تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 47

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

تأمل رامز اسم اللوحة بتعجب، ولم تكد كلماتها تنطبع في ذاكرته؛ حتى قفزت مئات التحليلات وآلاف الاستنتاجات إلى ذهنه، كان معظمها يدعم بشكلٍ كبير نظريته الاولى..

“تركته لأجلك”

ما الذي يمكن أن يوحي به اسمٌ كهذا، سوى ما خطر بباله أول مرة!!!

وبالنظر إلى تاريخ اللوحة؛ باتت نسبة احتمال هروب تلك الفتاة بمحض إرادتها، كبيرة جداً، ولولا الضرورة المهنية، التي تحتم عليه عدم تجاهل أي احتمال آخر ولو بنسبة ضئيلة؛ لجزم الأمر مئة بالمئة..

وأخيراً التفت إلى ناديا، التي كانت تراقبه بتمعن، فابتسم لها بمرح قائلاً:

– أعلم أنني أتعبتك معي يا آنسة، ولكن أرجو أن تسمحي لي بالتقاط صورة أخيرة لهذه اللوحة، فقد أثارت اهتمامي فعلاً..

فزمّت ناديا شفتيها، قبل أن تقول، وقد بدأت الشكوك تخامرها:

– آسفة.. هذه اللوحة بالذات لا يمكن تصويرها.. فلم نعرضها بعد في أي معرض.. ثم إنك التقطتَ ما يكفي من الصور حتى الآن! فلصالح من تعمل؟؟

فأسرع رامز يبريء نفسه بقوله:

– صدّقيني إنني مجرد هاوٍ لا أكثر، ولن أقوم بنشر أي صورة من هذه الصور في أي مكان.. أريد الاحتفاظ بها للذكرى فقط، ويمكنك أن تثقي بكلامي هذا.. أنا سائح هاوٍ لا أكثر..

وتأكيداً على كلامه، أخرج جواز سفره الأجنبي من جيبه موضحاً:

– إنني مهتم بالتعرف على طبيعة البيئة العربية، والثقافة العربية بشكل عام، والفن أحد صور هذه الثقافة، لذا أرجو أن تفهميني جيداً يا آنسة..

لم تكد ناديا تلمح جواز سفره، حتى نسيت لباقتها المعتادة مع الزوار، وهي تردد بتعجب:

– هل أنت أجنبيٌ حقا!! أعني.. هل أنت أجنبي الأصل!! صحيح أن ملامحك قد تبدو أجنبية، ولكنك تتحدث العربية مثلنا بطلاقة!

فابتسم رامز قائلاً:

– ألم أقل لك أنني مهتمٌ بدراسة الثقافة العربية يا آنسة! لقد درستُ اللغة العربية منذ سنوات، والتحقتُ بمعاهد اللغة حتى أتقنتها.. إنني بالفعل مهتمٌ بهذه الثقافة.. يمكنك القول إنها هواية..

بدا الارتباك على وجه ناديا بوضوح، وقد شعرت بمسؤوليتها فجأة؛ تجاه صورة الأمة العربية! لكنها سرعان ما تمالكت نفسها قائلة:

– حسناً.. في هذه الحالة سأقدم لك هذه الخدمة، آملة منك أن تحافظ على وعدك بعدم نشرها في أي مكان، لأننا بصدد العمل على إصدارنا الخاص بالفعل..

فتهلل وجه رامز، وهو يشد على يديها بامتنان شديد:

– شكراً جزيلاً لك.. لن أنسى هذا الجميل أبداً يا آنسة..

وبينما أخذ يلتقط الصور للوحة من عدة زوايا، سألها بعفوية ظاهرة:

– ترى ما الذي يعنيه اسم هذه اللوحة؟

فأجابته ناديا بعفوية مماثلة:

– حقيقة لا أدري تماماً، فقد كانت الرسّامة في عجلة من أمرها حين أنهت اللوحة، حتى أنني اضطررتُ لإرسال رسالة لها، أسألها فيها عن الاسم، الذي نسيت كتابته عليها، فلم تصلني منها سوى هاتين الكلمتين.. حتى أنني لم أعرف المقصود برسالتها، هل تقصد أنها تركت اختيار العنوان لي، أم ماذا بالضبط!! لكنني قررتُ اعتماد جملتها تلك اسما للّوحة في النهاية، فهو يبدو مناسباً نوعاً ما، وقد كان هذا آخر عهدي بها، إذ أنها لم ترد على اتصالاتي بعد ذلك، على غير عادتها..

ورغم أن رامز تظاهر بانشغاله بآلة التصوير، إلا أنه كان يحاول تسجيل كلمات ناديا في ذهنه باهتمام، ولم يخفَ عليه ملاحظة الضيق في نبرتها، وهي تتحدث عن سوسن! لا شك أنها منزعجة من تصرفها ذاك جداً، ولم يكن كلامها عنها سوى نوعٌ من الفضفضة!

فما هي الظروف التي دفعت سوسن لذلك التصرف!!

غير أنه لم يسترسل كثيراً في تساؤلاته الداخلية تلك، حتى لا يثير الانتباه، إذ سرعان ما أطلق صافرة قصيرة؛ معبراً من خلالها عن إعجابه بترتيب المعهد وتنسيق زواياه، وبعد أن تجول بعينيه بين الفتيات المنهمكات في لوحاتهن، سأل ناديا بفضول:

– هل جميع المنتسبين إلى هذا المعهد من الفتيات؟

فأومأت ناديا برأسها إيجاباً:

– أجل هذا صحيح.. ولكن هذا لا يعني أننا لا نقبل انضمام الذكور أيضا..

أبدى رامز اهتماماً واضحاً بما سمعه، معلقاً:

– هكذا إذن.. ظننتُ أن عاداتكم العربية تمنعكم من ذلك..

فقالت ناديا:

– لا أنكر وجود من يتمسك بهذه العادات حتى الآن، ولكننا معهد راقي حديث، ولا نلتفت لمثل هذه الأمور..

فهز رامز رأسه متفهماً:

– جيد..

ثم استطرد بشكل عفوي، وهو يتمنى أن يحقق هدفه دون إثارة الريبة:

– بالمناسبة؛ ألا يوجد رجال مهتمون بالفن هنا؟

فقالت ناديا:

– بالطبع يوجد.. هناك الاستاذ سامر على سبيل المثال، وهو أحد أساتذة الرسم المشهورين، ليس في عالمنا العربي وحسب، بل أيضا على المستوى العالمي.. لقد كان هنا قبل قليل..

فتجاوب معها رامز بعفوية:

– أستاذ رسم عربي إذن!! هذا مذهل.. سيسرني جدا مقابلته، فربما يفيدني أيضا! هل يمكنني أخذ عنوانه يا آنسة؟

أما في الجانب الآخر من المعهد، حيث بدت الفتيات منشغلات بلوحاتهن، فقد كانت سورا تتابع تلك المحادثة باهتمام كبير، وقد لمعت أمامها أفكارٌ غريبة، لم تستطع تجاهلها..

هل يُعقل أنها تعنيني بجملتها تلك!! لقد كانت مصافحتها لي غريبة بعض الشيء.. كان هنالك خطأ ما بلا شك.. شيء ما؛ لم يكن في مكانه الصحيح!!!

وكادت أن تفلت منها شهقة؛ لولا أنها أسرعت تكتمها في صدرها، وقد أدركت تلك الحقيقة بغتة!

لقد صافحتها سوسن بيدها اليمنى، ولم تكن ترتدي خاتمها، الذي كان شيئا مقدسا بالنسبة لها!! فهل يُعقل أنها… فسخت خطوبتها من أيهم!!

لقد تعجبت من حجابها عندما رأتها، وكاد الفضول أن يقتلها، وهي تتساءل عن ردة فعل أيهم تجاه ذلك، ولدهشتها الشديدة؛ لم تحضر سوسن حفل تكريم أيهم، الذي لم تكن تتركه وشأنه طرفة عين!!

بل إن أيهم لم يكن على طبيعته ذلك اليوم…

لقد اتضحت الحقيقة أمامها أخيراً..

لا شك في ذلك.. لقد فسخت خطوبتها منه.. وانتهى الأمر!!!

فهل يُعقل أنها.. تركته لأجلي!!!!!!!!

غير أن سورا وضعت حداً لأفكارها تلك.. إذ لا يمكنها أن تترك نفسها لأوهام لا دليل عليها، وإلا كانت خيبة أملها كبيرة فيما بعد.. ثم إنها لا تريد أن تعتقد بأن سوسن قد قدمت لها خدمة ما، مهما كانت دوافعها!!

ولم يكد رامز يغادر المكان، حتى قالت جولي هامسة:

– أراهن أنه لم يأتِ إلى هنا؛ إلا من أجل سوسن!!

ذلك الشخص.. أوراقه مكشوفة!!

فغمزتها فاتن:

– هيا اتحفينا بتحقيقاتك يا “مِس ماربل”!

– كلا.. بل قولي.. “هيركول بوارو” أو “شارلوك هولمز”، فهما الأفضل بالنسبة لي..

المهم.. ألم تلاحظي كيف كان يتأكد من التوقيع أولاً؛ قبل أن يتأمل اللوحة!!

– لقد لاحظتُ ذلك فعلا، فلم أرَ فناناً يقوم بهذه الحركة من قبل!

وانضمت إلى المحادثة فتيات أخريات:

– وكأنك رأيتِ جميع الفنانين في العالم!!

– بل الأغرب من هذا؛ أنه أبدى اهتماماً مفاجئاً بالفن السريالي من خلال لوحة سوسن الأخيرة، في حين أن لوحات نور لم تلفت انتباهه من قبل!!

– بل كان يتأملها أيضاً.. ألم تسمعي سؤاله عن نور واهتمامه بمعرفة خلفية عن أسلوبها؟

فزمت جولي شفتيها:

– لا أدري… ولكنني ما زلت مصرة أن سوسن كانت هدفه الرئيس.. وربما لم يسأل عن نور إلا من أجل سوسن..

فلم تتمالك فاتن من إطلاق ضحكة:

– لقد أصبح خيالك واسعاً.. بل متمدداً أكثر مما يجب… بلا شك..

فيما تغامزت الفتيات بينهن:

– في هذه الحالة.. لا شك أنه معجب جديد وقع في الفخ..

***

كان أيهم في دوامة كبيرة، نجح ذلك المحقق بإثارة زوابعها؛ عندما سمع صوت جلبة في الخارج، ورغم فقدانه الرغبة في الاقدام على أي شيء؛ إلا أنه دفع بنفسه دفعاً لينظر من النافذة المطلة على الحديقة، آملاً أن يجد شيئاً يزيح عنه تلك الهموم الجاثمة على صدره، والتي زاد تراكمها بعد زيارة ذلك المحقق!.. ولدهشته الشديدة؛ رأى سورا!!

راوده شعور غريب لم يستطع تحديده، غير أن ما أدركه جيداً في تلك اللحظات؛ هو أنه على أتم الاستعداد لمقابلتها.. وقبل أن يأتيه حارسه الوفي بخبر الزائرة؛ أسرع يفتح الباب منادياً عليه:

– ما الذي تريده الآنسة يا عواد؟

أما سورا التي باغتتها طلته المفاجأة؛ فقد ارتجف قلبها، وشعرت ببرودة في أطرافها، وشلل في لسانها؛ ألجمه عن الكلام! ولم يُخرِجها من حالتها تلك؛ سوى كلمات البستاني:

– السيد يسأل.. مالذي تريدينه؟

ارتبكت سورا قليلا، قبل أن تستعيد سيطرتها على نفسها، موجهة حديثها للبستاني:

– لدي أخباراً تهمه كثيراً، غير أنها أخبار خاصة، لا يمكنني التحدث بها هنا..

لم تدرِ سورا ما الذي حدث بالضبط بعد ذلك، إذ كان فكرها مشغولاً بالطريقة التي ستبدأ فيها الحديث مع أيهم.. وجها لوجه.. لأول مرة بعيدا عن سوسن! لدرجة أنها لم تذكر كيف قطعت خطواتها عبر الحديقة، حتى استقرت في صالة الاستقبال أمامه..

لم تستطع رفع عينيها لتواجه عينيه، رغم شعورها بنظراته المتسائلة.. فطال الصمت أكثر مما ينبغي.. فحتى أيهم… تسللت إليه العدوى على ما يبدو… فآثر الجلوس بصمت؛ حتى تبدأ حديثها معه، دون أن يستطع منع نفسه؛ من تخيل آخر مشهد جمعهما معا، في حفل النجوم!!!

وأخيراً.. تكلمت سورا دون أن تنظر نحوه:

– حقاً إنني آسفة لما حدث..

فوجيء أيهم بكلماتها، فهل هي على علمٍ باختفاء سوسن!! لقد أخبره رامز بأنه لا يريد للخبر أن ينتشر، فمن أين لسورا علمٌ بذلك! أم أن الخبر انتشر بعد خروج رامز من عنده قبل الظهيرة!! وقبل أن يهم بسؤال سورا عن مدى معرفتها بهذا الأمر، قالت سورا بنبرة مواسية:

– لم أتوقع من سوسن أن تتصرف هكذا أبداً.. أنت لا تستحق ذلك منها.. فقد كنتَ رائعاً معها.. ولكنها لم تفهمك على ما يبدو.. مما جعلها تقدم على تلك الخطوة!

عندها لم يملك أيهم نفسه، وقد باتت تلك الهواجس التي أسرّ بها إلى رامز تتمثل أمامه، هل يعقل أن سوسن فعلت شيئا كهذا!! فسألها بقلق:

– هل تقصدين أنها هربت بملء إرادتها؟

لم تفهم سورا ما الذي قصده أيهم بسؤاله، فرمقته بنظرات استفهام متعجبة، وهي تردد كلمته بتمعن:

– هربت؟؟!!!!

ورغم أن سورا لم تجب أيهم بشيء محدد؛ إلا أنه شعر بارتياح مفاجيء لردة فعلها.. فعلى الأقل؛ سورا لم تقل بأن سوسن هربت، ويبدو أنها لا تعرف شيئاً بهذا الخصوص…

أما سورا التي شعرت بوجود سوء فهم بينها وبين أيهم، فقد حاولت استنباط ما يجول بخاطره، والذي دفعه لطرح سؤاله الأخير!! هل حدث شيء آخر بين أيهم وسوسن غير فسخ الخطوبة!! وتمنت لو أنه يصارحها بكل شيء دفعة واحدة، بدلاً من محاولاتها الجاهدة لاستخراج ما يخفيه صدره عنها..

حل بينهما الصمت الثقيل مجدداً، ولم تجد سورا بداً من قطعه بنفسها للمرة الثانية على التوالي، فقالت بنبرة لا تخلو من ألم:

– قد لا أعني لك شيئاً.. ولكنني بالفعل أهتم كثيراً لأمرك.. لقد آلمني حزنك الدفين خلال تلك الحفلة، التي أعدت خصيصا لتكريمك بعد أن حققتَ مركزاً عربياً لامعاً، يحسدك عليه جميع النجوم.. كنتُ أشعر بألمك، رغم ابتسامتك التي حاولتَ رسمها على شفتيك.. لقد آلمني ذلك كثيراً.. حتى بت متأكدة من شكوكي، حول فسخ الخطوبة بينك وبين بسوسن..

وأمام إقرار أيهم الذي دل صمته عليه؛ صمتت قليلا قبل أن تتابع بمرارة:

– أعلم أن سوسن تعني لك الكثير.. فخاتم خطوبتها لا يزال في يدك، رغم أنها تخلت عنه بسهولة.. ولكن ما حدث قد حدث، وأنا متأكدة الآن، بأنها هي من اختارت فسخ الخطوبة، ولن تتراجع في قرارها أبداً، فهل ستقتل نفسك من أجلها؟؟؟

قالت كلمتها الأخيرة بمرارة واضحة، فيما ترقرقت الدموع في عينيها.. أما أيهم الذي كان يستمع إليها بصمت، فقد شعر بوخزة في صدره.. إنه واثق من أن سوسن لم تتخلى عنه بسهولة، كان هناك شيء ما؛ يدفعها لذلك دفعاً بلا شك.. ولا يزال هنالك أمل دفين في عودتها إليه…

وأمام صمته، قالت سورا:

– لقد ترَكَت سوسن رسالة واضحة لنا جميعاً.. فهل تعرف ما الذي قصدته بقولها:

“تركته لأجلك”؟

نظر إليها أيهم مستفهماً، فوضّحت سورا كلامها:

– كان هذا عنوان لوحتها الأخيرة، التي رسمتها قبل أن تترك المعهد قبل يومين، غير أنني لم انتبه لذلك إلا بعد أن جاء الاستاذ سامر وقرأ رسالتها، وأظنه فهم ما قصدته!

لم تكد سورا تأتي على ذكر سامر؛ حتى شعر أيهم بغضبٍ مفاجيء يغلي في صدره، فسأل سورا باهتمام:

– ما الذي تقصدينه بأن سامر فهم رسالتها؟

ولم تكن سورا لتضيع فرصة كهذه، فقالت بتردد ظاهر:

– لستُ واثقة.. ولكن يبدو أن الاستاذ سامر؛ قد فهم بأن هذه رسالة منها إليه..

لم يعد أيهم قادراً على احتمال المزيد.. فنهض من مكانه، وهو يجوب الغرفة محدثاً نفسه بغضب..

مالذي تعنيه بكلامها هذا!! هل تركتني لأجل ذلك الوغد!!

أما سورا التي راعها الحال الذي استبد بأيهم، والذي قد لا يخدمها أبدا، فقد أسرعت تحاول تهدئته بقولها:

– ربما كان فهمي خاطئاً، قد تكون تقصد شيئا له علاقة بالفن…!

قالت كلمتها، وهي تكاد تتميز من الغيظ، فهل يُعقل أن تقوم بتبرير تصرفات سوسن بنفسها، لكي يهدأ أيهم!!!! ولم تستطع الاحتمال أكثر، وهي تشعر بالقهر الشديد؛ فانفجرت باكية، ونهضت من مكانها لتسرع بالخروج من هذا المكان بأي طريقة، غير أن أيهم الذي انتبه فجأة لما يدور حوله؛ أمسكها من ذراعها مستوقفا:

– انتظري لحظة أرجوك…

فوقفت سورا، وهي تشعر بدوار خفيف في رأسها، من كثرة المشاعر المختلطة والمتلاطمة فيه، كاد أن يفقدها توازنها، خاصة وهي تلتقط بصعوبة أنفاسها المنتحبة، فأسندها أيهم قائلاً:

– لم لا تجلسين قليلا لنتحدث بهدوء؟

ولم تجد سورا بداً من الانصياع لكلماته.. باستسلام تام…

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 46

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

دلف رامز مسرعاً إلى العمارة التي تحتضن شقته في دورها الثالث، وهو يحتضن ذلك المغلف الثمين بكلتا ذراعيه، وبدلا من استخدام المصعد؛ آثر صعود الدرج، كنوعٍ من الحرص على مغلفه الثمين، رغم أنه لم يجد مبرراً مقنعاً لتصرفه ذاك!!

ولم يكد يستقر على مقعد مكتبه، بعد أن أغلق باب الشقة خلفه بإحكام، حتى تناول قاطعة الأظرف من حافظة الأقلام، لتباشر عملها بفتح المغلف بحذرٍ شديد..

وما أن أفرغ محتوياته على سطح المكتب أمامه، ليبدأ دراستها بدقة؛ حتى شدّت انتباهه صور الفتاة الضائعة، وقد هاله جمالها الفاتن لوهلة! غير أنه سرعان ما وضع الصور من يده جانباً، وهو يحاول طرد فكرةٍ تسللت إلى رأسه خلسة، ملوحاً بيده في الهواء أمامه، كمن يطرد ذبابة تحوم حوله بإصرار، مذكراً نفسه:

– عليّ أن أكون مهنياً في عملي أكثر، فيكفي ما ارتكبته من خطأ فادح لهذا اليوم، وإلا.. أضعتُ هدفي الذي ناضلتُ من أجله، طوال السنوات الماضية!!

***

أغلق تامر سماعة الهاتف، وهو يتنفس الصعداء، بعد أن بذل جهداً كبيراً في محاولة طمئنة السيد كارم بخصوص ابنته، وهو يوضح له كافة الاجراءات التي اتخذها من أجل الوصول إلى مكانها في أسرع وقت ممكن، دون لفتٍ للأنظار..

أخرج السيجارة الثالثة من جيبه، ليحرق معها همومه بهذا الشأن كما أوهمته نفسه، رغم إدراكه بأنه يحرق رئتيه لا أكثر!!

نفث الدخان حوله بضيق، فما زاده ذلك إلا ضيقاً على ضيق، وهو يسترجع تلك اللحظة، التي ظهر فيها رامز أمامه أول مرة..

بدا له شاباً متحمساً، وهو يعرض عليه فكرة استخراج رخصة للعمل كمحقق خاص، عارضاً عليه خبراته السابقة في هذا المجال..

كانت أوراقه الثبوتية، وشهادات التزكية، وخبرته في تلك الدولة الاجنبية، التي يحمل اسمها على جواز سفره، لا غبار عليها، وفوق الشبهات تماماً.. غير أن المشكلة الوحيدة هي أنه لم يسبق استخراج رخصة لهذا العمل، في هذه البلاد من قبل!! بل إنه يكاد يجزم أنه لم يسبق لدولة عربية أخرى؛ أن أصدرت مثل هذا التصريح!!

محقق خاص!!! اسم لم يسمع به سوى في الروايات البوليسية!! أما في الواقع العربي تحديداً.. فهذا يبدو غريباً.. بل غريباً جداً!!

ما زال صدى كلمات رامز الحماسية في ذلك الوقت يرن في أذنيه..

فبعد أن سأله عن سبب اختياره لهذه البلد بالذات؛ ليمارس فيها هذه المهنة بالذات أيضا، أجابه بوضوح:

– كان من الممكن أن يكون اختياري لأي دولة عربية أخرى، وسيتم سؤالي هذا السؤال نفسه.. ما يهمني هو أن أثبت وجودي في دولة عربية، فأنا مهتم جداً بدراسة البيئة العربية، وقد قضيتُ سنوات لا بأس بها في الدراسة في هذا المكان، حتى أتقنتُ لهجة أهل البلد، مما جعلها أقرب البلاد العربية إلي.. ولأن التحقيق الخاص، هو هوايتي قبل أن يكون مهنتي في بلادي؛ فقد قررتُ ممارسة عملي هنا.. وهكذا أكون قد ضربتُ عصفورين بحجرٍ واحد!

ألا تقولون هذا في أمثالكم!

وقتها لم يجد تامر بداً من إبداء نوعٌ من الاهتمام بطموح هذا الشاب الاجنبي الوافد، بعد الحاحه الشديد عليه، رغم إدراكه في قرارة نفسه؛ أنه لن يقوم بعمل أي شيء لمساعدته على تحقيق رغبته.. كان وعداً أشبه بالمجاملة لا أكثر.. ولم تخفَ على ذلك الاجنبي هذه الحقيقة..

لكن القدر أبى إلا أن يقف إلى جانب ذلك الشاب المتحمس!!! لقد أعلنت الظروف العربية المحيطة ولاءها لهذا الشاب الأجنبي، كغيرها مما التصق به صفة العروبة في هذه الأيام، فأبت إلا أن تقدم له هديتها على طبقٍ من ذهب!!! حتى الظروف أصابتها عقدة “الخواجة” على ما يبدو!!

لم يصدّق تامر نفسه بداية عندما هاتفه كارم أول مرة، بخصوص اختفاء ابنته!! وهو يؤكد عليه ضرورة التحقيق السري في قضيته هذه، بل ويعرض عليه فكرة استئجار محقق خاص لهذا الغرض!!! ولولا معرفته بطبيعة كارم؛ لظن بأنه متآمرٌ مع ذلك الشاب، ليحقق له مطلبه؛ بالحصول على تصريح تحقيق خاص من النيابة العامة!!

وهكذا.. لم يجد تامر بداً من الاتصال برامز، ليشرح له القضية، ويحدد معه موعداً في منزله..

ولكن… هل هو حقاً أهلٌ للثقة كما تثبت أوراقه!!! هل تسليم هذا الرجل الاجنبي؛ قضية حساسة كهذه، يُعتبر أمرا حكيماً!! صحيح أنه يتكلم العربية بطلاقة، ولكنه أجنبي حتى النخاع، كما يبدو من أوراقه!! فهل هذا الأمر يقف ضده أم لصالحه!! أليس الاستعانة بالأجانب أفضل في جميع الأحوال!!!

هذا ما كان يأمله تامر في تلك اللحظات، عندما دخلت عليه الخادمة مسرعة، وفي يدها كوب ماء بارد، بعد سماعها لنوبة سعاله الحاد! ورغم أن سحابة الدخان الكثيفة؛ أخذت تحجب الرؤية الجيدة أمام عينيه، إلا أن آلية التدخين التي برمج عليها جسده؛ أبت التوقف عن عملها، ولو على سبيل المجاملة لذلك الجسد المرهق!!

وضعت الخادمة أمامه كوب الماء، على أمل أن يأخذ استراحة قصيرة من ذلك التعذيب، قائلة بأدب:

– هل تأمرني بشيء سيدي؟

فتناول تامر كوب الماء ليجرعه دفعة واحدة، قبل أن يقول:

– أحضري لي علبة سجائر جديدة..

***

بذل رامز جهداً كبيراً في اقناع ذلك البستاني الحارس، ليسمح له بمقابلة سيده دون جدوى..

كانت كلماته واضحة، وهو لا يكل ولا يمل من ترديدها بإصرار:

– لا يرغب السيد أيهم بمقابلة أي أحد كائن من كان!

وأخيراً قرر رامز المخاطرة، فناول البستاني ورقة صغيرة من سترته، خط عليها عدة كلمات، قدمها للبستاني بعد أن طواها جيداً، قائلاً:

– أرجو أن تقدم هذه للسيد أيهم، وأنا واثقٌ من أنه سيطلب مقابلتي حالاً، لذا أرجو أن لا تتأخر في عرضها عليه، وإلا قد تتسبب في غضبه..

فرمقه البستاني بنظراتٍ يشوبها الشك والريبة:

– إياك أن تكون هذه إحدى حيل الصحافة المقيتة!

فعاجله رامز بنبرة لا تخلو من توسل:

– لقد أقسمتُ لك بأنني لست صحفياً ولا علاقة لي بالصحافة، ولا بعالم الفن بأكمله.. الموضوع أكبر من ذلك بكثير.. صدّقني..

فتناول البستاني الورقة، تاركاً رامز واقفاً مكانه، خارج بوابة الحديقة المنزلية، التي تفصله عن المدخل اكثر من عشرين خطوة.. وقبل أن يذهب البستاني؛ قال رامز:

– لا يمكنني أن أمنعك من فتح الورقة، ولكن السيد أيهم سيفضّل أن لا تفعل ذلك، وأنا أثق بك..

لم يعلّق البستاني بشيء، بل أسرع بالالتفاف حول المنزل من داخل الحديقة، التي يقيم في زاويتها بناء خارجي صغير، خمّن رامز أنه محل إقامة هذا البستاني وزوجته، التي تعمل في تدبير منزل أيهم، كما ورد في المعلومات عنه، ولا شك أن هناك بوابة جانبية أخرى، تؤدي للمنزل، لتكون الصلة بين أيهم ومستَخدَميه..

ولم يخب ظن رامز، إذ سرعان ما أسرع البستاني نحوه، ليفتح له باب الحديقة، ويدعوه إلى الدخول من البوابة الرئيسة، معتذراً عن تركه في الخارج خلال تلك المدة:

– أنت تعلم طبيعة عملي يا سيد رامز.. فأنا بستاني وحارس في الوقت نفسه، ولا يمكنني مخالفة تعليمات السيد أيهم… خاصة وأن هناك مئات الفضوليين الذين لا يتركونه وشأنه أبداً..

فابتسم رامز وهو يتبعه بارتياح:

– لا تشغل بالك بذلك، فبالطبع إنني أتفهم أداءك لواجبك جيداً..

وما أن خطا رامز خطوتين عبر مدخل المنزل الرئيس، حتى فوجيء برؤية ذلك النجم، وقد بدا أكبر من شكله في الصور؛ بعشر سنوات على الأقل!!

وبعد أن استقر الاثنان في مجلسهما أمام بعضهما البعض؛ عاجله أيهم بالسؤال، وهو يتفحصه بعينين واهنتين:

– هل حقا أنت مبعوث من قِبَل سوسن؟

تنحنح رامز في مجلسه قليلا، قبل أن يقول:

– أرجو أن لا تغضب مني يا سيد أيهم، ولكن قضية سوسن شائكة أكثر مما تتصور، وقد جئت لأناقش معك هذه القضية، بصفتك أقرب الناس إليها..

فتنهد أيهم بألم:

– لم أعد واثقاً من هذا أيها السيد..

لكنه بتر عبارته ليقول فجأة:

– لم تخبرني بعد، عن علاقتك بسوسن؟ هل هي من أرسلتك إلي؛ لتحل هذه القضية الشائكة التي تتحدث عنها؟؟؟

فهز رامز رأسه موضحاً:

– ليس الأمر هكذا..

وصمت قبل أن يتابع، وهو يبذل جهده لانتقاء الكلمات المناسبة:

– حسناً.. هي لم ترسلني بشكل مباشر.. أو بالأحرى هي لا تعرفني أصلاً، ولا تعرف أنني أتيتُ إليك بشأنها….

فقاطعه أيهم بغضب:

– وكيف تجرؤ على استخدام تلك الحيلة الرخيصة لمقابلتي أيها الوغد!!!!

فهدّأه رامز بقوله:

– أرجو أن لا تُسيء فهمي يا سيد أيهم، فإنني أتيتُ بالفعل من قِبَل الآنسة سوسن.. يمكنك القول أنني أتيت من قِبَل قضيتها؛ لأكون أكثر دقة..

وأمام ضيق أيهم، الذي ارتسم بوضوح على ملامح وجهه، تابع رامز بسرعة:

– لن أثقل عليك وسأدخل في الموضوع مباشرة..

والتقط نفساً عميقاً قبل أن يقول بتردد، وهو يحاول استخدام أكثر العبارات تأثيراً في نفس أيهم:

– هل تعرف أن الآنسة سوسن قد اختفت بعد فسخ خطوبتكما؟

لم يخفَ على رامز رؤية علامات الدهشة الواضحة على وجه أيهم، والذي كرر كلماته بذهول:

– سوسن.. اختفت!!!! ما الذي تقصده بذلك؟؟

فقال رامز:

– أقصد ما سمعتَه مني بالضبط.. الآنسة سوسن اختفت، ولم تعد إلى منزلها منذ يومين، أي منذ فسخ الخطوبة!

فصرخ أيهم بوجهه وقد طفح به الكيل:

– هل تمزح معي أم ماذا!! ما الذي تقوله يا هذا!! وما الذي تريد الوصول إليه في النهاية؟؟ لقد هاتفني والدها بالأمس أو قبل الأمس، لا أذكر متى كان ذلك تحديداً، وكنت أظنه سيناقشني في أمر الخطوبة، غير أنه اكتفى بسؤالي عنها، ولدهشتي الشديدة؛ تفاجأ بخبر فسخ ابنته لخطوبتنا، ورغبتها بإنهاء كل شيء بيننا.. بعدها.. لم يعاود الاتصال بي مطلقاً، رغم أنني كنت أتوقع اتصاله في كل لحظة!! فما الذي تقوله أنت؟؟؟

أخذ أيهم يلتقط أنفاسه اللاهثة بصعوبة، بعد أن أفرغ ما في صدره دفعة واحدة، وأمام صمت رامز، رمقه أيهم بنظرات حادة:

– هل لي أن أعرف من تكون بالضبط؟؟

وبدلاً من أن يجيبه رامز عن سؤاله، طرح سؤالاً آخر:

– وماذا عن حجاب الآنسة؟ هل كان هو السبب في ما آلت إليه الأمور بينكما؟

شعر أيهم بصدره يغلي كالمرجل، فصرخ بوجه رامز كثور هائج وصل ذروته:

– ومن أنت لتطرح عليّ مثل هذه الأسئلة؟ لقد تجاوزت حدك يا هذا!!

وقبل أن يهم أيهم بالقيام من مجلسه، وقد بدا على وشك الاستعانة بالحارس؛ لطرد هذا المزعج من أمامه، أسرع رامز بإخراج بطاقة خاصة من جيب سترته، وضعها أمام أيهم معتذراً:

– أعتذر بشدة عن كل ما سببته لك من إزعاج يا سيد أيهم، لم أقصد إثارة غضبك، ولم أكن أرغب بإثارة مخاوفك أكثر، ولكن كما ترى..

وتابع كلامه، وهو يرى أثر البطاقة على وجه أيهم:

– لا نريد إثارة ضجة في هذا الأمر، وأنت تدرك مقدار الجلبة التي سيثيرها الاعلام والرأي العام؛ إذا ما تسرب خبر اختفاء الانسة سوسن لهم.. لذا وجدتُ أنه من الأفضل مناقشة هذه القضية معك بصمت، وأعدك أن أكون عند حسن ظنك، فأنت بلا شك لا ترغب بالوقوع في مزيد من المشاكل بسبب هذه القضية..

لاذ أيهم بالصمت، كمن سُكب على رأسه دلو من الماء البارد، فقد كان هذا آخر ما يخطر بباله..

محقق خاص مفوض من رئيس المباحث والجنايات العامة!!!

لا شك أنه يحلم!! أو ربما يهذي!!

وأمام صمت أيهم، تابع رامز كلامه:

– أعتقد أن الأمور أصبحت واضحة الان يا سيد أيهم، سوسن اختفت ولا أحد يعرف ما الذي حل بها منذ يومين، ولا يخفى عليك وضع والدها الحرج، خاصة وهو على وشك استلام مهمام رئاسة الوزارة قريباً، وأريد منك أن تخبرني بكل شيء تعرفه عما حدث معها في ذلك اليوم، فهذا قد يساعدنا… ويساعدك أيضاً..

قال كلمته الأخير، مشدداً على حروفها، بنبرة ذات مغزى.. قبل أن يقول:

– ولا داعي لأن أذكرك بضرورة المحافظة على سرية هذه الزيارة، فأنت تدرك تماماً أهمية ذلك بالنسبة للجميع، بما فيها سمعتك أيضاً..

أُسقط في يد أيهم، وقد بدا كالعصفور الجريح، الذي استسلم أخيراً ليد قانصه!

***

شعر سامر بدوار في رأسه، كاد أن يفقده توازنه، مما جعل ناديا تطلب له كوباً من الماء البارد، وهي تشير له بالجلوس قائلة:

– إنني بالفعل آسفة جداً لما حصل، ولكن لم يكن باليد حيلة.. كان هذا قرارها، ولم يكن بإمكاني منعها أو إجبارها على شيء لا تريده..

لم يصدق أذنيه في البداية.. سوسن لم تكتفي برفض دعوته القيمة، للمشاركة في المنافسة العالمية؛ بل تركت المعهد أيضاً!!

هل يعقل أنه دفعها بتهور؛ لترك عالم الفن بأكمله!! ستكون هذه خسارة فادحة.. بل مصيبية حقيقية!!!

لقد كان ينوي فتح صفحة جديدة معها، معنونة بصداقة بريئة لا أكثر، بعد أن يعتذر لها عن كل ما سببه لها من إزعاج.. أما أن تصل الأمور بها إلى هذا الحد، فهذا ما لم يكن يتوقعه منها على الاطلاق!!

شعر بألم كبير في صدره، وضغينة سوداء تجاه ذلك الشخص المدعو أيهم!! هل ستكرس حياتها من أجله، وله وحده فقط!!! هذا كثير عليه بلا شك!!!

كان غارقاً في أفكاره تلك، التي لم تترك له مجالاً لاستيعاب كلمات ناديا، مما جعلها تعيدها على مسامعه مرة أخرى، وهي تقدم له كوب الماء، الذي أحضرته العاملة:

– أستاذ سامر.. هل تسمعني؟ هل أنت بخير؟؟

فحملق فيها سامر بذهول، كمن أفاق فجأة من سكرته، قبل أن يتناول كأس الماء من يدها، مبررا موقفه:

– لقد فاجأني الخبر حقاً.. خاصة وأن هذا سيربك ترتيباتنا، التي أعددناها للمنافسة العالمية الخاصة بمحترفي الفن!

وأمام حرج ناديا الواضح، تكبّد سامر عناء الابتسام لها قائلاً:

– لم تكن غلطتك على أية حال…

ثم صافحها مجامِلاً:

– أشكرك على كل ما قدمتيه لنا حتى الان، أراك لاحقاً..

وقبل أن يهم بالمغادرة، وقعت عيناه على لوحة سوسن الأخيرة، فتوقف لبرهة، وقد سرت قشعريرة في جسده، فيما قالت ناديا موضحة:

– كنتُ سأريك إياها.. إنها لوحة سوسن الأخيرة..

فاتسعت عينا سامر بدهشة:

– منذ متى وسوسن ترسم بهذا الأسلوب!!

ولم تكد عيناه تقعان على اسم اللوحة؛ حتى شعر بالأرض تموج من تحت قدميه، فارتكز على الجدار، وقد غامت الدنيا أمام عينيه فجأة، وهو يتمتم بذهول:

– هل هذه رسالة لي يا سوسن!!

وفي محاولة يائسة للسيطرة على ما تبقى من وعيه، أسرع يودع الآنسة ناديا، مغادراً المعهد الذي كان يعني له شيئا جميلاً قبل أيام قليلة فقط!! أما الآن.. فلم يعد يلوي على شيء؛ سوى الخروج من هذا المكان بأسرع وقت ممكن، حتى أنه لم ينتبه لذلك الشاب الذي اصطدم به، وهو ينزل الدرج بسرعة، فلم يكلف نفسه عناء الاعتذار منه! وبدل أن يستقل سيارته، أخذ يسير في الطرقات على غير هدى، وهو يحدث نفسه في حالة يُرثى لها:

– يا إلهي.. هل يُعقل هذا!! هل حقا تركتِ المعهد بسببي يا سوسن!!!

لم يدرِ كم من الوقت مر عليه وهو على تلك الحالة؛ حتى أنهكه التعب، بعد أن استهلك طاقته بأكملها في المشي، فما كان منه إلا أن جلس على رصيف الشارع، الذي وجد نفسه فيه دون وعيٍ منه، ولدهشته الشديدة؛ لمح بطاقة ملقاة على الأرض أمامه، بدا منظرها غريباً عن هذا المكان شبه المهجور، فيما أخذ شعور غريب يلح عليه بشدة، فنهض من مكانه ليلتقطها، وما أن قرأ ما كُتب عليها بخط واضح “أذكار الصباح والمساء”، حتى شعر بأنه يوشك على الانهيار فعلاً.. لقد لمح هذه البطاقة بالذات مع سوسن، لا شك في هذا، فقد تعجب وقتها من أن تكون فتاة مثلها؛ مهتمة بمثل هذه الأمور!!! فما الذي أتى بهذه البطاقة هنا! وهل هي حقاً لها؛ أم انه بات مجنوناً يتوهم أن كل شيء له علاقة بها!!!!

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 45

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

انهمرت الدموع غزيرة على وجنتي سوسن وهي ترتكز على نافذة السيارة، بعد أن أنهت مهمتها في البنك، شعرت بأنها على وشك الانهيار، ولا يفصلها عن ذلك إلا رحمة الله وعنايته! فرغم أنها كانت مستعدة لأسوأ الاحتمالات، إلا أن حدوث ذلك حقيقة، لم يكن أمرا سهلا على الاطلاق، وبحركة تلقائية تحسست بنصر يدها اليمنى، حيث أقام خاتم خطوبتها فيه باستمرار، كان أعز ما تملك، ولم تتصور يوما، أنها هي من ستنزعه بكامل إرادتها!! لقد اتخذت قرارها الدامي أخيرا، بل أصعب قرار تتخيله، ولم يعد هناك مجال للتراجع، وأخذت الذكريات تموج بخاطرها كسحائب عابرة، بدت معها شبه غائبة عن الوعي، حتى أنها لم تنتبه لسؤال مرزوق، الذي أعاده عليها مرتين على الأقل:

– هل بقي هناك مكان آخر ترغبين في الذهاب إليه يا آنسة؟

فأجابته دون وعي:

– لا..

وإذ ذاك انتبهت لعدة اتصالات تلتها رسالة على هاتفها، لم تكن قد انتبهت لها من قبل، ففتحتها بلهفة، غير أن خيبة الأمل سرعان ما ارتسمت على وجهها، وهي تقرأ اسم المتصل والمرسل:

” لقد نسيت أن تكتبي اسم اللوحة يا سوسن، فما هو؟ أرجو أن تردّي للأهمية”

فابتسمت بحزن، حقا.. لكلٍ همومه! وطبعت بأناملها؛ جملة واحدة من كلمتين، أرسلتها لناديا، وهي تستشعر حالتها التي هي عليها الان..لقد انتهى كل شيء..!!

فما الذي ستقوله لوالديها، بعد أن ارتدت الحجاب، وفسخت خطوبتها بنفسها!!! بأي وجه ستقابلهم اليوم بعد عودتهم من رحلتهم الانتخابية، لٌإقامة الاحتفالات البهيجة بتلك المناسبة!!! الجميع في منزلها مشغولون بالاستعدادات لهذه المناسبة السعيدة، بما فيهم بهجة، فكيف سيكون موقفهم منها!! كيف ستواجه والديها بهذا التغيير الكبير الذي طرأ في حياتها على حين غرة!!!!

كلا.. لم ينتهِ كل شيء بعد، بل بدأت الأشياء الآن!!!

يــــارب.. اكفني ما أهمني، ودبر أموري فإني لا أحسن التدبير..

ثم تناولت بطاقة الأذكار من جيبها، والتي احتفظت بها، منذ أن أعطتها إياها بهجة، لعلها تجد فيها ما يؤنس قلبها، فبذكر الله تطمئن القلوب…

لم تدر سوسن كم مر عليها من الوقت وهي على تلك الحالة، حتى انتبهت فجأة للشوارع المهجورة، التي تراها لأول مرة، فنظرت نحو مرزوق لتسأله بدهشة:

– ما هذا المكان؟ لا أذكر أننا مررنا من هنا سابقا، فهل هو طريق مختصر للمنزل!!

وأمام صمت مرزوق المريب، انتابها شعورٌ بالخوف، غير أن الرعب بلغ بها ذروته، عندما توقفت السيارة فجأة، لتفاجأ بأربعة رجال ملثمين، يحيطون بهم من كل جانب..

فهتفت في هلع:

– مرزوق.. مالذي يجري هنا؟؟ إنني لا أفهم شيئا!!!

إلا أن الصدمة ألجمتها، وهي ترى أحد الملثمين يقترب من مرزوق، الذي فتح له باب السيارة الامامي بهدوء:

– هل تخدعنا يا رجل!! هل تريدنا أن نصدق أن هذه الفتاة المحجبة؛ هي ابنة كارم؟؟

فما كان من مرزوق إلا أن أجابه بتوتر واضح:

– أقسم أنها هي، لقد فوجئت مثلكم بارتدائها الحجاب هذا اليوم فقط! ستجدون جميع اثباتاتها الشخصية في حقيبتها، فتأكدوا بأنفسكم، واتركوا عائلتي وشأنها الان، فقد أديت المهمة..

تسارعت النبضات في صدر سوسن، أهؤلاء هم الأعداء الذين تحدث عنهم والدها ذات مرة، فأحضر لها هذا السائق الأمين ليكون حاميا لها منهم!!!!

وقبل أن تهم سوسن بفتح فمها، شعرت بيد قوية تُكممه بعنف، حتى شعرت بالاختناق الشديد، فانتفضت بشدة في محاولة يائسة للدفاع عن نفسها، غير أن الرائحة النفاذة التي بدأت تتسلل إلى رأتيها، باشرت مفعولها في التخدير فورا..

ورغم استبسال سوسن في مقاومة الدوار الذي بدأ يُثقل رأسها، إلا أنها بدأت تفقد السيطرة تدريجيا، وهي تشد على ردائها، أمام تلك الحادثة المريعة التي بدأت تتهددها، وهي فتاة وحيدة بين اولئك الرجال! لم تكن خائفة منهم، بالقدر الذي خشيت فيه من أمرٍ واحدٍ فقط، فهو أسوأ موقف قد تتعرض له أي فتاة عربية عفيفة شريفة، بل أكبر مصيبة تهدد أسرتها بأكملها!!!

ومع تمكّن المخدر منها؛ تراخت يداها، وأخذ المشهد الأخير بينها وبين أيهم؛ يلوح في مخيلتها بضبابية، فرددت بكلمات واهية، لم تتجاوز حدود فكرها:

– يــــارب..إن كنت تعلم أنني (تركته لأجلــــــك).. فاحفظني ولا تهتك ستري..

وغابت عن الوعي….

**** نهاية الجزء 22 والاخير في القسم الأول****

فتحت سوسن عينيها بصعوبة، وهي تشعر بخدر غريب يسري في أضلاعها، وآلام حادة في عظامها، فيما كانت أنفاسها المخنوقة تعبر عن صعوبة استنشاق الهواء الثقيل الرطب، الذي يحيط بها من كل جانب، أغمضت عينيها وفتحتهما مجددا لعلها ترى شيئا، غير أنها لم تجد أمامها سوى الظلام!! ظلام حالك السواد، ظلام لا يمكن أن ترى أشد إظلاما منه!!

لا شيء حولها سوى الظلام..

ظلام في ظـــــــــلام في ظـــــــــــــــــــــلام…

أغمضت عينيها وفتحتهما تكرارا ومرارا؛ لعلها تستيقظ من هذا الكابوس المظلم، فلطالما راودتها كوابيس الظلام من قبل، غير أن الظلام كان حقيقيا هذه المرة…

*****

كانت ساعات الصباح الاولى تبشر بيوم عادي من أيام المدينة، فالطرقات لم تزدحم بالسيارات بعد، وعمال النظافة يجوبون الشوارع بحماسة، لعلهم يحظون بمتعة رؤيتها نظيفة، قبل أن يمارس المارة هواياتهم المعتادة في رمي القمامة، لتتبجح بعدها ألسنة البعض منهم؛ بنظافة الشوارع التي زاروها في البلاد الأجنبية، بينما تشارك أيديهم في تلك الهواية القذرة!!

وأمام منزل جميل في أحد الأحياء الهادئة، أوقف شاب سيارته الحديثة، في مصف المنزل الخاص، الذي كان في استقباله، وبعد أن سوى هندامه أمام زجاج النافذة، وتأكد من أناقة بدلته الثمينة، التي لا تدع مجالاً للشك بأنه على موعد هام جداً؛ خطا خطوات رزينة نحو جهاز الاستقبال المعلق أمام المدخل الرئيس، وما أن نطق باسمه رداً على سؤال الخادمة؛ حتى أسرعت بفتح الباب، لتقوده نحو غرفة سيدها الخاصة، قائلة بأدب:

– شكرا لمجيئك، السيد تامر ينتظرك بفارغ الصبر..

سار خلفها بهدوء، حتى إذا ما أدخلته غرفة المكتب الخاصة بالسيد تامر، قلّب عينيه في أرجائها بتمعن، لتستقرا أخيرا على الرجل المنكب على مكتبه، أثناء تفحصه لبعض الأوراق باهتمام، فتساءل بتعجب، وقد استرخت عضلاته المتأهبة نوعاً ما:

– ألا يفترض أن يكون السيد (العميل) هنا؟

ودون أن يرفع الرجل عينيه عن الأوراق، أجابه بهدوء:

– اجلس الان يا رامز، فالأمر ليس بالسهولة التي تتصورها، وعمل كهذا يجب أن يؤخذ بجدية تامة..

شعر رامز ببعض الضيق لتلك الكلمات، ولم يستطع مقاومة التعليق عليها بقوله:

– أنت تعلم تماماً يا سيد تامر بأنني لم أعرض عليك الفكرة، إلا بعد دراسة طويلة وتفكير عميق، وأنت الذي رفضتها بداية، ولستُ أدري أي نوعٍ من الرجال هذا الذي جعلك تفاتحني في الموضوع من جديد، بعد أن يئست من إقناعك بجدواها!!

عندها رفع الرجل عينيه عن الورق، وثبّت نظراته على ذلك الشاب المتوثب، وهو يستقر على مقعدٍ وثيرٍ أمامه:

– حسنا.. ربما أكون قد أخطأتُ في تقييم فكرتك، غير أنني الان في موقف لا يدع لي خيار آخر من تجريبها، وأعدك بأنك إن نجحت في هذه المهمة، فسأشرف بنفسي على ترخيص أول مكتب تحقيقات خاصة من أجلك..

عندها تهلل وجه الشاب بابتسامة مشرقة:

– يبدو الأمر مغرياً فعلاً، وإنني في شوق شديد لشحذ مواهبي بهذا الخصوص..

غير أنه استدرك فجأة:

– أرجو المعذرة.. ولكن ما الذي يجعل صديقك يلجأ إلي، وأنت من أكبر المحققين في سلك المباحث والجنايات العامة!!!

فأجابه تامر:

– لقد قلتَها بنفسك، لأنني في سلك المباحث العامة، وصديقي لا يريد أن تصبح قضيته قضية عامة، يريد البحث بهدوء، بعيداً عن أي ضجة، ولم يكن بإمكاني تقديم هذه الخدمة له بحكم منصبي الحالي!!

أومأ رامز رأسه متفهماً:

– حسنا، للأسف كنت أود مقابلة هذا الصديق، فربما أتمكن من فهم قضيته أكثر! فلا شك أنك تعرف يا سيد تامر، دور الانطباع عن الشخصية؛ في فهم قضيتها..

عندها نهض الرجل من مكتبه وهو يحمل الاوراق بين يديه، ليجلس إلى جانب رامز هامساً، كمن يخشى أن تسمع الجدران كلامه:

– أنت تعرفه بلا شك يا رامز، بل لا يوجد أحد في البلاد لا يعرفه، انه السيد كارم…

وقبل أن يتم كلامه؛ هتف رامز بتعجب:

– أتقصد أنه الرجل الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من منصب رئاسة الوزراء!!!

فأومأ تامر برأسه:

– إنه هو…

فهز رامز رأسه بغير تصديق:

– هذا أمر لا يمكنني استيعابه أبداً! أشعر أن هناك شيء غريب!! فخبر اختطاف ابنة رجل كهذا في ظل ظروف كهذه، سيزيد من شعبيته أكثر إن انتشر الخبر، فالناس يتعاطفون مع هذه الحوادث كثيراً..

فقاطعه تامر بقوله:

– للسيد كارم أسبابه الخاصة بلا شك، ثم إنه ليس من النوع الذي يستغل اختطاف ابنته؛ لصالح الانتخابات، لقد باتت هذه الامور مبتذلة جداً، خذ بعين الاعتبار أن طبيعة الناس هنا؛ مختلفة عما اعتدتَ عليه في الخارج..

لكن رامز الذي لم تعجبه تلك الملاحظة الأخيرة، فقد تجاهلها بقوله:

– أو ربما لم تُختَطف ابنته فعلاً!! ربما هربت بمحض إرادتها، وهذا سيسبب له فضيحة بلا شك!

فتنهد تامر:

– رغم إنني لا أحب التفكير بهذه الأمور، إلا أن جميع الاحتمالات واردة، فالعمل عمل، وهذه قضيتك..

ثم تناول بطاقة من جيبه، بدا عليها الختم الرسمي لامعاً بوضوح، قدمها لرامز قائلاً:

– أرجو أن لا تضطر لاستخدامها، فهي للضرورة فقط، بل أقصى درجات الضرورة، فيما إن وجدتَ نفسك في مأزق لا فكاك منه..

تناول رامز البطاقة من تامر، وتأملها بتمعن:

” مفوض من قبل رئيس المباحث والجنايات العامة

السيد/ تامر عماد “

وبعد أن أخفاها في جيب سترته الداخلي، ابتسم بثقة:

– لا أظنني سأحتاجها أبداً، ولكن العمل يتطلب كافة الاحتياطات..

وبسرعة أخرج مفكرة صغيرة من جيبه، فتحها على صفحة محددة، قبل أن يقول بوضوح:

– اختفت الفتاة المدعوة سوسن كارم قبل يومين، وحسب رواية سائقها الخاص (مرزوق)، فإنها طلبت منه أن ينتظرها عند مدخل السوق ريثما تحضر بعد الحاجيات، لكنها تأخرت مما جعله يظن أنها عادت مع خطيبها كالعادة، خاصة وأن هاتفها كان مغلقاً، أما خاطبها أيهم فهو يدّعي بأنها طلبت منه فسخ خطوبتهما فجأة، بعد أن قابلته في أحد المطاعم المعروفة!! وقد قالت مسؤولة المعهد الفني بأن سوسن قد أنهت ارتباطها بالمعهد، وأبرأت ذمتها منه في اليوم نفسه!!

وصمت رامز قبل أن يتساءل:

– هل الترتيب الزمني للأحداث صحيحٌ هكذا؟

فتنهد تامر:

– لستُ واثقاً من هذا.. خاصة وأن السيد كارم لم يستطع أن يحصل على موعدٍ دقيق من السائق؛ عن آخر مرة رآها فيه، وعلى ما يبدو فإن الخوف ألجم لسان السائق، بل شل تفكيره تماما! لا سيما وأنه يدرك مدى تحمله لمسؤولية اختفاء الفتاة!! فعلى ما يبدو أنه آخر من رآها!!

فعلق رامز:

– وللأسف لا يمكننا أن نعد ذلك دليلا ضده! بل ربما يكون التحقيق مع مثل هذه النوعية من البشر تضليلا لا أكثر، دون أن يدرك أغلبهم أنهم يورطون أنفسهم بذلك!!

فأضاف تامر:

– وبالطبع لم يقم السيد كارم بتحقيقٍ دقيقٍ مع خاطب ابنته، أو مع مسؤولة المعهد حتى لا يثير الشكوك، وفضّل أن يعهد بذلك إليّ مباشرة، خاصة وأن جميع الخدم في منزله رأوا سوسن في الصباح، وهي تغادر المنزل مع السائق بشكل طبيعي، ولم يكن هناك أي شيء لافتٌ للنظر..

أما معرفة حقيقية ما حدث تماما.. فهذه هي مهمتك..

ثم ناوله ملفاً مغلقاً ومختوماً بإحكام، قائلاً:

– وستجد في هذا الملف كافة المعلومات الشخصية عن الفتاة، ومن لهم علاقة بها، مع قائمة من المشتبهين بناء على ظن السيد كارم.. ولا داعي لأن أذكّرك بأهميه الحفاظ على سرية المعلومات الواردة فيه..

واستطرد مُنبّهاً:

– حاول أن تبدأ تحقيقك بعيداً عن منزل السيد كارم، فرغم أهمية استجواب كافة الخدم والعاملين هناك، بما فيهم السائق مرزوق؛ إلا أن خصوصية الوضع المتزامن مع فرز الانتخابات، يحتّم علينا تأجيل ذلك للخطوة الأخيرة، وأرجو أن تتمكن من إيجاد الفتاة قبل ذلك.. فالسيد كارم لا يريد أن يُشعر أحدهم؛ بأنه محل شبهة لديه.. خاصة السائق! لقد أكد على ذلك بشدة، ولا شك أن له أسبابه الوجيهة..

فأومأ رامز برأسه متفهماً:

– لا بأس.. رغم أنني كنت أفضل البدء مع السائق! على كل حال، هل هناك شيء آخر تود إخباري به يا سيد تامر قبل أن أذهب؟

فقال تامر وقد لمعت عيناه فجأة:

– ربما لا يُعد ذلك شيئا هاماً على حسب قول السيد كارم، بل يبدو أنه لم يصدق ما سمعه بهذا الشأن.. ولكنني أراها ملاحظة جديرة بالذكر، ومن يدري.. فقد تكون مفتاح اللغز!

فتأهّب رامز لسماع تلك الملاحظة الغريبة، فيما تابع تامر كلامه:

– لقد ارتدت الفتاة الحجاب لأول مرة، في ذلك اليوم!

****

“- أمي… أخبريني الآن.. من هو أبي؟؟

– أما زلتَ تعيد على مسامعي هذا السؤال؟ ما الذي ينقصك يا بني؟ ألم أقم بتوفير كل شيء لكم؟؟ لماذا لا تتصرف مثل البقية؛ وكأنك الشخص الوحيد الذي نشأ في رعاية أمه فقط!!

– أنا أنا ولست أحد البقية، بل إنك تدركين تماماً مدى اختلافي عن أخي وأختي.. وقد وعدتِني بأن تجيبي على سؤالي عندما أبلغ الثامنة عشر من عمري، واليوم هو يوم ميلادي الثامن عشر.. وأريد أن أعرف!!

وأخيراً نطقت الأم باستسلام:

– والدك رجل عربي……. “

وقبل أن يسترسل رامز بذكرياته عن ذلك اليوم، الذي مر عليه أكثر من ثلاث عشرة سنة؛ انتبه لشاحنة كبيرة ظهرت أمامه فجأة، من التقاطع الذي كان على وشك عبوره مسرعاً بسيارته، حتى كاد أن يتسبب في حادثٍ مروّع، لولا لطف الله به؛ إذ تدارك ذلك في اللحظة الأخيرة، وهو يدور بعجلة القيادة بمهارة، بعد أن داس على كوابح السيارة، متفادياً حصول الكارثة، والتي تم اختصارها بارتطامٍ بسيطٍ في حافة الرصيف الجانبي، لذلك الشارع الضيق، بدل أن يصبح عجينة ملتصقة بتلك الشاحنة، القادمة من الشارع المتعامد عليه..

وبعد أن استقر في مقعده، وهو يتصبب عرقاً من هول ما حدث؛ نزل من السيارة ليطمئن على مقدمتها، فيما أسرع أحدهم نحوه هاتفاً:

– الحمد لله على سلامتك.. كان عليك أن تكون أكثر حذراً، وأنت تمر من هذا التقاطع الخطِر، فلطالما شهد كوارث عديدة من هذا النوع..

فابتسم رامز:

– معك الحق.. ولكن أعتقد أن على حكومتكم أن تتصرف إزاء هذه المشكلة، أو تضع لافتات تنبيهية أكثر؛ قبل أن يصبح المكان مزاراً لليائسين من هذه الحياة!!

فردد الشاب بتؤدة:

– حكومتنا!!! هل أنت ضيف على بلادنا أيها الأخ؟ إنني بالفعل أعتذر بالنيابة عن الجميع..

قال كلمته الاخيرة بنبرة مرحبة، قبل أن يتابع بابتسامة ذات معنى:

– وإن كنتُ أعتقد بأنك تتحمل جزءا من المسؤولية أيضاً، فقد كنتَ سارحاً بلا شك، حتى أنني اضطررتُ لاستخدام زامور سيارتي لتنبيهك!!

ففتح رامز عينيه على اتساعهما بدهشة:

– حقا!! لقد ظننتُ أنني انتبهتُ لمرور الشاحنة من تلقاء نفسي!!

فابتسم الشاب:

– أرأيت!! لقد كنتُ أقود سيارتي خلفك ولم تنتبه إليّ! يبدو أنك لم تكن سارحاً وحسب؛ بل غارقاً في أحلام اليقظة أيضاً!! من لطف الله بك أن نجّاك من حادث مؤكد، وعليك أن تكون أكثر حذراً في المرات القادمة..

فهز رامز رأسه كالمعترف بغلطته:

– معك الحق في هذا..

لم يكد يتم جملته؛ حتى فوجيء بالشاب يتفحص ذراعه اليسرى، قائلاً:

– أظنك ارتطمتَ بزجاج نافذتك بشدة، ومن المستحسن أن نطمئن على حالتك..

فتساءل رامز، وهو يُبدي استسلاماً عجيبا لإرادة ذلك الشاب:

– هل أنت طبيب؟؟

فاومأ الشاب برأسه:

– أجل.. كان يفترض أن أعرّفك بنفسي في البداية… أدعى مهند.. وأعمل في مستشفى المدينة المركزي، ومن حسن تقدير الله أنني عائدٌ للتو لعملي، بعد أن أوصلتُ جدتي للمنزل؛ وإلا لما قابلتني في مثل هذا الوقت من الصباح هنا..

قال مهند جملته الاخيرة، وهو يضع ذراع رامز من يده مُطَمئنا:

– الحمد لله.. لا شيء يدعو للقلق يا سيد..

فمد رامز يده لمصافحة يد الشاب الممتدة نحوه، مكتفياً بذكر اسمه:

– رامز.. شكرا جزيلاً لك، تشرفتُ بمعرفتك..

فابتسم مهند وهو يشد على يده:

– وأنا كذلك.. وأرجو أن تقضي أوقاتاً جميلة في بلادنا..

غير أن رامز استدرك فجأة:

– لقد سرني التعرف إليك أيها الطبيب المحترم، فهل تمانع في إعطائي رقم هاتفك، فقد تساعدني أكثر في التعرف على طبيعة المجتمع هنا، إذا ما احتجتُ لذلك..

ورغم مفاجأته لمهند بهذا الطلب، إلا أن الأخير رد برحابة صدر:

– لا مانع لدي بالطبع، وإن رغبتَ فسأكون متفرغاً بعد صلاة المغرب، لهذا اليوم إن شاء الله، فأهلا وسهلا بك في منزلي..

فتهلل وجه رامز بالبشر، وهو يتناول بطاقة التعريف الخاصة بمهند، والتي طُبع عليها رقم هاتفه، قائلا:

– ربما في وقت آخر، فاليوم لدي مشاغل كثيرة.. وشكرا للدعوة..

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 44

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

كان أيهم يستمع لحديث سوسن – الجالسة أمامه- بصمت مطبق على غير عادته، عندما شعر بيديها تحتضنان قبضتيه المستندتين أمامه، على الطاولة بينهما، فرفع طرفه إليها يتأملها بحجابها لأول مرة منذ أن جلس! غير أنه سرعان ما أرخى عينيه مرة أخرى، متفاديا التحديق في عينيها، أمام إصرارها على موقفها:
– اريد أن أبني معك أسرة سعيدة مستقرة يا أيهم، نربّي فيها أطفالنا تربية صالحة، ونغمرهم بالحب، دون أن يعكر صفوها شيء، هذا هو حلمي، الذي لن يتحقق إلا أن التزمنا أوامر الله..
وترقرقت دمعة في عينها، وهي تتابع بلهجة عميقة صادقة:
– إنني أحبك يا أيهم من أعماق قلبي، وأريد لهذا الحب أن يستمر، وصدقني.. لا أريد شيئا أكثر من أن نبدأ حياة جديدة، تُرضي الله عنا..
وأخيرا تكلم أيهم بصعوبة:
– سوسن.. أنت لا تفهمين موقفي أبدا.. لو كان بإمكاني تلبية طلبك لما ترددت، ولكنه أمر مستحيل!! أنت لا تعرفين كيف وصلت إلى هذه المكانة، التي تطلبين مني التخلي عنها بهذه السهولة، هذا هو عملي، وقد وعدتك بأنني لن أعيد ذلك المشهد أبدا، وسأحرص على تجنب اللقاء بتلك الفتاة من أجلك، أفلا يكفيك هذا يا سوسن؟؟
فبادرته سوسن بقولها:
– لم أقل لك أن تتخلى عن الفن تماما، ولكن هناك طُرق أخرى تستثمر بها موهبتك دون معصية، ولن تكون وحيدا في هذا المجال، فقد بدأ عدد من الفنانين الملتزمين بالظهور على الساحة فعلا، فلم لا تكون واحدا منهم! والتزامك بالصلاة سيساعدك على ذلك بالتأكيد..
ساد صمت بينهما للحظات، لم يقطعه سوى رنين هاتف أيهم، ورغم أنه كان يتجاهل اتصالاته عندما يكون بصحبة سوسن، إلا أنه سرعان ما أجابه هذه المرة، كمن يأخذ متنفسا من أرض معركة؛ يوشك أن يخسرها!
أما سوسن التي أدركت من خلال ردوده أنها مع مدير أعماله، فقد غاص قلبها في الحضيض..
ليس الآن!!
ولم يكد يُغلق هاتفه، حتى رمقها بنظرات عميقة ذات معنى، قائلا بنبرة لا تخلو من ألم:
– قد لا يهمك ما سأقوله الان…
والتقط نفسا عميقا قبل أن يتابع:
– ستُقام حفلة كبيرة غدا بمناسبة حصولي على لقب أكثر نجوم العرب شعبية، ولا يمكنني خذل جمهوري أبدا، فهل يمكنك تقدير هذا؟؟ سوسن.. إنني إحبك كما لم يحب أحدٌ أحدا، ولا أريد أن أخسرك أبدا، ولكن ما تطلبينه مني؛ فوق طاقتي يا حبيبتي..
ولأول مرة منذ تعرفها إلى أيهم، لمحت سوسن دمعات في عينيه، في حين تابع بتأثر واضح وهو يضم يديها بقوة:
– سوسن.. أرجوك، إنني أعشقك ومتيّم بحبك، ولا أريد أن نصل أبدا إلى طريق مسدود لا يكون لنا فيه خيار آخر، أرجوك يا سوسن، بحق الحب الذي بيننا لا تُفسدي ذكرياتنا الجميلة في هذا المكان..
لم تستطع سوسن النطق ببنت شفة، فأرخت عينيها بتأثر شديد، وقلبها يخفق بشدة، إذ أنها لم تشعر بصدق أيهم أكثر مما شعرت به الآن! إنه يحبها بالفعل، ولم تعد تشك في ذلك طرفة عين، ولكن.. ماذا عليها أن تفعل، ألم تتخذ قرارا صارما بأنها لن تتراجع هذه المرة!! فحاولت التجلد لتقول له بهدوء:
– أيهم.. أنت واثق تماما من حبي لك، ولكننا لسنا في قصة خيالية، يُخالف فيها الأبطال سنن الله الكونية، ثم يعيشون بأمان وسلام!! لكل شيء قانون أوضعه الله فيه، والتقوى هي قانون الحب، ومحال أن يدوم بدونها، كالمعزوفة المتناغمة، التي لا يمكن لها أن تكون كذلك؛ إن خرجت عن قانون السلم الموسيقي!! إنها قوانين طبيعية، لا يمكننا أن نخالفها؛ ثم نتوقع نتائج جيدة!!
لم تعرف سوسن كيف نطقت بتلك الكلمات، التي لو أعدّت لها بإحكام، لما خرجت بهذا الانتظام، إنها بالفعل إلهام من الله أجراه على لسانها، مما بث في قلبها نوع من التفاؤل، باستجابة أيهم لها، غير أن تعابير وجهه المنبسطة؛ سرعان ما انقبضت من جديد، ليقول لها بصوت متهدّج:
– الكلام سهلٌ يا سوسن، ولكنك لا تصدقين أنني لا أستطيع فعل ذلك أبدا!! ولو كنت أستطيع؛ لما انتظرت حتى أضعك في هذا الموقف.. فأنت أغلى مخلوق على قلبي، وليس سهلا علي أن أرفض لك طلبا بإمكاني تحقيقه!! أعرف أنني أعيد كلامي أكثر من مرة، فقد قلتُ لك هذا الكلام سابقا.. ولكن هذا بالفعل ما لدي، لذا.. أرجوك.. اعذريني، فأنا لا أستطيع!!
أسقط في يد سوسن، وسالت دموعها بصمت رغما عنها، ولم يستطع أيهم تمالك نفسه أكثر، فنهض من مكانه، وانحنى عليها يحيطها بذراعيه متوسلا:
– لماذا يا سوسن، لماذا لا نتابع طريقنا معا كما كنا دائما؟؟ أرجوك يا حبيبتي، دعينا نتجاوز هذا الأمر، أعطِني فرصة أخيرة، وصدقيني؛ لن تجدي مني ما يسوؤك أبدا، كل شيء فداك يا سوسن إلا هذا الامر، فهو فوق طاقتي واحتمالي، لقد وعدتك بأنني لن أقابل تلك الفتاة مرة أخرى…
غير أن سوسن تكلمت أخيرا:
– أقدّر لك ما تحاول فعله من أجلي، ولكن صدقني، الأمر لا يتعلق بسورا أو غيرها، فما حدث بينكما لم يكن خطؤك وحدك، لقد كان خطئي أيضا، عندما آثرتُ رضاك على رضى الله! إنه أسلوب حياة يا أيهم، وأنا لم أعد أحتمل المضيّ فيه أكثر، لم أعد أطيق مخالفة أوامر الله، ولن أخلع حجابي أبدا بعد الان، مهما كلفني الثمن..
كان كلامها صدمة حقيقية لأيهم، فتراجع إلى الوراء، ليرتكز على الطاولة، إذ لم تعد قدماه تقويان على حمله، فيما التقطت سوسن نفسا عميقا، حاولت معه الحفاظ على رباطة جأشها، حتى لا تنخرط في البكاء، وهي تتابع كلامها بصعوبة:
– إنني متأكدة من أنك ستدرك كلامي هذا يوما ما، وستعلم وقتها… كم كنت أحبك..
ولم تستطع إكمال جملتها التي خنقتها العبرات، فنهضت من مكانها، لتقول كلمتها الأخيرة، التي لم يعد هناك بدٌ منها..
****
ابتسم مهند لتعليقات جدته المعتادة، دون أن يرد بشيء، فيما كان يسندها أثناء خروجها من غرفة التحاليل في المشفى الذي يعمل فيه، غير أنها أعادت كلامها بإصرار أكبر:
– هيا لم تخبرني برأيك يا بني، أليست مناسبة؟؟ لقد كانت ماهرة جدا أثناء إدخالها الابرة، وسحبها للدم، لقد أحببتها فعلا..
فأجابها مهند وهو يكتم ضحكة خفيفة:
– لا أنكر أنها مناسبة تماما كممرضة، فهي ماهرة حقا، ولكن ما علاقة هذا بي شخصيا؟
فوكزته جدته في خاصرته:
– لا تراوغني يا ولد، أظنها ستكون زوجة مناسبة أيضا، فهي جميلة ومؤدبة وخلوقة…
عندها لم يملك مهند نفسه، فضحك قائلا:
– أليس هذا ما تقولينه دائما عن كل فتاة تقابلينها؟ فكم فتاة سأتزوج يا جدتي الحبيبة؟؟
لكن جدته أصرّت على موقفها هذه المرة:
– ولكنني أحببتها من كل قلبي..
فغمزها مهند مازحا:
– كأنني سمعت هذه الجملة من فترة وجيزة فقط، أليس كذلك؟
فما كان منها إلا أن قرصته في أذنه معاتبة:
– أنا أعرف ما أقول، وقد قلت هذه الجملة آخر مرة عن تلك الرسّامة الطيبة، لكنها كانت مخطوبة، وهذا امر مختلف..
فقال مهند وهو يتظاهر بالتأوه من الألم من قرصتها:
– وما أدراك أن هذه الممرضة ليست مخطوبة أيضا؟
فابتسمت جدته، لتقول بثقة:
– وهل تظنني مغفلة لكي لا أعرف ذلك؟ لقد تحريتُ الأمر بطريقتي الخاصة!
فأطلق مهند ضحكة خافتة:
– كان الأحرى بك أن تعملي في سلك التحقيق يا جدتي، فستكون خدماتك محل تقدير هناك بلا شك..
وقبل أن تعلق جدته بكلمة، انطلقت نداءات في المستشفى تعلن وصول حالة حرجة، فاعتذر مهند من جدته بسرعة:
– سأرافقك الى قاعة الانتظار ريثما أنهي عملي، فانتظريني هناك يا جدتي..
غير أنها زجرته بقولها:
– اذهب بسرعة الان ولا تقلق علي، فأنا أعرف الطريق جيدا، ولا أريد أن يكون حفيدي مقصرا في أداء أمانته، هيا اذهب وفقك الله..
ورمقته بابتسامة رضا وفخر، وهو يجري بسرعة نحو الطواريء، مرددة في سرها:
– حفظك الله يا بني، ووفقك لكل خير، ورزقك الزوجة الصالحة، وأقر عيني بك..
****
كان القلق قد استبد بالانسة ناديا مع قرب انتهاء الدوام، عندما دخلت سوسن بحجابها الذي فاجأ الجميع، حتى الانسة ناديا ألجمتها الدهشة لوهلة؛ فنسيت ما كانت تود إخبار سوسن به، فبادرتها الأخيرة بقولها:
– أعتذر لأنني لم أنتبه لاتصالاتك يا آنسة إلا للتو، وأعتذر لتأخري أيضا..
عندها انتبهت ناديا لما تود قوله بسرعة، فقالت بحماسة:
– لقد تم ترشيحك للمشاركة في منافسة عالمية لمحترفي الفن، وقد جاء الاستاذ سامر بنفسه ليسلمك بطاقة الدعوة، وقد أرفق معها جدول الأعمال أيضا بعد أن ناقشه معي، سيكون أمرا مثيرا جدا..
لم تكد سوسن تسمع اسمع سامر، حتى شعرت بوخزٍ مؤلم في قلبها، فصمتت قليلا قبل أن تقول:
– إنني آسفة حقا، فقد أتيتُ اليوم لإبراء ذمتي..
وقبل أن تترك لناديا فرصة للكلام، تناولت محفظتها، لتخرج منها مبلغا من المال، ناولته لها قائلة:
– هذه دفعة تعويضية مقدمة لبقية السنة، إذ أنني سأترك المعهد..
فقاطعتها ناديا، التي أفاقت من صدمتها بسرعة، لتمنعها من إكمال الكلام:
– مالذي تقولينه يا سوسن!! هل ستفوّتين هذه الفرصة النادرة بسهولة هكذا!! ثم إنك قد بدأتِ بلوحة وعليك إتمامها..
فصمتت سوسن للحظة، إلا أنها سرعان ما قالت بثقة:
– حسنا.. سأنهيها الان إن شاء الله..
وقبل أن تنتظر ردا من ناديا؛ اتجهت نحو لوحتها، متجاهلة نظرات الفضول في أعين الفتيات المحدقة بها، حملقت في لوحتها للحظات، فقد نسيت ما كانت تود رسمه، أو أنها لم تعد تعرف كيف تُكمل ما بدأته سابقا!! فما كان منها إلا أن عزمت أمرها، وهي تتناول فرشاة الاساس الكبيرة، فغمرتها باللون الأسود، وشرعت في رسم لوحتها الأخيرة في هذا المكان..
***
من وسط الظلام؛ انبعثت ذراعٌ مبتورة، التفت حولها أشواكٌ وإبرٌ حادة؛ تحاول جذبها إلى الأسفل بقسوة؛ لتمنعها من الخروج، حتى أدمتها الجراح الغائرة، غير أنها قاومت حتى اتجهت بأصابع يدها نحو السماء، حيث انبثق شعاع نورٍ، من فتحةٍ وسط الغيوم، فهي تحاول لمس ذاك الشعاع بأصابعها الممدودة، فيما تقاطرت من طرفها المبتور؛ قطرات دم قانية، انسكبت على شكل بتلات وردٍ ممزقة، ملأت الارض بأشلائها المبعثرة، ليختلط السواد الحالك، بالحمرة الداكنة!
كان مشهدا مهيبا، يبث الرهبة في النفوس، لم تملك معه ناديا سوى التحديق فيه بصمت، وقد اقشعر جسدها، وقبل أن تنطق بكلمة، قالت سوسن:
– لقد أكملتُ التزاماتي نحوكم، وأنهيتُ اللوحة التي بدأتها، فأرجو أن تتفهمي رغبتي يا آنسة في ترك المعهد..
وترددت قليلا، قبل أن تعزم أمرها وتتجه نحو سورا، التي تظاهرت بانشغالها بلوحتها، غير أن اقتراب سوسن منها أربكها قليلا، فنهضت واقفة، خاصة بعد أن مدت سوسن يدها نحوها قائلة:
– مع السلامة..
كانت كلمة واحدة فقط، لم تستطع سوسن إضافة جملة أخرى معها، ولم تعقّب سورا بشيء، فاكتفت سوسن بمصافحتها، كما صافحت بقية الفتيات، وذهبت..
وكأنها ذهبت مع الريح..
***
أخذ يمشي على غير هدى، يترنح بين الحين والآخر كمن أسكره الشراب، وهو يحدث نفسه بذهول..
ألم يعد الحظ يبتسم لي!! هل هذه هي النهاية حقا!! هل كنتُ مخدوعا بحبها طوال الوقت!!!!! أيُعقل أن تكون ثقتي العمياء بحبها لي مجرد وهم!! لقد كنت واثقا تماما ولا مجال للشك بهذا أبدا! كانت تحبني ولا يمكنني تصور غير هذا!! مستحيل أن تفعلها وتتخلى عني بهذه السهولة!! هذا مستحيل.. مستحيل.. إلا…. إلا إن كان هناك أحد!!
وأخذت صورة سامر تتجسد أمامه بخيلاء، لقد كان وسيما حقا، ويشاطرها موهبتها التي تعشقها!!! أفيكون هو السبب؟؟؟؟
بل إن صورة ذلك الطبيب المحترم، الذي قابله في المعرض، لم تسلم هي الأخرى من الاتهام!!!!
وشعر بغليانٍ في صدره كمرجلٍ غاضب، لا بد أنه واحد من أولئك الأوغاد!!!
وعادت كلمات أنيسة لتنتصب أمامه من جديد، غير أنه حاول طردها من رأسه بسرعة، في محاولة يائسة لمواساة نفسه:
– لا شأن لأنيسة بهذا أبدا، فلا بد أنها الان مجرد سيدة بدينة، وأمٌ لعشرة أطفال يقضون وقتهم في اللعب بالوحل والطين، فيما تستمر هي بالصراخ عليهم!! فما الذي يمكن لفتاة بسيطة مثلها أن تكون غير ذلك!!!
إلا أن كلماتها أخذت تتراقص أمامه بوضوح تام، كاللعنة التي كانت تلاحقه، وعثرت عليه أخيرا، وهيهات أن يفلح بالفرار منها بعد الآن!!
” ستذوق طعم هذا الألم… تذكر كلامــ…”
ولم يستطع أيهم الاحتمال أكثر، فسد أذنيه بكفيه، صارخا بيأس:
– كفى!!! تبا لك يا أنسية، وتبا لتلك القبلة التعيسة!!!
ولكن الجملة بقيت عالقة في ذهنه، متشبثة به بإصرار، كالقدر المحتوم الذي لا فرار منه، فأنّى له أن يهرب منها، وكل خلية في جسده باتت ترددها:
” تذكر كلامي جيدا.. عاجلا أم آجلا، ستذوق طعم هذا الألم”
وأمام ذلك الحضور القوي لكلمات أنيسة، عادت به ذاكرته لذلك اليوم، ليسترجع أحداثه جملة وتفصيلا، إنه اليوم الذي أعلن فيه تمرده على عائلته، بعد أن قرر أن يتخذ لحياته أسلوبا جديدا..
يومها فاجأته أنيسة -ابنة الجيران- وهي تعترض طريقه باكية:
– هل حقا ستغادر القرية؟ كيف تذهب وتتركني هكذا بعدما حدث بيننا؟؟ لقد وعدتني…
فما كان منه إلا أن أعرض بوجهه عنها، قائلا بثقة:
– اطمئني فلم يحدث بيننا شيء كبير، ويمكنك نسيان ذلك بسهولة، وبدء حياة جديدة مع شخص يناسبك، فقد عزمت أمري ولن أتراجع أبدا..
لكنها قاطعته بمرارة:
– كيف تجرؤ على قول هذا!!.. لقد…لقد… لقد قبلتني!!
فنظر إليها بضيق:
– وهل تعدّين هذا أمرا كبيرا؟؟ إنه شيء بسيط جدا يمكن تجاهله، ثم إن أحدا لم يعرف بذلك، وهذا لن يؤثر على سمعتك أبدا، فلا تقلقي، إنها مجرد قبلة عارضة، ولا تترك أثرا خلفها..
إلا أن ذلك لم يخفف عنها كما توقع، بل زاد بكاءها حرقة:
– ولكنها محفورة في قلبي!! ولم أكن لأسمح بشيء كهذا لولا أنك وعدتني! ألم تقل بأنه لا مشكلة في وجود قبلة بيننا ما دمنا سنتزوج في النهاية!! ألم تقل بأنك تحبني ولن تتخلى عني مهما حصل؟
فأجابها بنبرة حاول أن يجعلها مقنعة:
– حسنا إنني أعتذر عن هذا بالفعل.. كانت مجرد نزوة، ولم أكن أدرك تبعاتها تماما، ثم أننا لم نبلغ سن الرشد قانونيا بعد، وكل القرارات التي نتخذها في هذه الفترة، لايمكن أن تُلزمنا بشيء!
فأجابته وهي لا تزال تجهش بالبكاء:
– كيف تقول هذا ونحن في الثامنة عشر من أعمارنا!! لقد كنا بالغين فعلا، ومحاسبين على أفعالنا!!
وأمام بكائها المستمر الذي كاد أن يفضحها، رغم خروجها دون علم أهلها، حاول أيهم تهدئتها بقوله:
– أنت فتاة طيبة يا أنيسة، وستجدين من يحبك ويهتم لأمرك بالتأكيد، فلا تفضحي نفسك الآن، ولن يعلم أحد بما حصل!!
فكتمت أنفاسها بصعوبة، وهي تنشج بخفوت:
– ولكننا نحن الاثنين نعلم… والله يعلم، وما فعلته هو الخيانة بعينها!!
فرمقها بنظرات مغتاظة:
– أيتها الساذجة، هذا ذنب صغير جدا، ولا يذكر مع الامور الحقيقية الكبيرة، هناك أمورٌ أسوأ من هذا بكثير قد تحدث، ومع ذلك لم يكن بيننا شيء منها!! يبدو أنك لا زلت صغيرة، ولا تفهمين شيئا في هذه الحياة!!
كان يتعمد إغاظتها لتنفر منه، غير أنها فاجأته بقولها:
– ولكنني أحببتك بصدق ولا زلت أحبك، ولا أتخيل حياتي من دونك، فإذا كنت سترحل فخذني معك..
عندها انفجر فيها غاضبا لأول مرة:
– افهميني يا أنيسة، ولا تكوني عاطفية وحمقاء هكذا، فالحب ليس كل شيء في هذه الحياة، وهناك أمور أكثر أهمية من هذا بكثير، لا يمكنك أن تكوني شريكتي أبدا، فأسلوب حياتك وحياة عائلتك، بل وحياة عائلتي والقرية بأسرها؛ لا تناسبني ولا تناسب أهدافي..
عندها لم تستطع أنيسة الاحتمال أكثر، فقالت كلماتها الأخيرة بقهر شديد:
– لن أسامحك أبدا.. فتذكر كلامي جيدا.. عاجلا أم آجلا، ستذوق طعم هذا الألم!!
وذهبت أنيسة، فيما بقيت كلماتها تلاحقه، حتى تمكّنت منه أخيرا…
ودمعت عينا أيهم ندما:
– مالي ولك يا أنيسة!!! لقد ذقت الالم الان، فهل رضيت؟؟؟
ألا من مخرج… يارب…
وإذ ذاك انتبه لصوت نغمة منذرة بوصول رسالة، وقبل أن يتناول هاتفه بلهفة، سمع نغمة رسالة أخرى، فهرع لفتح الرسالة المذيلة باسم سوسن، وقلبه يخفق بشدة، ممنيا نفسه بأن تكون قد تراجعت عن قرارها المتهور، وحاول أن يتشبث بالامل، فجاهد ليبتسم قبل أن يفتح الرسالة:
” لقد أودعت في حسابك نوع من التعويض عن كل ما قدمته لي أثناء فترة خطوبتنا، فهذا أقل ما يمكنني فعله لك، وثق بأنني سأكون أسعد إنسانة لو قررتَ العودة لي بعهد جديد، فإنني ما أقدمت على فعل هذا كله، إلا ابتغاء مرضاة الله”
*******
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 43

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

استيقظت سوسن أخيرا على صوت المنبّه، المصرّ على إيقاظها برنينه المتواصل اللحوح، وما أن لمحت الساعة، حتى نهضت بسرعة لتتوضأ وتؤدي فريضة الفجر، إذ لم يتبق لشروق الشمس سوى بضع دقائق!
وعلى سجادة الصلاة، جلست تسترجع في ذهنها أبرز ما علق به من تلك المحادثة، التي قلبت مفاهيمها السابقة رأسا على عقب!!
هل حقا تلك هي حقيقية الحب!!!!
وأخذت كلمات نور تتلخص أمامها بوضوح:
” الحب جندي من جنود الله، لا سلطان لأحد عليه سواه سبحانه، ولا يمكن لكائن من كان أن يجزم بدوامه، أو يعِد بذلك! وهذه الحقيقة على أهميتها؛ يجهلها معظم الناس، فإن استظلوا بظل الحب ردهة من الزمن، وشعروا بصدق هذه المشاعر بينهم، ظنوا أنه ملكهم للأبد، يمكنهم القسم بدوامه مادام حبا حقيقيا!! دون أن يدركوا أنهم لا يملكون ذلك أبدا! ومن قرأ (مجدولين)؛ يدرك ما وصل إليه كاتبها الفرنسي من فهمٍ لهذه الحقيقة!!
تخيلي رجلا وامرأة يسيران في صحراء شاسعة، أنهكهما لهيب شمسها، فإذا بغمامة تظللهما وتقيهما حرها، ثم بقيت ملازمة لهما لبعض الوقت، حتى ذاقا حلاوة ظلها، فهل يملك أحد منهما أن يعد الاخر بأن الغمامة ستظللهما إلى الأبد!! وإن وعد أحدهما بذلك جدلا، وصدّقه الاخر (لجهلهما بطبيعة السحاب)، ثم انكشفت الغمامة بعد ذلك، وتركتهما يصطليان بلهيب الشمس الحارقة، فهل يملك الموعود منهما أن يتهم الواعد؛ بأن تلك السحابة لم تكن سحابة حقيقية!! بالطبع لا، لقد كانت سحابة حقيقية بالفعل، ولكنهما لا يملكان إرغامها على البقاء، فهي سحابة حرة، لا سلطان لهما عليها، وكان الأجدر بهما أن يبنيا أساسا متينا لمصدر ظلٍ دائم..
وهكذا هو الحب!!
لا تُبنى البيوت عليه أبدا، وإنما تزدان به وتزدهر، وتزداد سعادة”
تنهدت سوسن وهي تفكر في ذلك الكلام، هل يُعقل أن حبها لأيهم يمكن أن..
ولم تشأ الاستطراد في تلك الفكرة، إذ لا يمكنها تخيل حياتها من دونه أبدا، ولا يمكن لمخيلتها احتمال يومٍ؛ لا تكون فيه هي المتربعة في قلبه!
غير أن سؤالا لحوحا، فرض نفسه عليها فرضا:
” هل هناك شيء آخر، بينها وبين أيهم، يمكن الاعتماد عليه غير الحب؟؟”
وإذ ذاك تذكرت إجابة نور المترددة، على سؤالها:
– بعد أن سمعتِ تفاصيل قصتي هذه، ما هو المفروض عليّ فعله برأيك يا نور؟؟
لا شك أن صمت نور في ذلك الوقت، كان إشارة كافية لها لتدرك المأزق الذي أوقعت نفسها فيه، فهل يمكنها احتمال سماع الاجابة مهما كانت!! ومع ذلك؛ كانت مصرّة على سماع إجابتها، فأكدت عليها بقولها:
– لا تقلقي يا نور، فلا شك أنك تخافين من أن يأتي يومٌ أحملك فيه مسؤولية ما سيحدث بيني وبين خطيبي، أو يراودني شيء في نفسي تجاهك، ولكن صدقيني، أريد أن أعرف رأيك بصراحة!!
عندها تكلمت نور أخيرا:
– ليس الأمر كما تظنين يا عزيزتي، ولكنني بالفعل لا أعرف!
وصمتت قليلا، قبل أن تتابع:
– كل ما يمكنني قوله لك، هو عبارة أحفظها عن ظهر قلب، وقد اتخذتها شعارا لي في هذه الحياة؛
” من طلب رضا الله بسخط الناس، رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله، سخط عليه الله وأسخط عليه الناس”..
التقطت سوسن نفسا عميقا، وهي تستذكر وقع تلك الكلمات عليها في ذلك الوقت، لقد كان أمرا رهيبا بلا شك، فتلك الجملة فسّرت لها كل شيء!!
ومر شريطٌ سريعٌ لأحداث حفل النجوم في مخيلتها، بل منذ أن تركت الحجاب لأجل أيهم، وما تلا ذلك من مرافقتها له بذلك اللباس!! لقد طلبت رضا أيهم بسخط الله بلا شك، فكانت تلك النتيجة الحتمية؛ التي لا يحق لها أن تلومه فيها!!
سالت الدموع على خدي سوسن بانسياب هاديء، وهي لا تزال على جِلستها فوق سجادة الصلاة، وقد بدأت الشمس ترسل أشعتها الذهبية، من بين طيات الستائر المخملية، فيما تابع صدى كلمات نور؛ يتردد في ذاكرتها:
– وكما أن الحب قد يُنتج ردود فعل سلبية، فله ردود فعل إيجابية بالمقابل، بل إنه يكون أحيانا كمخدّر الجرّاح الذي لا يمكن إجراء عملية جراحية من دونه، وهذا من نعم الله على عباده، وإلا لكان التغيير أمرا شبه مستحيل، وما أقصده هنا، هو تغيير المرء نفسه للأحسن، والذي هو بحد ذاته أصعب من إجراء عملية جراحية معقدة! فإن وُجِد حبٌ في هذه الحالة، سيكون بمثابة جرعة تخدير قوية، تُجرى خلالها أقسى عمليات التغيير دون الشعور بالالم! إنه كالطاقة التي تمنح الجسم القدرة على تحمل التغيير، والصعوبات المترتبة عليه! ألم تسمعي قصة الصحابية الجليلة أم سليم التي كانت سببا في إسلام أبو طلحة!! لقد أسلم بداية ليظفر بالزواج منها بعد أن ترمّلت، ومن ثم حسن إسلامه بعد ذلك، وأصبح من فضلاء الصحابة وكبارهم، ناهيك عن قصة ابو العاص ابن الربيع، زوج السيدة زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم..
كان هذا أكثر ما بعث التفاؤل في نفس سوسن، في ذلك الحين، بل إن هذا هو الأمل الذي بدأت تبني أحلامها عليه، غير أنها سرعان ما استحضرت كلمات نور بعد ذلك:
” مهما أحببتِ شخصا أو أمرا ما، أو كائنا ما كان؛ فاحرصي أن لا يكون قلبك معلقٌ إلا بالله، فهو خالق الحب وواهبه في القلوب، وما الحب إلا جنديٌ مؤتمرٌ بأمره، وهبة منه ونعمة، فلا تشغلنّك النعمة عن المُنعم، فبالشكر تدوم النعم..
هذا ما أوصتني به أمي قبل زفافي إلى عامر…”
انسكبت الدموع بغزارة أكبر على وجنتي سوسن، وهي تراجع ما عزمت عليه أمرها، ورفعت يديها بالدعاء:
– يارب إن لم تُعنّي، فلا حول ولا قوة لي إلا بك، اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك..
وبحرقة أكبر دعت وقد بدأ صدرها ينشج بالنحيب:
– يارب.. اهدِ أيهم..
وانخرطت بالبكاء إذ لم تعد تسعفها الكلمات، وحسبها أن الله مطلع على ما في قلبها، عالم بما تُريد..
لم تدرِ سوسن كم مر عليها من
استيقظت سوسن أخيرا على صوت المنبّه، المصرّ على إيقاظها برنينه المتواصل اللحوح، وما أن لمحت الساعة، حتى نهضت بسرعة لتتوضأ وتؤدي فريضة الفجر، إذ لم يتبق لشروق الشمس سوى بضع دقائق!
وعلى سجادة الصلاة، جلست تسترجع في ذهنها أبرز ما علق به من تلك المحادثة، التي قلبت مفاهيمها السابقة رأسا على عقب!!
هل حقا تلك هي حقيقية الحب!!!!
وأخذت كلمات نور تتلخص أمامها بوضوح:
” الحب جندي من جنود الله، لا سلطان لأحد عليه سواه سبحانه، ولا يمكن لكائن من كان أن يجزم بدوامه، أو يعِد بذلك! وهذه الحقيقة على أهميتها؛ يجهلها معظم الناس، فإن استظلوا بظل الحب ردهة من الزمن، وشعروا بصدق هذه المشاعر بينهم، ظنوا أنه ملكهم للأبد، يمكنهم القسم بدوامه مادام حبا حقيقيا!! دون أن يدركوا أنهم لا يملكون ذلك أبدا! ومن قرأ (مجدولين)؛ يدرك ما وصل إليه كاتبها الفرنسي من فهمٍ لهذه الحقيقة!!
تخيلي رجلا وامرأة يسيران في صحراء شاسعة، أنهكهما لهيب شمسها، فإذا بغمامة تظللهما وتقيهما حرها، ثم بقيت ملازمة لهما لبعض الوقت، حتى ذاقا حلاوة ظلها، فهل يملك أحد منهما أن يعد الاخر بأن الغمامة ستظللهما إلى الأبد!! وإن وعد أحدهما بذلك جدلا، وصدّقه الاخر (لجهلهما بطبيعة السحاب)، ثم انكشفت الغمامة بعد ذلك، وتركتهما يصطليان بلهيب الشمس الحارقة، فهل يملك الموعود منهما أن يتهم الواعد؛ بأن تلك السحابة لم تكن سحابة حقيقية!! بالطبع لا، لقد كانت سحابة حقيقية بالفعل، ولكنهما لا يملكان إرغامها على البقاء، فهي سحابة حرة، لا سلطان لهما عليها، وكان الأجدر بهما أن يبنيا أساسا متينا لمصدر ظلٍ دائم..
وهكذا هو الحب!!
لا تُبنى البيوت عليه أبدا، وإنما تزدان به وتزدهر، وتزداد سعادة”
تنهدت سوسن وهي تفكر في ذلك الكلام، هل يُعقل أن حبها لأيهم يمكن أن..
ولم تشأ الاستطراد في تلك الفكرة، إذ لا يمكنها تخيل حياتها من دونه أبدا، ولا يمكن لمخيلتها احتمال يومٍ؛ لا تكون فيه هي المتربعة في قلبه!
غير أن سؤالا لحوحا، فرض نفسه عليها فرضا:
” هل هناك شيء آخر، بينها وبين أيهم، يمكن الاعتماد عليه غير الحب؟؟”
وإذ ذاك تذكرت إجابة نور المترددة، على سؤالها:
– بعد أن سمعتِ تفاصيل قصتي هذه، ما هو المفروض عليّ فعله برأيك يا نور؟؟
لا شك أن صمت نور في ذلك الوقت، كان إشارة كافية لها لتدرك المأزق الذي أوقعت نفسها فيه، فهل يمكنها احتمال سماع الاجابة مهما كانت!! ومع ذلك؛ كانت مصرّة على سماع إجابتها، فأكدت عليها بقولها:
– لا تقلقي يا نور، فلا شك أنك تخافين من أن يأتي يومٌ أحملك فيه مسؤولية ما سيحدث بيني وبين خطيبي، أو يراودني شيء في نفسي تجاهك، ولكن صدقيني، أريد أن أعرف رأيك بصراحة!!
عندها تكلمت نور أخيرا:
– ليس الأمر كما تظنين يا عزيزتي، ولكنني بالفعل لا أعرف!
وصمتت قليلا، قبل أن تتابع:
– كل ما يمكنني قوله لك، هو عبارة أحفظها عن ظهر قلب، وقد اتخذتها شعارا لي في هذه الحياة؛
” من طلب رضا الله بسخط الناس، رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله، سخط عليه الله وأسخط عليه الناس”..
التقطت سوسن نفسا عميقا، وهي تستذكر وقع تلك الكلمات عليها في ذلك الوقت، لقد كان أمرا رهيبا بلا شك، فتلك الجملة فسّرت لها كل شيء!!
ومر شريطٌ سريعٌ لأحداث حفل النجوم في مخيلتها، بل منذ أن تركت الحجاب لأجل أيهم، وما تلا ذلك من مرافقتها له بذلك اللباس!! لقد طلبت رضا أيهم بسخط الله بلا شك، فكانت تلك النتيجة الحتمية؛ التي لا يحق لها أن تلومه فيها!!
سالت الدموع على خدي سوسن بانسياب هاديء، وهي لا تزال على جِلستها فوق سجادة الصلاة، وقد بدأت الشمس ترسل أشعتها الذهبية، من بين طيات الستائر المخملية، فيما تابع صدى كلمات نور؛ يتردد في ذاكرتها:
– وكما أن الحب قد يُنتج ردود فعل سلبية، فله ردود فعل إيجابية بالمقابل، بل إنه يكون أحيانا كمخدّر الجرّاح الذي لا يمكن إجراء عملية جراحية من دونه، وهذا من نعم الله على عباده، وإلا لكان التغيير أمرا شبه مستحيل، وما أقصده هنا، هو تغيير المرء نفسه للأحسن، والذي هو بحد ذاته أصعب من إجراء عملية جراحية معقدة! فإن وُجِد حبٌ في هذه الحالة، سيكون بمثابة جرعة تخدير قوية، تُجرى خلالها أقسى عمليات التغيير دون الشعور بالالم! إنه كالطاقة التي تمنح الجسم القدرة على تحمل التغيير، والصعوبات المترتبة عليه! ألم تسمعي قصة الصحابية الجليلة أم سليم التي كانت سببا في إسلام أبو طلحة!! لقد أسلم بداية ليظفر بالزواج منها بعد أن ترمّلت، ومن ثم حسن إسلامه بعد ذلك، وأصبح من فضلاء الصحابة وكبارهم، ناهيك عن قصة ابو العاص ابن الربيع، زوج السيدة زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم..
كان هذا أكثر ما بعث التفاؤل في نفس سوسن، في ذلك الحين، بل إن هذا هو الأمل الذي بدأت تبني أحلامها عليه، غير أنها سرعان ما استحضرت كلمات نور بعد ذلك:
” مهما أحببتِ شخصا أو أمرا ما، أو كائنا ما كان؛ فاحرصي أن لا يكون قلبك معلقٌ إلا بالله، فهو خالق الحب وواهبه في القلوب، وما الحب إلا جنديٌ مؤتمرٌ بأمره، وهبة منه ونعمة، فلا تشغلنّك النعمة عن المُنعم، فبالشكر تدوم النعم..
هذا ما أوصتني به أمي قبل زفافي إلى عامر…”
انسكبت الدموع بغزارة أكبر على وجنتي سوسن، وهي تراجع ما عزمت عليه أمرها، ورفعت يديها بالدعاء:
– يارب إن لم تُعنّي، فلا حول ولا قوة لي إلا بك، اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك..
وبحرقة أكبر دعت وقد بدأ صدرها ينشج بالنحيب:
– يارب.. اهدِ أيهم..
وانخرطت بالبكاء إذ لم تعد تسعفها الكلمات، وحسبها أن الله مطلع على ما في قلبها، عالم بما تُريد..
لم تدرِ سوسن كم مر عليها من الوقت وهي على تلك الحالة، حتى انتبهت لرنين هاتفها، فنهضت تجاهه، لتجده يومض برقم أيهم، فتذكرت أنها لم ترد على اتصاله ليلة امس، حيث كانت مشغولة مع نور! ومن حسن حظها أن خاصية هاتفها لا تُشير إلى انشغالها بالحديث مع متحدث آخر، وربما ظنها نائمة في ذلك الوقت وهذا ما ترجوه!! ولسبب ما، ترددت بالاجابة، فقد شعرت بأنها على موعد خاص هذه المرة، وعليها انتقاء عبارات تمهيدية خاصة أيضا، غير أن الرنين المتواصل باستبسال، أعاق عملية التفكير هذه!! وقبل أن تجيب الاتصال، تعالت طرقاتٌ متناغمة على باب غرفتها، بشكل غريب يثير الانتباه، إذ تكتفي الخادمة عادة بطرقة أو طرقتين فقط! مما أثار فضولها، فتجاهلت الاتصال، واتجهت نحو باب الغرفة، وما أن فتحته حتى فوجئت بأوراق الزينة الملونة، والورود اللامعة تندفع نحوها بابتهاج، حيث اصطفت الخادمات على جانبي المدخل، كجنود الاستقبال الملكي، والابتسامة بادية على وجوههن، فيما اندفعت إحداهن نحوها وهي تهتف بسعادة:
– مبارك لك يا ابنة رئيس الوزراء!
****
سارت الطائرة بهدوئها المعهود، الذي يسبق عاصفة الاقلاع، وكأنها تودع مدرّجات المطار، وهي تتهادى على مساراته باختيال، حتى إذا ما حانت اللحظة الحاسمة؛ التقطت أنفاسها مزمجرة بأزيزها المعروف، لتنطلق كالصقر نحو السماء..
ارتخت نور على مقعدها قرب النافذة، بعد أن ربطت حزام الأمان، تتابع المشهد بتأمّل كعادتها، وهي تردد أدعية الركوب والسفر:
– ” سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الله أكبرالله أكبر الله أكبر، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد”
فيما أسند عامر رأسه على الكرسي المجاور لها، مرددا الأدعية، وهو مغمض العينين في شبه إغفاءة..
ارتفعت الطائرة لتأخذ مكانتها اللائقة في الأجواء، وبدأت المعالم تحتها تختفي تدريجيا..
تنهدت نور وهي تودع أرض الوطن بسكون، فهناك عائلتها، وأقربائها وصديقاتها وأحبتها، فرددت في سرها:
– استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه..
فيما بقيت عيناها محدقتين بآخر المعالم التي لاحت لها من ذلك الارتفاع..
كم أرواحنا بحاجة للتحليق في الفضاء الرحيب!!
ولاحت أمامها صورة سوسن بين الغيوم، فيما طغت كلماتها على أزيز المحركات، لتنسج لحنا حزينا مؤثرا، لم تستطع نور معه حبس دمعاتها:
” لي طلب واحد فقط، أرجوك.. اسألي الله الهداية لي ولأيهم، فإنني أحبه حبا جما، ولا يمكنني تخيل حياتي من دونه أبدا، فهو طيب ولكنه منغمس تماما في عالم النجومية وموقفه صعب، أنت تعرفين عالم النجوم ولا يخفى عليك حالهم، لذا أرجوك، إن كنتُ أعني لك شيئا هاما، فلا تنسي أيهم من دعائك.. هذا هو طلبي الوحيد!”
تناولت نور منديلا جففت به دموعها المنهمرة، كم تشفق على سوسن وهي تشعر تماما بمشاعرها، فهل هناك أصعب من أن يفصل بين المرء ومن يحب حاجز الهداية!! لطالما كانت قصة السيدة زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، تهز مشاعرها هزا، وهي التي فارقت زوجها وأبو أولادها الذي تهيم به حبا؛ لا لشيء.. إلا طاعة لله ورسوله!! لا تذكر أنها قرأت قصة مؤثرة حركت مشاعرها كتلك القصة الحقيقية، والتي هي بحق؛ أغرب من الخيال!! فهل كانت السيدة زينب تعلم بأن زوجها لن ينساها، عندما تركته في مكة مهاجرة إلى المدينة، في زمن لم تكن فيه اتصالات ولا مواصلات سريعة؟!! هل كانت واثقة من أنه سيأتي إليها مسلما، ليسترجعا معا ذكريات حبهما الذي لم يمُت في قلبها أبدا؟!! كيف استطاعت قطع كل تلك المسافة، وبأي قلب ابتعدت عن حبيبها، الذي ما رأت منه إلا كل الخير والحب والمودة، امتثالا لأمر الله!!! لا عجب أن حَفِظ الله لها مكانتها في قلبه، فلم يتزوج بغيرها حتى بعد أن فارقته، في زمن وبيئة اعتاد فيهما الرجال الزواج بأكثر من واحدة!!
إنها بحق، من أعظم قصص الحب التي سمعت عنها عبر التاريخ، ولم تكن لتملّ أبدا من سرد تفاصيلها التي تعرفها على كل من تقابله، كلما سنحت لها الفرصة، كما قصّتها على سوسن ليلة أمس!
وإذ ذاك أدارت رأسها بالتفاتة صغيرة نحو عامر، الذي بدى لها غارقا في التفكير، رغم عينيه المغمضتين! فتأملته للحظة، وكأنها تراه لأول مرة، حتى شعرت بحرارة الحب في قلبها! وبعفوية؛ وضعت يدها فوق يده المستندة على ذراع الكرسي بينهما، وهي تشعر برغبة عارمة في ضمها إليها، وكل خلية في جسدها تردد:
– يارب احفظ زوجي عامر، ولا تفرق بيننا أبدا، واجمع قلبينا دائما على قلبٍ تقيٍّ يخافك ويخشاك ولا يتعلق بأحد سواك، حتى تجمعنا في الفردوس الأعلى..
وإذ ذاك شعرت بيده تحتضن يدها، وتضمها نحو صدره بحب، وكأنه قرأ أفكارها فسبقها إلى التطبيق، حتى أحسّت بنبضات قلبه، فأسندت رأسها على كتفه تستشعر الطمأنينة والسكن، وهما يشبّكان بين أصابعهما في حب ووئام..
عندها قال عامر بابتسامة مُحبّة:
– أظن أنني بدأت أعرف متى يكون الله راضيا عني، وأرجو أن تكون هذه علامة قبول!
فرفعت نور رأسها قليلا، ملتفتة إليه، بعيون متسائلة، فيما تابع عامر كلامه بتأثر واضح:
– كنت أفكر فيما سنقدم عليه، والمسؤولية الكبيرة الملقاة على كاهلنا، خاصة وأنها المرة الاولى التي سنغادر فيها بلادنا إلى بلد أجنبي، نفتقد فيه صوت الأذان، وما اعتدنا عليه من مظاهر ديننا الحنيف، فسألت الله أن يعيننا على أن نكون سفراء له هناك، وأن يثبتنا على الحق ويهدي بنا الخلق، ولا يفتنا في ديننا..
والتقط نفسا عميقا وهو يشد على يد نور بلطف:
– هل تعلمين يا نور.. عندما أستشعر جفاء منك دون سبب، أراجع نفسي فأجدها قد قصّرت في حق من حقوق الله أو من حقوق عباده، فاستدرك ذلك فورا، حتى أصبح هذا مقياسا رائعا اقيّم به تصرفاتي، وأراجع من خلاله حساباتي، إنني بالفعل أحمد الله أن وهبني مثل هذا الميزان الدقيق، وأرجو أن يفيدني هناك..
فابتسمت نور وضغطت بأصابعها على يده، لتقربها من فمها، وتلمسها بشفتيها برقة:
– في هذه الحالة، أسأل الله أن يتقبل منك كل عمل صالح ويزيدك من فضله، يا زوجي الحبيب..
وصمتت للحظة قبل أن تتابع:
– وأنا كذلك.. أشعر بالشيء نفسه، إنه “ميزان الحب” الذي يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية! فالحمد لله الذي أنعم علينا باستشعار هذه المعاني.. لا حرمني الله منك أبدا يا عامر..
فشد عامر على يدها وقربها منه بدوره، ليطبع عليها قبلة عذبة خفق لها قلبها:
– ولا حرمني الله منك يا زوجتي وحبيبتي وقرة عيني ونورها..
ورغم تلك الكلمات العذبة التي انتشت لها كل خلاياها، إلا أن دمعة صغيرة ترقرقت في عينها؛ حاولت إخفائها، وهي تتذكر الآم المعذّبين بالحب، وعلى رأسهم صديقتها سوسن، فهتف قلبها بصوتٍ لا يسمعه إلا خالقها:
– يارب.. لطفك بتلك القلوب المعذبة الحائرة، أنزل رحمتك عليها، واملأها بحبٍ يرضيك، فتتذوق حلاوته في الدنيا، وتؤجر عليه نعيما دائما في جنات النعيم… اللهم احفظ قلوبنا وقلوب المسلمين والمسلمات، ارفق بقلوب بناتهم وشبابهم، فلا تعذبها بالتعلق بغيرك..
وانطلقت دعواتها الصادقة لسوسن وأيهم؛ كالسهام المتلاحقة، التي لا يفصلها عن إصابة الهدف؛ سوى مشيئة الله في الاجابة..
****
لأول مرة بدا الارتباك واضحا في طريقة مشية أيهم وهو ينزل من السيارة، كان قلقه واضحا بشكل كبير عبر قسمات وجهه، ولولا أن المكان يخلو من المارة في مثل هذا الوقت من الصباح، لما تردد عدد كبير من المتطفلين بالتقاط صور له وهو على تلك الحالة، ليتم نشرها عبر جميع قنوات التواصل المعروفة!
وقف للحظات قليلة يلتقط أنفاسه المخنوقة، قبل أن يدلف إلى قاعة المطعم الذي طالما كان شاهدا على ذكرياته مع سوسن، فهنا كان أول موعد لهما بعد الخطوبة، وهنا أسمعها أسطوانته المهداة لها، ولا يدري ما الذي سيشهده عليهما أيضا في هذا اليوم، ليضيفه إلى سجل ذكرياتهما القابعة في أحضانه..
وقف خارجه يسترجع في ذهنه محادثة سوسن معه، في باكورة هذا الصباح، فرغم أنه كان متلهفا لمبادرتها بالتهنئة، بما وصل إليه والدها؛ إلا أن ردها المتأخر، لم يحمل أي نوع من الحماسة لهذا الأمر، وكأنه موضوع عادي لا يعنيها بشيء!! وأخذ صدى كلماتها يتردد في ذهنه، بدويّ يثير الاضطراب:
” سأنتظرك هناك في تمام الساعة السابعة والنصف صباحا، ولا يهمني إن تأخرتُ في ذهابي إلى المعهد هذا اليوم، فلا بد من أن نحسم الأمر!”
وبتردد كبير، حاول أن يخطو خطوته الاولى إلى داخل القاعة، حيث يُفترض بسوسن أن تنتظره، غير أن الثقل الرهيب الذي شعر به في قدمه؛ حال بينه وبين ذلك! بل إن تسارع دقات قلبه، وتقاطر حبات العرق من جبهته، أشعراه بأنه على وشك الدخول في إغماءة طويلة، لا يفيق منها إلى قيام الساعة! حتى كاد أن ينكر نفسه، وهو يحادثها:
لماذا يحدث هذا لي الآن!! هل يُعقل أن تفعلها حقا بعد كل ما ذكرتُه لها!! هل يمكن أن تكون هذه هي النهاية!!! مستحيل، لا يمكنني تصور هذا أبدا!!!
لو أنها أخبرتني فقط بما تريده بالضبط!!
وومضت في ذهنه بارقة خاطفة من الماضي السحيق؛ ارتجف لها جسده!!
أتراها نبوؤة أنيسة!!
” تذكر كلامي جيدا، عاجلا أم آجلا ستذوق طعم هذا الألم!”
لقد مضى على ذلك أكثر من عشر سنوات، فلماذا يستحضر كلامها بكل هذا الوضوح الآن!! وما الذي ذكّره بها في هذه اللحظة بالذات!!
غير أن خروج النادل في تلك اللحظة؛ أيقظه من شروده، فحاول مبادلته الابتسامة، إلا أن ذلك تطلب منه جهدا كبيرا، مما أقلق النادل الذي بادره بقوله:
– هل أنت بخير يا سيدي؟
فانفرجت شفتا أيهم عن ابتسامة مقتضبة:
– أظن ذلك..
فاستدرك النادل بلباقته المعهودة:
– هل تمانع في مرافقتي لك إلى حيث تجلس الانسة، إنها بانتظارك في الركن السابع من القاعة.. تقول إنها أعدت لك مفاجأة..
فهز أيهم رأسه مجيبا بامتنان، رغم أن كلمة “مفاجأة” لم تحمل له شعورا حسنا:
– شكرا لك، سأتدبر أمري، يبدو أنني مرهق قليلا بالفعل..
وبخطوات بطيئة متثاقلة، قطع أيهم المسافة بين مدخل المطعم والركن السابع، كمن يجاهد السير في صحراء قاحلة، فهو يحاول أن يقي وجهه عواصفها اللاهبة من جهة، ويمنع نفسه من الغوص في رمالها المتحركة من جهة أخرى!!
وما أن وقعت عيناه على سوسن؛ حتى خر متهالكا على مقعده، فقد كان هذا آخر ما يرغب برؤيته منها هذا اليوم!!
***
تحلقت الفتيات حول سورا باهتمام واضح، بعد أن حضرت إلى المعهد أخيرا، إثر تغيبها المفاجيء..
– لقد فعلتِها أخيرا أيتها الماكرة!!
فيما غمزتها فاتن قائلة:
– هكذا إذن أيتها المخادعة، كنت تتدربين سرا طوال الوقت!! لقد نجحتِ في التملص مني بمهارة!!
وأطلقت سوسو شهقة حادة وهي تحدق في هاتفها المحمول:
– أكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة في مدة وجيزة! لقد أصبحتِ مشهورة يا سورا بالفعل!!
فيما أخذت إحدى الفتيات تسألها بفضول:
– عن ماذا تتحدثين، دعيني أرى..
فتولت جولي الاجابة بحماسة:
– إنه مقطع القبلة الازلية، لقد أصبح من أكثر المقاطع انتشارا في الشبكة العنكبوتية، يبدو أنه سيحطم رقما قياسيا فريدا من كثرة المشاهدات!!
واستدركت ملتفتة إلى سورا:
– لقد كانت حركة جريئة جدا، كيف كان شعورك وقتها؟
وصمتت الفتيات وهن ينتظرن الاجابة بفارغ الصبر، فيما اكتفت سورا بابتسامة هادئة، لتجيب بتواضع، لا يخلو من تصنّع ظاهر:
– كانت هذه طبيعة الرقصة، ولم أكن أفكر إلا بالاداء المتقن، والذي جاء نتيجة الجهد والتدريب، كنت أؤدي دوري بأمانة فقط، هذا كل ما في الامر!!
فحدجتها جولي بنظرة فاحصة:
– هكذا إذن، هذا كل ما في الأمر!!!
وأطلقت فاتن ضحكة ساخرة:
– يا لك من ماكرة فعلا! لقد كنت تتدربين طوال الوقت من أجل هذه القبلة، ونحن في غفلة عن هذا تماما!! لقد نجحت في إحكام خطتك هذه المرة، أنت داهية بالفعل..
فيما تساءلت إحدى الفتيات بفضول واضح:
– ولكن أين كانت سوسن من هذا كله؟؟ ترى كيف هو شعورها الان!! لن أتعجب إذا تغيبت اليوم عن الحضور..
وتعالت الضحكات والغمزات بين الفتيات، بل واستمرت النقاشات بينهن بين هازئة بسوسن، ومدافعة عنها بقولها:
– لا بد أنها مشغولة بأخبار والدها، أم أنكن لم تسمعن أخبار الفرز الاولي للانتخابات!!
وقبل أن تضيف أي فتاة كلمة أخرى؛ عادت الانسة ناديا من جولتها المهنية القصيرة مع الاستاذ سامر، لتطالبهن بالهدوء، والعودة إلى إنجاز أعمالهن في اللوحات، غير أنها استدركت فجأة؛ وهي تقلب عينيها بينهن متسائلة:
– ألم تحضر سوسن بعد؟
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
تركته لأجلك

تركته لأجلك! – حلقة خاصة (ملخص الأجزاء السابقة (1 … 42)، وعرض سريع للشخصيات)

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

تتحدث القصة بشكل رئيس عن سوسن، الفتاة الشابة التي تمتلك كل ما تحلم به أي فتاة؛ من الجمال والمال والمنصب والجاه والحب والنجاح، فهي من أسرة ثرية مرموقة، وخطيبة للنجم الشهير أيهم، العازف المعروف، إضافة لكونها رسّامة محترفة يشهد لها الجميع بنجاحها في هذا المضمار، غير أن حياتها تتعكر وتبدأ الأحلام المظلمة والخواطر المزعجة تنتابها كثيرا، خاصة مع وجود زميلتها في معهد الفن، سورا، والتي كانت تحاول بشتى الوسائل والطرق جذب اهتمام أيهم نحوها، حيث أنها ترى نفسها الأحق بحبه، فهي مغرمة به منذ زمن طويل قبل أن يلتقي بسوسن!
إلا أن ظهور نور ( الفتاة الملتزمة والتي اتخذت من الرسم رسالة هادفة)، يعيد الطمأنينة قليلا إلى حياة سوسن، بعد أن تتفتح أعينها إلى عالم جديد، وتصبح نور أعز صديقاتها..
غير أن ذلك لم يستمر طويلا، إذ تبدأ الصراعات في حياة سوسن بالظهور من جديد، خاصة وأن أيهم لم يتقبل وجود نور في حياة سوسن بأي شكل، بل مما زاد الطين بلة؛ تلك الرسالة التي وقعت في يد أيهم، واتهمته بالفاسق الذي يعيق سوسن عن المضي في طريق الهداية، وتطلب منه الابتعاد عنها..
تمر سوسن بصراعات نفسية عنيفة، تقرر بعدها أن تسلك طريق الالتزام فتبدأ بالصلاة، وبينما يسافر والديها من أجل الحملة الانتخابية؛ تفاجيء خطيبها بارتدائها الحجاب، إلا أن ذلك يسوءه جدا، مما يجعلها تتراجع في قرارها، فتترك الحجاب لأجله، إلا أن صراعاتها الداخلية تزداد عنفا وحيرة، لتبدأ رحلتها في البحث عن ماهية (الحب)..
وهذا عرض سريع لشخصيات الرواية التي ظهرت لحد الان، وتظهر من خلالهم بعض الأحداث الهامة:
ملاحظة: التعريف بالشخصيات سيكون بناء على ما ورد عنهم في الاجزاء السابقة فقط!
1- سوسن: الشخصية الرئيسة بالقصة، شابة ثرية من عائلة مرموقة ورساّمة ماهرة، خطيبة أيهم؛ النجم الشهير
2- كارم: رجل أعمال كبير مرشح لرئاسة الوزراء، والد سوسن
3- أيهم: خطيب سوسن، وعازف محترف، يعتبر أشهر نجوم الفن على الاطلاق، وله جاذبية خاصة عند الفتيات
4- سورا: زميلة سوسن في معهد الفنون الراقي، تعشق أيهم، وتعتبر سوسن غريمتها إن لم تكن عدوتها الاولى بعد أن ارتبطت بأيهم، وقد تم تسليط الضوء على ماضيها القاسي، اسمها الحقيقي (سليمة)
5- ناديا: المسؤولة عن تقييم اللوحات في معهد الفنون الراقي، حريصة جدا على سمعة معهدها، وهي غارقة تماما في عالم الفنون الجميلة والرسوم وما له علاقة بذلك، وتكاد أن لا تدرك شيئا خارج هذا الاطار!
6- نور: فتاة ملتزمة، تحب الرسم واتخذت منه رسالة سامية وأسلوب دعوة، لها ماضٍ مؤلم مع الاستاذ سامر لا يعرفه أحد غيرهما! (ورد ذلك في الجزء 18)
تتقن فن الكاراتيه، وهي ابنة عبد الكريم سالم رئيس شركة كبيرة ومعروفة، إضافة لكونه أحد كبار المساهمين في أول مصرف اسلامي في المدينة، لديها أخ وحيد يكبرها بثلاث سنوات..
7- عامر: زوج نور، شاب ملتزم، وطبيب بارع، لاعب كاراتيه محترف، ورغم أنه حصل على الجائزة الاولى في الكاراتيه رسميا، إلا أن ذكر ذلك يسبب له ضيقا شديدا، إذ أنه يعلم تماما أنه لم يكن ليحصل عليها؛ لولا رفض منافسه لها، وقد تم تسليط الضوء على شخصيته بشكل واضح في احد الحلقات السابقة.
8- مرزوق: سائق سوسن الخاص، الذي عينه والدها ليكون مرافقا له كنوع من الحماية
9- السيد وائل (نائب الحاكم العام): صديق والد سوسن، ظهر بشكل عارض في الجزء الخامس
10- ابنة وزير العمل: شخصية عابرة يشرف عامر على علاجها إثر حادثة سقوطها في المتحف
11- سامر: أستاذ في الفن ومتخصص في الاسلوب السريالي، يقع في حب سوسن من النظرة الاولى، وله ذكريات مع نور، تم تسليط الضوء عليها في إحدى الحلقات
12- بهجة: تعمل طباخة في منزل السيد كارم والد سوسن، وهي كبيرة الخدم، أرملة محافظة جدا ومتدينة نوعا ما، بذلت جهدها من أجل تربية ولديها، وهي تعاني كثيرا بسبب المشكلة التي وقعت مع ابنتها، تحب سوسن وتعطف عليها كثيرا، حتى أن أم سوسن توصيها بابنتها عندما تغيب
13- ليلى: ابنة بهجة، كان وقوعها في حب غير متكافيء سبب في تعاستها هي وعائلتها
14- سمير: رجل عابر، ناول سوسن بطاقته الشخصية كنوع من التودد لها في احدى الحلقات
15- سعاد: مسؤولة في المعرض العالمي للفنون، سيدة محجبة لكنها سليطة اللسان، تصب جام غضبها على سوسن بسبب معاملة سامر الخاصة لها، واهتمامه بها، وتقول بأن ذلك عائد إلى تبرجها!
16- فاتن: من فتيات معهد الفنون الراقي، تقابل سورا في السوق بعد تغيبها المفاجيء، وتلاحظ عليها أمرا مريبا، فضولية جدا
17- جولي: من فتيات المعهد، لديها تحليلاتها الخاصة على حد قول فاتن
18- سعيدة: طفلة صغيرة باعتها أمها بسبب الفقر، ظهرت في ذكريات سورا في إحدى الحلقات
19- مدير المعرض العالمي: رجل طماع، الغية عنده تبرر الوسيلة، سيرشح نفسه للانتخابات الوزارية المقبلة، ظهر بشكل عابر، حريص على استغلال المواقف لصالحه
20- السيدة العجوز (جدة مهند): سيدة لطيفة ومتدينة، أحبت سوسن وتمنت لو أنها تخطبها لحفيدها الشاب أيهم
21- خالة سامر: كانت حريصة على خطبة نور لسامر غير أن ذلك لم يحدث، وردت في ذكريات سامر
22- مهند: حفيد السيدة العجوز التي أحبت سوسن، طبيب شاب ملتزم، كان ظهوره سريعا
23- الرجل الغامض الذي يرغب بالانتقام من السيد كارم (والد سوسن) ، لم يتم الافصاح عن هويته بعد!
****
ملخص آخر جزء تم عرضه (الجزء 42):
بعد أن تفقد سوسن وعيها في حفل النجوم، إثر رؤيتها لمشهد القبلة الأزلية بين خطيبها أيهم وسورا؛ ينقلها سامر إلى المشفى، ويحاول التقرب منها بشتى الوسائل دون فائدة، فما يكون منه إلا أن يجر أذيال الخيبة بعد وصول أيهم، وابدائه اللهفة على سوسن! يحصل ذلك بينما يكون والدا سوسن في رحلة عمل من أجل الحملة الانتخابية، والتي تحقق نجاحها الباهر بتحقيق السيد كارم انتصارا كبيرا في الجولة الاولى، مما جعل فوزه بمنصب رئاسة الوزراء أمرا مفروغا منه!!
أما سوسن التي بدأت تشعر بضرورة إيجاد حل جذري لمشكلتها، فتهاتف نور في مكالمة مطوّلة، قبل أن تقلع طائرتها بالسفر إلى خارج البلاد، تتحدثان فيه عن حقيقة الحب ومعناه، وتحاول سوسن من خلاله إيجاد فهم أعمق لجملة نور السابقة ” الحب جندي من جنود الله”..
وفي تلك الاثناء يتم تسليط الضوء لأول مرة، على شخصية غامضة تحمل حقدا دفينا على والد سوسن!
وفي الخفاء، تتوعد بالانتقام..
….
نهاية الملخص
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

ثورة الأطفال – الفصل الرابع


عن السلسلة

عندما يغيب البالغون ويملك الأطفال زمام الأمور في المدينة، تختلط الرغبات الطفولية مع حس المسؤولية وتصبح المدينة مسرحاً لحرب عصابات الأطفال.

تأليف: محمد نجيب
رسم: أكيرا عبد الرحمن
تلوين: توتا كوكو

التصنيف : مغامرات، غموض، درامي.


اغتيال التاريخ -الفصل الثالث (دورك لتعرفي التاريخ الصحيح)


عن سلسلة “اغتيال التاريخ”

ترى هدى حلماً سريالياً يتبعه بعض الومضات الغريبة في الواقع، بينما يتعرض التاريخ العالمي للتشويه ويتأثر الوعي البشري بذلك التغيير، فيصبح العالم مختلفاً.

تقف هدى في صف الرافضين لهذه الأحداث.

هل لذلك الحلم علاقة بالأمر؟ كيف يتغير العالم بتغير التاريخ وما تداعيات ذلك؟ وكيف ستتصرف هدى؟!

تأليف: زينب جلال، محمد نجيب، محمد قمر
رسم: وائل سراج الدين
تلوين وتصميم: نور عمر

تصنيف القصة: خيال علمي، أكشن، درامي، غموض.



قد يهمّك: “نافذة إلى كواليس اغتيال التاريخ: رحلة النجيب في العالم العجيب.”


تركته لأجلك! – الحلقة 42

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

لم يخفَ على سوسن، أثناء مرافقتها لبهجة نحو المنزل، ملاحظة الألم الكبير المرتسم على وجهها، والمتناغم مع صوتها، مما أشعرها بضرورة مواساتها بدلا من انتظار المواساة لحالتها هي! فقالت لها بلطف:
– أرجوك عزيزتي، إنني بخير ولا داعي لهذا كله!!
غير أن بهجة التي لم تستطع حبس دمعات نفرت من عينيها:
– لا أستطيع مسامحة نفسي أبدا، فقد كان عليّ إخبارك منذ البداية بتحصين نفسك جيدا، لا شك أنها عين حاسدة أصابتك..
فنظرت إليها سوسن بابتسامة رقيقة، ولم تقل شيئا، فيما تنهدت في أعماق نفسها بألم:
– يا لطيبتك يا بهجة!! أبعد كل ذلك السفور الذي لا يُرضي الله حتما، تقولين أنها “عين”!! حتى لو كانت عين؛ كنت سأستحقها وبجدارة!!
وأمام صمتها تابعت بهجة:
– ربما في طبقتكم الراقية، لا تؤمنون بهذا الكلام، ولكن العين حق! وقد ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم..
فأجابتها سوسن:
– أنا لم أنكر ذلك، ولكن العين لا تصيب إلا بأمر الله، وقد كنتُ أستحقها بلا أدنى شك، فلا تجامليني أرجوك.. لقد حاولتُ الخروج إلى الحفلة دون أن تريني، حتى لا تنصدمي بمظهري بعد حديثنا ذاك.. لقد انتقم الله مني حتما..
واختنقت الحروف في حلقها، فانفجرت باكية بنشيج أليم، فما كان من بهجة إلا أن ضمتها إليها وهي تربت على كتفها بحنان:
– إن الله يحبك يا عزيزتي، ويريد لك الخير بالتأكيد..
وصمتت قبل أن تتابع:
– العين حق وكل ذي نعمة محسود، لذا عليك بتحصين نفسك دائما..
ولم تشأ سوسن الدخول في جدل معها أكثر، إذ كانت متيقنة تماما من أنها الشخص الوحيد الملوم في هذا كله، بل كانت ترى أن من العيب في حقها؛ إلصاق ما أصابها على “العين”!!
أما بهجة فقد تابعت كلامها موضحة:
– أذكار الصباح والمساء هامة جدا، على الأقل داومي على الفاتحة وآية الكرسي، وسورة الاخلاص والمعوذتين، ولا تنسي قراءة خواتيم سورة البقرة (آمن الرسول..) كل ليلة، فهي ستكفيك من كل شيء بإذن الله، وإن دخلتِ مكانا فقولي (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، و(بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)..
وانتبهت بهجة لنفسها فجأة قبل أن تقول مستدركة:
– المعذرة.. لقد أخذتني الحماسة وأنا أسرد عليك كل ذلك دفعة واحدة!!
فأجابتها سوسن وقد بدا أنها هدأت تماما:
– جزاك الله خيرا، فسأحفظها بالتأكيد إن شاء الله، بل إنني قد بدأت بحفظ بعض الآيات فعلا..
غير أن بهجة أخذت تبحث في جيوبها قائلة:
– أظن أنني أحمل بطاقة أذكار في جيبي.. انتظري لحظة، سأرى إن تركتها في المطبخ..
ما هي إلا لحظة أو لحظتين حتى عادت بهجة وفي يدها البطاقة:
– احتفظي بها، وحاولي الحفاظ على الأذكار دائما فهي حصن منيع بإذن الله يا ابنتي، حفظك الله..
فتناولتها منها سوسن شاكرة:
– جزاك الله خيرا…
واستدركت فجأة:
– كيف حال ابنتك؟
فتنهدت بهجة:
– آمل أن تكون بخير بعد أن تركت ذلك العمل، رغم انها أصبحت تعاني من اكتئاب واضح في الفترة الأخيرة… إنها فتاة مراهقة وعنيدة بالفعل.. لقد أفهمتها مرارا وتكرارا أن ذلك الشخص ما كان ليناسبها أو يسعدها أبدا، غير أنها لا تريد أن تفهم!! ولا زالت تفكر فيه!!! هداها الله.. لساني لا ينفك عن الدعاء لها ليلا ونهارا..
فزفرت سوسن بأسى:
– إنه الحب…
وإذ ذاك تذكرت كلمات نور:
” الحب جندي من جنود الله .. والله لا يحاسبنا على مشاعر لا حيلة لنا بها، وإنما يؤاخذنا على تصرفاتنا وردود أفعالنا التي منحنا فيها حرية الاختيار..”

***

أسرعت نور نحو مقبس الكهرباء لتشحن بطارية هاتفها، فور دخولها غرفة فندق المطار، والتي ستقضي فيها هي وعامر ليلتهما تلك، بعد أن أعلنت شركة الطيران تأجيل الرحلة إلى صباح اليوم التالي..
وبعد أن وضع عامر حقيبة يده الطبية قرب السرير؛ التفت إليها قائلا:
– ما رأيك بعشاء فاخر في مطعم الفندق؟ إنهم يقدمون مأكولات بحرية بطريقة مميزة حسبما قرأت..
غير أن نور- التي انشغل فكرها تماما بأمر سوسن- أجابته بعفوية، وهي تقوم بإعادة تشغيل هاتفها:
– يمكنك الذهاب وحدك إن أردت، فلستُ جائعــ….
لكنها بترت عبارتها مستدركة، وهي تضع الهاتف من يدها:
– شكرا لك.. يبدو عرضا مغريا..
فرمقها عامر بنظرات متفحصة، قبل أن يقول:
– ترغبين بمتابعة حديثك مع صديقتك.. أليس كذلك؟
شعرت نور برجفة خفيفة في جسدها إثر ملاحظته تلك، إذ ليس من الحكمة أن تُظهر ذلك لزوجها، وبكل ذلك الوضوح! فله عليها حق أيضا، ولا شك أنه كان يرغب بمرافقتها، ولم يكن يقصد الطعام بحد ذاته! ولكن ماذا عساها أن تفعل مع قلقها ذاك على سوسن!!
وقبل أن تفكر بطريقة مناسبة لإجابة عامر، بادرها بقوله:
– على كل حال لم يكن صوتك خافتا بما فيه الكفاية، وقد سمعتك تتحدثين عن الحب! فهل أنت واثقة من حسن تعاملك معه؟؟
فاحمرت وجنتا نور حياء- إنه اتهام صريح، فلا شك أنها برأيه آخر من يحق له الكلام في موضوع كهذا!!- فقالت مبررة لموقفها:
– لقد قلت لك إنها فكرة رائعة، فالعرض مغري فعلا!
فابتسم عامر:
– حسنا.. لا داعي لكل هذه المجاملات، فأنت تعرفين أنني لستُ جائعا أيضا، وكل ما في الأمر أنني ظننتها فكرة جميلة لنخرج معا، ولكن بما أنك ترغبين بالحديث مع صديقتك قبل أن نسافر إلى كوكب آخر…
فقاطعته نور بانفعال واضح:
– هذا يكفي أرجوك، فأنت تشعرني بالذنب بكلامك هذا، وسأرافقك إلى أي مكان تريده شئتَ أم أبيتَ…
فأفلتت ضحكة صغيرة من عامر قبل أن يقول:
– هل تقولين هذا من أعماق قلبك، أم لتبرئة ذمتك وحسب؟!!!
وقبل أن يفسح المجال لنور، تابع بلهجة أكثر جدية:
– لا عليك يا عزيزتي فقد أعفيتك، ولكن أخبري صديقتك أن الحب الحقيقي الدائم لا يمكن استمراره بغير “التقوى”.. فالخلة أعلى مراتب المحبة، ومع ذلك إن لم يتحلى الأخلاء بالتقوى، فسينقلب هذا إلى عداوة بلا شك، آجلا أم عاجلا، كما بين الله سبحانه وتعالى في قوله: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)
وأضاف وهو يرمقها بنظرات ذات معنى:
– لذا.. في ظل شريعتنا، عندما يبحث الرجل الصالح التقي عن الزوجة الصالحة التقية، لا يبحث عنها لتكون شريكته في دنياه حتى مماته وحسب، بل ولتكون شريكته في الجنة إلى الأبد بإذن الله.. هذا هو الحب الحقيقي كما أفهمه..
سرت قشعريرة في جسد نور لسماع ذلك، فرددت بتأثر:
– اللهم اجعلنا من المتقين..
وإذ ذاك فاجأها عامر بقوله:
– من هذا المنطلق يا زوجتي العزيزة، قررتُ التنازل عن الوقت الذي كنت أنوي قضاءه معك، احتسابا لله، لعل كلامك مع صديقتك يكون سببا في…
وصمت قليلا قبل أن يتابع بابتسامة مرحة:
– زيادة حبك لي..
فتوردت وجنتا نور، وهي ترد عليه بابتسامة مماثلة:
– في هذه الحالة لن أنسى معروفك هذا أبدا، وسأعوضك عنه حتما..
فنظر إليها عامر:
– أهذا هو ردك! تعوضينني فقط!! بماذا؟؟؟
فأجابته نور:
– بالخروج في وقت آخر طبعا!
فضحك عامر بملء فيه معلقا:
– وكأنك لستِ من أصرّ قبل قليل على الخروج معي الآن شئتُ أم أبيت!!
عندها ردت عليه نور بانفعالها المعهود:
– كنت أظنك جادا في كلامك عن التنازل أيها الطبيب المحترم!!
غير أن عامر أجابها بلهجة لا تخلو من جدية:
– بالطبع جاد تماما، لكنني أحببت ممازحتك قليلا!! ثم إن طبيعة مهنتي تحتم عليّ مراعاة ظروف الآخرين، وسلامتهم النفسية، ولا شك أن صديقتك بحاجة للحديث معك الآن، فلا تتأخري عليها أكثر..
واستطرد بابتسامة مُحبة:
– أما التعويض.. فيكفيني أن تتذكري أمر اللوحة..
همّت نور بسؤاله عن أي لوحة يتحدث؛ لكنها أمسكت لسانها في اللحظة الأخيرة، وقد تذكرت موضوعها الذي يُفترض أن لا تنساه أبدا!! فاكتفت بابتسامة واثقة:
– بالتأكيد.. إن شاء الله..
فأردف عامر وهو يهم بالخروج من الغرفة:
– سأقوم ببعض الأبحاث على الشبكة، في قاعة الحاسبات…
وغمزها متابعا:
– يمكنك التحدث على راحتك الآن.. وفقك الله..
فابتسمت له نور بامتنان شديد:
– جزاك الله خيرا، وبالتوفيق لك أيضا..
وما أن خرج عامر حتى أصدر هاتفها نغمة استلام رسالة:
” اعذريني يا صديقتي العزيزة، فرغم أنني قرأت رسائلك بخصوص سفرك المفاجيء، ولا شك أنك مشغولة الآن، لكنني بحاجة ماسة لاستوضاح بعض الأمور منك، أرجو أن تتمكني من مهاتفتي قبل إقلاع طائرتك إلى خارج البلاد وجزاك الله خيرا”
وفورا.. ضغطت نور زر الاتصال، سائلة اهلن أن يلهمها الصواب، ويوفقها هي وصديقتها لما يحب ويرضى..

***

أخذت الخادمات في منزل سوسن يرقصن طربا، ويغنين فرحا بكلمات تعبر عن مقدار نشوتهن، إثر رؤية ذلك الخبر الذي انتظره جميع من في المنزل بفارغ الصبر..
حتى بهجة، أصبح اسمها عنوانا لوجهها تلك الليلة؛ رغم ما حل بها أوله!!
وأسرعت إحدى الخادمات لغرفة سوسن؛ لتزف إليها البشرى، غير أن بهجة استوقفتها بقولها:
– لقد دخلت الآنسة غرفتها للتو، ولا تريد إزعاجا الآن، خاصة وأنها تجري اتصالا هاما..
فارتسمت علامات خيبة أمل على وجه الخادمة بوضوح:
– ولكنه خبر هام أيضا! فهو يؤكد تلك المقولات حول ازدياد شعبية والدها في الجولة الانتخابية!! لقد حصد أكثر من نصف أصوات الناخبين في الفرز الأوّليّ، ولم يتبق لنا سوى انتظار إعلان النتيجة النهائية رسميا!!
وتابعت وهي تكاد تطير من الفرحة:
– هل تتخيلين معنى هذا يا كبيرة الخدم!! سنصبح مستخدمات لرئيس الوزراء مباشرة، يا لحظنا السعيد!!
فأومأت بهجة برأسها متفهمة:
– بالتأكيد أفهم هذا يا عزيزتي.. ولكن علينا احترام رغبة الآنسة سوسن، وسيكون بإمكانك اخبارها هذا في وقت لاحق..
وغمزتها باسمة:
– اطمئني.. سأحرص على أن تبلغيها هذه البشارة بنفسك!!
فهتفت الخادمة وهي تقفز بسعادة:
– شكرا لك.. لن أنسى لك هذا المعروف أبدا..
فيما تمتمت بهجة برضا:
– الحمد لله.. فالسيد كارم رجل طيب وكريم، ويستحق كل الخير فعلا..

***

في تلك اللحظة، و في مكان ما، في إحدى زوايا غرفة معتمة، تسلل ضوء القمر من شق النافذة، ليرسم ظلالا مخيفة لشخص غامض، بعد أن أغلق التلفاز الذي كان مصدر النور الوحيد في غرفته!
وبعصبية ظاهرة.. رمى من يده جهاز التحكم بالتلفاز، ليرتطم بطاولة صغيرة، كادت أن تبعثره إلى أجزاء متهشمة..
وبكل ما يعتمل في صدره من حقد وغضب، أطلق ضحكة ساخرة، رددت صداها أرجاء تلك الغرفة الشاحبة:
رئيس وزراء إذن!!!!!!!!!!
أنت تحلم أيها الوغد!!!
سأجعلك تذوق طعم الانتقام، بل وتتجرع مرارته بيدي هاتين، حتى تتمنى الموت ولا تجده!!!!
بل سأجعلك تمقت الساعة التي ولدتك فيها أمك!!!
وستجثو على ركبتيك أمامي، دون أن أرحم توسلاتك الذليلة أيها الحقير..
إضحك كما بدا لك الآن يا كارم.. فقد اقتربت لحظة الانتقام…

………
يتبع ان شاء الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 41

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

بدا سامر شارد الذهن، وهو يجوب ممر المشفى بقلق، فيما أخذ عقله يسترجع ما حدث قبل قليل.. لم يتوقع أن يستمع إلى صوت نور بعد كل هذه السنوات..
وسوسن.. كلما تذكر سؤالها عن أيهم، شعر بغصة!
لا يزال مشهد استيقاظها من تلك الإغماءة عالقا بذهنه، كان يمني نفسه أن تهتف باسمه فور تحرّك شفتيها، غير أنها اكتفت برفع رأسها نحوه بعينين خائبتين، ومتسائلتين في الوقت نفسه، لتقول بصعوبة:
– ألم يتصل أيهم؟؟
شعر حينها بمرارة الالم، وخيبة الرجاء، وتعكر المزاج، بل أكثر من ذلك بكثير!! لماذا لا تزال تفكر فيه رغم كل شيء!!
حتى لو اتصل ذلك الوغد، لما أخبرها باتصاله، إنه لا يستحقها أبدا.. وعليه أن يتصرف لينقذها منه!!
ولكن ماذا لو اكتشفت سوسن ذلك!! عليه أن يكسب قلبها، ولو على حساب قلبه، لا أن ينفّرها منه! سيضطر لإخبارها بالتأكيد عن اتصاله، غير أنه – ومن حسن حظه- لم يتصل!!!
مما جعلها على وشك الدخول في إغماءة أخرى، لكنها فاجأته بطلبها الاتصال بصديقتها نور، لقد ظن نفسه واهما في البداية، لكن هذا ما حدث!!
ولم يجد بدا بعد ذلك من تركها وحدها في الغرفة، نزولا عند رغبتها…
***
لم تستطع نور حبس دموعها وهي تستمع لسوسن، فانهمرت غزيرة على وجهها بصمت، عليها أن تتماسك أكثر، فهي لا تزال في الطائرة، وستستعد للنزول منها مع عامر خلال دقائق! ما الذي عليها قوله في حالة كهذه! وأي إجابة ستجيب بها سوسن، التي تصر على سؤالها بإلحاح شديد!! ألا يكفي أنها بصعوبة تمكنت من سؤالها عن حالها، وتخمين مالذي أدى بها لدخول المشفى بهذه الطريقة، لقد فاجأها جوابها الصادم “إنها عقوبة من الله بلا شك”!!
وقبل أن تتمكن نور من استحضار اجابة حكيمة في ذهنها، أعادت سوسن سؤالها:
– أرجوك قوليها صراحة، ولا تخفي عني شيئا..أريد أن أعرف.. أن أعرف الحقيقة فقط.. ألا يوجد في الدين تعريف للحب؟؟ هل هو حرام، ويستحق من يقع فيه أقسى أنواع العقوبة؟؟؟
بدأ الركاب بالنزول من الطائرة، ومن لطف الله بنور أنها وزوجها قد اعتادا النزول آخر الركاب، حتى لا يتسببا في الزحام، عليها أن تنطق بسرعة قبل أن لا تجد فرصة أخرى للإجابة، ومع ذلك فالظروف حرجة، وأي إجابة ستنطق بها؛ سيكون لها أثر كبير على سوسن، فعزمت أمرها لتقول بإيجاز:
– الحب جندي من جنود الله، لا يعمل إلا بأمره، ولا سلطان لقلبٍ عليه..
وصمتت هنيهة رغم توقعها لردة فعل سوسن، لا شك أنها بانتظار المزيد من التوضيح، غير أن الوقت والمكان ليسا مناسبين على الاطلاق! ولم تتركها سوسن لتصمت طويلا، إذ سرعان ما قالت بحرقة:
– أكملي يا نور أرجوك.. إنني أسمعك.. أستحلفك بالله أن تخبريني بكل ما تعرفينه دون أدنى تحفظ، لم يعد يهمني شيء سوى معرفة الحقيقة!
بوغتت نور بما سمعته، فالتقطت نفسا عميقا قبل أن تقول بصوت خافت:
– حسنا.. ما أعرفه أن القلوب بيد الله يقلبها كيفما شاء، والحب من جنوده، يعمل بأمره في قلب عباده، فإما أن يكون نعمة أو يكون ابتلاء، نعمة يكافيء الله بها قلبا طائعا ممتثلا لأوامره، مجتنبا لنواهييه، فيكون الحب له عونا وسعادة ونعيما، وإلا فهو ابتلاء يختبر الله في ظله تصرفات عباده، فلا يملك الانسان اختيار الوقت الذي يبدأ فيه حبه، ولا الوقت الذي يضع فيه نهاية له، وقد ينساق لتصرفات لم يكن يرتضيها من نفسه قبل وقوعه في الحب، وهنا تكمن صعوبة الاختبار الحقيقي! الحب جندي حر لا يأتمر إلا بأمر الله، ولا سلطان لأحد عليه، وإن ادعى المحبون غير ذلك؛ فهم واهمون بلا شك…
ثم استطردت هامسة:
– آسفة عزيزتي، أرجو أن تعذريني فسأضطر لانهاء المكالمة الان، وسأتصل بك لاحقا إن شاء الله، فأنا في المطار وقد أرسلت لك رسالة بخصوص سفري.. على كل حال بإمكاني أن أخبرك باختصار، أن الحب ليس حرام قطعا، بل لقد شرع لنا الاسلام ما نحفظ به هذا (الحب) من الشوائب، لأهميته في حياتنا، فلا حياة من غير حب، ولم يكن اهي ليحاسبنا على مشاعر لا حيلة لنا بها، وإنما يؤاخذنا على تصرفاتنا وردود أفعالنا التي منحنا فيها حرية الاختيار….
وتوقفت نور عن متابعة حديثها؛ إثر إشارة من عامر، نبهتها لضرورة الاستعداد للنزول، فختمت حديثها بسرعة رغما عنها:
– انتبهي لنفسك يا سوسن، سأحدثك في أقرب فرصة إن شاء الله لنكمل الحديث، استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه..
***
“الحب جندي من جنود الله!!”
أخذت تلك الجملة تنتصب بشموخ في ذهن سوسن:
– ما الذي تعنيه نور بكلامها هذا؟؟؟ كيف يكون الحب جنديا مأمورا ولا سلطان لقلبٍ عليه، وإن ادعى المحبون غير ذلك فهم واهمون!!؟؟؟؟
لقد بدا الموضوع أشبه بلغز وأحجية، عليها التفكير بحلها!!
وبينما هي على تلك الحال، انتبهت لرنين هاتفها، فرفعته بلهفة على أمل سماع توضيحِ من نور، غير أن قلبها توقف لوهلة، بعد رؤيتها لاسم أيهم!!
لقد انتبه لغيابها أخيرا!
وشعرت برغبة في تجاهله، غير أن أصابعها أجابت الاتصال بتلقائية، ليأتيها صوت أيهم بتلقائية مماثلة:
– أين أنت يا سوسن؟ لقد غادر معظم الحاضرين ولم أجدكـ…
لم تستطع سوسن احتمال سماعه أكثر، فأجهشت بصوت باك:
– انني في المشفى.. إذا رغبت برؤيتي يمكنك الحضور..
واغلقت السماعة، بل والهاتف كله!!!
لو كان يهمه امرها لكلف نفسه معرفة ما حدث، وجاء اليها..
وأخذت تجهش بالبكاء بحرقة، فيما أخذت الممرضة تطلب منها الهدوء قليلا كيلا تؤذي نفسها، ولم تجد بدا من مناداة مرافقها، ليتصرف معها بما يراه مناسبا..
وما هي إلا لحظات حتى هرع إليها سامر بقلق:
– هل أنت بخير يا حبـ….. يا سوسن..
ومع سماع صوته اضطرت سوسن لتهدئة نفسها، وهي تشعر بضيق شديد:
– شكرا أستاذ سامر.. لقد أتعبتك معي كثيرا، أرجو أن لا تُزعج نفسك بمشكلاتي، يمكنك الانصراف، فسيأتي أيهم بعد قليل…
قالت جملتها الأخيرة جزافا، إذ لم تكن واثقة من ذلك، ولولا خشيتها من أن يأخذ وجود سامر معها منحى لا تُحمد عقباه، لما غامرت بكلام كهذا أصلا..
أما سامر الذي شعر بطعنة تخترق قلبه دون رحمة، فقد تماسك قليلا وهو يستند إلى مقعد مجاور، ليقول بنبرة يائسة:
– لا بأس.. سأنتظره إلى أن يأتي حتى أطمئن عليك.. ثم إنني لستُ منزعجا أبدا من وجودي إلى جانبك..
وهم بإضافة كلمات أخرى، غير أنها غاصت في قدميه هربا من الاعتراف بالحقيقة!
سادت لحظات صمت، قطعها سامر أخيرا بقوله:
– أرجو أن اتصالك مع السيدة نور قد ساعدك على تخطي الأزمة ولو قليلا..
عندها انتبهت سوسن لهاتفها الذي أغلقته! ففتحته بسرعة دون أن ترد عليه بكلمة، وفكرها مشغول بنور، هل أعادت الاتصال يا ترى؟؟
ثم قرأت رسائلها السابقة، فانتفض جسمها من هول الصدمة:
– هذا يعني أنها ستغادر مع زوجها إلى خارج البلاد!! كنت أتمنى رؤيتها مرة أخرى، بل وكنت أخطط للسفر إلى مدينتها!! لماذا الان؟؟ وأنا في قمة الحاجة لمساندتها!!!! يارب ساعدني..
رن هاتفها فجأة فأسرعت تجيبه من غير تركيز بهوية المتصل، لتتفاجأ هذه المرة بسماع صوت بهجة- كبيرة الطهاة والخدم في منزلهم- وهي تتحدث بانفعال:
– آنسة سوسن هل أنت بخير؟؟؟
ولما أجابتها بكلمة “نعم”، اندفعت بهجة في كلامها، لتفرغه دفعة احدة:
– أرجوك يا آنسة أين أنت الآن؟؟ لقد قلقت جدا عليك بعد أن أخبرني السيد أيهم بدخولك المشفى، لقد حاولنا الاتصال مرارا لكن هاتفك مغلق، الحمد لله أنني سمعت صوتك……
لم تستطع سوسن التركيز في كل ما قالته بهجة، فقد أصبح أكثر ما تخشاه أن يكون الامر قد وصل إلى والديها أيضا، وهما خارج المدينة الان، مما سيعقّد المشكلة أكثر!
فانتبهت لسؤال بهجة بعد أن أعادته عليها للمرة الثالثة:
– آنسة سوسن هل تسمعينني؟؟
فأجابتها سوسن:
– أجل..
فتابعت بهجة:
– إنني أسألك يا آنسة.. في أي مشفى أنت الان؟؟ فالسيد أيهم اتصل ليسألني عن ذلك وهو يظنني أعرف، لن أسامح نفسي أبدا إن أصابك مكروه لا قدر الله!! ماذا سأقول لوالدتك؟؟؟
فابتسمت سوسن رغم مرارة الألم:
– أرجوك اطمئني فلا داعي لكل هذا القلق، ولا تقولي لوالديّ شيئا رجاء..
والتقطت نفسا قبل أن تتابع:
– انني في مشفى الالم..
فأتاها صوت بهجة مستدركا بنبرة لا تخلو من دهشة:
– الالم؟؟ لم أسمع عنه!! أم أنك تقصدين مشفى الأمل؟؟
فردت سوسن ببرود قبل إنهاء المكالمة:
– أجل انه هو..
كانت سوسن في شغل تماما عن سامر، الذي كان يراقبها طوال الوقت بحسرة كاوية، فلم تكد تبعد الهاتف عن أذنها، حتى فوجئت بيديه تحتضنان يدها بطريقة أربكتها، وما أن التقت عيناهما؛ حتى شعرت بقشعريرة في كامل انحاء جسدها، كمن مسته الكهرباء فجأة! فحاولت انتزاع يدها، فيما أخذ سامر يحاول الاقتراب منها أكثر، وهو يميل برأسه وجسده نحوها، وقد بدا في حالة من الهذيان، المرافقة لشخص غائب عن الوعي:
– سوسن أرجوك.. سأفعل أي شيء.. إنني أحبـ….
فقاطعته صرخة ملتاعة من سوسن، وهي تجذب يدها بشدة، في حين دفعته بيدها الأخرى بحركة صدمته:
– لااااا.. لا يمكن حدوث هذا أبدا!!! ألا تقدّر موقفي أستاذ سامر!!! إنني خطيبة أيهم وأحبه بجنون، ولا يمكنني مسامحة من يفرح بتحطّم علاقتي معه، كائنا من كان…
وانفجرت باكية بحرقة، فيما أخذ سامر يحملق فيها بذهول، بعد أن ابتعد عنها خطوتين، إثر الصدمة التي أيقظته من أحلامه الوردية بعنف، ودون أدنى رحمة!!
وإذ ذاك.. انتبه على صوت أكثر شخص يبغضه في هذا العالم.. صوت أيهم الذي اندفع إلى داخل الغرفة بلهفة:
– سوسن يا حبيبتي.. هل أنت بخير؟؟؟ ما الذي حدث بالله عليك!!!
عندها.. لم يجد سامر بُدّا من مغادرة الغرفة بصمت، وهو يجرجر أذيالا طويلة من الخيبة، التي لا نهاية لها!! لم يعد له مكان في هذا العالم حتما، والذي حاول إقحام نفسه فيه عنوة..
أهذا ما يفعله “الحب” بأهله!!!!!
***
هتفت الممرضة بنبرة غير مصدقة:
– غير معقول!! جميع المؤشرات الحيوية عادت إلى وضعها الطبيعي تماما!!
فتهلل وجه أيهم بسعادة:
– هذا يعني أن بإمكانها المغادرة الان؟؟
غير أن الممرضة أجابته بتردد:
– لا بد من موافقة الطبيب المشرف على حالتها أولا!
فاستعجلها أيهم بقوله:
– ألا يمكنك مناداته بسرعة؟؟
وقبل أن تجيبه الممرضة، دخل الطبيب ليختصر الموضوع برمته..
وبعد أن قام بفحوصاته اللازمة، التي أكدت كلام الممرضة حول تحسن حالتها، وجه كلامه لأيهم، وهو يناوله كشفا كان بيده:
– تحتاج للقيام ببعض الاجراءات اللازمة للخروج، بالاضافة إلى توقيعك هنا سيد سامر..
فرمقه أيهم بنظرات مستهجنة:
– عفوا!!.. تقصد أيهم؟
فأردف الطبيب وهو يطالع الكشف من جديد:
– بناء على البيانات المدونة هنا، لقد تم إدخال الانسة عن طريق مرافقها السيد سامر، والذي وقع إقرارا بتحمله كافة التبعات المترتبة على ذلك و..
فقاطعه أيهم بنبرة غاضبة:
– إنه مجرد رجل تطوع لإدخالها المشفى بعد أن وجدها في حالة إغماء بلا شك! وأنا خطيبها أيهم الذي يتحمل كامل المسؤلية هنا..
غير أن عينا الطبيب لمعتا قليلا، وهو يتأمل اسم سوسن بتمعن أكثر قبل أن يلتفت نحوها بتساؤل:
– هل أنت حقا ابنة السيد كارم رجل الأعمال الكبير المرشح لرئاسة الوزراء حاليا؟
فأومأت سوسن برأسها مؤكدة:
– أجل إنني ابنته، ويمكنني تحمل كافة المسؤوليات المترتبة على خروجي الآن، ومستعدة للتوقيع على ذلك أيضا!
عندها أسرع الطبيب بإصدار أوامره للممرضة، قبل أن يلتفت إليها مبتسما:
– إطمئني يا آنسة.. كل شيء سيكون على ما يرام خلال دقائق معدودة!
***
“الحب جندي من جنود الله”..
هذا ما كان يتردد في ذهن سوسن طوال الطريق!! كانت غارقة تماما في حالة من التفكير العميق، وقد شعرت بنوع من الامتنان لتلك المكالمة المقتضبة من نور!! بل ولتصرفات سامر المريبة! من الجيد فعلا أن أيهم لم يأتِ قبل ذلك؛ وإلا لكان تصرفها معه مختلف تماما!! كانت ستفعل أي شيء لإغاظته بأي وسيلة، ولو اضطرها ذلك لارتداء الحجاب.. بنية إغاظته فقط!!! أما الآن….
وتنهدت بعمق، فيما كان أيهم يختلس النظر إليها بين الحين والآخر أثناء قيادته للسيارة، دون أن يتمكن من تخمين ما يجول بخاطرها، أو يجرؤ على اختراق حاجز صمتها!! لأول مرة يجد نفسه عاجزا عن التصرف معها بعفوية!!
حتى إذا ما أوقف السيارة أمام منزلها، انفرجت شفتاه عن صوت خافت ومرتبك:
– لقد وصلنا.. عزيزتي..
وكمن اسيقظ من حلم على حين غرة، التفتت إليه سوسن بنظرات مستفهمة:
– هل قلت شيئا؟؟
غير أنها استدركت ذلك بسرعة، فقالت وهي تهم بالنزول:
– شكرا لك..
فأمسكها أيهم من يدها مستوقفا:
– سوسن.. ألا تزالين غاضبة مني؟
وبدلا من أن يسمع جوابها، جذبت يدها من يده، وهي تشيح بوجهها عنه:
– أحتاج للراحة الآن، تصبح على خير..
ولم تكد تفتح باب السيارة، حتى هرعت بهجة نحوها بلهفة:
– الحمد لله على عودتك سالمة آنستي العزيزة، كيف حالك الآن؟؟
فابتسمت لها سوسن بوهن:
– الحمد لله بخير.. غير أنني أحتاج للراحة…
لم يدرِ أيهم ما الذي دهاه في تلك اللحظات ليصاب بالشلل!! فقد بقي واجما وهو يحدق فيهما بذهول، إلى أن دخلتا المنزل! حتى بهجة.. لم تحييه كعادتها، عوضا عن أن ترحب به، بل ولا يظن انها قد انتبهت لوجوده أصلا!!.. قد تكون معذورة، فابنة سيدها هي الأهم الآن، ولكن.. ماذا عن سوسن!! هناك خطب ما، يتعلق بها ويجهله بالتأكيد!!!
لايمكن أن يكون هذا الوضع طبيعيا بأي حال من الأحوال..
 
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم