

– وهل أتيتَ أنت بفكرة أفضل؟ الأيام تجري دون أن يلوح لك طرف أي خيط، لتمسك به! فإلى متى ستنتظر! لا بد لنا من خلق الفرص بأنفسنا، وليس ترقبها وحسب! ولا تنسَ أن فتاة ثرية ومدللة؛ سينهار جسدها بسهولة إثر أي ضغط، ولن يحتمل البقاء طوال تلك المدة دون رعاية! وهذا بلا شك سيسبب لهم حرج كبير، فحياة الرهينة هامة جدا للمختطفين!

فقال رامز متحدثاً بأسلوبها:

– وبالطبع في تلك الحالة، لن يجدوا أفضل من ممرضة بائسة مستعدة للعمل مقابل المأكل والمسكن، وبعض المال، أليس كذلك؟

فضحكت أمل:

– الآن بدأ عقلك يعمل بشكل جيد..

لكنه استوقفها بنبرة جادة:

– أمل، دعينا نتحدث بجدية أكبر، حتى لو افترضنا أن هذا الاحتمال الخيالي صحيح، هل تتوقعين منهم أن يطلبوا منك المجيء لرعاية شابة مشهورة، دون الخوف من افتضاح أمرهم؟

فردت عليه أمل:

– ومن قال لك أنهم لم يأخذوا كافة الاحتياطات؟ ألم أخبرك عن الطريقة التي تحدث بها الرجل في اتصاله؟

فعلق رامز:

– تقصدين أنك كنتِ محنكة أكثر من المُتصل، رغم كل احتياطاته، ثم تمكنتِ من اكتشاف أنه هو الفريسة المطلوبة، من بين جميع الاتصالات التي وصلتك سابقاً!

فلوحت أمل بيدها في الهواء، بإشارة على لا مبالاتها بتعليقه:

– أنتَ تستخف بقدراتي وخبرتي في مجال التمريض المنزلي كثيراً! يمكنني الجزم بأنني أكاد أحفظ طرق الزبائن كلها، ويمكنني تمييز الاتصال المطلوب من خلال طرح القليل من الأسئلة فقط! كما أنها المرة الأولى التي يُطلب فيها مني إرسال صور لأوراقي التي تثبت عملي في مجال التمريض وخبرتي فيه، على رقم الهاتف! ولو افترضنا جدلاً أن ذلك الاتصال لا علاقة له بسوسن، فيمكنني اكتشاف ذلك بسهولة عندما أذهب لتوقيع العقد معهم، وعندها سأجد أي ذريعة للاعتذار والتملص منهم! المهم أن نبدأ بالتحرك..

فهز رامز رأسه بتفهم:

– حسناً.. ألم تقولي بأنك تشكين بوجودهم في الشوارع الشمالية الغربية، حيث وجد أستاذ الرسم تلك البطاقة؟

أومأت أمل برأسها إيجاباً:

– هذا صحيح، ولو أخبرني الرجل بأن موقع منزلهم في تلك المنطقة؛ لتأكدتُ من نظريتي أكثر، ولكن كما قلتُ لك، لا شك أنهم اتخذوا كافة الاحتياطات، ومن بينها تغيير موقعهم، ثم إن عثور الاستاذ على البطاقة هناك؛ لا يعني بالضرورة أنهم احتجزوها في تلك المنطقة!

حل صمت بينهما قبل أن يقول رامز:

– وماذا لو كانوا هم فعلاً المختطفين، ما الذي ستفعلينه عندئذ؟

صمتت أمل للحظة قبل أن تقول:

– سأرسل لك طبعا رسالة بذلك، لتبدأ التحرك من طرفك، لذا سنبقى على اتصال، وفي أسوأ الأحوال يمكنك تتبع مكاني عن طريق الجهات المختصة، حتى ولو كان هاتفي مغلقاً! أنت تعرف هذا، ثم إنك تملك تصريحا يؤهلك لطلب مساعدتهم، لذا لا داعي للقلق..

فزفر رامز بعدم ارتياح:

– تقولون هذا بثقة، وكأنك ستضمنين عدم اعتدائهم عليك، أو تجريدك من أغراضك، بما في ذلك هاتفك..

فردت أمل:

– لا أظنهم حمقى ليفعلوا ذلك! فقد كان الأسهل عليهم والأسلم لهم؛ عدم استدعائي من البداية، بدل إيذائي وحبسي وإضافة عبء جديد عليهم! هم بحاجة إلى ممرضة، وأغلب الظن انهم سيحرصون على كسب ثقتي في البداية على الأقل!

فقال رامز:

– وماذا لو..

لكن أمل قاطعته:

– بدون لو.. لا خيار آخر أمامنا، علينا التحرك بسرعة، لذا سأذهب للمقابلة حالاً، وسأترك لك العنوان، ثم إن الاحتمالات أمامنا واضحة، إما أن يكون هذا العنوان مجرد خدعة- وهذا هو المرجح- خاصة وأن الحي المذكور؛ هو حي سكني معروف، وقد تكون هناك سيارة تنتظرني أمام المنزل، بحجة نقل المريضة لمكان آخر، أو ربما سيارة اسعاف لإيهامي بأننا ذاهبون للمستشفى، في حين يأخذونني إلى مكان الاختطاف، وكما قلت لك، سأرسل لك رسالة بمجرد حدوث ذلك، وأنت تعلم مهارتي في إرسال الرسائل وأنا مغمضة العينين، فلا تقلق من هذه الناحية، كما لا أظنهم يريدون إثارة الشبهات، هذا هو الاحتمال الأول..

والتقطت أنفاسها قبل أن تتابع:

– أو أن يكون هذا العنوان هو مكان الاختطاف فعلاً، رغم أن هذا لا يبدو معقولاً، ولكنه احتمال وارد، عندها سيكون عليك الاستعانة بالجهات المختصة، لمراقبة المنزل والانقضاض على المختطفين في الوقت المناسب، دون إثارة جلبة، فأي خطأ لن يكون في صالحنا أبداً..

فقال رامز:

– وكيف ستذهبين إلى هناك؟

فأجابته أمل وهي تهم بالخروج:

– سأستقل سيارة أجرة بالطبع! هل تراني أمتلك سيارة مثلاً!!

وناولته ورقة خطت عليها بيدها بضع كلمات، غير أن رامز تجاهل الورقة، وأمسكها من كتفها مستوقفاً:

– انتظري سآتي معك..

لكنها قاطعته بصرامة:

– لا نريد إثارة الشبهات، ولا تفكر بإرسال أحد خلفي في الوقت الراهن، وإلا خسرنا الجولة..

قالت جملتها الأخيرة، وهي تضع الورقة على الطاولة، وخرجت..

كان هذا هو آخر عهده بأمل، وها قد مر على ذلك ثلاث ساعات، دون أن يصله منها اتصال، ولا حتى رسالة واحدة! والأدهى من ذلك أن هاتفها خارج التغطية! فهل يبدأ تحركه؟

أعاد قراءة الورقة التي خطتها أمل، للمرة العاشرة:

“الحي الشرقي، شارع صلاح الدين، المنزل رقم 20”

ورغم أنه بحث عن العنوان عبر الشبكة العنكبوتية، دون أن يجد حوله ما يريب- فهو كما قالت أمل؛ حي سكني معروف- إلا أنه على حين غرة، راوده شعور غريب، فوقف مذهولاً لوهلة:

– الحي الشرقي.. شارع صلاح الدين!! لماذا أشعر أن هذا المكان، مألوفاً لدي!!

غير أنه سرعان ما ضرب جبهته بيده، هاتفاً:

– يالي من أحمق! كيف لم أنتبه لهذا من قبل!! إنه ذلك المكان نفسه بلا شك!! الشارع الذي عُرف ذات مرة.. بشارع الوزراء..

**

لم تكن سوسن قد تعافت من الحمى تماماً، رغم أن وجودها في تلك الغرفة المنعّمة؛ أمدها ببعض القوة، خاصة مع تناولها تلك التمرات، التي بدت لها في ذلك الوقت من ثمار الجنة!

غير أن آثار الحمى؛ عاودتها من جديد، فاستلقت على السرير، وتدثرت بالغطاء وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة، كانت منهكة تماماً، وخيّل إليها أنها لن تكون قادرة على الهرب؛ حتى ولو وجدت الأبواب مشرعة أمامها!! فدمعت عيناها:

– يارب.. ارحم ضعفي..

وبينما هي على تلك الحال؛ إذ سمعت صوت قفلٍ يُفتح، ولم تمض سوى لحظات قليلة حتى تلاها صوت طرقٍ خفيف على الباب، لتدلف بعده شابة- ترفع شعرها على شكل ذيل حصان- ترتدي زي الممرضات، وتحمل بيدها صحيفة طعام، حيتها باسمة:

– السلام عليكم.. كيف صحتك الآن يا آنسة؟

وجمت سوسن للحظات، قبل أن ترد السلام، وقد الجمتها الدهشة، هل هي في مشفى؟ ولكن أثاث الغرفة لا يوحي بذلك! وماذا عن هذه الممرضة؟ هل هي ضمن المختطفين أم ماذا!

وأمام صمتها، وضعت الممرضة يدها على جبين سوسن، تتحسسه قبل أن تقول:

– حرارتك ليست مرتفعة كثيراً، ولكنك تحتاجين للراحة، وتناول غذاء مناسب..

ثم ابتسمت قائلة:

– ما رأيك بأخذ حمام دافيء، فقد أحضرتُ لك ملابس جديدة، كما يمكنك خلع حجابك إذا أردتِ، فلا أحد غيرنا في الغرفة..

لم تعرف سوسن بماذا تجبها، فآثرت الصمت، غير أن الممرضة حثتها على الكلام قائلة:

– هل تعانين من خطب ما يا آنسة؟

حملقت سوسن فيها بذهول، دون أن تدري ما تقول، فهل هذه الممرضة تعرف أي شيء عن وضعها الحالي، أم أنها تتظاهر بالبراءة فقط! وإمام إصرار الممرضة:

– هيا يا عزيزتي، أنا هنا من أجلك، وكل ما يهمني هو صحتك..

وأخيراً قررت سوسن التحدث، فهذه فرصتها كما أنها لن تخسر شيئاً:

– عفوا.. ولكن ما الذي يجري هنا وأين أنا؟

فظهرت الدهشة على وجه الممرضة، وهي تجيبها:

– في منزل عمك طبعاً، يبدو أن الحمى أثرت عليك يا آنسة، أرجوك تناولي طعامك حتى تتعافي بسرعة..

بهتت سوسن لما سمعته، إذ لا يوجد أعمام لها!! فوالدها وحيد بين ثلاث أخوات، وهمّت بأن تستوضح الأمر أكثر من الممرضة- بعد أن كادت تشك في نفسها- لكن الممرضة غمزتها، قائلة:

– المهم أن تتعافي بسرعة الآن..

فاطمأنت سوسن قليلاً، بعد أن روادها إحساس بأن الممرضة تسعى لإنقاذها، وإن لم تعرف كيف وصلت إليها!

فيما تابعت الممرضة باسمة:

– اسمي أمل، فلا تنسي أن هناك أمل دائما..

**

لم يخفَ على كارم استشعار القلق في صوت نائب الحاكم العام، وهو يحدثه على هاتفه للمرة الأولى، منذ دخوله غمار الانتخابات:

– سيد كارم، أرجو أن تكون بصحة جيدة، ولكن اعذرني.. فليس من صالحنا تأجيل الخطاب أكثر، أنت تعرف كيف هي وسائل التواصل الآن!! لقد بدأت الشائعات تنتشر بشكل جنوني، وهذا قد يخل بأمن البلاد، وإذا لم نتدارك الوضع بسرعة؛ فلا أدري أي كارثة ستحل بنا!

فحاول كارم طمأنته متظاهراً، بأن الأمور تحت السيطرة:

– لا تقلق يا سيد وائل، فالشائعات موجودة دائماً، ولن تنتهي أبداً مهما فعلنا، هذه طبيعة الناس..

غير أن وائل قال بتوجس:

– أخشى أن الأمر مختلف هذه المرة، وكأن هناك يد تحركه في الخفاء..

انقبض صدر كارم، وقد خشى أن يكون لذلك علاقة بابنته، فهو حتى هذه اللحظة آثر أن يبقى اختفاؤها طي الكتمان، فسأله باهتمام:

– وما هي طبيعة هذه الشائعات، فلا شك أن هناك رابط يجمعها..

فسمع زفرة حادة، صدرت عن النائب قبل أن يقول:

– لا أدري ماذا أقول لك.. لقد تم نبش قضية قديمة حدثت قبل عشرين سنة!

أسقط في يد كارم، وشعر بأنه محاصر من جميع الجهات، فما أن أنهى حديثه مع وائل، حتى أضاءت شاشة هاتفه رسالة، دون أن يظهر رقم المرسل:

“غدا ستكون المهلة الأخيرة لك للإدلاء باعترافك أمام الجميع، إن كان يهمك أمر ابنتك، ولا تلم إلا نفسك بعدها..”

حزم كارم أمره أخيراً، وهو يقول لزوجته:

– ها هم قد استأنفوا التحرك من جديد، على الأقل يمكننا الاطمئنان إلى أن سوسن بخير حتى هذه اللحظة، ولكن لا مفر من الأمر..

فقالت بهية بتوسل:

– لا يزال الوقت باكراً على الاستسلام، لماذا لا تتصل بالمحقق، وتتابع عمله بنفسك، فقد تكون لديه طريقة للتوصل إليهم من خلال هذه الرسائل.. فما دمنا قد وصلنا إلى هذا الحد؛ لم يعد لدينا ما نخشى عليه بعد الآن..

وقبل أن يهم كارم بمهاتفة المحقق، رن هاتفه، ليسمع صوت رامز على الجهة الأخرى يحدثه:

– عفواً سيد كارم لتأخري بالنتائج، ولكن هل لك أن تخبرني بما حدث قبل عشرين سنة، بخصوص قضية وزير خارجية سابق، يُدعى ثائر وليد؟

وأمام صمت كارم، استأنف رامز كلامه موضحاً:

– قد لا يحق لي توجيه الأسئلة لك بهذا الشكل يا سيدي، ولكن للضرورة أحكام، فهذا له علاقة باختطاف ابنتك، وقد وكلتني بحل قضيتها، لذا أرجو منك التعاون معي يا سيد كارم.. ولا تخفي عني شيئا..

وساد صمت آخر، قبل أن يقطعه رامز بقوله:

– ألم يكن منزل ذلك الوزير في الحي الشرقي، بشارع صلاح الدين؟

وأخيراً.. تكلم كارم باستسلام تام:

– أجل.. حيثُ كنتُ أقيم أيضاً في ذلك الوقت..

لم يستطع كارم معرفة ردة فعل المحقق، لسماعه هذه الاجابة الصريحة منه، غير أنه استأنف قائلاً:

– هل لك أن تأتي إلى منزلي أيها المحقق؟ أم تفضل أن آتي إليك بنفسي؟

فجاءه جواب رامز حاسماً:

– بل أفضل أن نذهب معاً إلى ذلك الشارع، شارع صلاح الدين، في الحي الشرقي..

**

كان أيهم يتناول الطعام مع سورا في أحد المطاعم، والهم لا يزال بادياً على وجهه، كمن خرج من منزله مكرهاً، عندما حاولت سورا انتهاز ما يتداوله الناس من شائعات، قائلة بشماتة لم تستطع إخفاءها:

– هل عرفت بآخر الأخبار؟؟ يبدو أن رئيس الوزراء الجديد غير كفؤ لمنصبه! لا أدري كيف انتخبه الناس حتى وصل إلى هنا..

وأمام صمت أيهم، تابعت سورا، متظاهرة بالاهتمام:

– أنتَ تعرفه جيداً، أليس كذلك؟

فتنهد أيهم:

– منذ أن قطعت سوسن علاقتها بي، لدرجة إغلاق هاتفها نهائياً؛ لم أعد أعرف شيئاً.. لم أعد أعرف أي شيء..

ورغم أن سورا استاءت من تلك النبرة البائسة، التي تحدث فيها أيهم عن سوسن، إلا أنها أظهرت الاهتمام بما يمر به:

– أتفهم شعورك تماماً.. ولكن لا تدري، لعل ما حدث هو الأفضل، وإلا كنتَ عرضة للشائعات أيضاً، بصفتك صهر ذلك الرجل!

وفي مكان آخر، كان سامر يتميز غيظاً، بعد أن وقعت عيناه على عنوان مقالة تم تداولها عبر وسائل التواصل، تتهم رئيس الوزراء الجديد بعدم المصداقية، محدثا نفسه بغضب:

– أي بشر هؤلاء! يا لهذه القسوة!! هل أصبح والد سوسن الآن فاسداً، لمجرد تغيبه عن الخطاب بسبب مرضه، بعد أن كان مضرب المثل في الكرم والجود!! إن كانوا سيسيؤون إليه ويتهمونه هكذا، فلماذا انتخبوه إذن!! ألا يوجد من يضع حداً لتلك الشائعات الكاذبة!

وشعر بألم شديد يعتصر قلبه:

– ترى.. كيف هو شعورك الآن يا سوسن! ليتني فقط أستطيع الوقوف إلى جانبك!!

**

خرجت أمل من غرفة سوسن، بعد أن اطمأنت على صحتها، وأسرعت نحو إحدى الغرف، حيث كان هناك شاب بانتظارها، قائلة:

– لقد تحسنت كثيراً.. وأظنها تنام الآن بعمق، بعد أن استحمت وبدلت ملابسها، وتناولت الطعام.. فما هي الخطوة التالية؟

فأجابها الشاب:

– ليس بإمكاننا فعل شيء في الوقت الراهن سوى الانتظار، فأخشى أن يعرف المختطفون بأمرنا ويفسدوا خطتنا..

فطمأنته أمل:

– لا بأس.. ولكن أليس من واجبنا طمأنة أهلها على الأقل؟

فأجابها باهتمام:

– كنت أفكر بهذا، ولكن الاحتياط واجب..

همت أمل أن تخبره عن خطيبها رامز، مبينة له أنه سيعمل على مساعدتهما في انقاذ سوسن، إن أخبراه بالوضع، لكنها آثرت الصمت توخياً للحذر، مفضلة أن تجعل رسائلها لرامز سراً، رغم أنها لم تتلقَ منه أي رد حتى الآن!

**

كانت بهجة- الطاهية وكبيرة الخدم في منزل سوسن- تحاول جاهدة التخفيف عن السيدة بهية، التي بدت على وشك الانهيار:

– ما الذي عليّ فعله الآن يا بهجة!! لم أعد أحتمل أكثر، لقد تأخر الوقت كثيرا، وكارم لم يعد بعد! وليته يجيب على اتصالاتي على الأقل! بالأمس سوسن والآن كارم!! أكاد أجن..

فربتت بهجة على كتفها مهدئة:

– سيكون كل شيء بخير.. لا تقلقي سيدتي، فربما عثر المحقق على مكان سوسن، وهما في الطريق إليها.. تفاءلي أرجوك..

فأخفت بهية وجهها بين كفيها، وهي تنتحب بشدة:

– انت الوحيدة التي أثق بها يا بهجة.. لذا أرجوك أخبريني بصدق، كيف أتصرف الآن؟ هل أظل صامتة وحسب!! هل أخبر الشرطة؟ هل أخبر أخت كارم الكبرى على الأقل! رغم أنها لا تعرف عن اختفاء سوسن حتى الآن، ولا أدري بأي وجه سأحدثها؛ بعد أن اعتذرنا عن استقبالها!! أم أكتفي بالانتظار!! ماذا أفعل بالضبط يا بهجة؟ ماذا أفعل؟

غير أن بهجة لم تكن تمتلك إجابة شافية لتساؤلاتها، خاصة وهي ترى تململ الخدم الذي بدأ يزداد أكثر.. فرغم إقامتهم الجبرية في المنزل- بناء على طلب السيد كارم- عن طيب خاطر منهم في البداية؛ إلا أن هذا لم يكن ليحول بينهم وبين معرفة ما يدور حوله من شائعات، والتي بدأت تبذر الشكوك في نفوسهم أكثر وأكثر!! بل إن هناك من تجرأ على فتح مناقشات هامسة، حول ما حصل قبل عشرين سنة، وإذا ما كان لسيدهم يد في ذلك حقاً!!

ولم يكن هذا ليخفى عن بهجة، لكنها لم تعد تعرف كيف تسيطر على الوضع أكثر!

**

عاد مهند إلى منزله منهكاً، ليجد سفرة جدته الشهية باستقباله كالعادة، وما أن استقر المقام به حول المائدة معها، حتى بدأت حديثها المعهود:

– بشّرني.. هل من أخبار مفرحة اليوم؟

فابتسم مهند وهو يرتشف الحساء الساخن، مدركاً مغزى سؤالها، قبل أن يقول:

– الحمد لله، ما دامت لا توجد هناك أي أخبار سيئة؛ فهذا بحد ذاته خبر مفرح يا جدتي..

فقالت وهي ترمقه بنظراتها الحادة:

– أنت تعرف ما هي الأخبار المفرحة التي أنتظر سماعها منذ سنين..

فضحك مهند، قبل أن يستدرك قائلاً:

– بالمناسبة يا جدتي.. هل تذكرين تفاصيل إلغاء النظام الملكي في بلادنا، قبل عشرين سنة؟ فقد كنتُ صغيراً وقتها، وكل ما أذكره أننا أخذنا إجازة طارئة، لمدة أسبوع من المدرسة!

فقالت جدته:

– ومن ينسى ذلك! كانت نقطة تحول كبيرة في البلاد، خاصة وأن..

لكنها بترت عبارتها فجأة، لتحدق في عيني مهند بحدة:

– وما الذي جعلك تفتح مثل هذه المواضيع الآن! لا تقل أنك تتحدث بأمور كهذه في الخارج!!

ثم همست بصوت منخفض:

– أذكر أنني حذرتك من الخوض في هذه الاشياء التي تجلب المشكلات، هل تريد أن تختفي وراء الشمس!! يكفي أنك لم تتزوج حتى الآن ولم أفرح بأولادك!

فكتم مهند ضحكة كادت أن تفلت منه، قبل أن يطمئنها بنبرة جادة:

– لا تقلقي يا جدتي من هذه الناحية، فلستُ ممن يهتمون بهذه المواضيع، وبالكاد أركز على عملي، ولكن الدنيا تغيرت والناس بدؤا يتكلمون، ويبدو أن هناك موجة اجتاحت الناس مؤخراً، جعلتهم يتساءلون عن حقيقة ما جرى، بعد موت الملك أحمد الثالث…

فأسرعت جدته تضع يدها على فمه لتسكته، هامسة:

– صه.. الا تعلم أن للحيطان آذان! ما هذا الذي تقوله!!

فحاول مهند طمأنتها من جديد:

– قلت لك لا تقلقي يا جدتي، لم يعد الأمر كما كان في السابق، فالجميع أصبح يتكلم في هذه الأمور الآن بحرية أكثر، خاصة مع وسائل التواصل الحديثة!

فنهرته جدته:

– لا يهمني ما يفعله الناس، الاحتياط واجب، ولستُ مستعدة للتفريط بحفيدي الوحيد..

وشعر مهند بأنه من العبث المحاولة مع جدته في هذه المسألة، فهي محسومة عندها بلا أدنى نقاش! ورغم رغبته الشديدة في استقراء ذكرياتها عن تلك الحادثة- خاصة بعدما سمع أطراف أحاديث متفرقة، تداولها المرضى اليوم في المستشفى- إلا أنه آثر رضاها، فتابع طعامه متماشياً مع الحديث الذي لا تكل ولا تمل منه، وهي تقول مذكرة:

– لا تنسَ أن آخر فرصة لك هي مع نهاية هذا العام..

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 54

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

كانت الأجواء ربيعية، ونسائم العصر العليلة؛ تداعب أزهار سهلٍ أخضر فسيح،عندما أقبل فتى صغير بهي الطلعة- وهو يُخبّيء يديه خلف ظهره- نحو طفلة لم تكمل الرابعة من عمرها، بدت كحورية فاتنة، تقفز وتدور في المكان، بمرح صاخب، بصحبة فراشات بديعة الألوان..

ناداها باسمها، فأقبلت نحوه مبتهجة، وهي تهتف بصوتها الطفولي العذب:

– التاج.. التاج.. أنت تخفي التاج، صحيح؟

فابتسم الفتى:

– اغمضي عينيك أولاً..

فاغمضت الطفلة عينيها بلهفة، قبل أن تستنشق رائحة زكية، اختلط فيها عطر الورد والزهور، ليستقر التاج على رأسها بعد ذلك..

لكنها شعرت ببرودة لسعت جبينها فجأة، فارتجف جسدها بشدة..

فتحت سوسن عينيها بصعوبة، وهي تحس بدوار شديد، فلاحت لها صورة ضبابية، رأت فيها أشبه ما يكون بشاب، يضع يده على رأسها! بدى لها المشهد مألوفاً، وهي شبه مغمضة العينين، في حين كانت لا تزال تتأرجح بين عالم الأحلام واليقظة..

وأخيراً.. فتحت عينيها بانتباه شديد، لتفهم ما يجري حولها، رغم الوهن الذي خدّر جسدها، وألزمها ذلك السرير!

لم تكد ترفع رأسها عن الوسادة؛ حتى سقطت قطعة قماش مبللة بالماء عن جبينها، فتحسست رأسها بسرعة، ثم تنهدت بارتياح.. فهي لا تزال بكامل حجابها!

ورغم اطمئنان قلبها لذلك، إلا أن الوضع بدى لها غريباً.. هل كانت تحلم؟ فلم يكن هناك أحدٌ سواها في الغرفة!! حاولت النهوض بعد أن أزاحت الغطاء الدافيء عنها، ثم أنزلت رجليها عن السرير، لتجلس على حافته، فكان أول ما وقعت عليه عيناها؛ زجاجة ماء، إلى جانب سلة فاكهة وصحن تمر، وُضعت بعناية على طاولة صغيرة!

لم تكن الغرفة كبيرة، لكنها بدت فارهة جدا لها، خاصة بعد مكوثها في ذلك القبو الخانق، وإذ ذاك؛ لفتت نظرها ستائر مسدلة، فهرعت نحوها لعلها ترى شيئاً عبر النافذة، والتي كانت المصدر الوحيد للإضاءة الخافتة في الغرفة..

أزاحت الستائر قليلا، غير أنها أصيبت بخيبة أمل، رغم شعورها ببعض الانتعاش- لإحساسها بوجود الشمس- فقد كان زجاج النافذة محكم الإغلاق، من النوع الذي يسمح بدخول ضياء الشمس عبره، دون أن يتيح رؤية ما خلفه أبداً!! أما تهوية الغرفة، فقد كانت تتم عبر فتحات تهوية مركزية في السقف!! تلفتت سوسن حولها قبل أن تتجه نحو باب موارب، داخل الغرفة، أطلّت من خلاله بحذر، وضغطت على زر الانارة، فإذا به يؤدي إلى حمّام نظيف متكامل، فشعرت براحة عجيبة، خيّل إليها أنها افتقدتها منذ زمن بعيد! وأخيراً، خطت نحو باب الغرفة، وحاولت فتحه، غير أنه كان مقفلاً من الخارج بإحكام! ومع استرجاعها لما مر بها من أحداث؛ اكفهر وجهها لتذكر تلك الرسالة الصوتية، التي تمنت أن تكون مجرد كابوس لا أكثر، فما الذي حدث بعد ذلك؟ وكيف انتقلت إلى هنا؟ وقبل أن تغرق في حيرتها أكثر؛ تذكرت الصلاة، فدخلت الحمام، وتطهّرت، ثم اجتهدت في استقبال القبلة، قبل أن تحلق روحها في مناجاة الإله..

**

كانت نور منهمكة في أعمال المنزل، عندما سمعت جرس الباب فهرعت نحوه، متلهفة لاستقبال عامر، لكنها فوجئت به يدخل، وهو يتأبط ذراع امرأة لم تتبين ملامحها جيداً، قائلاً:

– هذه زوجتي الثانية يا نور، أحبيها كأختك، فهي وحيدة،..

لم تستطع نور فتح فمها من هول الصدمة، وشعرت باختناق شديد كاد يقتلها، وبدأت الأرض تغور من تحت قدميها، وظلمت الدنيا في عينيها، فلم تشعر بنفسها إلا وهي تهوي في قعر بئر سحيق لا نهاية له!

فتحت نور عينيها، ورفعت رأسها عن الوسادة بسرعة، ونبضات قلبها تتسارع بفزع، فنظرت عن يمينها لترى عامر يغط في نوم عميق، وأنفاسه تتوالى بانتظام، فحمدت الله، وتفلت عن يسارها ثلاثاً:

– أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم..

كان تأثير الكابوس لا يزال حاضراً أمام عينيها، وكأنه حقيقة، فشعرت بضيق في صدرها، وهي تسترجع كلام إحدى السيدات، في أول زيارة لها، للمركز الاسلامي، بعد نهاية المحاضرة:

– على الزوجات أن لا يكن أنانيات، ويشجعن أزواجهن على الزواج بأخواتهن المسلمات اللاتي لم يتزوجن! ألا تريدون الأجر والثواب من الله؟ فهذه الدنيا زائلة، والآخرة خير وأبقى..

فردت عليها أخرى، بلهجة حادة، وقد بدت أصغر منها سناً، وأوفر شباباً:

– ما دامت الدنيا زائلة والآخرة خير وأبقى؛ فلماذا تسعى تلك النساء لتعكير صفو حياة الأسر الهانئة!! لماذا لا يصبرن وحسب، ويكففن شرهن عن البيوت؟

فقالت الأولى:

– الزواج سنة، وهو نصف الدين، وليس مجرد ترف، وبحسب الاحصائيات فإن أعداد النساء أكثر من…

لكن الثانية قاطعتها:

– هذه الاحصائيات التي تتحدثين عنها متغيرة، فآخر الاحصائيات التي اطلعتُ عليها؛ تشير إلى أن أعداد الرجال يفوق أعداد النساء في بعض الدول، وفي الغالب عددهم مساو للنساء تقريباً، ثم إن أعداد الرجال العازبين ليس بأقل من أعداد النساء العازبات، فلماذا لا تتحدثون عن مشكلتهم أيضاً؟!

فقالت الأولى:

– تلك قضية أخرى، فمشكلة الرجال مختلفة، إذ ليس جميعهم قادرون على الزواج، بسبب قلة ذات اليد، أو ما شابه، بينما المرأة تكون أكثر استعداداً للزواج في الغالب، فلماذا لا نشجع القادرين على الزواج- حتى ولو كانوا متزوجين- من الزواج بهن! فبهذا يكثر نسل المسلمين، و…

وبدا أن النقاش على وشك الاحتداد بين المرأتين، فتدخلت سيدة ثالثة، بدت في أواخر الخمسين من عمرها، قائلة:

– الكلام سهل يا أم هاني، ولكن هل ترضين أنت بذلك؟

فأجابتها بثقة:

– بالطبع، بل إنني اقترحتُ على زوجي أسماء بعض النساء، ولكنه لا يريد، كما أنه مريض كما تعلمين وبالكاد يرعى نفسه، وحتى لو كان شاباً قوياً وقادراً على تحمل المسؤولية؛ لما وقفتُ في طريقه!

فتدخلت المرأة الشابة:

– لذلك تقولين هذا ببساطة! بالفعل، كما قالت الخالة نبيلة، الكلام سهل! كما أن الأفضل للمسلمين أن ينشؤوا أبناءهم تنشئة صالحة سليمة، على أن يكثروا عددهم فقط؛ ولو على حساب استقرارهم الأسري، وسلامتهم النفسية!

ويبدو أن أم هاني لم تشأ مجادلتها أكثر، فالتفتت إلى نبيلة قائلة:

– وهل يرضيك حال ابنتك يا أم جابر؟

فتنهدت نبيلة:

– حتى وإن كنتُ أتألم لحالها، فلا يرضيني ولا يرضيها أيضاً، هذه الدعوات التي تعقّد المشاكل ولا تحلها! بل وتكاد أن تفتن المسلمات في دينهن! ولو كانت ابنتي متزوجة؛ لما رضيتُ لزوجها أن يأتيها بضرة! وما لا أرضاه لابنتي لا أرضاه لبنات الناس، والله واسع كريم..

والتقطت نبيلة أنفاسها، قبل أن تستأنف قائلة:

– اسمعيني يا أم هاني، فأنتِ سيدة طيبة وتريدين الخير، ولكن لِنَكُن صريحات مع أنفسنا، فحتى السيدة فاطمة الزهراء- رضي الله عنها وأرضاها- وهي خير نساء العالمين، وابنة سيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم- حزنت عندما سمعت ان زوجها يهم بالزواج عليها، ناهيك عن تشجيعه على ذلك! فلماذا نكابر على أنفسنا، ونخوض في أمور لا طاقة لنا بها، فهذا ابتلاء كبير بلاشك، والابتلاء لا يُسعى إليه ولا يُطلب، ولكن إذا وقع؛ نؤمر بالصبر والاحتساب، والأولى أن نسأل الله العفو والعافية! ثم إن التعدد لم يرد في القرآن إلا في آية واحدة، مرتبط بشرط صعب التحقيق، فلماذا يجعله البعض وكأنه محور الدين كله وأساسه! لا أظن أنه من الحكمة إثارة مثل هذه الأمور، وكأنها فرائض أو مندوبات حث عليها الشرع! فالدعوة إلى ذلك نتج عن اجتهاداتٍ صدرت عن بشر يصيبون ويخطئون، ظنوا أن فيها صلاح المجتمعات، ولكن تلك المصالح تتغير باختلاف الأحوال والأزمان والعصور، وليست ثوابت دينية! فلا ضرر ولا ضرار، وبالطبع لا يمكنني أن أعيب على من ترضى بأن تكون زوجة ثانية، أو ثالثة ورابعة؛ فقد تكون لها ظروفها التي تجبرها على ذلك، ولكنني أسأل الله السلامة والعافية..

تنهدت نور وهي تستذكر ذلك كله، ورغم تجنبها لدخول الحديث معهم؛ إلا أنها لم تستطع منع نفسها من الاستماع لهم، حتى إذا ما انفض المجلس، أقبلت نحوها السيدة نبيلة، بعد أن انتبهت لوجودها على مقربة منهم، فحيتها باسمة:

– تبدين جديدة على هذا المكان، فلم أركِ من قبل..

فبادلتها نور التحية والابتسام:

– أجل يا خالة، فهذه أول زيارة لي للمركز، بعد أن انتقلتُ مع زوجي إلى هذه البلاد..

فشدت نبيلة على يدها بمودة:

– حياك الله يا ابنتي، سررتُ بالتعرف إليك، اسمي نبيلة وكنيتي أم جابر، يمكنك أن تناديني بما شئت، وعدّي نفسك كابنتي..

وغمزتها قائلة:

– أرجو أن لا يكون حديثنا أزعجك، فأنتِ كما تعلمين هذه فرصتنا نحن النساء المسلمات في هذه البلاد، للالتقاء والتعارف ومناقشة القضايا المختلفة، فلا تعتبي على انفعالاتنا وحدتنا في النقاش أحياناً..

فابتسمت نور:

– لا بأس يا خالة، فقد استفدتُ أيضاً من كلامكم..

واستدركت قائلة:

– عذراً نسيت أن أعرفك باسمي، أُدعى نور.. ويسعدني حقا التعرف إليك يا خالة، فأنتِ تبدين على قدر كبير من الوعي والحكمة ما شاء الله!

فشعرت نبيلة ببعض الحرج، قائلة:

– هذا من ذوقك يا نور، ويشهد الله أنني أحببتك، فقد دخلتِ قلبي بسرعة، كما أنك تشبهين ابنتي بشكل كبير..

ورغم أن نور لم تكن ترغب بالسؤال عن ابنتها أكثر، بعد أن سمعت ما يكفيها من طرف ذلك الحديث؛ لكن أم جابر انطلقت بالحديث عنها من تلقاء نفسها، خاصة بعد معرفتها أن نور قادمة من مدينتهم نفسها:

– آه يا ابنتي.. لا أدري ماذا أقول، هذا يعيد الذكريات حقاً، فأنتِ من رائحة الوطن! كانت ابنتي لا تزال في السابعة من عمرها عندما اضطررنا لمغادرة البلاد، وها قد مر على ذلك عشرين سنة!

ودمعت عينا نبيلة، قبل أن تستأنف حديثها بألم:

– أحياناً أتمنى لو يتوقف الزمن، حتى لا أراه يجري على ابنتي وهي في بلاد غريبة، تندر فيها فرص ارتباطها بشخص مناسب..

لكنها سرعان ما استدركت، وكأنها تحدث نفسها:

– أستغفرك يارب وأتوب إليك، لا أعترض على حكمك، ولا أكفر نعمتك، فالحمد لله أن أنجيتنا من مصير أسوأ، فحالنا أفضل من ذلك الرجل..

وكأن نبيلة شعرت بأنها تتحدث بكلام لا يفهمه سواها، فابتسمت لنور، وهي تجفف دموعها:

– اعذريني يا ابنتي، يبدو أنني لا أتمالك نفسي حقاً، كلما تذكرتُ ما حدث لنا في ذلك الوقت.. آسفة حقاً فلم أقصد إزعاجك بهمومي في أول تعارفنا، فتلك قصة طويلة حقاً..

فطمأنتها نور بابتسامة وديعة:

– لا عليكِ يا خالة، ألم تقولي أنني مثل ابنتك؟

فابتسمت نبيلة:

– بارك الله فيك يا حبيبتي، إنك بالفعل تذكريني بها..

وتنهدت:

– هناك من يلومنا لأننا هاجرنا، وأضعنا نصيب ابنتنا، ولكن يعلم الله أن ذلك لم يكن باختيارنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل فيمن كان السبب!

شعرت نور بأن من واجبها البحث عن كلمات مناسبة، تخفف عن هذه الأم المهمومة، فقالت مُطَمْئنة:

– رزق الله واسع يا خالة، لا يحده زمان ولا مكان، ونصيب ابنتك لن ينقطع بسبب الهجرة، فالله قادر على أن يأتي بمن تستحقه، ولو من آخر الدنيا..

فأومأت نبيلة برأسها موافقة:

– أعرف ذلك يا ابنتي، أعرف ذلك.. ولكنه قلب الأم.. أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه.. استغفر الله..

وسرعان ما استعادت نبيلة حيويتها بعد ذلك، إذ قالت بابتهاج:

– قلتِ انك أتيت مع زوجك منذ فترة وجيزة، ولا أقارب لكم هنا، فما رأيكم أن تأتوا لزيارتنا؟ أنا متأكدة أنك ستحبين ابنتي كما ستحبك، وستصبحان صديقتين بالتأكيد، كما أن زوجي اجتماعي جداً، ولا شك أنه سيسعد بالتعرف إلى زوجك، خاصة وأننا منذ فترة طويلة لم نلتقي بأحد من بلادنا..

وصمتت قليلاً وقد بدا عليها التفكير، قبل أن تقول:

– على الأغلب يكون زوجي متفرغ في نهاية الأسبوع، فماذا عن زوجك؟

ترددت نور للحظة قبل أن تجيبها:

– لا أدري بالتحديد متى سيكون متفرغاً، فهو لم يستلم جدول إجازاته بعد!

فعلقت نبيلة:

– لم انتبه لهذا فأنا لم أسئلك عن طبيعة عمل زوجك بعد!

فابتسمت نور:

– إنه طبيب، وقد وقّع تعاقده مع مستشفى المدينة مؤخراً..

وجمت نبيلة للحظة، وهي تفكر بعمق قبل أن تهتف بابتهاج:

– لا شك أنك زوجة ذلك الطبيب إذن! لقد أخبرتني ابنتي عن طبيب عربي مسلم، التحق مؤخراً بالعمل معهم في المستشفى، أظن أن اسمه عامر، صحيح؟

شعرت نور بوخز مؤلم في صدرها، لكنها حاولت تمالك نفسها، فأجابت بابتسامة متكلفة:

– أجل، إنه هو..

وهمّت بأن تقول لها بدورها:

– لا شك ان ابنتك هي الطبيبة هدى التي رافقت عامر في جولته الأولى!!

ولكنها آثرت الصمت، وهي تكبت رغبتها الشديدة في البكاء، وعشرات المشاعر المختلطة تتنازع نفسها بلا رحمة، حتى أنها لم تدرِ كيف انهت لقاؤها بنبيلة بعد ذلك!

كانت نور لا تزال مستلقية على فراشها- إلى جوار عامر- وهي تستذكر تلك الأحداث، وما راودها من أفكار بعدها، والتي كانت سبب كابوسها الرهيب بلا ريب..

نظرت إلى الساعة، فإذا بأكثر من ثلاث ساعات متبقية لأذان الفجر، لكنها لم تستطع البقاء في السرير أكثر، فتسللت من تحت الغطاء، ونهضت بهدوء، حتى لا توقظ عامر..

لو لم يكن عامر زوجها، لربما قالت أنه النصيب المناسب، الذي جاء لابنة نبيلة من آخر الدنيا! فهل من واجبها فعل شيء للتخفيف من معاناة تلك الأم البائسة، حتى تفرح بابنتها! أم تكتفي بالاطمئنان لكلام نبيلة مع أم هاني، وقناعتها حول ذلك الموضوع! وإن فعلت ذلك؛ فهل هي مجرد امرأة أنانية، على قول الأخيرة! فمن الواضح أن هدى على خلق ودين واحترام شديد كما قال عامر، بل وتشبهها أيضاً كما قالت نبيلة، وقد تكون متفوقة عليها أيضاً، فهي بالنهاية طبيبة مثل عامر، وهاهما يعملان في المكان نفسه! فلماذا تقف كالعقبة في الطريق!

وإذ طرقت ببالها هذه الفكرة، شعرت بألم شديد في صدرها لم تستطع احتماله، فأخذت تنشج بصوت خافت، بعد أن ذهبت إلى أبعد مكان عن غرفة النوم في الشقة، خشية ايقاظ عامر!

وإذ ذاك تذكرت سوسن! فهل كانت تشعر بآلامها حقاً!! وهل كانت تظن نفسها بعيدة عن هذه الآلام، وفي مأمن منها!! أليست هي من حاولت التخفيف عنها، عندما أخبرتها بأن القلب إن تعلق بغير الله تعذّب!! فالحب شيء، أما التعلق.. فشيء مختلفٌ تماماً، وشتان بين الاثنين!

عندها.. نهضت من مكانها وتوضأت، ثم استقبلت القبلة، والدموع تكاد تحجب رؤيتها:

– يارب.. أرحني بالصلاة ولا تفتني في ديني.. يارب..

ولم تعرف بماذا تدعو.. وماذا تطلب.. أو ماذا تريد بالضبط! فتركت الدموع تبلل موضع سجودها، بعد أن شرعت في الصلاة..

**

بدت بهية في أشد حالات العصبية، وهي تحاول حث زوجها على الكلام:

– كارم، قل شيئاً.. إلى متى تنوي حبس نفسك في الغرفة دون أن تفعل شيئا وابنتك في خطر!! لا يمكننا اخفاء الأمر عن أقاربنا أكثر! أنت تعرف ما الذي يعنيه ترشحك لمنصب رئاسة الوزراء لجميع أفراد العائلة!! ربما تخدع الجميع بعذر مرضك المزعوم، لكن هذا لن ينطلي عليهم! أختك قالت بأنها ستأتي اليوم للاطمئنان عليك بنفسها، وأبناء عمومتك لا يكفون عن الاتصال! لو أنك فقط…

غير أن رنين هاتفها قطع استرسالها في الكلام، فزمت شفتيها بضيق، وهي تقرأ اسم المتصل، قبل أن تقرر الاجابة بنبرة مصطنعة:

– أهلاً أخي.. اعذرني فقد كنت منشغلة.. أجل أنت تعرف… لا يمكننا الجزم.. قد يكون من الارهاق.. أجل.. لا يزال متوعكاً.. أنت تعرف.. أجل تم تأجيل الخطاب.. أرجو أنهم تفهموا ذلك فعلاً.. اعذرني، عليّ الذهاب الآن، سأعاود الاتصال بك في وقت لاحق.. مع السلامة..

تأكدت بهية من انهاء الاتصال، قبل أن تستأنف عصبيتها من جديد:

– لم أعد أعرف ما الذي أقوله لأهلي! إلى متى ستبقى صامتاً يا رجل؟ على الأقل.. لماذا لا تخبر المحقق الخاص بالأمر! لماذا لم تخبره عن الرسالة الصوتية التي وصلتك عندما اتصل بك؟

غير أن اصرار زوجها على التزام الصمت، كمن أصيب بالصمم؛ كاد أن يصيبها بالجنون، فصرخت بغضب، وهي تهم بالخروج من الغرفة:

– لن اسكت أكثر وابنتي في خطر، سأتصرف بنفسي ولتفعل ما تريد..

غير أن كارم سرعان ما نهض من مكانه ليحول بينها وبين الخروج قائلاً:

– ألا يمكنك الهدوء قليلاً يا امرأة!

فرمقته بهية بنظرات نارية:

– عرفت كيف تتكلم أخيرا!! تريدني أن أهدأ؛ وأنت لا تفعل أي شيء سوى تجاهل ما يجري حولك!! اسمعني جيداً.. لم يعد يهمني أي شيء، أعد سوسن فقط!!

فرد عليها بنبرة مماثلة:

– وكأن سوسن ليست ابنتي أيضاً!

وهم بأن يضيف شيئاً، لكنه تراجع عن ذلك، محاولاً تهدئة نفسه، قائلاً:

– أعتذر حقاً لصمتي، ولكنني كنتُ أحاول التركيز للحصول على اجابات مقنعة! لذا أرجوك يا عزيزتي، دعينا نجلس ونناقش الأمر بهدوء من أجل ابنتنا..

فما كان من بهية إلا أن أجهشت بالبكاء، رغماً عنها، فضمها كارم إلى صدره مهدئاً، ثم أخذ بيدها وأجلسها إلى جانبه، قبل أن يقول:

– لم أكن أعرف ما الذي سأقوله للمحقق بعد أن عرفنا سبب اختفاء ابنتنا!! هل أعترف له بما فعلته بالماضي؟ فحتى بعد اتصاله وسؤاله عن حقيقة إعلاني لمرضي؛ لم أعرف كيف أجيبه!! لم أتوقع أنني سأخفي الأمر عن المحقق الذي استأجرته بنفسي لحل القضية!! ولكن كما ترين يا عزيزتي.. لم تعد القضية غامضة.. لقد اتضح الأمر الذي لا يعرفه سوانا نحن الاثنين!

التقط كارم نفساً عميقاً قبل أن يتابع:

– لا أخفيك يا بهية.. منذ عشرين سنة وأنا لم أذق طعم الراحة!! وعندما قررتُ خوض غمار الانتخابات، كنت أرجو أن أصل لمنصب يمكنني من إيجاد طريقة، أبريء فيها ذمتي مما حدث في ذلك الوقت، ولكنني لم أتخيل أبداً أن يكون الأمر بهذا الشكل!! كان هذا خارج عن حساباتي تماماً..

كانت بهية تحاول كتم شهيقها الباكي، وهي تستمع لزوجها بصمت، فيما تابع قائلاً:

– ربما آن أوان تصفية الحسابات القديمة، ولا مفر من المواجهة، لذا..

لكن بهية قاطعته بخوف:

– لا تقل بأنك ستعترف أمام الملأ!! أجننت؟ هل تعرف عقوبة ذلك!!

فربت كارم على كتفها بحنان:

– لا تقلقي.. إذا نجحتُ بإنقاذ سوسن فستكونان بخير، فلا دخل لكما بما فعلته..

فارتمت بهية على صدره، تنشج بصوت مكلوم:

– مستحيل!! أي خير هذا الذي تتحدث عنه إن أصابك مكروه! لن يفهمك أحد، وستكون فضيحة كبيرة!! فما الذي سيحل بنا بعدها!!

طأطأ كارم رأسه بألم:

– وهل هناك حل آخر؟ ألا تريدين رؤية ابنتك؟

فزاد نشيج بهية:

– ما كان عليك توريط نفسك في تلك القضية، لماذا يا كارم.. لماذا الان!! لقد كنت….

لكن الحروف تحشرجت في حلق بهية، بعد أن خنقتها الدموع، ودمعت عينا كارم وهو يحيط كتفاها بذراعه، ويضمها إليها بقوة:

– سامحيني يا عزيزتي.. إنني حقا آسف لتوريطكم معي في هذا.. ولكن.. لم يكن أمامي خيار آخر.. إنني حقاً شاكر لتفهمك لي ووقوفك إلى جانبي منذ ذلك الحين.. ولكن.. لا بد لكل شيء من نهاية..

فرفعت بهية رأسها، وهي تحاول السيطرة على الوضع أكثر:

– لو أنك تقابلهم، وتشرح الأمر، فربما..

فتنهد كارم:

– ليتني أتمكن من هذا، لكن كيف لي ذلك وأنا لا أعرف كيف أصل إليهم!! حتى الرقم الذي وصلت منه الرسالة الصوتية؛ لم يظهر على الشاشة!! طلبهم واضح.. لا يريدون مني سوى الاعتراف أمام الملأ!! ربما تمكنت من التهرب بالأمس، لكن الإعلام لن يهدأ، والمسؤولين ينتظرون مني تحديد موعد جديد للخطاب! يبدو أنه لامفر!!

فأطرقت بهية:

– كان على المختطفين ارسال رسالة أخرى، لتحديد موقفهم من تغيبك عن الخطاب، فأنت لم ترفض طلبهم بعد!

فشد كارم على قبضته بإحباط:

– لو أنني أتواصل معهم فقط!! حتى المحقق.. لم يستطع تحديد مكانهم حتى الآن! ولا يمكنني التهرب أكثر، من تحديد الموعد للمسؤولين..

**

أخذ رامز يحدق بالبطاقة الثمينة، بتمعن شديد، وهو يرفعها بيديه أمام عينيه، بينما كان يستلقي على سريره:

“مفوض من قبل رئيس المباحث والجنايات العامة

السيد/ تامر عماد”

محدثاً نفسه:

– إلى متى سأنتظر!! فهذه تكفيني من أجل أهدافي الخاصة، التي ناضلتُ من أجلها كثيراً!! ولكن.. ماذا لو عرف السيد تامر بذلك، وتبين له أنني استخدمها لأجل أغراض أخرى!!

وزفر بتأفف:

– لم يعد أمامي مفر من انهاء هذه القضية أولاً.. ليتني أعرف ما الذي يجري بالضبط! ذلك الرجل.. لماذا لا يرد على هاتفه، أو يخبرني على الأقل حول حقيقة تغيبه! هل هو تحت وطأة التهديد مثلاً!!

وقفز من فراشه مشجعاً نفسه:

– يُفترض أن هذا هو عمل المحقق الخاص الذي وُثِق به!!

اتجه نحو الطاولة التي فرش عليها قطع التركيب، بعد أن شارف على إنجاز اللوحة، فتأملها لوهلة، قبل أن يستأنف العمل عليها، وقد اقشعر جسده:

– أي قلبٍ تملكه تلك الفتاة!!

وبينما هو على وشك تركيب القطعة الأخيرة، لتكتمل الصورة؛ رن هاتفه فالتقطه بلهفة، لكن حماسته سرعان ما خبت، وهو يرد ببرود:

– أهلاً أمل…. كلا لم يتصل.. لا شيء بعد، ماذا عنك؟

وبدل أن يسمع إجابتها؛ سمع صوت جرس الباب، في حين كان صوتها يحثه على فتحه من الجانب الآخر للسماعة:

– الى متى ستتركني أنتظر! هيا أسرع وافتح الباب!!

فوضع رامز هاتفه على الطاولة، واتجه نحو الباب بضيق:

– لماذا تتصلين ما دمتِ هنا؟

فضحكت أمل وهي تدخل إلى الصالة بسرعة:

– كنت في عجلة من أمري، فالأمر لا يحتمل الـ..

لكنها بترت عبارتها، بمجرد أن وقعت عيناها على اللوحة فهتفت بذهول:

– يا إلهي!! ما هذا!!

ثم وقفت أمامها تتأملها بتمعن:

– إذن، هذه كانت لوحتها الأخيرة!! “تركته لأجلك!”!

ثم التفتت إلى رامز:

– لم أتوقع أن تنهي تركيبها بهذه السرعة، ولكن هل أوحت لك بشيء؟

فتنهد رامز، وهو يفكر بعناصر اللوحة:

– ذراع مبتورة.. أشواك وجراح.. دماء وبتلات ورد ممزقة.. ونور من وسط الغيوم..

وصمت قليلا، قبل أن يقول:

– لا يمكنني الادعاء بأنني توصلتُ إلى شيء محدد، ولكن بلا شك هذه الفتاة تعاني بشدة، ومع ذلك لم تفقد الأمل! لا أدري لماذا.. ولكنني لا أظنها من النوع الذي قد يرتكب حماقة ويهرب!!

فأومأت أمل برأسها إيجاباً:

– يراودني الشعور نفسه أيضاً، وأظن أن تغيب والدها عن الخطاب يؤكد ذلك، رغم حجة المرض المزعومة! لا شك أنها حادثة اختطاف وابتزاز!!

فعقد رامز ذراعيه بتفكير عميق:

– أكاد أجزم بهذا!! ولكن.. أليس من الغريب أن تتصادف كل تلك الحوادث معاً!! معاناة الفتاة، وانفصالها عن خطيبها، وحجابها، وتركها للمعهد بكامل ارادتها؛ كل ذلك حدث في اليوم نفسه الذي اختفت فيه! أيعقل أن تكون هذه مجرد صدف!

فقالت أمل:

– لماذا لا تحاول الاتصال بالسيد كارم من جديد؟ أظنه يُخفي شيئاً!

فأجابها رامز:

– فكرتُ بهذا.. ولكن ماذا أقول له؟ عندما أجاب اتصالي أول مرة، بعد تغيبه عن الخطاب؛ بدا متلهفا لسماع أي خبر جديد مني، ولكنه لم يكن مستعداً لإخباري بأي شيء من طرفه، سوى ما أعلنه للإعلام بشأن توعكه! فماذا أقول له الآن؟ هل تريدين مني اتهامه!

عندها ضربت أمل قبضتها اليمنى بباطن كفها الأيسر، هاتفة:

– وجدتها، اتصل به وأخبره بأنك توصلتَ لاحتمالية اختطاف ابنته، بعد تحليل بعض البيانات المتعلقة بها، والتي تستبعد هروبها بمحض إرادتها..

فرمقها رامز بنظرات صارمة:

– هل تريدين مني إثارة حفيظة الرجل! إنني لم أجرؤ على التشكيك بما يمس شرفه على مسامعه قبل ذلك! ألا تعرفين طبيعة العرب!!

فلم تتمالك أمل نفسها من القهقهة، قبل أن تعلق:

– يا رجل.. يا رجل.. يبدو أنك أصبحت تتعلم بسرعة!

غير أنها سرعان ما استدركت نفسها، فشهقت قائلة، وهي تنظر إلى ساعتها:

– ما الذي أفعله الآن!! لا وقت لدي..

ثم نظرت نحو رامز بجدية:

– لقد ابتلعوا الطعم، ووصلني الاتصال المطلوب أخيراً.. لم يبق أمامنا سوى تنفيذ المهة!

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

عالم مسن – الفصل الثالث


عن السلسلة

يجد يعقوب نفسه امام مسؤولية رعاية رضيع سرا في عالم لا يوجد به سوى الكهول والمسنين، ماذا سيحدث لو علم الناس بذلك؟ وهل سينجح يعقوب في ابقاء الامر سرا؟ وكيف سيعتني بالرضيع في ظروف عالمه الصعبة؟…

تأليف: محمد نجيب
تدقيق: زينب جلال
رسم: أكيرا عبد الرحمن
تلوين واخراج: شو

التصنيف: خيال علمي، شريحة من الحياة، درامي، غموض.


قد يهمّك: عالم مسن (ون شوت)

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 53

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

لم تستطع سوسن ايقاف نفسها عن البكاء منذ أن أُجبرت على ارسال تلك الرسالة، لم تتخيل أن تصل بهم الدناءة إلى هذا الحد، لم تكن لتستسلم بسهولة، ظلت صامتة رغم كل محاولات ذلك الرجل الذي ارتدى ثياب اللطف فجأة، غير أنها لم تتوقع أن ينقلب المشهد هكذا!

فبعد إصرارها على الصمت، قال الرجل الذي أسقطها أرضاً، بنفاد صبر:

– لن أبقى طوال عمري أشاهد هذه المسرحية الهزلية، يمكنك أن تتصرف معها بطريقتك، أما أنا فلا يمكنني الاحتمال أكثر..

قال كلمته تلك واتجه نحو الباب ليخرج، فالتفت إليها الرجل الآخر بابتسامة مقززة:

– والآن يا جميلتي، يمكننا التفاهم بهدوء، دعيني أولاً أطمئن على إصابتك، أرجو أن لا يكون ذلك الوغد قد آلمك..

وقبل أن يضع يده على جسدها- بعد أن أصبحا وحدهما في القبو- قفزت من مكانها صارخة بأعلى صوتها، وهي تحاول الهرب:

– ابتعد أيها الوقح، إياك أن تقترب أكثر..

فجذبها من كمها قائلاً:

– عليك أن تدركي أنه لا خيار أمامك..

فيما أخذت تحاول تخليص نفسها منه، وهي تصرخ باستماتة:

– اتركني..

عندها عاد الرجل الأول أدراجه هازئاً:

– كأنك تطلبين النجدة، وقد كان بإمكانك تلافي هذا كله..

ثم قال بلهجة جازمة:

– يمكنني أخذ هذا الوقح معي لنخرج من هنا، ونتركك وشأنك؛ إن نفذتِ الطلب بهدوء..

لا تدري سوسن كم ساعة مرّت عليها، وهي تقاسي آلام هذه المهانة، فقد استسلمت في النهاية ونفذت الطلب، ولا تدري كيف سيكون حال والدها الآن!

ما هو الجرم الذي ارتكبه، لكي تتهمه هكذا!

بكت بحرقة، وودت لو تخبر والدها بثقتها فيه، وندمها على تفوهها بتلك الكلمات القاسية..

أرجوك سامحني يا أبي.. فلم يكن بيدي حيلة أبداً..

يارب.. استرني وارحم ضعفي..

وشعرَت بوهن شديد في أرجاء جسدها، لم تستطع معه الصمود في وضعية الجلوس أكثر، فهَوى جسدها على الأرض، كقطعة قماشٍ فُصِلَت عن محور الارتكاز..

**

ألقى رئيس المباحث- السيد تامر عماد- أوامره على أتباعه بصرامة، مشدداً على تعليماته التي لا تقبل الجدل، لضبط الأمن في المنطقة.. فقد كانت الجماهير مكتظة أمام المنصة، التي سيعتليها المرشح المحبوب أخيراً، ليلقي كلمته قبل استلام مهامه رسمياً، ولظروف أمنية بحتة- كما أُعلن- تأخر وصوله عن موعده المحدد..

ولم يكن صبر الجماهير، ولا صبر القنوات الأخبارية التي تبث الحدث مباشرة؛ ليستمر طويلاً، إذ بدأت التحليلات السياسية، تأخذ دورها على الساحة..

وأمام دهشة الجميع، اعتلى نائب الحاكم العام- السيد وائل رفيق- المنصة، ليفض الجدل باقتضاب:

– يعتذر معالى رئيس الوزراء، السيد كارم بهاء، عن القاء الكلمة لهذا اليوم، لوعكة صحية طارئة المّت به.. شاكِراً لكم دعمكم ومساندتكم.. ويطمئنكم بأنه سيكون بخير، وأهلاً لثقتكم..

**

كان الممر المؤدي للقبو ساكناً، إلا من أصوات خطوات الرجلين، عندما سأل أحدهما صاحبه:

– هل تظن بأن السيد سيسمح لنا باللهو قليلاً إن ما نجحت مهمته؟

– نلهو أو لا نلهو، بعد تنفيذ المهمة لن يكون بيننا أي التزام.. أنت تعرف الشرط..

– لا أقصد هذا أيها الأحمق، كنتُ أعني..

وصمت بخبثٍ فهمه الآخر، فعلّق بابتسامة ماكرة:

– عينك على الفتاة إذن، كان السيد محقاً بتكليف رجلين منا في مهمة الحراسة والمراقبة، ولا أدري كيف ستكون ردة فعله؛ لو عرف بما هممتَ بفعله البارحة!

فأجابه الآخر مدافعاً عن نفسه:

– وهل نسيت نفسك! لقد كدتَ تقضي عليها بتهورك!!

كانا قد وصلا الباب، فهمس أحدهما للآخر، قبل أن يدلفا للداخل:

– دعنا نتمنى أن نأخذ منها التسجيل الثاني بسلام هذه المرة، فمزاج السيد متعكر أكثر من المعتاد..

غير أنهما فوجئا برؤية سوسن ممددة على الأرض بلا حراك على غير العادة، إذ كانت سرعان ما تنكمش على نفسها بوضعية الجلوس، كلما سمعت صوتهما! والأدهى من ذلك، أنها لم تستجِب لهما بأدنى حركة، رغم كل الضوضاء اللتي أحدثاها بصراخهما وحركة أقدامهما..

فاقتربا منها أخيرا، وتجرأ أحدهما على هزها بيد، لكنه سرعان ما التفت إلى صاحبه، مُخبِراً:

– كأنها على وشك الاحتضار، أظنها غائبة عن الوعي، فحرارتها عالية جداً، وثيابها متعرقة، ما العمل؟؟

فارتبك الآخر:

– علينا إخبار السيد حالاً، فهذا خارجٌ عن الخطة!

فقال له صاحبه:

– إذهب بسرعة إذن، فقد تموت الفتاة في أية لحظة…

عندها هرع الرجل إلى الأعلى، فيما بقي صاحبه إلى جوار سوسن، وهو يفكر بالجائزة التي سيحصل عليها في النهاية..

أخذ يتأملها بهدوء..

فرغم كل شيء.. كانت لا تزال جميلة!

– ربما سأفكر بالتنازل عن جائزتي، لو سمح لي السيد باللهو معها قليلاً..

ومع تلك الفكرة التي طرأت على ذهنه، اقترب منها أكثر ووضع يده على رأسها هامّاً بنزع الحجاب عنه، لكن يده تجمدت في مكانها؛ إثرَ ذلك الصوت الآمر الذي اخترق صمت المكان فجأة:

– توقف!

فنهض الرجل على قدميه بسرعة، ملتفتاً للوراء، وهو يردد بذهول:

– السيد!!

ثم تلعثم معتذِراً:

– كنتُ أحاول مساعدتها على التنفس فقط، فأنفاسها ضعيفة جداً..

لكن تلك النظرات الصارمة ألجمته تماماً، فالتزم الصمت، فيما اقتربت خطوات السيد أكثر، نحو الفتاة الممددة على الأرض..

وإذ ذاك فتحت سوسن عينيها بصعوبة، لتقعان على وجه شابٍ بدا مألوفاً لها بطريقةٍ ما، أو هذا ما خُيّل إليها في تلك اللحظة الضبابية، فرددَتْ بوهن:

– أيهم!

وغامت الدنيا في عينيها مجدداً، وقد شعرت بذراعين قويتين تحملانها، ليتأرجح جسدها المنهك بعد ذلك في الهواء..

**

قُضيت صلاة الجمعة، في الجامع الكبير وسط المدينة، وبدأ المصلون بالخروج ليلتحقوا بأعمالهم، أما عامر فقد وجدها فرصة مواتية للتعرف على المسلمين في هذه المدينة الأجنبية، فتبادل الحديث مع من بقي منهم في المسجد، يسألهم عن أحوالهم، وعن طبيعة الحياة في هذه المدينة، إذ لم يكن قد وجد فرصة مواتية لذلك من قبل، ومن كرم الله عليه؛ أن تمكن من ترتيب جدول دوامه ومناوباته، بطريقة يحصل فيها على إجازة يوم الجمعة..

قال أحد الرجال- ويُكنى بأبي سمير:

– أنتَ لم ترَ شيئاً بعد، الفساد هنا كبير جدا يا أخي، فالنساء شبه عاريات، والعياذ بالله، والإغراءات كثيرة.. ولا أبالغ إن قلتُ بأنني أتوقع أن يحل سخط الله على هذه البلاد في كل لحظة..

فسأله عامر بتعجب:

– ولماذا تعيش هنا حتى الآن!

فتنهد أبو سمير بأسى:

– الضرورة، فالحروب الدامية في بلادي ألجأتني للانتقال إلى هنا، لقد خشيتُ على أولادي من القتل.. أما الآن فقد أصبحتُ أخشى على بناتي من الفتن.. لا يمكنك أن تتخيل كم بتّ أخشى من العار كلما نظرتُ إليهن، حتى أنني فهمتُ لمَ وأد العرب بناتهن قبل الاسلام.. فالنار ولا العار..

وقبل أن يرد عليه عامر بشيء، انضم إليهما خطيب الجمعة، بعد أن استأذنهما- وكان قد رحب بعامر سابقاً- ثم استأنف الحديث، الذي سمع طرفاً منه مؤكداً:

– للأسف ترى بنات المسلمين أيضاً يصادقن الرجال دون حياء، بل أصبحنَ يتطاولنَ على الدين بكل جرأة؛ كلما ذكرهن المذكّر بالوعيد الشديد الذي ينتظرهن من الله، شديد العقاب..

فسأله عامر باهتمام:

– وماذا عن رجال المسلمين هنا، هل هم على قدرٍ كبير من الاستقامة؟

فهز الخطيب رأسه بحسرة:

– وأنّى لهم ذلك والفتن تحيط بهم من كل جانب؟ أعرف رجلاً رافقني من بلادي، إذ تم ارسالنا من قبل إحدى المؤسسات الدينية، كي نقوم على أمور هذا المسجد، لكن إحدى الغاويات فتنته حتى أوقعته في الرذيلة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.. صدق رسول الله حين قال “ما تركتُ فتنة بعدي أشد على الرجال من النساء”.. والحمد لله أن الله غفور رحيم..

فعلق عامر بنبرة ذات مغزى، في محاولة للفتِ نظر الخطيب إلى حقيقة بدت وكأنها غابت عنه:

– هذا صحيح.. “اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم”، هذا خطاب للجميع على حد سواء، رجالاً ونساءً..

نظر إليه أبو سمير مستوضِحاً، فيما قال الخطيب:

– هذا معروف ولا أحد يُنكره، فما الذي ترمي إليه؟

فقال عامر:

– أقصد أننا معشر الرجال- ودون أن ننتبه- نخص أنفسنا بالشق الثاني من الآية المتعلقة بالمغفرة والرحمة، فيما نسلط الشق الأول غالباً على النساء..

وقبل أن يُكمل عامر كلامه، قاطعه أبو سمير بنبرة هجومية:

– هل أنتَ من أنصار المرأة؟؟ لقد صدِعوا رؤوسنا يا رجل بشعاراتهم المنادية بحقوقها، وقد سبقهم الاسلام في ذلك منذ أكثر من ألفٍ واربعمائة عام! أما هذه الشعارات الخبيثة، فلا يهدفون منها إلا تحريرها من حيائها ودينها وعفتها، والله المستعان..

فردد عامر:

– نسأل الله العفو والعافية لنا جميعاً..

ثم استطرد قائلاً:

– لا أعتقد بأنه سيكون أثرٌ لهذه الشعارات على نساء المسلمين؛ لو أنهن عرفن حقوقهن التي ضمنها لهن الاسلام! بل لو أنهن حصلن على هذه الحقوق أصلاً، لما التفتنَ إلى غيرها..

فعلق أبو سمير:

– أفهم من كلامك أنك ترى المرأة مظلومة؟

فرد عامر:

– للأسف هذا هو الواقع، ولكن الحديث يطول فيه، أما انتشار الفساد في المجتمعات؛ فيتحمل مسؤوليته الطرفان (الرجال والنساء)، وقد لفتتني مقولة جميلة لأحد المفسرين، خلاصتها أن الله سبحانه وتعالى ضمن حماية المجتمع المسلم من الرذائل، بفرض الحجاب على النساء، وأمر الرجال بغض النظر، فإن أخلّ الرجال بالأمر وأطلقوا أبصارهم، وكانت النساء محجبات؛ لم يكن هناك ضررٌ يُذكر على المجتمع، وإن أخلّت النساء بالأمر وتبرجت، في حين كان الرجال غاضين لأبصارهم، لم يكن هناك أيضاً ضررٌ يُذكر على المجتمع، لكن الضرر الحقيقي يكمن؛ عندما يخل الطرفان بالأمر، مما يعني أن كلا الطرفان يتحملان المسؤولية بالتساوي..

وأظن أننا بحاجة نحن الرجال للتذكير بما علينا فعله، أكثر من توجيه اللائمة على النساء، خاصة في خطب الجمعة، بصفتنا نحن من يحضرها، فإذا لم تمتثل المرأة لأمر ربها، وخضعت بالكلام، فعلينا أن لا نكون من الذين في قلوبهم مرض!

فالمريض الذي يقتنع بأن مرضه خطير لا شفاء منه؛ يقضى على قدرة خلاياه في الاستشفاء الذاتي، أو الاستجابة للعلاج.. وهذه حقيقة علمية، وهكذا..إذا ترسخ الاعتقاد لدى الرجل، بأن المرأة هي المسؤولة الوحيدة عن الغواية، وأنه لا حول ولا قوة له أمامها؛ فسيقتنع عقله بهذه الفكرة، لتستسلم لها خلايا جسده، وتُفقده أدنى شعور بالمقاومة! لذا جاءت الشريعة السمحة، لتعزز الوازع الداخلي، وتنمي القدرة على مقاومة مثل هذه الفتن، دون تجاهل تأثيرها، فكان من السبع الذين يظلهم الله تحت ظله، يوم لا ظل إلا ظله، رجل دعته امرأة ذات حسن وجمال، فقال إني أخشى الله!

وصمت عامر، بعد أن شعر أنه أطنب في الكلام، فابتسم معتذراً:

– يبدو أنني نسيتُ نفسي..

لكن الخطيب شجعه بقوله:

– أبداً.. كان كلامك مفيداً حقاً، جزاك الله خيراً للتذكير..

أما أبو سمير، فقد صمت مفكراً قبل أن يقول:

– الكلام سهل، ولكن العار الذي يلحق الأهل من بناتهم، لا يعدِله شيء، الحمد لله أن بناتي لا زلنَ صغيرات، لكن القصص التي نسمعها عن البنات هنا؛ يشيب لها الولدان..

فطمأنه عامر بقوله:

– يمكنك تأمينهن بالتقوى..

فبادره أبو سمير بقوله:

– وهذه هي المشكلة، من أين أضمن لهن أن يكنّ تقيّات في هذه البيئة؟؟

فابتسم الخطيب، وقد أدرك فحوى كلام عامر:

– إنه يقصد الآباء بكلامه، ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى ” وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا”

وهز عامر رأسه موافقاً:

– لذا قيل: “عِفّوا تعف نسائكم”.. فمن خشي على بناته ومحارمه، فليتق الله في بنات الناس ومحارمهم، عامل الناس كما تحب أن يُعاملوك، وكما تدين تُدان…

بدا نوعٌ من الارتباك على أبي سمير، فطأطأ رأسه مردداً:

– لا حول ولا قوة إلا بالله..

فبادره عامر بقوله:

– كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، رجالاً ونساءً، ونحن نسأل الله العفو والعافية، فالمرء يظل ضعيفاً- مهما بدا قوياً- إن لم يستعن بربه! ولنا في نبي الله يوسف عليه السلام أسوة حسنة، فعلى جلالة قدره؛ التجأ إلى الله، طالباً العون منه، ومفتقراً إليه، معترفاً بضعفه وجهله، وهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي!!

والتفتَ عامر إلى الخطيب، الذي كان يُصغي باهتمام، فرمقه بنظرة ذات معنى – بعد أن استشف منه روحاً متقبلة مرِحة- وابتسم قائلاً:

– ما رأيك أيها الخطيب؟ ربما نحن بحاجة لخُطَبٍ تقوي عزائمنا معشر الرجال أكثر..

فابتسم الخطيب، وقد فهم تلميحته:

– حسناً.. ستكون خطبة الجمعة القادمة- إن شاء الله- عن الرجال، كما كانت هذه الجمعة عن النساء، فهل يرضيك هذا يا أخي؟

فأشرق وجه عامر بابتسامة عريضة:

– جزاك الله خيراً، فنحن بالفعل بحاجة لذلك.. أسأل الله سبحانه، أن يجعلنا جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه..

وأمّن أبو سمير على دعائه، قبل أن يستأذن بالانصراف، وهو يصافح عامر:

– إن شاء الله نلتقي الاسبوع القادم..

لم يكد أبو سمير يبتعد، حتى شد الخطيب على يد عامر:

– لقد سعدتُ بالتعرف عليك حقاً، وأرغب باستشارتك.. فكما تعلم؛ عدد النساء المسلمات كبير هنا، وربما لا يجدنَ رجالاً يتزوجنهن، لذا ما رأيك بنشر فكرة التعدد بين الرجال، لحل هذه المشكلة؟

فوجيء عامر بما سمعه، كمن أُخِذ على حين غرة، وأمام صمته؛ تابع الخطيب كلامه:

– هل تعرف ذلك الشيخ، الذي ألقى علينا التحية، وهو خارج؟ إن له ابنة قاربت على تجاوز سن الزواج؛ دون ان تعثر على زوج مناسب!

ثم استدرك فجأة:

– ربما تعرفها، ألم تقل بأنك قِدمتِ للعمل في المستشفى المركزي هنا؟ إن ابنة الشيخ تعمل هناك أيضاً، أظن أن اسمها الدكتورة هدى، فزوجتي تراجع عندها أحياناً..

ولسببٍ ما، خفق قلب عامر دون سابق إنذار، وكأن الخطيب شعر به، فتابع قائلاً:

– إذن أنتَ تعرفها بلاشك، هذا جيد، فسيكون هذا مشجعاً للبقية..

لكن عامر سرعان ما استدرك الموقف، قائلاً:

– ومن قال بأنني أريد الزواج بأخرى؟ إنني بالكاد أجِد وقتاً لزوجتى، بل منذ أن أتينا إلى هذه البلاد وأنا أشعر بتقصيرٍ نحوها، فلا أحد لها سواي؛ ومع ذلك فإنني شديد الانشغال عنها، وهي مع ذلك متفهمة لظروفي.. فكيف أجرح مشاعرها، وأُلزم نفسي بأمرٍ فوق طاقتي، ولا حاجة لي به؟

فرد الخطيب بنوع من الامتعاض:

– وماذا عن المسلمات اللاتي لا يجدنَ أزواجاً لهن؟

فأجابه عامر بسؤالٍ آخر:

– وماذا لو لم يستطع الرجال القيام بواجباتهم نحو زوجاتهم؟ الزواج مسؤولية كبيرة، ميثاق غليظ، ومودة ورحمة، والقيام بحقوق الأسرة في ظل ظروف هذا العصر ومتطلباته؛ ليسَ أمراً سهلاً.. أما من شعر برغبة في التعدد، مع قدرته على ذلك، ومعرفته العدل من نفسه؛ فهذا مباح له، وأفضل- بلا شك- من أن يسلك مسلكاً ملتوياً، لا يُرضي الله عنه، ولكن.. عليه تحمل كافة المسؤوليات المترتبة على اختياره، وإلا.. فالحساب لن يكون يسيراً!

تنهد الخطيب بضيق، ولم يخفَ على عامر، تفرّس معالم وجهه، فتابع:

– من أراد أن يعدد- أو لِنكُن أكثر دقة (يرغب في تحديد عدد زوجاته بعد الأولى، بحيث لا يتجاوزنَ أربعة)- لحاجة في نفسه، فعليه أن يكون صريحاً مع ذاته، لا أن يتدثر بثياب المروءة والشهامة لتبرير تصرفه أمام الآخرين، أو أن يتخذ من التدين ذريعة لرغباته..

فأرخى الخطيب عيناه وابتسم:

– جزاك الله خيراً للنصيحة أيها الطبيب..

فشد عامر على يده مصافحاً، وهو يهم بالانصراف:

– لم أكن أقصد النصيحة، فلستُ أهلاً لذلك، ولكنني أحببتك حقاً في الله، وأحببتُ مشاركتك بعض خواطري.. وأسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه إلى الحق بإذنه، فجزاك الله خيراً لسعة صدرك، وتفهمك.. وسنكون بانتظار خطبة الجمعة القادمة، إن شاء الله..

وغمزه عامر باسماً:

– ويا حبذا لو تذكّرنا فيها بحسن العشرة، وواجبات القوامة، فأظن أننا بحاجة لها، أكثر من حاجتنا لإقحام أنفسنا في جبهات أخرى، لم تكن تخطر لنا على بال!

فكما قال الصادق الأمين، صلى الله عليه وسلم:

“خيركم، خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 52

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

أبدت أمل إعجابها الشديد- في المعرض الدائم للفنون الجميلة- وهي تتأمل اللوحة التي اختارها لها الأستاذ سامر:

– بالفعل إنها رهيبة!!هل هي من الفن السريالي الذي حدثتني عنه؟

أومأ سامر برأسه موافقاً:

– أجل..

لكنها أطلقت آهة صغيرة، قبل أن تعبر عن امتعاضها:

– ما هذا!! إنها باهظة الثمن جداً!! من يستطيع دفع مثل هذا المبلغ!!!

فرد سامر باستياء:

– بل ثمنها معقول جداً، نسبةً للجهد والمضمون والفكرة… إنها إبداع حقيقي.. ثم إنها لوحة أصلية، ولكن العالم العربي لا يقدّر قيمة الفن للأسف!

فأسرعت أمل بالاعتذار قائلة:

– إنني حقاً آسفة، لم أقصد ذلك، ولكن المبلغ فاجأني فعلاً..

ثم استطردت بندم وألم:

– لا أعرف كيف أعبّر لك عن أسفي يا أستاذ، فيبدو أن مثل هذا الابداع؛ لا يناسب الطبقة المتوسطة من الشعب أمثالنا، ويكفيني شرفاً أنني سعدتُ بتلبيتك دعوتي ومرافقتي لتعريفي على هذا العالم الجميل.. إنني حقاً مدينة لك بالكثير..

فقال سامر بتفهم:

– لا بأس، لقد استمتعتُ برفقتك أيضاً، فمن النادر أن نجد من يقدّر القيمة الحقيقية للفن هنا..

واستدرك قائلاً:

– ولكن ماذا عن الجدار الفارغ، هل عدلتِ عن اختيار لوحة مناسبة له؟

فقطبت أمل حاجبيها بتفكير عميق، قبل أن تجيب:

– كلا، فإنني بالفعل محتاجة للوحة أفاجيء بها خطيبي، لكن المشكلة تكمن في الثمن..

ثم هتفت على حين غرة:

– ألا يمكنك أن تطلب يا أستاذ من تلك الرسامة، أو ممن تعرفهم من الرسامين؛ إعداد لوحة مناسبة لي بثمن…

لكنها بترت عبارتها قائلة:

– يا إلهي يبدو أنني قد تجاوزتُ حدودي.. لقد أصبحتُ منفعلة جداً هذه الأيام..

وأرخت عيناها، وهي تتابع بنوعٍ من الحرج:

– قد أبدو لك وقحة بعض الشيء يا أستاذ، ولكنني… لا أعرف كيف أعبر بشكل صحيح… امممم… في الحقيقة إنني أحب خطيبي جداً.. وكنتُ أريد مفاجأته بهدية مميزة…لا أعرف كيف أشرح لك هذا الشعور.. ولكن عندما تحب شخصاً ما، قد تتصرف بشكلٍ غريب أحياناً…لا أدري إن كنتَ فهمتَ قصدي..

وبدا على أمل ارتباك شديد:

– أرجوك تجاهل ما قلتُه لك، فقد نسيتُ نفسي على ما يبدو..

فطمأنها سامر بقوله:

– لا عليكِ إنني أتفهم شعورك جيداً، فاطمئني تماماً من هذه الناحية..

عندها زفرت أمل بارتياح:

– شكراً لك حقاً.. ترى هل مررتَ بتجربة مماثلة؟

فطأطأ سامر رأسه بحزن، دون أن ينبس ببنت شفة..

فاعتذرت أمل مرة أخرى:

– لم أقصد التدخل بشؤونك.. لكنني ظننت… ظننت أنه من الجيد مشاركة الآخرين تجاربهم أحياناً..

فتنهد سامر، قبل أن يقول:

– ربما معك الحق في هذا.. إنني في الحقيقة ما زلتُ أعاني من آثار ذلك حتى هذه اللحظة..

فأبدت أمل اهتمامها الشديد، قائلة:

– هل بإمكاني مساعدتك؟ فقد يستطيع الانسان أحياناً؛ مساعدة الآخرين أكثر من مساعدته لنفسه.. ثم إنني مدينة لك بالوقت الذي أمضيته معي..

فهز سامر رأسه:

– لا داعي لذلك، فلم أفعل سوى الواجب..

لكن أمل أصرت على رأيها:

– بل فعلتَ الكثير من أجلي، وسأكون مسرورة برد هذا الدين لك، عاجلاً أم آجلاً..

**

كانت نور تحادث أمها عبر الشبكة العنكبوتية، وقد تطرق الحديث إلى ذِكْرِ سوسن؛ عندما قُرع جرس الباب، فاستأذنتها قائلة:

– إنها استراحة الغداء بالمشفى، لا شك أنه عامر، سأذهب لأفتح الباب..

فجاءها صوت أمها، وهي تُنهي المكالمة:

– حسناً أراك على خير إن شاء الله، أبلغيه سلامي، في أمان الله.. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..

وردَدتْ نور “كفارة المجلس” أيضاً، وهي تسرعُ نحو الباب:

– ها أنا قادمة..

وبعد أن نظرت من ثقب الباب، فتحته بلهفة:

– الحمد لله على السلامة، كيف كان الاجتماع اليوم..

فابتسم عامر- وقد كانت تعابير وجهه كفيلة بالإجابة نيابة عنه- قائلاً:

– الحمد لله.. مرت الأمور على خير ما يُرام بفضل الله..

فتناولت منه نور معطفه الأبيض لتعلقه، قائلة:

– الغداء جاهز، ولكنه بحاجة لتسخين، فأظنه قد برد قليلاً..

غير أن عامر اتجه للمطبخ مباشرة:

– لا داعي لذلك، فلن أستطيع التأخر كثيراً هذا اليوم، ثم إن الطعام البارد مفيد للصحة..

قال جملته بابتسامة مَرِحة، وهو يتناول رشفة من الحساء، بعد أن استقر على كرسيه أمام الطاولة، لكن نور رمقته بنظرات ذات معنى، وهي لا تزال واقفة:

– ولِمَ العجلة؟ هل لديك جولة تعريفية أخرى مع تلك الطبيبة، أم ماذا؟؟؟

فلم يتمالك عامر نفسه من الضحك:

– لا يذهب خيالك بعيداً، كل ما في الأمر أن عليّ استلام نسختي من مفتاح مكتب الأبحاث، والتعرف على الفريق، الذي سيشاركني البحث خلال هذه الفترة، إن شاء الله..

فسألته نور باهتمام:

– وهل تلك الطبيبة ضمن الفريق أيضاً؟

فنهض عامر من كرسيه، وفاجأها بضمة قوية إلى صدره، مُطَمئناً:

– لن أفكر بامرأة أخرى أبداً- إن شاء الله- يا حبيبتي، فثقي بي واطمئني..

توردت وجنتا نور، لردة فعله المُفاجئة تلك، حتى أنها نسيت ما كانت ستقوله، فأحاطت عنقه بذراعيها:

– إنني أثق بك أكثر من ثقتي بنفسي.. ولكنني.. أحبك كثيراً يا عامر..

وكأنهما غابا عن الوجود للحظة؛ إذ سرعان ما تداركت نور نفسها باسمة:

– هيا تناول طعامك قبل أن تتأخر عن العمل، فالحُب لا يُطعم خبزاً كما يقولون..

فتناول عامر لقمة من صحنه؛ ووضعها في فمها باسماً:

– ربما سيراجعون هذا القول يوماً ما..

وجلس الاثنان يتناولان طعامهما بحب ومودة، وهما يسألان الله البركة..

**

كان رامز مستغرقاً تماماً في العمل على قِطَع التركيب- المفروشة أمامه على الطاولة المستطيلة الواقعة في صالة شقته الصغيرة- عندما قطع تركيزه رنين جرس الباب المزعج، فزفر بضيق:

– لا أدري كم مرة عليّ إخبارها أن تُحسن التعامل مع الجرس..

ثم رفع صوته مجيباً:

– لحظة من فضلك، ها أنا قادم..

ولم يكد يفتح الباب، حتى دلفت أمل إلى الداخل- وهي تحمل لوحة مغلفة بيدها- قائلة:

– هيا يا أفندم تفضل هديتك، ولا تنسَ تسديد الرسوم..

ثم ارتمت على الكنبة المريحة ملوحة بيدها:

– الجو خانق هنا بعض الشيء..

فنظر إليها بذهول، وهو يتأمل سعر اللوحة:

– ما هذا!!

فغمزته أمل بدهاء:

– هذا ثمن المعلومات القيمة التي أحضرتها لك..

وأردفت، وهي تمط ذراعيها بتكاسل:

– خذ بعين الاعتبار أنني تنازلتُ عن أتعابي الخاصة من أجلك..

فلوى رامز شفتيه، قبل أن يقول باهتمام:

– أرجو أن تكون المعلومات على قدر هذه الأهمية..

فابتسمت أمل:

– ذلك الاستاذ غارق في حبها حتى النخاع!

فعلق رامز بلا مبالاة:

– معلومة قديمة، لقد أخبرتك بها بنفسي، فقد كانت أموره واضحة منذ زيارتي الأولى له.. ما يهمنا معرفته فعلاً هو تحديد ما إذا كانت مخطوفة أم هاربة بإرادتها..

فرمقته أمل بنظرات معاتبة:

– أولاً.. لا تنسَ أنك لم تُخبرني بشيء من تلقاء نفسك، ولولا ضبطي لك متلبساً بالجرم المشهود، لتجاهلتَ دوري تماماً..

ورمت شعرها- المتدلي على كتفها- بيدها إلى الوراء، قبل أن تتابع بلهجة جادة:

– وثانياً.. ليس هذا وقت العتاب.. هل رأيتَ هذه؟

طرحت سؤالها، وهي تشير إلى شاشة هاتفها المحمول، لتريه صورة التقطتها..

وبعد أن تمعّن رامز في الصورة، سألها بتعجب:

– ما هذه؟ بطاقة مطبوعة لأذكار الصباح والمساء!! هل لها دلالة خاصة؟

فقالت أمل جازمة:

– بل هي طرف الخيط.. كان بودي جلبها معي، لكن ذلك الأستاذ العنيد تمسك بها بجنون، ولم أشأ إثارة شكوكه.. أظنه آخر أثرٍ تركته الفتاة خلفها.. وقد يكون سقط منها دون قصد.. وقد عثر عليها ذلك الأستاذ في أحد الشوارع الشمالية الغربية في طرف المدينة..

وسألته بنبرة ذات مغزى:

– هل تدرك ما الذي تعنيه تلك الشوارع؟؟

لكن رامز تجاهل سؤالها ذاك، قائلاً:

– وما الذي جعلك واثقة هكذا؛ من أن هذه البطاقة تخصها؟ هناك آلاف النسخ المتشابهة منها بلا شك..

لكن أمل حدجته بنرة ثاقبة:

– جنون المحبين يكون دليلاً كافياً أحياناً!

فتنهد رامز باستسلام:

– حسناً كما تريدين.. ما الذي كنتِ تقولينه عن الشوارع الشمالية الغربية؟

وبدل أن تجيبه قفزت من مكانها باتجاه الطاولة، لتتأمل قطع التركيب الغريبة:

– ما هذا؟؟ هل هذا وقت اللعب أيها المحقق الجاد المحترم!!

فأجابها رامز ببرود:

– بل هذه أفضل طريقة لفهم شخصية تلك الفتاة… فالسر يكمن في لوحتها الأخيرة..

فأطلقت أمل صافرة إعجاب طويلة:

– يا لها من فكرة عبقرية.. لقد حولتَ لوحتها الأخيرة إلى قطع تركيب، لتدرس حالتها النفسية والذهنية بعمق وتركيز، فالقطع الصغيرة المتناثرة؛ لا يبدو أن لها علاقة ببعضها البعض، لكن تجميعها وِفق منهجية محددة، يؤدي إلى اكتمال الصورة.. إذن هذا هو العمل الذي تجاهلتَ من أجله؛ موعد عشاءنا تلك الليلة..

فعلق رامز:

– كم مرة علي الاعتذار بشأن تلك الليلة، لقد أخبرتك بأنني لم أتجاهل الموعد أبداً، بل نسيته تماماً رغماً عني!!

لكن أمل كانت منشغلة باللوحة، فلم تعي ما قاله!

وسرح رامز بفكره للوراء، وهو يتأملها أثناء تفحصها لتلك القطع..

لقد مضى على خطبتهما أكثر من عامين، كان بحاجة لها فقد وجدها مفيدة جدا منذ أن التقاها في المكتبة العامة، إذ كان كلاهما يبحثان في قسم القانون والجرائم..

تلك كانت البداية..

كان بوده أن تكون علاقته بها مجرد صداقة عادية، لكن طبيعة العائلات العربية- حتى المنفتحين منهم- يرفضون هذه الفكرة، فلم يجد بداً من إعلان الخطوبة، على أن تكون خطبة طويلة المدى كي يتعرفان إلى بعضهما البعض بشكل أفضل، ولحسن الحظ، كانت شخصية أمل وطبيعة عائلتها، مناسبة جداً لهذا الاختيار! ثم إنها ليست من النوع الضعيف، الذي يُشعر الآخرين بعذاب الضمير، فلو أنه فكّر بتركها أو فسخ الخطوبة لأي سبب من الأسباب؛ لن تنهار باكية، بل ربما ستسدد له صفعة أو صفعتين، مع سيلٍ من الشتائم، ثم تمضي في حال سبيلها؛ بحثاً عن فرصةٍ أخرى.. هذا في حال أنها لم تتركه هي أولاً!!

وابتسم رامز لهذه الفكرة، التي كانت أكبر حافز له، لخوض تجربة الخطوبة هذه، لكنه سرعان ما انتبه من أفكاره تلك؛ إثرَ صفعةٍ خفيفةٍ من يد أمل على خده:

– ماذا أصابك؟ هل جنِنتَ لتضحك وحدك هكذا!! أمامنا عملٌ كثيرٌ ولا وقت لتضييعه بشرودك السخيف هذا..

فتحسس رامز خده بيده، قبل أن يعلق باسماً:

– معك الحق، كنتُ أفكر فقط كم نحن مناسبين لبعضنا البعض..

لكن رنين هاتفها صرفها عن مجادلته، فأسرعت تجيب الاتصال:

– أجل.. معك الممرضة المنزلية، أمل وهيب .. أجل أجل.. هذا صحيح تماماً، فخبرتي في التمريض المنزلي ممتازة، يمكنك التواصل مع مستخدمتي السابقة.. امممم.. لكنني بحاجة للمبيت والمأكل.. هل السيد طاعن في السن؟… في هذه الحالة ربما يكون من الصعب قبول ذلك… لا بأس .. شكراً لك..

أغلقت أمل السماعة، فيما حملق فيها رامز:

– ما هذا؟؟

فأطلقت أمل ضحكة خفيفة:

– هذا هو الاتصال السادس منذ أن نشرتُ الاعلان.. وما زلنا بانتظار الفريسة لتلتقط الطعم..

فرمقها رامز بذهول، وهو يمطرها بأسئلته:

– أي إعلان هذا!! وما الذي تخططين له؟؟ ثم هل تدركين إلى أي مدى قد يقودك تهورك؟ وهل والدك على علمٍ بذلك!

فابتسمت أمل بثقة:

– ومنذ متى ووالدي يعارض عملي؟ هل نسيتَ أنني أمتلك خبرة في التمريض المنزلي، تزيد عن خمس سنوات؟؟؟ يبدو أن ذاكرتك بحاجة للصيانة..

وقبل أن يضيف أي منهما كلمة أخرى، على رنين الهاتف من جديد، غير أن الاتصال كان على هاتف رامز هذه المرة، وما أن رأى رقم مُحدثه، حتى أشار إلى أمل بالصمت، قبل أن يجيب الاتصال:

– أجل سيد كارم.. إنني أسمعك.. كلا لا مانع أبداً، بل يُسعدني التحدث معها..

**

كان الصمت الكئيب لا يزال مُسدلاً أستاره على منزل سوسن، فالخدم في حالة توجس وترقب، لا يكاد بعضهم يجرؤ بالحديث إلى بعض! فمنذ أن جمعهم السيد كارم- ليطلعهم على أمر اختفاء ابنته، محذراً إياهم أشد التحذير من البوح بأدنى كلمة للخارج، ومُطمئناً إياهم في الوقت نفسه على مكانتهم في المنزل وثقته بهم، مع الوعد بإجزال مكافآتهم وعطاياهم؛ إن ما حُلّت تلك القضية، وعادت ابنته بسلام- منذ ذلك الحين؛ وهم على الحالة نفسها من العمل الصامت! ولم يكن السيد كارم بحاجة للتأكيد على كلامه مرتين، فالولاء الذي يدين به الخدم له، كفيلٌ بذلك.. ورغم أن بذور الشك بدأت تترعرع في صدورهم، تجاه بعضهم البعض؛ إلا أن أحداً لم يجرؤ على التفكير بصوتٍ عالٍ، بشأن ما يختلج في أعماقهم.. أما بهجة- كبيرة الخدم- فقد باتت واثقة تماماً من أن لمرزوق يدٌ في هذه القضية، ولكن كيف لها أن تبدي شكوكها تلك، وهو يلازم المنزل منذ تلك الحادثة- كغيره من الخدم- بناء على أوامر سيد المنزل!! فقد حُكم عليهم بما يُشبه الاقامة الجبرية في المنزل، ولم يُبدِ أي واحد منهم اعتراض على ذلك، ولعلهم ظنوا أن في هذا دليلاً على براءتهم، رغم أن سيدهم لم يُظهر لهم أدنى شك في ذلك..

أما هذه الليلة، فقد بدت عصيبة أكثر من سابقاتها، فغداً سيلقي المرشح لرئاسة الوزراء خطاباً هاماً أمام الجماهير؛ إثرَ إعلان فوزه الكاسح في الانتخابات، ولم يتبقَ سوى أيام قليلة؛ ليباشر مهامه رسمياً..

كان يُفترض بخبرٍ كهذا؛ أن يكون له وقعٌ مبهجٌ على كل فرد، بل وكل زاوية في المنزل، لكن.. ويا للعجب، إنقلبت الموازين رأساً على عقب!

أما في غرفة نوم كارم، فقد كان نحيب زوجته كفيلاً بطردِ أي أُثرٍ للنعاس من جفنيه، وهي تلقي باللائمة عليه:

– إلى متى تريدني أن أتمالك نفسي؟؟ أي قلبٍ هذا الذي تحمله في صدرك؟ لقد مضت خمسة أيام منذ اختفائها ولا أثر لها حتى الآن!!!

فحاول كارم تهدئتها:

– أرجوك يا بهية، لم يبقَ إلا القليل وسنجدها حتماً، لقد سمعتِ بنفسك محادثتي مع رئيس المباحث العامة مساء اليوم، بل إنك حادثتِ المحقق الخاص قبل قليل؛ وتأكدتِ بنفسك من كفاءته وتقدمه بالبحث.. قليل من الصبر فقط أرجوك.. أنتِ تعلمين أهمية ما ينتظرنا غداً..

لكن بهية انفجرت قائلة:

– كل ما يهمك هو الرئاسة والسلطة.. ما الذي سنجنيه من ذلك إن خسرنا ابنتنا الوحيدة!!

فزفر كارم بضيق:

– وكأنني كنتُ مكتوف اليدين، لقد فعلتُ كل ما بوسعي، فما الذي يمكنني فعله أكثر!

فقالت بهية بالنبرة اللائمة نفسها:

– يمكننا إبلاغ جميع وحدات الشرطة، والتحقيق مع الخدم بشكل أكبر، فمن غير المعقول أن تتركهم هكذا، خاصة مرزوق.. لقد كان هو آخر من شاهدها ذلك اليوم!

فعاتبها كارم بنبرة مماثلة:

– وكأنك لا تعرفين سبب ذلك! لا يمكنني التضحية بسمعتنا أكثر، فما الذي سنجنيه إن تمردوا علينا، أو أقدم أحدهم على التشهير بنا في ظل هذه الظروف؟؟ إن أكثر ما أخشاه هو خسارة ثقة مرزوق بنا، فقد كان سائق ابنتنا لأكثر من عشر سنوات، وربما يفكر بالانتقام وتلويث سمعتها ببساطة، إن ما أشعرناه بشكّنا فيه، بعد أن أكد لي بأغلظ الايمان صدق روايته! ولا تنسي ما شهد عليه الخدم من تغيّرٍ في سلوكها في الآونة الأخيرة.. حتى أنهم رأوها بالحجاب!! فما الذي تريدينه أكثر من هذا؟؟ علينا أن نتعامل مع هذا الأمر بحكمة أكثر!

فردت بهية بحدة:

– هل تعني بأنك لا تثق بابنتك، وأن قلقك على مستقبلك الرئاسي أكثر من قلقك عليها!! لم يكن من الضروري دخولك في مجازفات خطيرة كهذه على حساب ابنتك، ما الذي كنا سنخسره لو لم تفكر بخوض غمار الانتخابات!!

فقال كارم بنفاد صبر:

– الآن تقولين مثل هذا الكلام بعد أن نسيتِ نفسك، وأنتِ تختالين بزهو خلال الجولات الانتخابية!

فأجهشت بهية باكية:

– وما الذي سأجنيه من ذلك كله الآن!! آآآه يا سوسن يا حبيبتي.. من هذا الذي يجرؤ على فعلك هذا بك.. لن أسامحه أبداً أبداً..

غير أن ومضة من الماضي البعيد؛ لمعت في ذهنها فجأة، فهتفت على حين غرة:

– هل تعتقد أنه هو من فعلها؟؟؟

فنظر إليها زوجها مستفهماً:

– من تقصدين؟

لكنه سرعان ما طرد الفكرة نافياً ذلك، بعد أن تلاقت نظراتهما:

– كلا.. من المستحيل أن يكون هو، فقد سمعتُ أنه أصبح طريحاً للفراش منذ فترة طويلة، بعد أن تمكن من الالتحاق بعائلته في الخارج..

فسألته باهتمام:

– وماذا عن الآخر؟

فأجابها بهدوء:

– لقد فرّ بأسرته إلى ما وراء البحار، ولم تعد له صلة بهذه البلاد منذ ذلك الحين..

وصمت الاثنان وهما يحدقان ببعضهما البعض، قبل أن تجرؤ بهية على تحريك شفتيها:

– أما زال ذلك الشخص في السجن؟

فهز كارم رأسه موافقاً، فيما تابعت بهية استفسارها بتؤدة:

– وماذا عن أسرته! هل تعرف ما الذي حل بهم؟

فتنهد كارم بقلق

– ربما التحقت زوجته بأهلها، فلم يكن لديهما سوى طفلٌ، لم يتجاوز السابعة وقتها!!

وارتعشت يداه لذكرى ذلك اليوم..

فقد توعّده بأنه لن يسامحه أبداً.. كان ذلك قبل عشرين عاماً!!

وإذ ذاك.. اهتز هاتفه برنين مفاجيء أفزعهما معاً، وكأنهما ضُبِطا بالجرم المشهود، ولم يكد كارم يضغط على زر الهاتف لاستلام الرسالة الصوتية؛ حتى غامت الدنيا في عينيه..

هل جاء يوم الحساب!!!

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 51

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

أنهى الفريق الطبي جولته اليومية على مرضى القلب، تحت قيادة الطبيب الاستشاري فريدريك، وقبل أن ينصرف عامر، استوقفه الاستشاري قائلاً:

– غداً ستقوم بتقديم الحالات في الاجتماع الصباحي، لذا أعد نفسك جيداً لهذه المهمة، فمدير المستشفى وكبار المختصون والاستشاريون؛ مهتمون جداً بالاطلاع على أدائك، وقد طلبتُ من الدكتورة هدى، من قسم النسائية والتوليد؛ مرافقتك في جولة تعريفية في أرجاء المستشفى، فهي متعاونة جداً، وذات كفاءة عالية، وستفيدك بشكلٍ كبير.. ثم إنها عربية مثلك..

هز عامر رأسه موافقاً، دون أن يستطيع منع نفسه من التفكير بحديث الطبيب سائد عن هذه الطبيبة بالأمس! وزفر بتوجس.. سيقابل الدكتورة هدى أخيراً..

“اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك”

وما هي إلا ساعة أو ساعتين، حتى كان يتجول في أرجاء المشفى برفقة هدى، التي قامت بمهنية تامة، تعريفه بكافة الأنظمة والقوانين المتعلقة بالحقوق والواجبات، والسياسات والاجراءات المتبعة مع الأطباء والمرضى على حد سواء.. كما أطلعته على كافة الأقسام، وقامت بواجب التعارف بينه وبين مدراء الأقسام الذين يقابلونهم، حتى شعر عامر بأنه جزء من المكان..

كان شرح هدى كافياً وافياً، ولم ينسَ عامر تدوين المعلومات الأساسية في مفكرته الصغيرة التي لا تفارق جيبه، حتى إذا ما شعرت هدى بأنه لم يعد هناك شيء تضيفه، قالت لعامر:

– بالطبع لا يخفى عليك أهمية الدقة في المواعيد هنا، فكما عرفتُ من الدكتور فريدريك، ستقوم غداً بتقديم الحالات الطبية في الاجتماع الصباحي، ومن الأفضل أن تتواجد قبل السابعة صباحاً، إذ في تمام السابعة؛ ستبدأ الالقاء إن شاء الله..

فأومأ عامر رأسه بتفهم:

– إن شاء الله.. وجزاك الله خيرا لجهدك معي..

ثم استدرك قائلاً قبل أن يهم بالانصراف:

– بالمناسبة.. هل يوجد مراكز إسلامية للنساء في هذه المنطقة؟ فزوجتي ترغب بالتعرف على المسلمين هنا..

وجَمَت هدى للحظة- إذ لم تكن تعلم حتى تلك اللحظة عن وضعه الاجتماعي- لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها، وهي تجيب بثقة:

– بالطبع يوجد، هناك مركز رئيسي كبير في وسط المدينة، ملحقٌ بالجامع الكبير، حيث تُعقد الندوات والمحاضرات لجميع الفئات..

فشكرها عامر بأدب، ثم انصرف، فيما زفرت هدى بارتياح، بعد أن أزاحت عن كاهلها حِملٌ ثقيل…

لقد مرت المهمة بسلام والحمد لله..

ولم تستطِع هدى منع نفسها من الشعور، بأن عامر ما تفوه باستفساره الأخير؛ إلا ليُعلِمها بأنه متزوج، إذ سرعان ما لاحظت بعد جملته تلك؛ خاتم الزواج الفضي في بنصر يده اليسرى.. لا شك أنه مهتم جداً بإخبار الجميع بهذه الحقيقة..

ورددت في سرها:

– قدر الله وما شاء فعل.. تُرى كيف سيكون وقع هذا الخبر على ليزا، التي بات هذا الموضوع يؤرقها أكثر من أمي نفسها! يارب.. عوضني خيراً..

ولم تكد هدى تدلف إلى مكتبها، لتتابع إدخال الحالات المرضية في قسمها، حتى دخلت ليزا مسرعة- كمن كان ينتظر هذه اللحظة- لتسألها بفضول:

– كيف كان يومكما؟

فابتسمت هدى، وهي بالكاد تكتم ضحكة كادت تفلت منها:

– ما بك تتحدثين هكذا وكأننا في موعد! لقد قمتُ بواجبي وحسب، وقد كان طبيباً جيداً ومحترماً بمعنى الكلمة، ما شاء الله..

فغمزتها ليزا بمكر:

– أعرف أن هذه البداية فقط، هيا اعترفي.. ألم يكن شخصاً مناسباً؟

فهزت هدى رأسها بالنفي، لتخيب آمال ليزا:

– كلا.. لم يكن مناسباً أبداً، فهو متزوج بالفعل..

وكأن طامة كبرى حلّت بليزا، إذ تهاوت على أقرب مقعدٍ، لتتساءل بذهول:

– لماذا!! لماذا يفعل ربك بك هذا؟؟؟ لقد كنتِ فتاة صالحة طوال الوقت، وكنتِ تثقين بربك دائماً، فلماذا يأتي بأملٍ ثم يخيّبه هكذا!! هل ربكم شرير إلى هذه الدرجة!!

فأسرعت هدى تنفي ذلك بشدة، مستغفرة الله عما سمعته:

– كلا يا عزيزتي، ليس الأمر على هذا النحو، من قال بأن القصة انتهت عند هذا الحد! حتى في الروايات العالمية الشهيرة؛ يتعرض الأبطال لمواقف عصيبة، وتفاجئهم الحياة بأمورٍ لا يتخيلونها، ومع ذلك لا يفقد الأبطال شجاعتهم أو ثقتهم بمبادئهم، بل إن هذا ما صنع منهم أبطالاً فأحبتهم الجماهير.. وهكذا هي الحياة، لكل شيء حكمة قد لا نعرفها في حينها، لكنها موجودة بالتأكيد.. حتى ما يظهر أنه شرٌ في البداية، قد يتبين أن فيه الخير الكثير في النهاية..

لكن ليزا بدت ذاهلة تماماً عما يدور حولها، كانت على وشك التفكير باعتناق هذا الدين الذي تدين به هدى، بعد أن شعرت بأنه قد يجلب لها السعادة، أما الآن… فقد اهتزت قناعتها به تماماً..

ووجدت هدى نفسها في مأزق حقيقي، فرددت في سرها:

“ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم”

ثم قالت فجاة:

– تعرفين قصة “بائعة الخبز” للكاتب الفرنسي مونتبان؟

وأمام صمت ليزا، تابعت هدى كلامها:

– لقد بدَت الحياة قاسية وظالمة جداً في بداية القصة، حتى تبددت جميع الآمال المحتملة..

هكذا هي الحياة، ولن يكون البطل بطلاً إن استسلم بسهولة، وإن خرجت الأمور عن قدرته واحتماله، فالرحمة والعناية الالهية، ستتدخل في الوقت المناسب، ولن يكلف الله نفساً إلا وسعها..

لكن ليزا تابعت تساؤلاتها:

– ولماذا هذا العذاب من البداية.. ألستم تقولون بأن الله قادر على كل شيء؟ فلماذا لا يأتي بالخير مباشرة!!

فردت هدى:

– تذكرين الاختبارات الطبية التي مررنا بها، قبل أن نصل إلى هذا المستوى، وتذكرين أيضاً الاختبارات التي شاركنا في إعدادها للمتقدمين الجُدد؛ لماذا كانت بتلك الشدة؟ ولماذا لم نقدّم لهم الاجابات مباشرة، ليحصلوا على الدرجات النهائية، ويتقلدوا وسام الطب بسهولة؛ بدل ذلك الشقاء في الدراسة والاستذكار!!! وهل سيكون من العدل والحكمة فعل ذلك؟

فأجابتها ليزا ببرود:

– هذا لأننا بشر، وهذه هي طريقتنا الوحيدة لإعداد واختيار ذوي الكفاءات المناسبة لهذه المهنة، التي تتطلب جهداً وصبراً، فإما أن يُثبت المتقدم جدارته، أو لا داعي لتورطه في عمل لا يناسبه! ولكن أليس الله قادرٌ على أن يجعلنا جميعاً جيدون وذوي كفاءات عالية، ولا يضعنا في مثل هذه الاختبارات؟؟

فقالت هدى:

– في هذه الحالة لن نكون بشَراً، بل ملائكة! وقد خلق الله ملائكة بالفعل لا يُخطئون ولا يحزنون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون! أما نحن؛ فقد خلقنا الله بشراً، ومنحنا نعمة الاختيار، لذا كان لا بد من وجود الاختبار! فمن اجتهد وصبر؛ فسيلقى نتيجة ذلك حتماً عاجلاً أم آجلاً..

فتنهدت ليزا:

– أعرف ما تهدفين إليه، ولكن الأمر مختلفٌ هنا.. فعندما يتقدم السن بالفتاة، لن يعود لصبرها معنى.. أنتِ تفهمين قصدي جيداً يا هدى، فلا تكابري..

حاولت هدى أن توضح لها قناعاتها الخاصة، فيما يتعلق بمسألة الزمن بالذات؛ لكنها شعرت بأن حالة ليزا الذهنية، لن تساعدها على ذلك، فسألتها:

– هل جميع الفتيات اللاتي تزوجن في السن المناسبة- كما يقولون- سعيدات؟

فحملقت بها ليزا:

– ماذا تقصدين؟ هل تريدين القول بأن الزواج ليس سبباً للسعادة؟ حسناً.. إنني لا أؤمن بذلك أيضاً، ولكن على الأقل؛ توجد لديّ طُرُقٌ أخرى للتعامل مع هذا الأمر خارج إيطار الزواج.. أما بالنسبة لك، فالأمر مختلف، وهذا ما يُشعرني بالأسى عليك…

فبادرتها هدى بسؤال آخر:

– وهل الفتيات اللاتي حصلن على مبتغاهن خارج إيطار الزواج؛ سعيدات؟

فتنهدت ليزا، وشريط حياتها البائس يمر سريعاً أمام ناظريها:

– حسناً لنكن واقعيين، هناك لحظات سعيدة على الأقل، فأي فتاة ستفرح إن حصلت على بعض الاهتمام من الطرف الآخر..

وصمتت للحظة، فتابعت هدى:

– وماذا ستكون النتيجة، عندما يتبين لها أن ذلك الاهتمام؛ لم يكن سوى مجرد نزوة عابرة؟

زفرت ليزا بضيق، وهي تتذكر خيانة صديقها الأخير:

– وما العمل إذن! أشعر بأن المرأة ضحية في هذا العالم القاسي..

فقالت هدى بهدوء:

– هذا لأنها تربط سعادتها بالآخرين..

لكن ليزا قالت فجأة، وكأنها لم تستمع لجملة هدى الأخيرة:

– سمعتُ أن الرجل لديكم يمكنه الزواج بأكثر من واحدة، ربما هذا أفضل من أن يتخذك مجرد صديقة، ستضمنين حقك على الأقل..

ثم ابتسمت- أمام ذهول هدى- كمن وجد كنزاً:

– حسناً.. لم يكن الأمر بهذا السوء الذي توقعته، لا تزال هنالك فرصة لك..فلو حاولتِ معه قليلاً؛ فسيميل إليك بلا شك..

غير أن هدى قالت جازمة، وهي تحاول السيطرة على أعصابها:

– لم أكن لأفعل ذلك إن كان عازباً، فكيفَ به وهو متزوج!! أرجو من الله أن لا يضعني في موقفٍ كهذا، ولا يضطرني إلى هذا الاختيار أبداً.. فهناك خيارات كثيرة في الحياة، مثل أسئلة الاختيارات المتعددة؛ تكون هناك إجابات خاطئة تماماً، وإجابات مقبولة، وإجابات صحيحة، ولكن.. هناك إجابات أصحّ، وقد تتباين وجهات النظر أحياناً في تقييم تلك الاختيارات، وبالنسبة لي؛ كنتُ ولا زلتُ حريصة جدا على اختيار الإجابة الأصح قدر المستطاع، فلو كنتُ مكان زوجة هذا الطبيب، لما أحببتُ أن يأتيني بضرة، ولا يؤمن أحدكم؛ حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه.. هذه قاعدة في ديننا..

واستطردت مُتابِعة:

– لا تشغلي بالك يا عزيزتي، فمن أتى بهذا الرجل؛ قادرٌ على أن يأتي بغيره..

قالت جملتها الأخيرة، وهي تغمز ليزا بعينها باسمة، فيما تنهدت الأخيرة:

– لا أدري إلى أي مدى ستوصلك قيمك ومُثُلك العليا هذه، لكنني سأنتظر وأرى..

**

استعاد مهند حيويته المعتادة، بعد يومين من تلك الزيارة، وكأن شيئاً لم يكن، حتى جدته نسيت الأمر على ما يبدو، فها هي تعامله على مائدة الأفطار، كطفلٍ مدلل:

– افتح فمك بسرعة وتذوق هذه الجبنة الساخنة يا حبيبي، لقد أوصيتُ جارتنا أن تجلبها من قريتها خصيصاً من أجلك..

وبالطبع لا يكن أمام مهند سوى الانقياد لطلبها، فتناول من يدها الحانية لقمته، وهو يثنى على ذوقها في اختيار الأطعمة، فيما تابعت الجدة ارشاداتها الصباحية، كمن يلقن طفل الابتدائية واجباته الأساسية:

– يجب أن تتغذى جيداً لتصبح قوياً، فعمل الطبيب يحتاج لطاقة كبيرة، مع تركيز ورباطة جأش..

وكأنها تذكرت فجأة أن أمامها شاب ناضج في الثلاثين، فاستطردت مؤنبة:

– وطبعاً لستُ بحاجة لتذكيرك بضرورة العثور على زوجة مناسبة، من غير المعقول أن تبقى عازباً هكذا حتى هذه السن!!

فضحك مهند معلقاً:

– ألا ترين بأنني لا أزال طفلك الصغير يا جدتي؟ لا يزال الوقتُ باكراً على التفكير بالزواج…

ولم تنتظره الجدة ليكمل كلامه، إذ عاجلته بضربة على يده بمغرفة الطعام، موبخة:

– لقد طفح معك الكيل، ما الذي سيقوله والداك رحمهما الله عني لو علما بالأمر؟؟ أظن أن عليّ تحديد موعد نهائي لاختيار عروس لك، دعنا نقول قبل نهاية هذا العام، وإلا..

وصمتت الجدة وهي تشير بيدها مهددة، فابتسم مهند موافقاً:

– حسناً حسناً.. لا يزال أمامنا عدة أشهر، فلا تقلقي أبداً يا جدتي الحبيبة..

قبّل مهند يد جدته التي وقفت لتشييعه عند باب الشقة، كعادتها كل صباح، ثم انطلق بسيارته نحو مقر عمله، ترافقه ذكريات الماضي البعيد، الذي نبشته الكلمات..

لم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره بعد؛ عندما وقع ذلك الحادث الذي أودى بحياة والديه وأخوته، فانتقل إلى أحضان جدته، التي لم تألُ جهداً في رعايته وتربيته على الخلق القويم.. وها قد مر ربع قرن من الزمان، جعلت منه ما هو عليه الآن.. فمن ستكون الفتاة المناسبة له؟

غير أن شهقة قصيرة صدرت منه، لم يستطع معها غض النظر كما يجب، وهو يحملق للحظة في تلك الفتاة الجالسة إلى جانب أيهم في السيارة، ذلك النجم الذي أصرّت جدته على تعريفه به في المعرض العالمي، دون أن يدري كيف التقطت عيناه ذلك المشهد! فلم تمضِ سوى ثانيتين استغرقتهما سيارة أيهم لمحاذاته، ثم الوقوف أمامه على الإشارة! فهل بات عقله متحفزاً لكل ما له علاقة بتلك الرسامة! صحيح أنه لا يذكر ملامحها جيداً، إذ كان قد رآها بشكل عابر فقط، لكنه يكاد يجزم؛ أنها لم تكن تلك الفتاة الجالسة إلى جوار أيهم الآن!

ووجد نفسه يسترجع تلك “المعلومة” المجردة الواردة في حديث ذلك الزائر الغريب:

الرسامة تحجبت ثم تركت الرسم!

ليتجرّأ سؤالٌ آخر على قرع باب عقله بقوة:

– ترى.. ما الذي جرى لسوسن!

**

بدأت سوسن تعتاد على استعمال ما يُطلق عليها مجازاً (دورة مياه)، فقد كانت أشبه بكوّة صغيرة ، تقع في إحدى زوايا ذلك القبو المظلم- الذي أناره المُحتجِزون أخيراً، بشعاعٍ واهن مكنها من تحسس مواطن أقدامها على الأقل- ورغم الغثيان الذي أصابها في البداية، من تلك الرائحة العفنة التي تسبب الاختناق، إلا أن الضرورات البشرية الملحة، لم تكن لتترك لها خيار آخر..

ولم تستطع منع نفسها من التفكير بغرفتها الواسعة المعطرة بالازاهير والورود، التي لم تستطع شم رائحة السعادة فيها آنذاك، رغم كل الترف! فهل هي في “عقاب” من نوع خاص، لأنها لم تستشعر تلك النعمة! حتى الجوع الذي لم تكن تعرف معناه، اضطرها لأكل تلك الكسرات اليابسة من الخبز؛ لتُسكته!

“أيهم”

ودمعت عيناها، فما زالت تحبه رغم كل شيء!

غير أنها حاولت التجلد من جديد، والتفكير بإيجابية أكثر، فحتى الآن لم تتعرض لأي أذى حقيقي وهذا هو الأهم..

وبعد أن توضأت بذلك الماء الآسن، اتجهت ناحية الجدار لتأدية صلاة العصر حسب تقديرها، إذ رفض المُحتجزون تعريفها بالأوقات، أو إرشادها لاتجاه القبلة، متخذين من ذلك ذريعة للتسلية، إذ رد عليها أحد الرجلين مستهزئاً:

– هل تريدين أن نساعدك في الدعاء علينا، أم ماذا!

فيما انفجر الآخر ضاحكاً:

– أو ربما تظنين أن بإمكان ذلك مساعدتك على الهرب!

ثم تابع بنبرة أكثر جدية:

– ومع ذلك؛ لن نسمح باحتمال واحدٍ للخطأ..

ومنذ ذلك الوقت لم تفكر سوسن بسؤالهم عن شيء آخر، بل آثرت الصمت، لتعتمد على اجتهادها المطلق في تأدية الفرائض، بعد أن يئست في الحصول منهم على أي إجابة كانت، بما في ذلك سبب احتجازها!

كانت تدعو الله بسجودها أن يغفر لها اسرافها في أمرها، ويكفيها ما أهمها، وأن يُطمئن والديها عليها… وأن يهدي “أيهم” ويرده إليها رداً جميلا..

بللت الأرض بدموعها، مستغرقة في مناجاتها، تناجي الله بهمومها وآلامها ومخاوفها، حتى شعرت بتحسن كبير، وقبل أن ترفع من السجود، سمعت صوت صرير الباب يُفتح، مُعلنة عن دخول الرجلين كالعادة، إذ لم يكن يأتي إليها رجلٌ بمفرده حتى هذه اللحظة، فسمعت أحدهما يقول آمراً:

– هيا أنهي صلاتك بسرعة، فقد حان وقت العمل..

سرَت رعشة في أوصال سوسن، هل هذا هو الفرج أخيراً، وبعد أن سلّمت من الصلاة، اقترب منها الرجل الآخر قائلاً، وهو يناولها ورقة صغيرة بيده اليمنى، فيما أمسك جهازاً صغيراً بيده اليسرى:

– أرسلي هذه الرسالة بصوتك لوالدك بسرعة..

قال كلمته تلك وضغط على أحد أزرار الجهاز، غير أن سوسن قرأت الكلمات المطبوعة على الورقة بصمت، ثم أمسكت لسانها خشية أن تصدر عنها آهة فزع، فيما قالت بصوتٍ عال:

– أمي أبي كيف حالكما؟ أرجو أن…..

لكن الرجل قطع التسجيل بسرعة صارخاً فيها بغضب:

– ألا تعرفين القراءة أيتها الحمقاء؟ هل تستخفين بنا أم ماذا تظنين نفسك؟؟؟

ارتجفت سوسن قليلاً لكنها ردت عليه بقوة:

– كيف أقول شيئا لا أفهمه؟ أنتم لم تخبروني سبب احتجازي من الأصل، ثم ما هو هذا الشيء الذي فعله والدي، وتريدون منه الاعتراف به؟

فأجابها الرجل بغلظة:

– إياك أن تعتقدي بأن عنادك سيفيدك، وتذكري أننا حتى هذه اللحظة لم نمسسك بسوء أيتها الضعيفة..

وأردف بلهجة آمرة جازمة:

– هيا أعيدي التسجيل وبسرعة..

خفق قلب سوسن لهذه الحقيقة المرة، فهي ضعيفة لا حول لها ولاقوة، ومرت بعينيها ثانية على الكلمات المطبوعة في الورقة:

“أبي أرجوك، اعترف غداً أمام الشاشة بما فعلتَه، كي أتمكن من العودة إليكم سالمة، فحتى هذه اللحظة لم يتعرض أحد الرجال لي بسوء، أرجوك أبي لا تتردد فشرفي في خطر”

فترقرقت الدموع في عينيها:

– يارب.. كيف لي أن أقول شيئاً كهذا؟ قد يتم استخدام هذا التسجيل ضد والدي على الملأ، فكيف أتهمه بشيء لا أعرفه! كيف أسيء إلى سمعته وأنا لا أعرف عنه إلا كل خير!! إنهم يريدون مني هز ثقة الناس به، فيارب احفظني واحفظ والداي من كل سوء..

غير أن صراخ الرجل قطع مناجتها:

– ما الذي تنتظرينه أيتها الغبية، هيا اقرئي الرسالة بسرعة، فلا وقت لديّ لتضييعه..

أما سوسن فقد كانت تتمنى أن تفكر بهدوء لتقرر..

يارب.. ما الذي عليّ فعله الآن!!

وأخيرا قالت:

– وما الذي يضمن لي العودة إلى أهلي سالمة، إن ما أرسلت لهم هذه الرسالة؟

فزمجر الرجل مكشراً عن أنيابه:

– بل قولي من الذي يضمن لك البقاء سالمة؛ إن لم ترسلي هذه الرسالة!!!!!!!!!!

ثم رفع قبضته مهدداً:

– لقد تماديتِ كثيراً، قومي بتسجيل الرسالة حالاً قبل أن أفقد صوابي..

ارتجفت سوسن بشدة، وأغمضت عيناها في محاولة للهروب من هذا الواقع، لعلها تفكر مع نفسها بهدوء:

– لا شك أن غداً هو موعد خطاب والدي الرسمي،…

غير أن تلك اليد الضخمة، التي هوت على ظهرها، لتسقطها أرضاً على وجهها؛ لم تترك لها المجال للاسترسال بأفكارها أكثر، فصرخت من شدة الألم، فيما قفز الرجل الآخر- الذي كان صامتاً طوال الوقت- إلى جانب الأول- الذي كان يزمجر بغيظ- مهدئاً:

– على رسلك يا رجل، هل نسيت أوامر السيد؟

ورغم الألم المبرح الذي حل بسوسن، إلا أنها وجدت في سقطتها تلك؛ متنفساً تراجع فيه حساباتها، وترتب أفكارها.. فعلى ما يبدو أن الأمر أكبر من مجرد طلب فدية، كما ظنت في البداية! وبقي السؤال الملح يتردد في ذهنها:

– ما هو الشيء الذي يريدون من أبي الاعتراف به؟

أهي مجرد تهمة يريدون تلفيقها له!!

أهو منافسٌ لوالدها في الانتخابات ويريد القضاء عليه نهائياً!!

ألهذه الدرجة وصلت الحال بهؤلاء المنافسين على مقاعد السلطة!!!

كانت سوسن قد بدأت تسترد قوتها، عندما وكزها أحد الرجلين بقدمه في خاصرتها:

– هيا انهضي، ولا داعي للتظاهر بالإغماء..

فانكمشت على نفسها، وهي تشد ثيابها إلى جسدها كمن تحتمي بدرعٍ فولاذي ثقيل، قبل أن تأخذ وضعية الجلوس، رافعة جذعها أولاً، لتواجه الرجلين بنظراتٍ ثاقبة، معبرة عن غضبها الشديد مما حدث..

فتكلم الرجل الثاني ملاطفاً:

– لم نكن ننوي الأذية أبداً، ولو أنك نفذتِ ما طُلِب منك، لمرت الأمور بسلام..

وناولها الورقة بدوره قائلاً:

– هيا لو سمحتِ، أرسلي الرسالة، وسينتهي كل شيء..

قال جملته تلك، وضغط على زر التسجيل..

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 50

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

كان المستشفى المركزي يعج بالمراجعين والزوار والموظفين، كعادته في مثل تلك الساعة من المساء؛ عندما تقدمت شابة سمراء رشيقة ممشوقة القوام، عدة خطوات من غرفة الانتظار، لترقب ذلك الرجل بحذر وتوجس..

إذا صدق حدسها، فلا شك أنه يعرف شيئاً!

وبعفوية تأكدت من تسوية شعرها المنسدل على ظهرها، على شكل ذيل حصان، وشدت قميصها القطني الأصفر، ليغطي حزام بنطالها (الجينز)، قبل أن تخطو عدة خطوات للأمام وتفتعل ذلك الانطباع المندهش، وهي تهتف قائلة:

– الأستاذ سامر!!!

فالتفت نحوها بعينين زائغتين:

– عفواً.. هل ناديتني؟

فظهرت علامات البشر والسعادة على وجه الشابة، وهي تقترب منه مُصافِحة، فوقف سامر بتثاقل لتأدية واجب اللباقة، فيما قالت هي معتذرة:

– أرجو أن تعذرني على اندفاعي، إذ لم أصدّق عيناي عندما رأيتك هنا فجأة.. خير إن شاء الله يا أستاذ، أرجو أن لا يكون قد أصابك مكروه!

فندت عن سامر ابتسامة واهنة، مكتفياً بقوله:

– لا أذكر أننا التقينا من قبل!

فابتسمت قائلة:

– بالطبع لن تذكر فتاة مثلي، ولكنني كنت من المعجبين بأعمالك الرائعة، ومنذ المعرض العالمي لم أتشرف بلقائك، لقد كان عرضك رائعاً حقا، لدرجة أنني لا زلتُ أشعر به ماثلاً أمامي..

وتابعت باندفاع، وهي تدرس بعينيها تعاليم وجهه:

– حتى أن تلك الرسامة التي شاركتك العرض، قد أبدعت حقاً بمحاكاتك.. ماذا كان اسمها سامية.. سالي؟

ولم يخفَ عليها ملاحظة تلك النبرة وهو يذكر الاسم:

– سوسن..

غير أن الإعياء الذي بدا ظاهراً على وجهه؛ جعلها تستدرك الأمر قائلة:

– لا أريد أن أثقل عليك أكثر يا أستاذ، فأنتَ تبدو متعبا جداً، استرِح أرجوك..

قالت جملتها الأخيرة وهي تدعوه للجلوس على مقعده، ولم تتردد بالجلوس على المقعد الفارغ المجاور له، فيما أخذت العيون ترمقهما بفضول!

وباهتمام ظاهر، تابعت الشابة كلامها بحماسة:

– لا أعرف كيف أعبر عن امتناني لهذه اللحظة التي قادتني إلى هنا، فقد كنت أرغب باستشارة خبير في اختيار لوحة…

لكنها بترت عبارتها فجأة:

– أرجو المعذرة، فليس هذا هو المكان المناسب لمناقشة موضوع كهذا، حقاً إنني آسفة، هل بإمكاني مساعدتك في شيء؟ فقد عملتُ في مجال التمريض ذات يوم، وأذكر ذات مرة أن ابن السيدة التي كنتُ أرعاها قد وقع في حب فتاة، غير أن والدته رفضت ارتباطه بها، ولولا تدخلي في الوقت المناسب، لربما خسر الشاب حياته!

وابتسمت بثقة:

– قد لا يبدو عليّ ذلك، ولكنني قد أكون مفيدة أحياناً..

وغمزته بعينها مشجعة:

– اسمي “أمل” ولكل شخصٍ من اسمه نصيب كما يقولون..

وكأن ذهن سامر كان مشغولاً في أمرٍ آخر، إذ سرعان ما أخرج بطاقة صغيرة من جيبه ليُطلعها عليها قائلاً:

– هل رأيتِ مثل هذه البطاقة من قبل؟

فألقت عليها نظرة خاطفة قبل أن تقول:

– أذكار الصباح والمساء.. توجد العديد من هذه المطبوعات.. هل هناك شيء خاص بها؟

فتنهد سامر:

– لا شيء.. إنني بحاجة فقط لعلاج نفسي على ما يبدو..

**

لم يغمض لـ “مهند” جفن تلك الليلة، فقد وجد نفسه- رغماً عنها- شاردةً في أفكارٍ لم تخطر له ببالٍ من قبل! وكأن تساؤل جدته العفوي؛ كان كفيلاً بقدح الزناد!

فبعد زيارة الشاب الأجنبي المفاجئة له مساء الأمس، بادرته جدته بفضولها المعهود:

– ما الذي يريده منك هذا الولد؟ هل هناك ما أزعجك بكلامه؟ فشكلك لا يبدو على ما يرام!

وقتها حاول اصطناع بسمة مرِحة:

– أنتِ تبالغين كالعادة يا جدتي، ثم إن هذا ليس ولداً وإنما زائرٌ أجنبي مهتم بالثقافة العربية..

فرمقته جدته بنظراتها المتفحصة:

– إذا كان كذلك بالفعل؛ فلمَ توقف عن الكلام فجأة؛ عندما دخلتُ للسلام عليه والقيام بواجب الضيافة؟ يُفترض من هذه النوعية من البشر المهتمة بالثقافات الأخرى، الترحيب بكبار السن أكثر، لأنهم مصدر المعلومات والثقافة الأصيلة، أليس كذلك؟

فأطلق مهند ضحكة صغيرة:

– ليس الأمر هكذا يا جدتي، فلم يقصد الشاب أبداً أن يقلل من شأنك…

فما كان من جدته إلا أن قرصت أذنه مؤنبة:

– لا تقم بتغيير الموضوع يا ولد، إنني أحاول الإطمئنان عليك وحسب، ثم ما علاقة “سوسن” بالموضوع؟

عندها أسقط في يده، لكنه مازحها قائلاً:

– كان عليكِ أن تطرحي هذا السؤال عليه مباشرة يا جدتي، ما دمتِ قد سمعتِ ذلك؟ ثم إنني لا أذكر أنه نطق بهذا الاسم!

فكان نصيبه منها قرصة أخرى:

– هل تقصد أنني كنتُ أسترق السمع!! إياك أن تجرؤ على التفكير بهذا، فقد كنت قادمة للترحيب بالضيف وحسب، خاصة بعد أن علمتُ أنه اجنبي، لكنني تفاجأتُ من ردة فعله، ثم كفاك مراوغة، ألم يكن يسألك عن تلك الرسامة بصفته مهتماً بالتعرف على مشاهير الفن في بلادنا؟ فمن كان يقصد غير سوسن بالطبع؟

وتنهد مهند وهو يسترجع كلمات جدته، فقد كانت ملاحظاتها في محلها تماما، فقد فوجيء هو نفسه بزيارة ذلك الأجنبي، بعد أن تعلل بانشغاله ذلك الصباح، فهل استجد شيء ما؛ جعله يعدِل عن رأيه! لقد بدا سؤاله عن عالم الفن وتلك الرسامة المزعومة أمراً عابراً، أو أن هذا ما حاول إظهاره، لكن السؤال الذي طرحه بعد ذلك؛ ترك في نفسه أثراً أكبر مما يتصور، بل ويزداد كلما استرجع تلك المحادثة بينهما:

– هل على الفتاة التي تقرر الالتزام بالحجاب في بلادكم أن تترك هواياتها القديمة مثل الرسم مثلاً؟

كان سؤالاً مفاجئاً ومع ذلك، ابتسم قائلاً:

– بالطبع لا، ما الذي جعلك تقفز إلى هذه النتيجة الغريبة؟

فأتاه الرد المفاجيء:

– هذا ما ظننته، فقد سمعت أن تلك الرسامة قد تركت معهد الفن بعد أن تحجبت..

لم يدرِ مهند ما الذي حدث بعد ذلك تحديداً، فقد صدمته تلك المعلومة بشكل غريب، ثم صُدِم من صدمته تلك! فلماذا يتأثر كل هذا التأثير لمجرد معرفته بخبر حجاب رسّامة معروفة!

ورغم محاولته تجاهل كل فكرة ارتبطت بذلك، إلا أن سلطة الأفكار كانت أكبر مما تخيل، وكأن الظروف تآمرت عليه هي الأخرى، فاجتمعت مع الأفكار لتقوي شوكتها، إذ لم يكد ينتهي من عمله ذلك اليوم في المستشفى، حتى لمحت عيناه أستاذ الرسم- الذي انطبعت صورته في ذهنه منذ زيارته للمعرض العالمي مع جدته- خارجاً من قسم العيادات النفسية! صحيح أنه لم يدُر بينهما أي حديث، وربما لم ينتبه الأستاذ لوجوده أصلاً، لكن مرآه كان كفيلا بمد آلاف الروابط والجسور بين الأفكار المختلفة في عقله!

وهكذا تجرّأ سؤال على طرق باب عقله:

– هل “سوسن” بخير؟

**

كان رامز على وشك أن يغط في نوم عميق؛ عندما قاطعه صوت رنين هاتفه، فتناوله بتكاسل وهو يهم بإغلاقه، غير أنه سرعان ما انتبه من نومه تماماً؛ عندما لمح اسم محدثه:

– أهلاً أهلاً بالأستاذ أيهم، إنني في خدمتك، تفضل..

– أعتذر عن الازعاج في مثل هذا الوقت أيها المحقق، لكنني تذكرتُ شيئاً هاماً قد يفيدك..

فلم يبقَ أثرٌ للنوم في أجفان رامز الذي حثه على الحديث قائلاً:

– لا داعي للاعتذار أبداً يا أستاذ، يمكنك الاتصال في أي وقت، إنني اسمعك..

وحبس رامز أنفاسه، فيما تابع أيهم كلامه:

– ذات مرة عثرتُ على ورقة تحمل نبرة تهديد قاسية تصفني بالفاسق الضال، للأسف لا أذكر كلماتها جيداً، ولكنها تتضمن كلاماً شديداً يطلب مني الابتعاد عن خطيبتي سوسن..

شعر رامز بجميع الهرمونات المحفزة، وهي تعمل في جسده، فقال باهتمام:

– جيد أنك أخبرتني بذلك، ولكن متى كان هذا؟؟

– لا أذكر تماماً، قد يكون قبل عدة أشهر، أو ربما شهرين! أو ربما أقل!! فقد

– وماذا حدث بعد ذلك؟ هل عرفت خطيبتك بالأمر؟ وهل قمتما بالإبلاغ عنه؟

– لقد تفاجأت سوسن بذلك حسبما أذكر، بل كاد أن يُغمى عليها، لكننا تجاهلنا هذا الخطاب باعتباره مزحة سخيفة تريد التفريق بيننا، وقمت بتمزيقه بكل بساطة!!

– هل تعتقد أنهم جماعة من الارهابيين مثلاً، أو فرقة متطرفة من ذوي الفكر المتشدد؟

– لم أُعِر الأمر اهتماماً كبيراً وقتها، ولكن أما وقد ذكرتَ ذلك؛ فمن يدري… ربما!

انتهت المحادثة، ولم تنتهي تساؤلات رامز وخواطره:

– عرب … متدينون… كل شيء متوقع منهم!!

وتنهد بحرقة وهو يتذكر:

“والدك رجل عربي…”

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 49

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

أنهى عامر توقيع كافة الاوراق المطلوب منه توقيعها، ليباشر عمله صباح الغد في المستشفى، وكان على وشك المغادرة؛ عندما تقدم منه طبيب عربي حياه معرفاً بنفسه، رغم أن بطاقته الشخصية المعلقة على صدره تكاد تفي بالغرض:

– الطبيب سائد سمعان.. مرحبا بك..

فصافحه عامر بابتسامة ودودة:

– عامر عرفان.. تشرفت بمعرفتك..

فأطلق سائد ضحكة خفيفة، وشت عن روحه المرحة:

– سمعان وعرفان، يبدو أن هناك انسجام بين أسمائنا، رغم أن مظهرنا يبدو مختلفا بشكل كبير..

قال جملته الأخيرة، وهو يشير إلى لحية عامر.. فبادله الأخير الابتسام بقوله:

– الظواهر لا شيء أمام البواطن… فالقلوب السليمة هي الأهم من ذلك كله.. ونسأل الله أن يجعلنا جميعا من أهل هذه القلوب..

عندها قال سائد، وهو يغمز عامر بنظرة ذات معنى:

– أنت تتكلم مثل هدى تماماً، يبدو أنك ستنضم لفريق تلك الطبيبة المتزمتة.. من يدري.. ربما تكونان ثنائياً منسجماً في النهاية.. خاصة وأنها لم تعثر على فارس أحلامها بعد!

فقاطعه عامر بأدب:

– إنني متزوج..

فضحك سائد، وهو يربت على كتفيه بمرح:

– لا بأس.. إذا لم تعجبك فكرة الصداقة؛ فيمكنك اتخاذها زوجة ثانية، فهذا يوافق هواكم أكثر أيها المتدينون..

استاء عامر بشدة من ذلك الرجل، الذي يحاول أن يجعل من التدين لعبة مسلية، ويحاول صنع أحداثٍ لها على مزاجه!!!!

ولم يخفَ على سائد ملاحظة ذلك الانزعاج المرتسم بوضوح على وجه عامر، فقال ملاطفا:

– لا تأخذ الامور بجدية يا عامر.. ألا تحتمل المزاح يا رجل!

فنظر إليه عامر بنظرات جادة ذات معنى:

– هذا من الأمور الثلاثة التي لا تحتمل المزاح..

**

كانت هدى على وشك أخذ غفوة قصيرة- في غرفة الطبيبات المناوبات في المستشفى- عندما دخلت زميلتها “ليزا” بحماسة مفاجئة:

– لقد انضم إلينا طبيب عربي شاب، ويبدو أنه من النوع الذي حدثتِني عنه!!! لا أصدق هذا… لقد جاء فعلا.. لقد أحضره الله يا هدى… لقد أحضره الله بلا شك!!!

ورغم النعاس الذي كان يسيطر على هدى قبل لحظات، إلا أنه تبخر تماماً مع تلك الكلمات المباغتة، لا سيما وهي تسمع ليزا تهتف باسم “الله” لأول مرة على ذلك النحو!

شعرت بأن ليزا تكاد تطير من الانفعال، دون أن تستوعب ما الذي حدث بالضبط!! حتى أدركت أخيراً ما ترمي إليه، بعد أن تذكرت آخر حوار دار بينهما في عطلة الاسبوع الماضي!!

عندها…شعرت بأن وجهها يتلون بالتناوب بين الاصفرار والاحمرار!!! دون أن تحدد الغلبة لمن في النهاية!

لم تتخيل أن تجري الأمور على هذا الشكل أمام ليزا!! فرغم أنها كانت قد أخذت عهداً على نفسها أن لا تتحدث عن الاسلام بلسانها في مكان العمل، إلا أن ليزا أجبرتها على ذلك أخيراً، فكان لا بد لها من الخروج معها في يوم عطلة…

أما قبل ذلك، فكانت تكتفي بتقديم نموذج عملي عن الاسلام، من خلال أخلاقها وتعاملها وانضباطها واتقانها لعملها، لدرجة أنها نجحت في أن تبرهن لرؤسائها بأن أدائها للصلاة لا يؤثر على أدائها لواجباتها في المستشفى على أكمل وجه، بل إنه يحسن من فاعلية هذا الأداء، حتى أن المشرف المباشر على تدريبها أعجبته الفكرة، ورأى أنها أشبه ما تكون برياضة روحية، تزوّد الانسان بطاقة ايجابية! فكان يقترح على من يصيبه الخمول والارهاق من طلبته؛ ممارسة هذه الرياضة، متخذا من هدى قدوة في ذلك!! غير أن ليزا- زميلة هدى في سنوات الاختصاص الطبي- أثار اهتمامها بشكل أكبر؛ تحفظ هدى في تعاملها مع الرجال، إضافة لحجابها الذي تراه خسارة حقيقية لهذه الشابة، والتي يمكن أن تكون بدونه في عداد الحسناوات الفاتنات!!! والادهى والامر من ذلك برأيها؛ أنها تجاوزت الخامسة والعشرين من عمرها، أو ربما شارفت على الثلاثين وأكثر؛ دون أن يكون لها حبيب أو حتى صديق واحد على الأقل!! وليتها بعد ذلك كله سيدة متزوجة!!!!!!! تلك الأسباب كلها مجتمعة؛ جعلت هدى بالنسبة لليزا حالة- بل ظاهرة- تستحق الدراسة!!!! وكان سؤالها الأول الذي تبادر إلى ذهنها:

– هل الاسلام يحرم المرأة من السعادة!!!! وإذا كان كذلك؛ فما الذي يُجبر هدى على التمسك به حتى الآن!!!

خاصة وأنها رأت سائد – الطبيب العربي والمسلم الوحيد في هذا المستشفى- يتصرف مثل بقية رجال بلدها بحرية تامة، بل إنه عرض عليها شخصيا أن تخرج معه في موعد!!! ولم تشعر بأنه يحرم نفسه من أي شيء يشتهيه!

وإذ ذاك؛ كان لا بد لهدى أن توضح لليزا الأمور بشكل أفضل، فاتفقتا على الخروج معا في أول عطلة لهما، وهذا ما حدث…

وبعد حديث مطوّل؛ حاولت فيه هدى أن تقدم صورة شاملة عن مقاصد الشريعة الاسلامية، والتي من خلالها يضمن الناس سعادتهم في الدارين، قالت ليزا بنفاد صبر:

– المهم ما الذي ستفعلينه إن لم تجدي رجلاً مسلماً ذو خُلُق ودين كما تقولين! فإذا كان “سائد” وهو مسلم مثلك، لا يمثل الصورة الصحيحة للرجل المسلم، ولا ترغبين بالارتباط بأمثاله، فهل ستبقين عزباء طوال حياتك!!!

همت هدى أن ترد عليها بعفوية “هذه ليست مشكلة بالنسبة لي”، لكنها تذكرت بأن إجاباتها محسوبة عليها، بصفتها المسلمة الوحيدة، التي تعرفها ليزا حتى الان، فقالت بروية:

– صحيح أن الزواج أمر هام في ديننا، بل إنه نصف الدين، ولكن المسلم لا يتعامل مع هذه القضية بشكل منفصل عن بقية القضايا، فديننا دين متكامل وشامل، ونحن نؤمن أن الله على كل شيء قدير، وأن ما يكتبه لنا هو الخير دائماً، كل ما علينا فعله، هو أن نحسن التعامل مع الخيارات المتاحة أمامنا، فإذا لم يقدّر الله للفتاة الزواج بالطريقة التي يرتضيها لها، والتي تضمن سعادتها، فهذا بلا شك.. لحكمة فيها خير لها، وهذا بالطبع لا يعني أن تصاب تلك الفتاة بالاحباط واليأس والاستسلام، بل إن بإمكانها الدعاء، والطلب من الله أن يسهل لها ما تتمنى من أي أمر، وهي توقن تماماً أنه على كل شيء قدير، بل إننا نحن العرب لدينا قناعة تامة مفادها؛ أن الزواج بالذات “قسمة ونصيب”، ولكننا وبصفتنا مسلمون، نؤمن أننا مخيّرون في قراراتنا، لذا علينا أن نحسن الاختيار من البداية..

وبالطبع.. وجدت هدى نفسها مضطرة لتوضيح معنى هاتين الكلمتين لليزا، التي لا زالت غير مقتنعة بما سمعته.. فقالت بضيق، وهي لا تزال مصرة على أن تعود إلى نقطة البداية:

– لا أفهم هذا المنطق حتى الآن! أنت في بلد غير بلدك والدين هنا غير دينك، وترفضين الارتباط برجل لا يحمل معتقدك! وقد أخبرتيني ذات مرة؛ أن لديك ظروف خاصة تمنعك من العودة إلى بلادك، فكيف ستتزوجين في النهاية!!!!!

فأجابتها هدى وهي تشعر بأنها تلف في دائرة مغلقة:

– ربما لا تفهمين ما أعنيه الآن، ولكنني على يقين تام بأن الله إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، وهو قادر على أن يُحضر الرجل المناسب في الوقت المناسب..

ومع تلك الجملة؛ انتبهت هدى من ذكريات تلك الجلسة مع ليزا- والتي مرت في ذهنها كلمح البصر- فخفق قلبها بشدة:

– هل تراه الرجل المناسب حقا!!!

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم