تأمل رامز اسم اللوحة بتعجب، ولم تكد كلماتها تنطبع في ذاكرته؛ حتى قفزت مئات التحليلات وآلاف الاستنتاجات إلى ذهنه، كان معظمها يدعم بشكلٍ كبير نظريته الاولى..
“تركته لأجلك”
ما الذي يمكن أن يوحي به اسمٌ كهذا، سوى ما خطر بباله أول مرة!!!
وبالنظر إلى تاريخ اللوحة؛ باتت نسبة احتمال هروب تلك الفتاة بمحض إرادتها، كبيرة جداً، ولولا الضرورة المهنية، التي تحتم عليه عدم تجاهل أي احتمال آخر ولو بنسبة ضئيلة؛ لجزم الأمر مئة بالمئة..
وأخيراً التفت إلى ناديا، التي كانت تراقبه بتمعن، فابتسم لها بمرح قائلاً:
– أعلم أنني أتعبتك معي يا آنسة، ولكن أرجو أن تسمحي لي بالتقاط صورة أخيرة لهذه اللوحة، فقد أثارت اهتمامي فعلاً..
فزمّت ناديا شفتيها، قبل أن تقول، وقد بدأت الشكوك تخامرها:
– آسفة.. هذه اللوحة بالذات لا يمكن تصويرها.. فلم نعرضها بعد في أي معرض.. ثم إنك التقطتَ ما يكفي من الصور حتى الآن! فلصالح من تعمل؟؟
فأسرع رامز يبريء نفسه بقوله:
– صدّقيني إنني مجرد هاوٍ لا أكثر، ولن أقوم بنشر أي صورة من هذه الصور في أي مكان.. أريد الاحتفاظ بها للذكرى فقط، ويمكنك أن تثقي بكلامي هذا.. أنا سائح هاوٍ لا أكثر..
وتأكيداً على كلامه، أخرج جواز سفره الأجنبي من جيبه موضحاً:
– إنني مهتم بالتعرف على طبيعة البيئة العربية، والثقافة العربية بشكل عام، والفن أحد صور هذه الثقافة، لذا أرجو أن تفهميني جيداً يا آنسة..
لم تكد ناديا تلمح جواز سفره، حتى نسيت لباقتها المعتادة مع الزوار، وهي تردد بتعجب:
– هل أنت أجنبيٌ حقا!! أعني.. هل أنت أجنبي الأصل!! صحيح أن ملامحك قد تبدو أجنبية، ولكنك تتحدث العربية مثلنا بطلاقة!
فابتسم رامز قائلاً:
– ألم أقل لك أنني مهتمٌ بدراسة الثقافة العربية يا آنسة! لقد درستُ اللغة العربية منذ سنوات، والتحقتُ بمعاهد اللغة حتى أتقنتها.. إنني بالفعل مهتمٌ بهذه الثقافة.. يمكنك القول إنها هواية..
بدا الارتباك على وجه ناديا بوضوح، وقد شعرت بمسؤوليتها فجأة؛ تجاه صورة الأمة العربية! لكنها سرعان ما تمالكت نفسها قائلة:
– حسناً.. في هذه الحالة سأقدم لك هذه الخدمة، آملة منك أن تحافظ على وعدك بعدم نشرها في أي مكان، لأننا بصدد العمل على إصدارنا الخاص بالفعل..
فتهلل وجه رامز، وهو يشد على يديها بامتنان شديد:
– شكراً جزيلاً لك.. لن أنسى هذا الجميل أبداً يا آنسة..
وبينما أخذ يلتقط الصور للوحة من عدة زوايا، سألها بعفوية ظاهرة:
– ترى ما الذي يعنيه اسم هذه اللوحة؟
فأجابته ناديا بعفوية مماثلة:
– حقيقة لا أدري تماماً، فقد كانت الرسّامة في عجلة من أمرها حين أنهت اللوحة، حتى أنني اضطررتُ لإرسال رسالة لها، أسألها فيها عن الاسم، الذي نسيت كتابته عليها، فلم تصلني منها سوى هاتين الكلمتين.. حتى أنني لم أعرف المقصود برسالتها، هل تقصد أنها تركت اختيار العنوان لي، أم ماذا بالضبط!! لكنني قررتُ اعتماد جملتها تلك اسما للّوحة في النهاية، فهو يبدو مناسباً نوعاً ما، وقد كان هذا آخر عهدي بها، إذ أنها لم ترد على اتصالاتي بعد ذلك، على غير عادتها..
ورغم أن رامز تظاهر بانشغاله بآلة التصوير، إلا أنه كان يحاول تسجيل كلمات ناديا في ذهنه باهتمام، ولم يخفَ عليه ملاحظة الضيق في نبرتها، وهي تتحدث عن سوسن! لا شك أنها منزعجة من تصرفها ذاك جداً، ولم يكن كلامها عنها سوى نوعٌ من الفضفضة!
فما هي الظروف التي دفعت سوسن لذلك التصرف!!
غير أنه لم يسترسل كثيراً في تساؤلاته الداخلية تلك، حتى لا يثير الانتباه، إذ سرعان ما أطلق صافرة قصيرة؛ معبراً من خلالها عن إعجابه بترتيب المعهد وتنسيق زواياه، وبعد أن تجول بعينيه بين الفتيات المنهمكات في لوحاتهن، سأل ناديا بفضول:
– هل جميع المنتسبين إلى هذا المعهد من الفتيات؟
فأومأت ناديا برأسها إيجاباً:
– أجل هذا صحيح.. ولكن هذا لا يعني أننا لا نقبل انضمام الذكور أيضا..
أبدى رامز اهتماماً واضحاً بما سمعه، معلقاً:
– هكذا إذن.. ظننتُ أن عاداتكم العربية تمنعكم من ذلك..
فقالت ناديا:
– لا أنكر وجود من يتمسك بهذه العادات حتى الآن، ولكننا معهد راقي حديث، ولا نلتفت لمثل هذه الأمور..
فهز رامز رأسه متفهماً:
– جيد..
ثم استطرد بشكل عفوي، وهو يتمنى أن يحقق هدفه دون إثارة الريبة:
– بالمناسبة؛ ألا يوجد رجال مهتمون بالفن هنا؟
فقالت ناديا:
– بالطبع يوجد.. هناك الاستاذ سامر على سبيل المثال، وهو أحد أساتذة الرسم المشهورين، ليس في عالمنا العربي وحسب، بل أيضا على المستوى العالمي.. لقد كان هنا قبل قليل..
فتجاوب معها رامز بعفوية:
– أستاذ رسم عربي إذن!! هذا مذهل.. سيسرني جدا مقابلته، فربما يفيدني أيضا! هل يمكنني أخذ عنوانه يا آنسة؟
أما في الجانب الآخر من المعهد، حيث بدت الفتيات منشغلات بلوحاتهن، فقد كانت سورا تتابع تلك المحادثة باهتمام كبير، وقد لمعت أمامها أفكارٌ غريبة، لم تستطع تجاهلها..
هل يُعقل أنها تعنيني بجملتها تلك!! لقد كانت مصافحتها لي غريبة بعض الشيء.. كان هنالك خطأ ما بلا شك.. شيء ما؛ لم يكن في مكانه الصحيح!!!
وكادت أن تفلت منها شهقة؛ لولا أنها أسرعت تكتمها في صدرها، وقد أدركت تلك الحقيقة بغتة!
لقد صافحتها سوسن بيدها اليمنى، ولم تكن ترتدي خاتمها، الذي كان شيئا مقدسا بالنسبة لها!! فهل يُعقل أنها… فسخت خطوبتها من أيهم!!
لقد تعجبت من حجابها عندما رأتها، وكاد الفضول أن يقتلها، وهي تتساءل عن ردة فعل أيهم تجاه ذلك، ولدهشتها الشديدة؛ لم تحضر سوسن حفل تكريم أيهم، الذي لم تكن تتركه وشأنه طرفة عين!!
بل إن أيهم لم يكن على طبيعته ذلك اليوم…
لقد اتضحت الحقيقة أمامها أخيراً..
لا شك في ذلك.. لقد فسخت خطوبتها منه.. وانتهى الأمر!!!
فهل يُعقل أنها.. تركته لأجلي!!!!!!!!
غير أن سورا وضعت حداً لأفكارها تلك.. إذ لا يمكنها أن تترك نفسها لأوهام لا دليل عليها، وإلا كانت خيبة أملها كبيرة فيما بعد.. ثم إنها لا تريد أن تعتقد بأن سوسن قد قدمت لها خدمة ما، مهما كانت دوافعها!!
ولم يكد رامز يغادر المكان، حتى قالت جولي هامسة:
– أراهن أنه لم يأتِ إلى هنا؛ إلا من أجل سوسن!!
ذلك الشخص.. أوراقه مكشوفة!!
فغمزتها فاتن:
– هيا اتحفينا بتحقيقاتك يا “مِس ماربل”!
– كلا.. بل قولي.. “هيركول بوارو” أو “شارلوك هولمز”، فهما الأفضل بالنسبة لي..
المهم.. ألم تلاحظي كيف كان يتأكد من التوقيع أولاً؛ قبل أن يتأمل اللوحة!!
– لقد لاحظتُ ذلك فعلا، فلم أرَ فناناً يقوم بهذه الحركة من قبل!
وانضمت إلى المحادثة فتيات أخريات:
– وكأنك رأيتِ جميع الفنانين في العالم!!
– بل الأغرب من هذا؛ أنه أبدى اهتماماً مفاجئاً بالفن السريالي من خلال لوحة سوسن الأخيرة، في حين أن لوحات نور لم تلفت انتباهه من قبل!!
– بل كان يتأملها أيضاً.. ألم تسمعي سؤاله عن نور واهتمامه بمعرفة خلفية عن أسلوبها؟
فزمت جولي شفتيها:
– لا أدري… ولكنني ما زلت مصرة أن سوسن كانت هدفه الرئيس.. وربما لم يسأل عن نور إلا من أجل سوسن..
فلم تتمالك فاتن من إطلاق ضحكة:
– لقد أصبح خيالك واسعاً.. بل متمدداً أكثر مما يجب… بلا شك..
فيما تغامزت الفتيات بينهن:
– في هذه الحالة.. لا شك أنه معجب جديد وقع في الفخ..
***
كان أيهم في دوامة كبيرة، نجح ذلك المحقق بإثارة زوابعها؛ عندما سمع صوت جلبة في الخارج، ورغم فقدانه الرغبة في الاقدام على أي شيء؛ إلا أنه دفع بنفسه دفعاً لينظر من النافذة المطلة على الحديقة، آملاً أن يجد شيئاً يزيح عنه تلك الهموم الجاثمة على صدره، والتي زاد تراكمها بعد زيارة ذلك المحقق!.. ولدهشته الشديدة؛ رأى سورا!!
راوده شعور غريب لم يستطع تحديده، غير أن ما أدركه جيداً في تلك اللحظات؛ هو أنه على أتم الاستعداد لمقابلتها.. وقبل أن يأتيه حارسه الوفي بخبر الزائرة؛ أسرع يفتح الباب منادياً عليه:
– ما الذي تريده الآنسة يا عواد؟
أما سورا التي باغتتها طلته المفاجأة؛ فقد ارتجف قلبها، وشعرت ببرودة في أطرافها، وشلل في لسانها؛ ألجمه عن الكلام! ولم يُخرِجها من حالتها تلك؛ سوى كلمات البستاني:
– السيد يسأل.. مالذي تريدينه؟
ارتبكت سورا قليلا، قبل أن تستعيد سيطرتها على نفسها، موجهة حديثها للبستاني:
– لدي أخباراً تهمه كثيراً، غير أنها أخبار خاصة، لا يمكنني التحدث بها هنا..
لم تدرِ سورا ما الذي حدث بالضبط بعد ذلك، إذ كان فكرها مشغولاً بالطريقة التي ستبدأ فيها الحديث مع أيهم.. وجها لوجه.. لأول مرة بعيدا عن سوسن! لدرجة أنها لم تذكر كيف قطعت خطواتها عبر الحديقة، حتى استقرت في صالة الاستقبال أمامه..
لم تستطع رفع عينيها لتواجه عينيه، رغم شعورها بنظراته المتسائلة.. فطال الصمت أكثر مما ينبغي.. فحتى أيهم… تسللت إليه العدوى على ما يبدو… فآثر الجلوس بصمت؛ حتى تبدأ حديثها معه، دون أن يستطع منع نفسه؛ من تخيل آخر مشهد جمعهما معا، في حفل النجوم!!!
وأخيراً.. تكلمت سورا دون أن تنظر نحوه:
– حقاً إنني آسفة لما حدث..
فوجيء أيهم بكلماتها، فهل هي على علمٍ باختفاء سوسن!! لقد أخبره رامز بأنه لا يريد للخبر أن ينتشر، فمن أين لسورا علمٌ بذلك! أم أن الخبر انتشر بعد خروج رامز من عنده قبل الظهيرة!! وقبل أن يهم بسؤال سورا عن مدى معرفتها بهذا الأمر، قالت سورا بنبرة مواسية:
– لم أتوقع من سوسن أن تتصرف هكذا أبداً.. أنت لا تستحق ذلك منها.. فقد كنتَ رائعاً معها.. ولكنها لم تفهمك على ما يبدو.. مما جعلها تقدم على تلك الخطوة!
عندها لم يملك أيهم نفسه، وقد باتت تلك الهواجس التي أسرّ بها إلى رامز تتمثل أمامه، هل يعقل أن سوسن فعلت شيئا كهذا!! فسألها بقلق:
– هل تقصدين أنها هربت بملء إرادتها؟
لم تفهم سورا ما الذي قصده أيهم بسؤاله، فرمقته بنظرات استفهام متعجبة، وهي تردد كلمته بتمعن:
– هربت؟؟!!!!
ورغم أن سورا لم تجب أيهم بشيء محدد؛ إلا أنه شعر بارتياح مفاجيء لردة فعلها.. فعلى الأقل؛ سورا لم تقل بأن سوسن هربت، ويبدو أنها لا تعرف شيئاً بهذا الخصوص…
أما سورا التي شعرت بوجود سوء فهم بينها وبين أيهم، فقد حاولت استنباط ما يجول بخاطره، والذي دفعه لطرح سؤاله الأخير!! هل حدث شيء آخر بين أيهم وسوسن غير فسخ الخطوبة!! وتمنت لو أنه يصارحها بكل شيء دفعة واحدة، بدلاً من محاولاتها الجاهدة لاستخراج ما يخفيه صدره عنها..
حل بينهما الصمت الثقيل مجدداً، ولم تجد سورا بداً من قطعه بنفسها للمرة الثانية على التوالي، فقالت بنبرة لا تخلو من ألم:
– قد لا أعني لك شيئاً.. ولكنني بالفعل أهتم كثيراً لأمرك.. لقد آلمني حزنك الدفين خلال تلك الحفلة، التي أعدت خصيصا لتكريمك بعد أن حققتَ مركزاً عربياً لامعاً، يحسدك عليه جميع النجوم.. كنتُ أشعر بألمك، رغم ابتسامتك التي حاولتَ رسمها على شفتيك.. لقد آلمني ذلك كثيراً.. حتى بت متأكدة من شكوكي، حول فسخ الخطوبة بينك وبين بسوسن..
وأمام إقرار أيهم الذي دل صمته عليه؛ صمتت قليلا قبل أن تتابع بمرارة:
– أعلم أن سوسن تعني لك الكثير.. فخاتم خطوبتها لا يزال في يدك، رغم أنها تخلت عنه بسهولة.. ولكن ما حدث قد حدث، وأنا متأكدة الآن، بأنها هي من اختارت فسخ الخطوبة، ولن تتراجع في قرارها أبداً، فهل ستقتل نفسك من أجلها؟؟؟
قالت كلمتها الأخيرة بمرارة واضحة، فيما ترقرقت الدموع في عينيها.. أما أيهم الذي كان يستمع إليها بصمت، فقد شعر بوخزة في صدره.. إنه واثق من أن سوسن لم تتخلى عنه بسهولة، كان هناك شيء ما؛ يدفعها لذلك دفعاً بلا شك.. ولا يزال هنالك أمل دفين في عودتها إليه…
وأمام صمته، قالت سورا:
– لقد ترَكَت سوسن رسالة واضحة لنا جميعاً.. فهل تعرف ما الذي قصدته بقولها:
“تركته لأجلك”؟
نظر إليها أيهم مستفهماً، فوضّحت سورا كلامها:
– كان هذا عنوان لوحتها الأخيرة، التي رسمتها قبل أن تترك المعهد قبل يومين، غير أنني لم انتبه لذلك إلا بعد أن جاء الاستاذ سامر وقرأ رسالتها، وأظنه فهم ما قصدته!
لم تكد سورا تأتي على ذكر سامر؛ حتى شعر أيهم بغضبٍ مفاجيء يغلي في صدره، فسأل سورا باهتمام:
– ما الذي تقصدينه بأن سامر فهم رسالتها؟
ولم تكن سورا لتضيع فرصة كهذه، فقالت بتردد ظاهر:
– لستُ واثقة.. ولكن يبدو أن الاستاذ سامر؛ قد فهم بأن هذه رسالة منها إليه..
لم يعد أيهم قادراً على احتمال المزيد.. فنهض من مكانه، وهو يجوب الغرفة محدثاً نفسه بغضب..
مالذي تعنيه بكلامها هذا!! هل تركتني لأجل ذلك الوغد!!
أما سورا التي راعها الحال الذي استبد بأيهم، والذي قد لا يخدمها أبدا، فقد أسرعت تحاول تهدئته بقولها:
– ربما كان فهمي خاطئاً، قد تكون تقصد شيئا له علاقة بالفن…!
قالت كلمتها، وهي تكاد تتميز من الغيظ، فهل يُعقل أن تقوم بتبرير تصرفات سوسن بنفسها، لكي يهدأ أيهم!!!! ولم تستطع الاحتمال أكثر، وهي تشعر بالقهر الشديد؛ فانفجرت باكية، ونهضت من مكانها لتسرع بالخروج من هذا المكان بأي طريقة، غير أن أيهم الذي انتبه فجأة لما يدور حوله؛ أمسكها من ذراعها مستوقفا:
– انتظري لحظة أرجوك…
فوقفت سورا، وهي تشعر بدوار خفيف في رأسها، من كثرة المشاعر المختلطة والمتلاطمة فيه، كاد أن يفقدها توازنها، خاصة وهي تلتقط بصعوبة أنفاسها المنتحبة، فأسندها أيهم قائلاً:
– لم لا تجلسين قليلا لنتحدث بهدوء؟
ولم تجد سورا بداً من الانصياع لكلماته.. باستسلام تام…