ملكة النجوم السعيدة

عن القصة:

لم تكن النجمة الزرقاء نجمة عادية، إذ سرعان ما احتلت مكانة خاصة استثنائية لدى “ملكة النجوم السعيدة”
وفي اليوم الذي كانت تخطط فيه الملكة لاطلاعها على سر خطير؛ حدث ما لم يكن بالحسبان!
فهل ستتمكن ملكة النجوم السعيدة من تجاوز ذلك؟!

التصنيف: خيال, نفسي

يُحكى أنه في أحد الكواكب البعيدة، كانت تعيش فتاة وحيدة، تُعرف بملكة النجوم السعيدة..

كانت سماء الكوكب مزدانة بالنجوم الملونة بجميع الألوان والأحجام، وكانت الملكة تحرص أشد الحرص على أن تنعم جميعها بالسعادة، وتبذل جهدها لأجل ذلك..

وذات يوم، لمعت نجمة زرقاء فريدة في سمائها على غير العادة، لتلقي عليها التحية بابتسامة تشع سعادة، قبل أن تقول:

– لم أرَ سماء مليئة بالنجوم كهذه السماء من قبل! تبدو مميزة جدا بشكل خاص، ألهذا سر يا ترى؟

أطرقت الملكة برأسها قليلا، في محاولة للتذكر، ثم أجابت:

– ربما كان لذلك سببا لكنني لا أذكره، المهم أن منظرها يبعث على السعادة وهذا يكفي..

قالت الملكة كلمتها الأخيرة، وهي ترفع ذراعيها عاليا وتفتح كفيها بابتهاج شديد، وكأنها تحتضن السماء، فعلقت النجمة الزرقاء:

– يعجبني تفاؤلك ونشاطك الدائم أيتها الملكة، فمنذ أن رأيتك وأنا معجبة بهمتك، أتمنى أن تظلي سعيدة هكذا دائما، ويشرفني أن أكون بصحبتك..

تأثرت الملكة بكلمات النجمة الزرقاء بشكل غريب، حتى ان دمعة نفرت من عينها، بل إنها لم تستطع الكلام لوهلة؛ فآثرت الصمت، فيما تابعت النجمة الزرقاء كلامها بمرح، وهي تلاحظ توهّج جواهر تاج الملكة:

– أنت حقا محظوظة بامتلاكك هذا التاج الجميل، فجواهره تبدو بهية، خاصة تلك الجوهرة الوردية!

فابتسمت الملكة:

– اعتبريه هدية لك إذا أحببت..

وهمّت الملكة برفع التاج عن رأسها، غير أن النجمة الزرقاء بادرتها بسرعة:

– لا يمكنني أخذ شيء كهذا أيتها الملكة، إنه كنزك الثمين، وما أنا إلا نجمة عادية!

غير أن الملكة أكدت بشدة:

– لستِ عادية أبدا! منذ فترة طويلة لم تظهر في سمائي نجمة مثلك! ولن أمانع أن أعطيك تاجي متى رغبتِ!

شعرت النجمة الزرقاء بالخجل الشديد، فأسرعت تغيّر دفة الحديث بقولها:

– يبدو أنك لم تغادري هذا الكوكب منذ فترة طويلة أيتها الملكة، فما رأيك أن تأتي معي في رحلة ترين فيها سماوات كواكب مختلفة؟

غير أن الملكة ردت بحزم:

– هذا مستحيل! فأنا ملكة هذا الكوكب، ويجب أن اضمن سعادة نجومي السعيدة دائما!

ثم استدركت بسرعة:

– ولكن بالطبع سيسعدني أن تخبريني عن تلك الكواكب وكأنني أراها، فما رأيك؟

وبالفعل انطلقت النجمة الزرقاء تحدث الملكة بكل شيء رأته خلال تجوالها في الفضاء الشاسع، وكانت الملكة تسعد بحديثها، وتأنس بقربها، حتى أنها بدأت ولأول مرة تتحدث عن نفسها، بدل الحديث عن نجومها فقط! ومع مرور الأيام؛ تأكدت الملكة أكثر وأكثر ان الشيء الذي كانت تفتقده طوال الوقت؛ قد وجدته أخيرا في النجمة الزرقاء، مما جعلها تحتل مكانة مميزة لديها، وكأنها جزء من روحها! فبدأت تطلعها على أخبار مملكتها، وأدق أسرارها، وتشاركها اتخاذ قراراتها وتهتم برأيها، ولم تكن النجمة الزرقاء لتبخل عليها بأي نصيحة أو مساعدة، مما ساعد في ازدهار الكوكب أكثر وأكثر..

وذات صباح، وبينما كانت الملكة تستعد لاطلاع النجمة الزرقاء على آخر أسرارها، لعلها تزيح حملا ثقيلا عن رأسها؛ تفاجأت باختفائها من سمائها!

في البداية لم تكترث للأمر كثيرا، فلا شك أن النجمة الزرقاء اشتاقت للتجول في الفضاء كسابق عهدها، وقد تعود لها بقصص جديدة كعادتها! غير أن انتظار الملكة طال كثيرا، وبدأ القلق ينتابها تدريجيا مع مرور الأيام، حتى انطفأت البهجة من عينيها، ولم تعد قادرة على أداء واجباتها، بل شعرت بالمرض يتسلل إلى جسدها، وهي تترقب ظهور النجمة الزرقاء في كل لحظة دون فائدة!

لو أنها فقط تعرف إلى أين ذهت؛ لربما غادرت مملكتها بحثا عنها، ولكن هيهات لها ذلك!!

كان الألم والحزن يعتصران فؤادها عصرا، ولم يكن هناك أحد يمكنه إدراك ما يحل بها، خاصة مع حرصها على الظهور بمظهر الملكة الواثقة أمام نجماتها السعيدة مهما كلفها الأمر، ومع ذلك.. لم يعد باستطاعتها رؤية سعادة النجوم حولها، فتنهدت:

– لماذا أشعر أن السماء أظلمت، وكأن النجمة الزرقاء وحدها من كانت تنيرها؟ ألهذه الدرجة خطفت بصري فلم أعد أرى غيرها، أم أن تلك هي الحقيقة فعلا؟ ليتني أذكر كيف كنت أعيش قبلها! بل هل كنت أعيش أصلا قبلها؟ لم أعد أدري!!

وإذ ذاك سمعت صوتا يصدر من قلبها:

– يبدو أنك نسيت النجمة الزهراء!

اقشعر جسد الملكة لوهلة، وهي تتلفت حولها بتوجس:

– من أنت؟

فجاءها الجواب بنبرة تنبعث من الأعماق:

– أنا ذكرياتك التي قمتِ بدفنها في أعماق نفسك السحيقة..

صمتت الملكة لبرهة من الزمن، لتتنهد بعدها بعمق قائلة:

– فهمت.. أنا لم انس النجمة الزهراء، فقد كانت صديقتي المقربة..

– هل هذا يعني أنها لم تعد كذلك؟

– ليس الأمر هكذا.. فأنا أسعد برؤيتها بين الحين والآخر بلا شك..

– وماذا إن غابت عنك لفترة طويلة؟

– أنا أقدر انشغالها بلا شك، فأنا أيضا قد لا أكون متفرغة لها دائما..

– ولماذا لا تفترضين الشيء نفسه مع النجمة الزرقاء؟

بوغتت الملكة بسماع هذا، فاستدركت بسرعة:

– النجمة الزرقاء مختلفة.. إنني اعتبرها جزء مني. لا يمكن مقارنة غيابها بنجمة أخرى!

– أليس هذا ما كنت تقولينه عن النجمة الزهراء في الماضي؟ يبدو أنك نسيت الأمر حقا!

صمتت الملكة مرة أخرى، وقد بدأت تشعر بصداع خفيف:

– لست متأكدة.. النجمة الزهراء لا زلت اعتبرها صديقتي، ولكن اهتماماتنا أصبحت مختلفة..

– ألا يمكن أن ينطبق الكلام نفسه على النجمة الزرقاء أيضا؟

– مستحيل! أنا والنجمة الزرقاء متشابهتان تماما، وهي أكثر من تشاركني الاهتمامات نفسها، إنها الوحيدة التي يمكنني أن ابوح لها بأفكاري الخاصة، التي بالكاد أواجه نفسي بها! لذلك لا يمكن مقارنتها بأحد!!

– يبدو أنك نسيت كلامك السابق عن النجمة الزهراء!

– لا أدري لم تحاولين اقحام النجمة الزهراء في الموضوع الآن!!

– الدهر كالدهر والايام واحدة…..

فأسرعت الملكة تقطع ذلك الحديث:

– لا.. لا يمكن للنجمة الزرقاء أن تكون مثلها، إنها مختلفة!!

– ألم تكن النجمة الزهراء مختلفة أيضا؟

– ربما كانت كذلك فعلا! لكن.. بالطبع ليست كالنجمة الزرقاء المتفردة..

– أنت حقا بدأت تنسين الماضي بسرعة! هل نسيت ماذا حدث مع النجمة الزهراء؟

– كان سوء فهم بسيط..

– ومع ذلك.. هل نسيت كم استغرقك الأمر حتى تعافيت منه؟ هل تريدين تكرار التجربة؟

– ولكن اليس من المبكر افتراض ذلك؟ لم يحدث أي سوء فهم بيني وبين النجمة الزرقاء، بل كنا متفاهمتين تماما..

– إذن لم أنت حزينة؟

– إنني قلقة عليها وحسب.. فلا أدري ما هو سبب اختفائها بعد، ولا أصدق أنها قد تختفي هكذا دون سبب.. أخشى أن يكون أصابها مكروها!

– وهل لو عرفت أنها بخير ستكونين سعيدة؟

– أجل بالطبع..

– حتى ولو لم تعد لسمائك مجددا؟

خيّم الصمت على الملكة كجبل ثقيل يكاد يقصم ظهرها، إلى أن تساءلت بصعوبة:

– ولم قد تفعل ذلك؟ السنا أصدقاء؟

– هذا ما تفترضينه أنت، ولكن ماذا عنها هي؟؟ قد لا تكوني أكثر من محطة عابرة في طريق رحلتها، فأنت بالنسبة لها ملكة هذا الكوكب، ولك شعبك الخاص! ربما لا تعلم بأهمية وجودها لك..

– هذا مستحيل.. فقد أخبرتها بذلك مرارا وتكرارا، إنها تدرك تماما مكانتها عندي، وتعرف إلى أي درجة قد افتقدها!

– حسنا.. لنفترض أنها تعلم، ومع ذلك لا تهتم.. فماذا ستفعلين؟

تحشرجت الحروف والكلمات في حلق الملكة، حتى شعرت بالاختناق، فيما تابعت تلك النبرة العميقة كلامها بحزم:

– هي ليست مجبرة أصلا أن تكوني محل اهتمامها، فهل ستقتلين نفسك من الهم؟

وبصعوبة خرجت الحروف ببطء شديد من جوف الملكة:

– ربما لو كنت قد أخبرتها بأنـ….

– بدون “لو”!! يجب أن تحذفي هذه القنبلة الموقوتة من قاموسك، فهي أخطر من السم الزعاف..

– وماذا بعد؟

– إن كنت تحبين النجمة الزرقاء حقا؛ فيفترض أن ذكراها الجميلة ستبقى في قلبك، فلا تجعليها عقبة في دربك! تابعي بكل تفاؤل حياتك، وتذكري أن النجوم السعيدة بانتظارك..

بدأت الغمامة تنقشع تدريجيا عن ذكريات الملكة، فهتفت بدهشة وهي ترى تلك اللوحة القديمة بوضوح:

– أجل تذكرت.. لقد اتخذت وقتها قرارا، وكان لا بد من تنفيذه.. السعادة قرار، وها أنا سأقرر مجددا.. مهما حدث.. يجب أن أكون سعيدة!

وأخيرا.. ابتسمت الملكة برضا، فيما انهمرت دموعها كسيل جارف، استحالت قطراته نجوم لامعة، رصعت سماءها بسعادة! وإذ ذاك سطعت من رأسها جوهرة كبيرة، بلون زرقة السماء الصافية، لم ير أحد أكبر منها ولا أروع؛ توسطت جواهر تاجها، طاغية على وجود بقية الجواهر بوهجها، وكأن التاج لا يحمل غيرها..

*********

تمت..

ملاحظة:
خطرت هذه الفكرة ببالي على غرار قصة الامير الصغير على الاغلب! وأيا ما كان السبب، فأرجو أن تحمل في طياتها بلسما شافيا، وسعادة لكل قلب.. ^^
فإذا رايتم النجوم في السماء، فاذكرونا بصالح الدعاء، ونسأل الله أن يرزقنا جميعا عيش السعداء..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

أنا الهدهد هادي

عن القصة:

جميعنا لدينا احلامٌ تراودنا.. سواءٌ أكانت ممكنةً أم مستحيلة..
ترى ما هي أحلام الهدد هادي؟
وكيف لها أن تكون لو تحققت؟!!

قصة درامية خيالية نفسية قصيرة، لاتصلح للأطفال أبدا..!

التصنيف: خيال، دراما، مأساة، نفسي (+16)


السلام عليكم يا أصدقائي..

أنا الهدهد هادي!!

لحظة.. لحظة من فضلكم، لا تتفاجؤا فأنا بالفعل مجرد هدهد، ولا يغرنكم مظهري الحالي وما أنا عليه الان!! أنا بالفعل هدهد وهذا ليس لقبا فقط، إنه أنا قبل أن تحل علي (اللعنة) كما تقولون!!

حسنا.. قد لا تكون هذه بداية جيدة لقصتي، ولكن من يهتم بأمر البدايات في هذه الحالة التي أنا عليها!! ثم إنها قد لا تكون قصة بطبيعة الحال؛ عدّوها مجرد فضفضة لمخلوقٍ كان هدهدا فيما مضى..

لا أذكر متى تم توجيه أول اتهام لي تحديدا، لكنني أظن أن ذلك حدث يوم أن كنتُ هدهدا حقيقيا، إذ اتهمني بعض الهداهد بالتناقض، رغم أنني لا أجد نفسي كذلك أبدا!! كل ما في الأمر أنني كنت أعترض على طريقة أبي في تذكيري مرارا وتكرارا بأن عليّ مراعاة نسبي الأصيل، والتصرف بما يليق به؛ إذ أننا ننحدر من نسل الهدهد الأعظم، هدهد نبي الله سليمان عليه السلام، والذي تعدّ سلالته أشرف سلالة هداهد على الاطلاق، وكنت أرى أن تصديع رأسي بهذا النسب النبيل؛ مجرد هراء لا طائل منه، فمالي ولهذا النسب إن كان سيحدّ من حرية تصرفاتي!! ثم إن ما يحدد قيمة المخلوق حقا؛ هو عمله وليس نسبه!!

وذات مرة، حاول أحد الهداهد السخيفة إحراجي بتعليق سخيف مثله، فأوقفته عند حده، وعرّفته من أكون!!! فأنا الهدد النبيل سليل عائلة الهدهد الأعظم، وعليه احترام تواجده في حضرتي الجليلة!! لقد صرختُ في وجهه قائلا بالحرف الواحد:

– ” أتجرؤ على إهانتي يا حقير الحسب والنسب، وأنا ابن النبلاء الأكارم، من سلالة الهدهد الأعظم!!”

على كل حال، هذه ليست قصتي التي سأرويها لكم، لذا دعونا نعُد إلى البداية، يوم أن كنت هدهدا عاديا، أو كما يقولون في قبيلتنا؛ مولود على فطرة الهداهد، نغدو خماصا، ونعود بطانا، لا همٌ يؤرقنا، ولا كآبة تتملكنا، فلا نحزن على الماضي، ولا نقلق من المستقبل…

يومها كنت أحلق مع أبي في الفضاء الرحب، عندما استرحنا على غصن شجرة، تطل على بستان وارف الظلال، فطرق سمعنا صوت رخيم يرتّل بصوت جميل جدا:

” لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم”

فانتفضتُ انتفاضة عجيبة، وقلت لأبي: لماذا لستُ انسانا!! هذا ليس عدلا!!!

وقبل أن استمع لنصيحة أبي، الذي أمرني بالتروّي والاستماع لبقية الايات، حلّقتُ بجناحي بعيدا، وأنا في ذروة الغضب!! وكل خلية في جسدي تحاول التمرد على طبيعتي الهدهدية، وهي تردد:

 ” لن أبقى هدهدا بعد الآن!!”

ظننتُ أن الانسانية صفة نبيلة، وأسمى غاية يسعى أي مخلوق للوصول إليها!!

آه.. لو أنني فقط استمعتُ لبقية الحديث!!

 حتى (لو) لم أكن اعرفها من قبل، أما الان فقد باتت أكثر الكلمات شيوعا في أحاديثي!!

ولكن هل سيفيدني الندم الآن!!!

كأنكم تسألونني في فضول ما الذي حدث لي بعد ذلك!! وسأخبركم بأغرب حادثة تمر على هدهد في هذا العالم، فبعد أن ابتعدتُ عن أبي متجاهلا نداآته اللحوحة خلفي، أخذت أطير على غير هدى، باهتياج غاضب، دون أن أدري كم مر عليّ من الوقت وأنا على تلك الحالة، حتى شعرتُ بثقل في جناحاي، ولم أعد أستطيع مواصلة الطيران أكثر، فاسترحتُ قرب جدول ماء صغير، شربت من مائه البارد، ثم استلقيتُ على جذع شجرة تُطلّ عليه..

غير أنني لم أشعر بجسدي إلا وهو يهوي على الأرض فجأة، بعد أن انكسر الجذع الغليظ من تحتي!! كان أمرا عجيبا جدا، إذ لم أتخيل في حياتي كلها أن جذعا قد ينكسر تحت ثقل وزني الخفيف!!

لكن الأعجب من ذلك، أنني لم أكد أهم بالنهوض من سقطتي تلك، مرفرفا بجناحاي؛ حتى افتقدتهما!!

 لم يكن هناك أي جناحين، بل وجدت مكانهما ما أصابني بالرعب!!

وأظنكم عرفتم ما قصدت، وهكذا ما أن القيتُ على نفسي نظرة في مياه الجدول الصافي، حتى راعني ما شاهدت!!!

قد تقولون أن هذه كانت أمنيتي، وأنا أوافقكم الرأي، لكن أن يتحقق ذلك فجأة دون سابق إنذار، لأمرٌ يثير الرعب حقا!!

قد لا يهمكم كثيرا ما حدث بعد ذلك، إذ أنني سرعان ما تدبرتُ أمر الملابس، وهذا من عجائب ما حدث معي أيضا، إذ وجدت ثيابا بالية ملقاة قربي، أظن أن أحدهم استغنى عنها، فلم يجد لها مكانا أفضل من القائها قرب الجدول! لا يهمني أمره كائنا من كان، فقد انتقيتُ منها ما يناسب جسدي الجديد، غير أنني لم أكد ارتديها؛ حتى ظهرت لي حافة جرة مليئة بالذهب، مخبأة في التراب، تمكنتُ من تمييز قيمتها فورا بغريزتي الجديدة، التي بدأت تتغلغل في أعماقي، ولأنني حديث عهد بعالم الانسانية الذي انتقلتُ إليه، فقد جعلتُ انسانيتي هي من تقودني، واتخذتُ لي قانونا (انسانيا جدا)، أسير عليه:

ما أرغب بفعله فسأفعله، وما لا أرغب بفعله فلن أفعله!!

كان قانونا مريحا جدا، ورائعا بالنسبة لي في ذلك الوقت، إلا أن أصواتا مزعجة بدأت تنبعث من داخلي، لا أعرف مصدرها، أخذت تخالف رغباتي الانسانية بشدة كلما هممتُ بتنفيذ رغبة، وتحاول منعي من اتباعها، فما كان مني إلا أن قمتُ بوأدها في المهد، حتى لم أعد أسمع لها صدى أبدا بعد ذلك!! مما أشعرني براحة كبيرة، فقد لا تتاح لي فرصة أخرى لأن أكون انسانا، فلمَ لا أعيش التجربة بكل جوانبها الانسانية!!! هذا ما كنت أفكر فيه، وليتني لم أفعل!!

وهكذا.. استسغتُ الفكرة، وبدأتُ بشق طريقي بناء عليها، ولن أثقل عليكم بذكر كافة التفاصيل المملة، يكفيكم أن تعلموا أنني اشتريت قصرا منيفا، يطل على بحيرة رائعة، واستعملتُ فيه الخدم والحشم، ولم أبخل على نفسي بأي شيء؛ لأعيش أكثر حياة منعمة يحلم بها أي انسان! ولكم أن تتخيلوا ما شئتم، مما يمكن أن يفعله شاب وسيم جدا، غني جدا، لديه فراغ بلا حدود! حسنا لا تستغربوا، فقد كنت وسيما حقا في ذلك الوقت، ولا يغرنكم مظهري الحالي كما قلت لكم!!

وذات يوم وبينما كنت أجلس على شاطيء البحيرة، بصحبة صديقاتي الحسناوات (!)، لفتت نظري شابة فاتنة، لم أحلم برؤية من هي بجمالها قط! فتعلّق نظري بها؛ حتى سرحتُ عن أحاديث صديقاتي، التي باتت مملة جدا أمام ذاك الجمال، فما كان من إحداهن إلا أن وكزتني في ذراعي، قائلة بدلال:

– ما لك ولها يا دودي، إنها فتاة مخطوبة!!

بالطبع لا يخفى عليكم أن دودي هو الاسم الذي تناديني به صديقاتي تحبّبا، ولا أخفيكم أن تلك الفتاة قد أسرت لبي، وأوقعتني لأول مرة بما تسمونه (الحب)!! ولم يعد لي هم بعدها؛ سوى تحقيق رغبتي في الحصول على اهتمامها بأي طريقة كانت!

عشت أياما عصيبة، إذ لم أتخيل أن الوصول إلى قلب فتاة يحتاج كل ذلك الجهد!! لقد صدّتني مرارا وتكرارا، متذرّعة بأنها “مخطوبة” وعليّ احترام ذلك! إلا أن رغبتي في الحصول عليها، كانت هي الأهم بالنسبة لي، فهذا هو قانوني الوحيد الذي أعرفه، لذا لم أستسلم، ولجأتُ إلى كافة الوسائل لأخبرها بأن حبي لها ليس له حدود، وأنني مستعد لفعل أي شيء من أجلها! بل إنني أخبرتها بأنها لن تجد من يحبها أكثر مني، ولا حتى خطيبها نفسه! وقد تبين لنا بعد ذلك؛ أننا نتشارك الكثير من الاهتمامات والصفات، ويكفي أنها أجمل فتاة وأنا أوسم شاب، وحسبما سمعت من قصص شهرزاد، فإن بدر البدور؛ لا بد لها من الارتباط بالامير الوسيم، وإلا لن تستقيم الحكاية!

لقد عرفتُ أنها بدأت تحبني، وتميل نحوي، وهذا هو الامر الصحيح، إلا أن قانونها الصارم الذي تتبعه؛ لا يحل لها خيانة خطيبها كما تقول! مما تطلّب مني جهدا مضاعفا لأقنعها بأنه لا قانون أمام الحب، بل إن الحب هو القانون!!

ما حدث بعد ذلك من التفاصيل لا يهم كثيرا، فقد تزوجنا وقضينا أياما جميلة جدا، نرتوي فيها من كأس الحب كما نشاء، ونستمتع بحياتنا دون حدود، نفعل ما نريد، ولا نفعل ما لا نريد، حتى اسنفذنا كافة الملذات التي نتخيلها، ولم يعد هناك جديد يملأ علينا فراغنا، فأصابنا الملل، وبدأت الخلافات تظهر جليا بيننا، لا سيما وأنها أخذت تتحدث عن رغبتها بالانجاب، وأن عليّ مراجعة الطبيب!!

أمور سخيفة حدثت، لكنها أزعجتني جدا، ولم أعد أرى في زوجتي تلك الحسناء الفاتنة، خاصة بعد أن التقيتُ بإحدى الفتيات على الشاطيء، أثناء هجري لقصري، بسبب المدعوّة زوجتي!!

أما تلك الفتاة، فقد كانت رائعة بقوامها الممشوق، فلم أتردد بإطالة النظر إليها، والتحديق في مفاتنها، ولِمَ لا أفعل ذلك ما دامت هذه هي رغبتي!! وهكذا بدأتُ في تكوين صداقة جديدة، أشغلت فراغي، وأنستني همومي، ولم أجد مشكلة في دعوتها إلى قصري، فهناك يمكننا فعل الكثير من الأمور براحة أكثر! فما كان من زوجتي إلا أن ثارت ثائرتها دون مبرر!! مما أفسد الجو عليّ مع صديقتي فخرجت غاضبة، واتهمتني بالمخادع!!

بالطبع لم أكن لأرضى بما حصل، فهذا ضد رغباتي، فما كان مني إلا أن ضربتُ زوجتي، وطردتها من القصر، فقد كان هذا هو أكثر ما أرغب بفعله في ذلك الوقت، ففعلته! إلا أن زوجتي بدأت تسترحمني باسم الحب الذي بيننا، فأخبرتها بأنه لم يعد موجودا في قلبي، ولم تعد لدي الرغبة في الاستمرار معها بأي شكل! فذكرتني بعقد الزواج الذي بيننا، فأخبرتها بأنه لا يعني لي شيئا أبدا، ما دام لا يوافق رغباتي! وعندما أخبرتني بأن التوقيع على ذلك العقد يجبرني على الالتزام به، قمتُ بتمزيقه فورا!! فما كان منها إلا أن اجهشت بالبكاء، وهي تردد بنشيج، حاولتُ تجاهله لأنه يقف عائقا في طريقي:

– لماذا كذبتَ عليّ أيها المنافق!! لقد أخبرتني بأنك تحبني حبا لا حدود له، وأجبرتني على فسخ خطوبتي من أجل الحب!! فأين هو هذا الحب أيها الوغد، ولماذا قمتَ بالتوقيع على عقد الزواج؛ إن كنت لا تريد الالتزام به!! أبعد أن تخليتُ عن كل شيء من أجلك، تتخلى عني بهذه السهولة!!

 لقد اتهمَتني بالكاذب المنافق الوغد، رغم أنني لم أكذب عليها قط، ولم أنافقها أبدا!! ولم أرَ في نفسي أنني وغدٌ على الاطلاق!! عندما شعرت بالحب الكبير لها، قمتُ بما يمليه عليّ هذا الحب، وعندما شعرتُ برغبة في توقيع عقد الزواج والالتزام بمسؤولياته وقّعته، وعندما لم أشعر برغبة في الالتزام بعقد الزواج مزقته! عندما اختفى الحب اختفى معه كل شيء، وهذا هو الامر الطبيعي، فأين المشكلة إذن!!  ثم إنه لا يحق لها إلقاء اللوم عليّ أبدا، فأنا لم أُجبرها على شيء كما تدّعي، كل ما في الأمر أنني أقنعتها، وهي اقتنعت!!!

أعتقد أنني أسهبتُ في الحديث، رغم أنني لا زلت في بداية الحكاية فقط، ولا أظن أن الوقت سيسعفني لأحدثكم بتفاصيل ما حدث بعد ذلك رغم أهميتها، لذا سأسردها عليكم باختصار شديد قدر المستطاع..

بعد أن انفصلتُ عن زوجتي، بدأت تنتابني حالات غريبة من القلق والتوتر والضيق والكآبة، تعرفتُ خلالها على عدد من الأصدقاء والصديقات، وجربتُ الشراب الذي وجدت فيه نشوة تسكرني عما أجد نفسي فيه من الهم، ثم قادتني رغباتي لتجريب كافة الأمور التي تُذهل الانسان عن واقعه، حتى أدمنتها، ثم خسرتُ أموالي جراء ذلك، وكنت بحاجة ماسة للمال، فحصلت عليه بكافة الطرق الممكنة، ثم وقع خلاف حاد بيني وبين أحدهم، مما أشعل الغضب في نفسي وألحّت عليّ الرغبة في قتله فقتلته، وهكذا بدأت حياتي تتخذ مسارا جديدا، حتى وصلتُ إلى هنا كما ترون، في هذه الزنزانة المعتمة، مكبلا بالأصفاد والسلاسل، بسبب عدد لا أذكره من التهم، منها حوادث قتل واغتصاب وسرقة وسطو واعتداءات مختلفة، وأشياء لا يجدر بي ذكرها لفظاعتها، وعدة اتهامات أخرى من هذا القبيل، نسيت معظمها!!

من العجيب أنهم عندما قبضوا عليّ، كنت أراقب هدهدا لفت نظري، بعد أن وقف على غصن شجرة أمامي، كان يشدو لحنا غريبا هز مشاعري على غير العادة.. إنه أبي!! وأظنه قد عرفني!! فقد كان يحاول أن يقول لي شيئا، غير أنهم لم يمهلوني لحظة واحدة، حتى وجدتُ نفسي في هذه الزنزانة!!

أما الأمر الأغرب من ذلك، أنهم أحضروا لي رجلا يُسمعني الموعظة الأخيرة، قبل انتقالي للعالم الآخر كما يقولون، وبالطبع لم أكن لأهتم لأمره، غير أنه بدأ حديثه بترتيلٍ لم يكن غريبا عليّ:

” والعصر* إن الانسان لفي خسر….”

عندها ثارت ثائرتي، فقد عرفته، أنه ذلك الشخص الذي سمعته يتلو تلك الآية ذات مرة!! فما كان مني إلا أن هممتُ بالامساك به من تلابيب ثوبه، لولا تلك الأصفاد التي تكبلني، فصرخت فيه بغضب:

– ألستَ أنت الذي كنت تتلو ” لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم”!!

فنظر إليّ بدهشة، قائلا بهدوء:

– لا أعرف عن ماذا تتكلم، ولكن هذا ليس كلامي، وإنما كلام الله!!

لقد كان وقع لفظ (الله) عميقا في نفسي، فقد تذكرت طبيعتي الهدهدية عندما كنت لا أفتؤ أسبّح بحمده سبحانه! لكنني بطبيعتي الانسانية؛ شعرتُ برغبة في المكابرة، فجادلته بعناد:

– إن كان هذا كلام الله فكيف تفسر التناقض فيه!! أتارة يكون الانسان في خسر، وتارة في أحسن تقويم!!!!

فأجابني بثبات أدهشني، بعد أن ظننتُ أنني أفحمته:

– كلام الله واضح ولا تناقض فيه، لكنك لم تُعطِ نفسك فرصة لسماع تتمة الآيات..

فقاطعته فورا بنفاد صبر:

– وكيف تفسر ما أنا عليه الآن إذن!! أين التقويم الحسن في مظهري؟؟؟

فأجابني بهدوء كعادته:

– هذا لأنك لم تلتزم الشرط!

وتلى عليّ بصوتٍ مؤثر لم أستطع مقاطعته:

” لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم* ثم رددنه أسفل سافلين* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجرٌ غير ممنون”

لقد وقع الكلام عليّ كالصاعقة!! هكذا إذن!! أسفل سافلين!!!هذا يفسّر كل شيء!!

أظن أن هذا ما كان أبي يود إخباري به طوال الوقت!! لو أنني استمعت له، وعلمتُ أن الانسان لن يرتقي إلا إن كان مؤمنا صالحا، لأدركتُ أن الرضا بما قسمه الله لي؛ هو أحد ركائز هذا الايمان!! ولتوقفت عند طبيعتي الهدهدية البسيطة، دون أن أقحم نفسي في هذه الدوامة المعقدة!!

لقد كنت حديث عهد بالانسانية كما قلت لكم،  فلم التزم الشرط، ولم أدخل في الاستثناء، الذي كان بمقدور عقلي معرفة أهميته لو أنني استخدمته!! لم أكن مؤمنا ولم أعمل الصالحات، فلم يكن أمامي سوى مواجهة النتيجة الحتمية لذلك (الخُسر)!! لم أتوقع أن عليكم يا بني الانسان بذل جهد كبير للنجاة!! الأمر لم يكن بالبساطة التي تخيلتها أبدا!! فبالنسبة لنا معشر الهداهد، غرائزنا ورغباتنا لا تقودنا إلى الشقاء والتعاسة أبدا، على عكسكم أنتم، لذا زوّدكم الله بأسلحة العقل والضمير ونداءات الفطرة الملحّة، التي لن تعرفوا معنى السعادة الحقيقية أبدا إن حاولتم تجاهلها!! وهيهات أن تُفلحوا بعد ذلك!! وهنا يكون مناط التكليف، وتكمن عقدة الاختبار، الذي ستكون نتيجته النهائية؛ إما جنةٌ أو نار!!!

يا للسخرية، يبدو أنني أجيد إسداء النصائح كثيرا!!

حسنا لقد جاؤا الان، فأصواتهم تقترب من زنزانتي، يبدو أن ساعة تنفيذ الحكم قد حانت، ولكن لا بأس؛ فلا أظنكم ستحزنون كثيرا لإعدامي، ثم إنني سألقى حتفي على أية حال بإحدى هذه العاهات التي تشوهني، أو الأمراض الكثيرة التي تفتك بجسدي!

لحظة أو لحظتين، وتحين نهايتي البائسة على منصة الاعدام!!! من كان يتخيل هذا!! والحق يُقال، إنه لكرمٌ منهم أن يمنحوني هذه الفرصة لتلبية أمنيتي الأخيرة في رواية قصتي، فقد أخبرتني أمي ذات يوم، أنها وأبي أختارا لي اسم “هادي”؛ لأكون مثل جدي الهدهد الأعظم، الذي اهتدت بسببه مملكة عظيمة، لذا وبالرغم من أنني خسرتُ كل شيء، إلا أن شعوري بأنني قد وفيتُ هذا الاسم حقه ولو لمرة واحدة، كفيلٌ بعزائي!! فاجعلوا من قصتي هذه هداية لكم، فهي آخر ما سيبقى من آثاري!

قد تقولون إنها مجرد قصة خيالية، وقد يبدو الأمر مستحيلا جدا، ولكن هل يهم هذا فعلا!! فحتى أنا؛ قد لا أكون سوى شخصية خيالية نسجتها إحدى المُخيّلات، لكن هذا لا يهمني أيضا، ما يهمني حقا ويلح علي في لحظتي الأخيرة، هو إن كان بإمكان شيء أن يشفع لي، ويرحم روحي المعذبة، فيمنحني فرصة أُحلّق فيها عاليا من جديد، أو أن يكون هذا كله مجرد كابوس سيختفي فجأة عندما أفيق!! أعلم أنها قد لا تكون أكثر من أمنية بعيدة المنال، فأصوات الثائرين في الخارج تخترق أذني، وهم يطالبون بتعجيل عقوبتي انتقاما لحقوقهم كما يقولون!! وإنني إذ أحدثكم بهذا أغبطكم أن لا تزال أمامكم فرصٌ كثيرة، فاغتنموها وتذكّروني.. أنا الهدهد هادي!!!!!!!!

************

(قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم )