تركته لأجلك! – الحلقة 15
– اوه.. لا بأس.. أعتذر أنا أيضا عن وقوفي هكذا..
قال كلماته تلك ونظراته لا تزال معلقة بها مما أشعرها بالحرج فانحنت جانبا لتتابع صعودها نحو المعهد، غير أنه استوقفها قائلا:
– عذرا يا آنسة.. أليست هذه بناية معهد الفنون الراقي؟
فأومأت سوسن برأسها ايجابا وهي تلتفت إليه:
– أجل، وهو في الطابق الثاني..
فابتسم الشاب:
– إذن أنت متجهة إليه ، هل أنت من فتيات المعهد؟
ولما ردت عليه سوسن بالإيجاب، مد الشاب يده ليصافحها بنشوة لا مبرر لها:
– لقد سررت بلقائك يا آنسة،.. لاشك أنك إحدى الموهوبات في هذا المعهد.. اسمي سامر مبعوث لجنة التقييم الفنية، وقد جئت للتأكد من صحة العنوان قبل وصول البقية.. فقد يتأخروا عن الموعد المقرر قليلا.. حسنا لا بد أنك مستعجلة سأراك لاحقا…
لم تجد سوسن بدا من مجاملته بابتسامة ودودة وهي تمد يدها لمصافحته، رغم أن حدسها نبأها بأن هذا الحديث كله كان مفتعلا إذ لم يكن من داع له! و لا تدري لِمِ تمنت من أعماق قلبها لو يراهما أيهم في هذا الموقف.. ترى.. ماذا ستكون ردة فعله!!!
فوجئت سوسن بالتغييرات الكثيرة التي أعدتها ناديا لاستقبال الضيوف..فوجدت صعوبة في إقناعها بضرورة استرجاع لوحتها الأخيرة من فوق ركيزة العرض لتضيف عليها بعض اللمسات بسرعة، فيما لم تجد ناديا ضرورة لذلك معلقة:
– إنها جيدة.. أضيفي توقيعك عليها وحسب..
غير أنها استسلمت لإلحاح سوسن عليها متمتمة:
– يبدو أن علي أن أكون ممتنة لحضورها على الأقل!
والتفتت نحو إحدى الفتيات:
– ألم ترد عليك سورا بعد!
فردت بارتباك:
– كلا فهاتفها مغلق!!
عضت ناديا على شفتها بغيظ:
– يا لهؤلاء الفتيات المستهترات!!
كان المعهد في حالة استنفار تام، فقد وقفت المرشحات للمشاركة في المعرض العالمي أمام لوَحهن باستعداد لإجابة أي سؤال أو إضافة توضيح، و تقاسمت الأخريات اداء المهمات الاخرى من استقبال وترحيب وتعريف بالمعهد و ما إلى ذلك.. ومع آخر لمسةٍ من ريشة سوسن، أُعلن نبأ وصول الضيوف فرافقت الآنسة ناديا اللجنة المكونة من فنانين وخبراء ونقاد من كلا الجنسين، فيما أسرعت سوسن بوضع لوحتها على ركيزة العرض الخاصة بها واقفة أمام لوحاتها باستعداد وحماسة.. لقد حانت اللحظة الحاسمة أخيرا ..
ولم يطل الأمر كثيرا على سوسن إذ سرعان ما تحلق حولها ثلاثة من الفنانين لتفاجأ بأن ذلك الشاب الذي قابلته على الدرج كان أحدهم بل وبدا أكثرهم مكانة في عالم الفن، فشعرت ببعض الحرج خاصة وأنه أغدق عليها أكيالا من المدح أطرى فيها الجمال في لوحاتها الحالمة، كان وسيما جدا و ذو شخصية مرموقة بدت واضحة من خلال تعامل بقية أعضاء اللجنة معه مما دل على مكانته بينهم، ولم تنتبه سوسن في البداية لتلك النظرات الحانقة التي أثارها اهتمام سامر بها، إلا أن تهامس الفتيات و تغامزهن فيما بينهن أصبح واضحا لها مع انصباب اهتمام معظم أعضاء اللجنة عليها وقد بدوا متلهفين لفتح حديث معها سواء كان له علاقة بمواضيع اللوحات أم لا ..حتى أن سوسن شكّت في أمرها.. أهو انبهارٌ وإعجابٌ يشهد بحرفية رسمها وروعة لوحاتها، أم بشيء آخر! غير أنها حاولت تجاهل ذلك كله لتركز انتباهها مع أسئلة اللجنة، وفيما أخذ أحد النقّاد يثني على براعتها في رسم الصور الشخصية والوجوه، فاجأها سامر بسؤاله وهو يحدق في لوحة رسمت فيها أيهم:
– هذه صورة للنجم المشهور أيهم على ما أعتقد.. هل أنت من معجبيه؟؟
فاحمرت وجنتا سوسن ودق قلبها كعادته حين يُذكر أيهم، قبل أن تقول بلهجة تحمل في طياتها الكثير من الفخر والسعادة:
– أجل إنه أيهم.. خطيبي..
لم يخف على سوسن ملاحظة الضيق الذي ارتسم على وجه سامر، فأدار وجهه متحاشيا النظر إليها وهو يردد بصوت أقرب للهمس:
– إنه محظوظ بلا شك!!
لم تفهم سوسن سر تجهم وجهه وتصرفه الغريب ذاك، غير أنه لم يدعها لحيرتها تلك إذ سرعان ما تدارك نفسه، وابتسم قائلا:
– أنت فنانة بارعة يا سوسن.. يشرفني تعرفي إليك..
ثم تبادل بضع كلمات مع بقية الأعضاء بعد أن انهوا جولتهم في المعهد، لتكون الصدمة القاصمة للفتيات عندما أعلن سامر باسم المجموعة أن المعرض العالمي لن يتسع لغير مشارِكة واحدة وقد فازت سوسن به، فاتحا المجال أمام الألسن لتلوكها بشدة وقد أثار حنقهن، فوجدنها فرصة للاشارة إلى علاقات وهمية وقصص لا أول لها ولا آخر من النوع الذي يأنف الحر من مجرد التفكير فيه!! مما أحال هذه اللحظة، التي يفترض أن تكون من أسعد اللحظات التي انتظرتها سوسن بفارغ الصبر ، إلى خيبة أمل كبيرة لم تتوقعها من ردود أفعال زميلاتها وهمس عباراتهن القاسية تلسع قلبها الرقيق كسياط عقرب سام، خاصة ممن كنّ يؤملن بشدة المشاركة في المعرض العالمي مثلها، فرددت إحداهن بحسرة:
– وما ذنبي إن لم أكن بجمالها؟ أن تكوني جميلة يعني أن تسهل أمورك كلها في هذه الحياة!!
و علقت أخرى:
– ألم تلاحظي كيف كان ينظر إليها!! أتراه كان على علاقة سابقة بها!!
فتجيبها زميلتها:
– ربما .. من يدري!!
و أضافت ثالثة:
– يا لأيهم المسكين.. كم أشفق عليه! لو يأتي الآن لعرف حقيقتها!!
وقالت رابعة بتذمر:
– هذا ليس عدلا.. على اللجنة أن تكون محايدة!!
و رغم أن سوسن لم تركز في كلامهن الجارح الذي حاولت تجاهله؛ إلا أن الدنيا دارت بها.. ألا أستحق المشاركة في المعرض العالمي حقا!!.. ألم يكن اختياري عادلا!!.. بل أين العدل في كلامهن!!.. لِمَ لا يأخذن بعين الاعتبار الجهد الذي ابذله في اتقان لوحاتي! حتى الانسة ناديا تشهد بذلك!.. آه.. ليتك يا نور هنا.. لأخبرتِني بالحقيقـة على الأقل..
ولم تكد سوسن تستغرق في أفكارها تلك حتى انتبهت على صوت سيدة – من عضوات اللجنة- هتفت فجأة وهي تشير إلى إحدى الزوايا:
– ما هذه اللوحات؟؟
فقالت ناديا بفخر وهي تتجه نحوها:
– إنها إحدى انجازات معهدنا..
فسألتها السيدة بلهفة فيما أسرع البقية لرؤية اللوحات:
– وأين هي صاحبة الرسم؟؟
فأجابتها ناديا بضيق:
– لقد حدثت معها ظروف منعتها من الاستمرار معنا..
غير أن السيدة قالت بنبرة شك:
– تقصدين أنها تركت المعهد!!
فردت ناديا بغيظ:
– لقد حصلت معها ظروف خارج عن ارادتها كما ذكرت، لذا لم تستطع الاستمرار معنا..
هزت السيدة رأسها بتفهم، والتفتت لبقية الأعضاء:
– ما رأيكم؟؟
فأجابها أكبر الخبراء سنا:
– حسب تقديري المبدئي.. لوحات كهذه كفيلة بإنجاح أكبر المعارض العالمية على الاطلاق!
وسأل كبير النقاد ناديا:
– ما هي طبيعة شخصية الفتاة بعد إذنك؟
احتارت ناديا في العثور على الجواب المناسب:
– ماذا تقصد؟؟
فقال موضحا طبيعة سؤاله:
– أقصد أنها لابد وأن تكون ذات شخصية مميزة و غير عادية.. اللوحات تحمل معنى عميقا جدا.. بل و عميق للغاية! .. هل هي.. تحمل أفكارا معينة؟ .. متديّنة مثلا!
فتساءلت السيدة قبل أن يسمع الناقد إجابةً لسؤاله:
– هل تمانعين ببيع هذه اللوحات يا آنسة؟
فأجابتها نادية بصرامة لا تراجع فيها- وهي تدرك أهمية لوحاتٍ كهذه لمعهدها:
– إنها ليست للبيع!
فقالت سيدة أخرى أكثر حنكة:
– ولكن بالتأكيد لن تمانعي إن ما شاركت هذه اللوحات في المعرض العالمي بنسبتها لمعهدكم، أليس كذلك؟
فتهلل وجه ناديا بالموافقة:
– إذا اقتصر الأمر على المشاركة وحسب فلا مانع لدي!
عندها التفتت السيدة نحو سامر الذي وقف يعاين اللوحات بانبهار تام، قائلة:
– ما رأيك يا أستاذ سامر؟ إنها من الفن السريالي.. اختصاصك..
وبفضول شديد حاولت سوسن سماع رأيه، وقد أثار اهتمامها ذكر لوحات نور، غير أنها ما أن وقعت عينيها على إحدى اللوحات؛ حتى شعرت بتعرقٍ صاحبه خفقان شديد في قلبها أذهلها عما حولها وكأنه لم يعد في المكان غيرها مع تلك اللوحة التي شعرت بانصهار تام معها..
شجيرة ورد متشابكة الأوراق توسطت اللوحة، برزت في الجانب الأيسر منها – حيث الخلفية السوداء الضبابية- وردة جورية حمراء بدت كمن تستغيث وقد التوى عنقها من تجاذب الأيادى حولها.. أيادٍ كثيرةٍ مختلفة الأحجام والألوان امتدت من وسط الظلام الذي يلف الوردة تحاول جذبها نحوها في صراع مرير، فتناثرت بتلاتها الحمراء بشكل قطرات دم قانية في حالة يرثى لها.. وهناك في الجانب الأيمن حيث النور.. بقعة مضيئة في جانب الشجرة أظهرت بصعوبة وردة حمراء أخرى من بين أوراقٍ أحاطت بها و تدلّت من فوقها بعناية لتخفيها عن الأنظار، وقد ارتسمت عليها بخيالٍ بارعٍ ابتسامة رضا موهومة جسّدت الحياة فيها حتى بدت لناظرها حورية تختبئ في محرابها!
يا إلهي ما هذا، كيف لم انتبه لوجودها من قبل!! نور.. ما الذي تفعلينه بلوحاتك!! أكنت تعلمين بمعاناتي!! أرأيتِ كوابيسي..! ظلام وأيادي تلاحقني.. ما هذا يا إلهـــ…
غير أن صوت سامر أخرجها من دوامة أفكارها:
– ألم تري هذه اللوحة من قبل!!
فهزت رأسها نفيا ببعض الارتباك إذ يبدو أن انفعالاتها فضحتها أكثر مما ينبغي، وبتردد سألها سامر متابعا:
– أكانت صاحبة اللوحة صديقتك!
فأومأت سوسن برأسها إيجابا:
– أجل..
هم سامر بقول شيء تراجع عنه بسرعة، والتقت عيناهما لوهلة أطرق سامر برأسه إثرها وابتعد عن المكان، ملتفتا إلى بقية أعضاء اللجنة:
– أظن أن مهمتنا قد انتهت تقريبا، سأسبقكم إلى الخارج..
بدا خروجه دون أي كلمة أخرى غريبا نوعا ما غير أن كبير الخبراء قال مبررا موقفه:
– الفنان لا يفهمه إلا فنان مثله..لا شك أن اللوحات أثرت به.. إنه مرهف الاحساس جدا….
و بتر عبارة كان يريد اضافتها، مكتفيا بشكر الآنسة ناديا باسم لجنة التقييم الفنية، مؤكدا عليها:
– سنرسل فريق عمّالنا لاصطحاب اللوحات في صباح الغد، أرجو أن يتم تجهيزها ولفها جيدا لسلامة النقل..
فأضافت السيدة:
– و لا تنسي تلك اللوحات رجاءً..
**وصافح أعضاء اللجنة الآنسة ناديا وسوسن وهم يتمنون لها حظا طيبا بعد أن حصلت على بطاقة المشاركة في المعرض العالمي والتي وُقّعت باسمها من قِبَل كبير الخبراء..
**
تركته لأجلك! – الحلقة 14
كانت سوسن سارحة بتأملاتها في الطريق كالعادة عندما رن هاتفها باتصالٍ مفاجئ من الآنسة ناديا:
– سوسن أين أنت؟ ستحضر لجنة التقييم بعد ساعة!! فهل لوحاتك جاهزة؟؟
فوجئت سوسن بهذا الخبر فتساءلت بدهشة:
– ولكن موعدنا معهم بعد يومين.. أليس كذلك!
فجاءها صوت ناديا بنفاد صبر:
– لا يهمني مناقشة ما استجد في أمرهم الآن، ما يهمني هو أن تحضري بأقصى سرعة..
فطمأنتها سوسن:
– لا تقلقي يا آنسة فأنا بالطريق؛ دقائق وأكون عندك..
لم تكد سوسن تنهي الاتصال حتى رُوّعت بميلان حاد أفقدها توازنها لترتطم بالجانب الآخر من السيارة، إثر حادثٍ مروع في الطريق استطاع سائقها تفادي الاصطدام به في اللحظة الأخيرة.. لم يكن ارتطامها قاسيا، وإن كان مؤلما بعض الشيء، فعدّلت جلستها بسرعة قبل أن يوقف مرزوق السيارة على بعد عشرة أمتار من ذلك الحادث.. التفت إليها:
– هل أنت بخير؟
فطمأنته قائلة:
– أجل.. لماذا أوقفت السيارة!! فأمامي موعد مهم في المعهد!
غير أن مرزوق أجابها وهو ينزل من السيارة::
– سأتأكد من سلامة العجل أولا؛ فأظنه تعرض لبعض التلف ولا يمكنني المغامرة..
عندها عرفت سوسن لم نُظمت أشعارٌ على غرار: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، ولم يكن خيار أمامها، فنزلت من السيارة هي الأخرى متجهة نحو مرزوق الذي أخذ يتفحص العجل، قائلة:
– أظن أن علي تدبر أمري، سأستقل سيارة أجرة فلا يمكنني التأخر أكثر..
غير أن مرزوق هب مذعورا:
– لا يمكنك ذلك.. سيغضب سيدي.. انتظري لحظة يا آنسة، سأتدبر الأمر بسرعة..فعودي إلى السيارة أرجوك..
فتنهدت سوسن:
– سأهاتف أيهم إذن..
وما أن رفعت ناظريها حتى فوجئت بعدد السيارات التي تجمعت حولها فيما هرع عدد من الشبان – وحتى الكهول – نحوها يعرضون المساعدة!
وكان أسرعهم شاب بدا من النوع المستهتر تماما، اقترب منها قائلا:
– سيارتي في الخدمة..
في حين تبعه ثانٍ:
– أين تريدين يا آنسة، فربما كان مقصدك في طريقي..
فيما تطوع آخر بتقديم المساعدة في إصلاح العجل، وهو يرد على الآخرين:
– لا مشكلة سيتم اصلاح العجل بسرعة فلدي خبرة في ذلك، هل أنت مستعجلة كثيرا يا آنسة!
واقترب رجل بدا في الأربعين من عمره:
– ما هذا الازدحام يا شباب لقد أزعجتم الآنسة..
والتفت نحوها باسما:
– يمكنك المجيء معي إن أردت!
غير أن رجلا آخر غامزه بقوله:
– إلى أين ستهرب بالغزال يا رجل!
شعرت سوسن بالغثيان، بل وبرغبة شديدة في التقيؤ أيضا..وهي تقف مصدومة بما تراه.. ليس لأنها المرة الأولى التي تطالعها بها العيون بهذا الشكل، بل لشيء آخر لم تستطع تفسيره، خاصة مع بساطة مظهرها في هذا اليوم تحديدا.. فرغم أنها كانت تعرف تماما مقدار الجمال الباهر الذي تتمتع به و مدى جاذبية طلتها وقوامها الممشوق الذي ما فتئ أيهم يثني على فتنته.. إلا أنها لم تتيقن من ذلك إلا هذه اللحظة بالذات، صحيح أن بعض نظرات الإعجاب كانت تزيدها ثقة في نفسها أحيانا، لكن أن تصل الأمور إلى هذا الحد، فهذا ما لا يعجبها إطلاقا!!
حتى راعها منظر شاب بدا وكأنه قد أنهى للتو محكوميته في سجون اعتى المجرمين خطورة، وهو يوقف سيارته لينزل منها محدقا فيها بنظرات أرعبتها:
– تأمرين بشيء؟
فاكتفت بابتسامة مقتضبة – حاولت أن تخفي خلفها خوفها – شاكرة الجميع بكلمة واحدة، وقد آثرت الانتظار داخل السيارة حتى تنصلح الأمور فلن يعيق وزنها سير عملية الإصلاح تلك.. تهاوت على مقعدها بعد أن أغلقت أمّان الباب، وتناولت هاتفها وقد تذكرت ما كانت تعزم القيام به، وبسرعة جاءها صوت أيهم:
– صباح الخير يا جميلتي، لقد ظننتك لاتزالين نائمة بناء على نصيحة الطبيب، ألم نطلب منك أخذ قسطا كافيا من الراحة!
فأجابته:
– لا بأس فقد شعرت بتحسن كبير..
وهمت بأن تقول له بأن بقاءه إلى جانبها ليلة أمس وتفهمه لها أثّر بشكل كبير في تحسن حالتها، غير أنها عدلت عن ذلك بقولها:
– لقد أخبرتني ناديا بأن لجنة التقييم ستحضر اليوم وعلي الحضور بسرعة.. غير أنني في ورطة الآن، فقد تعطل عجل السيارة..
فجاءها صوت أيهم بلهفة:
– وكيف حالك أنت؟ هل أصبت بأذى؟ هل أنت بخير يا حبيبتي؟
فردت عليه بنبرة تعبر عن سعادتها باهتمامه:
– لا تقلق فقد تفادينا الاصطدام بسيارتين قلبت إحداهما، و من حسن الحظ لم تكن هناك إصابات شديدة على ما يبدو.. ها هي سيارات الشرطة قد حضرت ..
فشهق أيهم:
– وأين أنت الآن!
فأجابته:
– كما قلت لك انتظر إصلاح عجل السيارة، قرب الميدان الرئيسي..
فجاءها صوته متنهدا:
– لو كان بإمكاني الحضور بسرعة لأتيت إليك، لكن للأسف سيأتي المخرج الآن للإشراف على إخراج اسطوانتي الجديدة..
فردت عليه سوسن بتفهم رغم أنها كانت تتمنى حضوره فورا:
– أقدر لك ذلك، لا مشكلة فأظن الأمور ستسير على ما يرام..
فقال لها برقة:
– إذن انتبهي لنفسك جيدا يا ملاكي فلا شك أن وقوف سيارتك أثار اهتمام العديدين..
كانت هذه الجملة بالذات هي ما تنتظره سوسن بفارغ الصبر..وبدأت نفسها تعبر عن مشاعرها باسترسال.. أنت تعرف ذلك يا أيهم إذن ولا يخفى عليك المأزق الذي أجد نفسي فيه الآن؛ فهل تدرك مدى خطورته علي!! ألن يأت اليوم الذي تقترح علي فيه حلا لهذه المشكلة تعبيرا عن اهتمامك بي وخوفك علي…! ألا ترغب بإبعادي عن هذه العيون المتوحشة ! ألا تسوؤك تلك النظرات الـ…!!…… ألا تغـــ….
لكن تساؤلاتها تلك تلاشت أدراج الرياح، لتبقى حبيسة في نفسها إلى أجل غير معلوم.. وقد تذكرت العهد الذي أخذته على نفسها هذا الصباح.. فلن تعكر مزاجها بالمزيد من هذه الأفكار ولن تتطرق لأي موضوع يفسد الود بينها وبين من تحب..
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
تركته لأجلك! – الحلقة 13
استيقظت سوسن بنشاط وحيوية لم تعهدها في نفسها من مدة، لقد اتخذت قرارها وستحاول تنفيذه، فقد وعدها أيهم وأقسم لها بحبه ولن تجعل أي شيء يهز هذه الثقة في نفسها، ستنسى أمر سورا والأخريات ولن تعيرهن اهتماما يُذكر؛ فهذا أفضل.. وما أن تصبّحت بلوحة نور أمامها حتى تذكرت أنها لم تعد الاتصال معها منذ أن سقط الهاتف من يدها ليلة الأمس، فبحثت عن هاتفها في حقيبة يدها إذ أخبرها أيهم أنه وضعه هناك بعد أن عثر عليه ملقى على الأرض، وكم كانت سعادتها كبيرة عندما وجدت رسالة من نور تطمئن بها عليها وتخبرها فيها أن أمها أجرت العملية بنجاح، فأسرعت ضاغطة زر الاتصال بها دون أن تأخذ موضوع الوقت بعين الاعتبار، حتى جاءها صوتها بعد فترة وجيزة:
– الحمد لله أنني سمعت صوتك، لقد قلقت عليك ليلة أمس.. لا أدري ما الذي حدث بعد أن قطع الاتصال فجأة!! فقد حاولت الاتصال بك بعد ذلك دون جدوى..!!
فطمأنتها سوسن معتذرة:
– آسفة لازعاجك يا عزيزتي، لقد كنت متعبة قليلا فوقع الهاتف من يدي وقد أصبحت بخير الآن فلا تقلقي..
فجاءها صوت نور:
– الحمد لله، يبدو هذا واضحا من صوتك الآن يا سوسن ما شاء الله، و أرجو من الله أن يكون قد استجاب لدعائي فقد دعوت لك كثيرا..
فابتسمت سوسن:
– شكرا لك يا صديقتي العزيزة.. و.. الحمد لله على سلامة أمك لقد أسعدتيني برسالتك كثيرا..
فرددت نور:
– الحمد لله.. لا زالت تحتاج إلى رعاية لكن وضعها أفضل بكثير ولله الحمد والمنة، فقد خلدت إلى النوم بعد الفجر ..
ثم استدركت متسائلة:
– ألن تذهبي للمعهد يا سوسن؟
فأجابتها سوسن:
– ليس الآن.. فما زال الوقت باكرا جدا وقد أتأخر قليلا هذا اليوم كما أخبرت سائقي بذلك أمس، فلم يبق لي إلا الرتوش الأخيرة للوحتي العاشرة التي سأشارك بها في المعرض العالمي..
فرددت نور:
– إن شاء الله.. أتمنى لك التوفيق فيه يا عزيزتي..
ولا تدري سوسن كيف وجدت الجرأة في نفسها لتسال نور دون مناسبة تذكر:
– نور.. أرجو أن لا أكون فضولية.. ولكن هل لي بسؤال؟
فجاءها جوابها:
– بالتأكيد يا عزيزتي، تفضلي..
فقالت سوسن أخيرا:
– لقد رأيت زوجك وهو ينقذ ابنة الوزير في المتحف..لا أظنك انتبهتِ لوجودي فقد كنتُ أود السلام عليك وقتها لكن لم تتح لي فرصة لذلك..
فقالت نور:
– لقد حضرتِ الافتتاح إذن.. كان متحفا رائعا بحق ولم نرغب بتفويت فرصة الاطلاع على أقسامه، فقد حوى العديد من الأقسام التي تثير اهتمام زوجي..
ثم استدركت قائلة:
– أهذا هو سؤالك يا سوسن؟؟
فأجابتها سوسن:
– حسنا..ولكن إن وجدتِ سؤالي فضوليا فلست مضطرة لـ..
فقاطعتها نور بمودة:
– لا داعي لكل هذه التكلفة يا عزيزتي.. اسألي ما بدا لك، فلا شيء لدي ذا بال لأخفيه عنك!
فالتقطت سوسن نفسا عميقا، قبل أن تصيغ سؤالها بتنميق:
– ألا تزعجك طبيعة مهنة زوجك؟
لم تستطع نور كتم ضحكة خفيفة أطلقتها وهي تجيبها بعفوية:
– تقصدين انقاذه لحياة فتاة شابة مثلا! حسنا .. لقد سُئلت هذا السؤال من قبل..
و صمتت قليلا قبل أن تتابع:
– لا أخفي عليك يا سوسن أن الغيرة كانت تتملكني أحيانا، لكنني سرعان ما أستعين بالله مستعيذة به من الشيطان الرجيم، فهذه مهنة شريفة وأجرها عظيم، خاصة وأنا أذكر خُلق عامر وخشيته لله، فهو كما أحسبه شاب متدين يخاف الله ويتقيه وهذا ما يجعلني أشعر بالأمان معه أكثر، وقد قالها لي ذات مرة، إنه إن دخل يوما بصفته طبيبا على امرأة، فإنه ينسى تماما أنه رجل وهي امرأة، ولا تعدو العلاقة بينهما عن علاقة رسمية بين طبيب ومريضه، لقد قالها لي بالحرف الواحد: “إنها أمانة ومسؤولية أمام الله يا نور وأسأل الله أن يعينني عليها”..وأنا بدوري أدعو الله له دائما أن يثبته ويثبتني على الحق ويحفظنا من كل سوء، فالقلوب بيد الله يقلبها كيفما شاء لذلك كان أكثر دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)..
والتقطت نور نفسا قبل أن تقول بابتسامة لا تخفى على سامعها:
– يبدو أنني استطردت أكثر من اللازم.. فهل أجبتُ على سؤالك يا سوسن؟
و بعد لحظة جاءها صوت سوسن التي كانت مبهورة بما تسمعه:
– أجل يا عزيزتي لقد أجبت..
ثم استدركت متسائلة:
– بالمناسبة يا نور.. كيف التقيت بعامر؟
فأجابتها نور:
– ربما لا تجدين في قصتي ما يثير الاهتمام، فقد كان زواجنا تقليديا بحتا.. إذ كانت أمه تعرف أمي عن طريق حلقات القرآن في المسجد، وبعد أن رُشّحنا لبعضنا البعض وجدنا أننا متكافئين ومتوافقين في أمور كثيرة، خاصة في الأهداف والأفكار وتمت الموافقة من الطرفين بعد الاستخارة والحمد لله..
لم يخف على نور ملاحظة الدهشة في نبرة سوسن وهي تسألها بتعجب:
– ألم تكوني على معرفة سابقة به!!
فأجابتها بمرح:
– أبدا.. لذلك قلت لك أنه كان زواجا تقليديا بحتا ولن تجدي فيها ما يثير الاهتمام!
وهمت سوسن بأن تعلق بشيء غير أنها انتبهت للساعة أمامها بعد أن سمعت طرقا على باب غرفتها، فاستأذنت من نور:
– لقد أثقلت عليك بما يكفي هذا الصباح، وأظنه آن أوان ذهابي للمعهد.. شكرا لك يا نور..
فجاءها صوت نور باسما:
– بالتوفيق يا عزيزتي ، لقد سعدت بسماع صوتك ولا تترددي في أي اتصال آخر..
وما أن ضغطت سوسن زر انهاء الاتصال، حتى كانت الخادمة قد مثلت أمامها:
– لقد خفتُ أن تكوني لا زلتِ نائمة يا آنسة، فمرزوق ينتظرك في السيارة كما طلبتِ منه..
فقالت لها سوسن:
– حسنا أخبريه بأنني لن أتأخر أكثر من عشر دقائق..
وبعد أن خرجت الخادمة، هرعت سوسن لملحق غرفتها حيث خزائن أثوابها وأحذيتها وحقائبها.. ومدت يدها نحو خزانة الثياب الصيفية للتتناول أحد أثوابها المعتادة بتلقائية، غير أنها تراجعت قليلا لتفكر أول مرة وهي تقلب بصرها بين الثياب؛ محاولة البحث عن أكثرها حشمة.. وبصعوبة عثرت على فستان ذو ياقة تظهر نصف جيدها وحسب و بالكاد يستر ركبتيها مع أكمام تصل إلى مرفقيها، فارتدته مع إحدى صنادلها ذات الكعب المنخفض نسبيا، واختارت حقيبة خفيفة تلائم ملبسها، وبعد أن أحكمت شد حزام فستانها على وسطها وقفت على عجالة أمام مرآتها لتسرح شعرها المنسدل على كتفيها بتلقائية جذابة، ثم ارتدت قرطي اللؤلؤ المرصعين بالألماس مع العقد الذي تفضله عادة واكتفت برشة واحدة من زجاجة عطرها المميز، دون أن تلتفت إلى بقية أدوات الزينة الفاخرة التي تعج بها طاولة الزينة أمامها، إذ لم يكن من عادتها إخفاء وجهها خلف مساحيق التجميل..
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم