ملكة النجوم السعيدة

عن القصة:

لم تكن النجمة الزرقاء نجمة عادية، إذ سرعان ما احتلت مكانة خاصة استثنائية لدى “ملكة النجوم السعيدة”
وفي اليوم الذي كانت تخطط فيه الملكة لاطلاعها على سر خطير؛ حدث ما لم يكن بالحسبان!
فهل ستتمكن ملكة النجوم السعيدة من تجاوز ذلك؟!

التصنيف: خيال, نفسي

يُحكى أنه في أحد الكواكب البعيدة، كانت تعيش فتاة وحيدة، تُعرف بملكة النجوم السعيدة..

كانت سماء الكوكب مزدانة بالنجوم الملونة بجميع الألوان والأحجام، وكانت الملكة تحرص أشد الحرص على أن تنعم جميعها بالسعادة، وتبذل جهدها لأجل ذلك..

وذات يوم، لمعت نجمة زرقاء فريدة في سمائها على غير العادة، لتلقي عليها التحية بابتسامة تشع سعادة، قبل أن تقول:

– لم أرَ سماء مليئة بالنجوم كهذه السماء من قبل! تبدو مميزة جدا بشكل خاص، ألهذا سر يا ترى؟

أطرقت الملكة برأسها قليلا، في محاولة للتذكر، ثم أجابت:

– ربما كان لذلك سببا لكنني لا أذكره، المهم أن منظرها يبعث على السعادة وهذا يكفي..

قالت الملكة كلمتها الأخيرة، وهي ترفع ذراعيها عاليا وتفتح كفيها بابتهاج شديد، وكأنها تحتضن السماء، فعلقت النجمة الزرقاء:

– يعجبني تفاؤلك ونشاطك الدائم أيتها الملكة، فمنذ أن رأيتك وأنا معجبة بهمتك، أتمنى أن تظلي سعيدة هكذا دائما، ويشرفني أن أكون بصحبتك..

تأثرت الملكة بكلمات النجمة الزرقاء بشكل غريب، حتى ان دمعة نفرت من عينها، بل إنها لم تستطع الكلام لوهلة؛ فآثرت الصمت، فيما تابعت النجمة الزرقاء كلامها بمرح، وهي تلاحظ توهّج جواهر تاج الملكة:

– أنت حقا محظوظة بامتلاكك هذا التاج الجميل، فجواهره تبدو بهية، خاصة تلك الجوهرة الوردية!

فابتسمت الملكة:

– اعتبريه هدية لك إذا أحببت..

وهمّت الملكة برفع التاج عن رأسها، غير أن النجمة الزرقاء بادرتها بسرعة:

– لا يمكنني أخذ شيء كهذا أيتها الملكة، إنه كنزك الثمين، وما أنا إلا نجمة عادية!

غير أن الملكة أكدت بشدة:

– لستِ عادية أبدا! منذ فترة طويلة لم تظهر في سمائي نجمة مثلك! ولن أمانع أن أعطيك تاجي متى رغبتِ!

شعرت النجمة الزرقاء بالخجل الشديد، فأسرعت تغيّر دفة الحديث بقولها:

– يبدو أنك لم تغادري هذا الكوكب منذ فترة طويلة أيتها الملكة، فما رأيك أن تأتي معي في رحلة ترين فيها سماوات كواكب مختلفة؟

غير أن الملكة ردت بحزم:

– هذا مستحيل! فأنا ملكة هذا الكوكب، ويجب أن اضمن سعادة نجومي السعيدة دائما!

ثم استدركت بسرعة:

– ولكن بالطبع سيسعدني أن تخبريني عن تلك الكواكب وكأنني أراها، فما رأيك؟

وبالفعل انطلقت النجمة الزرقاء تحدث الملكة بكل شيء رأته خلال تجوالها في الفضاء الشاسع، وكانت الملكة تسعد بحديثها، وتأنس بقربها، حتى أنها بدأت ولأول مرة تتحدث عن نفسها، بدل الحديث عن نجومها فقط! ومع مرور الأيام؛ تأكدت الملكة أكثر وأكثر ان الشيء الذي كانت تفتقده طوال الوقت؛ قد وجدته أخيرا في النجمة الزرقاء، مما جعلها تحتل مكانة مميزة لديها، وكأنها جزء من روحها! فبدأت تطلعها على أخبار مملكتها، وأدق أسرارها، وتشاركها اتخاذ قراراتها وتهتم برأيها، ولم تكن النجمة الزرقاء لتبخل عليها بأي نصيحة أو مساعدة، مما ساعد في ازدهار الكوكب أكثر وأكثر..

وذات صباح، وبينما كانت الملكة تستعد لاطلاع النجمة الزرقاء على آخر أسرارها، لعلها تزيح حملا ثقيلا عن رأسها؛ تفاجأت باختفائها من سمائها!

في البداية لم تكترث للأمر كثيرا، فلا شك أن النجمة الزرقاء اشتاقت للتجول في الفضاء كسابق عهدها، وقد تعود لها بقصص جديدة كعادتها! غير أن انتظار الملكة طال كثيرا، وبدأ القلق ينتابها تدريجيا مع مرور الأيام، حتى انطفأت البهجة من عينيها، ولم تعد قادرة على أداء واجباتها، بل شعرت بالمرض يتسلل إلى جسدها، وهي تترقب ظهور النجمة الزرقاء في كل لحظة دون فائدة!

لو أنها فقط تعرف إلى أين ذهت؛ لربما غادرت مملكتها بحثا عنها، ولكن هيهات لها ذلك!!

كان الألم والحزن يعتصران فؤادها عصرا، ولم يكن هناك أحد يمكنه إدراك ما يحل بها، خاصة مع حرصها على الظهور بمظهر الملكة الواثقة أمام نجماتها السعيدة مهما كلفها الأمر، ومع ذلك.. لم يعد باستطاعتها رؤية سعادة النجوم حولها، فتنهدت:

– لماذا أشعر أن السماء أظلمت، وكأن النجمة الزرقاء وحدها من كانت تنيرها؟ ألهذه الدرجة خطفت بصري فلم أعد أرى غيرها، أم أن تلك هي الحقيقة فعلا؟ ليتني أذكر كيف كنت أعيش قبلها! بل هل كنت أعيش أصلا قبلها؟ لم أعد أدري!!

وإذ ذاك سمعت صوتا يصدر من قلبها:

– يبدو أنك نسيت النجمة الزهراء!

اقشعر جسد الملكة لوهلة، وهي تتلفت حولها بتوجس:

– من أنت؟

فجاءها الجواب بنبرة تنبعث من الأعماق:

– أنا ذكرياتك التي قمتِ بدفنها في أعماق نفسك السحيقة..

صمتت الملكة لبرهة من الزمن، لتتنهد بعدها بعمق قائلة:

– فهمت.. أنا لم انس النجمة الزهراء، فقد كانت صديقتي المقربة..

– هل هذا يعني أنها لم تعد كذلك؟

– ليس الأمر هكذا.. فأنا أسعد برؤيتها بين الحين والآخر بلا شك..

– وماذا إن غابت عنك لفترة طويلة؟

– أنا أقدر انشغالها بلا شك، فأنا أيضا قد لا أكون متفرغة لها دائما..

– ولماذا لا تفترضين الشيء نفسه مع النجمة الزرقاء؟

بوغتت الملكة بسماع هذا، فاستدركت بسرعة:

– النجمة الزرقاء مختلفة.. إنني اعتبرها جزء مني. لا يمكن مقارنة غيابها بنجمة أخرى!

– أليس هذا ما كنت تقولينه عن النجمة الزهراء في الماضي؟ يبدو أنك نسيت الأمر حقا!

صمتت الملكة مرة أخرى، وقد بدأت تشعر بصداع خفيف:

– لست متأكدة.. النجمة الزهراء لا زلت اعتبرها صديقتي، ولكن اهتماماتنا أصبحت مختلفة..

– ألا يمكن أن ينطبق الكلام نفسه على النجمة الزرقاء أيضا؟

– مستحيل! أنا والنجمة الزرقاء متشابهتان تماما، وهي أكثر من تشاركني الاهتمامات نفسها، إنها الوحيدة التي يمكنني أن ابوح لها بأفكاري الخاصة، التي بالكاد أواجه نفسي بها! لذلك لا يمكن مقارنتها بأحد!!

– يبدو أنك نسيت كلامك السابق عن النجمة الزهراء!

– لا أدري لم تحاولين اقحام النجمة الزهراء في الموضوع الآن!!

– الدهر كالدهر والايام واحدة…..

فأسرعت الملكة تقطع ذلك الحديث:

– لا.. لا يمكن للنجمة الزرقاء أن تكون مثلها، إنها مختلفة!!

– ألم تكن النجمة الزهراء مختلفة أيضا؟

– ربما كانت كذلك فعلا! لكن.. بالطبع ليست كالنجمة الزرقاء المتفردة..

– أنت حقا بدأت تنسين الماضي بسرعة! هل نسيت ماذا حدث مع النجمة الزهراء؟

– كان سوء فهم بسيط..

– ومع ذلك.. هل نسيت كم استغرقك الأمر حتى تعافيت منه؟ هل تريدين تكرار التجربة؟

– ولكن اليس من المبكر افتراض ذلك؟ لم يحدث أي سوء فهم بيني وبين النجمة الزرقاء، بل كنا متفاهمتين تماما..

– إذن لم أنت حزينة؟

– إنني قلقة عليها وحسب.. فلا أدري ما هو سبب اختفائها بعد، ولا أصدق أنها قد تختفي هكذا دون سبب.. أخشى أن يكون أصابها مكروها!

– وهل لو عرفت أنها بخير ستكونين سعيدة؟

– أجل بالطبع..

– حتى ولو لم تعد لسمائك مجددا؟

خيّم الصمت على الملكة كجبل ثقيل يكاد يقصم ظهرها، إلى أن تساءلت بصعوبة:

– ولم قد تفعل ذلك؟ السنا أصدقاء؟

– هذا ما تفترضينه أنت، ولكن ماذا عنها هي؟؟ قد لا تكوني أكثر من محطة عابرة في طريق رحلتها، فأنت بالنسبة لها ملكة هذا الكوكب، ولك شعبك الخاص! ربما لا تعلم بأهمية وجودها لك..

– هذا مستحيل.. فقد أخبرتها بذلك مرارا وتكرارا، إنها تدرك تماما مكانتها عندي، وتعرف إلى أي درجة قد افتقدها!

– حسنا.. لنفترض أنها تعلم، ومع ذلك لا تهتم.. فماذا ستفعلين؟

تحشرجت الحروف والكلمات في حلق الملكة، حتى شعرت بالاختناق، فيما تابعت تلك النبرة العميقة كلامها بحزم:

– هي ليست مجبرة أصلا أن تكوني محل اهتمامها، فهل ستقتلين نفسك من الهم؟

وبصعوبة خرجت الحروف ببطء شديد من جوف الملكة:

– ربما لو كنت قد أخبرتها بأنـ….

– بدون “لو”!! يجب أن تحذفي هذه القنبلة الموقوتة من قاموسك، فهي أخطر من السم الزعاف..

– وماذا بعد؟

– إن كنت تحبين النجمة الزرقاء حقا؛ فيفترض أن ذكراها الجميلة ستبقى في قلبك، فلا تجعليها عقبة في دربك! تابعي بكل تفاؤل حياتك، وتذكري أن النجوم السعيدة بانتظارك..

بدأت الغمامة تنقشع تدريجيا عن ذكريات الملكة، فهتفت بدهشة وهي ترى تلك اللوحة القديمة بوضوح:

– أجل تذكرت.. لقد اتخذت وقتها قرارا، وكان لا بد من تنفيذه.. السعادة قرار، وها أنا سأقرر مجددا.. مهما حدث.. يجب أن أكون سعيدة!

وأخيرا.. ابتسمت الملكة برضا، فيما انهمرت دموعها كسيل جارف، استحالت قطراته نجوم لامعة، رصعت سماءها بسعادة! وإذ ذاك سطعت من رأسها جوهرة كبيرة، بلون زرقة السماء الصافية، لم ير أحد أكبر منها ولا أروع؛ توسطت جواهر تاجها، طاغية على وجود بقية الجواهر بوهجها، وكأن التاج لا يحمل غيرها..

*********

تمت..

ملاحظة:
خطرت هذه الفكرة ببالي على غرار قصة الامير الصغير على الاغلب! وأيا ما كان السبب، فأرجو أن تحمل في طياتها بلسما شافيا، وسعادة لكل قلب.. ^^
فإذا رايتم النجوم في السماء، فاذكرونا بصالح الدعاء، ونسأل الله أن يرزقنا جميعا عيش السعداء..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

ضربة حظ أم ضربة ملاكم؟!!

عن القصة:

لطالما وجدنا انفسنا غارقين في ادنى مستويات اليأس؛ عاجزين امام صدمات الحياة ولكماتها المباغتة، غير ان الموازين قد تنقلب فجأة بطريقة لا تخطر لنا ببال، فهل هي ضربة حظ، ام ضربة ملاكم؟

التصنيف: قصة رمزية

– من الذي أطفأ الأنوار؟ بل كيف غربت الشمس فجأة!!

نطقت تلك الكلمات بحشرجة مخنوقة لم تتجاوز حلقها؛ ظلمة حالكة هبطت عليها؛ لتغرقها بسوادها القاتم، حتى أطبقت على أنفاسها، دون أن تترك لها بصيص أمل للنجاة!

وبقدر عتمة تلك الظلمة؛ سطع نقيضه ببريق وهّاج مفاجئ، كاد أن يخطف بصرها، فلم تنتبه لتلك الاسطوانة الحديدية الصلبة المندفعة نحوها بكل اصرار ،على شكل كيس ملاكمة قرر الانتقام أخيرا من جميع ملاكمي العالم عبر التاريخ فجأة! كل شيء كان يحدث فجأة.. الشيء ونقيضه فجأة، فكيف لها أن تتدارك الأمر بسرعة فجأة!!

– إنها النهاية بلا شك!

غير أنه في اللحظة الأخيرة، والتي أوشكت فيها تلك الاسطوانة على تهشيم وجهها، لتحيله إلى عجينة بائسة مختلطة بالدماء؛ اندفعت يد قوية من خلفها لتصد الاسطوانة بقوة رهيبة أذهلتها، حتى أنها شكت في نفسها، إن كان ما تراه حقيقيا، أم أنها قد بدأت أولى مراحل الغيبوبة إثر الصدمة!

– لا بأس عليك.. أنت لستِ وحدك في هذه الحياة!

كانت تلك الكلمات كالبلسم الشافي لها بلا شك، غير أن قوة المفاجآت المتتالية؛ لم تسعفها في العثور على كلمات شكر مناسبة!

وبينما كانت غارقة في صمتها، علّها تعثر على شيء تقوله؛ سمعت الصوت محذرا:

– انتبهي.. عليك أن تكوني أكثر حذرا الآن، فهذه الاسطوانة ستعود مرة أخرى ولكن بقوة أكبر، إنه قانون كيس الملاكمة المعروف، والذي يخضع لأحد أكثر قوانين الفيزياء صرامة!! أخشى أن يدي لن تكون كافية هذه المرة!

عندها.. انفرجت شفتاها عن ابتسامة امتنان عميقة، لتخرج كلماتها من حلقها بصوت مسموع أخيرا، وهي تشد على قبضتها بقوة:

– لا بأس.. فهذه المرة ستكون هناك يدان باستقبالها، لتدفعانها بقوة أكبر!

ساد صمت عميق، قبل أن يتكلم الصوت من جديد بنبرة ذات مغزى:

– ولكن هذا يعني أن ضربتها التالية ستكون أقوى وأقوى؛ فمن أين لنا بيد ثالثة عندها؟

فابتسمت وقد أدركت فحوى ذلك السؤال:

– إما أن تظهر لنا اليد الثالثة كما ظهرت يدك فجأة، او أننا سنكون معا أكثر قوة، فالله لم يخلق الناس للناس عبثا، أليس هذا هو فن التعامل مع لكمات الحياة؟!!

***

انتهت

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ)
(رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا)
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الرجل العظيم

عن القصة:

“شاب أسمه #هوتارو فى الـ 20 من عمره يحب فتاه أسمها #هينامى, وقام بخطبتها وكان يحبها حباً شديداً وبعد ان حددوا موعد الزواج، فجأه وصله خبر ان بعض اللصوص قامو باختطاف حبيبته .. ويبدأ هو وقتها رحلته بالبحث عن حبيبته من بلد لآخرى الخ…”

كان ذلك هو نص “★ المسابقه عن صنع قصه رومانسيه★” التي تم طرحها في إحدى مجموعات الأنمي الكبرى عام 2015، وكان من شروطها ان يكون “عدد الشخصيات التى بالقصه من 2 او 3 شخصيات كحد أقصى، ويكون افضل لو لم تكن القصه طويله كثيراً ” بناء على ذلك، وانطلاقا من الاعتقاد الراسخ بأن بامكاننا ادراج ثقافتنا العربية الاسلامية في مجال الأنمي، بما يوافق الذوق السائد للشباب؛ تم اعداد هذه القصة لتكون ردا على كل من يظن أنه لن يكون بامكاننا صناعة قصص أنمي من وحي ثقافتنا، أو أن ثقافتنا العربية قد تقيّد ابداعنا، او ستكون عائقا امامنا! وهكذا جاءت هذه القصة لتكون مثالا عمليا يقطع الشك باليقين، فتفضلوا لقراءة قصة: “الرجل العظيم”!

التصنيف: رومانسي، أكشن

أخذت السفينة تبتعد تدريجيا عن الميناء، فيما ازدحم المسافرون على واجهة السفينة المقابلة له؛ يلوحون لأهلهم وأصدقائهم في مشهد مثير، رغم كثرة تكراره!!

غير أن شاب واحد فقط وقف على الجهة الاخرى، يحدق في الافق البعيد، بعينين يشوبهما الشوق والحنين، لم يشعر بمضي الوقت وهو يقف على حالته تلك، كتمثال نُحت ليؤدي دوره في ذلك المكان، فلم ينتبه إلى صوت الربان وهو يعطي تعليماته، فقد كان غارقا تماما في عالم آخر.. عالم لم يستطع معه الشعور بما حوله، ولا مشاهدة أسراب النورس المحلقة فوقه، عوضا عن سماع أصواتها..

غير أن لفحة باردة من نسيم البحر، أثارت قشعريرة في جسده، وهي تلامس وجهه برقة، ذكرته بها، فأطلق تنهيدة طويلة:

– لقد بدأت الرحلة إذن! هينامي.. انتظريني وكوني بخير.. فأنا قادم..

وترقرقت عبرة في عينه، أثارتها أمواج من الذكريات اجتاحت مخيلته، عادت به إلى ذلك اليوم.. اليوم الذي رآها فيه أول مرة، فلم يعد يرى غيرها..

كان آنذاك فتى هادئا وخجولا في المرحلة الثانوية، يقضي معظم وقته وحيدا، حتى في أوقات الاستراحة، إذ كان يفضل الجلوس تحت شجرة لتناول شطريرته بعيدا عن ازعاج الطلبة، حتى جاء ذلك اليوم الذي لمح فيه تلك الفتاة الفاتنة، وهي تحاول التملص بلباقة من شاب حاول التقرب منها، لتنضم سريعا إلى صديقاتها، متخذة منهن درعا واقيا لها! كانت تلك هي المرة الاولى التي عرف بوجودها في مدرسته، كانت فتاة جميلة، بل فائقة الجمال، ذات شخصية آسرة ولطيفة، ورغم ذلك استطاعت أن ترسم حولها حدودا صارمة منعت المنحرفين من الاقتراب منها! لم يكن يعرف عن طبيعة ذلك الشيء الذي تحرك في قلبه تجاهها، غير أنه لم يجرؤ ولو لمرة واحدة على لفت نظرها لوجوده، ولو بحديث عابر، وآثر مراقبتها بصمت حتى بات يحفظ تحركاتها عن ظهر قلب، ولم يكن شيء يجلب له السعادة، أكثر من أن يوافق تنبؤه بتصرفاتها بما يصدر عنها فعلا، ومع ذلك بقي على مسافة كافية منها، فيما ازداد حبه لها بصمت مكبوت.. لم يدرك طبيعة ذلك الحب حتى جاء اليوم الذي سمع عددا من الطلبة في صفه يتحدثون عنها وعن الطريقة التي تمكنهم الوصول إليها خاصة وانها لم تواعد أحدا بعد، مما أشعره بغضب شديد وكأنهم يتحدثون عن ملكه الشخصي، وقتها همّ بافتعال شجار عنيف معهم لولا دخول المعلم!

عرف أنها تصغره بعام مما زاد من ألمه، إذ كان على وشك التخرج، فيما ستبقي هي سنة أخرى بعده، كان يائسا جدا ومحبطا إذ لم يجد طريقة تناسبه في الوصول إليها، لدرجة أنه بدأ بالتفكير في الاعتذار عن دخول الاختبارات أو التعمد في إهمالها ليتمكن من إعادة السنة، لولا خشيته من أن يزيد هذا من الفجوة بينهما، لا سيما وأنها فتاة مجتهدة، ولن يرضيها بالتأكيد الارتباط بفتى فاشل! كان ذلك هو الدافع الوحيد له ليتقدم نحو الامام، إلى أن حدث ما لم يكن بحسبانه، عندما ذهب لمقابلة المدير بشأن مشكلة حدثت في أوراق تخرجه، وقد فقد الامل تماما من الوصول الى الفتاة الوحيدة التي ملكت عليه فؤاده، فإذا به يراها أمامه وجها لوجه هناك!! شعر وقتها بارتباك مفاجيء كاد أن يفقده توازنه، وهم بالتراجع إلى الخلف وهو يشعر بحرج شديد إذ لم يكن يعلم أن لدى المدير زائرا آخر، غير أنه فوجيء به يناديه:

– هوتارو.. لقد جئت في وقتك يا بني..

والتفت إلى الفتاة الواقفة أمامه بأدب:

– هينامي، هذا من أفضل الطلبة في المدرسة وسيساعدك بالتأكيد على اختيار المراجع التي ستفيدك في السنة الاخيرة..

كانت تلك هي الهبة السماوية التي لم يحلم هوتارو بها أبدا، ولم يدر كيف استطاع تجاوز حرجه الشديد خلال تلك الفترة، حتى تمكن من خطبتها رسميا..

أفاق هوتارو من سيل ذكرياته على الحقيقة المرة التي يواجهها الآن! فقبض يده بشدة وهو يحترق ألما كلما تخيل ما حدث:

– لماذا هانيمي بالذات! لماذا؟؟؟؟

لقد مر أسبوع على ذلك الحادث الذي لم يستطع تصديقه بسهولة، فبعد أن حددا موعد الزفاف، هرع إلى منزلها بابتهاج شديد ليبشرها بنتيجة اختباراته الجامعية لهذه السنة، والتي أهلته للحصول على وظيفة بدوام جزئي قبل تخرجه، غير أنه فوجيء بمظهر والدتها الباكي، وهي تسوق له ذلك الخبر الصادم!!

لقد اختفت هانيمي، وعلى الأغلب أن ذلك كان اختطافا، فقد عثر أحد معارفها على بعض حاجياتها ملقاة على الارض، فيما تحدث بعض الاطفال عن رؤيتهم لرجلين أجبرا فتاة شابة على الذهب معهما!!

خرج وقتها كالمسعور يجري في الشوارع على غير هدى، وهو ينادي باسمها في كل مكان، فيما سُددت نحوه النظرات المتجهمة المستهجنة، بين مشفق ومستنكر، حتى سقط من التعب ينتحب نحيبا يائسا دون أن يدري ما الذي عليه فعله!

مرت أيام عصيبة، حاول خلالها التماسك واستعادة توازنه؛ ليستعيد حبيبته، فيما تولى والدها تبليغ السلطات والمسؤولين في البلاد عن تلك الحادثة..

أحكم هوتارو قبضته على تلك اللفافة في جيبه، وهو يحدق في البحر الممتد أمامه، مسترجعا تلك الكلمات التي ألقاها المحقق الخاص في إذنه:

– انها عصابة لها أهداف منحرفة وقد بدأت نشاطاتها بالانتشار في الاونة الاخيرة، وأظنهم سيتجهون الان نحو هذا الهدف لتسليم بضاعتهم..

وأشار بأصبعه على نقطة محددة فوق الخريطة الممتدة أمامه..

شعر هوتارو بالدم يغلي في عروقه لسماع تلك العبارة، وتلك الكلمة تحديدا!! فصرخ في وجهه بغضب:

– هينامي ليست بضاعة!! سحقا لاولئك الاوغاد سحقا لهم.. سحقا..

أخذ يردد تلك الكلمة وهو يضرب بقبضة يده اليسرى على حافة السفينة بقهر شديد، وقد استعاد كافة انفعالاته المتعلقة بذلك الموقف، وكأنه يعيشه مرة أخرى..

مرت أيامٌ عصيبة؛ حاول فيها هاتوري جاهدا السيطرة على نفسه، والتركيز على هدفه خلال تلك الرحلة الطويلة على ظهر السفينة، فانشغل بدراسة تلك اللفافة جيدا، والتي بين له فيها المحقق طبيعة ذلك المكان المجهول الذي سيزوره لأول مرة في حياته! إضافة إلى محاولته الجاهدة اتقان لغة تلك البلاد، عن طريق تلك الكتب التي ناوله إياها والد هينامي في اللحظة الاخيرة، فرغم أنه لم يخبر والدا هينامي بعزمه على السفر، إلا أنه فوجيء بوالدها يستوقفه قبل صعوده الى السفينة:

– ما الذي ستفعله وحدك يا هاتوري!! أرجوك يا بني لا تقدم على تصرف متهور، فالسلطات العليا ستتولى هذه القضية!

غير أن هوتارو أصر على موقفه:

– لا يمكنني الوقوف مكتوف اليدين بانتظارهم، سأفعل أي شيء من أجل هينامي، فثق بي أرجوك..

عندها ابتسم والدها وهو يقدم له عدة كتب:

– كنت أعلم أنك ستقول هذا، لذا أحضرت لك هذه الكتب لعلها تساعدك على تعلم لغة تلك البلاد..

***

استقرت السفينة أخيرا في ميناء تلك البلاد، وبدأ هوتارو رحلة البحث عن حبيبته دون أن يمتلك خطة واضحة المعالم لذلك، فالمكان كان غريبا جدا بالنسبة له، رغم جميع التوضيحات التي بينها المحقق في اللفافة، هذا إضافة إلى كونها بلاد واسعة مكتظة بالناس ذووي اللباس الغريب، فكان أشبه بالابرة الضائعة وسط كومة قش!

كان حب هينامي الجامح في قلبه، هو دافعه الوحيد للاستمرار في البحث عنها، فمضى في طريقه يحاول التماس الاخبار عن طريق المقاهي والمحلات، لعله يجد طرف خيط يوصله إلى مقر العصابة، فيما أخذت الايام والليالي تمضي تباعا، دون أن يصل إلى نتيجة مرضية! حتى أنهك التعب جسده، وبدأ اليأس يتسلل إلى نفسه، والقهر الشديد يعمل في قلبه عمل الخنجر، وهو يتذكر آخر تلك اللحظات السعيدة التي أمضاها مع هينامي، فيما بقيت كلماتها العذبة تتردد في أذنه:

– كم أنا سعيدة.. أخيرا سنتمكن من العيش معا تحت سقف واحد.. أحبك هوتارو..

ولم تعد قدما هوتارو تحتملان الصمود أكثر تحت ثقل همومه، وهو يرى ما آلت إليه حالهما، فلم يشعر بنفسه وهو يهوي على الارض بعد أن فقد وعيه..

***

احتاج هوتارو لعدة لحظات- بعد أن فتح عينيه- ليتذكر ما حدث معه! لقد كان آخر عهده بنفسه في أحد الشوارع، فما الذي أتى به هنا إلى هذا الفراش الوثير!!

 غير أن صوت أتى من جانبه الأيمن، لم يتركه في حيرته كثيرا، وهنو يقول له بكلمات تمكن من فهمها بصعوبة:

– الحمد لله على سلامتك، لقد كنت فاقد الوعي عندما وجدتك ممددا في الطريق، وأظنك غريب عن هذه المنطقة..

التفت هوتارو إلى محدثه، ليجد أمامه شابا وسيما قد أشرق وجهه بابتسامة حانية، رغم قوة جسده التي استطاع تمييزها من خلال عضلات ذراعيه،

ورغم شعوره بالارتياح نحوه، إلا أنه آثر الحذر مع هذا الغريب، والتزم الصمت لفترة طويلة، غير أن ذلك الشاب بادره بقوله:

– لقد كنت تهذي باسم هينامي طوال الوقت، وأظنها زوجتك التي تبحث عنها، أليس كذلك؟

فوجيء هوتارو من تلك الملاحظة السريعة، غير أن الشاب طمأنه بسرعة:

– يندر وجود الغرباء في هذا المكان، وقد خمنت من طبيعة حالتك التي وجدتك عليها، أنك كنت تبحث عن أحد ما، وعندما سمعتك تردد ذلك الاسم كثيرا خلال نومك، افترضت أنها زوجتك، هذا كل ما في الامر..

ولم ينتظر الشاب سماع رده، بل نهض من مكانه، ليحضر له طبق طعام ساخن بقوله:

– لقد طلبتُ من الطبيب المجيء للاطمئنان عليك، وقد أخبرني بأنك مرهق فقط وبحاجة إلى الراحة وتناول الطعام الجيد، وقد أعددتُ لك هذا الطبق بنفسي..

وأمام صمت هوتارو، استدرك الشاب نفسه:

– أرجو المعذرة، لقد افترضتُ جدلا أنك تفهم لغتي أليس كذلك؟

عندها أومأ هوتارو برأسه مجيبا بكلمة واحدة:

– أجل

فابتسم الشاب:

 – هذا جيد، وإلا لكنت مضطرا لمخاطبتك بلغتك رغم أنني لا أتقنها كثيرا

عندها سأله هوتارو بتعجب:

– وهل تعرف ما هي لغتي؟

فأجابه الشاب بابتسامة مرحة:

– بالتأكيد أعرف، فلدي خبرة كبيرة في تمييز الوجوه وبلادها، فهذا مجال عملي..

واستدرك قائلا بدعابة:

– بالمناسبة، ربما من الأفضل أن نبدأ حفل التعارف بيننا، ما رأيك يا صديقي؟

عندها انفرجت شفتا هوتارو عن ابتسامة صغيرة، شجعت الشاب على متابعة كلامه:

– سأعرفك بنفسي أولا، كما ترى فأنا أعيش في هذه الشقة الصغيرة لوحدي، إذ أن أهلي يقيمون في مدينة أخرى، وقد انتقلت مؤخرا بسبب طبيعة عملي، إذ أنني أعمل في مجال الترجمة وتداول العملات

فعلق هوتارو:

– هكذا إذن، هذا يفسر معرفتك بلغتي..

فابتسم الشاب مؤكدا:

– بالضبط..

ثم تابع كلامه بمرح:

– أظن أن علي أن أبدأ بالاسم أولا أليس كذلك! سأفقد أي وظيفة أتقدم إليها إن بدأت بالتعرييف بنفسي هكذا!!

فضحك هوتارو وقد بدأ يألف الشاب، وكأنه صديق قديم التقاه بعد فترة غياب طويلة، فيما تابع الشاب كلامه:

– اسمي محمد، وهو اسم مألوف جدا في بلادنا..

فأكد هوتارو كلامه:

– أجل لقد لاحظت ذلك فعلا، لقد سمعت هذا الاسم كثيرا منذ وصولي إلى هنا..

فقال محمد:

– هذا لأنه اسم رجل عظيم جدا نؤمن برسالته، غير أن القلة هم من يحفظون لهذا الاسم مكانته..

وتابع وهو يغمزه بعينه:

– وأنا أحاول أن أكون منهم..

كانت تلك البداية المشجعة، كفيلة بجعل هوتارو يتخفف قليلا من همومه، فانفرجت اساريره أخيرا، ليخبر محمد بكامل قصته، ولم يكد ينهي كلامه حتى لاحظ تغيرا كبيرا في وجه محمد، والذي استحال إلى اللون الاحمر من شدة الغضب، مما أربك هوتارو قليلا، وأثار حفيظته، فشعر ببعض القلق، وهو يحدث نفسه:

– ماذا لو كان هذا الشاب متآمرا معهم، أو فردا من تلك العصابة!!

غير أن محمد سرعان ما انتبه لذلك، فطمأنه بقوله:

– لا تقلق، فقد جئت في وقتك تماما، هذا بالفعل من حسن تقدير الله في الامور

لم يفهم هوتارو المقصود بالجملة الاخيرة، غير أن محمد تابع كلامه موضحا:

– اسمعني جيدا، فهذا سر لم أبح به لأحد من قبل.. منذ فترة وأنا أتتبع عصابة شعرتُ بنشاطاتها الخطيرة التي بدأتُ ألاحظها في بلادنا، فهي تسعى لإغواء الشباب والرجال، من أجل نهب أموالهم، فبدؤوا بإحضار الفاتنات من كل مكان، لاستغلالهن في هذا العمل الشنيع، إنها جريمة أخلاقية من كافة الجوانب لا يمكن السكوت عنها..

لم يستطع هوتارو احتمال سماع ذلك فصرخ وهو ينتفض بغضب:

– مجرمون، أوغاد، لن أسمح لهم بمس شعرة من هينامي..

فهدأه محمد بقوله:

– سأبذل جهدي لمساعدتك، ومن خلال تحرياتي السابقة عرفت أن من المشتركين في هذه الجريمة، رجل صاحب نفوذ كبير في البلاد، مما يعني صعوبة الوصول إليهم، ولكنني بالامس فقط، تمكنت من العثور على مخبئهم الذي يستقبلون به ضحاياهم الجدد..

فنهض هوتارو وقد شعر بطاقة نارية تجري في عروقه:

– خذني إلى هناك بسرعة.. أرجوك

***

 مرت اللحظات بصعوبة شديدة على نفس هوتارو، وهو يتخيل في كل لحظة ما يمكن أن يحل بهينامي، فيما كان يراقب ذلك المنزل بصمت مع محمد، والذي أرشده إلى أفضل خطة يمكن اتباعها من أجل النجاة بخطيبته…

وأخيرا استعد هوتارو لتفيذ دوره بعد أن أعطاه محمد شارة الانطلاق، فالتقط نفسا عميقا، ومشى بخطوات ثابتة نحو الباب الكبير، بلباسه الأنيق، وهو يحمل حقيبة سوداء فاخرة، من النوعية نفسها التي يحملها كبار رجال الأعمال عادة. وقف قليلا يراجع دوره بحذر؛ قبل أن يقرع الجرس، ثم انتظر لحظة أو لحظتين، حتى سمع صوت جلبة عند الباب، ليفتحه له خادم استقبال في لباس رسمي من الدرجة الاولى، وبعد أن رمقه الخادم بنظرة فاحصة سريعة، لم يشك فيها لحظة واحدة أنه رجل أعمال من الطراز الأول، سأله بأدب:

– عفوا.. هل من خدمة يا سيدي؟

تظاهر هوتارو بأنه لم يفهم لغة الرجل، فأبدى استنكارا واضحا وهو يتابع بلغته:

– أخشى أنني أخطأتُ العنوان، فقد أخبرني صديقي سيتيكاوا أن لديكم فتاة حضرت مؤخرا، وسترضيني جدا خلال فترة اقامتي القصيرة في هذه البلدة..

لم يكد الخادم يسمع اسم (سيتيكاوا) حتى أبدى اهتماما واضحا بالزائر، وهو يدعوه إلى الداخل معتذرا بلطف، وبلغة هوتارو نفسها:

– أرجو المعذرة، لم أكن أعلم أنك صديق السيد سيتيكاوا شخصيا..

قال الخادم جملته وهو يقوده إلى صالة استقبال ذات أثاث فاره جدا، وبعد أن استقر هوتارو في مقعد وثير، انحنى الخادم نحوه بأدب قبل أن يسرع بالذهاب قائلا:

– أرجو أن تمنحني بضع دقائق سيدي ريثما أعود..

ومع اختفاء الخادم؛ تنفس هوتارو الصعداء، محدثا نفسه:

– من الجيد أن معلومات محمد كانت دقيقة بهذا الشأن، أرجو أن تمر بقية الامور على خير..

أما محمد الذي كان يراقب المنزل عن كثب، تحسبا لأي طاريء، فقد أثارت انتباهه، أصواتٌ هامسة على مقربة منه، فحبس أنفاسه، وسكن في مكانه بين أغصان الشجرة الملتفة، التي اتخذ منها مكمنا له، وحاول ارخاء سمعه قدر المستطاع، حتى تمكن من تمييز بعض الكلمات بلغة اجنبية أخرى غير لغة هوتارو، فحدث نفسه، وقد استشاط غيظا، وهو يتذكر تلك اللغة::

– توقعت أن تكون عصابة متعددة الاجناس، ولكن كيف لم يخطر ببالي أن يكون هؤلاء الأوغاد ضمنهم!! ما الذي أتى بهم إلى بلادنا!! كان علي أن أعرف أن لهم يدا في هذا الأمر البغيض!!!

وحاول التركيز أكثر فأكثر، إلى أن استطاع تمييز صوتين لرجلين يدور بينهما حوار سري للغاية على ما يبدو، كان أحدهما يقول لصاحبه:

– أنت تعلم أن المال ليس هدفا رئيسا لدى قيادتنا العليا؛ لذا لا بأس من زيادة حصتنا منه؛ ما دمنا نحقق هدفهم الأساسي، ولن يلاحظ أحد أبدا عمليات الاختلاس هذه؛ فسنجريها بطريقة منظمة، وستساعدني – بخبرتك- على ذلك..

فرد عليه الاخر:

– ولكن إن كُشِف أمرنا فسنفقد ثقتهم إلى الابد، وربما نلاقي ما هو أسوأ بكثير!

فأجابه بنفاد صبر:

– لا تكن أحمقا، فنحن لسنا وحدنا في المنظمة على أية حال، وهدف القيادة اكبر بكثير من مجرد الحصول على المال كما أخبرتك، ولا أظنك تجهل حقيقة ذلك بالفعل! هل نسيت آخر لقاء لنا معهم؟ لقد كانوا سعداء جدا بالنتائج التي حصدناها، فالعديد من شباب هذه البلاد باتوا منغمسين تماما في بحار الرذيلة، ولن يعودوا للتفكير مجددا باستعادة أمجادهم السابقة، مما يعني زيادة فرص دولتنا في بسط سيطرتها عليهم، حتى لا تقوم لهم قائمة أبدا بعد ذلك..

بدا على الرجل الآخرالاقتناع بكلام رفيقه فعلا، غير أنه قال بعد فترة صمت:

– ولكن ماذا عن السيد ضرار؟ لا أظنه يقاسمهم هذه الاهداف، لا سيما وأن هذه البلاد بلاده!

فطمأنه رفيقه:

– لا تُشغل بالك بهذا الرجل الدنيء، فرغم أنه وزير كبير في هذه البلاد، إلا أن شراء سكوته- إن كَشَف أمرنا- لن يكون صعبا! وفي أسوأ الاحوال قد نضطر لرشوته ببعض المال، فهذا هو أكبر همه!

كان محمد يستمع لهما بصمت قاتل، وهو يحاول جاهدا كبت أنفاسه الغاضبة من الانفجار، غير أن بعض الاصوات المحتدة التي صدرت من جهة المنزل، أعادته إلى رشده، وقد أدرك ما حدث:

– لا شك أن هوتارو فقد السيطرة على نفسه في اللحظة الأخيرة، ولا يمكنني أن الومه!

وبسرعة عزم أمره على التدخل، وهو يرى الرجلين يهرعان ناحية المنزل..

****

لم يستطع هوتارو السكوت أكثر، بعد أن أثار ذلك الرجل حفيظته، فبدلا من أن يحضر له هينامي حسب ما هو متوقع، وجد أمامه فتاة أخرى، أحضرها الخادم معه، فيما تابع الرجل كلامه قائلا:

– أرجو المعذرة، فحتى لو كنت صديق السيد سيتيكاوا المقرب، إلا أن تلك الفتاة التي وعدك بها؛ قد حُجزت لشخص ذا نفوذ كبير ولا يمكننا تجاوزه بأي حال أبدا، مما يعني أن تلك الفتاة لن تتمكن من قضاء الليالي القادمة معك، لذا يمكنك حجزها للاسبوع القادم، وأظن أن السيد سيتيكاوا سيتفهم ذلك بلا شك! ثم إن هذه الفتاة جيدة أيضا، وسترضيك بلا شك!

كان ذلك أكثر مما يحتمل هوتارو سماعه، فانفجر غاضبا، مسددا لكمة قوية بقبضته كادت أن تستقر في وجه الرجل أمامه، غير أنه تفاداها بمهارة فائقة، فيما كان هوتارو يصرخ بغضب:

– هينامي ليست للعبث أيها الأنذال، ولن يحلم أي وغد منكم بمس شعرة منها..

وبسرعة التف هوتارو على نفسه؛ ليعاود الانقضاض على ذلك الرجل، الذي أشار لخادمه ببعض التعليمات، فانسل خارجا بسرعة، فيما اشتبك هوتارو مع الرجل الذي انضم له رجلين آخرين، وقد بدا كوحش هائج يستحيل ترويضه!

في ذلك الوقت لم يجد محمد بدا من التسلسل خلسة عبر أحد النوافذ، مستغلا تلك الجلبة في الأسفل التي أحدثها هوتارو، وأسرع نحو الطابق العلوي الذي خمن وجود هينامي فيه، وهو يدعو في سره أن يجدها بسرعة، رغم أنه لا يعرف شكلها! ولم يكن بحاجة للمزيد من التفكير، إذ لفت انتباهه رجلين يجريان بسرعة نحو غرفة محددة، قال أحدهما للآخر:

– هل أنت متأكد أن هذا هو مفتاح الغرفة؟ أخشى أن نتأخر في هذه الفتاة إلى المخبأ الاخر بسرعة، قبل أن يأتي أحد معاوني ذلك الزائر الغريب!

– اطمأن سيكون كل شيء على ما يرام، فالخادم دقيق جدا في تنفيذ مهامه، ولم يحدث أن أخطأ مرة واحدة من قبل

اختبأ محمد خلف أحد الزوايا بهدوء، منتظرا اللحظة المناسبة، حتى إذا ما دلف الرجلان عبر الباب، بعد فتحه بمفتاحه خاص، انقض عليها من الخلف بسرعة مباغتة، انقضاض الصقر على فريسته، دون أن يترك لهما فرصة التفكير بأدنى حركة للمقاومة، فعاجل الأول بضربة على رأسه أفقدته صوابه، اتبعها بركلة احترافية أسقطت الاخر أرضا، ليَسقط الرجلان فاقدي الوعي دون حراك، فيما انكمشت هينامي على نفسها في زاوية الغرفة، وقد هالها المشهد المفاجيء، وما أن وقعت عينا محمد عليها؛ حتى راعه جمالها الساحر لوهلة، غير أنه سرعان ما صرف بصره عنها، وهو يناولها رداءه الذي استخدمه للتخفي، قائلا لها بلغتها مطمئنا:

– آنسة هينامي، أرجو منك الالتحاف بهذا الرداء بسرعة، حتى نتمكن من الهرب من هنا، فخطيبك هوتارو بانتظارك..

لم تكد هينامي تسمع اسم هوتارو، حتى تهلل وجهها فرحا، فهتفت:

– هل جاء هوتارو هنا حقا! أين هو الان؟؟

غير أن محمد أدار لها ظهره قائلا:

– ستعرفين كل شيء لاحقا، فلا وقت لدينا الان، لذا أرجو منك أن تتمسكي بي جيدا، إذ أننا سنضطر للقفز من النافذة..

ودون تردد أسرعت هينامي لتنفيذ أمره، بعد أن سمعت صوت اقتراب خطوات مسرعة نحو الغرفة، فلفت ذراعيها حول رقبته من الخلف، بعد أن التحفت بردائه تماما حتى لم يعد يظهر منها شيء، فيما أسرع محمد بإحكام رباط حول وسطهما حتى بديا كجسد واحد، وهو يقول معتذرا:

– أرجو المعذرة فلا خيار آخر لدي، جميع المخارج ستكون محاصرة تماما، وهناك سبع رجال في هذا المنزل على الأقل، ولا مجال للمخاطرة..

ورغم الخوف الذي تسلل الى قلب هينامي؛ من رؤية ذلك الارتفاع تحت النافذة، إلا أن أن ثقة محمد بقدرته على فعلها، أشعرتها ببعض الطمأنينة، وفي اللحظة التي دلف فيها رجلين آخرين إلى الغرفة، كان محمد قد قفز من النافذة- دون أن يترك خلفه أدنى أثر- نحو غصن شجرة باسقة، يبعد عنه ثلاثة أمتار، والذي انحنى تحت وطأة ثقلهما المفاجيء، فانتقل منه إلى غصن آخر قبل أن ينكسر، في حركة متتالية لتوزيع الحمل، فيما كان يحاول التركيز على أفضل وضعية للهبوط، دون أن تتأذى هينمامي الملتصقة بظهره، والتي آثرت إغماض عينيها خلال تلك الوضعية الخطرة!

 وأخيرا تمكن محمد من الهبوط بسلام على قدميه، ليحل رباطه بهينامي، منطلقا معها في جري سريع، وهو يتخذ من الأشجار غطاء لهما، قبل أن يلحق بهما أحد..

أما هوتارو الذي دخل في اشتباك عنيف مع ثلاثة رجال دفعة واحدة، فقد كان على وشك السقوط أرضا أمام ضربة كادت تفقده صوابه، لولا دخول الخادم الذي صرخ معلنا:

– لقد اختفت الفتاة يا سيدي! واثنين من رجالنا فقدوا الوعي!!

فصرخ الرجل الذي بدى السيد هنا، بغضب شديد:

– إلا هذه!!!! كيف سمحتم بذلك أيها الحمقى! أين بقية الرجال؟؟؟؟

وهرع إلى الخارج بعد أن أعطى تعليماته بمحاصرة المكان، صائحا بالجميع:

– لا يمكن أن تكون قد ابتعدت كثيرا، إياكم وأن تسمحوا لها بالهرب، وإلا لقيتم حسابا عسيرا من السيد الكبير..

أما هوتارو الذي وقف مشدوها للحظات، يحاول استيعاب ما يجري، فقد  ارتكز إلى قطعة أثاث قبل أن يهوي على الأرض، إذ لم يكن ممن اعتاد الدخول في اشتباكات عنيفة مع الاخرين، ولم يكن يعرف كيف تدفقت في عروقه تلك القوة المفرطة، التي مكنته من مواجهة ثلاث رجال معا! التقط نفسا عميقا يحاول من خلاله استعادة بعض طاقته المستنزفة:

– لا شك أن محمد قد فعلها، أرجو أن تكوني بخير يا هينامي..

ولكن ماذا عليه أن يفعل الان! بالتاكيد عليه الخروج من هنا على الأقل!! لقد كان الاتفاق أن يعود هو بصحبة هينامي إلى منزل محمد، وهناك يقومان بتدبير بقية الامور، ولا شك أن محمد قد اصطحب هينامي إلى منزله الان إن نجح بالفرار، وعليه اللحاق بهما فورا..

كان ذلك هو ما دار بذهن هوتارو، وقبل أن يهم بالخروج من المنزل، اعترضه رجلان بابتسامة متشفية:

– هل تظن بأنك ستخرج من هنا بسهولة بعد كل ما حدث، عليك أن تدفع الثمن أولا أيها السيد المحترم!!

***

استطاع محمد مراوغة مطارديه، وعبور منطقة الخطر بصحبة هينامي بسلام، إلا أنه لم يتوقف أبدا، إلى أن دلف إلى منزله متنفسا الصعداء، فيما ارتمت هينامي على الأرض تلتقط أنفاسها اللاهثة بصعوبة، لكنها سرعان ما التفتت نحوه بعيون متسائلة:

– أين هوتارو؟؟؟؟

***

كان هوتارو قد استنفذ جهده كاملا، خلال محاولاته اليائسة لفك وثاقه المحكم، في تلك الغرفة المظلمة، فسكن في مكانه يلتقط أنفاسه المحطمة، ويستعرض ما حل به وبخطيبته التي أحبها من أعماق قلبه، وكان على وشك اتمام زواجه بها خلال أيام قليلة!! فتنهد بألم شديد، ومرارة البؤس تعتصر فؤاده:

– هل تمكن محمد من انقاذها فعلا!!

عندها لاحت أمامه صورة أسوأ بكثير من كل ما قد يخطر بباله، فهز رأسه بعنف يحاول طرد تلك الفكرة منه، إلا أن تلك الفكرة القاتلة أصرت على التمثل أمامه بإلحاح شديد، كخنجر مسموم اخترق قلبه:

 – ماذا لو.. لو فكّر محمد بهينامي!! إنه شاب يافع وقوي، ووسيم أيضا.. ماذا لو.. لو وجد فيها فتاته المنشودة، وهو يعلم أنني لن أتمكن من النجاة من بين يدي هؤلاء المجرمين!!!!! سيكون ذلك.. سيكون سهلا جدا بالنسبة له!!

إلا أن فكرة أخرى، أخذت تصارع تلك الأفكار باستماتة، وهو يحاول التمسك بها بيأس شديد:

– كلا.. لا يمكن لمحمد أن يفعلها أبدا، فهو يحمل اسم رجل عظيم كما أخبرني، ولا يمكن للرجل العظيم أن يخون من ائتمنه مهما حدث..

***

في ذلك الوقت كان محمد قد تمكن من تحديد وضع هوتارو، أثناء عودته لمراقبة المنزل بصمت، بعد أن طلب من هينامي انتظارهما في منزله ريثما يعودان، وكان قد طمئنها بقوله:

– هوتارو يبذل جهده من أجلك، وستجدين حقيبته في تلك الغرفة، فلا تقلقي.. قد نتأخر قليلا ولكننا بالتأكيد سنعود إن شاء الله، لذا تصرفي وكأنك في منزلك، ولا تقومي بالرد على أحد خلال فترة غيابنا..

وفي اللحظة المناسبة تماما، وخلال اقتياد الرجال لهوتارو نحو العربة لنقله إلى مكان آخر؛ باغتهم محمد بقنبلة دخانية، اربكتهم قليلا، مما أكسبه بعض الوقت لتنفيذ خطته المحكمة، والتي تعتمد بشكل كبير على الدقة وعنصر المفاجأة وسرعة التنفيذ، ولم يشعر هوتارو – الذي أعماه الدخان هو الآخر- إلا بيدين تحلان وثاقه بمهارة، لتقوده بسرعة بعد ذلك خارج المجموعة، وقبل أن يتمكن الرجال من استعادة رباطة جأشهم، وسط صراخهم وتهديدهم المتوعد، كان هوتارو قد اختفى تماما عن الانظار بصحبة محمد..

****

لم يصدق هوتارو عينيه وهو يرى هينامي أمامه، بعد تلك المحنة القاسية، وبينما غرق الاثنان في عناق طويل، تبلله الدموع، استدار محمد بتأثر شديد، لينسل خارج المنزل بهدوء، فقد كانت أمامه بعض الأمور الضرورية وعليه إنجازها بسرعة..

أخذ هوتارو يستمع باهتمام شديد لما روته له هينامي، حول ما لاقته خلال الأيام الماضية، وهو يشعر بالغيظ تارة من اولئك المجرمون، والألم تارة أخرى على فتاته الرقيقة، التي لم تعتد تلك المعاملة الوحشية، حتى إذا ما ذكرت له ما حدث معها ومع محمد، شعر بامتنان شديد نحو ذلك الشاب الشهم، خاصة وهي تعبر عن ذلك بقولها:

– لقد شعرت بأنه أخٌ حقيقي، بل لقد كان كذلك فعلا، لقد كان عفيفا لأبعد درجة، وهذا ما لم أجده في أي شاب آخر من قبل!!

  عندها انتبه هوتارو لغياب محمد، فالتفت نحو هينامي متسائلا:

– ترى أين ذهب؟؟

فهزت رأسها في حيرة:

– لا أدري، فأنا لا أعرف عنه أكثر مما حدثتك به!!

ولم يطل تساؤلهما كثيرا، إذ سرعان ما عاد محمد، وهو يحمل في إحدى يديه تذكرتي سفر، وفي اليد الأخرى سلة طعام بدى ساخنا وجاهزا للأكل، قائلا:

– أرجو المعذرة إن قطعت حديثكما، ولكن من الأفضل أن تغادرا هذه البلاد بسرعة، قبل أن يتمكن المجرمون من الوصول إليكما بطريقة أو بأخرى، وقد استطعت بفضل الله حجز تذكرتين لكما على متن السفينة التي ستغادر خلال ساعتين من الآن.. العربة جاهزة، فهل أنتما مستعدان للذهاب؟

عندها ترقرقت دمعات في عين هوتارو لم يتمكن من حبسها، وهو يشد على يد محمد بامتنان شديد:

– لا أعرف كيف سأشكرك يا صديقي، لذا أرجو أن تقبل مني على الأقل ثمن التذاكر، فهذا كثير جدا علي!

غير أن محمد غمزه باسما:

– ألم أخبرك بأنني أحمل اسم رجل عظيم!! ومن واجبي إكرام ضيفي، لذا لا داعي لشكري أبدا، بل أنا من عليه شكرك لإتاحتك هذه الفرصة لي..

***

صعد المسافرون، ورُفعت الالواح الخشبية، وانتشرت الأشرعة، وعلا صفير المدخنة، وهي تنفث أبخرتها منذرة بالرحيل، لتشق السفينة طريقها بعد ذلك، وتمخر عباب الماء..

 وقفت هينامي إلى جانب هوتارو، الذي ظل يحدق في نقطة محددة، بدأت تتلاشى عن ناظرية تديجيا مع ابتعاد السفينة، فوضعت يدها على كتفه:

– لا زلت شاردا يا هوتارو، فما الذي تفكر به يا عزيزي؟

فانتبه هوتارو إلى نفسه، والتفت إليها بابتسامة مُحِبة:

– كنت أفكر بطفلنا القادم..

فاحمرت وجنتا هينامي، وأسندت رأسها على كتفه بمحبة، فيما تابع هوتارو كلامه، وهو يحيط كتفيها بذراعه، مانعا شعرها المنسدل على ظهرها من التطاير مع لفحات النسيم العذبة:

– هل تمانعين يا حبيبتي في أن نطلق عليه اسم (محمد)؟

عندها رفعت هينامي رأسها تتأمله بدهشة، قبل أن تقول باسمة:

– هل تصدق أن هذه الفكرة قد خطرت ببالي فعلا، لولا أن الاسم سيبدو غريبا في بلادنا، ثم إننا لا نعرف الكثير عن هذا الشخص العظيم الذي اتخذه صديقك قدوة له!

فأجابها هوتارو:

– يكفي أننا التقينا برجلٍ عظيمٍ، يحاول السير على نهجه! وأريد لابننا أن يصبح رجلا عظيما..

وصمت هنيهة قبل أن يضيف:

– إن شاء الله..

فسألته هينامي بتعجب:

– ما الذي تعنيه هذه الجملة؟؟

فأجابها هوتارو وهو يتأمل أطلال الميناء أمامه:

– لا أدري، ولكن محمد كان يستخدمها كثيرا، وأظنها تجلب الحظ الجيد..

فأومأت هينامي برأسها موافقة:

– أجل تذكرت، لقد سمعته يقولها أيضا، إنها جملة تجلب الحظ الجيد بالتأكيد..

وقبل أن يضيف أي منهما كلمة أخرى، انتبها إلى عامل السفينة، الذي قدم نفسه لهما معتذرا بأدب:

– أنت السيد هوتارو أليس كذلك؟

فأومأ هوتارو برأسه إيجابا، فتابع العامل كلامه وهو يقدم له طردا مغلفا:

– لقد ترك أحدهم لك هذا قبل أن تغادر السفينة الميناء، وأرجو منك التوقيع على استلامه هنا لو سمحت..

 فتبادل هوتارو مع هينامي نظرات متسائلة، قبل أن ينفذ ما طلبه العامل منه، ثم قرأ بصوت مرتفع، ما كُتب على البطاقة الملصقة على المغلّف، لتسمعه هينامي:

” العزيزين هوتارو وهينامي..

أدعو الله أن يرزقكما الحياة السعيدة، في الدنيا والاخرة، وأهنئكما مقدما بزواجكما، راجيا أن تتقبلا هديتي لكما بهذه المناسبة، فهي تعني لي الكثير..

محمد “

وبلهفة شديدة أسرع هوتارو بفتح المغلف، ليظهر أمامه كتاب مترجم بلغته، تركزت عليه أنظاره مع هينامي، وهما يقرآن معا عنوان الكتاب:

سيرة الرجل العظيم، خاتم الأنبياء والمرسلين، وخير خلق الله أجمعين

محمد

صلى الله عليه وسلم

*******

وعلى قمة مرتفعة تطل على البحر، وقف محمد يتأمل مشهد السفينة العملاقة، وهي تتوارى خلف الأفق، بسعادة يشوبها الألم، لما آلت إليه حال بلاده، مستشعرا عِظَم المسؤولية الملقاة على عاتقه، في نشر الوعي بين شباب أمته، والتصدي لتلك المخططات الآثمة التي تستهدفهم، فدمعت عيناه، وردد قلبه:

– يارب.. لا حول ولا قوة لنا إلا بك، فاحفظ أمة حبيبك ونبيك سيدنا محمد من الشرور والفتن، ما ظهر منها وما بطن، وردنا إليك ردا جميلا، وارزقنا الهدى والتقى والعفاف والغنى، واجعلنا ممن تقوم على أيديهم نهضة هذه الأمة..

****
النهاية

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 30

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

– لماذا علي التظاهر بحب تلك الفتاة البغيضة التي لا أطيق سماع اسمها!! إلى متى سأبقى على هذا الحال!!! كم هذا مؤلم وقاس جدا.. سوسن … سوسن… كل ما يهمه هو سوسن… فلتذهب سوسن إلى الجحيم..!!!
– هل أنا مجرد آلة صماء بالنسبة له!! لقد ظننت أنني اقتربت منه أكثر فإذا بي اكتشف العكس تماما!! ألهذه الدرجة يحبها!!
– لم تكن تهتم به ولم تكترث لأجله مثلي فلماذا يهتم بها.. لماذا!!!!!!! ألا يدرك أنها لم تحبه ولم تهتم به إلا بعد أن أبدى اهتمامه بها!! أما أنا… فقد أحببته دون مقابل!!!
وأخذت تبكي بحرقة وهي تضرب بقبضتها على مسند سريرها، وقد نسيت العهد الذي أقسمت أن لا تنكثه، فقد كان ألمها أكبر من أن تقيده الوعود..
لم تعرف كم من الوقت مر عليها وهي على تلك الحال في غرفتها، حتى انتبهت لصوت طرقات ملحة على باب غرفتها:
– آنسة سورا.. أرجوك افتحي الباب… إنه أمر هام.. أرجوك..
جففت سورا عينيها بغيظ شديد ونهضت من مكانها بتثاقل وهي تشعر برغبة عارمة في صب جام غضبها على تلك الخادمة، فما أن فتحت الباب حتى صرخت في وجهها بعصبية لا مبرر لها:
– أهذا وقتك أيتها الحمقاء!!! لا يوجد أي أمر هام في حياتي، فلماذا هذا الازعاج!!!
غير أن الخادمة قالت بثقة:
– لديك اتصال من المدير التنفيذي لحفل النجوم، وهو ينتظرك على الهاتف..
وخلافا لتوقعات الخادمة، لم تفلح تلك الكلمات بامتصاص غضب سورا، بل قالت لها بضيق:
– ولماذا لم يتصل على هاتفي الخاص!!
عندها شعرت الخادمة بالارتباك وكأنها المسؤولة عن تصرف المدير، فقالت بتردد:
– ربما.. ربما وجد هاتفك مغلقا سيدتي..
كانت تلك الملاحظة كفيلة بتهدئة سورا لوهلة، غير أنها سرعان ما شعرت بالغيظ من جديد، وقد تذكرت ما فعلته بهاتفها بعد ذلك الاتصال الذي أثار حفيظتها من… أيهم!!
أدارت رأسها حيث ألقت بهاتفها على الأرض وهي في ذروة غضبها، يفترض به أن يكون قد تحول لهشيم تذروه الرياح إثر تلك الضربة، لولا أنه كان محفوظا بغلاف من نوع خاص..
كانت الخادمة تتابع تعبيرات وجه سورا ونظراتها باهتمام، وقد فهمت تقريبا ما حدث معها، فمزاج سيدتها العصبي لا يخفى على أحد في هذا المنزل، ولطالما اضطرت الخادمة للقيام بأعمال اضافية كجمع القطع المبعثرة من تحف فنية أو آواني زجاجية، بعد نوبة من نوبات سورا العصبية!! لكن مزاجها قد ازداد سوءا في الآونة الأخيرة بلا شك!!!
وأخيرا تكلمت الخادمة:
– عفوا سيدتي.. المدير لا يزال على الخط، هل أعتذر لــ…
فقاطعتها سورا بنفاد صبر:
– هذا ليس من شأنك..
غير أنها انتبهت لنفسها أخيرا، فاتجهت نحو الهاتف والدموع تترقرق في عينيها، إذ لم تكن عصبيتها تلك سوى وسيلتها الوحيدة التي تواري فيها ضعفها وإحباطها.. وآلامها التي تصر على البقاء..
ما فائدة خطتها الآن!! لقد خسرت الجولة قبل أن تبدأها.. لم تعد تشعر برغبة في متابعة ما أعدت نفسها من أجله.. حفل النجوم.. كان أملها الأخير.. ولم يعد سوى سراب لا أمل فيه!!
انها كالسجين الذي قضى أيامه ولياليه بالتخطيط للهروب من سجنه، فأخذ يحفر باستماتة حتى إذا ما كان قاب قوسين من تحقيق هدفه وجد باب السجن مفتوحا، ففتحه ليفاجأ بأن العالم في الخارج أسوأ الف مرة من الداخل، فلماذا يتابع الحفر!!!
ولكن لا مجال للتراجع الآن.. فقد ترتب الحفل وها هو المدير بانتظارها على خط الهاتف..!!!
***
استطاعت سوسن أخذ استراحة قصيرة هرعت فيها لغرفة استراحة السيدات، حيث المصلى الخاص بهن، وهناك أخرجت من حقيبتها ملابس الصلاة الخاصة التي تمكنت من شرائها خلسة، بعد أن عقدت العزم على أداء الصلوات في أوقاتها بدلا من قضائها بعد عودتها إلى المنزل كما فعلت في اليومين السابقين، منذ أن بدأت الصلاة..
اتجهت سوسن إلى القبلة وشرعت بأداء صلاة الظهر، وما أن سلمت من صلاتها حتى فوجئت بسعاد ترمقها بنظرات مريبة، لم تكن قد احتكت بسعاد منذ آخر مرة رأتها فيها في دورة المياه مع تلك الزوجة البائسة، ومن دون أن تعرف سببا محددا شعرت سوسن بارتباك شديد من تلك النظرات فآثرت تجاهلها، وتمنت لو أنها تتبخر بسرعة لتجد نفسها فجأة قرب لوحاتها مع أيهم، غير أن سعاد لم تشأ تفويت الفرصة، فعلقت بقولها:
– تصيدين الرجال وتصلين أيضا!! استغفر الله العظيم، ألا تعرفين أنك تسيئين للاسلام بفعلك هذا رغم أنك تؤدين الصلاة!!!
أما سوسن التي انهمكت بطي ملابس الصلاة الخاصة بها لتضعها في حقيبة يدها، فقد شعرت بثقل رهيب في ساقيها، أعجزها عن سرعة الحركة والخروج من هذا المكان، كان بودها لو تدافع عن نفسها، لكن الشلل ألجم لسانها أيضا، ماذا عساها أن تقول!! وشعرت بألم يعتصر قلبها:
– لماذا تصر على نعتي بتلك الصفة البغيضة!! يارب أنا لست كذلك وأنت تعلم..
أما سعاد الذي أغاظها تجاهل سوسن لكلامها، فقد أضافت بلهجة لا تخلو من تشفّي غريب:
– لا حاجة لله بصلاة لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، الم تسمعي قوله تعالى (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)!!
في تلك اللحظة تدخلت سيدة مسنة- كانت تؤدي الصلاة قربهما- موجهة حديثها لسعاد مباشرة:
– وهل الصلاة التي تؤدينها يا ابنتي تحثك على جرح الآخرين بكلامك هذا!! الله أعلم بما في قلوب عباده ولم يطلب منا أن ننصّب أنفسنا حكما على عباده!!
التفتت إليها سعاد بدهشة، وهمت بأن تقول لها شيئا تراجعت عنه، لتكتفي بقولها:
– من واجبنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فأضافت السيدة:
– بالحكمة والموعظة الحسنة، واعذريني يا ابنتي فأنا في مقام امك وأقولها لك صراحة، انتبهي لنفسك، فإنما الدين المعاملة.. هذه نصيحتي لك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر..
ورغم امتنان سوسن الشديد لهذه المرأة العجوز، إلا أنها لم تكن ترغب بالنظر إلى سعاد وهي في ذلك الموقف الحرج، فلم تر معالم وجهها ولم تعرف طبيعة الأثر الذي تركته تلك الكلمات عليها، خاصة وقد أسرعت بالخروج وهي تتمتم بكلمات لم تركز سوسن في سماعها، إذ كان فكرها مشغولا في أمر آخر أرقها بشدة، لولا أن العجوز بادرتها بابتسامة محببة:
– لا تهتمي لكلام الآخرين يا ابنتي، تبدين مرهفة الإحساس جدا وهذا قد يؤثر عليك مستقبلا لا قدر الله..
فوجئت سوسن من تلك الملاحظة الدقيقة رغم أنه لم يصدر منها شيئا يشير إلى حساسيتها حسب ما تذكر، فسألتها باهتمام:
– كيف لاحظت ذلك يا خالة؟؟
فابتسمت العجوز:
– خبرة الحياة يا ابنتي..
فهزت سوسن رأسها بابتسامة متفهمة، غير أن الأمر الذي كان يؤرقها؛ لم يسمح لتلك الابتسامة بأخذ مساحة كافية على شفتيها، فنظرت إلى العجوز بعينين دامعتين:
– هل حقا لا فائدة من صلاتي يا خالة!!
فوجئت العجوز لوهلة بما سمعته، إذ لم تتوقع أن يكون هذا هو أكثر ما أقلق الفتاة الواقفة أمامها، غير أنها سرعان ما أجابتها بلهجة واثقة:
– بالطبع لا يا عزيزتي، إذا قصّر الانسان في أمر من أمور دينه، فهذا لا يعني أن بقية أعماله تذهب هباء!! ولعل بابا يتركه الانسان مفتوحا بينه وبين ربه، يكون كفيلا بفتح بقية الأبواب له بإذن الله..
واستطردت العجوز بابتسامة محببة:
– لقد ورد في هذا قصة شهيرة عن الامام أحمد والسارق الذي كان يرتاد المساجد ليصلي، وعندما استنكر الامام فعله (ألا تخجل من نفسك سارق وتصلي!! )، فأجابه السارق بأن هذا هو الباب الوحيد بينه وبين الله، فلم يلبث أن رآه الامام متعلقا بأستار الكعبة معلنا توبته، ليكون من أفضل رجال زمانه بعد ذلك..
بالطبع لا أذكر التفاصيل تماما فقد سمعت هذه القصة منذ وقت طويل، وقد كبرت في السن كما تريـ..
غير أنها بترت كلامها فجأة مع شهيق سوسن التي لم تعد تقوى على الوقوف، فجلست على ركبتيها وهي تخفي وجهها بكفيها، لتنشج ببكاء يدمي القلوب، فاقتربت منها العجوز وربتت على شعرها بحنان وهي تناولها منديل:
– هوّني عليك يا ابنتي، فالله كريم..
فيما بذلت سوسن جهدها لتهدئ نفسها وتجفف دموعها بمنديل العجوز التي تابعت كلامها برقة:
– الدين جميل جدا يا عزيزتي حتى في أوامره ونواهيه، المهم أن لا تدعي كلام أمثال هؤلاء الناس ينفرونك منه..
فابتسمت سوسن وهي ترفع رأسها ناحية العجوز وقد فهمت ما ترمي اليه:
– لا تقلقي من هذه الناحية يا خالة، فلست ممن يرفض الخير مهما يكن السبب.. والحمد لله..
فبادلتها العجوز الابتسام وهي تربت على كتفها بإعجاب:
– بارك الله فيك يا ابنتي، هذا ما لاحظته فيك فعلا..
ثم استدركت متسائلة، وهي ترمق سوسن بنظرات متفحصة أثناء نهوضها عن الأرض:
– هل أنت متزوجة؟
فأومأت سوسن برأسها ايجابا:
– تستطيعين قول ذلك، فأنا مخطوبة..
هزت العجوز رأسها بتفهم:
– حفظك الله يا ابنتي فأنت تدخلين القلب بسرعة ما شاء الله، لقد أحببتك من أعماق قلبي ولو لم تكوني مخطوبة، لرشحتك لحفيدي..
احمرت وجنتا سوسن، ولم تعرف كيف تتصرف لتداري خجلها، غير أن العجوز تابعت كلامها بحماسة:
– إنه طيب جدا وقد أصر على اصطحابي إلى هذا المعرض لمعرفته بشغفي بالفن..
بالمناسبة لم أسألك عن اسمك يا ابنتي؟
– سوسن..
فهزت العجوز رأسها بإعجاب:
– اسم جميل فعلا ما شاء الله..
وهمت بإضافة شيء غير أنها اكتفت بابتسامتها المحببة:
– حسنا لن أأخرك أكثر فلا أرغب أن أكون من العجائز الثرثارات..
وأطلقت ضحكة صغيرة:
– أم أنني كذلك يا سوسن؟؟
فلم تملك سوسن أن شاركتها بابتسامة ودودة:
– بل كلامك يثلج القلب يا خالة، لقد أسعدتني فعلا.. شكرا جزيلا لك..
فابتسمت العجوز برضا وهي تهم بالخروج أيضا:
– يسرني سماع هذا منك يا ابنتي، هذا من ذوقك، على كل حال إلى أين ستذهبين الآن؟؟
فأجابتها سوسن:
– في الحقيقة سأذهب لأقف إلى جوار لوحاتي التي شاركتُ بها في المعرض..
عندها شعرت العجوز بنوع من الذنب:
– لم أكن أعرف ذلك، لا شك أنني أخرتك فاعذريني..
فطمأنتها سوسن بقولها:
– لا بأس فخطيبي يقف هناك..
فأشرق وجه العجوز من جديد:
– هذا جيد، سأطلب من حفيدي أن يأخذني إلى زاويتك، فما زلنا في بداية جولتنا، أين تقع لوحاتك؟؟
فأجابتها سوسن بترحيب:
– في الواجهة..
فيما تساءلت العجوز:
– تقصدين عند ذلك العازف المدعو أيهم على ما أظن؟؟
تدفقت الدماء في وجنتي سوسن وهي تجيب بسعادة:
– أجل.. إنه خطيبي..
عندها حملقت العجوز فيها بدهشة:
– هل ذلك العازف المشهور.. خطيبك؟؟؟
تفاجأت سوسن من ردة فعل العجوز ولم تفهم تماما ما الذي أثار دهشتها، غير أن العجوز لم تعلق بشيء بل اكتفت بابتسامة مقتضبة وهي تردد:
– حماك الله يا ابنتي من كل سوء..
***
لم تكد سوسن تصل إلى زاويتها حتى هتف بها أيهم:
– سوسن.. لقد تأخرت يا عزيزتي، قلقت عليك فعلا..
فابتسمت سوسن:
– صادفتني عجوز طيبة..
وهمت بأن تخبره بما دار بينهما من حديث، لكنها أحجمت عن ذلك، فيما علق أيهم باستياء واضح:
– تقضين الوقت مع العجائز؛ فيما كان المعجبون بانتظارك هنا!! لقد جاءت فرقتي الخاصة أيضا لأخذ الصور التذكارية معك لكنك تأخرت ولم يكن بإمكانهم الانتظار أكثر!..
تنفست سوسن الصعداء، وقد شعرت بألم ممزوح براحة عجيبة، وهي تحدث نفسها:
– يا الهي لقد صرف الله عني نظرهم.. الحمد لله.. لقد أجيبت الدعوة.. ولكن..
ولم تستطع إخفاء ذلك في نفسها أكثر، فالتفتت إلى أيهم:
– هل من أجلهم فقط؛ قلقت عليّ.. يا أيهم!!
فحملق فيها بدهشة:
– ما الذي تعنيه!!
عندها فقدت سوسن أي رغبة في الحديث:
– لا شيء..
لكن أيهم بادرها بسؤال آخر:
– هل رأيت سامر؟
فأجابت بلا مبالاة:
– لا..
فتابع أيهم بنبرة توحي بأنه يخفي في طياتها شيئا ذا مغزى:
– كان يحوم هنا، أظنه يبحث عنك.. أو يفتقدك..
انتفض جسد سوسن لتلك الملاحظة التي تعمد أيهم أن يبديها بوقع خاص، فالتفتت نحوه باستنكار:
– ما الذي تعنيه بكلامك يا أيهم!! ربما كان يريد المساعدة في الاعداد للمحاضرة التي سيلقيها بعد ساعتين!
فافترت شفتا أيهم عن ابتسامة باهتة:
– ربما..
وسرعان ما انخرط الاثنان مع الزوار وكأن شيئا لم يكن..
***
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 29

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

صعدت سوسن إلى جانب أيهم في سيارته، بعد أن أغلق المعرض أبوابه لذلك اليوم، كانت منهكة جدا، فألقت برأسها على وسادة الكرسى، وهي تُرجعه إلى الخلف قليلا، وأغمضت عينيها..
كان يوما طويلا جدا بالنسبة لها، غير أنه كان مختلفا أيضا..
أول يوم تصلي فيه، لا يمكنها نسيان ذلك، لقد كان ولادة حقيقية بالنسبة لها، قد لا يبدو تغيرها واضحا لمن ينظر إليها، فقد ارتدت ملابسها المعتادة، ووقفت أمام لوحاتها كما كانت تفعل من قبل، وأيهم إلى جانبها كما وعدها، لكنها أصبحت فتاة أخرى من الداخل.. أو هذا ما شعرت به على الأقل..
لم تدرك سوسن كم مر عليها من الوقت وهي مسترسلة في خواطرها تلك، حتى انتبهت إلى كونها لم تسمع صوت تشغيل أيهم للسيارة، هل تراها سرحت لدرجة أنها لم تنتبه لذلك، ربما تكون قد اقتربت من البيت الآن!
وما أن فتحت عينيها حتى كادت أن تصرخ بفزع، فيما ابتسم أيهم لها وهو يضع يده على شفتها معتذرا، بعد أن كان يحدق فيها عن قرب:
– آسف يا حبيبتي لم أقصد اخافتك، لكنك كنت كالملاك النائم الذي لم استطع مقاومة النظر إليه، ولو لم تفتحي عينيك فلربما قضينا الليلة كلها هنا..
فاحمرت وجنتا سوسن وهي تضع يدها على قلبها تتحسس نبضاته، قبل أن تعدّل وضع الكرسي:
– ولكنك أفزعتني فعلا!!
فتناول أيهم يدها وطبع عليها قبلة عذبة:
– هل تكفي هذه تعبيرا عن اعتذاري لك يا سيدتي!
لم تجد سوسن ما ترد به عليه أفضل من ابتسامة انطبعت على وجهها بتلقائية، فيما تشبث أيهم بيدها وهو يقربها إليه أكثر:
– لن أتحرك قبل أن تصدري قرار عفوك رسميا!!
فضحكت سوسن وهي تسحب يدها:
– لا داعي لكل هذا يا أيهم، أنت تعلم أنني..
وصمتت بحياء، فلا شك أن أيهم متيقن تماما من مشاعرها نحوه، غير أنه أصر عليها لتكمل جملتها بقوله:
– أعلم أنك ماذا؟؟
قال جملته وهو يميل عليها أكثر، فهتفت سوسن بتوتر:
– أرجوك لا داعي لهذا فنحن ما زلنا في الشارع!!
فضحك أيهم بمرح:
– لا زلت تعملين حسابا للآخرين رغم أنك خطيبتي قانونيا!! هيا.. إذا لم تقوليها الآن، فسأضطر لـ…
فقاطعته سوسن ودقات قلبها تخفق بعنف:
– حسنا إنني .. أحبك.. أحبك ولا يمكنني أن أغضب منك.. وأنت تعرف هذا جيدا..
لم تكد تتم جملتها، حتى أرخي أيهم جسده على كرسيه، وهو يتنهد بعمق:
– ليتني أصدق هذا يا سوسن..
كانت هذه مفاجأة حقيقية لها، أيهم يشك في حقيقةٍ تجدها من المسلمات!! ما الذي حدث!! لقد كانت تظنه واثقا من حبها له بل وتعلقها الشديد به!!
فرمقته بتعجب وهي تلمح تلك التعبيرات الحزينة على وجهه لأول مرة، وبعفوية وضعت يدها على يده قائلة:
– أيهم.. لا تقل لي بأنك تشك في حبي الكبير لك!!..
وترددت قليلا قبل أن تكمل:
– أم أنك تحاول اختباري؟
فنظر إليها أيهم بنظرات جادة كمن يحاول إفهامها أمرا يعجز عن إيضاحه أكثر:
– لقد تغيرتِ كثيرا يا سوسن!
بوغتت سوسن بسماع ذلك منه، فهي تعلم أنها تغيرت من الداخل، ولكنها لم تلاحظ أي تغيرا حقيقيا على تصرفاتها من الخارج، لا زالت كما هي، بل إن قلبها لم يزل يخفق بمجرد ذكر اسمه كما كان من قبل.. لا تذكر أنها فعلت شيئا مختلفا! حتى موضوع الصلاة، لم تجد الوقت المناسب لفتح ذلك معه، رغم أنه حدثا مهما في حياتها، فما الذي لاحظه أيهم عليها!!
لم تعرف سوسن بم تجيبه، فهذا مما لم تعمل له حسابا من قبل!! وأمام صمتها ذاك، أطلق أيهم تنهيدة أطول وهو يضع يديه خلف رأسه ليسنده عليهما بتأمل عميق:
– لا يمكنك انكار ذلك يا سوسن، أليس كذلك؟ لم أعد أهمّك كالسابق..
فقالت سوسن باندفاع عفوي:
– من قال لك هذا يا أيهم!! إنك أكثر شخص أحبه في حياتي وأفكر فيه طوال الوقت، صدقني، إنك أحب إلي من نفسي..
كانت الكلمات تخرج من فمها بسلاسة ودون ترتيب، حتى أن مشاعرها تفاعلت معها تماما، فسالت دمعات ساخنة على خديها وهي تقول بصوت مخنوق:
– أنت الوحيد الذي لا يمكنني تخيّل حياتي من دونه! فدع عنك تلك الأفكار أرجوك..
اعتدل أيهم في جلسته، وتلاقت نظراتهما بصمت لوهلة، قبل أن يضع يده على خدها مجففا دموعها:
– أنت حبيبتي وسأكون لك للأبد..

***
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 28

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

حانت اللحظة الحاسمة أخيرا في حياة سوسن؛ وهي تقف ملتحفة بغطاء سريرها مستقبلة القبلة، بعد أن اغتسلت وتوضأت، وآلاف الخواطر تمر في ذهنها كشريط ذكريات فُتح مع رفعها يديها لتكبيرة الاحرام.. كم هي نعمة عظيمة هذه الاختراعات الحديثة!! فكيف لها أن تتعلم الصلاة لو لم يكن بإمكانها تحميل ومشاهدة تلك المقاطع!
لا تدري كم من الزمن مر عليها وهي تقف رافعة يديها باتجاه القبلة، بل لقد خيّل إليها أن الزمن قد تجمد عند تلك اللحظة.. ها هي ستصلي لأول مرة في حياتها.. شعرت برهبة شديدة، بل سعادة غريبة، أو مشاعر أخرى لم تعرف ماذا تسميها، مشاعر لا تستطيع كبتها؛ فانسالت على خديها بشكل دموع..
الله أكبر..
كيف لها أن ترددها دون أن تقشعر كل خلية في جسدها!!
“الحمد لله رب العالمين”..
اللهم لك الحمد يارب، لك الحمد يارب العالمين، أن سهلت لي هذا الوقوف بين يديك..
رددتها بدموع قلبها..
“الرحمن الرحيم”..
يا أرحم الراحمين، ارحم ضعفي، ارحم حيرتي، ارحم جهلي وقلة حيلتي، ارحمني يا رحمن يا رحيم..
“مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين”
يارب يا مالك يوم الدين.. أعني على ما لا طاقة لي به..
” اهدنا الصراط المستقيم”
عندها أخذت تجهش بالبكاء وهي ترددها المرة تلو الأخرى..
اهدني يا رب العالمين.. اهدني يا رحمن يا رحيم.. اهدني يا مالك يوم الدين.. اهدني يا الله.. اهدني فقد تعبت كثيرا من هذا الضياع..
بكت سوسن كما لم تبك من قبل، رغم أنها لا تذكر أنه مر عليها وقت لم تبكٍ فيه، بعد خطبتها من أيهم!! بكت كثيرا وشعرت برغبة جامحة تحول بينها وبين رفع رأسها من أول سجدة تسجدها لله على الأرض..
***
افلتت ضحكة خافتة من فم ذلك الرجل البدين الجالس على مكتبه، وهو يتأمل شاشة للمراقبة التلفزيونية، سلطها على بقعة محددة احتشد فيها الناس دون غيرها من الأماكن، ثم التقط نفسا عميقا من سيجارته المشتعلة، وهو يشير إلى عامل المراسلة بطرف اصبعه:
– ألم تخبره؟
فأجابه العامل وهو يضع فنجان القهوة على المكتب بانكسار:
– أجل سيدي إنه قادم..
ولم يكد يتم جملته، حتى دخل سامر مسلما:
– استدعيتني أيها المدير؟
فأشار له المدير بالجلوس إلى كرسي قربه، ثم أومأ بعينه إلى الشاشة بسعادة ظاهرة:
– كانت فكرة اختيار تلك الشابة للواجهة فكرة صائبة جدا، ولكنك لم تخبرني أن النجم أيهم سيكون معها، كان علينا أن نضيف ذلك في الاعلان..
ودون أن يلحظ أثر كلماته على سامر، تابع المدير بمزيد من الرضا وقد انتفخت أوداجه:
– لن تجد أفضل من شاب وسيم، وفاتنة حسناء للترويج عن أي مكان في هذا العالم، حتى ولو كان الجحيم بعينه..
وأطلق قهقهة مجلجلة، عبّرت عن مدى نشوته بما حصل عليه من نتائج فاقت توقعاته، ثم التفت إلى سامر مضيفا:
– أريد نشر المزيد من الاعلانات التي تضم أيهم مع تلك الفاتنة فلم يبق على مـ….
لكنه بتر جملته وهو يتأمل تغير وجه سامر الملحوظ، فسأله باهتمام:
– هل أصابك شيء؟؟
أدار سامر وجهه وهو يضع يده على فمه متظاهرا بالسعال قبل أن يقول:
– لا شيء..
ولأن هذا ما كان يرغب المدير بسماعه، فقد تابع باهتمام:
– حسنا ما قولك في…
غير أن سامر لم يستطع السكوت أكثر، فقاطعه بلباقة:
– عفوا سيدي المدير، ولكنني أرى من غير اللائق استغلال الآخرين هكذا..
عندها حملق المدير فيه بعينين مفتوحتين عن آخرهما:
– ماهذا الذي تقوله يا سامر!! مالذي تقصده بكلامك!!
فأكد سامر كلامه:
– إنني أعني ما أقوله، ليس من اللائق استغلال الآخرين للترويج عما نريده، هذا رأيي..
لم يزد المدير عن الحملقة فيه بعينيه المفتوحتين، حتى إذا ما وصلتا لآخر اتساع لهما، أغمضهما بابتسامة ساخرة، دوا أن ينطق بحرف واحد، ثم رمقه بنظرة ذات مغزى معلقا:
– نسيت أنك لا زلت شابا.. ولكن لا تقل لي أنك ترغب في لعب دور الفارس الشهم الذي يسعى لحماية الحسناء الجميلة!
ولم يتمالك نفسه، فأطلق ضحكة صاخبة، قبل أن يضيف بخبث:
– في عالم المال يا بني، لا مجال للحب..
كانت تلك الكلمة كفيلة بإثارة عواطف سامر، رغم استيائه الشديد من تلك اللهجة الهازئة، فلم يستطع الجلوس أكثر، بل خرج متجاهلا كلام مديره على غير عادته..

………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 27

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

ظلام شديد حالك.. ظلام دامس.. ظلام مخيف جدا.. دوامة كبيرة، لا يمكنها الافلات منها، ولا حتى التقاط انفاسها خلالها.. ستُخنق هذه المرة لا محالة…
هبت سوسن من فراشها فزعة وهي تلتقط انفاسها المتلاحقة، وتتحسس رقبتها بقلق، كانت على وشك الانخناق فعلا!!
وأخيرا تنفست الصعداء بعد أن تبين لها أنه مجرد حلم، فتنهدت محدثة نفسها:
– لقد عاد الظلام إلى أحلامي مجددا بل وبشدة أكبر!!…. كم أنا بحاجة للنور!
وأشعلت مصباح القراءة قرب سريرها، لتجد أن الوقت لا زال باكرا، فلم يطلع الفجر بعد، وحملقت في اللوحة أمامها:
– الله نور السماوات والأرض..
فأرخت عينيها بانكسار:
– كم أشعر بالخجل منك يارب.. لقد كانت الاشارة واضحة تماما، بل أوضح من الشمس في كبد السماء! ولكن.. هذا صعب جدا.. أعلم أنه الحل الوحيد، ولكنه.. شبه مستحيل…! ليتني أعرف فقط.. متى سينتهي هذا الكابوس… يارب!!
اليوم هو ثالث أيام المعرض، ورغم ذلك شعرت بأنه قد مر عليها شهورا فيه، خاصة وقد أصبح كالكابوس الجاثم على صدرها، تتوق شوقا لليوم الذي يعلن فيه انتهاء مدته!
أخذت الفكرة تلح عليها بشدة:
– لن أذهب إلى هناك مجددا.. ربما هذا أفضل لي وللجميع… ولكن لا يمكنني ذلك الآن؛ بعد ما فعله أيهم من أجلي!!
لقد وعدها أيهم أن يكون إلى جانبها، وقد كان هذا طبيعي منه، لكن أن يأخذ إجازة خصيصا من أجلها.. فهذا ما لم يخطر ببالها قط..
وخفق قلبها بشدة لذكرى كلماته الرقيقة:
– أنت أغلى عندي من كل ما أملك.. أسطواناتي كلها يمكن تأجيلها من أجلك حبيبتي..
هذه شهامة منه حقا لا يمكن أن تنساها، فهو إلى جانب مساهمته في حمايتها بوقفته إلى جانبها في المعرض؛ قام بإدخال الطمأنينة إلى قلبها بعد أن أراحها تماما من التفكير فيما قد يحدث بينه وبين سورا في المعهد!! أو هذا ما ظنته..!
كانت خفقات قلبها تعبر بصمت عن خلجات صدرها:
– أيهم.. كم أحبك وأقدر وقفتك إلى جانبي، فهذا سيحل المشكلة مؤقتا.. لكن سامحني.. فما زلت أتعذب.. وما يعذبني أكثر أن الحل واضح، ولكن.. كيف السبيل إليه!!
وفي تلك اللحظة تنهدت بعمق:
– أين أنت يا نور!!
وعادت بذاكرتها تحاول استرجاع آخر اتصال حادثتها فيه، فلم تستطع التذكر، فقد مرت الأيام الفائتة كأنها شهور من كثرة أشغالها.. أو همومها!!
وأخذت تقلب في رسائل هاتفها، حتى إذا ما وقعت عيناها على آخر رسالة تلقتها من نور، تسارعت نبضات قلبها، وقد أعادت الرسالة إلى ذاكرتها ما حدث تلك الليلة.. يوم أن كانت تبحث عن الآية، فالتقت ببهجة!!
وانقبض صدرها بقلق:
– لم تُعد نور الاتصال بي رغم أنها وعدت بذلك في أقرب فرصة، أرجو أن تكون بخير..
وشعرت برغبة شديدة في محادثتها والاطمئنان عليها، فليس من عادة نور أن تتأخر عليها هكذا!!
وبدون تردد تناولت هاتفها وكتبت رسالة لنور، فهذا قد يريحها قليلا، ومن ثم أسندت رأسها إلى حافة سريرها الخلفية، وأغمضت عينيها..
يارب ..لا أعرف ماذا أقول لك.. ولا بماذا أدعوك.. يارب.. أنت تسمعني.. وأنت تراني.. وتعلم ما بحالي.. أليس كذلك؟؟ يارب.. لستُ مؤمنة مثل نور ولا حتى مثل بهجة.. ولا أعرف كيف أصبح مثلهما لتستجيب دعائي.. يارب .. أنا مجرد انسانة تائهة حائرة ضعيفة لا تعرف كيف تتصرف…
وانهمرت الدموع من عينيها:
– ربما أستحق ما يجري لي.. فهل ترحمني يارب وأنا بعيدة عنك؟؟
وإذ ذاك رن هاتفها، فالتقطته كمن يستيقظ من حلم عميق بعد أن انتبهت من سيل مناجاتها، فأتاها صوت نور:
– السلام عليكم سوسن ؟ هل أنت بخير؟
وبصعوبة ردت عليها وهي تحاول ايقاف سيل دموعها المنهمرة دون أن تعرف لها سببا واضحا:
– آسفة لإزعاجك الآن لم أتوقع أن تكوني مستيقظة، فأرسلت الرسالة على أن تريها عندما تستيقظين، أعتذر بشـدة إذا ما أفزعتك..
فطمأنتها نور:
– لا عليك، عادة أستيقظ في مثل هذا الوقت، فسيرفع أذان الفجر بعد قليل، المهم كيف حالك؟
فأجابيتها سوسن:
– أنا بخير عزيزتي، ولكنني قلقت عليك، كيف حال والديك؟ لقد ذكرتِ لي أن والدك كان متعبا أيضا!
شعرت سوسن بابتسامة نور الهادئة وهي تجيبها:
– الحمد لله إنه بخير الآن، واعذريني إذ لم أتمكن من الاتصال بك، فقد كان ذلك رغما عني ولم أجد الوقت المناسب لذلك، أما وقد رأيت رسالتك الآن فقد عرفت أنك مستيقظة..
وصمتت نور قليلا قبل أن تقول:
– أخبريني عنك يا سوسن، لا أظنك على ما يرام؟ آخر ما أخبرتِني به هو ترشحك للمعرض العالمي، فهل حدث جديد!
وكأن سوسن كانت تخشى سماع هذا السؤال، أو ربما كانت تنتظره، لم تعد تعرف ماذا تريد بالضبط، ربما كانت بحاجة لمن يتحدث نيابة عنها! ولم تتركها نور لصمتها كثيرا، فسألتها:
– كيف حال أيهم؟
وكعادة قلب سوسن، انطلق لينبض بأقصى سرعة فيما توردت وجنتاها..
حتى نور تدرك أن أيهم هو أكثر ما يهمني في هذه الحياة!!
غير أنها أجابتها بابتسامة مُحرَجة:
– أيهم بخير..
وأخيرا انفرجت أسارير سوسن فانطلقت تحدثها عما حدث معها بعفوية أرهقها كثرة التجمّل!
أبدت نور تفهمها التام لحالة سوسن، مما أشعرها بالارتياح فسألتها:
– هل أنا المخطئة يا نور؟ أرجوك أخبريني بصراحة، هل أنا السبب في كل ما حدث!!
صمتت نور قليلا قبل أن تجيب:
– حسنا في حالة الزوجة مثلا، لا يحق لها أن تخاطبك بذلك الأسلوب، فالذنب ليس كله ذنبك، بل يتحمل زوجها الذي أطال النظر إليك المسؤولية في ذلك أيضا، وهذا ينطبق على بقية الرجال!! فهم من جانبهم مأمورون بغض النظر.. ولكن للأسف تجدين من يضع اللوم على الفتاة وحدها، وكأنها إن لم تلتزم بأمر الله لها بالحجاب، يسقط عن الرجال وزر إطلاق البصر!! بالطبع إن قلت لك أنه لا يحق للزوجة أن تفعل ما فعلته، هذا لا يعني أنني لا أتعاطف معها فهي مسكينة.. أظنك تعرفين شعور المرأة إن ظنت أن هناك واحدة أخرى في حياة زوجها!!
كانت تلك الجملة كافية لتُشعر سوسن بوخزٍ شديد في الضمير.. فهي تعرف ذلك الشعور تماما، بل وجربته أيضا ذات يوم!! كم هذا يؤذيها!! وأخذت تلك الكلمة تتردد في أذنها (فلا يؤذين)!! فانفصلت لوهلة عن سمّاعة الهاتف تناجي ربها:
– أجل إن هذا يؤذيني كثيرا.. يؤذيني أن أكون سببا- ولو بشكل بسيط- في تعاسة امرأة أخرى، حتى وإن كان زوجها هو من يتحمل المسؤولية!!
ولكن يارب كيف السبيل إلى ذلك؟؟
عندها سألت نور:
– ما الذي تفعلينه يا نور إن استصعب عليك أمر ما، أو ضايقك شيء وأهمك؟
فجاءها جواب نور ببساطة:
– أصلي..
رددت سوسن بتؤدة:
– تصلين؟؟
فوضحت نور قولها:
– أجل يا عزيزتي، لن تجدي أفضل من الصلاة لإراحة روحك المتعبة، وإزالة همومك، هذا هو دأب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، كان إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة..
طال صمت سوسن فتابعت نور كلامها موضحة:
– لقد فرض الله علينا الصلاة ليضمن لأرواحنا الاتصال به خمس مرات في اليوم على الأقل، فالروح يتعبها الابتعاد عن خالقها كثيرا، وقد ترك سبحانه وتعالى لنا حرية الاتصال مفتوحة طوال الوقت، لمن شاء أن يستزيد من هذا المنبع النوارني الصافي..
كانت كلمات نور تدخل بسلاسة إلى قلب سوسن فتضيء ظلمته، حتى انشرح صدرها تماما وهي تتخذ قرارا سريعا حاسما بينها وبين نفسها:
– الصلاة.. أهذه هي الاشارة التي لم استطع قراءتها؟؟ كنت أظن أن الحجاب هو الحل الوحيد لمشكلتي، ولم يخطر ببالي أمر الصلاة! أجل إنها الطريق الأسهل للوصول لذلك الحل الأمثل..!
وابتسمت لخواطرها تلك بسعادة، فعلى الأقل هذا الأمر بينها وبين الله، ولا عقبات تقف في طريقها إليه.. كيف لم يخطر ببالها الانتباه إلى ذلك الأمر الهام من قبل!! الصلاة.. أجل.. هذه هي الاشارة..
وخطر لها أن تحادث نور في هذا الموضوع، فسألتها دون أن تنتبه إلى أنها قد حادت عن سؤالها السابق:
– هل سمعت بالـ ( الخيميائي)؟
غير أن نور سألتها مستوثقة:
– تقصدين رواية The Alchemist من تأليف Paulo Coelho أليس كذلك؟؟ لقد أهدتني اياها إحدى صديقاتي الأجنبيات، ولم أكن أتوقع وجود رواية أجنبية تظنين معها أن الكاتب مسلم كهذه الرواية!! خاصة وهو يكرر فيها المصطلح العربي (Maktoob ) بمعنى قضاء الله وقدره، إنها بالفعل من أروع الروايات التي قرأتها..
فتهلل وجه سوسن:
– أجل.. إنها هي، ما رأيك بالاشارات التي ذكرها المؤلف؟
فقالت نور:
– تعنين الـ Omens؟ انني أجدها مصداقا لقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا)، وكأن الرسول لا يقتصر على الرسل الذين بعثهم الله لهداية البشرية، وإنما أيضا على الاشارات التي يرسلها لعباده، فمن انتبه لها وأخذ بها قادته إلى الطريق الصحيح، ومن أصر على تجاهلها عامدا متعمدا، توشك أن لا تعود إليه مرة أخرى كما ذُكر في الخيميائي.. فقلبه عندها يكون قد غُطي بالران!!
وكأن نور تعمدت إثارة فضول سوسن، التي سألتها:
– الران؟؟!!!
فأجابتها نور موضحة:
– ورد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم بما معناه أن العبد إذا أذنب ذنبا ولم يتب منه نكت في قلبه نكتة سوداء، وإذا زاد اصراره على الذنوب متجاهلا نداء نفسه اللوامة، ازدادت النكات السوداء حتى تتراكم على قلبه كالغشاوة المظلمة أو ما يُعرف بالران، عندها لا يعود القلب يعرف معروفا ولا ينكر منكرا..
اقشعر جسد سوسن لهذه المعلومة، وشعرت برجفة في يدها كادت أن تسقط الهاتف، فرددت بذعر:
– أعوذ بالله من ذلك! لم يخطر ببالي التفكير بهذا المنطق عندما قرأتها في الخيميائي!!
وصمتت سوسن قليلا قبل أن تقول:
– أجل.. تذكرت المشهد الآن، لقد قال المؤلف شيئا كهذا..
ثم علقت:
– جميل ربطك هذا بالدين يا نور، تبدو الاستشهادات حاضرة في ذهنك.. ما شاء اهتع..
وأضافت بشيء من التردد:
– لقد أشعرتِني برغبة شديدة في زيادة ثقافتي الدينية، فأظنني مقصّرة فيها كثيرا!!..
أتمنى أن أصبح مثلك..
فجاءها صوت نور:
– بإذن الله تصبحين أفضل بكثير، فليست العبرة بمن سبق، وإنما العبرة بمن صدق كما يُقال، وأنتِ يا سوسن تحملين في قلبك من الصدق والصفاء ما يندر وجوده في هذه الايام، أقولها لك صراحة ودون أي مجاملة.. ما شاء الله..
احمرت وجنتا سوسن، ولم تعرف كيف تجيبها، في حين انهمرت الدموع من عينيها تأثرا بما سمعته، وإذ ذاك انطلق أذان الفجر نديا خاشعا ليشق سكون الليل..
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

عندما قُطعت الحبال

عن القصة:

قصة واقعية، مقتبسة من حادثة حقيقية، لقلب خسر كل شيء تعلق به…

التصنيف: دراما، شريحة من الحياة

لم تعد قدماها تقويان على حملها أكثر، فانهارت على أرض غرفتها وهي تنشج بصوتها الذي بح من كثرة النحيب:
– ما هذا العذاب..ليت الأرض تنشق وتبتلعني.. سكاكين.. رماح .. خناجر مسمومة ، كلها تطعن قلبي!! ياااااااااااااااااااارب ساعدني لم أعد أحتمل المزيد..
لم تدر أحلام كم مر عليها من الوقت وهي على ذلك الحال المأساوي، وقد غدت أشبه ما تكون بحفنة متهالكة من بقايا إنسان، عندما رن جرس هاتفها المحمول.. أسرعت إليه وقلبها يخفق بشدة، كالغريق الذي يتشبث بالقشة، ويؤملها لتمسك بحبال النجاة الوردية الحالمة..
– أتراه راجع نفسه .. سيقول لها أنه لم يكن يعنيها بالتأكيد.. ستقبل عذره هذه المرة.. وهو يواسيها بكلماته، حتى وإن كانت كاذبة، لم يعد يهم ذلك الآن.. فلا بد لها من أن تحافظ على بيتها الذي بدا لها أوهن من بيت العنكبوت!!
وما أن لمحت اسم المتصل حتى بدت لها أحلامها كسراب خانها في أشد لحظات الظمأ، رغم بعض الطمأنينة التي غمرتها لرؤية اسم أنوار، تلك الصديقة المخلصة التي تبثها همومها، وتجدها أمامها في أصعب اللحظات الحرجة. جففت دموعها وفتحت الخط أخيرا بعد أن بح صوت الهاتف من كثرة الرنين:
– أهلا أنوار..
– ما هي أخبارك يا أحلام؟ لماذا لا تردين على اتصالاتنا ؟؟ خشيت أن تكوني قد عدت إلى بلدك دون أن تسلمي علينا!! خير ان شاء الله!! منذ أن ناقشت رسالة الدكتوراة لم نعد نعرف عنك شيئا، كيف حال زوجك؟ لقد قلقت عليك كثيرا يا عزيزتي..
طال صمت أحلام التي انهمرت دموعها دون أن تدري بم تجيب به صديقتها، حتى ظنت أنوار أن الاتصال قد قطع بينهما:
– احلام ..احلام .. هل تسمعينني؟؟؟؟

وأخيرا أجابتها أحلام بصوت تخنقه العبرات:
– هل لي أن أقابلك يا أنوار؟؟
* * *
وتحت شجرة مورقة في الحديقة، جلست أنوار تستمع بكل جوارحها لمأساة أحلام وهي تعمل فكرها بسرعة في محاولة جاهدة لإيجاد الكلمات المناسبة للتخفيف عنها. أطلقت أحلام تنهيدة طويلة وهي تخفي وجهها بين كفيها قائلة:
– هذه هي حياتي.. عذاب في عذاب، لقد تحطم قلبي مرات عديدة، وعندما ظننت أنني حصلت على الحب والسعادة التي أبحث عنها، اكتشفت أنها لم تكن سوى الطعنة القاضية التي أفقدتني قلبي للأبد..
ربتت أنوار على كتفها بحنان:
– لا تقولي هذا يا عزيزتي، إنها لحظة الفرج بإذن الله، فالظلام الحالك يسبق الفجر الباسم دائما..
– هذا كلام جميل أسمعه كثيرا ولكن ماذا بقي لي!! لقد ضحيت بكل شئ من أجله، قبلت باليسير منه وتنازلت عن معظم حقوقي، وقدرت ظروفه كلها ليتم الزواج بسهولة، حتى رسالة الدكتوراة لا أدري كيف ناقشتها، وقد كنت في شغل عنها بسببه..
وأطلقت زفرة طويلة وهي تتابع:
– لا أدري ما الذي غيره، لقد تغير كل شئ بعد الزواج ، ليتني أعرف كيف اختفى ذلك الحب كله، لتتحول أيامنا إلى بؤس وشقاء، حتى أنني عندما صارحته بذلك تجرأ علي وضربني!! كنت أشعر بصدق حبه لي قبلها، فلم أكن تلك الفتاة الساذجة التي يخدعها الرجال، وقد تأكدت من ذلك عندما تقدم للزواج مني فعلا، ورضي بالسفر معي حتى أنتهي من حصولي على درجة الدكتوراة، فلم أكن لأرضى عن استمرار محادثاتنا وكلامنا من دون زواج.. صدقيني لم يكن سيئا على الإطلاق.. وأنت تعرفينني يا أنوار..
لم تنبس أنوار ببنت شفة، فلم يحن الوقت المناسب لإبداء رأيها في هذه النقطة بالذات، فتابعت أحلام:
– لم تعد تجدي محاولاتي كلها للتمسك بحبال الحب بيني وبينه، لم يعد يكلف خاطره حتى بالنظر إلى وجهي وكأنني صخرة أمامه، تقبلت الإهانات كلها أعلل نفسي بتذكر كلماته المعسولة ومراجعة رسائله السابقة، فلم أعد أعاتبه.. أكتفي بالعيش على ذكريات الماضي حتى إذا ما شعرت أن السلام حل بيننا قليلا، وظننت أننا في أحسن حالاتنا، ذكرته بحبنا القديم، وقلت له بأن أحوالنا ستتحسن بلا شك مع قدوم أطفال يملئون حياتنا بهجة وسعادة..
وبترت أحلام كلامها والحزن يقطع كبدها، إذ لم تستطع المتابعة وقد وصلت إلى أحرج جزء في قصتها. نظرت إليها أنوار بعطف:
– بإذن الله يرزقك الله الذرية الطيبة التي تعوضك عن هذا كله و تشعرك بعظيم من الله عليك..
لكن أحلام نظرت إليها والبؤس في عينيها:
– أنت لا تعرفين ماذا كان جوابه.. لقد قال بأنه من الأفضل لنا أن لا نفكر بالأطفال الآن، إذ أن علاقتنا لا يبدو لها أنها ستستمر طويلا!! تخيلي إلى أي درجة وصلت الأمور يا أنوار، لا أمل ..لقد اختفى الحب تماما..
وأجهشت باكية..
كانت أنوار تعرف تماما مدى حساسية أحلام المرهفة ورقة مشاعرها، فهي مثال للفتاة الحالمة بمعنى الكلمة، لا ترى السعادة إلا في أحلام وردية مع فارس يطير بها على حصان أبيض، و ما زالت تذكر قلقها الشديد خوفا من أن لا يتم زواجها من فارس أحلامها الذي قابلته وأحبته، وها هي قد تم لها ما أرادت فأين هي تلك السعادة المرجوة!! وجدت أنوار نفسها في حيرة من أمرها ، كيف لها أن تساعد أحلام للخروج من محنتها هذه! وأخيرا قالت:
– كيف هي علاقتك بالله يا أحلام؟
كان سؤالا مباغتا و كفيلا بتغير مجرى الحديث، حتى أن أحلام صمتت طويلا قبل أن تتهيأ للإجابة عليه، أطرقت برأسها قبل أن تقول:
– قد لا تصدقينني يا أحلام فلا يبدو علي مظاهر التدين والالتزام، فقد نشأت في أسرة بسيطة لا يحكمها غير العادات والتقاليد، ولكنني أقولها لك بصراحة، أنني أشعر بعلاقة مميزة تربطني بالله منذ صغري وفقداني لعطف أبي ورعايته، لقد كنت أشعر بقرب الله مني وعنايته بي وأنا أنتقل في هذه الحياة من مرحلة إلى أخرى، كنت أنجو من المآزق التي أتعرض لها بأعاجيب ليس لها تفسير إلا أنها العناية الإلهية، فليس لي أب يحميني، ولا جاه يضمن لي حقوقي، ولا مال يكفيني، لم أكن أجد من الجأ إليه غير الله فيما يواجهني من محن، أدعوه وأناجيه وأتحدث إليه بما يعتمل في صدري، قد لا تتوقعين سماع هذا مني وأنت تريني تلك الفتاة المرفهة التي تتصرف في أموالها كيف تشاء.. فلا أحد هنا يعرف أحلام الفقيرة المعدمة، ولم أجحد نعم الله علي يوما ولكنني أعترف بتقصيري في شكرها.. صدقيني حتى وأنا بعيدة عن تطبيق ديني وقبل التزامي بحجابي ومحافظتي على صلاتي، لم أكن لأترك مناجاة الله ، لا أبالغ فيما أقوله لك يا أنوار ولكنني سمعتها ممن حولي وهم يرون حالي ويتحدثون عني بقولهم ” هذه الفتاة التي ترعاها العناية الإلهية”
بدا التأثر واضحا على وجه أنوار التي فوجئت بما سمعته للمرة الأولى، لقد عرفت أخيرا من هي أحلام التي أدهشت الجامعة كلها بمناقشة رسالتها في الموعد الذي تريده رغم أنف الجميع، وحصولها على درجة الدكتوراة رغم كل المعوقات التي كانت في طريقها، عوضا عن نفسيتها المرهقة بسبب زوجها اثناء ذلك، أجل أنها شاهدة أيضا على العناية الإلهية التي تحيط بأحلام وترعاها، رغم السنوات القليلة التي قضتها معها، وبعد فترة صمت قالت أنوار:
– أنت طيبة جدا يا أحلام والجميع يشهد بحسن تعاملك وطيبة قلبك، ولا شك أن الله ما ابتلاك بهذا إلا لأنه يحبك، فحتى الشوكة إذا شيك بها المؤمن يحط عنه بها سيئة فما بالك بالخناجر التي تطعن قلبك! إنني لأرجو من الله أن يحط بها عنك سالف الخطايا والأوزار حتى لا يبق عليك منها شئ، فاصبري واحتسبي وأكثري من الاستغفار وأنت أدرى مني بعناية الله ولطفه بك، فلا تيأسي هذه المرة من رحمته.
كانت كلمات أنوار كفيلة بأن تنقل أحلام إلى عالم آخر، فلاحت صورا قديمة أمام ناظريها، وخيل إليها أنها غابت عن الوعي لتدخل عالما وهميا جسد لها فترات حرجة من حياتها وسط دوامة كبيرة، ورياح عاصفة، وأمواج عاتية، أصوات ونداءات مكتومة خرجت من أعماق نفسها وتردد صداها عبر السنين..
– أبي أرجوك انهض لا تترك يدي، انني بحاجة اليك..
– امي لا ترهقي نفسك بالعمل.. لا تذهبي أرجوك، انهم لا يستحقون أن تعملي في بيوتهم مقابل هذا الأجر الزهيد..
– جدتي، استيقظي ولا ترحلي عنا، فأنت الوحيدة التي تفهمني، كنت لنا نعم الحضن الدافئ في هذه الحياة..
– معلمتي.. لماذا تتخلين عني الان بعد أن كنت خير من وقف الى جانبي، لقد احببتك و تعلقت بك كثيرا فلا تتركينني وحدي.. ارجوك..
– يارب ليس لي سواك اعتمد عليه في هذه الحياة..
ثم تناهى إلى سمعها كلمات متناثرة من هنا وهناك، لم يطوها النسيان..
– كيف تحصل هذه الفتاة الفقيرة على بعثة الدولة الوحيدة التي تمنح لأول مرة، وتحرم منها ابنتي وأنا الوزير..هذا مستحيل..
من الذي يسر لي هذا..انه الله..
– منذ متى وأنتم تملكون هذه الدار الفسيحة، كيف تغيرت حالكم، لا أصدق عيناي!!
من الذي أكرمنا بذلك المال لنكون من القلة التي حصلت على التعويضات المالية والمكافآت ..انه الله..
– كيف استطعت الحصول على أوراقك يا أحلام ..في حين ضاعت معظم أوراقنا في الحرب..
من الذي سخر لي ذلك الطالب ليستخرجها لي ويخاطر بنفسه من أجل ذلك.. انه الله..
– هل حصلت على المنحة للمرة الثانية وفي دولة أخرى!! هذا مستحيل كيف حصل هذا!!
انه فضل الله..
وتتابعت الصور المتلاحقة أمام أحلام حتى رأت نفسها أخيرا وهي في أشد حالات بؤسها، وقد تقطعت حبال قلبها، فمن الذي أوحى لأنوار أن تتصل بها في ذلك الوقت بالذات لتكون سببا في إعادة رشدها اليها؟؟ انه الله، فهل آن لها أن تصل حبالها به وحده!!
*
مضت سنة كاملة على سفر أحلام وزوجها وعودتهم إلى بلادهم، بعد أن أنهت الإجراءات اللازمة لاستخراج أوراق درجة الدكتوراة كاملة. كانت أنوار في لهفة عارمة لقراءة أول خطاب تتلقاه من صديقتها بعد أن انقطعت عنها أخبارها، ولم يعد لها سبيل لمواصلتها إلا بالدعاء..
فتحت الظرف ويداها ترجفان، وقرأت:
عزيزتي أنوار
أعتذر عن غيابي الطويل عنك وعدم وفائي بوعدي بإرسال عنواني لك بمجرد وصولي، ولكن الظروف التي مررت بها كانت أقوى مني، وستعذرينني عليها بالتأكيد، فقد ساء وضعي مع زوجي أكثر ولم تعد تجدي كل محاولات الإصلاح لإعادة الوفاق بيننا حتى طلقني، كانت صفعة قوية أيقظتني من غفلتي، فلا سلطة لنا على قلوبنا بل هي ملك لله وحده وما يضعه فيها من حب أو كره، هي إما هبات وعطاءات أو ابتلاءات واختبارات، فمن أشغلته الهبة عن الواهب نزعها منه ، ومن تعلق شيئا عذب به، والله يقلب القلوب كيفما شاء..
أجل لقد كان درسا قاسيا ولكن الله لطف بي وأعانني على تجاوز محنتي لأخرج منها أصلب مما كنت، كما أكرمني بأن كشف عن بصيرتي الزيف والخداع وأراني حقيقة الحب الذي لا مراء فيه، لقد تعلمت بأن لا أعلق حبالي إلا بالله وحده، حتى أصبح شعاري؛
                   إذا صح منك الود فالكل هين    وكل الذي فوق التراب تراب
غدوت حريصة على رضا ربي أكثر من أي وقت مضى، ومنتهى أملي أن يرضى الله عني ويغفر لي ما كان مني، وبدأت حياتي من جديد في ظلال شجرة السعادة الحقيقية ( حب الله)، وها أنا الآن بفضل الله قد استلمت وظيفتي في الجامعة وسعيدة جدا بصحبة طلبتي وزملائي فهم يقدرونني ويحترمونني جدا وأبادلهم حبا بحب، وأزف لك أيضا خبر زواجي الجديد..
أجل.. لقد تزوجت من رجل شهم ونبيل يكبرني ببضع سنوات تقدم لخطبتي فور انتهاء عدتي، وتساءل الناس كالعادة ، كيف حدث هذا !! مطلقة في الثلاثينات من عمرها تتزوج من رجل أعزب ذا مال وجاه ومكانة مرموقة!! والحمد لله لا تتخيلي مدى سعادتي معه ، انه طيب جدا وحنون أيضا ويحبني كثيرا..
انه فضل الله يؤتيه من يشاء، أفلا أحب الله !! كم أحبك ياربي
وأبشرك أخيرا بأنني حامل بطفلي الأول، فادعي الله لنا أن يرزقنا الذرية الصالحة التي تقر أعيننا برضا الله..
وختاما جزاك الله خيرا على وقوفك إلى جانبي، بانتظار أخبارك والله معك يحفظك ويرعاك فرددي دوما
(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، انك أنت الوهاب)
                                                                                               أختك أحلام

* * *
تمت بحمد الله
ملاحظة: القصة مستوحاة من قصة حقيقية وقد تكون الحقيقة أغرب من الخيال أحيانا..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 26

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

انهمرت الدموع من عيني سورا مجددا ولكن بقهر أشد..
غير أنها سرعان ما جففتها، وهي تحدث نفسها بعزيمة (الزعيمة) التي ما فتأت تسكن داخلها:
– لن أكون ضعيفة بعد اليوم.. هذا وعد قطعته على نفسي، ولن أنكثه مرة أخرى.. فلإن وُلدتُ لأعاني ولن أحصل على ما أريده إلا بشق النفس، فليكن.. وليعلم الجميع من هي سورا..
لم تكد تتم جملتها حتى شعرت بيدٍ تمسكها لتوقفها بقوة، ولدهشتها الشديدة فوجئت بأيهم يقف إلى جوارها وهو ينظر إليها بدهشة:
– هل أنت بخير!
شعرت سورا بأن قلبها سيتوقف بلا ريب، أو أن تفكيرها بأيهم قد أثر على عقلها فبات يصوّره أمامها، فأي مصادفة هذه التي ستأتي بأيهم في هذه اللحظة بالذات!! فأغمضت عينيها وفتحتهما مجددا لتجد أيهم بشحمه ولحمه وهو يعيد عليها السؤال مرة أخرى:
– هل أنت بخير؟؟؟؟
تلفتت سورا حولها بارتباك، رغم رباطة جأشها المعتاد.. أيحدثها هي أم ماذا!! ولوهلة انتبهت أنه لا يزال ممسكا بيده، فتسارعت نبضات قلبها بعنف.. هل هذا حلم!!! لكنها تمالكت نفسها لترد عليه بصوتٍ خُنقت حروفه:
– عفوا!
فأعاد أيهم سؤاله بصيغة أخرى لعلها تفهمه:
– ألستِ صديقة سوسن! كنت أسألك إن أصابك شيء!!
كانت تلك الكلمة كفيلة بإعادتها إلى رشدها من جديد.. (سوسن)، هذا هو المهم إذن.. وتذكرت الدور الذي لعبته في آخر حفلة، صديقة سوسن، وبصعوبة حاولت السيطرة على أعصابها وهي ترد بهدوء:
– أجل.. صديقة سوسن، هل أصابها شيء؟
فأجابها أيهم وقد بدا أكثر تفهما لحالة الشرود التي تعاني منها:
– سوسن بخير فقد أوصلتها لمنزلها قبل قليل، لكنك أنتِ من كنتِ على وشك قطع الشارع دون الانتباه للسيارات المسرعة!! من حسن الحظ أنني أوقفتك في اللحظة الأخيرة، تبدين مشوشة الذهن!
عندها انتبهت سورا لنفسها فحدثتها وهي تتلفت حولها بتعجب.. يا إلهي لقد قطعت مسافة طويلة دون أن انتبه، أين أنا الآن! وما الذي أتى بي إلى هذا المكان!!
يبدو أن عقلها الباطن هو من قادها إلى هذا الحي الذي يقيم فيه أيهم، دون أن تشعر بذلك..
فشعرت بالاحراج قليلا لكونه قد رآها على تلك الحالة، لكنها سرعان ما شعرت بالامتنان لذلك الحظ الذي قرر أن يبتسم لها ولو لمرة واحدة!!
وبعد فترة صمت قالت بامتنان بالغ:
– شكرا لك، يبدو أنني سرحتُ قليلا..
فقال لها باسما:
– يبدو أن معهد الفنون له أثر كبير عليكن، فحتى سوسن أصبحت تسرح كثيرا هذه الأيام!
قاومت سورا شعورها بالغيظ الشديد.. فها هو يذكر سوسن مرة أخرى، بل وفي كل جملة يقولها.. وهدّأت نفسها:
– عليّ أن أصبر قليلا، وإلا خسرتُ كل شيء.. فلم يبق سوى عدة أيام وستنقلب الأمور لصالحي بلا ريب.. لن أسمح بإفساد خطتي المحكمة.. فهي أملي الأخير..
وكم كانت دهشتها شديدة عندما عرض عليها أيهم أن يوصلها بسيارته، وكأن الحظ أصر على أن يبدي حسن نواياه تجاهها هذه المرة، لكنها أبدت تمنّعها وهي تجيبه بابتسامة ودودة:
– شكرا لك.. ولكنني أفضل العودة وحدي، فلا أريد إزعاجك معي أكثر..
غير أنه أصر عليها بقوله:
– لا يوجد أدنى إزعاج في ذلك، يسرني أن أقدم شيئا لصديقات سوسن إكراما لها، لذا اطمئني تماما فأنا مستعد لفعل أي شيء من أجل سوسن فلا تقلقي بهذا الشأن..
ورغم أن كبرياء سورا أنِفَ من أن يستجيب لطلبٍ كهذا إكراما لغريمتها، لكن قلبها المتيم بحب أيهم أبى عليها إلا الانصياع لرغبته، لا سيما وأنها ستكون فرصة مواتية لتنعم بقربه أكثر..
وما هي إلا لحظات حتى كانت تجلس إلى جانبه.. هي وأيهم وحدهما في السيارة نفسها!!
بذلت جهدا كبيرا لتحافظ على اتزانها، خشية أن يفلت لسانها بكلام يعبر عن مكنونات قلبها، وشعرت بأنها بحاجة لرباط فولاذي لتمنع نفسها من أن تبوح له بحبها وعشقها الكبير له.. أخذت تثبّت نفسها وتذكرها.. لم يأن الآوان بعد.. سيفسد كل شيء.. اصبري يا سورا.. اصبري.. لم يبق سوى القليل فلا تستسلمي بسهولة.. كوني قوية.. بل أنت قوية فلا تضعفي الآن..
وبينما هي على تلك الحال، بوغتت بسؤال أيهم لها:
– أما زالت سوسن خاضعة لتأثير تلك الفتاة برأيك؟
ظهر الارتباك واضحا على سورا، فهي لم تكن مهيأة لسؤالٍ كهذا الآن، إضافة لكونها لم تعد تذكر تماما- خاصة وهي في هذه الحالة من تشوّش الذهن- ما الذي لفقته من كلام بحجة أنها صديقة سوسن لتفتعل محادثة خاصة على انفراد مع أيهم في تلك الحفلة.. ربما قالت له شيئا عن قلقها بشأن علاقة سوسن بنور!! لكنها لا تذكر تحديدا ماذا كان!! لقد خانتها ذاكرتها للمرة الأولى، وهي التي اعتادت على دراسة كل كلمة تقولها بل وحفظها جيدا استعدادا لما يمكن أن يحدث في المستقبل!! ألا يمكن للحظ أن يُتم معروفه حتى النهاية!!
وأمام صمتها، تراجع أيهم عن سؤاله معتذرا:
– آسف.. لم أقصد إزعاجك بسؤالي، فربما كانت سوسن قد استأمنتك على بعض أسرارها كعادة الأصدقاء، ومن غير الجدير بي أن أجبرك على البوح بذلك..
تنهدت سورا بارتياح، بل وتنفست الصعداء وهي تحدث نفسها:
– فليظن ما يريد.. هذا أفضل..
ثم قالت يتفهم:
– لا عليك.. إنني أفهم موقفك تماما.. فأنت خطيبها ومن حقك الاطمئنان عليها..
فتنهد أيهم وقد بدا الهم واضحا في نبرة صوته:
– في الحقيقة إنني قلق على سوسن.. قلق جدا…
وأوقف السيارة على جانب الطريق، محدقا النظر في عيني سورا، مستنجدا بها بنظراته القلقة، كمن يحاول إفهامها بلسان الحال، ما عجز عن التعبير عنه بلسان المقال، فيما غاص قلب سورا إلى أسفل قدميها، بعد أن تلاقت نظراتهما بعمقٍ لأول مرة…
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 25

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

عادت الى سورا أمواج الذكريات لتتلاطم في مخيلتها من جديد..
لم يكن لديها الكثير من الحاجيات لتصطحبها معها في ذلك الوقت، بل انه ما كان من داع لتحمل شيئا من أسمالها البالية.. فلم تأخذ سوى سلسلة نحاسية قديمة هي الذكرى الوحيدة من والدتها المتوفاة.. سارت إلى جانب السيدة رافعة رأسها بشموخ، وكأنها هي من تقود السيدة إلى وجهتها لا العكس، بعد أن أبى عليها كبرياؤها الظهور بمظهرٍ خاضعٍ ذليل كـ (سعيدة)! وبنظرات جامدة؛ ودعت رفاق الطفولة الذين وجدوا أنفسهم فجأة دون (الزعيمة)..!
قصر كبير.. غرفة مريحة وفراش وثير.. طعام وفير.. وشراب كثير.. ثياب جميلة وحقائب فاخرة وأحذية جديدة.. خدم وحشم وحرس، ودنيا مقبلة.. أمور كثيرة كانت كفيلة بأن تُنسي سليمة ست سنوات مرّت من حياتها، فسرعان ما تكيّفت مع جوّها الجديد، لا سيما وأنها قد اعتادت على أخذ دور الملكات والأميرات مع أطفال حيها الذين حاولت مسحهم تماما من ذاكرتها فيما بعد، فما هم إلا مجرد أشقياء لا فائدة تُرجى منهم! بل إنها لم تمانع أبدا بعرض السيدة التي تبنتها:
– من اليوم سيكون اسمك (سورا) فهو يليق بك أكثر..
لقد بدأت حياة جديدة بالكامل، انصهرت فيها محاولة تجاهل الحقيقة المرة بكونها دخيلة على هذا المجتمع الفاره، وليست أصيلة فيه، وكم كانت سعادتها كبيرة عندما انتقلت مع من تبنتها إلى مدينة أخرى بعيدة عن الزقاق الذي نشأت فيه، ولا يعرف فيها أحد أصولها الحقيقية..
حاولت إشباع رغباتها متجنبة كل ما قد يُذكرها بماضيها، بعد أن أدركت بذكائها الحاذق حيثيات المجتمع الراقي، فتطبعت بطباعه كأي سيدة راقية وُلدت فيه..
لم تفسح المجال لمشاعرها بالظهور ولو لمرة واحدة، خشية أن تحن لبيئتها التي قضت فيها طفولتها، فلا أحد هناك يستحق منها اهتمامها أبدا بعد أن تخلوا عنها بسهولة..! لم تذكر أنها أحبت أحد بصدق بعد ذلك ولو لمرة واحدة! حتى السيدة التي تبنتها وعاملتها كإبنة حقيقية، لم تكن علاقتها بها أكثر من علاقة (المنفعة المتبادلة) إن صح التعبير.. هذا ما كانت تراه سورا، فقد وفرت لها تلك السيدة الحياة الكريمة، كما قدمت هي لها فرصة تبني طفلة جميلة ذكية يمكنها التباهي بها أمام الآخرين، وتؤنس وحدتها وهي الأرملة الخمسينية التي لم تُنجب قط ولا يوجد لديها أقارب يُعتمد عليهم..
مغرورة ومتكبرة.. صفتان طالما سمعتهما سورا ممن حولها، وكم كان يسرها ذلك!! كان بالنسبة لها دليل نجاحها كسيدة راقية حقيقية، حتى أبناء الأثرياء أنفسهم طالما حسدوها على أمور كثيرة!
وحدها سوسن كانت غريمتها، رغم أنها لم تأبه لها كثيرا في البداية، فقد كانت مجرد زميلة التقتها في معهد الفنون الراقي..
تسارعت نبضات سورا وهي تعود بذاكرتها لذلك اليوم..
لم يكن لديها من العواطف وقتها ما يفجر مشاعرها الكامنة في أعماق قلبها، لم تذكر أنها بكت يوما لذكرى مرت بها، أو حادث آلمها.. بل لم يكن هناك ما يستحق التألم من أجله برأيها!! وحده هو.. استطاع فعل ذلك بها وأكثر!!
لقد فعل بها فعل السحر أو يزيد، لم تكن تتخيل أن تؤثر بها اسطوانته الاولى كل ذلك التأثير الرهيب.. أيُعقل أن تكون مجرد اسطوانة عادية!! لقد قلب كيانها تماما.. أحالها إلى فتاة أخرى بمشاعر جياشة، لم تكن تعرف أنها تمتلكها أبدا.. بل لم يخطر ذلك ببالها أصلا.. ولأول مرة بعد عشرين عاما مضت من عمرها؛ يخفق قلبها بالحب!!
حتى أنها لم تعد تعيش إلا على أمل اللقاء به، ولم يعد في غرفتها مساحة فارغة إلا وأثر منه عليه، صورة أو اسطوانة أو خاطرة.. هل كانت تتصور أنها ستكتب خواطر في يوما من الأيام!! لكنها كتبتها من أجله هو.. أهكذا يفعل الحب بأهله!!
لقد وجدت فيه فتى أحلامها الذي آن لها أن تتحرر من قيود جمودها لتعيش معه بشفافية وسعادة، ستفعل أي شيء من أجله.. أي شيء.. فهو كل حياتها التي ما عادت تعرف غيرها..
ألحانه.. صوته.. صورته.. كلماته.. كل شيء فيه، وأي شيء ينتمي إليه يعني لها (حياتها)..
لا تذكر كم من الليالي بكت شوقا إليه، ورغبة في القرب منه، وهي التي ما ذرفت دمعة واحدة في أحلك ظروف طفولتها القاسية!!
تنام على ألحان معزوفاته، وتحلم بصورته، وتصحو على طيفه..
تكاد تجزم يقينا أنه ما من فتاة أحبته كحبها له، وكم كانت سعادتها كبيرة عندما أعلن عن حفلته الأولى في المدينة، فبادرت بشراء أول تذكرة في المقعد الأول، ولو تُرك الأمر لاختيارها، لاشترت تذاكر القاعة كلها!!
ذهبت بصحبة زميلاتها في المعهد، إذ كانت الحفلة بعد دوامهم فيه، سارت معهم بجسدها، أما روحها.. فقد سبقتها إلى هناك منذ زمن..
يومها عرضت إحدى الفتيات على سوسن مرافقتهن، إذ لم تكن ترغب بالحضور بداية، غير أن الفتاة أصرت عليها بقولها:
– إنها الفرصة الوحيدة التي قد نخرج فيها نحن الفتيات معا، سنقضي وقتا ممتعا ومسليا بلا شك.. هيا يا سوسن لا تترددي..
لم يخطر ببال سورا وقتها أن هذه الدعوة ستقلب أحلامها رأسا على عقب..
وانهمرت الدموع غزيرة من عيني سورا وهي تسترجع أحداث ذلك اليوم الأليم..
لماذا سوسن!! لماذا تختارها يا أيهم وأنا التي أحببتك من كل قلبي!! لماذا التفتَّ اليها وأنا التي كنت مستعدة لفعل أي شيء من أجلك..
لماذا؟؟.. لمــــــاذا؟؟؟
لماذا هذا الظلم!!!!!!!!!!
لماذا يوجد من يأخذ كل شيء دون عناء أو تعب، في حين أن هناك من لا يستطيع الحصول على مايريد إلا بشق الأنفس ثم هو لا يكاد يحصل عليه!!!
ألا يكفي سوسن أن لها أسرة حقيقية ثرية تحيطها بحبها ورعايتها، ألا يكفيها حنان والدتها المتدفق وحبها الكبير لها؛ حتى جاءت لتسلبني حبي الوحيد!!!
آه يا سوسن كم أكرهك.. أكرهك بشدة يامن حطمتِ وجداني.. وزلزلتِ كياني!! أجل.. يؤسفني الاعتراف بذلك حتى أمام نفسي!!
ألا تعرف ما الذي فعلته بي يا أيهم!! لقد قتلتني، ودست على كبريائي، ومع ذلك.. لا زلت أحبك.. أي جنون هذا!!!
وانهمرت الدموع من عينيها مجددا ولكن بقهر أشد..
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم