Please or التسجيل to create posts and topics.

ميلاد (الجزء الثالث لرواية حين عاد قلبي)

Page 1 of 2Next

إلى..

الأحقاد التي نهشت الحدود،

الرذيلة التي استحوذت العقول،

السوداوية التي اجتاحت الصدور،

من اغتالوا الجمال والشرف والحضارة،

الشر قد يسود؛ لكن الخير يعود،

لقد آن أن تُعلن،

لحظة الميلاد،

ميلاد الوطن،

ميلاد الحب.

                                                                              الطبيبة الأديبة/ سعاد عمر سوَّاد

 

زينب جلال has reacted to this post.
زينب جلال

ما شاء الله لا قوة إلا بالله!! مقدمة رهييييبة وجميلة جدا! والاجمل هي مبادرتك لاشعال الفتيل، والمفاجأة برؤيتي لذلك هنا ما شاء الله عليك!^^
ارجو أن تنشري الفصول بشكل متتالي على الموضوع نفسه، بحيث اننا نتمكن من مشاركة رابط واحد لكل الاجزاء.. بحسب نظام كتابة الروايات في المنتديات ^^
وفقك الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

suad sawad has reacted to this post.
suad sawad

أشكرك أختي العزيزة، أسعدني مرورك الكريم، سأفعل إن شاء الله، خبرتي قليلة في المنتديات لكن سأحاول ذلك، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

اقتبس من suad sawad في 2023-08-07, 1:07 م

أشكرك أختي العزيزة، أسعدني مرورك الكريم، سأفعل إن شاء الله، خبرتي قليلة في المنتديات لكن سأحاول ذلك، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

بإذن الله تعتادين ذلك وجزاك الله خيرا لاهتمامك ^^
وفقك الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

suad sawad has reacted to this post.
suad sawad
اقتبس من زينب جلال في 2023-08-07, 9:29 م
اقتبس من suad sawad في 2023-08-07, 1:07 م

أشكرك أختي العزيزة، أسعدني مرورك الكريم، سأفعل إن شاء الله، خبرتي قليلة في المنتديات لكن سأحاول ذلك، وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

جزاك الله كل خير، وصل الله وصلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

بإذن الله تعتادين ذلك وجزاك الله خيرا لاهتمامك ^^
وفقك الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 

الفصل الأول

(الحب والكراهية لا يمكن أن تستوطنا قلبًا واحدًا، إن ساد الأول وصار للمرء حبيب يعشقه بعقله وقلبه، فلا بد أن ينعكس حبهما بكل شيء حولهما فلا ترى أعينهما إلا الجميل، مميزة كل قبيح يحاول تشويه حياتهما، جمال الحب من جمال الحياة، وما أروعه حين لا يأتي إلا بعد غرس القيم، قيمة الحب هو ما يجب أن يبحث عنه الانسان فتتقدم حياته بسخائه وبهائه، حتى لو رحل الحبيب أو بدر منه ما كان من الخيانة وعدم الوفاء سيجد الآخر نفسه يدعو له بالخير، وأن يكون التوفيق حليفه. أما ما يقال: حبٌ من أول لقاء، فهو من اللقاءات العابرة ونسمات المشاعر التي تمر ولا يتميز ما بعدها، أتمطر خيرًا أم تعصف شرًا. وأما الكراهية، فهي الثقب الأسود الذي يبتلع كل شيء جميل؛ الحياة والأمنيات، إنها النار التي تتغذى على الجمال فتحيله رمادًا يقبع في كل زاوية وكل درب، لتبصر عينا المرء السواد ويسكن في العتمة أبد الدهر، فلا يجتمع نور الحب وسواد الكراهية، لا بد أن يسود أحدهما على الآخر، يبقى النور نورًا والظلام ظلام...).

توقف قلم ضياء عند تلك الكلمة وهي جالسة تكتب على طاولة مكتبها وحيدة في غرفتها بعد أن سرق الليل نور الشمس؛ ليستيقظ مصباح الغرفة من سباته وينير لها المكان وصفحات أوراق المذكرة، تنهدت بعمق وهي تسند ظهرها إلى ظهر الكرسي وتقول في حيرة: كأنك نقلتِ عدوى الكتابة لي، إنها طريقة جيدة لنزيل وهن أنفسنا قليلًا.

ثم سحبت الدرج الأول لتستخرج مذكرة بدا غلافها الخارجي باهتًا وبدأت تقرأ آخر ما دون فيها.

 (في لحظات الوجع، أي نوعٍ من الكلمات يجب أن يقولها الإنسان ليحتضن بها روحه؟ وإن نطقها، هل تستطيع تجاوز حدود سمعه لتصل إليها، أم يحتاج لكتابتها حتى تتفحصها عيناه، وتتذوقها شفتاه، ويصل طمأنينتها لأعمق خلية في قلبه؟ أما أنا، فأيُّ أوجاعٍ يجب أن أزيلها عن روحي؛ الخيبة، الانتظار، أم عشق الوهم؟ أيُّ مأساة هذه التي أوقعتُ فيها قلبي لسنوات، وأيُّ لوعة يخلفه انتظار السراب، اعذرني لقسوة قراري هذا ولكني لم أجد اسمًا أمنحكَ إياه إلا (السراب)، فكلما تقدمتُ عامًا ظننتُك تدنو مني، فإذا بكَ تفرُّ عني وكأن ما بيننا قد منحته شيئًا من اسمك، ملامحك تتيه عن مخيلتي، معالم البيئة هنا تختلف كثيرًا عما هي في مدينتنا منذ أن وعيتُ بين أزقتها وأبصرتك في كل دروبي، كنتُ أرى صفاء الحياة كصفاء عينيك، إلى أن قرر والدي السفر، لم أكره شيئًا كالسفر الذي أبعدكَ عني وعن عذر زيارة والديكَ لأجل أن أراك فقط، ثم ظللتُ أختطف من كل سنة شهرًا، أهرعُ فيه للعودة إليك وأشتاق للدقائق اليسيرة معك، اختلس النظرات دون كلمات عسى تقرأ في عيني تلك اللهفة إليك والتي لم تخمد بقلبي منذ أمد؛ لكن سياجًا شائكًا يُبنى حين تُغرس بذور الحب في قلب الأنثى، فتهيمُ ولا تبوح، تعشقُ ولا تنطق، تراقب حبها بصمتٍ ووجع، وإن تجاوزته، ستنغرس فيها أشواك العُرف وتمزقها سياط التقاليد، تجرحها أكثر من صمتها، ليس في يدها إلا الانتظار وما يجود به وليها من اختيار، لو أني أمنح هذا الحق فقط؛ لكن... قلة من تعي هذا. ورغم الزوبعة المضطربة بداخلي لم تكن تبالي بي، تجمد شعورك فجأة ولا أدري لِم، فاقمته سنوات الحرب فاختطفت الشهر مني، مصرَّة على بعثرتك من غياهب عقلي، لذا كنتُ ألملم قصاصات الذكرى، أخاف أن تتبعثر، أن تتطاير مع عاصفة الزمن، أن تبهت فيها ملامحك، بسمتك، مرحك، حتى شقاوتك، حرصتُ على العناية بها وجمعها في ثنايا القلب لتكون مأواها ومسكنها حتى ألقاك. ليتني أحرقتها، ليتني سلمتها لبصيرتي وارتجيتها أن تزنها، لكانت أخبرتني أني أغرق في السبات، أحيا في أحلام الصِبا، أزور ربيع حبٍ قد ولَّى منذ زمن. كنتَ بهجتي وبتَ كدري، كنتَ أملي وأضحيتَ يأسي، ذنبي أني تشبثُ بطيفك وخلتك عائدًا إلى أحضان الذكرى... وإليَّ؛ لكنك أحرقتها قبلي، فتاهت كل دروبك عني يا طارق، سلام على قلبي المثخن بأوجاع الحنين.

توقف قلمي عند تلك الكلمة دون أن أدرج نقطة الانتهاء، فأكملتها دمعة سقطت على ورقتي وتمددت لثخن حبر كلمة (الحنين)، استيقظتُ من بحر ألمي محاولة تجفيفها بمنديل حتى لا يفسد بللها الورقة ويمتد لكلمات أخرى إلا أنها أحجمتُ وأنا أسبل جفنيَّ وأتمتم بألم: ومن سيقرأ ما كُتب هنا صلُح أم فسد؟ هي ذكرى سأركنها مع المذكرتين القابعتين هنا.

وها أنتِ الآن تقرأينها يا ضياء، تقرأينها لأني أريدكِ أن تفعلي ذلك فربما يؤكد لكِ ما بين دفتيها صدق ما بقلبي، فلا تنزعجي وأكمليها لأجلي رجاءً، ليتني كنتُ أستطيع البوح لأحدٍ بما في قلبي، لم أستطع وقتها وفاض قلبي بالألم وما عدتُ أدري ما أفعل، وهأنذا أبوح لكِ وحدك.

يومها، توقفتُ عن الكتابة وأخذتُ هاتفي المحمول، فتحت صفحة (فيس بوك) تظهر فيها صورة (طارق) وهو يقف على منصة بخلفية ذات ستارة حمراء مزينة، يرتدي بذلة رسمية وعلى وجهه الجميل ابتسامة فرح، كان بكامل أناقته، بل في بهاء إطلالته ولم يزده السرور إلا ألقًا بين الجميع، وبصري يتحول إلى من كانوا يقفون إلى جواره: والده عبد الكريم ورفاقه عمره: ناصر، صبري، وليد، ومكتوبٌ أعلاها: ’’ بالرفاء والبنين للمهندس طارق عبد الكريم‘‘. التاريخ أعلاه كان يخبرني أنه قد مضى على حفل الزفاف ثلاثة أشهر، لم أكن أرى هؤلاء الأربعة أمامي بل كنتِ أنتِ من رأته عيناي، تقفين إلى جانبه وترتدين فستانك الأبيض الفاخر بكل تباهي، والخيلاء ونشوة السعادة لا تفارق ثغرك، كنتُ أتتخيلك فتاة مغرورة مزهوة بجمالها، اجتمعت الغيرة والحقد عليكِ في صدري فكانا يمزقان قلبي، ندبتُ حظي وتساءلت وقتها: لِم كان يجب أن أعلم بعد انقضاء الأمر؟)

كانت تلك الكلمات آخر ما كُتب في المذكرة، قالت ضياء بحزم: ما يريده الله سيكون يا رندا، سيكون رغم الغيرة والأحقاد.

يتبع...

الملفات المرفوعة:
  • 1.png

الفصل الثاني

غريبة هي الحياة، إن أطلقت أطيار كدرها في اتجاه، أطلقت أخرى للفرح في اتجاه آخر، تهب بين ريحٍ ورياح، ولا تعرف السكون إلا فيما ندر، وهذا ما اتخذته بمنزل عبد الكريم. عادت ضياء بذاكرتها إلى يومٍ جميل تُشرق شمسه بصفاء لتسري حركة الحياة في المنزل الكبير، العائلة مجتمعة حول سفرة الإفطار؛ رُبا وعمَّار كانا يرتديان لابس المدرسة ويتناولان طعامهما، وعبد الكريم يحتسي كوب قهوة، بينما كانت ضياء تكمل تجهيز السفرة برفقة عائشة حين انتبهت لعدم وجود عامر، فنادت قائلة: أسرع يا عامر ستتأخر عن الحافلة.

خرج عامر من غرفته مهرولًا وهو يضع حقيبته عند بابها لينضم للجميع، بينما قال عبد الكريم: ماذا عن طارق؟ ألم يستيقظ؟

تلفتت ضياء حولها باحثة عنه فلم تره، ثم قالت: معقول!! لقد أيقظته منذ نصف ساعة وانشغلت مع الأولاد، أنا واثقة أنه قد نهض.

قالت عائشة: تفقديه.

ضحك عبد الكريم وهو يقول: ألأنه المدير سيتأخر الآن؟ يجب ألا يعتاد على الكسل.

-لا أظنه سيفعل هذا يا عمي، سأذهب لتفقده الآن.

أسرعت إلى غرفتهما فوجدت طارقًا قد ارتدى بدلة العمل ويعبث بالخزانة ويبعثر الملابس، كأنه يبحث عن شيء، صاحت به: ماذا تفعل عندك؟ عمَّ تبحث؟

أجابها دون أن يلتفت إليها: عن ملف الحسابات الذي راجعته بالأمس، أنا واثق أني وضعته هنا، أم...

لم يكمل كلمته حين رآها تقترب منه وتجثو لتفتح درجًا بأسفل الدولاب وتخرج ملفًا وهي تقول في ضيق: ها هو.

نهضت وهي تناوله إياه، قال دهشًا: كيف عرفتِ مكانه؟ أنا لا أضع أي أوراق هنا.

-لقد رأيتك تفعل ذلك، كنت متعبًا ليلة أمس فألقيت به هنا، يبدو أنك نسيت.

-فعلًا نسيت، النوم سيطر عليَّ، على أي حال شكرًا لكِ.

نظرت ضياء للملابس المبعثرة وهي تقول: يبدو أنني سأضطر لإعادة ترتيب الخزانة بعد الدوام.

رد في ارتباك: آسف حبيبتي، سأساعدك، لا تقلقي.

-دعك من الحديث الآن، ستتأخر عن... ما هذا؟ ألم أطلب إليك ألا ترتدي هذه السترة؟

-ما بها؟! أنها نظيفة وجديدة.

-بعض أزراها بحاجة لإصلاح، قد تخرج من مكانها في أي لحظة، ستسبب لك الحرج، اخلعها حالًا وارتدي ما سأقدمه لك.

أسرعت لتخرج سترة أخرى من الدولاب، انتظرته حتى خلع سترته لتناوله ما بيدها، وقفت لحظات تراقبه وهو يرتديها، وبعد أن أغلق أزرارها قرر الاتجاه لطاولته ليرتب حقيبة عمله في عجل، إلا أنها أمسكت ذراعه واستوقفته وهي تقول في عتب: الياقة، ما بك؟ تهرول وكأنك طالب مدرسة، لا تنسى أنك مدير، والمدير يجب ألا يسمح لهفوة أن تمر عليه حتى لو كانت في هندامه.

ابتسم لكلمتها وقد غمره السرور لاهتمامها الكبير به، امتثل لأمرها تاركًا إياها تحيط رقبته بيديها وتصلح ياقة السترة، وعيناه تبحران في عينيها وتفاصيل وجهها؛ تلك الندبة التي قرَّبتها منه تلاشت ولم يبق منها إلا خيالات تعيد له ذكريات لقائه بها، العين ذات الانبلاجة الطفيفة باتت عادية، الابتسامة الدافئة التي أشرقت أيامه لا تزال تسطع بقلبه، يالروعة القرب، ويا له من سحر امتلكته حتى استطاعت أن تغزو بجمال قلبها عقله وقلبه لتستقر بوجدانه، تعيد له ربيع قلبه ويعود هو للحياة، لقد أضحت حياته التي لن يعرف حلاوتها إلا بوجودها، ابتسم في أعماق نفسه بسعادة، ثم شد قامته ليزداد طولًا ويجذب يديها معه مداعبًا إياه، وهو يقول في تذمر مصطنع: حاااضر.

ردت بعتب: انتـ...

قطعت كلمتها حين انتبهت لنظرات الهيام في عينيه الساحرتين، فأبحرت في غياهبها كما فعل؛ وهبها الحب وأحبها لجمال روحها رغم وسامته وذمامتها، قاتل لأجلها حتى يأسا كليهما، كم كان اللقاء مؤلمًا، وكم ذاقا من لوعات حبهما حتى اجتمعا، جادت عيناه بأحلى كلمات العشق فأخمدت كل وجعٍ حاول الاتقاد بقلبها، ابتسم حين باحت عيناها له بما دار في خلدها، قال وهو يضع يديه على خديها: أُمْنِيَتِي أَنْ أَغُرقَ فِي بَحْرِ عَينيكِ، ولتضعْ كُلُ طُرُقِ النَّجَاةِ.

ابتسمت له فاحتضنها وأسند رأسها لصدره وهو يقول في هيام: لكم أحبك يا ضياء، وكأن الحب اقتصر باسمكِ وبهجته لن تكون إلا معكِ.

اسبلت جفنيها وهي تستمع للحن كلماته، لخفقات قلبه المولعة بها، بادلته الرد بهيام: الحب هو أنت يا حبيبي، الحب متجسدٌ بوجودك معي وقربك مني، أسأل الله أن نظل معًا أبد الدهر.

ظلت مستسلمة لأسر ذراعيه ترتشف من عبق ضمته، أما هو ود لو كانت قلبه الخافق في صدره حتى لا تبتعد عنه ولو لحظة، صارا كجسد واحد لزمن، إلى أن أرسلها وقبَّل جبينها وهو يؤمن على كلامها، ثم قالت متداركة: سنتأخر، يجب أن تسرع، عليك ألا تخذل والدك.

-اطمئني، لن أخذله أبدًا، وخير معين لي في دربي أنتِ، يا ضياء العمر.

-حماك الله، هيا قبل أن تستقبلنا الغمزات.

ضحك لقولها: وأنتِ أيضًا أسرعي، وإلا فأني لن أوصلكِ وسأترككِ خلفي لتذهبي للمؤسسة بالمواصلات العامة.

قالت في تحدٍ: لن أتأخر، بمجرد مغادرة الصغار سأستعد.

ثم غادرت الغرفة لتكمل عملها، بينما اتجه لمكتبه وأسرع في ترتيب حقيبته، ثم اتجه نحو المرآة ليكمل هندامه، وحين عدَّل كُمّ سترته، وقعت عيناه على ندبة حز قديم حول معصمه الأيمن، اتسعت عيناه على نحو لا إرادي، وارتجف جسده بعنف وشبح الماضي يتمثل أمامه حين أُسر[1]، فجأة، دوَّى في أذنيه أزيز الرصاص وهي تنطلق نحو جسد إياد العاجز عن الدفاع عن نفسه لتغتاله أمام عينيه، صرخاته المتألمة ترن بقوة، تلتها صرخات الاستجواب من الملثمين، تمثلت أطيافهم، شحب وجهه، شهق مذعورًا، اهتز بألم وهو يتذكر أعقاب البنادق تدق كل شبرٍ من جسده الجريح دون رحمة، انتفض وكأن تلك الجراح لا تزال تتفق ألمًا إلى الآن، عند هذه المرحلة تبعثر اتزانه وتصاعدت أنفاسه، هوى نحو الجدار حتى كاد يرتطم رأسه به، لولا أن مد ذراعه ليستند إليه ويستعيد بعض توازنه، ثم وضع يده المرتجفة على رأسه، وهو يقول في نفسه: لِم لا أستطيع النسيان؟ لِم لا تزال هذه الحادثة تداهمني ذكراها فجأة رغم مضي ما يقرب من سنتين؟ تزلزلني ولا أدري لِم؟ لا أريد أن يراني أحدٌ هكذا، لا أريد أن تراني ضياء ضعيفًا أبدًا.

تحامل على نفسه وهدَّأ من روعه، أكمل هندامه، حمل حقيبته، أخذ نفسًا عميقًا ثم خرج من الغرفة.

***

انضم طارق لاجتماع العائلة، اكتمل بجلوسه إلى جانب والده، وزع نظراته عليهم وهم يتحدثون ويتناولون الطعام؛ لحن أصواتهم، شذى كلماتهم، ضجيج الأطباق بينهم له وقع خاص يمتع ناظريه ويدفئ قلبه، ابتسم ابتسامة صغيرة والألفة تسكن صدره، ثم اتسعت حين وقعت عيناه على عمَّار وعامر؛ طفلان متشابهان مظهرًا ويختلفان مشاعرًا، الأول هادئ والثاني مرح، تصرفاتهما متباينة، رغم سعادته ورغبته بوجودهما إلا أنه ليس من السهل عليه فهمهما وفهم رغباتهما ولم يمضِ سوى شهر واحد على قدومهما، لم يقلق كثيرًا وهو يعلم حبهما لضياء وتعلقهما بها وشغف مناداتها بـ(أمي)، هذه الكلمة لها سحر خاص في قلوب البشر فكيف لا يتعالى رنينها في صدري طفلين فقدا الاثنين معًا، ووجدا منبعًا يروي جفاف قلبيهما الغضين ويقيم كسر الفقد فيهما تاركين مدينتهما منتقلين معها لأجل هذا الجبر؟ الروح مهما كان عمرها ستبحث عن طمأنينتها حتى ولو كلفها الرحيل إلى أقاصي الدنيا. ناولته ضياء رغيفًا، بينما استقبلته رُبا بالسخرية وهي تقول في تحدٍ: متأخر، لن تسبقني أبدًا.

عقد حاجبيه، وقال في غضب مصطنع: سأسبقك الآن يا آنسة رُبا، سأتناول فطوري فقط.

ضحكت: سأغادر بعد قليل، لم تحزر.

-مبارك انتصارك إذن، ارتقبي هزيمتك قريبًا.

-لن تستطيع هزيمتي، الحمد لله، لقد شبعت.

نهضت وأسرعت تعدو للمطبخ لتغسل يديها ثم عادت لتلتقط حقيبتها من الأريكة وتهرول مغادرة بعد أن ودَّعت الجميع، فقال عامر لها: ما رأيكِ بأن نجري سباقًا غدًا؟

-موافقة، بشرط أن ينضم طارق وعمَّار أيضًا.

ابتسمت ضياء وهي تقول: حتى تضمني المركز الأخير لطارق.

ضحك الجميع لقولها ما عدا عمَّار الذي ظل يحتسي حليبه بصمت، فانتبه له طارق وقال: كم حصة لديكما اليوم يا عمَّار؟

-أربعة حصص، سننتهي مبكرًا.

ابتسم طارق وقال: هذا رائع، يبدو أننا سنحظى عصر اليوم بنزهة جميلة عند شاطئ البحر.

ابتسم عامر في مرح، وقال في حماس: سأنتظر الموعد بفارغ الصبر.

ثم نظر لعمَّار فوجده صامت لم يبدُ أي انفعال، لحظات ونهض، فقالت ضياء: قل الحمد لله يا عمار.

ابتسم وقال لها: الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا من المسلمين.

ابتسمت له ضياء وأثنت عليه، وأسرع عامر يلحق بأخيه، ثم عادا معًا وارتديا حقيبتهما، وقبَّلا ضياء التي قبَّلتهما بدورها، وودَّعا عائشة وعبد الكريم، وحين اقتربا من طارق قبَّل عامر يده بمحبة، أما عمَّار بدا مترددًا ووجهه يملؤه الاحتقان، فقالت ضياء مشجعة: ما بك يا عمَّار؟ ودع عمك.

-ليس عمي.

تمتم في نفسه، بينما قال طارق: دعيه يا ضياء، يجب أن يسرعا، هيا اذهبا.

وكأنها الكلمة التي ودَّ عمَّار سماعها، لم تعقب ضياء بعد قول طارق، بينما أسرع يلحق بأخيه الذي سبقه وغادرا، بدا القلق على وجه ضياء لهذا التصرف، سأل عبد الكريم: ما به؟

أجابه طارق: ربما لم يستطع الانسجام بعد، لا ألومه.

قالت عائشة: مضى شهرٌ على قدومهما وعامر مرحٌ أكثر منه، ثم أن ضياء لم تجبرهما على اللحاق بها، لقد أتيا بمحض إرادتهما.

ضياء: حتى خالي نبيل لم يجبرهما على البقاء عنده، كانت رغبتهما العيش معي.

عبد الكريم: وكيف كانت شخصية عمَّار في (عدن) يا ضياء؟

ضياء: هو مرحٌ كأخيه عادة، ربما يحتاج لبعض الوقت فعلًا حتى ينسجم في منزل غير منزل جده، ومدينة غير مدينة (المُعلا).

طارق: أتمنى هذا، ومهما كان منه فلا يجب أن نأخذ له أهمية كبيرة، طالما يحبان ضياء كأمٍ لهما، سأبذل ما في وسعي لأجلهما ولأجل إياد -رحمة الله عليه.

صمت الجميع في حزن عند ذكر إياد، في تلك الأثناء، كان عمار وعامر في طريقهما لموقف حافلة مدرستهما، فقال عامر: ما بك منزعجٌ هكذا؟ هل هناك شيء؟

عقد عمَّار حاجبيه وقال: أكره المدعو طارق، أنا لا أحبه.

-لماذا؟ لم يفعل شيئًا سيئًا لنا.

-بل فعل، لم أنسَ ذلك اليوم الذي اصطدمتُ به من غير قصدٍ وعاتبني رغم اعتذاري له، ولولا قدوم أمي لضربني، أنا أكرهه، لماذا تزوجته أمي؟ ليتها بقيت معنا في منزل جدي، (المُعلا) أجمل من (المُكلا).

-لو كان يكرهك كما تقول، لما قدم لنا الهدايا وأخذنا للمدرسة حتى اعتدنا على أجوائها وأوصى المدير بنا، لقد أنقذتك أمي وقتها، لا تزعج نفسك.

هرول عمار وهو يقول في غضب: لا أحبه مهما فعل، أريد أمي فقط وأريد العودة لـ(عدن)، ليته يسكن هناك على الأقل لبقيت في منزل جدي وزرتها كل يوم.

-لا أظنه يستطيع فعل ذلك.

زفر عمار في ضيق واستمر في سيره مع أخيه وهو يتمتم لنفسه ساخطًا: ليته يترك أمي.

-ماذا قلت؟

-لا شيء، لنسرع للموقف.

يتبع...

 

[1] من أحداث رواية "سياج الشوق" ومن الضروري العودة لأحداث الجزء الأول والثاني من السلسلة

الملفات المرفوعة:
  • 6953074e12d50f3694e332472ada2af0.jpg

الفصل الثالث

هل يستطيع الإنسان العيش بعبق الذكريات؟ هل تستقيم حياته إن ظل طيف من فقده يدور حوله، يواسيه ويحاول مساعدته، أم أن الطيف مجرد طيف، ووجوده ليس إلا محض وهم وخيالات لن تقدم أي شيء فيظل مستسلمًا للألم، لوجع الفراق، لوحشة الروح وكأن لا أنيس له إلا ذلك الفقيد؟

عند درج العمارة، جلس نبيل مسندًا ظهره للجدار القريب من الباب، يراقب المارة بصمت وسأم، وسحابة من الكآبة تظلل وجهه، عيناه وكأنهما تنظران في الفراغ، لم يشد انتباهه شيء، إلى أن رأى مجموعة من الأطفال يقتربون وهم يركلون الكرة بين أقدامهم وقد امتد لعبهم للزقاق المقابل له، كانوا على مسافة منه، ابتسم وهو يراقب مرحهم، ضحكاتهم وجدالاتهم التي أوصلتهم لتجاوز حدود ملعبهم الافتراضي، تراءى أمام ناظريه حفيديه عامر وعمَّار وهما يشاركانهم اللعب، تنهد بعمق، ثلاثون يوماً مرت كثلاثين عامًا، ورحيل إياد كان الأشد ألمًا على قلبه.

-ألن تبعد هذه الملامح الكئيبة عنك؟

قطع تفكيره حين انتبه لرجاء تطل من الباب وبين يديها كوب الشاي العدني المفضل لديه، ناولته إياه، فشكرها ثم قال: وماذا تريدين مني أن أفعل؟ رحلت نازك وبعدها هند، ثم رحل إياد إلى الأبد، ثم رحلت ضياء ثم رحل عمَّار وعامر، هل سنألف الرحيل وقد بلغنا من العمر ما بلغنا حتى نتحمل قسوته؟

جلست رجاء إلى جواره وقالت في حزن: لم أرك منكسرًا هكذا قبل الآن، ابنتاك وضياء رحلن لأجل مستقبلهن، أما الحسرة الكبرى فهي على إياد -رحمه الله، كان طيبًا بارًا، لم يؤذِ أحد، الحمد لله على كل حال، وحسبي الله ونعم الوكيل في كل من شاركوا في قتله.

صمتت وهي تغالب دمعاتها، فصمت نبيل مثلها مانعًا دموعه من الانهمار، إلى أن مسحت دموعها وهي تقول: أما عامر وعمَّار فقد كانا يريدان مع ضياء، لقد اعتاداها طوال سنوات وجودها هنا قبل وبعد زواجها من إياد، منحتهما حنان الأم الذي عجزتُ أنا عن تقديمه لهما، ووافقت لأجلهما.

التفت في سرعة وصاح بحدة وهو يرفع يده: لا، وافقتُ مرغمًا، لم أكن أرغب في رحيلهما إلى (حضرموت) بعيدًا عني، لا أستطيع احتمال فراقهما لأيام طويلة، إن فيهما ريح ولدي إياد وهما من صلبي، لم أكن أريد أن أجبرهما على البقاء، أشفقتُ عليهما من الحزن بعد تعلقهما بضياء وقد ظلت هنا معنا حتى زواجها لأجلهما، يكفيهما فقدانهما لوالديهما، ولا أستطيع أيضًا أن أتحكم باختيار ضياء، هذه حياتها. لا أدري، أنا حائر، حائر، أريد أن أرضي نفسي وأرضيهما؛ لكن لا أدري كيف.

قال جملته الأخيرة بانفعال، ربتت على كتفه وقالت: دعنا نكمل حديثنا في الداخل.

وافقها ونهض، حين استقر مجلسهما بالصالة، قال لها: هل تعلمين إني أستقبل نظرات اللوم من كل أقربائنا؟ وأحيانا بعضهم يسألني في عتب كيف تترك حفيديك ليرحلا مع الغرباء مهما كانت محبتهما لضياء؟ لم يدعوني يومًا وشأني، هربت من جلسات المقاهي والزيارات العائلية بسببهم، إني خائر القوى بسبب هذا ولا رغبة لي في شيء، أشعر بالحيرة والندم والألم والحسرة، ماذا أفعل؟ أنقذيني مما أنا فيه.

ربتت على ركبته وهي تقول في اشفاق: هون عليك يا أبا إياد، ربما يتضايق حفيداك من العيش هناك ويقرران العودة.

-لا أظن ذلك، شهر كامل كافٍ ليعتادا على الحياة الجديدة، لو حدث شيء كهذا لما وجدتهما يكلمانا في سرور وفرح، ضياء أمٌّ حقيقة تستطيع أن تروّضهما بطريقتها، إنها مذهلة وصبورة، ولا شك في أنها قد غرست حب طارق في نفسيهما، آآآآه... تبًا لهذا الطارق، ما أن دلف حياتنا حتى أفسدها كلها.

-ما ذنب الشاب؟ الخطأ خطؤنا، ليتنا ما صمتنا عن...

صاح بعصبية: لا تعيدي لي كلمات شادي الهوجاء[1]، أنا لم أخطئ أبدًا، إياد كان أولى بضياء منه، كل شيء تدمر بمجرد أن وطأت قدماه أرض (عدن)، ليت أولئك المجرمين قتلوه، يستحق ذلك.

-لا حول ولا قوة إلا بالله، اهدأ، سترهق نفسك دون أن نصل لحل.

-وأي حلٍ هذا الذي تنتظرينه، أي حل؟ لقد حقق ذلك المجرم ما جاء من أجله بعد أن تسبب بمقتل إياد ومزق عائلته، ليته مات أيضًا.

-اهدأ رجاءً، أنت لا تملك إلا خيارًا واحدًا فقط، وهو أن نحضر عمَّار وعامر وننهي الأمر.

-وأكسر قلبيهما؟!

-ضياء ليست أمهما على أي حال وليست مجبرة على تربيتهما.

نهض نبيل من مكانه وهو يصيح: ضياء هي أمهما، أنا لا أريد حفيدي لوحدهما.

-أنا من سيهتم بهما، لا تقلق، سنعيدهما إذن.

تنفس نبيل الصعداء وهدأ من انفعاله، ثم نظر لرجاء وقال: اعتذر لغضبي يا عزيزتي، في قلبي وجعٌ لا أستطيع احتماله.

نهضت رجاء وربتت على يده وقالت: وهل تظنني لا أفهمك يا عزيزي؟ دعنا نخطط لزيارة قريبة (للمُكلا) وسأخبر ضياء أن تقنعهما بالعودة إلينا حتى لا يحزنا عند فراقها ويقتنعا بذلك، لا خيار آخر.

رفع نبيل حاجبيه وقال دهشًا: وأين كان هذا الحل قبل زواج ضياء؟

أجابته في ارتباك: لم تبدُ عصبيًا مثل الآن، كنتُ مقتنعة بقرارك لأجلهما.

-حسنًا، أخبري ضياء بذلك، فما عاد فيَّ صبر لبقائهما بعيدًا عني.

هزت رأسها وابتسمت له حين رأت أنها نجحت في تهدئته، بينما عاد للأريكة وهو يفكر في غضب: تبًا لك يا طارق، ولهذه الأذية التي ألحقتها بنا، هل تريد أن تهنأ بحياتك بعد أن تسببت لنا بكل هذا؟ لا، لن أسمح لشيء بهذا أن يحدث، لا بد أن تذوق شيئًا مما نلناه.

***

استعد طارق وضياء بدورهما للمغادرة، فقال لأبيه: قبل أن أغادر يا أبي، لقد قمتُ بتجهيز حسابات العقارين التابعين لعمي رشيد، هل يودُّ أن أقوم بتحويل الأموال له؟

-عمك وعائلته سيغادرون (الكويت) مساء الغد، أي أنه سيستلم ماله ويدير عقاريه بنفسه.

تهلل وجه عائشة فرحًا وهي تقول: أخيرًا قرر رشيد وعائدة زيارتنا بعد كل تلك السنوات؟

-ليست زيارة؛ بل خروج نهائي، يبدو أن الأمور لم تعد تسير مع أخي وفق ما يريد، كان يطمح لتأسيس شركة؛ لكن منصبه لم يرتفع كما كان يتمنى.

سأل طارق: ألهذا باع نصيبه من المؤسسة لك؟

-نعم، لم يكن يرغب بالعودة كان يفكر في الاستقرار هناك، الآن سيعود لنقطة البداية ويحاول الاستقرار هنا بعد كل السنوات التي غابها.

قالت عائشة في أسف: الحرب لم تؤثر على من هم بالداخل فقط بل بالخارج أيضًا، عاد الكثير من المغتربين.

-وإغلاق معظم حدود البلد جعله يوقف زيارته السنوية (للمُكلا)، كان هو وعائدة يتحينان إجازة رندا الجامعية، دروب السفر بعد الحرب باتت شاقة، معقدة ومكلفة.

-أخبره أن يظل على تواصلٍ بك حينما يصل لـ(سلطنة عُمان)، وسأذهب لتفقد منزلهم وترتيبه بعد صلاة المغرب وسأصحب رُبا وضياء معي لتساعداني في تجهيزه.

-سأفعل، أسأل الله أن يصلوا بالسلامة.

قال طارق: لكن أكثر مستأجري عمي يودون الخروج من الشقق وتركها متذمرين، بسبب إصراره على أن يكون الإيجار بالريال السعودي ثم رفع قيمته بشكل كبير، حاول أن تقنعه بالعدول عن أحدهما إن لم يكن كليهما يا أبي، وإلا لن يجد مستأجرًا يود السكن لديه، هذا جنون.

اعتدل عبد الكريم، وهو يقول في أسى: وهل الجنون أصابه وحده؟ الكثيرون باتوا يحدّثون العامة بالعملة الأجنبية مواكبةً للربح المضمون والعالم الخارجي متناسين واقعنا، كأنهم يرفضون الانتماء للوطن وينخلعون من هويتهم، أيدفعوننا لنكون مثلهم؟ لا أدري أين تتيه الضمائر، وأي طرق تسلك في صدورهم حتى يتحدثون مع البسطاء بغير العملة المحلية؟ قطاعات الأراضي الآن باتت الثروة الحقيقية لكل المستثمرين في هذه الظروف، إضافة لقدوم المغتربين الذي يحملون العملة الأجنبية أكثر من المحلية، آه يا ولدي، حاولت اقناعه رغم أني أخاه الأكبر ولم يستمع لي.

-ربما تستطيع ذلك إن تقابلتما وجهًا لوجه.

-سأحاول مجددًا.

قالت عائشة بحزم: وأنتما، ألستما تفعلان مثل ما يفعله بقية التجار؟

-نحن نتعامل بعملتنا وزيادة الأسعار حسب ما يطرأ من جديد بالعقارات الحديثة.

-هذا يعني أنك تتكبد خسائر.

-لا، الأمور تسير على ما يرام ولم أسلمها لطارق إلا وهي كذلك.

-إذن لا بد أن تنظر لمصلحتك؛ لأنه لن يهتم أحدٌ بك إن خسرت.

قال طارق مبتسمًا: لا تقلقي، أنا حريص على مصلحة المؤسسة كما كان أبي ولا أريد أن ابني نفسي على حساب غيري.

تسللت ابتسامة فخر على ثغر ضياء وهي تحيط ذراعه بذراعها بسرور، بينما هزت عائشة كتفيها وقالت في لا مبالاة: كما تريدان؛ لكن إن حدث شيء فلا تلوما إلا نفسيكما.

-اطمئني لن يكون إلا كل خير.

قال عبد الكريم مبتسمًا لضياء: وكيف تجدين العمل معك بالمؤسسة؟

-العمل بقسم الحسابات ليس ممتعًا مقارنة بصيانة برامج الحواسيب التي تحتاج تدخلي أحيانًا؛ لكن الأمور تجري على خير ما يرام.

بادر طارق متظاهرًا بالضيق: أبي، ألم يكن من الأولى أن تسألني كيف تعمل هذه الموظفة الجديدة معي؟ لم يمض على التحاقها بالمؤسسة سوى شهر واحد عانيت منها الكثير حتى استطاعت فهم ما لها وما عليها.

عقدت ضياء حاجبيها، وقالت في ضيق مماثل: ماذا تعني بأنك عانيت مني وأنا أعمل في مجالي؟  صحيح أن اختصاص الهندسة الكيميائية ممتع أكثر إلا أني أستمتع بتخصصي الحالي أيضًا، بينما أنت نلت عملك بخبرتك ولم تعمل في اختصاصك كما هو من المفترض أن تفعل.

أشار بيده وهو يقول بحزم: مهما كانت شهاداتنا فستجدين واقع الحياة يسوقنا إلى جهة أخرى، لذا فالعمل بالخبرة أفضل من الشهادات في معظم الأحيان، هذه سمة الأجداد وإلا ما كان أبي استطاع إدارة المؤسسة بنجاح قبل أن آتي بعده لأديرها منذ بضعة أشهر، الحياة تعلمنا وتوجهنا أكثر من الكتب، أم أنك لا تتفقين معي أيتها المتفوقة على أقرانها؟

-أتفق بتعلمنا من الحياة ومحاولة مواكبتها، أما في العمل الرسمي فالخبرة وحدها لا تكفي.

ربت على كتفها وهزها وهو يقول: قد لا تكفي؛ لكننا مضطرون، واقتران العلم والخبرة يجعل العمل متقنًا، كنتُ أمزح معك فقط، إياك أن تغضبي، أنتِ مجتهدة ومهتمة كما عرفتك، رغم أنك صرتِ أمًا لطفلين وقت دراستك.

ابتسمت ضياء وقالت: أعلم، لا داعي لتوضح لي.

ضحكت عائشة وقالت: هل ستصفيان ما بينكما هنا؟ ستتأخران.

استأذناهما وابتعدا، ظل عبد الكريم يرقبهما مبتسمًا حتى أغلقا الباب خلفهما، نظر لعائشة فلاحظ تعلق نظراتها بهما بصمت وابتسام، فقال: هل رأيتِ حبًا كهذا؟

عقدت حاجبيها وقالت في عتب: لا، ولا حتى معك.

ضحك وقال: معذرة إن لم أكن كطارق، يدهشني حقًا انسجامهما قبل الزواج وبعده، كيف يستطيع الانسان أن يؤثر بغيره حتى لو كان بعيدًا عنه؟ أتمنى لهما السعادة والفرح الدائمين.

-آمين؛ لكني قلقة من شيء.

-ما هو؟

-حالة الهلع التي تصيب طارق، لم تتركه منذ أن عدنا من (عدن) ولم يتحسن إلا بعد أن انشغل بالعمل ثم بالاستعداد لزواجه، لم يرعبني بعدها إلا مرات قليلة وجدته مستيقظ بالصالة ليلًا ومرة كان يصرخ بغرفته، ألن ينسى ما مرَّ به؟

-لن ينسى وخاصة أنه أحب إياد ورآه بأم عينيه يُقتل أمامه، وجود ولديه معه هو الشيء الذي قد يجعله يتعايش مع مصابه، إنه يرغب في مساعدتهما لأجله، إنه يحاول التناسي وسنساعده.

-أتمنى ألا يظل هذا الكابوس يرعبه طوال حياته.

يتبع

[1] من أحداث رواية "سياج الشوق"

الملفات المرفوعة:
  • 3.png

الفصل الرابع

ارتقاء الشمس في القبة السماوية كان إيذانًا بانطلاقة البشر نحو الحياة، كلٌ على طريقته، تأمل طارق الشوارع وهي تعجُّ بحركة المارة ووسائل المواصلات، الطلاب والموظفون لمدارسهم وجامعاتهم، التنافس في موضة الأناقة والمظاهر الغريبة كان سائدًا، النساء منهن من تخلت عن السواد فتزينت ملابسها، تقلص حجابها أو أسقطت نقابها، تعجبَّ لهذه الظاهرة التي بدأت تغزو الشوارع بين الجنسين على السواء معلنةً ولادة عصر التحرر مما بعد الحرب، البقالات فُتحت أبوابها، المتاجر والأسواق المركزية على طول الطريق، يُخيل للناظر أن المدينة في ازدهار والجميع يعيش حياة الرفاهية والترف، لولا أن يُبصر بالجانب الآخر متسولين يفترشون الطرقات ويفتتحون أبواب أعمالهم بطريقهم، أو العمال وهم يعملون في محالٍ متواضعة بملابس تهالكت مع الزمن أو أطفالًا بنفس الهيئة يلعبون في الأزقة بكرةٍ تشوهت ملامحهما بالسواد والرُقع، الحرب تجمع نقيضين بوقتٍ واحد؛ فتبدو المدينة بكل ما فيها كراقصةٍ في مقبرة.. مقبرة الأرواح. هل قتلت الحرب السكينة، الأخلاق؟ لا يبدو أن ماهية القتيل مهمة، فلم يسعَ أحدٌ لإنقاذ أي منهما، والحياة ستمضي سواء رقص البشر معها أو تباكوا على ما فقدوا.

أوقف السيارة أمام المؤسسة، خرجت ضياء ثم خرج بعدها، وحين أغلق سيارته سمع أحدهم يناديه، التفتا، فرأى صديقه ناصر مقبلًا، ابتسم وصافحه بحرارة قائلًا: ما هذه الصدفة الجميلة؟ إلى أين؟

-إلى أين تظن أني ذاهب؟ إلى الشركة؛ لكني وددت محادثتك في أمرٍ قبل أن تبدأ عملك وتغرق في المشاغل كالعادة.

-لا بأس، كلي آذان مصغية.

نظر ناصر لضياء وقال: صباح الخير يا مهندسة، كيف حالك؟

هزت ضياء رأسها وقالت: بخير، وماذا عنك؟ ماذا تعمل الآن؟

-أنا بخير، أعمل في شركة للمواد الغذائية كمراقب، العمل جيد جدًا.

-وفقك الله، استأذنكما لتتحدثا بأريحية.

دخلت ضياء المؤسسة، بينما قال طارق: وكيف حال بقية الرفاق؟ أرجو أن يكونوا بخير.

-الجميع بخير وكلٌ في عمله، صبري يعمل معي وألتقيه كل يوم، ومحمود في (الوادي)[1] كما تعرف، وليد للأسف لم يوفق لشيء، إنه يعمل مع والده في البقالة وينقل البضاعة من هنا وهناك ولا أراه كثيرًا.

-كان الله في عون الجميع، أخبرني الآن، ما الذي تريد محادثتي فيه؟

-كنتُ أود دعوتك لنجتمع ونعيد أيام دراستنا، لم نعد نلتقي بك إلا نادرًا، حتى وليد صار يتهرب من لقاءاتنا، تنتهي أيام الدراسة حتى تفرقنا مشاغل الحياة.

-أنت تعلم أني الآن أعمل بدلًا عن والدي ولا أستطيع ترك العمل ليومٍ واحد.

-لنرتبها في الإجازات الأسبوعية يا أخي، يكفينا أعذارًا، أشعر وكأن أيامنا الجميلة وجلساتنا لن تعود أبدًا.

-لا تقل هذا، متى تودون أن نلتقي؟

-عصر اليوم.

فكر طارق للحظة، ثم قال: لا، لدي موعد عائلي.

مط ناصر شفتيه، وقال في مكر: موعد عائلي! أها، لقد تغيرت كثيرًا يا طارق خاصة بعد زواجك.

ضحك طارق وأحاط رقبته بذراعه وهو يقول في مرح: توقف عن المزاح الثقيل أيها الشقي، وإلا...

انتبه أنه أمام مؤسسته، وتصرفه هذا لا يليق بمظهر مدير متزن، ثم تذكر قول ضياء (المدير لا يجب أن يسمح لهفوة أن تمر عليه) أرسل ناصر وهو ينظر لباب المؤسسة فرأى الحارس ينظر لهما وابتسامة صغيرة على وجهه حاول إخفاءها؛ لكن طارقًا لمحها، فاعتدل وأصلح هندامه، تفاجئ ناصر في البداية لتصرفه ثم ضحك وهو يقول ساخرًا: تذكرت الآن أنك مدير، أم أنك تخشى أن تراك ضياء وأنت ترتدي زيك الرسمي وتتصرف هكذا؟ طبعك المرح لن يتغير، لا يزال في روحك وإن أختطفه العمل وضياء أيضًا.

ضحك طارق، ثم قال وهو يستعيد بعض هدوءه: احم احم، لنعد لصلب موضوعنا، اللقاء، ما...

قطع كلماته حين انفجر ضحكًا وهو يقول: تبًا لك، أنت من يخرب (برستيجي) وتخرجني عن طوري.

اتسعت ابتسامة ناصر وقال ظافرًا: لأني صديق طارق غير المدير.

-ونِعْم الصديق أنت، والآن، سنتفق بالواتس على كل شيء.

-أود أن يكون لقاءنا اليوم، محمود سيصل بعد ساعتين (للمُكلا)، وأريد أن نجتمع خلال فترة تواجده قبل مغادرته مرة أخرى.

-أخبرتك أني لا أستطيع اليوم، ثم أن محمودًا بعد تخرَّجنا لم يعد يريد لقائي ويكره أي اجتماع أكون متواجدًا فيه.

-تصالحا.

-ليس بيني وبينه شيء حتى أصالحه، هو الذي لا يزال غاضبًا مني منذ أول سنة لنا بالجامعة، ولا يريد رؤيتي.

-سنسعى لجمعكما.

-لا مانع لدي أبدًا حدد يومًا آخر، وسأتفرغ إن شاء الله.

حكَّ ناصر رأسه وهو يقول في ضيق: اقتطعتُ اليوم من الجميع بصعوبة ولم يبقَ غيرك.

-لا أستطيع، وعدتُ عامر وعمَّار باصطحابهما في نزهة ولا يمكن لي أن أخذلهما.

رفع ناصر حاجبيه في دهشة وقال: ولدا إياد!! إنهما ليسا ولداك، لِم...

-ما بك؟! هما ولداي الآن بعد فقدانهما لأبيهما، إياك أن تقول ذلك مرة أخرى.

قالها طارق في انفعال وغضب أرعب به ناصر، فقال مهدئًا: حسنًا لا تغضب.

-آسف لانفعالي، أشعر بالذنب لما حدث وأريد أن أعوضهما.

-أفهمك، لا بأس بيننا لقاء آخر.

-سنظل على تواصل إن شاء الله.

ودَّعه ناصر ومضى في طريقه، بينما خلع طارق نظارته السوداء ودخل المبنى، كان موقنًا أن ألم فقد إياد لن يُزال، وذكراه ستظل تتجدد في قلبه بوجود ولديه أمامه، هل يهرب من الألم إلى الألم؟ لم يكن يدري؛ لكن الشيء الذي كان يعلمه هو أن يستمر في سعيه لأجلهما مهما كان ألمه.

***

الروح بطبعها لا تطيق حِمل خصال الشر؛ لكن إرادة العقل هي من تسيطر عليها، تتملكها لتخلق فجوة كبيرة بها تتسع لكل أحقاد الكون، تعمي نور البصيرة، تسوق الروح والجسد معًا إلى أكثر الدروب ظلمة، بيد أن الغضة منها لا تمتثل للعقل بل لما يطفئ وجعها ويعيد الطمأنينة إليها.

هكذا كان حال عمَّار منذ عودته من المدرسة، تناول غداءه بصمت ثم غادر سريعًا، كان معكر النفس منطفئ الهمة، يود لو يبوح لضياء، هو يعلم أن رغبته عسيرة التحقق، كتم ما في نفسه وآوى لسريره ربما لو نام سيتغير حاله، انتبه عامر له حين دخل الغرفة ليستعد للنزهة فقد حان موعدها، رآه مستلقٍ على جنبه الأيمن ووجهه ناحية الجدار، سأله بقلق: ما بك؟ ألن تأتي معنا؟

-لا، أشعر بالتعب وأريد أن أنام.

-ألا زلت منزعجًا من العم طارق؟

-أخبرتك أني أكرهه.

-لماذا لا...

-اسكت واذهب إلى حيث تريد.

مطَّ عامر شفتيه في يأس حين طُرق الباب، فأسرع يفتحه ليجدها ضياء، فقالت: هيا، ألم تنتهيا؟

لكن بصرها تحول ناحية عمار فقلقت، فقال عامر: إنه لا يريد الذهاب معنا، يقول إنه متعب.

ربتت ضياء على كتفي عامر برفق وقالت: حسنًا، اذهب إلى الصالة، طارق ورُبا في انتظارنا، سأطمئن على عمَّار وألحق بكم.

هز عامر رأسه وأخذ كرته من تحت سريره وخرج، بينما اقتربت من عمَّار وجلست قربه، ثم مسحت على رأسه بحنو وهي تقول: صغيري، ما بك؟

ارتبك وهو يجيبها: لا شيء أمي، أنا تعب وحسب.

-وهل تظن أني لا أستطيع معرفة انزعاجك؟ أنت لست متعبًا، هيا أخبرني ما هي مشكلتك وسأساعدك.

التفت إليها وتطلع في وجهها مليًا، كيف لا يمكنها فهمه وهي من احتوته مع أخيه منذ سنوات، تشاركهما كل شيء؛ الطعام، اللعب، النوم، الدراسة ومشاكلهما، ذابت تفاصليهما وتفاصيل حياتهما فيها، اتخذا من حضنها ملاذًا آمنًا يفرغان كل ما في سريرتهما لها حتى فهمتهما، أبعد عينيه عنها حين زاد ارتباكه وحولهما للسقف، ظل صامتًا لم يكن يرغب في أن يخبرها بكرهه لطارق وهو زوجها، أو رغبته بالعودة إلى (عدن) وهنا حياتها، لم يستطع أن يحري أي جواب، دنت منه ضياء أكثر وقبَّلت خده وهي تقول: صغيري، ليس من الحكمة أن تدع الانزعاج يفسد عليك مرحك، أنا أعرف أنك تحب اللعب وتحب البحر، هل تفكر بشاطئ (المُعلا)، أم أن طارق ازعجك في شيء دون علمي؟

زاد ارتباكه ونظر إليها في سرعة، لقد قرأت كل ما في نفسه، اعتدل وقال: إني حقًا مشتاق لمدينتي ومنزل جدي، وأيضًا لا أريد أن ابتعد عنك.

-سنزورهم في إجازة نصف السنة.

-لا تزال الإجازة بعيدة.

-وأيضًا كل ما سنحت لنا الفرصة في نهاية الأسبوع، لا تقلق، أمر ذاهبنا متوقف على دراستكما، لقد أخبرتُ طارق بذلك ووافق.

-حسنًا.

-هل فعل طارق شيء أزعجك؟

-لا شيء، كنتُ أتذكر لقائي الأول به حين أنقذتني، أنا خائف منه منذ ذلك اليوم.

ابتسمت ضياء واحتضنته وهي تقول بحزم: أهذا كل شيء؟ لماذا لم تخبرني بهذا الأمر؟

أخذ عمار يشابك بين أصابع يديه في توتر وقلق، لم يستطع قول شيء وهو خائف من عتابها إلا أن ضياء فاجأته حين قالت: معك حقٌ في هذا، كان يجب أن يعتذر يومها.

نظر إليها دهشًا وهي لا تزال تقول متابعة: اسمعني جيدًا، إن ظللت حزينًا لأجل الأمس فلن تستطيع أن تستمتع باليوم، وإن لم تستطع أن تستمتع باليوم، فلن تتقدم لأجل الغد، سيرافقك الكدر والضيق ولن تنجز ما تريد، حاول أن تبعدهما عن نفسك مهما كان، أو أن تبحث عن حلول لكل مشكلة تواجهك وأخبرني لأساعدك، (المُعلا) مدينتي الحبيبة التي لن أنساها مهما حدث، ولن أنسى أمي وأخي وجدك وجدتك وكل أهلي بسبب زواجي وبقائي هنا، سنزورهم وسنتصل بهم كل يوم، ابتسم رجاءً، أريد أن أرى ابتسامة عمَّار التي أعرفها، لا أريد أن أراك عابسًا أبدًا.

ابتسم لها عمَار، فدغدغته ضياء، وهي تقول في مرح: أسمعني ضحكتك الآن.

ضحك عمَّار ملئ فيه وهو يحاول إبعادها ويصيح بها: توقفي أرجوكِ.

في تلك اللحظة، فتح طارق الباب ابتسم وهو يشاهد مرحهما، ثم عقد حاجبيه وهو يقول في عتب:

-الوقت ليس مناسبًا للعب هنا، سنتأخر، لم يبقَ غيركما.

قفزت ضياء من مكانها واقتربت منه لتمسكه من يده وتسحبه نحو عمار وهي تقول: لقد أتيت إلى السجن بنفسك أيها المتهم، اعترف بجريمتك الآن.

رفع حاجبيه في دهشة بينما ضحك عمار للمشهد، فقال طارق: وما هو جرمي أيتها القاضية؟

أغمضت ضياء عينيها وقالت بحزم وهي تهز أصبعها: منذ سنة وبضعة أشهر اصطدم بك هذا الطفل المسكين دون قصد وأرعبته دون وجه حق، وعقوبتك الاعتذار منه.

لم ينسَ طارق ذلك اليوم الذي التقى فيه ضياء بعد سنوات الانقطاع[2]، اليوم الذي كان قاسيًا عليه حين علم بزواجها من إياد، ودَّ وقتها لو يحطّم كل شيء، لدرجة أنه كاد أن يصبَّ جام غضبه في عمَّار، تنهد بعمق، هل هذا السبب الذي جعل الفتى يكرهه إلى الآن؟ طأطأ رأسه وأعلن الاستسلام وهو يقول: أقر يا سيدتي بما بدر مني؛ لكني لم أقصد ما فعلتُه، كنت غاضبًا؛ لأن أحدهم سرق مني كنزًا ثمينًا تركته عنده أمانة ولم يُعدها لي إلا بعد مشقة.

ارتبكت ضياء لكلماته ثم ابتسمت حين أدركت قصده، بينما دنا طارق من عمار وصافحه بقوة وقال: أعتذر إليك، لم أكن أقصد أن أؤذيك أو أرعبك، واطلب مني أي شيء وسأحضره لك مقابل قبولك لاعتذاري.

زاد ارتباك عمَّار، وشعر بالدفء من ضمة طارق ليده، نزل من سريره، قال في حزم: قبلتُ اعتذارك، وأنا أعتذر أيضًا عن أي تصرف بدر مني.

ابتسم طارق وقال: إذن اطلب ما تريد لألبيه.

ابتسم وقال: لا أريد شيئًا، أريد أمي فقط.

ابتسمت ضياء بينما مسح طارق على رأسه في سرور وقال: أنت رجلٌ كأبيك حماك الله، لا تنسى أن تناديني عمي.

-سأفعل عمي طارق.

-هيا استعد.

أسرع عمار يرتدي ملابس الخروج ثم خرج من الغرفة فرأى الجميع في انتظاره وفرحوا بانضمامه، قالت عائشة: عودوا مبكرًا يا طارق، لا تنسى أنه يجب أن نذهب لمنزل عمك.

-سأفعل يا أمي.

وغادر طارق ومن معه لتنطلق السيارة بهم نحو ساحل البحر.

***

تعالت معزوفات الأمواج طاغية على أحاديث البشر وضحكاتهم، امتدت مياهها لتطال من جلسوا بمساحة نفوذها التي قد تتجاوزها أحيانًا إلا من بقي على حذر وأختار مكانًا بعيدًا عنها مستمتعًا بعبيرها الفواح في النسمات الباردة. هكذا كان حال الشباب الأربعة؛ ناصر، وليد، صبري ومحمود الذين جلسوا على جانب الطريق المطل على البحر بعيدًا عن ازدحام زائريه مستمتعين بالمنظر وأجواء المساء، وليلتقوا بعد تفرقٍ في دروب الحياة يحكي كل منهم رحلته الخاصة، قال محمود: عملي بشركة الصناعات البلاستيكية جيد جدًا، أكثر ما يزعجني هناك هو عدم وجودكم وعدم وجود البحر، أحب جلساتكم في هذا الجو الجميل.

قال ناصر: ألن تدعونا يومًا لزيارتك هناك؟

-زوروني بأي وقت، سأكون مستعدًا لاستقبالكم.

قال صبري: أما أنا فقد التحقتُ بالعمل في شركة للمواد الغذائية مع ناصر، عملنا لا بأس به والحمد لله أنه في مجال تخصصنا، وأخطط للزواج قريبًا.

هتف الثلاثة في حماسة، ربت وليد على ظهره وقال مازحًا: مبارك مقدمًا يا صبري، انتظر وجبة الغداء لنأكل على حسابك.

امتعض وجه صبري وهو يقول: أنت تخطط لتأكل؟

ضحكوا جميعًا لقوله، فقال محمود: أنا أيضًا مثلك، كنتُ أود الاستقرار (بالمُكلا)؛ لكن يبدو أن الأمر سيكون صعبًا بسبب عملي خارجها.

قال وليد: للأسف، كنتُ أتمنى أن نظل جميعنا في مدينتنا، أتفق مع ناصر في شيء واحد، لم نعد نلتقي كثيرًا بسبب أعمالنا، إنه حلقة الوصل الوحيدة بيننا.

-معك حق، أسأل الله أن يوفقنا جميعًا وأن تدوم صداقتنا إلى الأبد.

قال صبري: ليت جمعتنا هذه اكتملت بوجود طارق، مشاغله كثيرة منذ أن حل مكان والده بالمؤسسة.

قال ناصر بعتب لمحمود: لقد مرت سنوات وأنتما لا تزالان متخاصمان، أظن أن هذا يكفي، لا تنسى أنكما أصدقاء طفولة.

قال محمود في سخرية: قل له هذا الكلام، هو من نسينا، وتخلى عن صداقتنا رغم كل ما قدمناه له، لم أعد أهتم لأمره.

-هو لم ينسَ وإنما...

عقد محمود حاجبيه وقال بحدة: اصمت وإلا سأغادر.

-استمع إليَّ على الأقل، أنا أريدكما أن تلتقيا ويستمع كل منكما لحجة الآخر وننهي ما بينكما، ما كان قد كان، انساه.

أعرض محمود بوجهه وهو يقول بحدة: ما كان قد كان؛ لكنه لن يُنسى.

هتف وليد معقبًا على حديث ناصر: المواقف الجميلة هي أكثر ما جمعتنا يا محمود، كم ساندنا بعضنا وضحكنا وحزنا معًا، فهل تتناساها بموقف واحد؟

-نعم، موقف واحد فقط جعلني أدرك قيمتنا عند طارق، نحن بالنسبة له لا شيء رغم أن ما فعلناه كان لأجله.

قال صبري بحدة: ما فعلناه كان خطأ يا صديقي لا بد أن يتم إصلاحه.

-أنتم جميعًا بصف طارق؟!

قال ناصر: نحن بصفكما معًا ولا نريد إلا أن تجتمعا ونعود كما كنّا، وإن أردته أن يعتذر عن وشايته بنا سأخبره.

-لا أريد أي شيء منه، كلمة أخرى يا ناصر وسأترك المكان لكم.

صمت ناصر يائسًا منتقلًا عدواه إلى رفيقيه الآخرين، بينما التفت محمود إلى وليد محاولًا تغيير الموضوع: هل عثرت على عملٍ جديد يا وليد؟

أجابه وليد في همّ: لم أوفق لشيء، حظي هو الأسوأ بينكم جميعًا، عمل البقالة ممل، متعب وغير مربح أبدًا، أريد أن أتركه ولا أدري كيف، لا بد أن أقنع أبي بوظيفة جيدة حتى أستطيع الهرب منها.

قال صبري: لِم لا تطلب من طارق أن يوظفك لديه؟

-يوظفني! بأي صفة يا صبري؟

-لا أدري، إذا كان قد استطاع توظيف ضياء، فهل سيعجز عن فعل شيء لأجلك؟

-طارق يعمل لأن المؤسسة مُلك أبيه، بأي حق سيوظفني لديه وأنا بتخصص هندسة كيميائية؟ ثم أن ضياء غيَّرت تخصصها إلى الحاسوب، أي أنه سيحتاجها، لا تنسى أنها زوجته والمؤسسة خاصة وليست دائرة حكومية.

-حسنًا، سأعاود السؤال بالشركة لدينا، ربما أجد مكانا شاغرًا لأجلك أو ربما يساعدك محمود.

-ستنقذاني يا صبري، أسأل الله أن توفقا لشيء.

قال محمود في صدمة: لحظة، ضياء التي تتحدثان عنها، هل هي المزدوجة التي نعرفها؟

ابتسم ناصر وقال: نعم إنها هي، حسب ما أعلم فقد حدثت لها بعض الظروف في (عدن) دفعتها لتغيير اختصاصها.

قال صبري مبتسمًا بدوره: ثم أنها لم تعد المزدوجة التي عرفناها، لقد أصبحت جميلة جدًا، رأيتها برفقة طارق ذات يوم.

اتسعت عينا محمود في ذهول بدا غير مصدق لما يسمعه، قال وليد وهو ينظر إليه: ما بك؟ ألم تكن على علمٍ بهذا؟

هز محمود رأسه نافيًا، فقال ناصر: لا تدعي الجهل يا محمود، أخبرتك أن طارق تزوج ضياء، وأرسلت لك بطاقة الدعوة بالواتس حين كنت بـ(الوادي).

-ما عرفته يومها أن طارق سيتزوج وحسب، لم تكن تهمني أخباره ولا رسائله التي تصل إليّ، كنتُ أتجاهلها ولا أراها، ولم أقرأ إلا رسالتك يوم تحديد عقد القران، أما من سيتزوج لم انتبه، ألم يجد فتاة غير ضياء؟!

اتسعت ابتسامة ناصر وقال: سبحان الله، رغم كل ما جرى بينهما، وما حدث له أيضًا عندما ذهب لـ(عدن) لأجل خِطبتها وتزويج أهلها من غيره، كان يحبها، وأظن أن هذا الأمر حدث منذ أن تغير في الجامعة.

زادت صدمة محمود، فصاح بهم غاضبًا: هل ما لحق بنا من أذية في ذلك اليوم لأنه أحبها وقدمَّها علينا؟ ضحَّى بنا لأجلها مع إنا ما أقدمنا عليه كان لأجله وما زلتم تعدونه صديقكم؟! مازلتم تكنون له الاحترام وتقدرون الأيام التي كانت بيننا؟ والآن، تريدون مني بعد كل هذا أن أصالحه؟ كيف؟! أين قيمة أنفسكم؟ احتقركم طارق لأجلها وأنتم...

قال وليد مقاطعًا: مهلًا يا محمود، نحن جميعًا اخطأنا، ونلنا عقابنا وانتهى الأمر.

نهض محمود وصاح قائلاً: أنتم أغبياء، ما تقول عنه خطأ هو تضحية منا لأجله، أردنا أن يعود صديقنا طارق وينتقم لنفسه.. تبًا لكم.

همَّ ليبتعد عنهم فقفز ناصر من مكانه وأمسكه من ذراعه وهو يقول: انتظر يا محمود.

أبعد يده بعنفٍ وهو يقول: دعني، لا أدري كيف تحتفظون بصداقة شخص كهذا! أهانكم جميعًا.

تبعه وليد وصبري محاولان تهدئته، فقال وليد: اهدأ رجاءً.

-لن أفعل، ابتعدوا عني، لم أعد أريدكم، ولا أريدكم أن تتصلوا بي أبدًا ولأي سبب.

غادرهم محمود، نظر الثلاثة لبعضهم في حيرة، فقال صبري في قلق: هل أخطأنا في شيء؟!

قال وليد: هل كان يكره ضياء أيضًا؟

قال ناصر في أسف: لم أعرف هذا إلا الآن، أظننا قد زدنا الطين بلة بدل أن نصلحها، ما الحل؟ سيزداد كرهًا لطارق ولن نستطيع التوفيق بينهما، لا بد أن نفكر في حل.

في تلك الأثناء، عاد محمود لسيارته وجلس بمقعده وبراكين الغضب تتأجج ثائرة في نفسه وهو يضرب المقود بقبضته ويقول لنفسه: ذلك الأخرق، تغير بسببها، ضحَّى بنا لأجلها؟ أين كان عقلك يا محمود؟ كيف لم تنتبه لهذا الأمر؟ تبًا لهما، لن أسامحهما أبدًا.

يتبع....

[1] يقصد وادي حضرموت.

[2] من أحداث رواية "سياج الشوق"

الملفات المرفوعة:
  • 93501471_1091729654536782_1545214080732626944_n.jpg

الفصل الخامس

لم يكن منزل رشيد بأقل حجمًا واتساعًا من منزل عبد الكريم، دخلت إليه عائشة برفقة رُبا وضياء، هتفت الأخيرة وهي تجول ببصرها: ما شاء الله، منزل جميل.

ابتسمت عائشة وقالت: قبل ذلك، كنا نسكن معًا بمنزل عائلة والد عبد الكريم، أنا وطارق ووالده، ورشيد وأختي عائدة وابنتهما رندا، كان عبد الكريم ورشيد يعملان مع والدهما في المؤسسة، قضينا هناك عشر سنوات قبل وفاته ثم تقرر تقسيم منزل العائلة؛ لكن كلًا منهما بنى منزله الخاص قبيل هذا.

-وماذا يعمل العم رشيد الآن؟

-موظف بأحد الشركات، فكرة السفر كانت تُلح عليه قبل وفاة والده رغم أن عمل المؤسسة كان أفضل مما هو عليه الآن خلال الحرب، إلا أنه ذكي ورجل أعمال حقيقي استطاع أن يراكم خبرته وينال ثقة الناس هناك ويرتفع مركزه.

-ماذا عن الخالة عائدة؟

-عائدة هي أختي الصغرى، كانت تعمل مدرسة هنا، ثم تركت عملها لتسافر مع رشيد، رغم أنها واصلت دراستها على خلافي أنا، كنتُ استثقلها وفضلتُ البقاء بالبيت ومساعدة أمي إلى أن كُتب لنا الزواج معًا، قضينا أجمل سنوات عمرنا معًا، أتذكر فرح الجميع بولادة طارق، ثم ابنتها رندا، مرحهما كان يضيف الابتسامة على وجوه الجميع، كانت أيامًا جميلة.

-ومتى سافرا؟

-منذ سبعة عشر عامًا، بعد تقسيم منزل العائلة بسنتين حسب ما أذكر، خلالها نجحت محاولاته لأجل السفر وصاروا يزوروننا في كل سنة شهرًا إلى أن أتت الحرب وأغلقت المنافذ وتعذرت عليهم العودة وانقطعت زيارتهم عنا ما يزيد عن سبع سنوات وظللنا نتصل بهم وحسب، رندا تخرجت من الجامعة، لا شك أنها تعمل الآن مع والدها، لم أسأل عائدة عن هذا بعد.

ابتسمت ضياء وقالت: أسأل الله أن يصلوا بالسلامة وأن تجتمعوا بهم على خير.

أمنَّت عائشة على قولها ثم اتجهت للمطبخ، بينما دخلت ضياء برفقة رُبا إلى غرفة واسعة ذات طلاء وستائر بلون وردي، سرير وثير، مكتب خشبي عليه ملصقات لشخصيات فتيات وورود، حتى الدولاب كان ذو لون وردي، قالت ضياء مبتسمة: لا شك في أن هذه الغرفة الجميلة لرندا، الألوان واللوحات والزينة التي عليها رقيقة ومنتقاة بعناية.

-نعم، إنها لها، كنا نجلس أحيانًا هنا للعب، لا أتذكر جيدًا، أمي من قالت لي ذلك، وكل ما أتذكره أنها فتاة مرحة، طيبة، جميلة، لم أرها إلا مراتٍ قليلة بعد انقطاع زياراتهم عندما نتصل بهم.

اتجهت ضياء نحو الجدار بمكنسة طويلة لتنظف زوايا السقف وهي تقول: الآن ستلتقين بها وستمرحان طويلًا، اطلبي منها أن تحكي لك ماذا كنتما تفعلان.

-سأفعل.

اتجهت رُبا إلى الطاولة وأخذت تمسحها، ثم فتحت الدرج فوجدت صورة التقطتها وتأملتها، ثم هتفت في ضيق: ما هذا؟ أين أنا؟

انتبهت لها ضياء واقتربت منها لتتأمل الصورة معها، كانت تجمع أفراد العائلتين؛ (عبد الكريم) بزيه التقليدي الحضرمي، ملامحه الشابة هادئة، (عائشة) عن يمينه بعباءتها وحجابها الأسودين، وجهها الجميل ونظرة الكبرياء والشموخ في عينيها، (طارق) في نحو العاشرة يقف أمام والديه، تأملت ملامحه الطفولية، ابتسامته المرحة، شعره الكثيف الناعم، عيناه البنيتان، بذلته الأنيقة، عاقدًا يديه إلى صدره في اعتزاز، كان وسيمًا أيضًا في صباه، ابتسمت ضياء وهي تتأمل صورته، ثم نقلت بصرها للجهة الأخرى، حيث رأت (رشيد)، رجل ذا طولٍ فارع وملامح حازمة حليق الوجه يرتدي الزي التقليدي الحضرمي كأخيه، وإلى جانبه زوجته (عائدة) ذات ملامح جميلة شديدة الشبه بعائشة إلا أنها أقصر منها، نحيلة الجسد فبدت عباءتها فضفاضة، وعينيها السوداوين تلتمعان في سرور لمن يلتقط الصورة وهي تضع يديها على كتفي رندا؛ طفلة في نحو السابعة بوجهها الأبيض، بنيتها المعتدلة، شعرها البني الغزير سُرح في ضفيرتين طويلتين امتدتا على طول صدرها، تألقت بفستانها الأبيض الذي يصل إلى منصف ساقيها، بدت نظرة عينيها العسليتين خجولة ومرتبكة، ضحكت ضياء وهي تقول لربا: هذه الصورة قبل أن تُولدي، طبيعي ألا تكوني فيها.

-عندما أعود للبيت سأخرج كل صوري وأريك إياها.

-يسعدني ذلك عزيزتي، دعينا نكمل العمل قبل أن يأتي طارق.

وأسرع النساء الثلاثة في عملهن لتنتهي عائشة من تنظيف المطبخ وترتيبه، ثم ترتيب غرفة أختها، بينما انتهت ضياء من غرفة رندا وانتقلت لحجرة الاستقبال، وانتقلت رُبا للصالة، لم يتوقفن إلا على قرع الباب، أسرعت رُبا لتفتح وتجده طارق.

-هل انتهيتن؟

-لم يبق إلا القليل.

-وكم يجب أن أنتظر؟

أطلت ضياء من حجرة الضيوف، وهي تقول: نصف ساعة فقط.

-حسناً نصف ساعة، لدينا دوام في الغد لا تنسين هذا.

هزت ضياء رأسها وابتعدت، بينما دخل طارق الصالة حيث تنظف رُبا، فقال وهو يتأمل المنزل: يااااه، مرَّ وقت طويل على زيارتي لمنزل عمي.

-هل تتذكر طفولتك هنا؟

-ليس كثيرًا فأنا لا أزورهم إلا بالمناسبات ومرات خاطفة أحيانًا، معظم طفولتي في منزل جدي.

-هذا يعني أنك تذكر رندا.

مال طارق برأسه وقال وهو يتذكر: أكثر ما أتذكره هو ازعاجها، دائمًا تطلب مني أن ألعب معها وأنا أرفض، لم تجد من تتسلى به غيري.

ضحكت ضياء وهي تمر بالممر وتقول: ما هذا؟ أهذا كل شيء؟

نظر إليها مبتسمًا وقال: أيضًا...

بدا الارتباك عليه، فسألت رُبا: ماذا؟

رد سريعًا: آآآ... إن كنتُ سأحكي شيئًا عن الطفولة فسأحكي عن جدي وقصصه، ناصر ومغامراتي معه، ما عداه لم أهتم به كثيرًا حتى أتذكر تفاصيله.

قالت ضياء: يبدو أن شقاوة الأولاد هي ما كانت تشغل فكرك.

-بل ذكريات الأصدقاء.

في تلك اللحظة، رنَّ هاتفه بنغمة خاصة منبهًا إياه لوصول رسالة عبر (الماسنجر) أخرجه من جيبه وفتحه، وجدها رسالة من حساب باسم (رندا) فتحها ليقرأ ما كُتب: '' آسفة لتأخري، مبارك زواجك''

ابتسم وكتب ردًا عليها: '' بارك الله فيكِ، لا بأس، قلقتُ لأنكِ لم ترسلي رسالة منذ مدة، أرجو أن تكون أموركِ بخير''

''لو قلقت حقًا كنت ستُرسل رسالة لتطمئن عليَّ، لقد اعتدتُ ألا تفعل، فأنا المبادرة دائمًا''

"معكِ حق، أنا مخطئ، أرجوكِ لا تلوميني، فالعمل بالمؤسسة كثير والحياة تغيرت عما مضى، مسؤولياتي صارت كبيرة''

'' لم أراسلكَ لأعاتبك، فاطمئن، أنا بخير وأستعد للسفر كما تعلم''

''أشكركِ، والحمد لله أنك بخير، أتمنى أن تصلي مع الأهل بالسلامة أختي الغالية''

ثم أرسل رسالته وانتظر، لم يتلقَ أي رد، أدرك انها شُغلت بأمرٍ ما، فأراد إغلاق هاتفه؛ لكنه عاد للرنين ليجده اتصال من ناصر، غادر الصالة متجهًا نحو باب المنزل وهو يجيب عنه: هل رتبت موعدًا جديدًا؟

-لا، حاولت مع محمود ولم أنجح، لا يزال غاضبًا منك.

-للأسف، دعه يهدأ لوحده ولا تلح عليه عله يدرك خطأه.

صمت ناصر لبرهة ثم قال: سأتصل بك لاحقًا عندما أتفق مع وليد وصبري.

استنكر طارق نبرة صوته فسأله: هل هناك شيء آخر؟

-لا شيء صديقي، سنظل على تواصل إن شاء الله.

وأغلق الخط، أحس طارق إنه يخفي أمرًا فقلق، وقرر سؤاله عندما يقابله.

***

تحول المنزل المهجور إلى آخر بهيج، عاد إلى أرجائه خفقات الحياة، فمع نسمات الصباح وبعد رحلة مضنية وصل رشيد وأفراد عائلته إلى رحاب (المُكلا)، كان عبد الكريم وعائشة في استقبالهم، استقبالٌ تعالت معه زغاريد الفرح، طال عناق اللقاء، اختلطت حلاوة السرور بمرارة الفراق لتسكن الطمأنينة النفوس وتهدأ آلام القلوب بالوصول لأحضان الأهل وربوع الوطن، هو ظمأ الغربة واللهفة للقاء الأحبة حين يطول الغياب. إن كان رشيد قد استطاع ضبط مشاعره وهو يعانق أخيه، إلا أن عائدة لم تستطع، ظلت معانقة لعائشة لمدة ودموعها مدرار على خديها وهي تقول: آه من الفراق، لا نريده ولا نرغب فيه.

-الحمد لله أنكم عدتم سالمين، لن نفترق أبدًا بإذن الله.

ظلت رندا في تلك اللحظة مسدلة لنقابها حتى بعد دخولها المنزل، موارية دموعها رغم ما شاهدته من دمعات اللقاء ممن هم حولها، وحين انتبهت لنظرات خالتها تتجه إليها أسرعت تمسح دموعها ثم ترفعه وتقبل نحوها، عانقتها عائشة بفرح وهي تقول: أتخجلين من دموع الفرح يا ابنتي؟

-بل من دموع الحزن، لو كانت الدموع تنطق لقلت لها قولي فرحًا وأهديه لأحبتي، الفراق وجعٌ حتى لو كان من ابتعدنا عنهم على قيد الحياة.

ابتسمت لها عائشة وهي تتأمل وجهها وهي تقول: ما أعذب كلماتك يا حبيبتي وما أبهى إطلالتك، كبُرتِ وصرتِ جميلة، أسكن الله الفرح بقلبك.

-شكرًا خالتي، أدام الله الفرح في قلوبنا جميعًا.

فقالت عائشة لرشيد: كيف حالك صهري؟

-أنا بخير وعافية، سعداء برؤيتكم وعودتنا أخيرًا.

قال عبد الكريم: الحمد لله على سلامتكم.

مسحت عائدة دموعها وهي تقول: أين طارق وضياء ورُبا؟

-سيأتي طارق وزوجته في المساء إن شاء الله، تخلفا بسبب عملهما ودوام الأطفال الثلاثة.

امتقع وجه رندا واجترعت غصة ألمها الكبير عند قول خالتها، بينما قالت عائدة في استغراب: ثلاثة!!

ابتسمت عائشة وقالت: سأشرح لك كل شيء.

-لا بأس، سأنتظرهم بشوق.

-هيا اذهبوا لتستريحوا من عناء الرحلة قبل أن يداهمنا الضيوف، وأنا وعبد الكريم سنهتم بكل شيء.

مضى نهار اليوم بين أحاديث الذكريات، وجلسة العائلة واستقبال الزوار رجالًا ونساء من الأقارب والأصدقاء والجيران، ولما هبط المساء غادرن رفيقات رندا فعادت لغرفتها، أرادت أن تختلي بنفسها وتستريح، فتحت حقيبة السفر لتستخرج من بين الملابس ثلاث مذكرات عُلَّق بإحداهن قلم، وضعتها على الطاولة، ثم فتحت الدرج لتضع الأخريين فيه فوجدت صورة، أخرجتها، تراءى في عينيها وهج الحنين لأيام لا تُنسى، رغم أن الزمن بدأ يُبهت ألوانها إلا أنه لم يمحُ ملامح الأيام الخالدة بقلبها والمسطرة بمذكراتها، ظل نظرها معلقًا بطارق الصغير، ابتسمت ابتسامة تشوبها الحزن، تمتمت: كيف تهديني هدية ثم تنتزعها مني بقسوة يا طارق؟

قطعت تفكيرها على إثر بوق سيارة بالخارج، أسرعت تقترب من النافذة وتزيح ستارتها قليلًا، رأت ضياء تخرج من السيارة، ورُبا تخرج من المقاعد الخلفية وتعدو نحو الباب لتقرعه، لحق بها عمار وعامر، بينما أطفئ طارق السيارة ثم خرج، خفق قلبها حين رأته، لا يختلف كثيرًا عن آخر صورة شاهدته له، تسللت ابتسامة فرح لثغرها؛ لكنها سرعان ما وارتها حين رأت ضياء تقترب منه لتنتظره ثم تمشي برفقته ويدلفان المنزل بعد الأطفال، زفرت في ضيق وهي وتبتعد عن النافذة وتتميز غيظًا: هل سأجبر على رؤيتها؟ لا، لا أريد أبدًا، سأبقى هنا.

ثم سمعت صوت أبيها مرحبًا تلاه صوت طارق المفعم بالبهجة والسرور، أعادتها نبرة صوته مرة أخرى لبهجة الماضي الذي ظنت أنها سيدته، سبع سنوات وبضعة أشهر كانت كفيلة لتخلق في قلبها كل هذا الشوق وتذيبها فيه مع كل سطر كانت تكتبه عن ذكرياتهما، بدا لها كلحنٍ ترنَّم بسمعها مستحوذًا على كيانها فتزداد تلك الرعشة بقلبها، كم ودَّت لو ترحب به، تأملت بالمرآة وجهها وشعرها الطويل المنسدل برقة على كتفيها وظهرها، وجدت نفسها رائعة الجمال، ففي أي شيء فاقتها ضياء حتى تهرع في الوصول لقلبه بينما تعجز هي رغم كل سنوات معرفتها به؟

تساءلت رندا بحيرة شديدة والغيرة تكاد تعميها، ثم استيقظت من دوامة التفكير لتقترب من الباب حتى تغلقه بالمفتاح لولا أن فُتح بسرعة، شهقت فزعة وتراجعت حين رأت رُبا تقتحم الغرفة وتندفع نحوها وتهتف بها في سرور، عانقتها رندا مبعدة ضيقها مؤقتًا وهي تقول: أخفتني.

-اشتقتُ إليكِ كثيرًا.

-وأنا أيضا يا حبيبتي، كيف حالك؟

-أنا بخير، دعيني أعرفك على ضياء.

تنفست رندا بعمق وتمالكت كدرها، يبدو ألا مهرب لها من مقابلة من لا تحب، امتثلت لرغبة رُبا التي خرجت لتعود وهي تمسك بيد ضياء وتقول: هذه ضياء زوجة أخي طارق.

قالت ضياء في عتب: تمهلي يا رُبا، لا يجب أن ندخل الغرفة دون إذن صاحبتها.

-لم أستطع الانتظار، لقد اشتقت لرندا كثيرًا ونريد أن نجلس كلنا معًا.

عادت رندا لتتأمل ضياء عن قرب، أزعجها هدوء ملامحها، لينها مع رُبا، سخرت من مظهرها الذي لا يدل على رفاهية حياتها الجديدة بل على سذاجة فكرها، توقعتها بزينة مفرطة وعباءة مزركشة أو ملونة فإذا بها تتواضع في جميعها وتنتقي السواد ليشرق وجهها بصفاء، قالت رندا وهي ترسم ابتسامة على وجهها: لا تعاتبيها يا ضياء، لظروف السفر طقوسه ولن ألومها.

ابتسمت لها ضياء في ارتباك، بدت لها رندا بجمال مظهرها ورقّة صوتها وبساطة تعاملها مع تصرف رُبا الأهوج فتاة مرهفة الحس، متواضعة، طيبة السجية، لم تكن تعلم ما يستعر بأعماقها، قالت معتذرة: آسفة حقًا لهذا الاقتحام.

-لا عليكِ، أهلًا بكِ سررتُ بلقائك.

عانقتها ضياء مهنئة إياها على الوصول وهي تقول: وأنا كذلك، حمدًا لله على سلامتكم.

-سلمك الله، مبارك زواجك وإن كانت التهنئة متأخرة.

-بارك الله فيكِ عزيزتي، دعينا نجلس بالصالة لا أن نزعجك هنا.

-هيا بنا، ولا بد أن نتناول العشاء جميعًا، أمي قررت هذا.

-لا نريد أن نثقل عليكم وأنتم قادمون اليوم من سفر.

غمزت لها رندا بعينها وهي تقول: هي فرصة لنتحدث أكثر وأتعرف على العضو الجديد بالعائلة، سنشارك أمي وخالتي العمل.

-أعدتني لأيامٍ جميلة بـ(عدن)، ليس هناك أجمل من الجلسات العائلية.

ثم قادتهما إلى الصالة، لينضما لوالدتها وخالتها، تبادلن الحديث ثم ذهبن للمطبخ لأجل إعداد العشاء، والحسد والغيرة كانا يدميان قلب رندا في كل لحظة، لم تدرِ كيف ستمضي هذه السويعات دون أن تنفجر أو تهرب إلى مكان لا ترى فيه عدوتها، في تلك الأثناء وفي غرفة الضيوف، كان رشيد وعبد الكريم وطارق وعامر وعمار، فسأل رشيد: ما أخبار المؤسسة يا عبد الكريم؟

-الأمور جيدة والحمد لله، طارق الآن مديرها.

ضحك وقال: تتقاعد من الآن؟ لم تصل للسبعين.

بادله الضحكة وقال: لقد ساعدني وفهم سير العمل منذ تخرجه، لا ضير بأن أبحث عن الراحة الآن.

-أنت محظوظ بوجوده لجانبك، لم أرزق بطفل سوى رندا، أتمنى أن تكون على قدر المسؤولية التي ستتحملها بعدي مع إني أخشى أن تخذلني بعد أن تتزوج وترحل.

-لهذا أحسن اختيار زوجها.

-كثيرون تقدموا لها هناك؛ لكنها ترفضهم، مرة بحجة الدراسة، ومرة لأنهم ليسوا من مدينتنا، لم أفهم سبب رفضها، كنتُ أمتثل لرغبتها فهي وحيدتي ولا أريد أن أجبرها على الزواج وهي غير راغبة.

-أتمنى لها السعادة، سأكون أنا وطارق إلى جانبك إن شاء الله.

هز طارق رأسه مؤيدًا حين شدَّه عامر من ذراعه قليلًا وهمس قائلًا: هل نستطيع الذهاب لأمي؟

-طبعًا، وإياكما لا تحدثا شغبًا.

هز الطفلين رأسيهما وغادرا، فسأل رشيد: من هذين الطفلين يا طارق؟

روى له قصتهما، بدت الدهشة على وجه رشيد وهو يهز رأسه ويمط شفتيه في استنكار قائلًا: هذه شهامة منك؛ لكنها في غير محلها.

-لِم؟ أليس ما أقوم به مساعدة يتيمين؟

-كان في مقدورك أن توفر على نفسك كل هذا الجهد والمال لو سلكت طرقًا أسهل.

تمالك طارق ضيقه، بينما قال عبد الكريم بحزم: من يزرع خيرًا سيحصده ذات يوم، لم يكن طارق يفكر في الخسارة لأي شيء مما ذكرت.

-الزمن تغير يا عبد الكريم، أصبح من يزرع خيرًا لا يحصد إلا شرًا، لا تسمح لأحدٍ باستغلالك حتى ولو كنت تعرفه، فما بالك لو كان غريبًا.

قال طارق بحزم: أنا مقتنع تمامًا بما أفعله.

هز رشيد كتفيه وقال في لا مبالاة: هي حياتك وأنت حرَّ فيما تفعله، وتذكر كلماتي حين يعود هذين الولدين لأهلهما ولو بعد سنوات وينسيا كل ما قدمته لأجلهما.

كظم طارق غيظه وهو يرد: أنا لا انتظر منهما الوفاء بشيء شكرًا لنصيحتك عمي.

ثم انتبه لرنين هاتفه فوجدها رسالة عبر الماسنجر، كانت من رندا كتبت فيها: ’’ تستطيع بعض القلوب نسيان الماضي بمجرد قطعها للعمر والمسافات عندما تجتاحها القسوة، تتملكها الأنانية، تشعر بالاستغناء عند الاكتفاء، تتشبع بها فلا يبقى أي فسحة للوفاء أو للذكرى‘‘

بدت الحيرة على وجهه فأرسل ردًا مستفسرًا إياها: ’’هل هذا لغز؟‘‘

’’بل كلماتٌ كتبتها عن نوع من البشر، ما رأيك؟‘‘

رد ساخرًا: ’’هل تعدين العشاء بالمطبخ أم تكتبين الخواطر الآن بغرفتك؟‘‘

’’يبدو أنها لم ترق لك، أعتذر‘‘

’’آسف، إنها جميلة يبدو أنكِ تجيدين الرسم بالكلمات‘‘

’’أشكرك‘‘

’’ أشعر أنكِ لصة وأنتِ تراسليني وأنا بين أبي وعمي، ما الذي دفعك لهذا الآن؟ في وسعك الانتظار لحين انتهاء الزيارة‘‘

اختفت من نافذة المحادثة دون أن تجيبه، شعر أنها انزعجت، عاد يقرأ الكلمات مرة أخرى دون أن يفهم قصدها.

يتبع...

الملفات المرفوعة:
  • 5.jpg
Page 1 of 2Next