ما أن أنهت نور تجهيز نفسها للزيارة المرتقبة؛ حتى بدأ التوتر يتسلل إليها، فهذه المرة الأولى التي ستقابل فيها هدى أخيراً، ولم تستطع إبعاد ذلك الكابوس عن مخيلتها، وشعرت بأنها على وشك الغرق في هواجسها من جديد، فأسرعت تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، محدثة نفسها بثقة:
– كما قالت الخالة نبيلة، الابتلاء لا يُسعى إليه ولا يُطلب، والأولى أن نسأل الله العافية، فالله قادر على إسعاد الجميع بحل من عنده سبحانه، لذا لن أسمح لهذه الوساوس بالسيطرة على تفكيري بعد الآن، فهي لا تجلب سوى الحزن، وهذا من الشيطان.. وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم..
ومع ذلك.. تمنت بشدة؛ لو تعثر هدى على زوج مناسب بأسرع وقت، بعيداً عن عامر! بل إنها تمادت بالتفكير، حتى فكرت في أخيها!! لو أنه لم يكن مرتبطاً؛ لرشحته لهدى بلا شك، حتى يرتاح بالها وتطمئن!! لكنها قاومت هذه الأفكار من جديد:
– الله أعلم بماهو الأفضل للجميع، فهو يخلق ما يشاء ويختار سبحانه، فيارب عافني واعف عني، ولا تحملني ما لا طاقة لي به، واكتب لنا الخير ورضّنا به..
وبسرعة، تناولت هاتفها واتصلت عبر الشبكة العنكبوتية بوالدتها، لعلها تزيح عنها ذلك القلق، فهي ليست أمها وحسب؛ بل صديقتها المقربة، وأكثر من تثق به في هذه الدنيا..
أجابت والدتها الاتصال، بعد بضع دقائق:
– سبحان الله كنتُ أفكر فيك قبل قليل، كيف هي أحوالك؟
فدمعت عينا نور، قبل أن تقول بنبرة مبتهجة:
– القلوب عند بعضها يا أمي، المهم دعواتك الطيبة، فاليوم كما تعلمين موعد زيارتنا لبيت أم جابر، والدة الطبيبة هدى التي تعمل مع عامر، الذين حدثتك عنهم..
ورغم أن نور لم تصارح أمها بحقيقة هواجسها، لكن قلب الأم لم يخفَ عليه استشعار ذلك منها، فطمأنتها بقولها:
– بإذن الله تكون الزيارة رائعة، فهذه فرصة لك لتكوين شبكة معارف جديدة في تلك البلاد، وكما أخبرتِني من حديث أم جابر، فهي تبدو سيدة طيبة ما شاء الله، إنني متفائلة بهم خيراً..
وقبل أن تضيف نور كلمة أخرى، رن هاتفها، فاستأذنت أمها قائلة:
– عن إذنك أمي، ها هي الخالة نبيلة تتصل..
فعلقت أمها:
– بنت حلال.. ردي عليها وها أنا ذا أنتظرك..
وما أن أجابت اتصالها وردت السلام، حتى جاءها صوت نبيلة:
– كنت أريد التأكيد على موعدنا اليوم، لا تتناولوا أي طعام قبل مجيئكم، فأنتم مدعوون على الغداء كما تعلمين، والسفرة جاهزة..
فابتسمت نور:
– أجل يا خالة، لم أنسَ بالطبع، وبمجرد عودة عامر سنأتي إليكم إن شاء الله..
فجاءها صوت نبيلة المندهش:
– ألم يعد بعد؟ قالت لي هدى أن اليوم هو نصف دوام فقط!
فردت نور:
– هذا صحيح، ولكنه أخبرني بأنه سيختم بعض الأوراق، لذا قد يتأخر قليلاً..
أسرعت نور تعاود الحديث مع أمها، التي كانت لا تزال تنتظر على الجانب الآخر من الجهاز:
– السلام عليكم أمي، كانت تريد التأكيد على الموعد وحسب..
فأجابتها أمها:
– يسّر الله أمركم، وصرف عنكم كل سوء يا حبيبتي.. لا تنسي الاتصال بي من عندها؛ حتى أشكرها بدوري أيضاً..
ثم استطردت وهي تذكّر ابنتها قائلة:
– أهم شيء لا تبالغي بالوصف والمدح والثناء أمام زوجك بعد نهاية الزيارة، وتذكري حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، عندما نهى المرأة أن تصف المرأة لزوجها، فهذا أفضل لسلامة الجميع، فلا تكوني مثل بعض النساء الجاهلات، اللاتي لا يبالين بوصف النساء الأخريات أمام أزواجهن، فيفسدن قلوبهم ويجنين على أنفسهن بأيديهن، ثم يندمن ساعة لا ينفع الندم! فلا تغتري بنفسك، وتظني أنك مهما قلت أو فعلتِ، فهذا لن يؤثر فيك أو في زوجك، فأنتم بشر في النهاية، مهما بلغتم من الصلاح..
فطمأنتها نور وقد شعرت براحة كبيرة، بعد أن أزاحت عبئاً ثقيلاً عن كاهلها:
– جزاك الله خيرا لهذه النصائح القيمة يا أمي، وإن شاء الله أكون عند حسن ظنك..
عندها استدركت أمها وقد تذكرت شيئاً:
– صديقتك سوسن، ماذا كان اسم والدها؟
فأجابتها نور باهتمام:
– كارم بهاء رجل الأعمال المعروف، هل حدث شيء؟
فقالت أمها:
– كنت أريد التأكد فقط، أنت تعلمين أنه ترشح لرئاسة الوزراء..
فأجابت نور:
– أجل، أعرف أنه كان المرشح الأول، فهل فاز؟
وبدل أن تسمع الإجابة عن سؤالها، سمعت سؤالاً آخر من أمها:
– ألم تتمكنِي من التواصل مع سوسن حتى الآن؟
فردت نور بالنفي:
– للأسف لا، فهاتفها لا يزال مغلقاً، ولم أجد طريقة أخرى للتواصل معها..
وهمّت نور بسؤالها عن كارم أكثر، لكن رنين هاتفها نبّهها إلى ضرورة الاستعجال، فقالت لأمها معتذرة:
– هذا عامر، لا شك أنه وصل.. عن إذنك أمي، يجب أن أنزل الآن حتى لا نتأخر..
فجاءها صوت أمها:
– استودعك الله يا حبيبتي.. في أمان الله..
**
ما كاد المجلس يستقر بنور، في الصالة الداخلية من بيت نبيلة- بعد أن أدخل والد هدى عامر إلى صالة الاستقبال الأمامية- حتى شعرت بارتياح كبير، بعد أن زال منها القلق نهائياً، إثر ذلك الاستقبال الحار الذي قابلتها به نبيلة، وابنتها الطبيبة هدى! ورغم أنها المرة الأولى التي تلتقي فيه نور بهدى، إلا أنها شعرت وكأنها تعرفها منذ زمن بعيد، فسرعان ما انسجمتا، ليأخذهما الحديث في شتى الشعاب، غير أن نبيلة أشارت لهما بتناول الغداء أولاً، حتى إذا ما فرغوا منه، رددت نور الدعاء:
– “أكل طعامكم الأبرار وأفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة وذكركم الله فيمن عنده”، جزاكم الله خيرا..
وعندما حاولت المساهمة في رفع الأطباق مع هدى، ونقلها إلى المطبخ؛ أصرّت عليها نبيلة بالجلوس، ثم نادت ابنتها لتجلس وتغتنم الوقت مع نور، معلقة على ذلك بابتسامة لطيفة:
– لسنا مستعجلين على غسل الأطباق، فكما يقول المثل: “ساعة الحظ لا تفوتها”، وهذه فرصة نادرة لكما..
فجاءها صوت هدى من المطبخ:
– لا تقلقي يا أمي، بالطبع لن أفوت الفرصة، ها أنا قادمة..
فابتسمت نور، وأثنت على أصناف الأطعمة المقدمة، قائلة:
– يبدو أن وصفات الطعام في هذه البلاد لذيذة جداً..
فابتسمت نبيلة:
– يمكنك القول أن معظمها من اختراعات “الشيف هدى” ما شاء الله..
فهتفت نور بإعجاب، موجهة حديثها لهدى التي أقبلت عليهما في تلك اللحظة:
– ما شاء الله! يمكنك تأليف كتب طبخٍ رائجة بهذه الطريقة!
فضحكت هدى:
– كنتُ أفكّر بذلك فعلاً، ولطالما راودني حلم افتتاح مطعم، بدل العمل في المستشفى..
فعلقت أمها:
– يا خسارة الطب والتعليم!
وضحكت الفتاتان، فيما استأذنت الأم بالذهاب إلى غرفتها- لتفسح المجال لهما بالحديث براحة- فقالت هدى موضحة:
– لا أنكر أنني دخلت الطب برغبة شديدة مني بالإضافة لتشجيع والداي، خاصة وأن العمل في قسم النسائية والتوليد أصبح أمراً ضروري من أجل النساء المسلمات، ولكنني في الوقت نفسه؛ لا يمكنني مقاومة رغبتي في ابتكار الوصفات الجديدة في المطبخ.. يمكنك اعتبارها هوايتي المفضلة، وهناك رواية قرأتها قبل فترة، يقول فيها الحكيم لبطل القصة، وهو يوضح له طرق التعامل مع الحياة، وبناء الشخصية الجيدة:
“كل شخص يمكنه صناعة حساء رائع، هذا يعتمد فقط على المكونات التي سيضعها فيه، إنها اختياراتك!”
حيث يشبّه بناء الشخصية بصنع الطعام، فكما أن نوع “الطبخة أو المرقة” تختلف بناء على ما يوضع في القدر، وكذلك الشخصيات تختلف. وهذا بالطبع زاد شغفي بالطهي..
وصمتت هدى قليلاً، وهي تحاول تذكر الحوار جيداً، لكنها قالت أخيراً:
– انتظري لحظة، أذكر أنني نقلت هذه الفقرة من ترجمة وجدتها على الشبكة العنكبوتية..
ونهضت هدى، فيما تذكرت نور رغبة والدتها بالتحدث مع أم جابر، فأخرجت هاتفها، وهي توجه حديثها لنبيلة، التي عادت للمجلس:
– أمي ترسل لك التحية، فقد أخبرتها عنك يا خالة، وهي ترغب بالسلام عليك..
فتهلل وجه نبيلة بشراً:
– هذا لطفٌ كبير منها، يسعدني هذا..
وبأقل من دقيقة، كانت والدة نور قد أجابت الاتصال، فتحدثت السيدتان بود كبير، وكأنهما أختين فرّق المكان بينهما!
لم تستغرف المكالمة سوى بضع دقائق، كانت هدى قد عادت بعدها وهي تحمل دفتر ملاحظات صغير، فتحته على صفحة محددة، وأخذت تقرأ منه لنور، إحدى الجمل:
– “نحن نختلف أيضا، بناء على ما نضعه في وعائنا الخاص.”
ثم وضحت قائلة:
– بطل القصة يُدعى “زاك” واسم الحكيم “هاوك” الآن تذكرتُ هذا، وهكذا يبدأ “هاوك” بالاستطراد في الحديث مع “زاك” حول هذا المثل، موضحاً أن خياراتنا في الحياة، هي التي ستبني شخصياتنا، وستحدد كيف تكون مستقبلا، بناء على هذه الخيارات التراكمية، عندها يجيبه “زاك” بأن هذا مخيب للآمال! فهذا يعني أن خياراتنا التي اتخذناها ونحن غير مدركين لخطورته خاصة ونحن صغارا، أو ما تم إجبارنا على اتخاذه بسبب قلة وعينا، سيؤثر على شخصيتنا بالتأكيد! وهذا مُحبط! فيطمئنه “هاوك” بقوله…
وهنا قلبت هدى إحدى ورقات الدفتر، لتستأنف القراءة:
“لا يوجد شيء مُحبط! فكل ما عليك فعله هو تغيير اتجاه حصانك! أصنع “طبخة” جديدة!! وهذا بالطبع يحتاج إلى جهد وطاقة، ولكن للأسف معظم الناس لا يعيرونه أدنى اهتمام”
عندها يقول “زاك”:
“ولكن كيف يمكن للانسان أن يصنع “طبخة” جديدة ذات مذاق جيد، إذا كان قدر الطعام ممتلأ بمذاقات سيئة؟؟”
فأجابه:
“قد يأخذ هذا وقتا إضافيا، ولكن مع استمرارك في إضافة النكهات الجيدة، سيتحسن الطعم بالتأكيد. ثم من قال بأن هناك ما يمنع من إخراج بعض المكونات السيئة من القِدر؟ افترض أن زوجة أبيك أضافت كمية كبيرة من البصل دون قصد إلى قِدر الطعام، فماذا ستفعل؟؟ بالتأكيد ستقوم بالتقاط الكمية الزائدة من القدر، لتخرجها منه، حتى لا يُفسد الطعم، أليس كذلك؟؟ والشيء نفسه مع صناعة “الشخصية” الجيدة”
توقفت هدى عن القراءة، وهي تلتفت لنور، التي بدت مأخوذة جداً بما سمعت، قائلة:
– ما رأيك؟ أليست رائعة؟
فأومأت نور بانبهار واضح:
– إنها أروع مما تخيلت! لم يحدث أن سمعتُ مثل هذا التشبيه من قبل!! ما اسم الرواية لو سمحت؟ فقد تحمستُ لقراءتها..
فأجابت هدى:
– للأسف استعرت الرواية من إحدى الصديقات منذ فترة طويلة، كما أنني لم أعثر عليها في المكتبات بعد ذلك، ولو كانت عندي لأعرتك إياها، أظنها رواية قديمة، وهي بعنوان:
GRAYFOX
بالطبع هي تحتوي بعض المخالفات العقائدية بالنسبة لنا، ولكنها بشكل عام رائعة جدا..
فوافقتها نور:
– هذا واضح بالفعل، أحب قراءة الروايات من هذه النوعية كثيراً..
فعلقت نبيلة، التي كانت تشاركهم الجلسة أحياناً، وتتركهم لوحدهم أحيانا اخرى:
– ما شاء الله.. هذا يعني أنكما تتشاركان الاهتمامات نفسها أيضاً..
وغمزت نور باسمة:
– ألم أقل لك أنكما ستتوافقان بسرعة؟
فابتسمت نور:
– بالضبط.. تماماً كما قلتِ يا خالة..
وضحكت هدى بمرح:
– منذ أن قابلتك أمي أول مرة، وهي تحدثني عنك، حتى كدتُ أشعر بالغيرة! ولكن كما وصفتك تماماً، أنتِ تدخلين القلب بسرعة ما شاء الله..
فاحمرت وجنتا نور، قائلة:
– وأنتم أيضاً تدخلون القلب بسرعة، أشعر أنني وسط أهلي وعائلتي..
فقالت نبيلة:
– أنتِ بالفعل بين أهلك يا ابنتي..
عندها استدركت هدى قائلة:
– وماذا عنك يا نور؟ ما هي هواياتك المفضلة؟
فأخبرتها نور عن ولعها بالرسم، والأفكار التي تعبر عنها من خلاله، وإذ ذاك هتفت هدى بإعجاب شديد:
– أنتِ رسامة إذن ما شاء الله! ألا تحتفظين ببعض رسومك، أرغب برؤيتها بشدة!
فسألتها نور باهتمام:
– وهل تحبين الرسم أيضا؟
فابتسمت هدى:
– حسناً.. لا أمانع بتأمل اللوحات الجميلة طبعا، ولكن هوايتي المفضلة تظل في المطبخ كما أخبرتك، ولكنني متشوقة لرؤية لوحاتك وما تعرضين فيها من أفكار! يبدو هذا مثير جداً للاهتمام ما شاء الله..
واستطردت قائلة:
– كما أن صديقتي في المستشفى ليزا، رسامة ماهرة، بل وتعشق الرسم كثيراً، وسيكون من الرائع أن أعرفك إليها، ربما تصلها أفكارك أيضاً، فالفنان لا يفهمه إلا فنان مثله كما يقولون..
ثم ضربت بقبضتها على كفها بحماسة، قبل أن تقول:
– ما رأيك أن نخرج نحن الثلاثة معاً؟ ستكون فرصة رائعة لتعريف ليزا بالمسلمين أكثر!
فتحمست نور للفكرة:
– سيسعدني هذا بالطبع.. سأخبر عامر بذلك، وأرد لك خبراً إن شاء الله..
فرفعت هدى يديها علامة الانتصار:
– اتفقنا إذن..
وقبل أن تضيف أي منهما كلمة أخرى، رن هاتف نور، فأجابت الاتصال:
– حسناً خمس دقائق، وأكون مستعدة إن شاء الله..
وبعد أن أغلقت الخط، قالت هدى:
– ما زال الوقت مبكراً!!
فابتسمت نور:
– في الحقيقة لقد بقينا أكثر من المتوقع، ولا شك أن عامر كان يتوقع مني الاتصال به، لكنني لم أفعل.. فقد نسيت نفسي على ما يبدو..
ثم التفتت إلى نبيلة، التي انضمت إلى الجلسة مجدداً:
– جزاكم الله خيرا للضيافة الرائعة يا خالة، لقد سعدتُ بالتعرف إليكم حقاً..
فقالت نبيلة، وهي تحثها على الجلوس أكثر:
– ما هذا!! لا يزال الوقت باكراً، وأنتم لم تشربوا القهوة بعد..
فهمت نور بالاعتراض، ولكن نبيلة قالت:
– لا تقلقي.. لقد أخبرتُ أبو جابر بأن ينتظر القهوة..
وبسرعة هبت هدى نحو المطبخ لتعد القهوة، فيما أخذت نبيلة توصي نور قائلة:
– أرقام هواتفنا أنا وهدى معك، فلا تترددي بالاتصال بنا إن احتجتِ أي شيء..
فشكرتها نور من أعماق قلبها:
– لا تقلقي يا خالة، فأنتم أهلي هنا بعد كل شيء.. ألم نتفق على هذا..
فابتسمت نبيلة بارتياح:
– يسعدني سماع هذا..
وخلال أقل من عشر دقائق، بعد شرب القهوة؛ كانت نور تجلس إلى جانب عامر في السيارة، والذي سألها باهتمام:
– كيف كانت الزيارة؟
فابتسمت نور، قائلة باقتضاب:
– الحمد لله جيدة، إنهم أناس طيبون فعلاً ما شاء الله..
فسألها عامر مرة أخرى:
– وكيف وجدتِ هدى؟ هل انسجمت معها؟
فرمقته نور بنظرات ذات معنى، قبل أن تقول:
– وما شأنك أنت بنا معشر النساء؟
تفاجأ عامر من ردة فعل نور، لكنه سرعان ما انفجر ضاحكاً:
– فهمت.. فهمت يا عزيزتي.. أنا لم أقصد ذلك بالطبع، ولكنني كنتُ أريد الاطمئنان عليك أكثر..
فقالت نور:
– قلتُ لك أن الزيارة كانت جميلة، والناس طيبون، وبالطبع انسجمنا معاً، وإلا لكنتُ اتصلتُ بك حتى نعود بسرعة، فماذا تريد أن تعرف أكثر؟
فابتسم عامر:
– بالطبع لا شيء.. ولكن هل تصدقين..
وصمت قليلاً- فيما تحفزت نور لما سيقوله- قبل أن يتكلم بابتسامة ودودة:
– إنني سعيد لسماع هذا منك.. لم أكن أعلم أنك تغارين عليّ إلى هذه الدرجة!
فما كان من نور إلا أن قرصت كتفه، وقد احمرت وجنتيها:
– يا لك من مزعج فعلاً!
فضحك عامر، وهو يتظاهر بالألم، متأوهاً من قرصتها:
– إنني أمزح فقط.. مجرد مزحة لا أكثر..
لكن نور استدركت قائلة:
– بالمناسبة، اقترحت هدى أن نخرج معاً، مع صديقة لها في المستشفى، فما رأيك؟
فعلق عامر بابتسامة متفاجئة:
– ماشاء الله! لقد وصلتم إلى هذا الحد إذن! ومتى الموعد؟
فأجابته نور:
– لم نحدد بعد، فقد أخبرتها بأنني سأناقش الأمر معك أولاً..
فابتسم عامر، بسعادة واضحة:
– أنتِ تعلمين أنني لن أمانع، بل يسعدني سماع هذا، فالصحبة الصالحة لا تعوّض..
ثم تابع ممازحاً:
– أخشى أن تتطور الأمور أكثر حتى تنسي أن لك زوجاً!!
فلكزته نور بيدها ممازحة:
– لا تكن غيوراً.. واحدة بواحدة!
وضحك الاثنان، في حين أوقف عامر السيارة قليلاً، قبل أن يغير وجهتها بعيداً عن المنزل، وتناول يدها اليمنى ليطبع عليها قبلة، قائلاً:
– والآن يا أميرتي.. هل أنتِ مستعدة للمفاجأة!
فارتبكت نور قليلا، قبل أن تجيبه بدهشة:
– منذ متى وأنت تتصرف هكذا يا عامر!! أنتَ لا تبدو على طبيعتك أبداً!
فأبدى عامر خيبة أمل على وجهه وهو يقول:
– يؤسفني سماع هذا منك! كنتُ أظن أنني أكثر لطفاً معك!
فلم تتمالك نور نفسها من إطلاق ضحكة:
– لا تقل أنك بدأت تتدرب على الإخراج المسرحي!
فنظر إليها عامر:
– أهذا رأيك حقا! يبدو أنني أسوأ مما تتصورت، أليس من الطبيعي أن يلاطف الرجل زوجته!!
فابتسمت نور:
– بل طبيعي جداً، ولكن لا تبالغ كثيراً، فلستُ معتادة على ذلك!!
فضحك عامر:
– لا بأس ببعض التغيير بين الفينة والأخرى..
مضت بضع ساعات من القيادة، خارج المدينة، قبل أن تلوح أمامهما لافتة خشبية، توحي لمن يشاهدها بأنها قادمة من عصر الفرسان، تشير نحو بوابة ضخمة يعلوها قوس مهيب، فالتفتت نور نحو عامر الذي بدأ بتخفيف سرعة السيارة، متسائلة بدهشة واضحة:
– هل هذا هو المكان الذي ستأخذني إليه!
فابتسم عامر:
– ما رأيك؟ لقد بحثتُ كثيراً قبل أن أعثر عليه في الدليل.. إنها أكبر مساحة برية لركوب الخيول في هذه البلاد!
فهتفت نور بحماسة:
– وأخيراً.. ستريني مهاراتك في الركوب! هذا رائع! لطالما تحدثت أمك عن براعتك في ذلك ما شاء الله!!
فسعل عامر بحرج، وهو ينزل من السيارة، بعد أن أوقفها في المصف:
– حسناً.. أنت تعرفين أنني لم أمارس هذه الرياضة منذ فترة طويلة، لذا لا ترفعي سقف توقعاتك عالياً..
فغمزته نور ممازحة:
– لا تكن متواضعاً هكذا، فأنت فارسي البطل..
فأدار عامر رأسه باتجاه صالة الاستقبال قائلاً:
– أنتِ تعرفين كيف تحفزينني فعلاً، يا لك من داهية..
فوضعت نور يدها على فمها؛ لتكتم صوت ضحكتها، من ردة فعله الخجلة، وهي تتبعه سيراً نحو الصالة..
ما أن أنهى عامر الاجراءات اللازمة، مع المسؤولين، بعد أن سلّم بطاقته الشخصية، ودفع الأجرة المطلوبة؛ حتى أخذه السائس نحو اصطبلات الخيول المعدة للركوب، ليختار منها ما يشاء.. وبالطبع ترك الاختيار لنور، التي هتفت بانفعال، بمجرد أن وقع عينها على حصان أشهب جميل، تعلو جبينه نجمة سوداء:
– ما شاء الله!! سبحان الخالق!!
والتفتت نحو عامر:
– ما رأيك بهذا؟ أليس رائعاً؟
فأومأ عامر رأسه موافقاً، ثم التفت إلى السائس يخبره عن اختياره، ليسوقه بعد ذلك إلى منصة الركوب..
ساعد عامر نور أولاً على ركوب الحصان، ثم صعد ليجلس أمامها ممسكا باللجام، وقبل أن ينطلق، قال لها:
– تمسكي جيداً..
فأمسكت قماش قميصه الخلفي، بيديها، فما كان منه إلا أن جذب ذراعيها بيديه، وأحاط بهما خاصرته، ليلتصق صدرها بظهره قائلاً:
– قلتُ لك تمسكي جيدا يا حبيبتي..
فخفق قلب نور بشدة، وكأنها تسمعها منه للمرة الأولى، حتى شعر بنبضات قلبها، فيما أسندت خدها الأيمن على ظهره، وأحكمت لف ذراعيها على وسطه، متشبثة به بقوة، كمن تخشى افلاته، والدموع تسيل على خديها مرددة في سرها:
– يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، يارب لك الحمد على هذه النعمة.. يارب.. لا أعرف كيف أشكرك.. لطفتَ بي ورحمت قلبي فلك الحمد.. الحمد لله.. الحمد لله .. الحمد لله.. يارب.. احفظ لي عامر.. ولا ترني فيه ما يسوؤني.. وبارك في حبنا ولا تعلق قلوبنا بغيرك.. اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك.. فأعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك..
فيما ردد عامر- بصوت عال- وهو يستعد للانطلاق:
– بسم الله.. سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون..
ثم شد اللجام وهو يهتف:
– هيا بنا..
وانطلق الجواد.. يحلق بهما، فوق مروج خضراء زاهية، نحو غد مشرق، مفعم بالتفاؤل والأمل، بعد أن تلاشت غمامة سوداء؛ كادت أن تجثم على قلب نور، وتسرق البسمة من محياها الجميل..
**
خيّم الصمت على قاعة المحكمة، بعد أن طرق القاضي بمطرقته ثلاث طرقات.. ولم تمضِ سوى لحظات قليلة، حُبِست خلالها الأنفاس، واشرأبت الأعناق، قبل أن ينطق بالحكم في قضية المتهم “كارم بهاء”، أمام الجميع..
حاولت سوسن تقبل الأمر برباطة جأش، من أجل أمها على الأقل، وحمدت الله أن دلها إلى طريق الهداية، قبل حصول هذه المصيبة، إذ ستكون أحوج ما تكون إلى ملاذ آمن تبثه شجونها، في هذه الفترة العصيبة من حياتها، بل وحياة عائلها..
فشرعت تناجي ربها بصمت، فهو وحده.. يسمعها.. يفهمها.. ويريح قلبها..
وسالت الدموع غزيرة من عينيها..
يارب.. ارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، الطف بنا.. وفرج هذا الكرب عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.. ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين..
رب اغفر لي ولوالدي.. رب ارحمهما كما ربياني صغيرا..
********
**نهاية القسم الثاني من الرواية**
بانتظاركم في القسم الثالث إن شاء الله..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم