Please or التسجيل to create posts and topics.

ميلاد (الجزء الثالث لرواية حين عاد قلبي)

PreviousPage 2 of 2

الفصل السادس

خلال يومين، ظلت عائشة تزور منزل أختها قبيل صلاة العصر لتستقبل الضيوف معها وتساعدها إن احتاجت لها، ولا تعود إلا بعد صلاة العِشاء تاركة مسؤولية البيت على ضياء التي صارت مهامها خلال اليوم بينه وبين المؤسسة، الاهتمام بدراسة عامر وعمار، تساعدها رُبا، وأحيانًا يهتم طارق بتدريس الولدين لتتم ما عليها. ولما عادت عائشة للبيت في ذلك المساء، وجدت عبد الكريم بالصالة جالسًا بمفرده يشاهد التلفاز، رُبا وضياء بالمطبخ تعدان العشاء، وسمعت صوت طارق بغرفة عمار وعامر كان يدرسهما، رحَّب بها عبد الكريم: كيف حالهم؟

-بخير وعافية.

أطلت ضياء من المطبخ وهي تقول: خالتي، لقد انتهيت سأذهب لأبدل ملابسي ومن ثم سأجهز سفرة العشاء.

-وأنا سأفعل مثلك.

نهض عبد الكريم وهو يقول: سأجهز السفرة أنا ورُبا، أسرعا فقط أريد أن أنام.

ضحكت عائشة بينما قالت ضياء: ارتح يا عمي ريثما ننتهي، لن نتأخر.

-دعيني أقوم بشيء قليلًا بدل الركود، هيا أسرعا.

ابتسمت ضياء وصعدت الدرجات نحو غرفتها التي كانت بالدور الأول، بينما دخلت عائشة غرفتها ووضعت حقيبتها على الطاولة ثم فتحتها لتضع مفاتيح المنزل فيها فإذا بها تجد صورتين بداخلها استغربت، استخرجتهما، فإذا بالأولى صورة لطارق في طفولته وهو يجلس على الأرض أمام التلفاز ومنهمك بألعاب الفيديو في منزل جده القديم وأسنانه تصطك ببعضها لفرط توتره وانسجامه باللعب، تذكرت تلك الصورة فقد التقطها له عبد الكريم وهو يضحك لتوتره وانفعاله، والصورة الأخرى كانت له في أيام الجامعة حين كان في يجلس مع رفاقه ناصر وصبري ووليد عند شاطئ البحر، كان هو ملتقط الصورة لجمعتهم، تساءلت كيف وصلتا إلى حقيبتها، قلبت الثانية لتجد على كلماتٍ بمكتوبة بخط اليد: ’’كُنْ بدرًا تَخْبتُ في حضرتِهِ النُّجُوم‘‘

زادت دهشتها قلبت الأخرى لتجد كلمات أيضًا: ’’كل البشر مجرد أطيافٌ تتلاشى أمامي، إلا طيفك تجسد بقلبي‘‘

أبعدت حيرتها لتنادي على طارق الذي لباها، سألته: هل انتهيت من تدريس الولدين؟ حان وقت العشاء.

-بقي شيء يسير سيكملانه لاحقًا، هل هذا ما أردتني لأجله؟

-لا، بل هذا.

ناولته الصورتين وهي تقول: لماذا وضعتهما في حقيبتي؟

تأمل الصورتين والكلمات، قلَّبهما في حيرة وهو يقول: لم أضع شيئًا، وصورتي مع رفاقي لم أطبعها أصلًا لا تزال بحاسوبي.

-إذن كيف وصلتا إليّ؟

-لا أدري.

-لا داعي لأن تخدعني، هل ستطير الصورتين لوحدهما وتدخلان الحقيبة؟

-لا أعرف شيئًا عنهما، صدقيني.

-إذن من فعل هذا؟

-لا علم لي؛ لكنها مفاجأة جميلة، ربما يكون أبي لأني ابنه الوحيد وفخره الكبير.

ضحكت وهي تقول: مع هذه الكلمات! هل والدك يغازلك؟ لا شك أنها ضياء.

ابتسم طارق وقال: ولِم تختار حقيبتك لتضعها فيها؟ كان بإمكانها وضعها في حقيبتي لأعرفها.

-ربما تريد أن تمتعنا بفضول البحث أو لتزيد حيرتك، لن تعرف السر إلا إذا أعادت الكرة، هذه مهمتك.

أرادت أخذ الصورتين منه إلا أن طارقًا أسرع بإخفائهما في جيب بنطال بجامته وهو يقول في سرور: معذرة، أنا صاحب الصورتين والمعني بما كُتب فيهما؛ لذا سأحتفظ بهما.

اتسعت ابتسامة عائشة، وقالت: أسعدكما المولى، هيا لنتناول العشاء.

هز رأسه وخرج، وأسرع يشارك والده ورُبا في إعداد السفرة، ثم أقبلت ضياء لتشاركهم، ابتسم وهو يتذكر كلماتها، ولما جلسا متجاورين همس لها قائلًا: كوني شمسًا لا أضيء إلا بها.

ابتسمت خجلة، أخفضت رأسها وهي تقول معاتبة: الوقت ليس مناسبًا لهذا.

نظر لمن حوله فرأى أمه تنظر لهما مبتسمة ووالده منشغل مع رُبا وعمار وعامر يتحدثان، ارتبك وخجل، ثم يبدأوا جميعًا بتناول الطعام، وظلت نظرات الحب تتبادل بينهما بصمت. بعد لحظات، رن هاتفه، التهم لقمته وأخرجه من جيبه ليجده رقم غريب، تأمله محاولًا تذكر صاحبه فلم يعرفه، قال والده: من المتصل؟

-لا أعلم، ربما مستأجر جديد، سأجيب عنه.

ونهض مبتعدًا عنهم وهو يجيب: السلام عليكم.

-وعليكم السلام، كيف حالك يا سيد طارق؟

كان الصوت أنثويًا رقيقًا، قال بحدة: من أنتِ؟

-ألم تعرفني؟

-توقفي عن هذا، من أنتِ؟ وماذا تريدين؟

-حاول أن تحزر من يمكن أن تتصل بك.

رد بحدة: إن لم تجيبي حالًا سأغلق الخط.

-حسنًا حسنًا.. أنا رندا ابنة عمك.

اندهش طارق لطريقة حديثها، بينما قالت متابعة: طبيعي ألا تعرف صوتي فنحن لم نتحدث منذ أن سافرت أول مرة.

-لم أتوقع أن تحدثيني هكذا.

-ألستَ تقول أني أختك؟

-بلى؛ لكن هذا لا يعني أن تحدثيني بهذه الطريقة.

-حاضر.

-كيف حصلتِ على رقمي؟

-سألتُ وحصلت عليه أم أنك لا تريدني أن أحدثك؟

-لم أقصد هذا، فاجأتني فقط، إنها المرة الأولى التي تقررين فيها محادثتي والاتصال بي، كنتِ تكتفين بالرسائل فقط.

-إن كان يزعجك صوتي فلا بأس سأكتفي بالرسائل.

-سامحكِ الله، لا أقصد هذا أيضًا، تفضلي، ماذا تريدين الآن؟

-أردتُ أن أسلم عليك وأشكرك على زيارتنا.

رد في استنكار مازحًا: حقًا!! أهذا كل شيء؟ أين اختفت الطفلة المزعجة كثيرة الطلبات؟

-ما زلت صاحب مزاح ثقيل، أنا لم أعد صغيرة.

-بل ستظلين كذلك في نظري، أنتِ مثل رُبا في كل تصرفاتها.

-كما تريد.

قالتها بنبرة منزعجة، فقال: هل تريدين أن أقول شيء آخر؟

-لا، قل ما يعجبك.

-صحيح، أعتذر إن كان ردي عن رسالتك آخر مرة قد ازعجك.

-لم أنزعج، عدتُ للمطبخ وقتها.

-الحمد لله، اسمحي لي الآن.

-هل أستطيع الاتصال بك مرة أخرى؟

-إن لم أكن منشغلًا سأجيبك أو أتركِ رسالة وأخبريني بالوقت الذي ستتصلين فيه بي.

ثم أنهى المكالمة ليعود لسفرة العشاء، فسألته ضياء قائلة: من المتصل؟

همس قائلًا: رندا!

بدت الدهشة على وجهها فقالت: لماذا تتصل؟!

-لا شيء مهم.

عقدت ضياء حاجبيها وقالت في ضيق محاولة إلا تثيره أمام الجميع: ومنذ متى وهي تتصل بك؟

ابتسم طارق ابتسامة مائلة ونظر لعينيها وهو يقول: أتغارين!

-ما هذا السؤال الغريب؟ طبعًا سأفعل.

ظل طارق يتأمل وجهها الذي احتقن غضبًا والسرور يسطع من عينيه، فقالت بحدة: هل تسخر مني؟

-بل أتأمل وجهك الغيور كم صار جميلًا، لم أرك من قبل هكذا، اطمئني، رندا هي أختي فهي لم تبصر في هذه الدنيا أخًا غيري.

-لكنها في الواقع ابنة عمك.

-لن يدلف هذا القلب إنسانة غيرك، طيبي نفسًا وسأروي لك كل شيء عن طفولتنا لاحقًا.

هزَّت ضياء رأسها، فقال: هيا ابتسمي قبل أن أفقد شهيتي بوجهك العابس هذا.

امتثلت له وابتسمت، بينما قالت عائشة: ما بكما أنتما الاثنان؟ هل تتجادلان؟

نظرا إليها في ارتباك وقال: لا شيء.

أما رندا فقد اجتاح الضيق وهي تغلق الخط وتقول: لا يبدو أن رسالتيَّ قد وصلت إليه بعد، ما كان عليَّ الاتصال، سأجرب غدًا، لا بد أن أغيَّر هذه النظرة.

ما أن أطل الصباح حتى أرسلت رسالتها له تستأذنه في الاتصال به عند الحادية عشر صباحًا، قرأ رسالتها إلا أنه لم يجبها، داهمها الضيق وسرعان ما عذرته لانشغاله بعمله، وانشغلت هي بدورها في مساعدة والدتها في أعمال البيت واستقبال الزائرات لهما، وبينما هي جالسة بين رفيقاتها انتبهت لنغمة خاصة من هاتفها، أسرعت تتفقده لتجدها رسالة منه، فتحتها لتقرأها: ’’لدي مفاجأة خاصة لك أتمنى أن تسعدك، سآتي لمقابلة عمي وأخبره بها بعد الدوام إن شاء الله‘‘

رقص قلبها فرحًا واستبشرت خيرًا، أخيرًا فهم رسالتيها وأدرك مرادها، انتظرت على أحر من الجمر مغادرة الضيوف لتهرع لغرفتها وتتصل به، ولما فتح الخط أسرعت تقول بسرعة: ما هي المفاجأة؟ أخبرني الآن.

ضحك: وكيف ستكون مفاجأة إن أخبرتك؟ ساعتان فقط وستعلمين بكل شيء.

-ستحرق أعصابي.

-أفضل من أن تحترق مفاجأتي.

-لن أصبر.

-لا شيء يُنال بغير الصبر، لذا تحلي به، أتمنى حقًا أن يكون هذا اليوم هو أسعد يوم في حياتك كما هو كذلك بالنسبة لي.

ارتبكت لكلماته، شعرت أن مشاعرها كلها قد تخبطت فعجزت عن الحديث، أمنيتها باتت قريبة منها وإلا فما الذي سيجعل يومهما سعيدًا معًا؟ خفق قلبها في اضطراب وارتعش الهاتف في يدها، لم تنتبه إلا على صوته وهو يقول: أستأذنك الآن.

وأنهى المكالمة، ارتمت على سريرها مسرورة، الحلم الذي عاش لسنوات أخذ يطوف بخيالها ليخبرها بقرب تجسده على أرض الواقع.

***

عند الساعة الواحدة والنصف مساءً وصل طارق لمنزل عمه، فاستقبله رشيد بترحاب كبير، وقال وهو يدخله حجرة الضيوف: ما هذه الزيارة الجميلة والمفاجئة؟ أراك لوحدك.

ابتسم طارق وقال: لأني جئتُ إليكم من العمل مباشرة، وأتمنى أن تكون زيارتي تحمل الكثير من الخير لكم.

-وهل تعودنا غيره منك؟ هل تذكر زياراتك لنا عندما كنت صغيرًا؟ كنت تؤنسنا وتضيف المرح مع رندا، ثم أتت رُبا بروحها المرحة هي الأخرى، وكل ما سافرنا اشتقنا لوجودكما.

-طبعًا لا أنسى تلك الأيام الجميلة، هل تريد مني أن أعيد ذلك الصخب مجددًا؟

ضحك الاثنان في مرح، فقال رشيد: ستعيده بطريقتك، تُرى ماذا تحمل لنا؟

-الأمر يا عم لأجل ابنتك رندا.

بدت الدهشة على وجه رشيد وارتبكت أعماقه، هل يريد طارق التقدم لابنته لهذا جاء بمفرده؟ إن كان كذلك فلماذا لم يتقدم لها قبل أن يتزوج ضياء؟ كان يتمنى حدوث هذا ورندا ابنته الوحيدة، كم سيكون مطمئنًا عليها وعلى حياتها القادمة لو صارت في كنفه، فهل يتحقق هذا الأمر ولم يمضِ على زواجه إلا ثلاثة أشهر؟ شعر بأنه خياله شطح به كثيرًا، قال له في قلق: خيرًا يا بني.

-هل من الممكن أن تنادي خالتي عائدة لتستمع لحديثنا؟ الأمر لا يحتمل التأجيل للبت فيه.

زاد ارتباك رشيد وتوجسه، فقال له طارق في ابتسام: قلتُ لك أن الأمر خير فلا تتوتر.

هز رشيد رأسه ثم نهض واتجه إلى المطبخ حيث تعد عائدة ورندا طعام الغداء، فوقف عند الباب وقال: عائدة، طارق يريد أن يسلّم عليكِ.

-طارق هنا؟! أهو من قرع الباب قبل قليل؟

-نعم، هيا أحضري معك شيئًا لأجله وتعالي.

-أهو لوحده؟

-نعم.

بدا الاستفهام على وجه عائدة، فقال لها: لا تسألي عن شيء، أسرعي فقط.

انصرف عائدًا لحجرة الضيوف، أعدت عائدة بعض الشاي لأجله، نفس ذلك الشعور وتلك الأمنية يراودان فكرها وشيء من عدم التصديق كان يطفئهما، تمتمت في نفسها: ما ضير أن تكون رندا زوجة ثانية وأنا أعلم من هو طارق وأعرفه منذ نعومة أظفاره حتى شبابه؟ من ستكون ضياء وهي الغريبة عن (المُكلا) أمام ابنتها المعروفة بين كل نساء الحي بجمالها الساحر وحُسن خلقها وعلمها وشهادتها العالية؟ آه يا عائشة.

تذكرت بعدها الأحاديث التي تموج بها جلسات الجارات فتخز كلماتهن قلبها، تصيبها بالحزن والغضب دون أن تصارح أختها عمَّا في قلبها وما يلحق بها من سياط الألسن وسهام الأعين وهن يرين بدورهن أن ابنتها تفوقها في كل شيء إضافة إلى صلة قرابتها الوثيقة بطارق، هل هناك من أمل أن تستطيع ردهنَّ بطريقةٍ ما؟ هل تتحقق الأمنية؟ تدفقت كل الخواطر إلى فكرها تتدفقًا لتبعد قلقها من قدوم طارق المفاجئ وطلب حضورها الغريب، حملت كأسين من العصير وأسرعت بهما إلى حجرة الضيوف، وتركت أمر استكمال الغداء لابنتها التي سقطت بقلب عاصفة الخواطر الهائجة.

منذ أن قرع طارق الباب وتيقنت قدومه لوحده ضاعت نفسها، فقدت تركيزها في عملها، نسيت ما طلبته منها والدتها، تبلدت فجأة وكأنها تجهل أماكن الأشياء ولا تعرف شيئًا عما تفعل، لم تحتمل الانتظار كثيرًا لتعرف المفاجأة التي أخبرها عنها، ثلاث دقائق فقط حتى أطفأت الموقد واتجهت إلى حجرة الضيوف، توارت خلف بابها المؤدي للصالة، ألصقت أذنها لتسمع أمها تقول لطارق: خيرًا يا ولدي، تفضل بقول ما تريد.

يبدو أنها وصلت في الوقت المناسب، خفقات قلبها كانت تدق بعنف مسببة الرجفة في جسدها، انصتت لتسمع طارقًا يقول في سرور: كل خير، صديقي العزيز محمود غسان يود التقدم لخطبة رندا.

رجَّ الخبر الصادم رندا رجًا عنيفًا، شعرت أن كيانها كله قد انهار فجأة، لم تدرِ من أين جاءتها تلك القوة حتى تحمل جسدها وتنسحب من المكان لاجئة لملاذ خيبتها الدائم، غرفتها، تعالج دمعات الحسرة التي أخبرتها بالوصول لنهاية أحلام السراب وآن لها أن تستيقظ منها بصفعة قوية من طارق نفسه، هل تجاهل رسائلها أم أنه لم يفهم ما في قلبها إلى الآن؟ من محمود هذا الذي ظهر فجأة ليفسد كل ما كانت تخطط له؟ أكثر ما كسر نفسها أن طارق هو من يقدمه لأبيها، أدركت أنها لا تزال تقف خارج أسوار قلبه، ألقت بجسدها على كرسيها وسمحت لدموعها بالانهمار عل وجعها ينطفئ، بل تمنت أن تنطفئ معه روحها، أما عائدة فقد ظلت واجمة، بينما تمالك رشيد نفسه ولم يسمح للخيبة أن تجتاحه، لم تكن هذه أمنيتهما، مال طارق برأسه، لم يفهم سبب ردة فعلهما، فسأل بحيرة: ما الأمر؟

رد رشيد: لا شيء، حدثني أكثر عنه.

-إنه صديق طفولتي وزميلي منذ أيام الثانوية، شاب يكبرني بعام تقريبًا وأكملنا دراستنا الجامعية معًا، إنه الآن يعمل في شركة للصناعات البلاستكية في (وادي حضرموت) ووالده يعمل هناك أيضًا، شاب مكافح ذكي وأهل ثقة، يسكن في (فوَّة) أيضًا أي أنك تستطيع السؤال في محيطنا وسيعرفونه، وهذه صورة له.

فتح هاتفه وأرى عمه وخالته إياها، وظل يسرد مناقب محمود التي يعرفها، والاثنان يستمعان وهما غير راغبين في ذلك، إلى أن أتم طارق كلامه، فقال رشيد مبتسمًا: إنك حقًا تحمل الخير؛ لكني كنتُ أتوسم شيئًا أفضل من هذا لابنتي الغالية.

-ماذا تعني؟

أشار بيده وقال: لا عليك، يسعدني أنك تهتم لأمر رندا.

-رندا أختي الصغرى ولا بد أن اهتم لأمرها.

-شكرًا لك، على كل حال لا بد أن أستشيرها وأسأل عنه وسأخبرك بردي.

-أرجو أن تحدد لي وقتًا، فأنا أخشى أن يغادر المدنية دون أن نتفق على شيء لهذا جمعتكما معًا.

-أسبوعٌ فقط وسأفيدك بالقبول أو الرفض.

-وهو كذلك، أعتذر لقدومي في هذا الوقت.

نطقت عائدة بكلماتٍ مرغمة: تناول الغداء معنا.

نهض طارق وهو يقول: في وقتٍ لاحق، لدي أمور يجب أن انجزها لهذا أسرعتُ بالقدوم قبل أن أنغمس فيها.

نهض رشيد وقال وهو يهز يده: لا بأس؛ لكن تذكر أننا وجهنا لك دعوة، لا بد أن تلبيها يومًا ما.

ابتسم طارق وهز رأسه وقال: بكل سرور عمي.

-تذكرتُ أمرًا، كيف استلم حسابات العقارين؟

-إنها جاهزة، يمكنني أن أحضرها لك من المؤسسة غدًا إن احببت.

-بل سأزورك بنفسي في المؤسسة.

-لا داعي لـ...

-اشتقت لكل نواحي (المُكلا) ومن ضمنها المؤسسة، لا بد أن أزورها.

-كما تريد، تشرفني زيارتك.

أتم كلمته ثم شيعه رشيد إلى الباب مودعًا، ولما عاد رأى عائدة جالسة مكانها والضيق مرتسم على محياها، دخل وجلس بقربها وقال: يبدو أنكِ كنتِ تفكرين فيما كنتُ أفكر فيه.

-رغم أن المستحيل كان يناديني إلا أني ركلته بعيدًا، خسارة ألا يكون طارق زوجًا لرندا، إني أحبه منذ طفولته، عندما أراهما يلعبان معًا كنتُ أقول لعائشة سأزوجها إياه عندما يكبران، تضحك، لم تأخذ كلامي على محمل الجد، لا أدري كيف نَسَيتْ رندا وهي كنزي الوحيد ولن أقدمها إلا لمن يستحقها، ثم أنها زوَّجته من فتاة ليست من (المُكلا) ولا حتى قريبة نعرفها، هي تعرف رندا جيدًا، لم نعلم بأمر الخِطبة إلا قبل أسبوعين من الزواج، تقول تم ذلك بعد أن أكملت ضياء دراستها، لم يكن في وسعي فعل شيء لأمنع هذا أو أدفعها لتغيير رأيها، كنتُ بعيدة والوقت ضيق، هذا الشيء يصيبني بالغيظ، وأيضًا صديقاتي لم يتركنني في حالي، يخبرنني بكل وقاحة أن طارق تزوج فتاة غير ابنتي بل توجهت أنظاره لخارج (حضرموت) كلها، آآآخ، كم أنا منزعجة.

-وأيضًا عبد الكريم، لِم لم يفكر في ابنة أخيه رغم معرفته بما ذكرتِ؟ هل الفراق والسنوات تنسينا أهالينا؟ أنا لم أنسَ شيئًا أبدًا مما كان بيننا، على كلٍ أمر زواج رندا من طارق مستحيل، لأنه لو كان يريدها لما سرَّ بتقدم غيره لها، سأسأل عن محمود أولًا وبعدها سأسأل رندا عن رأيها.

-كما تريد؛ لكني أريد أن اطفئ غضبي من تصرف عائشة وسوء اختيارها.

ما أن أتمت كلمتها حتى سمعا ضجة في خارج الغرفة أثارت فزعهما، وأسرعا يخرجان ليستطلعا الأمر.

أما طارق، فقد ركب سيارته وغادر مسرورًا، اليوم بالنسبة له يومٌ بهيج، عاد إليه فيه صديقه محمود بل وتقدَّم لأجل ابنة عمه، لم يحتمل تأجيل الطلب السعيد وكله ثقة ويقين بقبول عمه به بعد كل ما قاله عنه من خصال حميدة. أحيانًا يظن الإنسان أن ما يسعده سيسعد أحبته فيعود كطفلٍ صغيرٍ يحمل تباشير السعادة التي شعشعت في القلب ليزفها إليهم، ويفوح عطرها في الأرجاء لا أن يكتمها في صدره، يشاركهم ليشاركوه إياها، يشعر أن لحظة الفرح عطية من عطايا الرحمن يحق أن يسعد بها الجميع، هذا ما كان يجول في خاطر طارق الذي لم يدرك ما كان يجول في نفس عمه، خالته، رندا وصديقه محمود.

يتبع

 

الملفات المرفوعة:
  • 100.jpg
PreviousPage 2 of 2