تركته لأجلك! – الحلقة 42

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

لم يخفَ على سوسن، أثناء مرافقتها لبهجة نحو المنزل، ملاحظة الألم الكبير المرتسم على وجهها، والمتناغم مع صوتها، مما أشعرها بضرورة مواساتها بدلا من انتظار المواساة لحالتها هي! فقالت لها بلطف:
– أرجوك عزيزتي، إنني بخير ولا داعي لهذا كله!!
غير أن بهجة التي لم تستطع حبس دمعات نفرت من عينيها:
– لا أستطيع مسامحة نفسي أبدا، فقد كان عليّ إخبارك منذ البداية بتحصين نفسك جيدا، لا شك أنها عين حاسدة أصابتك..
فنظرت إليها سوسن بابتسامة رقيقة، ولم تقل شيئا، فيما تنهدت في أعماق نفسها بألم:
– يا لطيبتك يا بهجة!! أبعد كل ذلك السفور الذي لا يُرضي الله حتما، تقولين أنها “عين”!! حتى لو كانت عين؛ كنت سأستحقها وبجدارة!!
وأمام صمتها تابعت بهجة:
– ربما في طبقتكم الراقية، لا تؤمنون بهذا الكلام، ولكن العين حق! وقد ورد هذا عن الرسول صلى الله عليه وسلم..
فأجابتها سوسن:
– أنا لم أنكر ذلك، ولكن العين لا تصيب إلا بأمر الله، وقد كنتُ أستحقها بلا أدنى شك، فلا تجامليني أرجوك.. لقد حاولتُ الخروج إلى الحفلة دون أن تريني، حتى لا تنصدمي بمظهري بعد حديثنا ذاك.. لقد انتقم الله مني حتما..
واختنقت الحروف في حلقها، فانفجرت باكية بنشيج أليم، فما كان من بهجة إلا أن ضمتها إليها وهي تربت على كتفها بحنان:
– إن الله يحبك يا عزيزتي، ويريد لك الخير بالتأكيد..
وصمتت قبل أن تتابع:
– العين حق وكل ذي نعمة محسود، لذا عليك بتحصين نفسك دائما..
ولم تشأ سوسن الدخول في جدل معها أكثر، إذ كانت متيقنة تماما من أنها الشخص الوحيد الملوم في هذا كله، بل كانت ترى أن من العيب في حقها؛ إلصاق ما أصابها على “العين”!!
أما بهجة فقد تابعت كلامها موضحة:
– أذكار الصباح والمساء هامة جدا، على الأقل داومي على الفاتحة وآية الكرسي، وسورة الاخلاص والمعوذتين، ولا تنسي قراءة خواتيم سورة البقرة (آمن الرسول..) كل ليلة، فهي ستكفيك من كل شيء بإذن الله، وإن دخلتِ مكانا فقولي (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق)، و(بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم)..
وانتبهت بهجة لنفسها فجأة قبل أن تقول مستدركة:
– المعذرة.. لقد أخذتني الحماسة وأنا أسرد عليك كل ذلك دفعة واحدة!!
فأجابتها سوسن وقد بدا أنها هدأت تماما:
– جزاك الله خيرا، فسأحفظها بالتأكيد إن شاء الله، بل إنني قد بدأت بحفظ بعض الآيات فعلا..
غير أن بهجة أخذت تبحث في جيوبها قائلة:
– أظن أنني أحمل بطاقة أذكار في جيبي.. انتظري لحظة، سأرى إن تركتها في المطبخ..
ما هي إلا لحظة أو لحظتين حتى عادت بهجة وفي يدها البطاقة:
– احتفظي بها، وحاولي الحفاظ على الأذكار دائما فهي حصن منيع بإذن الله يا ابنتي، حفظك الله..
فتناولتها منها سوسن شاكرة:
– جزاك الله خيرا…
واستدركت فجأة:
– كيف حال ابنتك؟
فتنهدت بهجة:
– آمل أن تكون بخير بعد أن تركت ذلك العمل، رغم انها أصبحت تعاني من اكتئاب واضح في الفترة الأخيرة… إنها فتاة مراهقة وعنيدة بالفعل.. لقد أفهمتها مرارا وتكرارا أن ذلك الشخص ما كان ليناسبها أو يسعدها أبدا، غير أنها لا تريد أن تفهم!! ولا زالت تفكر فيه!!! هداها الله.. لساني لا ينفك عن الدعاء لها ليلا ونهارا..
فزفرت سوسن بأسى:
– إنه الحب…
وإذ ذاك تذكرت كلمات نور:
” الحب جندي من جنود الله .. والله لا يحاسبنا على مشاعر لا حيلة لنا بها، وإنما يؤاخذنا على تصرفاتنا وردود أفعالنا التي منحنا فيها حرية الاختيار..”

***

أسرعت نور نحو مقبس الكهرباء لتشحن بطارية هاتفها، فور دخولها غرفة فندق المطار، والتي ستقضي فيها هي وعامر ليلتهما تلك، بعد أن أعلنت شركة الطيران تأجيل الرحلة إلى صباح اليوم التالي..
وبعد أن وضع عامر حقيبة يده الطبية قرب السرير؛ التفت إليها قائلا:
– ما رأيك بعشاء فاخر في مطعم الفندق؟ إنهم يقدمون مأكولات بحرية بطريقة مميزة حسبما قرأت..
غير أن نور- التي انشغل فكرها تماما بأمر سوسن- أجابته بعفوية، وهي تقوم بإعادة تشغيل هاتفها:
– يمكنك الذهاب وحدك إن أردت، فلستُ جائعــ….
لكنها بترت عبارتها مستدركة، وهي تضع الهاتف من يدها:
– شكرا لك.. يبدو عرضا مغريا..
فرمقها عامر بنظرات متفحصة، قبل أن يقول:
– ترغبين بمتابعة حديثك مع صديقتك.. أليس كذلك؟
شعرت نور برجفة خفيفة في جسدها إثر ملاحظته تلك، إذ ليس من الحكمة أن تُظهر ذلك لزوجها، وبكل ذلك الوضوح! فله عليها حق أيضا، ولا شك أنه كان يرغب بمرافقتها، ولم يكن يقصد الطعام بحد ذاته! ولكن ماذا عساها أن تفعل مع قلقها ذاك على سوسن!!
وقبل أن تفكر بطريقة مناسبة لإجابة عامر، بادرها بقوله:
– على كل حال لم يكن صوتك خافتا بما فيه الكفاية، وقد سمعتك تتحدثين عن الحب! فهل أنت واثقة من حسن تعاملك معه؟؟
فاحمرت وجنتا نور حياء- إنه اتهام صريح، فلا شك أنها برأيه آخر من يحق له الكلام في موضوع كهذا!!- فقالت مبررة لموقفها:
– لقد قلت لك إنها فكرة رائعة، فالعرض مغري فعلا!
فابتسم عامر:
– حسنا.. لا داعي لكل هذه المجاملات، فأنت تعرفين أنني لستُ جائعا أيضا، وكل ما في الأمر أنني ظننتها فكرة جميلة لنخرج معا، ولكن بما أنك ترغبين بالحديث مع صديقتك قبل أن نسافر إلى كوكب آخر…
فقاطعته نور بانفعال واضح:
– هذا يكفي أرجوك، فأنت تشعرني بالذنب بكلامك هذا، وسأرافقك إلى أي مكان تريده شئتَ أم أبيتَ…
فأفلتت ضحكة صغيرة من عامر قبل أن يقول:
– هل تقولين هذا من أعماق قلبك، أم لتبرئة ذمتك وحسب؟!!!
وقبل أن يفسح المجال لنور، تابع بلهجة أكثر جدية:
– لا عليك يا عزيزتي فقد أعفيتك، ولكن أخبري صديقتك أن الحب الحقيقي الدائم لا يمكن استمراره بغير “التقوى”.. فالخلة أعلى مراتب المحبة، ومع ذلك إن لم يتحلى الأخلاء بالتقوى، فسينقلب هذا إلى عداوة بلا شك، آجلا أم عاجلا، كما بين الله سبحانه وتعالى في قوله: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)
وأضاف وهو يرمقها بنظرات ذات معنى:
– لذا.. في ظل شريعتنا، عندما يبحث الرجل الصالح التقي عن الزوجة الصالحة التقية، لا يبحث عنها لتكون شريكته في دنياه حتى مماته وحسب، بل ولتكون شريكته في الجنة إلى الأبد بإذن الله.. هذا هو الحب الحقيقي كما أفهمه..
سرت قشعريرة في جسد نور لسماع ذلك، فرددت بتأثر:
– اللهم اجعلنا من المتقين..
وإذ ذاك فاجأها عامر بقوله:
– من هذا المنطلق يا زوجتي العزيزة، قررتُ التنازل عن الوقت الذي كنت أنوي قضاءه معك، احتسابا لله، لعل كلامك مع صديقتك يكون سببا في…
وصمت قليلا قبل أن يتابع بابتسامة مرحة:
– زيادة حبك لي..
فتوردت وجنتا نور، وهي ترد عليه بابتسامة مماثلة:
– في هذه الحالة لن أنسى معروفك هذا أبدا، وسأعوضك عنه حتما..
فنظر إليها عامر:
– أهذا هو ردك! تعوضينني فقط!! بماذا؟؟؟
فأجابته نور:
– بالخروج في وقت آخر طبعا!
فضحك عامر بملء فيه معلقا:
– وكأنك لستِ من أصرّ قبل قليل على الخروج معي الآن شئتُ أم أبيت!!
عندها ردت عليه نور بانفعالها المعهود:
– كنت أظنك جادا في كلامك عن التنازل أيها الطبيب المحترم!!
غير أن عامر أجابها بلهجة لا تخلو من جدية:
– بالطبع جاد تماما، لكنني أحببت ممازحتك قليلا!! ثم إن طبيعة مهنتي تحتم عليّ مراعاة ظروف الآخرين، وسلامتهم النفسية، ولا شك أن صديقتك بحاجة للحديث معك الآن، فلا تتأخري عليها أكثر..
واستطرد بابتسامة مُحبة:
– أما التعويض.. فيكفيني أن تتذكري أمر اللوحة..
همّت نور بسؤاله عن أي لوحة يتحدث؛ لكنها أمسكت لسانها في اللحظة الأخيرة، وقد تذكرت موضوعها الذي يُفترض أن لا تنساه أبدا!! فاكتفت بابتسامة واثقة:
– بالتأكيد.. إن شاء الله..
فأردف عامر وهو يهم بالخروج من الغرفة:
– سأقوم ببعض الأبحاث على الشبكة، في قاعة الحاسبات…
وغمزها متابعا:
– يمكنك التحدث على راحتك الآن.. وفقك الله..
فابتسمت له نور بامتنان شديد:
– جزاك الله خيرا، وبالتوفيق لك أيضا..
وما أن خرج عامر حتى أصدر هاتفها نغمة استلام رسالة:
” اعذريني يا صديقتي العزيزة، فرغم أنني قرأت رسائلك بخصوص سفرك المفاجيء، ولا شك أنك مشغولة الآن، لكنني بحاجة ماسة لاستوضاح بعض الأمور منك، أرجو أن تتمكني من مهاتفتي قبل إقلاع طائرتك إلى خارج البلاد وجزاك الله خيرا”
وفورا.. ضغطت نور زر الاتصال، سائلة اهلن أن يلهمها الصواب، ويوفقها هي وصديقتها لما يحب ويرضى..

***

أخذت الخادمات في منزل سوسن يرقصن طربا، ويغنين فرحا بكلمات تعبر عن مقدار نشوتهن، إثر رؤية ذلك الخبر الذي انتظره جميع من في المنزل بفارغ الصبر..
حتى بهجة، أصبح اسمها عنوانا لوجهها تلك الليلة؛ رغم ما حل بها أوله!!
وأسرعت إحدى الخادمات لغرفة سوسن؛ لتزف إليها البشرى، غير أن بهجة استوقفتها بقولها:
– لقد دخلت الآنسة غرفتها للتو، ولا تريد إزعاجا الآن، خاصة وأنها تجري اتصالا هاما..
فارتسمت علامات خيبة أمل على وجه الخادمة بوضوح:
– ولكنه خبر هام أيضا! فهو يؤكد تلك المقولات حول ازدياد شعبية والدها في الجولة الانتخابية!! لقد حصد أكثر من نصف أصوات الناخبين في الفرز الأوّليّ، ولم يتبق لنا سوى انتظار إعلان النتيجة النهائية رسميا!!
وتابعت وهي تكاد تطير من الفرحة:
– هل تتخيلين معنى هذا يا كبيرة الخدم!! سنصبح مستخدمات لرئيس الوزراء مباشرة، يا لحظنا السعيد!!
فأومأت بهجة برأسها متفهمة:
– بالتأكيد أفهم هذا يا عزيزتي.. ولكن علينا احترام رغبة الآنسة سوسن، وسيكون بإمكانك اخبارها هذا في وقت لاحق..
وغمزتها باسمة:
– اطمئني.. سأحرص على أن تبلغيها هذه البشارة بنفسك!!
فهتفت الخادمة وهي تقفز بسعادة:
– شكرا لك.. لن أنسى لك هذا المعروف أبدا..
فيما تمتمت بهجة برضا:
– الحمد لله.. فالسيد كارم رجل طيب وكريم، ويستحق كل الخير فعلا..

***

في تلك اللحظة، و في مكان ما، في إحدى زوايا غرفة معتمة، تسلل ضوء القمر من شق النافذة، ليرسم ظلالا مخيفة لشخص غامض، بعد أن أغلق التلفاز الذي كان مصدر النور الوحيد في غرفته!
وبعصبية ظاهرة.. رمى من يده جهاز التحكم بالتلفاز، ليرتطم بطاولة صغيرة، كادت أن تبعثره إلى أجزاء متهشمة..
وبكل ما يعتمل في صدره من حقد وغضب، أطلق ضحكة ساخرة، رددت صداها أرجاء تلك الغرفة الشاحبة:
رئيس وزراء إذن!!!!!!!!!!
أنت تحلم أيها الوغد!!!
سأجعلك تذوق طعم الانتقام، بل وتتجرع مرارته بيدي هاتين، حتى تتمنى الموت ولا تجده!!!!
بل سأجعلك تمقت الساعة التي ولدتك فيها أمك!!!
وستجثو على ركبتيك أمامي، دون أن أرحم توسلاتك الذليلة أيها الحقير..
إضحك كما بدا لك الآن يا كارم.. فقد اقتربت لحظة الانتقام…

………
يتبع ان شاء الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

عاطل عن العمل – الجزء الثالث

عن القصة:

سمير شاب عاطل عن العمل، يحاول جاهدًا الحصول على عملٍ دون جدوى..
حتى اكتشف في النهاية سر هام!!

التصنيف: علمي، مغامرات، كوميديا

كانت الصدمة لا تزال تحلق فوق رأس سمير، فهذه هي المرة الثانية التي يسيء فيها تقدير الموقف؛ بعد ظنه أنه فهم قانون “الشغل” جيداً، مما أعمى بصيرته عن التركيز في كلام المسؤول حول مسألة  “القدرة”!!

ورغم مرور أسبوعين على الحادثة؛ إلا أن ذلك المشهد لم يغب عن ناظريه!! فقد تعادل مع حمدان بالفعل في إنجاز الشغل المطلوب، لكنه لم يفطن لعامل “الزمن” الذي منح حمدان الأفضلية، لكونه الأقدر على إنجاز الشغل في زمن أقل!

وأخذ سمير يضغط على رأسه بيديه، وهو يتمتم بإحباط شديد:

– لو أنني فقط كنت أعرف ذلك.. لو أن أحدهم أخبرني فقط بأن القدرة تعتمد على الزمن بالاضافة للشغل!!

لكنه سرعان ما استعاد وازعه الديني، فاستغفر ربه مردداً:

– قدر الله وما شاء فعل، لعله خير..
وبدون تفكير؛ تناول هاتفه ليطلب رقم صديقه “الفيلسوف”- كما اعتاد أن يسميه- فربما يجد لديه ما يخرجه من حالة الصدمة، لكنه تراجع عن ذلك في اللحظة الأخيرة، فلم يكن مستعداً لسماع المزيد من نصائحه وخطبه العصماء! وهكذا.. قرر استئناف عمله المعتاد بتصفح الاعلانات؛ على أمل أن يجد إعلانا جديدا لم يسبق له رؤيته!!

وأخيراً.. حصلت المعجزة، بعد أن وقعت عيناه على إعلان لم يسمع عنه من قبل!!

 وفي غضون ثلاث ساعات فقط، وبلهفة الغريق الذي يبحث عن القشة؛ كان سمير يقف وجهاً لوجه أمام مدير العمل الجديد، والذي رمقه بنظرات متفحصة من رأسه حتى أخمص قدميه؛ قبل أن يقول:

– تقول أنك مستعد لإنجاز هذا “الشغل” بلا كلل أو ملل، فهل أنت واثق من هذا؟

فأجابه سمير بثقة مطلقة، وظهره مشدود تماما، في حين رفع رأسه لأعلى، تاركا يديه منسدلتين باستقامة تامة على جانبيه، في وقفة عسكرية مثالية، تثير الاعجاب:

– بكل تأكيد يا سيدي، فالملل بحد ذاته قد مل مني، ولن يكون مستعداً للمجيء معي إلى هنا أيضاً!

فربت المدير على كتفه بابتسامة ذات مغزى:

– يسعدني سماع هذا.. والآن اتبعني..

سار سمير خلف المدير بحماسة منقطعة النظير، إلى داخل المصنع الضخم، حتى توقف أمام أحد خطوط التعبئة والانتاج، فأشار المدير إلى عربة- تشبه عربات مناجم الفحم الواقفة على سكة حديد- موضحاً:

– الأمر ليس صعباً، ولكنه قد يكون مملاً فقط، فبعد أن تمتليء هذه العربة بالمواد الخام تلقائيا من الأعلى، عليك أن تربطها بإحدى حلقات عصا التحريك المتحركة، حيث ستتكفل العصا بإزاحتها إلى الامام، لأن مسار العربات عندنا ثابت على خلاف بقية المصانع، ثم ستظهر لك عربة أخرى، وهكذا.. أي أن كل ما عليك فعله هو ربط سلسلة كل عربة- بعد امتلائها طبعا- بحلقة من حلقات عصا التحريك، واحرص أن يكون الشغل المبذول أكبر ما يمكن..

وقبل أن يهم سمير بطرح أي استفسار، وهو يتأمل الحلقات المثبتة على عصا التحريك بشكل رأسي؛ كان المدير قد اختفى من أمامه كمن تبخر في الهواء!!

ورغم القلق الذي استبد بسمير من ذلك الاختفاء المفاجيء، الذي لم يتح له السؤال عما يدور بخلده؛ إلا أنه تماسك، وبدأ بمراجعة قانون “الشغل”، محدثاً نفسه بصوت مسموع:

– الشغل هو حاصل ضرب القوة في الازاحة، ولكن القوة هنا ستأتي من عصا التحريك، والتي بدورها ستزيح العربة للأمام!! فأي شغل هذا الذي سأبذله، بربط سلسلة العربة فقط بإحدى حلقات عصا التحريك؟!!

ولكنه سرعان ما تذكر موضوع “القدرة”، فأسرع يربط سلسلة العربة، بحلقة عصا التحريك العلوية، قائلا لنفسه:

– لن أهدر الوقت بالتفكير أكثر، فرغم أن المدير لم يذكر لي أي شيء عن “القدرة” التي تعتمد على الزمن، إلا أنني لن اسمح لنفسي بارتكاب أي خطأ هذه المرة..
ولم تكد عصا التحريك تبدأ بجر العربة، بعد أن أحكم سمير ربطها بالحلقة؛ حتى عمّت المكان أنوار حمراء ساطعة، مع دويّ حاد لصوت صافرة إنذار، حضر المدير على أثرها فوراً، كأنما ظهر من العدم أمام سمير ليخاطبه بلهجة حادة:

– أنت مفصول!

ورغم أن سمير بدا رابط الجأش بشكل غير مألوف، كمن اعتاد الصدمات أخيراً، إلا أنه دافع عن نفسه باستماتة:

– على الأقل أخبرني بالخطأ الذي ارتكبته، فقد ربطتُ سلسلة العربة بإحدى الحلقات كما أخبرتني..

فأجابه المدير بنفاد صبر:

– وتجرؤ على الكلام أيضاً بعد أن أخطأتَ في اختيار الحلقة المناسبة!!

حملق فيه سمير بذهول، قبل أن يقول باستنكار:

– أنتَ لم تحدد أي حلقة من حلقات عصا التحريك عليّ استخدامها في ربط سلسلة العربة، لذا هذا ليس ذنبي..

فرد عليه المدير بصرامة، وهو ينوي إنهاء الحديث:

– بل أخبرتك.. ألم أطلب منك أن يكون الشغل المبذول أكبر ما يمكن؟!

صمت سمير لوهلة، لكنه سرعان ما تساءل بنبرة لا تخلو من اهتمام واضح:

– عفوا سيدي، ولكن ما علاقة اختيار الحلقة بانتاج الشغل، أليس الشغل يعتمد على القوة والازاحة فقط؟

ورغم أن المدير كان غاضباً، لكن لهجة سمير المتلهفة للمعرفة، هدّأت أعصابه قليلا، إذ لم يكن ليكتم علماً عن طالبه، فأجابه موضحاً:

– هذا صحيح، الشغل يساوي حاصل ضرب القوة في الازاحة، ولكنه لن يكون أكبر ما يمكن؛ إلا أن كانت القوة المؤثر باتجاه الازاحة تماما، وإلا فإن جزء من هذه القوة سيضيع، مما سيقلل من قيمة الشغل، وكلما كانت المركبة الأخرى للقوة المتعامدة على الازاحة أكبر، كان إنجاز الشغل أقل!

لم يفهم سمير تماما ما الذي قصده المدير باتجاه القوة ومركباتها،  لكنه شكره بأدب وانسحب بهدوء، وما ان خرج من باب المصنع حتى رن هاتفه، فأجابه بنبرة آلية:

– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ماذا تريد؟

فأتاه صوت صديقه “الفيلسوف” من الجانب الآخر:

– ما هذه اللهجة الجافة يا صديقي، أريد الاطمئنان عليك.. هل وجدت عملاً؟

فرد عليه سمير:

– لم أعد مهتماً بالأمر بعد الآن!

فسمع شهقة صديقه المفزوع من هول ما سمع:

– سمير.. صديقي العزيز، لا تقل أنك استسلمت وسترضى بأن تبقى عاطلاً عن العمل إلى الأبد.. أرجوك أجبني.. أين أنت؟؟

فانفرجت شفتا سمير عن ابتسامة مريرة، وهو يطمئنه:

– لا تقلق.. الأمر ليس بهذا السوء الذي تتصوره.. كل ما في الأمر أنني..
والتقط سمير نفساً عميقا قبل أن يتابع:

– لقد قررت يا صديقي أن أدرس الفيزياء أولاً!

وهكذا توقف سمير عن “البحث عن عمل”، ليبدأ بـ “طلب العلم”، فالجاهل عدو نفسه كما تعلمون!

غير أنه بعد اسبوع واحد من هذا القرار؛ تلقى اتصالا من مدير المصنع، ليعرض عليه فرصة ذهبية، بقوله:

– إن عرفتَ أي حلقة كان عليك استخدامها في جر تلك العربة ولماذا، فسأقوم بتوظيفك حالاً، مع توفير دروس فيزياء خاصة لك، براتب موظف كامل.. فما رأيك؟

دمعت عينا سمير من الفرحة، فقد جاءه الفرج أخيراً، وكل ما عليه فعله الآن هو الاجابة عن سؤال المدير، فهل يمكنكم مساعدته؟؟

وتذكروا.. أنه بناء على إجابتكم سيتحدد مصير سمير، فأنتم من سيقرر إن كان سيظل “عاطلاً عن العمل” أم لا!

وهكذا نكون وصلنا إلى نهاية قصة “عاطل عن العمل”، مع أمنياتنا لكم بعمل مفيد، وعلم نافع، وقل رب زدني علما..

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

عاطل عن العمل – الجزء الثاني

عن القصة:

سمير شاب عاطل عن العمل، يحاول جاهدًا الحصول على عملٍ دون جدوى..
حتى اكتشف في النهاية سر هام!!

التصنيف: علمي، مغامرات، كوميديا

كان سمير لا يزال يتجرع مرارة ذلك الموقف الأليم، الذي لم يستطع نسيانه طوال الأشهر الماضية، فرغم الظلم الذي شعر به؛ إلا أنه استسلم مرغماً للقانون في النهاية، والأمرّ من هذا كله؛ أنه طولب بتقديم تعويض مجزٍ للمدير عن الإهانة التي وجهها له!

كانت تجربة مريرة بمعنى الكلمة، لكنه حاول أن يلملم شتات نفسه من جديد، فقد قرر أن يتغير للأفضل، ولن يجعل أي عقبة تعيقه عن تحقيق هدفه، خاصة بعد تلك المحادثة التي أجراها مع صديقه الفيلسوف -كما يحب أن يطلق عليه دائماً- والذي قال له مواسياً:

 – هذه ليست آخر الدنيا! احمد الله أنك لا تزال على قيد الحياة، ويمكنك المحاولة من جديد… لا يهم كم من “المسافة” قطعت؛ إذا لم تحقق “الازاحة” المطلوبة! تخيّل لو أنك انتقلت إلى عالم الآخرة، ثم اكتشفت أن كل الجهد الذي بذلته في الدنيا كان هباء منثورا.. كيف سيكون شعورك حينها؟؟ ألم تسمع عن الاخسرين أعمالا؟ (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!)… لو كنت في ذلك الموقف (لا قدّر الله)؛ وقتها ستتمنى لو أنك قمت بإزاحة بسيطة على الأقل في حياتك (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز)! وعندها (لا قدر الله) يحق لك أن تبكي وتنتحب كما تشاء- رغم أن هذا لن يفيدك بشيء- إذ لن تكون هناك فرصة أخرى… أما الآن، فيمكنك البدء من جديد، ولا تنسَ أن أقصر طريق يوصلك لهدفك؛ هو الخط المستقيم!! لذلك كان طريق الجنة هو الصراط المستقيم! (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبع السبل فتفرق بكم عن سبيله).. تذكر هذا جيدا..

   حسنا… لم يكن هذا الصديق الفيلسوف؛ سيئاً في مواساته في النهاية، رغم أنه تمنى- مجرد أمنية- أن يجد له عملاً أيضاً؛ بدل الاكتفاء بإلقاء المواعظ!! ولكن لا بأس.. شيء أفضل من لا شيء!!

وهكذا.. استأنف سمير حياته من جديد، فتصفح اعلانات الوظائف كالعادة، حيث أصبحت هذه عادته؛ منذ أن التصقت به وصمة العار المستفزة “عاطل عن العمل!”

وبينما كان يحتسي فنجان من القهوة، وهو يطالع العناوين الرئيسية ببرود؛ لفته إعلان بالخط العريض:

 “وظيفة شاغرة براتب ممتاز جداً، للأقدر على القيام بالشغل المطلوب..”

شعر سمير بحماسة كبيرة لهذه الوظيفة، فبعد كل ما جرى له، سيكون الأقدر على تحمل عناء أي شغل، لا سيما وقد عرف القانون أخيراً! “قوةٌ في إزاحة”، هذا كل ما في الأمر! ولم يستغرق منه الأمر مزيداً من التفكير، إذ سرعان ما حسم أمره، وذهب إلى المقابلة فوراً ليصل في الوقت المحدد تماماً..

 كان هناك أربعة غيره يستعدون لدخول اختبار القبول، حيث قام المسؤول عن الاختبار بإعلان المهمة المطلوبة بقوله:

– ستدخلون الآن إلى هذه القاعة، حيث تجدون خمسة صناديق خشبية متشابهة في أحد جوانبها، والمطلوب من كل واحد منكم؛ أن يزيح أحد هذه الصناديق إلى أي مكان يختاره، والأقدر على انتاج هذا الشغل؛ سيتم ترشيحه للوظيفة فوراً..

 ابتسم سمير لنفسه:

– إنها خدعة الصناديق مرة أخرى.. من الجيد أنني مررت بتلك التجربة، فلن ألدغ من جحرٍ واحدٍ مرتين!

  وقبل أن يباشر الجميع المهمة، تساءل أحد المتقدمين قائلاً:

– ماذا إن حصل تعادل في انتاج الشغل؟

فأجاب المسؤول بثقة:

– الهدف من هذا الاختبار هو أن نوظّف الأقدر على انجاز الشغل المطلوب، فإذا تعادل اثنان في المركز الأول؛ فسيتم توظيفهما معاً على أن يكون الراتب بينهما مناصفة! والشيء نفسه سيتم تطبيقه في حالة تعادل ثلاثة أو حتى خمسة! في جميع الأحوال الراتب المخصص للمركز الأول؛ لن يتم تغييره!

 لم يجد سمير صعوبة في التعرف على منافسيه، فأحدهم كان طويلا بشكلٍ واضح، وكان يُدعى نخلة! ربما كان هذا لقباً اشتهر به وحسب، لكن سمير لم يهتم لذلك كثيراً! أما الثاني.. فقد كان قصيراً نوعاً ما، وكان يُدعى عُقلة، والثالث كان له من اسمه نصيب كبير، فقد بدا شاباً وسيماً جداً، وكان اسمه وسيم، أما الرابع- واسمه حمدان- فلم يكن به شيء مميّز!

دلف الجميع إلى القاعة، بعد أن اخبرهم المسؤول بآخر ملاحظاته:

– هناك كاميرات مراقبة سترصد تحركاتكم، ليكون التقييم عادلاً.. وسأعود إليكم قبيل أذان الظهر إن شاء الله، لأعلن لكم النتائج..

كانت القاعة دائرية الشكل، تبدو فارغة تماماً من الوهلة الأولى، فيما قبعت الصناديق في أحد جوانها إلى جانب الجدار!

وما أن خرج المسؤول وأغلق الباب خلفه، حتى هرع المتنافسون باتجاه الصناديق، وكل واحد منهم بدأ بإزاحة، صنوقٍ من مكانه! أما سمير فقد كتك ضحكة كادت أن تفلت منه، وقد ذكره منظرهم بما حدث معه في تلك الشركة!

ابتسم لنفسه بثقة:

– سأسلك أطول خط مستقيم يفصلني عن نقطة البداية، وبهذا فقط؛ سأحقق أكبر إزاحة ممكنة! وهذا يعني أنني سأزيح الصندوق بخطٍ مستقيم إلى الجهة المقابلة لهذا الجدار.. باختصار بما أن القاعة دائرية، فإن المسافة بين أي نقطة على هذا الجدار، والنقطة على الجدار الذي تقابله ستمثل قطر هذه القاعة، وهي أكبر إزاحة ممكنة في هذا المكان!

 كان سمير يشعر بالفخر الشديد والثقة العالية بنفسه لهذا التحليل الذكي، خاصة وهو يرى “نخلة” يحرك صندوقه باتجاه اليمين ملاصقا للجدار، وخمن أنه ينوي السير بمحاذاة جدار القاعة ليسلك مسار محيط الدائرة حتى يعود إلى نقطة البداية، فيما كان عقلة، يفعل مثله ولكن باتجاه اليسار! أما وسيم فقد كان يسلك طريقا عشوائيا داخل القاعة! لقد ذكّره بنفسه سابقاً بشكل كبير! ورغم أن سمير شعر بالشفقة عليهم، لكنه اقنع نفسه:

– هذه منافسة بيننا، وسأكتفي بالتركيز على هدفي.. لقد آن الأوان كي أتصرف بذكاء هذه المرة، فالقانون لا يحمي المغفلين..

وأخيراً بدأ سمير بإزاحة صندوقه، باتجاه النقطة المقابلة من الجدار، ليجد حمدان أمامه وهو يسير بذلك الاتجاه..

ورغم الارتباك الذي شعر به سمير من الوهلة الأولى، لكنه طمأن نفسه قائلاً:

– لا بأس.. حتى ولو فطن إلى الحيلة، وفهم القانون مثلي، فيمكننا أن نتعادل في انجاز هذا الشغل.. ستكون مناصفة الراتب بيننا نحن الاثنين؛ فكرة لا بأس بها..

 وكتم ضحكة صغيرة كادت تفلت منه، وهو يتخيل خيبة أمل حمدان، الذي ربما يظن نفسه الوحيد الذي فطن إلى هذا الأمر!

لكن صدره انقبض قليلاً، إثر فكرة أخرى خطرت بباله..

 ماذا لو انتبه الجميع إلى هذه الخطة! هذا يعني أن الراتب سيصبح زهيداً جداً في النهاية!! من الأفضل أن يتظاهر بأنه سيذهب إلى مكان آخر، حتى لا يثير انتباه الآخرين إلى ذلك المكان أيضا! أو ربما يتلكأ قليلاً في الحركة، فإنجاز الشغل يعتمد فقط على القوة والازاحة، وبما أن الصناديق متطابقة تماماً؛ فقوة دفعها ستكون واحدة، وهذا يعني أن العامل الوحيد الذي سيؤثر في مقدار الشغل المُنجز- في هذه الحالة- هو الازاحة فقط!

اطمأن سمير لهذه الفكرة، لا يزال أمامه متسع من الوقت قبل أذان الظهر، لكنه سرعان ما تذكر قصة الأرنب والسلحفاة، وخشي أن تغفو عينه فيفوته الفوز في النهاية، وهكذا بدأ بالتحرك باتجاه الهدف، فيما كان حمدان قد اقترب فعلاً من تلك النقطة..
   وأخيراً.. حانت اللحظة الحاسمة، ودخل المسؤول إلى القاعة في الوقت المحدد تماماً..

كان سمير يقف إلى جانب حمدان مع صندوقيهما، في الجهة المقابلة لنقطة البداية، أما عقلة ونخلة فقد عادا إلى نقطة البداية؛ بعد أن سلكا مسار محيط القاعة الدائرية بأكمله! في حين كان وسيم؛ يقف مع صندوقه في وسط القاعة!

 ورغم الشفقة الكبيرة التي شعر بها سمير تجاه الثلاثة، إلا أنه كان سعيداً جداً لانجازه هذا الشغل على أكمل وجه، لم يتبق عليه سوى الاستماع لاسمه واستلام وظيفته..
   ولكن.. ويا للصدمة، نطق المسؤول باسم الفائز قائلاً:

– حمدان.. تفضل معي لمقابلة المدير واستلام وظيفتك!

تعالت أصوات الاحتجاج في القاعة، فقد اعترض نخلة وعقلة على النتيجة، ووصفوها بالظلم الكبير، إذ أنهما لم يستريحا ولو للحظة واحدة، حتى يسلكا أطول مسافة ممكنة! فيما بقي وسيم صامتاً، أما سمير فقد ارتسم الذهول على وجهه بشكل واضح:

– لماذا!!! ألستُ متعادلاً مع حمدان!!! ألم يبذل كلانا الشغل نفسه!!
وبينما حاول المسؤول شرح قانون الشغل لعقلة ونخلة، استعاد سمير ثقته بنفسه، فاتجه نحو المسؤول بحزم قائلاً:

– اسمعني أيها المسؤول.. إنني أعرف جيداً هذا القانون، بل لقد حفظته عن ظهر غيب! فهل تنكر أنني تعادلتُ مع حمدان في انجاز هذا الشغل؟؟ ألا يعتمد الشغل على القوة والازاحة فقط! وبتساوي أوزان الصناديق، مما يعني أن قوة دفعها في النهاية ستكون واحدة، فهذا يعني أن الازاحة هي التي ستحكمنا في هذه الحالة.. وبما أنني وحمدان قطعنا الازاحة نفسها، فهذا يعني أننا متعادلين في الشغل!

كان المسؤول يستمع لسمير بهدوء، حتى إذا ما أنهى كلامه، أجابه بقوله:

– أولاً قوة دفع كل واحد منكم للصندوق لا تعتمد على وزن الصندوق! فوزن الصندوق متجهاً للأسفل باتجاه مركز الأرض، وأنت تدفع الصندوق باتجاه افقي- أي عامودي على اتجاه وزنه- وهذا يعني أن قوة وزن الصندوق لا تنتج شغلاً أبداً في الاتجاه الأفقي (سيكون هذا صحيحاً لو أنكم ترفعون الصناديق إلى أعلى)، بالطبع يؤثر وزن الصندوق على قوة الاحتكاك المعاكسة لقوة الدفع الأفقية، لكن بشكل عام لا يمكننا اعتبارها تؤثر في انجاز شغل افقي، خاصة لو تجاهلنا قضية الاحتكاك!.. ومع ذلك يمكننا تجاهل هذه القضية بأكملها في الوقت الحالي، ويمكننا القول مجازاً؛ أن قوة دفعكم للصندوق كانت متساوية، في هذه الحالة..  أجل كلامك صحيح.. أنتما متعادلين في انجاز هذا الشغل!

كاد سمير أن يفقد صوابه مما سمعه، ورغم أنه لم يفهم ما قصده المسؤول بالاتجاه العمودي والافقي، والاعلى والاسفل والاحتكاك،.. الخ؛ لكنه تشبث بقشة الأمل الأخيرة (يمكننا تجاهل هذا كله)! فقال بحزم:

– ما دمت تعترف بأنني وحامد أنجزنا الشغل نفسه؛ فلماذا اخترتموه وحده إذن؟

فقال المسؤول بهدوء:

– صحيح أنكما بذلتما الشغل نفسه، على افتراض أن قوة دفعكما كانت متساوية، لكن الاختبار كان لاختيار “الأقدر” على انجاز هذا الشغل.. وللأسف يا أخي، هناك عامل هام آخر يدخل في حساب القدرة (غير القوة والازاحة)، ويبدو أنك أهملته تماماً، رغم أهميته الكبيرة!!

**
ترى.. ما هو ذلك العامل الهام؟

**

عاطل عن العمل – الجزء الأول

عن القصة:

سمير شاب عاطل عن العمل، يحاول جاهدًا الحصول على عملٍ دون جدوى..
حتى اكتشف في النهاية سر هام!!

التصنيف: علمي، مغامرات، كوميديا

مضت نصف ساعة بالتمام والكمال؛ وسمير مرابط أمام مكتب مدير أكبر الشركات في مدينته! كان شاباً يافعاً قرر تغيير حياته للأفضل، لعله يتخلص من اللقب الذي التصق به كوصمة عار لا تفارقه “عاطل عن العمل!”

مرت نصف ساعة أخرى، وسمير لا يزال مصراً على موقفه، وهو يخاطب السكرتير بصرامة:

– لن أغادر هذا المكان قبل أن أحصل على “شغل”!

وأمام عناده المستميت، وجد نفسه وجهاً لوجه أخيراً؛ أمام مدير الشركة!

كان رجلاً في الخمسين من عمره، لا تشي ملامحه بأي شيء على الاطلاق!

لم يكترث سمير لمظهره كثيراً؛ بل أسرع يعرض هدفه بحماسة:

– أريدك أن تجد لي “شغلاً” هنا، أي “شغل”.. أي “شغل” من فضلك!

تفحصه المدير باهتمام؛ قبل أن يحرك شفتيه بصوتٍ لا يكاد يُسمع:

– لا توجد لدينا وظائف شاغرة..

غير أن سمير أعاد طلبه باستماتة، وكأنه لم يسمع ما قيل:

– أقول لك من فضلك أي “شغل”.. أي “شغل” يخطر ببالك، أو لا يخطر ببالك، وسأكون على استعداد تام للقيام به.. أرجوك.. أريد أن أصبح مشغولاً، ولو لمرة واحدة في حياتي!

لاذ المدير بالصمت لوهلة، قبل أن ينهض من مكانه، مشيراً لسمير كي يتبعه..

قطع المدير الممر الطويل، وصعد الدرج، متجهاً نحو غرفة في الطابق العلوي، فيما تبعه سمير بهدوء تام، رغم أن الشكوك كادت أن تقتله! إلى أين سيأخذه المدير يا ترى!! ولماذا هو صامت هكذا!! لكنه خشي أن ينبس بكلمة تفقده أي عمل محتمل!!

 فتح المدير باب الغرفة بمفتاح خاص في جيبه، ليُفاجأ سمير ببَهوٍ واسع جداً، خالٍ من أي شيء يُذكر، إلا من مجموعة صناديق مكومة فوق بعضها البعض، في أحد زوايا ذلك البهو!!

 التفت المدير نحو سمير، مستفهماً:

– قلتَ بأنك تريد أي “شغل” لتقوم به، أليس كذلك؟

أومأ سمير رأسه بذهول:

– أجل..

فتابع المدير كلامه بابتسامة غريبة:

– حسنا.. عليك أن تزيح هذه الصناديق من مكانها، وسأعطيك ثمانية ساعات كاملة للقيام بهذه المهمة، وإذا عدتُ ولم أجدك قد قمت بهذا الشغل، فلا ترني وجهك مرة أخرى.. أما إن نجحت فيها… فاعتبر نفسك موظفاً في المنصب الذي تختاره، منذ صباح اليوم التالي! أما راتبك؛ فسيكون بمقدار “الشغل” الذي بذلته..

وقبل أن ينطق سمير بحرف واحد؛ كان المدير قد اختفى!!

 لم يبرح سمير مكانه لبرهة! هل حقاً حصل على “شغل”!!

غير أن الشكوك سرعان ما نهشت عقله:

– لا بد أن في الأمر خدعة ما!

واستدرك فجأة:

– ولكن إلى أين سأزيح الصناديق!! لم يخبرني المدير بالأمر!! ثم لماذا سأحتاج ثمانية ساعات للقيام بمهمة كهذه!!!

لكنه قرر الاستسلام للواقع، فسيبدأ بإزاحة الصناديق كما قال المدير، ثم ليكن ما يكون…
   لم يستطع سمير في البداية مقاومة فضوله، وهو يتساءل عن محتوى هذه الصناديق الخشبية، فقد بدت ثقيلة الوزن، لكنه حدث نفسه محفزاً:

– قد يكون هذا جزء من الاختبار، ربما يريد المدير التأكد من أمانتي.. لذا عليّ تنفيذ مهمتي فقط..

مضت الساعة الأولى؛ وسمير مستغرق تماما في إزاحة الصناديق من مكانها بحماسة، لم يكن الأمر سيئاً في النهاية..

وبعد الساعة الثانية؛ كان قد كومها فوق بعضها في مكان آخر، من البهو الواسع..

ولم يكد يلتقط أنفاسه من جديد، حتى وجد أنه لا يزال أمامه أكثر من خمس ساعات قبل عودة المدير، وبدأ الفضول حول محتوى الصناديق يراوده من جديد، فقرر إشغال نفسه بإزاحة الصناديق مرة أخرى، فربما لم يكن هذا هو المكان الأفضل، الذي يرضي المدير!
وهكذا انقضت الساعة الثالثة والرابعة؛ مثل الساعتين الأولى والثانية..

حتى سمع صوت الأذان، لا بد أنه وقت صلاة الظهر..

فكر مليا.. كيف فاته سؤال المدير عن أمر هام كهذا!! أين الحمام؟ حتى وإن كان على وضوء، فأين القبلة!!! ثم هل سيفوته أجر الجماعة، ويصلي منفرداً!! غير أن الهواجس سرعان ما تبخرت من عقله، إثر استماعه لجلبة في الخارج، تلاه صوت طرق على الباب..

 أطل عليه السكرتير مبتسماً:

– مصلى الشركة في آخر هذا الممر، ستقام الصلاة بعد قليل، يمكنك المجيء للصلاة معنا جماعة- إذا أحببت- قبل أن تتابع شغلك..

  الجملة الأخيرة، كانت أكثر ما علق بذهن سمير.. “أتابع شغلي!!”، هذا يعني أنه من المفترض أن الشغل لم ينتهي بعد!! ترى هل إزاحتي للصناديق بهذا الشكل؛ غير كاف!! وهمّ بالاستفسار من السكرتير أكثر، لكنه خشيَ أن يؤثر هذا على تقييمه!

ما أن قُضيت الصلاة، التي لم يستطع سمير الخشوع في أي ركعة منها كما يجب؛ حتى هرع مباشرة إلى البهو، وقد تذكر تلك العبارة الجوهرية “سيكون راتبك بمقدار الشغل الذي بذلته”! لا يزال أمامه متسع من الوقت لبذل شغل أكبر! لا وقت للراحة الآن، كلها ساعات معدودة؛ ويحصل على وظيفة الأحلام الوردية!! كانت هذه الأفكار تداعب مشاعر سمير طوال الساعات المتبقية، وهو يزيح الصناديق من مكان إلى مكان، بهمة ونشاط..

وأخيراً، قَضيت الساعات الثمانية، ودخل المدير إلى البهو في الوقت المحدد تماماً، فيما ارتسمت نشوة الانتصار على وجه سمير، الذي كان يتقاطر عرقاً..

لقد فعلتها!!

غير أن المدير رمقه بنظرة ذات معنى، قائلاً بهدوء:

– كما اتفقنا… لا ترني وجهك مرة أخرى!!!

لم يستطع سمير تمالك نفسه من هول الصدمة، فصرخ بفزع:

– مستحيل!!! ما الذي تقوله يا رجل!! لم أبذل في حياتي كلها شغلاً؛ كما بذلته اليوم!! لا شك أنك تمزح…. بل إنها مزحة سخيفة لا يمكنني احتمالها أبداً..

  وعلى صوت تلك الجلبة، هرع السكرتير برفقة عدد من الرجال نحو البهو، ليجدوا سمير في حالة هيجان لا تصدق! لقد وصل به الحال أن أمسك بتلابيب ثوب المدير، ليهزه بشدة في حالة من الهيستيريا!!!!!

 لم يدر سمير ما الذي جرى بعد ذلك، فقد كانت الصدمة أقوى من أن تحتملها ذاكرته، حتى وجد نفسه أخيراً في قاعة المحكمة!

انتبه على صوت مطرقة القاضي..

– هيا تكلم… قل ما لديك..

وبدون تردد؛ وجد سمير نفسه يسرد كل ما حدث معه منذ البداية، وختم حكايته المؤثرة بقوله:

– أبعد ثماني ساعات من الشغل المتواصل، يأتي هذا الرجل ليتبجح بقوله أنني لم أبذل شغلاً!! أي عقلٍ يصدق هذا الهراء!!

ورغم أن المدير لم يكذّب شهادة السكرتير- الذي اعترف بأنه رأى الصناديق مزاحة إلى مكان مختلف، عندما جاء لينبه سمير بخصوص وقت الصلاة- إلا أنه أصرّ على موقفه قائلاً:

– بعد ثمانية ساعات كاملة، عدتُ لأرى الصناديق في مكانها الذي تركته.. وهذا يعني أن المدعو سمير؛ لم يبذل أي شغل في النهاية!

كاد سمير أن ينقض على المدير ليقطعه إرباً إرباً، لولا أن أمسك به الرجال، ليمنعوه من الحركة، فيما وجّه القاضي كلامه لسمير الهائج:

– هل صحيح أن المدير عندما عاد، وجد الصناديق في مكانها الأول؟

لم يستطع سمير إنكار ذلك، لكنه قال بانفعال:

– ربما أعدتُ الصناديق إلى مكانها الأول دون قصد، ولكن هذا لا يعني أنني لم أبذل شغلاً!! لقد استنفذتُ قوتي كلها، وآثار الصناديق على أرضيه البهو؛ تشهد أنها لم تترك شبراً واحداً إلا ومرّت به، ثم يأتي هذا المعتوه ليقول؛ أنني لم أبذل شغلاً في النهاية!! هذا ظلم… ظلــم.. ظلــــــــــم…

تنهد القاضي قبل أن يطرق بمطرقته من جديد، معلناً بحزم:

– بحسب قانون الشغل المعروف، فإن….

وخيّم السكون على القاعة بترقبٍ لاستماع حكم القاضي الفاصل،  ترى.. ماذا كان الحكم؟

وكيف ستتصرفون لو كنتم مكان القاضي؟

وما هو رأيكم بهذه القضية بشكل عام؟؟

عاطل عن العمل

عن القصة:

سمير شاب عاطل عن العمل، يحاول جاهدًا الحصول على عملٍ دون جدوى..
حتى اكتشف في النهاية سر هام!!

التصنيف: علمي، مغامرات، كوميديا

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

عاطل عن العمل!!

قصة علمية قصيرة من ثلاثة أجزاء تفاعلية، توضح مفاهيم فيزيائية (الشغل، والقدرة، والمتجهات)

سر الآلة رقم 11

عن القصة:

أن ينسى الإنسان محفظة نقوده أو يصاب بالإفلاس لأي سبب؛ لهو شعور مزعج حقًا ويسبب الضيق بلا شك!
ولكن بالنسبة لنجمة فالأمر مختلف! فهذا على رأيها يعني ببساطة أننا على “موعد مع المغامرة”!..
فما هي طبيعة هذه المغامرات التي تخوضها نجمة، وما سر الآلة رقم 11؟!

التصنيف: شريحة من الحياة، مغامرات

قالت هبة:

– لم تخبريني بعد عن الكيفية التي عدتم بها إلى المنزل ذلك اليوم؛ دون صرف الدينار الثاني؟

فغمزتها نجمة باسمة:

– لقد اعتمدنا بشكل رئيس على الآلة رقم 11!

فعلقت هبة:

– أنا اتحدث بجدية يا نجمة!

فردت نجمة بتبرة مشابهة:

– وأنا أتحدث بجدية أيضا، لقد استخدمنا الآلة نفسها التي استخدمها خالي في الماضي!

قطبت هبة بين حاجبيها بتساؤل واضح، في حين بادرتها نجمة بضحكة مرحة:

– دعيني اخبرك عن قصة هذه الآلة أولاً، وعندها ستعلمين بأنني لا أمزح!

***

عندما كنتُ صغيرة، كنا نقضي معظم إجازة الصيف في بيت جدتي رحمها الله، حيث يعتبر منزلها من أوائل المنازل التي بنيت في منطقة خلاء فسيحة، بعد أن قررتْ الابتعاد عن ضوضاء المدينة، لذا كنا نقضي الوقت باللعب فوق الصخور، ومراقبة الاغنام، والقيام بالعديد من المغامرات الممتعة، التي تنتهي عادة بخدوش أو جراح مؤلمة، وملابس ممزقة!

غير أن أكبر أمنياتنا التي لم تتحقق هي مرافقة خالي في مغامراته الخاصة! إذ كنا نستمع لحكاياته بانبهار شديد، والذي يبدأ عادة بجواب على سؤال بسيط:

– خالي، لماذا تستخدم هذه العصا؟

وهنا تبدأ الحكاية!! كان ماهرا بحكاية القصص، بإخراج مسرحي يحبس الانفاس، ولا زلتُ أذكر حتى الآن ما أخبرنا به من مواجهة الكلاب الشرسة، التي كانت تطارده إثناء ذهابه لصلاة الفجر!! فالمنطقة غير مؤهولة، والطريق للمسجد بعيد، وحتى يختصر الطريق كان بسير عبر الجبل المليء بالاشواك بحذر شديد!!

كنا نتمنى أن نتمكن من المشاركة في مغامرة صلاة الفجر المثيرة!!

وذات يوم، ورغم أنني نسيت التفاصيل، لكنني لا زلتُ أذكر لهفتنا الشديدة لمعرفة كيف عاد خالي إلى المنزل ذلك اليوم! لقد قال لنا بثقة بعد أن باءت محاولات تخميننا بالفشل:

– لقد استخدمت الآلة رقم 11!

وهنا بدأت الحماسة تشتعل من جديد، وبفضول الأطفال وخيالهم الواسع بدأت الأسئلة تنهمر على خالي بغزارة:

– أين هذه الآلة؟

– أرنا إياها يا خالي أرجوك!

– كيف شكلها؟

– من أين حصلت عليها؟

– هل يمكننا استعمالها نحن أيضا؟

وبعد معاناة شديدة، قُتل فيها الفضول بداخلنا قتلاً؛ أجابنا خالي باسما وهو يشير إلى ساقيه:

– هاتين الساقين هما أفضل آلة أنعم الله بها علينا، ألا تشبهان الرقم 11؟

وهنا عرفنا سر الآلة رقم 11 أخيراً، ولا زلتُ أقدّر استعمالها بشدة، حتى هذه اللحظة!

***

ضحكت هبة بعد أن انهت نجمة سرد ذكرياتها، قائلة:

– يا لهذه الآلة العجيبة، لقد شوقتيني لاستخدامها أيضاً..

لكنها هتفت فجأة:

– هل هذا يعني أنكم عدتم في ذلك اليوم مشيا إلى المنزل من المكتبة العامة؟؟ مستحيل فالمكان بعيد جدا!!

فابتسمت نجمة:

– لم يكن الأمر كذلك بالضبط، فبعد خروجنا من المكتبة العامة، سلكنا الطريق الذي اكتشفته في مغامرة سابقة تشبه قصة ليلى والذئب! كان الطريق يؤدي إلى “وسط البلد”، وهناك ركبنا حافلة مجانية، اكتشفتُ وجودها في وقت سابق، بكونها تابعة للأمانة العامة! وهكذا نزلنا عند أقرب نقطة قد توصلنا إلى المنزل، على أمل أن نعثر على سيارة أجرة، لتصعد بنا الطريق الجبلي!! وبالطبع كنا سعداء جدا، لأن صعود الطريق الجبلي في سيارة الأجرة لن يكلفنا أكثر من دينار واحد بالعادة، وهكذا ضمنا طريق العودة!!

لكن انتظارنا طال جدا، حتى ازداد ظلام الليل، دون أن تظهر أمامنا سيارة أجرة فارغة!! وهنا اقترحت أختى صعود الدرج الذي لم أكن أعلم عن وجوده سابقا، لكنها أكدت لي:

– أذكر أنني نزلته مع أمي قبل مدة، إنه يختصر الطريق كثيرا!

وبالطبع، ما دمنا قد قررنا أن نفقد الأمل بالعثور على سيارة أجرة؛ فلم يكن أمامنا بد من الذهاب مشيا إلى المنزل، وسيكون الدرج المختصر هو الحل المثالي بلا شك، بدل السير على الطريق الممهد للسيارات، والملتف حول الجبل صعودا إلى قمته!

لا أنكر أنني تحمستُ للفكرة في البداية، فلم أكن قد سمعتُ عن هذا الدرج من قبل، لا سيما وأنه كان شبه مخفي بين البيوت، كما أنه لم يكن عريضا بما فيه الكفاية لتتم ملاحظته بوضوح!

صعدنا الشارع شديد الانحدار بالبداية ونحن نلتقط انفاسنا بصعوبة؛ حتى وصلنا إلى بداية الدرج! ولأن الظلام قد حل، فلم نتمكن من رؤية نهايته، رغم أننا شاهدنا ما يشبه الجدار على مد البصر أمامنا، وقد خمنتُ في البداية أنه سيكون نهاية الدرج الذي سيوصلنا للشارع العلوي!! كانت البيوت على جانبي الدرج مظلمة، حتى شككتُ أن هناك من يسكنها من الانس!! ومما زاد من شكوكي هو رؤيتنا لبيت مهجور قد تهدمت جدرانه على الجانب الايمن من الدرج!! كان الجو يصلح بشكل مثالي لإخراج قصة رعب من الدرجة الأولى! استعذنا بالله من الشيطان الرجيم، وتأكدنا من قراءة اذكار المساء مرة أخرى، وتابعنا الصعود، حتى لاح أمامنا الجدار الأبيض بشكل واضح!! كدت اصرخ:

– لا تقولي أن الطريق مسدود بعد هذا كله؟!! هل أنت متأكدة من أنه الدرج نفسه الذي نزلتيه مع أمي؟ إنه يقطع الانفاس!

فدافعت أختي عن نفسها بحدة:

– بالفعل نزلناه، ولكن حدث هذا من فترة طويلة، ربما أجروا بعض التعديلات عليه!! ثم إن نزول الدرج ليس كصعوده، عليك أن تعلمي هذا بالبديهة!!

كادت الحيرة أن تقتلنا! هل نتايع صعود هذا الدرج المتعب حتى نتأكد بأنفسنا إن كان الطريق مسدودا أم لا؟ أم ننزل الدرج بعد أن قطعنا شوطا كبير فيه، لنسلك طريق السيارات الطويل الملتف!!!

ومن لطف الله بنا، أن شاهدنا امرأة بشرية تنشر الغسيل على سطح احد البيوت في الجانب الأيسر من الدرج، فألقينا عليها التحية بصوت عال، قبل أن نسألها:

– هل هذا الدرج يؤدي إلى الشارع العلوي؟

فطمأنتنا السيدة بإجابتها التي شجعتنا على المتابعة..

الحمد لله، هناك بشر هنا على الأٌقل!!

وصلنا الجدار الأبيض أخيرا بشق الأنفس، فإذا به فتحة مواربة تؤدي إلى بقية الدرجات الصاعدة للأعلى، ويا للهول!! اكتشفنا أننا لم نصعد سوى نصف الدرج فقط!!! يبدو أن الجدار تم بناؤه حتى يُخفي هذه الحقيقة المرة عن الصاعدين، فلا يصيبهم الاحباط من طول الدرج في البداية!!!

شعرتُ بصداع في رأسي، وكأن فرق الضغط الجوي بدأ يؤثر بي (أو هذا ما توهمته في تلك اللحظة، فنحن لا نصعد جبال الهملايا على أية حال!!) أما أختى فقد قررت الجلوس:

– لا يمكنني المتابعة، أكاد أموت من التعب!

ورغم صداع رأسي، لكنني بقيت صامدة باستماتة شديدة:

– ماذا!! هل سنجلس هنا في هذا المكان الموحش! نحن لا نعرف هذه المنطقة، ولا نعرف من قد يخرج لنا من هذه البيوت!! أو من سيفاجئنا على هذا الدرج، والظلام قد اصبح حالكا أكثر!!

غير أن أختي بدت غير مبالية أبداً بكل ما سمعته! ولستُ ألومها، فقد كانت تساعدني في حمل الكتاب الضخم الذي استعرته من المكتبة، ومن واجبي أن أحرص على راحتها، خاصة وأن الخدمة التي تقدمها لي الآن لا تقدر بثمن!!

ومع ذلك.. قررتُ متابعة الصعود على أمل أن تلحق بي، ولعلي اطمئن قليلا برؤية أنوار الشارع! وبينما أنا كذلك، إذ سمعتُ صوت شاب خلفي!

يا إلهي!! ما الذي تفعله أختي! لقد أصبحنا بعيديتن عن بعضنا البعض! ربما كان علي الانتظار إلى جانبها؟ لكنني لم أتوقع أن تبقى جالسة حتى الآن! أرجو أن لا يكون هذا الشاب شريرا، وإلا فالله وحده يعلم ما الذي قد يحل بنا!

حبستُ أنفاسي قليلا، وبدا الشاب مشغولا بالحديث في هاتفه، ولا أظنه انتبه لوجودنا أصلا، الحمد لله هذا أفضل!

توقفت قليلا حتى لحقتني أختى، دون أن يخفى علينا ملاحظة رشاقة الشاب في صعود الدرج ما شاء الله، وكأنه يقفز في الهواء، حتى وصل الشارع قبلنا!! يبدو أن الآلة رقم 11 الخاصة بنا تعاني من بعض الصدأ، وتحتاج لمزيد من التمرين!!

وصلنا الشارع أخيرا والحمد لله، ولكن.. تبين لي أننا لم نقطع سوى ربع الطريق نحو المنزل!! لقد خيّل لي من طول الدرج بأننا إذا وصنا نهايته فسنكون أمام شارع منزلنا!! ولكن الحمد لله، اصبحت الشوارع أمامنا الآن أقل انحدار، وأكثر إيناسا بأنوارها الساطعة، فتابعنا المشي بهدوء!!

كانت تلك هي المرة الأولى التي اعود فيها للمنزل مشيا من هذا الطريق! وبلا شك؛ كانت فرصة مناسبة للرد على تحدي أختي التي قالت لي ذات مرة أن المجيء من هذا الطريق أقرب لمنزلنا من الطريق الطويلة الأخرى!

لا أظنها الآن ستصر على قولها بأن هذا الطريق أفضل!

******

تنفست نجمة الصعداء وهي تنهي قصتها، فيما قالت هبة:

– الحمد لله على سلامتكم!

وابتسمت متابعة:

– لا شك أن أنفاسك تقطعت مرة أخرى وأنت تستشعرين صعود الدرج، لذا سأدعك تستريحين الآن، قبل أن أسألك عن مغامرتك السابقة وعلاقتها بقصة ليلى والذئب؟

فضحكت نجمة:

– يا لك من صديقة كريمة، وهكذا يمكن لنجمة أن تأخذ استراحة من سرد مغامراتها العظيمة!

غير أن هبة استدركت قائلة:

– لحظة لحظة، هل هذا الباص المجاني التابع للأمانة حقيقي؟

فأومأت نجمة برأسها مؤكدة:

– وهل تظنيني انسج قصصا من وحي الخيال! هناك الكثير من الاشياء التي نجهلها عن مدينتنا، حتى متحف القلعة، دخلته مجانا!

فهتفت هبة بحماسة:

– تقصدين تلك المتعلقة بغامرة “جبل القلعة”؟

فتنهدت نجمة منهية الحديث بابتسامة:

– لقد تشعبنا بعد أن كنتُ على وشك الراحة، وهكذا حان لنجمة أن تأخذ استراحة..

سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..

وصل اللهم على سيدنا محمد و على آله وصحبه و سلم

_________________

_______تمت_______

مغامرات نجمة

عن القصة:

أن ينسى الإنسان محفظة نقوده أو يصاب بالإفلاس لأي سبب؛ لهو شعور مزعج حقًا ويسبب الضيق بلا شك!
ولكن بالنسبة لنجمة فالأمر مختلف! فهذا على رأيها يعني ببساطة أننا على “موعد مع المغامرة”!..
فما هي طبيعة هذه المغامرات التي تخوضها نجمة، وما سر الآلة رقم 11؟!

التصنيف: شريحة من الحياة، مغامرات

موعد مع المغامرة

عن القصة:

أن ينسى الإنسان محفظة نقوده أو يصاب بالإفلاس لأي سبب؛ لهو شعور مزعج حقًا ويسبب الضيق بلا شك!
ولكن بالنسبة لنجمة فالأمر مختلف! فهذا على رأيها يعني ببساطة أننا على “موعد مع المغامرة”!..
فما هي طبيعة هذه المغامرات التي تخوضها نجمة، وما سر الآلة رقم 11؟!

التصنيف: شريحة من الحياة، مغامرات

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

بدى الوجوم على وجه هبة وهي تبحث في حقيبتها بقلق واضح، عندما لاحظتها نجمة، فسألتها باهتمام:

– خير إن شاء الله؟

فترددت هبة قبل أن تقول:

– يبدو أنني نسيت محفظة نقودي!!

فما كان من نجمة إلا أن هتفت بحماسة:

– هذا يعني أنك على موعد مع المغامرة!

غير أن نظرات هبة المندهشة، جعلت نجمة تبادر للتوضيح قائلة:

– إنني فعلا اتفهم موقفك يا عزيزتي، وأشعر معك، فمن المزعج أن ينسى الانسان محفظة نقوده بلا شك، ولكن هل تدركين كم من المغامرات يمكنك خوضها بسبب هذا!

ولم يخفَ على نجمة ملاحظة الضيق الباد على وجه هبة، وهي تتابع البحث في حقيبتها، فابتسمت مشجعة:

– قد تقولين في نفسك: ما لي ولهذه الفلسفة العقيمة، فأنا ليس لدي الوقت لهذا الآن، ولكن هلا استمعتِ لما حدث معي البارحة فقط؟

عندها رفعت هبة رأسها وتنهدت قائلة:

–  حسنا، لا يمكنني انكار صحة توقعك عما كان يجول بخاطري فعلاً، فهناك الكثير من الأمور التي يجب عليّ إنجازها بعد نهاية الدوام، أما وقد تبين أنني لا أمتلك النقود الكافية لذلك، فما عاد باليد حيلة!

فابتسمت نجمة:

– يمكنني اقراضك المال، فلدي ما يكفي منه الآن والحمد لله، ولكن دعيني أخبرك بما حدث معي أولاً!

فضحكت هبة وقد انفرجت أساريرها:

– بما أنك متحمسة لإخباري بذلك، فلا مانع لدي من الاستماع لك، فأنا مدينة لك بالنهاية لإقراضي النقود..

فما كان من نجمة إلا أن قطبت بين حاجبيها- لتمثل دور الاستياء مما سمعته- معترضة:

– في هذه الحالة، سيكون استماعك لي وكأنه “رِبا” لا يمكنني قبوله، فكل قرض جر نفعا فهو ربا كما تعلمين!!

فطمأنتها هبة بقولها:

– حسنا حسنا.. إنني أرغب بالاستماع لك بكامل ارادتي، حتى ولو لم تقرضيني النقود، لذا أرجوك أخبريني يا صديقتي العزيزة نجمة، بما حدث معك البارحة، قبل أن أموت من شدة الشوق لسماع ذلك!

قالت هبة جملتها تلك؛ وانفجرت الاثنتان ضحكاً، قبل أن تبدأ نجمة قصتها..

***

  بينما كنتُ ذاهبة مع أختي إلى المكتبة العامة، لأستعير كتابا هاماً جدا بالنسبة لي من أجل إتمام بحثي، ولم يكن بإمكاني شراؤه في ذلك الوقت؛ اكتشفنا أننا لا نمتلك سوى دينارين اثنين فقط! في حين أن تكلفة سيارة الاجرة نحو المكتبة تزيد عن ذلك قليلا! وبعدها لن نمتلك أجرة العودة بالطبع!

وهنا كنا أمام خيارين اثنين لا ثالث لهما، الرجوع إلى نقطة الصفر أو المضي قدما!! وبالطبع اخترنا الخيار الثاني، وقررنا أن نقطع نصف الطريق مشياً على الأقدام، فالرياضة مفيدة لصحتنا قبل أي شيء! فإن كان هناك من يدفع نقوده من أجل ممارسة الرياضة، فنقص النقود قد يُساهم في ذلك أيضا، وكانت هذه الفكرة بحد ذاتها كفيلة بإسعادنا! ورغم أن طريق الذهاب أمامنا كانت منحدرة على الطريق الجبلي، خلاف طريق العودة الصاعد؛ إلا أن شمس الظهيرة التي كانت تراقبنا بحماسة شديدة، وتلوّح لنا بأشعتها الذهبية في السماء؛ شجعتنا على ركوب سيارة أجرة، مرت بمحاذاتنا بإغراء شديد! وبعد أن أعلمنا السائق بوجهتنا، تركّزت أعيننا على لوحة العداد؛ نراقب تقلب أرقامها باهتمام شديد، حتى إذا ما اقترب الرقم من (الدينار) همست أختي:

– الآن!

أجبتها بتوجس وعيناي مثبتتين على الشاشة:

– ما زال أمامنا عدة قروش حتى نبلغ الدينار، علينا استغلال كل قرش، فنحن سندفع الدينار كاملاً على أية حال!

وبدأ التوتر يظهر جليا في نبرة أختي وهي تقول:

– أن نخسر بضعة قروش أفضل من التورط بدفع جزء من الدينار الثاني المخصص للعودة! فربما لن يتمكن السائق من التوقف مباشرة عندما يشير العداد لمائة قرش!!

لم يستغرق هذا الحوار القصير أكثر من دقيقة أو ربما نصف دقيقة أو أقل، لكنه كان حواراً مصيريا بالنسبة لنا، نجح في تأهّب أعصابنا لحالة الطواريء القصوى، بانتظار لحظة الصفر! وما أن لاح الرقم “97 قرش” على العداد، حتى هتفنا:

– عندك لو سمحت، الله يعطيك العافية!

وبسرعة توقف السائق وعلامة استفهام واضحة تعلو وجهه، لكنه لم يعلق بشيء، فربما شعر وكأننا تذكرنا شيئا هاما قبل وصولنا إلى الوجهة التي حددناها له في البداية، وبغض النظر عما جال في خاطره؛ فقد كانت سعادتنا كبيرة بتحقيق الهدف الأول!! دينار واحد لا أكثر!

ثم بدأنا رحلة المشي باتجاه المكتبة، ولم ننسَ التقاط الصور لعدد من المشاهد، التي من النادر أن نتأملها فيما لو تابعنا طريقنا بالسيارة!! وكان من أبرز ما استوقفنا مشهد فتاة شابة تكنس التراب أمام باب متجر لا يبدو مشابها لغيره من المتاجر المنتشرة، بل كان أشبه ما يكون بمنزل أثري، لا سيما وقد تزينت واجهته بالعديد من التحف الاثرية، والقطع الخشبية، والاقمشة الملونة والمنقوشة برموز ذات معنى! فلم أقاوم السؤال بعد أن ألقينا السلام على الشابة:

– هل هذا متجر لبيع الاشياء؟

فأجابتني الشابة بابتسامة مرحبة:

– اجل، تفضلوا.. هذا محل (أنتيك) ولدينا العديد من القطع القديمة والنادرة!

قلتُ لها بدهشة:

– لا أذكر أنني رأيتُ هذا المكان من قبل!

فأجابت الشابة:

– هذا المحل جديد، فلم يمضِ على  افتتاحه أكثر من شهر!

وبينما كنتُ أتجول داخل المتجر، شعرتُ وكأنني دخلتُ في قصة تاريخية، أو انتقلتُ لعالم خيالي، أو أنني سافرت عبر الزمن، لأجد نفسي في منزل أحد القادة أو العلماء أو الفرسان الشجعان!! لقد حملت سيفاً لأول مرة في حياتي!! كان سيفاً حقيقيا، ذو مقبض ذهبي منقوش، وغمد مزخرف، ومطعم بأحجار فضية لامعة، رُصّت معاً لتكوّن شهادة التوحيد!

ويبدو أن صاحب المحل شعر بما يجول بخاطري من أفكار وقصص وخيالات حماسية، فقال مشجعا:

– لم لا تلتقطين صورة وأنت تحملين السيف!

هنا شعرتُ بأنني على وشك التلويح بالسيف بقوة، بعد أن سحبته من غمده قائلة:

–  أنا الفارسة “نجمة”، فهل هناك من سيعترض طريق أحلامي!!

وانتقلتُ من زاوية إلى أخرى، أتأمل كل قطعة فيها بتمعن، فهذه كرة أرضية قديمة كبيرة الحجم نسبيا، دقيقة في تفاصيلها ومعلوماتها، وتلك ساعة خشبية محفورة بنقوش مذهلة، وهناك جهاز التشغيل الاسطواني القديم، كما تصفحت عدد من الكتب القديمة، أعجبني مظهرها فوق الرفوف لتضيف جوا مميزا للمكان، بالاضافة لعدد من الاواني والأدوات التي تجبرك على تخيل القصص التي ارتبطت بها، حتى توقفتُ عند وعاء نقش عليه تاريخ صنعه قبل مائتي عام، بالاضافة لعدة جُمَل نُسخت عليه بخط عربي جميل، استوقتني منها عبارة:

 “القلب يعشق كل جميل”

أجل.. كم هذا صحيح، وإن كانت معلومة بالبديهة، لكنها بدت جملة فريدة، تعبر تماما عما كنت أشعر به في تلك اللحظة بالذات!

وبشكل عفوي سألتُ الشابة:

– كم ثمن هذا الوعاء؟

فأجابتني:

– طقم الأوعية هذا بألف دينار!!

أو ربما قالت ألفين أو أكثر! لم أكن متأكدة من الثمن بالضبط، فعقلي لم يكن ليستوعب تلك الارقام في ظل الظروف الراهنة، رغم أن هذا الثمن يعتبر مناسبا- أو ربما زهيدا جدا- لسلعة كهذه!

ومع ذلك، لم أتورع عن الاستفسار عن أسعار معظم القطع هناك من شدة الفضول أو ربما الاهتمام، فمن يدري.. قد أقتني مثل هذه الاشياء يوما ما! ويبدو أن صاحب المحل تعاطف مع اهتمامي الشديد هذا، فأخذ يقترح علي أسعارا مخفضة:

– يمكنك أخذ الكرة الارضية بثلاثين دينار فقط!

سعر مغري فعلا، ولكن ليس لشخص لا يمتلك سوى دينار واحد لطريق العودة!!

 كان ذلك هو حالي عندما أعادتني أختي إلى أرض الواقع هامسة في أذني:

– هل نسيتي أمر المكتبة والبحث الهام؟

وهنا تذكرتُ وجهتنا الاساسية لهذا اليوم!

صحيح نحن ذاهبون للمكتبة، من أجل كتاب هام!!

وبينما كنا نهم بالمغادرة بعد أن شكرنا الشابة وصاحب المحل، قام الأخير بإهداء “علاقة مفاتيح” منقوشة بآية “قل أعوذ برب الناس”، لكل واحدة منا!!

***

التقطت نجمة أنفاسها، بعد أن صمتت قليلاً، فيما سألتها هبة باهتمام:

– لقد شوقتِني لزيارة هذا المحل، فأين يقع بالضبط؟

ابتسمت نجمة مشجعة:

– إذا قررتِ الذهاب مشياً للمكتبة من هنا، فستجدينه على الطريق!

واستطردت قائلة:

– هذا جزء بسيط مما اكتشفناه في رحلتنا تلك! هل تعلمين أننا عدنا إلى المنزل في النهاية؛ دون أن نصرف الدينار الثاني؟!!

فشهقت هبة:

– ماذا!! لا تقولي أنكم عدتم لمنزلكم من المكتبة مشيا على الأقدام، بما في ذلك صعود الطريق الجبلي؟!!

فضحكت نجمة:

– تلك حكاية أخرى، اكتشفنا فيها شيئا جديدا أيضا!!

بدت هبة متلهفة لسماع ذلك الشيء، فيما قالت نجمة:

 – هذه ليست المرة الوحيدة التي اتعرف فيها على أشياء وأماكن جديدة؛ بعد موعد مفاجيء مع المغامرة!!

فسألتها هبة:

– تقصدين عندما لا يكون معك نقود كافية؟؟

فهزت نجمة رأسها ضاحكة:

– بالضبط.. معظم مغامراتي المثيرة كانت بسبب النقود! أو ربما عندما تطلب مني أمي طلبا مفاجئاً دون سابق إنذار، فأخرج مسرعة لأجد نفسي فجأة أمام اكتشاف مذهل، كما حدث عند جسر الآثار! أو عندما لا تسير الأمور بحسب ما أريد، فتتغير طريقي تلقائيا دون تخطيط مسبق، لأخوض تجربة جديدة ما كانت تخطر لي ببال، كما حدث في مغامرة “جبل القلعة”!

فابتسمت هبة بفضول:

– أنتِ حقاً بارعة في تشويقي يا نجمة! ما قصة “جبل القلعة” هذا؟ وما هو اكتشاف جسر الآثار؟!!

غير أن نجمة تظاهرت بالتثاؤب قائلة:

– ربما في وقت آخر، فقد انتهت استراحة الظهيرة، وسكتت نجمة عن سرد مغامراتها الخطيرة!

***

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

تركته لأجلك! – الحلقة 41

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

بدا سامر شارد الذهن، وهو يجوب ممر المشفى بقلق، فيما أخذ عقله يسترجع ما حدث قبل قليل.. لم يتوقع أن يستمع إلى صوت نور بعد كل هذه السنوات..
وسوسن.. كلما تذكر سؤالها عن أيهم، شعر بغصة!
لا يزال مشهد استيقاظها من تلك الإغماءة عالقا بذهنه، كان يمني نفسه أن تهتف باسمه فور تحرّك شفتيها، غير أنها اكتفت برفع رأسها نحوه بعينين خائبتين، ومتسائلتين في الوقت نفسه، لتقول بصعوبة:
– ألم يتصل أيهم؟؟
شعر حينها بمرارة الالم، وخيبة الرجاء، وتعكر المزاج، بل أكثر من ذلك بكثير!! لماذا لا تزال تفكر فيه رغم كل شيء!!
حتى لو اتصل ذلك الوغد، لما أخبرها باتصاله، إنه لا يستحقها أبدا.. وعليه أن يتصرف لينقذها منه!!
ولكن ماذا لو اكتشفت سوسن ذلك!! عليه أن يكسب قلبها، ولو على حساب قلبه، لا أن ينفّرها منه! سيضطر لإخبارها بالتأكيد عن اتصاله، غير أنه – ومن حسن حظه- لم يتصل!!!
مما جعلها على وشك الدخول في إغماءة أخرى، لكنها فاجأته بطلبها الاتصال بصديقتها نور، لقد ظن نفسه واهما في البداية، لكن هذا ما حدث!!
ولم يجد بدا بعد ذلك من تركها وحدها في الغرفة، نزولا عند رغبتها…
***
لم تستطع نور حبس دموعها وهي تستمع لسوسن، فانهمرت غزيرة على وجهها بصمت، عليها أن تتماسك أكثر، فهي لا تزال في الطائرة، وستستعد للنزول منها مع عامر خلال دقائق! ما الذي عليها قوله في حالة كهذه! وأي إجابة ستجيب بها سوسن، التي تصر على سؤالها بإلحاح شديد!! ألا يكفي أنها بصعوبة تمكنت من سؤالها عن حالها، وتخمين مالذي أدى بها لدخول المشفى بهذه الطريقة، لقد فاجأها جوابها الصادم “إنها عقوبة من الله بلا شك”!!
وقبل أن تتمكن نور من استحضار اجابة حكيمة في ذهنها، أعادت سوسن سؤالها:
– أرجوك قوليها صراحة، ولا تخفي عني شيئا..أريد أن أعرف.. أن أعرف الحقيقة فقط.. ألا يوجد في الدين تعريف للحب؟؟ هل هو حرام، ويستحق من يقع فيه أقسى أنواع العقوبة؟؟؟
بدأ الركاب بالنزول من الطائرة، ومن لطف الله بنور أنها وزوجها قد اعتادا النزول آخر الركاب، حتى لا يتسببا في الزحام، عليها أن تنطق بسرعة قبل أن لا تجد فرصة أخرى للإجابة، ومع ذلك فالظروف حرجة، وأي إجابة ستنطق بها؛ سيكون لها أثر كبير على سوسن، فعزمت أمرها لتقول بإيجاز:
– الحب جندي من جنود الله، لا يعمل إلا بأمره، ولا سلطان لقلبٍ عليه..
وصمتت هنيهة رغم توقعها لردة فعل سوسن، لا شك أنها بانتظار المزيد من التوضيح، غير أن الوقت والمكان ليسا مناسبين على الاطلاق! ولم تتركها سوسن لتصمت طويلا، إذ سرعان ما قالت بحرقة:
– أكملي يا نور أرجوك.. إنني أسمعك.. أستحلفك بالله أن تخبريني بكل ما تعرفينه دون أدنى تحفظ، لم يعد يهمني شيء سوى معرفة الحقيقة!
بوغتت نور بما سمعته، فالتقطت نفسا عميقا قبل أن تقول بصوت خافت:
– حسنا.. ما أعرفه أن القلوب بيد الله يقلبها كيفما شاء، والحب من جنوده، يعمل بأمره في قلب عباده، فإما أن يكون نعمة أو يكون ابتلاء، نعمة يكافيء الله بها قلبا طائعا ممتثلا لأوامره، مجتنبا لنواهييه، فيكون الحب له عونا وسعادة ونعيما، وإلا فهو ابتلاء يختبر الله في ظله تصرفات عباده، فلا يملك الانسان اختيار الوقت الذي يبدأ فيه حبه، ولا الوقت الذي يضع فيه نهاية له، وقد ينساق لتصرفات لم يكن يرتضيها من نفسه قبل وقوعه في الحب، وهنا تكمن صعوبة الاختبار الحقيقي! الحب جندي حر لا يأتمر إلا بأمر الله، ولا سلطان لأحد عليه، وإن ادعى المحبون غير ذلك؛ فهم واهمون بلا شك…
ثم استطردت هامسة:
– آسفة عزيزتي، أرجو أن تعذريني فسأضطر لانهاء المكالمة الان، وسأتصل بك لاحقا إن شاء الله، فأنا في المطار وقد أرسلت لك رسالة بخصوص سفري.. على كل حال بإمكاني أن أخبرك باختصار، أن الحب ليس حرام قطعا، بل لقد شرع لنا الاسلام ما نحفظ به هذا (الحب) من الشوائب، لأهميته في حياتنا، فلا حياة من غير حب، ولم يكن اهي ليحاسبنا على مشاعر لا حيلة لنا بها، وإنما يؤاخذنا على تصرفاتنا وردود أفعالنا التي منحنا فيها حرية الاختيار….
وتوقفت نور عن متابعة حديثها؛ إثر إشارة من عامر، نبهتها لضرورة الاستعداد للنزول، فختمت حديثها بسرعة رغما عنها:
– انتبهي لنفسك يا سوسن، سأحدثك في أقرب فرصة إن شاء الله لنكمل الحديث، استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه..
***
“الحب جندي من جنود الله!!”
أخذت تلك الجملة تنتصب بشموخ في ذهن سوسن:
– ما الذي تعنيه نور بكلامها هذا؟؟؟ كيف يكون الحب جنديا مأمورا ولا سلطان لقلبٍ عليه، وإن ادعى المحبون غير ذلك فهم واهمون!!؟؟؟؟
لقد بدا الموضوع أشبه بلغز وأحجية، عليها التفكير بحلها!!
وبينما هي على تلك الحال، انتبهت لرنين هاتفها، فرفعته بلهفة على أمل سماع توضيحِ من نور، غير أن قلبها توقف لوهلة، بعد رؤيتها لاسم أيهم!!
لقد انتبه لغيابها أخيرا!
وشعرت برغبة في تجاهله، غير أن أصابعها أجابت الاتصال بتلقائية، ليأتيها صوت أيهم بتلقائية مماثلة:
– أين أنت يا سوسن؟ لقد غادر معظم الحاضرين ولم أجدكـ…
لم تستطع سوسن احتمال سماعه أكثر، فأجهشت بصوت باك:
– انني في المشفى.. إذا رغبت برؤيتي يمكنك الحضور..
واغلقت السماعة، بل والهاتف كله!!!
لو كان يهمه امرها لكلف نفسه معرفة ما حدث، وجاء اليها..
وأخذت تجهش بالبكاء بحرقة، فيما أخذت الممرضة تطلب منها الهدوء قليلا كيلا تؤذي نفسها، ولم تجد بدا من مناداة مرافقها، ليتصرف معها بما يراه مناسبا..
وما هي إلا لحظات حتى هرع إليها سامر بقلق:
– هل أنت بخير يا حبـ….. يا سوسن..
ومع سماع صوته اضطرت سوسن لتهدئة نفسها، وهي تشعر بضيق شديد:
– شكرا أستاذ سامر.. لقد أتعبتك معي كثيرا، أرجو أن لا تُزعج نفسك بمشكلاتي، يمكنك الانصراف، فسيأتي أيهم بعد قليل…
قالت جملتها الأخيرة جزافا، إذ لم تكن واثقة من ذلك، ولولا خشيتها من أن يأخذ وجود سامر معها منحى لا تُحمد عقباه، لما غامرت بكلام كهذا أصلا..
أما سامر الذي شعر بطعنة تخترق قلبه دون رحمة، فقد تماسك قليلا وهو يستند إلى مقعد مجاور، ليقول بنبرة يائسة:
– لا بأس.. سأنتظره إلى أن يأتي حتى أطمئن عليك.. ثم إنني لستُ منزعجا أبدا من وجودي إلى جانبك..
وهم بإضافة كلمات أخرى، غير أنها غاصت في قدميه هربا من الاعتراف بالحقيقة!
سادت لحظات صمت، قطعها سامر أخيرا بقوله:
– أرجو أن اتصالك مع السيدة نور قد ساعدك على تخطي الأزمة ولو قليلا..
عندها انتبهت سوسن لهاتفها الذي أغلقته! ففتحته بسرعة دون أن ترد عليه بكلمة، وفكرها مشغول بنور، هل أعادت الاتصال يا ترى؟؟
ثم قرأت رسائلها السابقة، فانتفض جسمها من هول الصدمة:
– هذا يعني أنها ستغادر مع زوجها إلى خارج البلاد!! كنت أتمنى رؤيتها مرة أخرى، بل وكنت أخطط للسفر إلى مدينتها!! لماذا الان؟؟ وأنا في قمة الحاجة لمساندتها!!!! يارب ساعدني..
رن هاتفها فجأة فأسرعت تجيبه من غير تركيز بهوية المتصل، لتتفاجأ هذه المرة بسماع صوت بهجة- كبيرة الطهاة والخدم في منزلهم- وهي تتحدث بانفعال:
– آنسة سوسن هل أنت بخير؟؟؟
ولما أجابتها بكلمة “نعم”، اندفعت بهجة في كلامها، لتفرغه دفعة احدة:
– أرجوك يا آنسة أين أنت الآن؟؟ لقد قلقت جدا عليك بعد أن أخبرني السيد أيهم بدخولك المشفى، لقد حاولنا الاتصال مرارا لكن هاتفك مغلق، الحمد لله أنني سمعت صوتك……
لم تستطع سوسن التركيز في كل ما قالته بهجة، فقد أصبح أكثر ما تخشاه أن يكون الامر قد وصل إلى والديها أيضا، وهما خارج المدينة الان، مما سيعقّد المشكلة أكثر!
فانتبهت لسؤال بهجة بعد أن أعادته عليها للمرة الثالثة:
– آنسة سوسن هل تسمعينني؟؟
فأجابتها سوسن:
– أجل..
فتابعت بهجة:
– إنني أسألك يا آنسة.. في أي مشفى أنت الان؟؟ فالسيد أيهم اتصل ليسألني عن ذلك وهو يظنني أعرف، لن أسامح نفسي أبدا إن أصابك مكروه لا قدر الله!! ماذا سأقول لوالدتك؟؟؟
فابتسمت سوسن رغم مرارة الألم:
– أرجوك اطمئني فلا داعي لكل هذا القلق، ولا تقولي لوالديّ شيئا رجاء..
والتقطت نفسا قبل أن تتابع:
– انني في مشفى الالم..
فأتاها صوت بهجة مستدركا بنبرة لا تخلو من دهشة:
– الالم؟؟ لم أسمع عنه!! أم أنك تقصدين مشفى الأمل؟؟
فردت سوسن ببرود قبل إنهاء المكالمة:
– أجل انه هو..
كانت سوسن في شغل تماما عن سامر، الذي كان يراقبها طوال الوقت بحسرة كاوية، فلم تكد تبعد الهاتف عن أذنها، حتى فوجئت بيديه تحتضنان يدها بطريقة أربكتها، وما أن التقت عيناهما؛ حتى شعرت بقشعريرة في كامل انحاء جسدها، كمن مسته الكهرباء فجأة! فحاولت انتزاع يدها، فيما أخذ سامر يحاول الاقتراب منها أكثر، وهو يميل برأسه وجسده نحوها، وقد بدا في حالة من الهذيان، المرافقة لشخص غائب عن الوعي:
– سوسن أرجوك.. سأفعل أي شيء.. إنني أحبـ….
فقاطعته صرخة ملتاعة من سوسن، وهي تجذب يدها بشدة، في حين دفعته بيدها الأخرى بحركة صدمته:
– لااااا.. لا يمكن حدوث هذا أبدا!!! ألا تقدّر موقفي أستاذ سامر!!! إنني خطيبة أيهم وأحبه بجنون، ولا يمكنني مسامحة من يفرح بتحطّم علاقتي معه، كائنا من كان…
وانفجرت باكية بحرقة، فيما أخذ سامر يحملق فيها بذهول، بعد أن ابتعد عنها خطوتين، إثر الصدمة التي أيقظته من أحلامه الوردية بعنف، ودون أدنى رحمة!!
وإذ ذاك.. انتبه على صوت أكثر شخص يبغضه في هذا العالم.. صوت أيهم الذي اندفع إلى داخل الغرفة بلهفة:
– سوسن يا حبيبتي.. هل أنت بخير؟؟؟ ما الذي حدث بالله عليك!!!
عندها.. لم يجد سامر بُدّا من مغادرة الغرفة بصمت، وهو يجرجر أذيالا طويلة من الخيبة، التي لا نهاية لها!! لم يعد له مكان في هذا العالم حتما، والذي حاول إقحام نفسه فيه عنوة..
أهذا ما يفعله “الحب” بأهله!!!!!
***
هتفت الممرضة بنبرة غير مصدقة:
– غير معقول!! جميع المؤشرات الحيوية عادت إلى وضعها الطبيعي تماما!!
فتهلل وجه أيهم بسعادة:
– هذا يعني أن بإمكانها المغادرة الان؟؟
غير أن الممرضة أجابته بتردد:
– لا بد من موافقة الطبيب المشرف على حالتها أولا!
فاستعجلها أيهم بقوله:
– ألا يمكنك مناداته بسرعة؟؟
وقبل أن تجيبه الممرضة، دخل الطبيب ليختصر الموضوع برمته..
وبعد أن قام بفحوصاته اللازمة، التي أكدت كلام الممرضة حول تحسن حالتها، وجه كلامه لأيهم، وهو يناوله كشفا كان بيده:
– تحتاج للقيام ببعض الاجراءات اللازمة للخروج، بالاضافة إلى توقيعك هنا سيد سامر..
فرمقه أيهم بنظرات مستهجنة:
– عفوا!!.. تقصد أيهم؟
فأردف الطبيب وهو يطالع الكشف من جديد:
– بناء على البيانات المدونة هنا، لقد تم إدخال الانسة عن طريق مرافقها السيد سامر، والذي وقع إقرارا بتحمله كافة التبعات المترتبة على ذلك و..
فقاطعه أيهم بنبرة غاضبة:
– إنه مجرد رجل تطوع لإدخالها المشفى بعد أن وجدها في حالة إغماء بلا شك! وأنا خطيبها أيهم الذي يتحمل كامل المسؤلية هنا..
غير أن عينا الطبيب لمعتا قليلا، وهو يتأمل اسم سوسن بتمعن أكثر قبل أن يلتفت نحوها بتساؤل:
– هل أنت حقا ابنة السيد كارم رجل الأعمال الكبير المرشح لرئاسة الوزراء حاليا؟
فأومأت سوسن برأسها مؤكدة:
– أجل إنني ابنته، ويمكنني تحمل كافة المسؤوليات المترتبة على خروجي الآن، ومستعدة للتوقيع على ذلك أيضا!
عندها أسرع الطبيب بإصدار أوامره للممرضة، قبل أن يلتفت إليها مبتسما:
– إطمئني يا آنسة.. كل شيء سيكون على ما يرام خلال دقائق معدودة!
***
“الحب جندي من جنود الله”..
هذا ما كان يتردد في ذهن سوسن طوال الطريق!! كانت غارقة تماما في حالة من التفكير العميق، وقد شعرت بنوع من الامتنان لتلك المكالمة المقتضبة من نور!! بل ولتصرفات سامر المريبة! من الجيد فعلا أن أيهم لم يأتِ قبل ذلك؛ وإلا لكان تصرفها معه مختلف تماما!! كانت ستفعل أي شيء لإغاظته بأي وسيلة، ولو اضطرها ذلك لارتداء الحجاب.. بنية إغاظته فقط!!! أما الآن….
وتنهدت بعمق، فيما كان أيهم يختلس النظر إليها بين الحين والآخر أثناء قيادته للسيارة، دون أن يتمكن من تخمين ما يجول بخاطرها، أو يجرؤ على اختراق حاجز صمتها!! لأول مرة يجد نفسه عاجزا عن التصرف معها بعفوية!!
حتى إذا ما أوقف السيارة أمام منزلها، انفرجت شفتاه عن صوت خافت ومرتبك:
– لقد وصلنا.. عزيزتي..
وكمن اسيقظ من حلم على حين غرة، التفتت إليه سوسن بنظرات مستفهمة:
– هل قلت شيئا؟؟
غير أنها استدركت ذلك بسرعة، فقالت وهي تهم بالنزول:
– شكرا لك..
فأمسكها أيهم من يدها مستوقفا:
– سوسن.. ألا تزالين غاضبة مني؟
وبدلا من أن يسمع جوابها، جذبت يدها من يده، وهي تشيح بوجهها عنه:
– أحتاج للراحة الآن، تصبح على خير..
ولم تكد تفتح باب السيارة، حتى هرعت بهجة نحوها بلهفة:
– الحمد لله على عودتك سالمة آنستي العزيزة، كيف حالك الآن؟؟
فابتسمت لها سوسن بوهن:
– الحمد لله بخير.. غير أنني أحتاج للراحة…
لم يدرِ أيهم ما الذي دهاه في تلك اللحظات ليصاب بالشلل!! فقد بقي واجما وهو يحدق فيهما بذهول، إلى أن دخلتا المنزل! حتى بهجة.. لم تحييه كعادتها، عوضا عن أن ترحب به، بل ولا يظن انها قد انتبهت لوجوده أصلا!!.. قد تكون معذورة، فابنة سيدها هي الأهم الآن، ولكن.. ماذا عن سوسن!! هناك خطب ما، يتعلق بها ويجهله بالتأكيد!!!
لايمكن أن يكون هذا الوضع طبيعيا بأي حال من الأحوال..
 
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
الأحلام المتحققة

الأحلام المتحققة

عن القصة:

رواية خفيفة من فصل واحد؛تمثل الجانب الأخر من “الأحلام المرسومة” التي يحلم بها المانجاكا العرب، بطاتها معلمة الفيزياء “سلمى”، الشابة الطموحة الحالمة، التي لا زالت تحب مشاهدة الرسوم المتحركة، و تهوى كتابة القصص، على أمل أن يتحقق حلمها يوما ما..

التصنيف: شريحة من الحياة، كوميديا

فريق الصقور الأصيل

 طريقه صعب طويـــــــــــــــــــــــــل

 يخفق مرة.. يفوز مرة.. فليس هنالك مستحيــــــــــــــــــــــ….

ترررررررررررررررن..

– لاااااااااااا… ليس الآن!!!

تنهدت سلمى وهي تخفض صوت التلفاز قليلا، متجهة نحو الهاتف بضيق؛ أمام إصراره على مواصلة الرنين بحماسة منقطعة النظير!!

كان هذا آخر شيء ترغب في سماعه هذه اللحظات، خاصة بعد أن تهيأت للاستمتاع بوقت فراغها- المسروق من بين كومة الدفاتر والأوراق- مع سلام دانك!!

رغم ذلك كله، رفعت السماعة لتجيب بهدوء:

– السلام عليكم، من معي؟

فجاءها صوت أنثويّ رزين على الجانب الآخر:

– وعليكم السلام أستاذة سلمى، معك الأستاذة سعاد السامر، مديرة (المدرسة الحديثة- قسم الطالبات)، أرجو أن يكون الوقت مناسبا..

عندها عدّلت سلمى هندامها بسرعة، وكأنها تقف أمام مديرتها وجها لوجه، لا سيما وأنها شعرت ببعض الذنب؛ لعدم تمييز صوتها بسرعة، رغم أنها هاتفتها مرتين خلال سنوات عملها في المدرسة:

– أهلا بك أستاذة سعاد.. الوقت مناسب جدا، تفضلي، هل من خدمة؟؟

واستمعت لصوت محدثتها باهتمام، وهي تخبرها بذلك الأمر الهام:

– في الحقيقة حاولت الاتصال على هاتفك النقّال غير أنه كان مغلقا، ورغم معرفتي بأنك مشغولة جدا هذه الأيام، إلا أن إدارة المدرسة رشّحتك لحضور مؤتمر المعلمين؛ لتمثيل قسم العلوم في مدرستنا، ونرجو منك الاستعداد لذلك فغدا سيبدأ أول أيامه كما تعلمين، ولا تقلقي فقد تم تدبر أمر التأشيرة وجواز السفر، كل ما عليك هو أن تكوني مستعدة في تمام الساعة الثامنة صباحا في باحة السكن، لتنطلقي مع وفد المعلمات المشاركات إلى المطار، وستكون العودة مساء الجمعة، فأعدّي نفسك لذلك..

وقع الخبر كالصاعقة على رأس سلمى، فأمامها تل من أوراق الاختبارات، وجبل من دفاتر الواجبات، كلها تنتظر التصحيح! وعليها إنهاء ذلك كله قبل نهاية الأسبوع؛ حتى تتمكن من تسليم درجات الفترة الأولى للإدارة، قبل إصدار الشهادات الخاصة بمائتين وخمسين طالبة!!!

فقالت بتردد:

– أنت تعرفين يا أستاذة سعاد؛ أن اختبار الفيزياء كان آخر اختبارات هذه الفترة، ولم استلم الأوراق إلا السبت، واليوم هو الاثنين، وبطبيعة الحال لم انتهي منها بعد!! في حين أن شهادات الطلبة يُفترض أن تصدر السبت القادم! فكيف لي أن أسافر قبل …

فقاطعتها المديرة بحزم:

– أنه مؤتمر هام يا أستاذة، ويمكن تأجيل كل شيء لأجله!!

همّت سلمى بسرد قائمة من الاحتجاجات الطويلة، فمن حقها الاعتراض على هذه الرحلة المفاجئة، التي تتطلب تحضيرات كثيرة، لم تعمل لها حسابا من قبل!!غير انها استدركت بسرعة:

– حسب ما أذكر أن الاستاذ سند هو من…

فقاطعتها المديرة للمرة التالية بقولها:

– أجل كان هذا هو المفترض، لكنه أصيب بنوبة برد حادة، واعتذر عن الحضور، بل وقد رشحك للقيام بهذه المهمة نيابة عنه، قائلا أن بإمكانك تدبر الأمر! وقد وافق رئيس المدرسة على ذلك، وجهّز لك كل شيء كما أخبرتك..

لم تجد سلمى شيئا تجيب به، فقد حُسم الأمر كما ترى، ولا مجال لابداء رأيها.. فالاستاذ سند هو رئيس قسم العلوم في المدرسة بقسميها (البنين/ البنات)، ورغم انها لم تكن تجتمع معه إلا عند كتابة أسئلة الفيزياء، أو لمناقشة خطة المنهج بداية العام، إلا أن كبر سنه الملحوظ- الذي يُشعرها أنه بمثابة جدها- كان كفيلا بأن يفرض عليها تقدير ظرفه واحترام كلمته..

وأمام صمتها المطبق، أعادت المديرة كلامها للمرة الثانية:

– أنه مؤتمر هام يا أستاذة، ونحن نثق بك!!

فأجابتها سلمى:

– لا مشكلة لدي، غير أنني لا أريد أن تكون الفيزياء هي السبب في تأخر شهادات الطالبات!!

فردت المديرة بنفاد صبر:

– لا بأس في ذلك، سنصدر الشهادات ونخبرهم بأن علامات الفيزياء قد تأخرت لسبب طاريء….

وصمتت قليلا قبل أن تضيف:

– ولا تنس إعداد الكلمة التي ستلقينها باسم مدرستنا يوم الافتتاح غدا، فقد اعتذر رئيس قسم اللغة عن كتابتها لاسباب خاصة!!!!

– ………………!!!!!!!!!!!؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

  لم تدرِ سلمى كيف خُتمت المحادثة بعد ذلك، فقد كان فكرها مشغولا بأمر علامات الفيزياء!!!

لقد بذلت جهدا كبيرا حتى تمكنت من اقناع معظم الطالبات؛ بأن الفيزياء هي ملكة جمال العلم الأنيقة المصونة الموقرة، ولن تسمح لكائن من كان أن يشوّه هذه الصورة الرائعة في ذهن الطالبات، مهما كلفها الأمر..

لا سيما وأنها تُدرك تماما- بخبرتها الطويلة- أن أكثر ما يثير حنق الطلبة؛ هو تأخر إصدار الدرجات، حتى وإن كانوا هم السبب في ذلك!!!! يريدون تسليم الواجب في الوقت الذي يريدونه، ويطلبون من المعلم تسليم الدرجات فورا!!! كم تمقت هذا الصنف من الطلبة!!!

كانت غارقة بأفكارها تماما، عندما انتبهت لصوت التلفاز المنخفض:

فليس هنالك مستحيل
فريق الصقور الأصيل
طريقه صعب طويل
مرر سدد لا تترد، هيا نفذ سلام دانك، سلام دانك

كاد قلبها أن يتوقف من الصدمة:

– هل هذه شارة النهاية!!! أم أن الزمن قد توقف عند شارة البداية فقط!! هل يُعقل أن المكالمة استغرقت منها وقت الحلقة كاملة، وبفواصلها الاعلانية أيضا!! لقد مر وقت طويل إذن!!

وطرق سمعها من جديد:

انتهت رحلتنا في كوكب رياضة

فأغلقت التلفاز مرددة:

– بل بدأت الآن!!!

أمامها سباق (ماراثون)، وليس سباقا عاديا؛ لتنجز كل شيء في وقته المحدد، بالطريقة التي تريدها!!

قلبت بصرها في شقتها الصغيرة، الواقعة ضمن سكنٍ خاصٍ بالمعلمات، والتي أقامت فيها منذ التحاقها للعمل بهذه المدرسة الحديثة، الشبيهة بمدينة متكاملة..

 لا يمكنها ترك الشقة هكذا!!

ولكن.. من أين ستبدأ يا ترى!!!!!

التحضير للمؤتمر وكتابة الكلمة!! أم ترتيب الشقة، وتفريغ الأواني من الطعام الزائد، وإعادتها لجاراتها اللاتي يصررن دائما على مشاركتها طبخاتهن، رغم توسلها إليهن بأن الكميات التي يرسلنها، أكثر من حاجتها بكثير!!!

 عليها جمع بقايا الطعام في حافظات بلاستيكية (تحتفظ بها لهذا الغرض)؛ لتعطيها لمن تراهم من المحتاجين في طريقها- فليس من عادتها رمي الطعام اطلاقا!!!!!

هل تتغاضى عن رغبتها في حفظ كرامة الفيزياء في عيون الطالبات، وتنسى أمر التصحيح نهائيا!!

لو أنها لا تزال طالبة فقط؛ لما اهتمت بهذا كله، فحتى أعتى اختبار يواجهها في المدرسة، ستتجاهله بسهولة في ظرف كهذا، وإن نقصت درجاتها فلن يؤثر ذلك على أحد سواها، أما الآن… فدرجات أكثر من مائتي طالبة أمانة في عنقها، والأهم من ذلك؛ أن عليها أن تكون القدوة في الالتزام بوقت التسليم، وانهاء التزاماتها نحو الطالبات بطريقة متقنة!! ليست العبرة في التصحيح فقط، بل التركيز في ذلك أيضا، فالمسائل كثيرة وطرق الحل متعددة، ولكل طالبة طريقتها الخاصة في ابتكار الأجوبة!!

وهذا كله فوق قدرتها البشرية!!!

لو أنهم أخبروها قبل يوم واحد على الأقل؛ لتداركت أمر التصحيح بسرعة، واختصرت من برامجها المفضلة على سبيس تون!!!!

لكنها سرعان ما طردت هذه الفكرة من بالها، فـ (لو) تفتح عمل الشيطان، واستغفرت الله في سرها، مرددة:

– قدر الله وما شاء فعل.. لعله خير.. يارب سهل الأمور..

وفي تلك اللحظة ارتفع صوت أذان المغرب، ليختصر عليها عناء التفكير بالخطوة الأولى.. ستصلي أولا بالطبع وتبتهل إلى الله أن يعينها، ويلهمها الصواب في ترتيب أولوياتها حتى صباح الغد!!

***

لم تكد سلمى تنهي صلاتها وتفرغ من دعاء الاستخارة بعد ركعتي السنة، حتى سمعت صوت جرس الباب، فأسرعت لتفتحه، وهي تدعو الله أن لايكون طبق طعام آخر، غير أنها فوجئت برؤية نهى، تلك الطفلة البريئة النبيهة، التي لم تكمل عامها الخامس بعد، ابنة معلمة التاريخ الطيبة، الأستاذة لبيبة، (التي كلما سمعت اسمها يتبادر إلى ذهنها تلقائيا المسلسل الكرتوني القديم (اسألوا لبيبة!!)، والذي كانت شارة بدايته؛ إيذانا بانتهاء الفترة المخصصة لمعظم الأطفال، بالطبع هذا إن كان هو المسلسل الأخير الذي سيُعرض على الشاشة ذلك اليوم، ويمكنهم بعدها، وبكل أريحية، تلبية نداء أمهاتهم، والقيام بواجباتهم، وكأن الأوان قد آن لهم لمعرفة صالحهم! أما إن كان سيتبعه مسلسل آخر؛ فستكون هذه فرصة لأخذ استراحة قصيرة، يثبتون فيها لأمهاتهم أنهم لا يضيعون الوقت كثيرا أمام الرسوم المتحركة!! فلا أحد يرغب بسؤال لبيبة أي شيء؛ فجميع المعلومات العلمية التي تذكرها؛ معروفة لهم على ما يبدو!!!!

 بالطبع هناك حالات نادرة تتم فيها مشاهدة حلقات هذا المسلسل، منها على سبيل المثال، أن يكون هو المسلسل الكرتوني الوحيد المتاح لذلك اليوم!!

وقبل أن ترد سلمى التحية، دلفت نهى إلى الشقة بحماسة، وهي تقول:

– هيا.. ألن نلعب لعبة الفيزياء المسلية اليوم؟

فهزت سلمى رأسها قائلة بلطف:

– كلا ليس اليوم يا عزيزتي فأنا مشغولة!!

غير أن نهى ردت باعتراض:

– ولكنك وعدتيني بذلك!! هذا ليس عدلا!!

فوجئت سلمى بذلك، فليس من عادتها نسيان وعد قطعته على نفسها، خاصة مع الأطفال، فهي تُدرك خطورة ذلك وأبعاده على المدى البعيد:

– أنا وعدتك؟؟؟ متى!!!

فأجابتها نهى بإصرار:

– لقد قلتِ لي أنني إذا أنهيتُ واجباتي، واستمعت لكلام أمي، وساعدتها في ترتيب المنزل، فستلعبين معي.. وقد فعلتُ ذلك كله فعلا!!

  شعرت سلمى برغبة شديدة في البكاء!! إنها مؤامرة بلا شك!!!

ما الذي ستفعله مع هذه الطفلة الآن!!!!

حاولت سلمى جاهدة أن تجد مخرجا لها، وهي تشك بنجاحه مع هذه الطفلة العنيدة، غير أنها غامرت بقولها:

– أحسنتِ بفعلك هذا، وإرضائك أمك، لكنني لم انتهي من واجباتي بعد، فهل يرضيك أن تغضب أمي مني؟؟

فضحكت نهى بمرح طفولي:

– هل تضحكين علي يا آنسة!! أنتِ كبيرة ويمكنك أن تفعلي ما تشائين، وليس مثلي!! ثم انك تسكنين وحدك هنا، ولا أحد يحاسبك!!

شعرت سلمى بثقل في قدميها على حين غرة، وتنهدت في سرها:

 – لا أحد يحاسبني!! هكذا إذن، هذا ما تراه الصغيرة!!!

وهمت بأن تقول لها: ” بأن الكبار هم من يحاسبون حقيقة، وليس الصغار، فما من كبيرة لا صغيرة إلا وتُحسب عليهم” غير أنها خشيت أن  تدخل في دوامة لا أول لها ولا آخر.. ومن يدري؛ فربما تعود نهى إلى أمها قائلة بأنه يحق لها فعل ما تشاء ولا حساب عليها!!! كلا لن تضع نفسها في ورطة يصعب إصلاحها كهذه! فلا أحد يتوقع ما الذي تأتي به أفكار هذه الصغيرة!!

وانتبهت من أفكارها على صوت نهى، التي استقر بها المقام على ما يبدو في الشقة:

– قلتِ يا آنسة أن الأشياء تسقط على الأرض لأن هناك قوة تجذبها، أليس كذلك؟

أومأت سلمى برأسها إيجابا، وقد خطر ببالها أن تستغل الفرصة، في ترتيب المطبخ وتنظيفه، فاتجهت إلى هناك لتبدأ عملية افراغ الطعام، مُشيرة إلى نهى أن تتبعها، لتتحدثان هناك، فيما تابعت نهى كلامها قائلة:

– لقد قلتُ هذا لأمي يوم أمس غير أنها لم تصدقني، بل وعاقبتني أيضا!

أثار الكلام فضول سلمى فسألتها باهتمام – دون أن تدري لماذا تبادر إلى ذهنها “غاليلي غاليلو” في هذه اللحظة بالذات:

– قلتِ لها ماذا؟؟

ردت نهى بحماسة:

– عن القوة التي تجذب الأشياء..

فهزت سلمى رأسها لا يعقل أنها عاقبتك لهذا السبب وحده، أخبريني ما الذي حدث بالتفصيل..

فقالت نهى باندفاع:

– بينما كنت أحمل ابريق الماء الزجاجي، سقط من يدي على الأرض، فقلت لأمي أن هناك قوة جذبت الابريق الى الاسفل وكسرته، ولا دخل لي بذلك، لكنها عاقبتني!!!

كادت سلمى أن تنفجر من الضحك غير أنها، بذلت جهدا كبيرا لتقول بوقار:

– يبدو أنك لم تعرفي طبيعة هذه القوة بعد!!

فنظرت إليها نهى باهتمام، فيما تابعت سلمى موضحة:

– هذه القوة لا تجذب الابريق إلى الأسفل وتكسره؛ إلا إذا أفلتيه من يدك، ولهذا السبب عاقبتك أمك، ليس لأنها لم تصدق بوجود القوة، بل لأنك سمحتِ لها بجذب الابريق!!

هزّت نهى رأسها علامة التفهم، لكنها سرعان ما قفزت إلى سؤال آخر:

– هل شاهدتِ “المخترع الصغير” اليوم؟

لم يكن بإمكان سلمى الانكار، فقد كان أول فلم كرتوني تشاهده اليوم على سبيس تون، فور عودتها من المدرسة!

فردت بالايجاب، وهي تفرغ محتويات آخر صحن في الثلاجة، وتجمعها في الحافظة البلاستيكية، فتابعت نهى:

– ما رأيك أن نخترع آله زمن مثله، فأنت معلمة فيزياء وتعرفين كل شيء!

من لطف الله بسلمى، أن جرس الباب قد دُق في تلك اللحظة، فصرخت نهى بفزع، وهي تلف وتدور في الشقة كمن يبحث عن مكان يختبيء فيه:

– لاااااااا ، هذه أختي الكبيرة أرسلتها أمي لتأخذني، أرجوك يا آنسة أخبريها أنك تريدين مني البقاء!!!

لم تعلّق سلمى بشيء؛ فقد كانت ترجو بالفعل أن يأتي من يأخذها، ليس لأنها لا تحب صحبتها، فهي بالنسبة لها؛ مرتعا خصبا لأفكار خلّاقة لا تخطر ببال، ولكن الوقت غير مناسب الآن..

وبالفعل حُلّت المشكلة بسلام، وبأقل الأضرار الممكنة، بعد شد وجذب، ومحاولات مستبسلة في الاقناع! غير أنها لم تكد تدلف إلى المطبخ لتسرع في إنهاء عملها، حتى انتبهت لصوت الآذان، ليحين دورها في البكاء:

– لاااااااااا… لقد أذّن العشاء ولم أفعل شيئا يُذكر بعد!!!

 لقد بكت حقا هذه المرة، بل وأجهشت بالبكاء!!!

ولسان حالها يردد بحرقة:

” أنــــــــا جرح الزمـــــان… أنــــا قصة انسان.. أنا سالي سالي”

***

   جلست سلمى على سجادتها بعد أن أدت صلاة العشاء، تستغفر وتراجع حساباتها، والدموع تنساب على وجنتيها بصمت، كان بودها لو تعرف الذنب الذي أدى بها إلى هذا الحال.. لدرجة أنها لم تعد قادرة على التفكير السليم!!

وسرعان ما تذكرت انها لم تُخبر والدتها بأمر المؤتمر بعد، فرغم أنها لا تتأخر عن إطلاعها بالأحداث الهامة التي تواجهها، إلا انها هذه المرة بالذات، تأخرت أكثر من المعتاد بالنسبة لحدث هام كهذا!!

 حاولت الاتصال بهاتفها النقال من هاتف المنزل لتبحث عنه، فهاتف المنزل لا يسمح بإجراء مكالمات خارجية، إلا انه كان مغلقا!! لقد أخبرتها المديرة بذلك فعلا!! لا بد أن البطارية فارغة، وعليها أن تعثر عليه حسب الطريقة التقليدية في إيجاد الأشياء!!

كان بحثا مضنيا وكأن هذا ما ينقصها!! ولولا أنها حريصة على قراءة سورة البقرة كل ثلاثة أيام في شقتها، لجزمت بأنها مسكونة بالشياطين!! وإلا.. فمن يمكنه أن يُخفي هاتفها هكذا، ولا أحد سواها في الشقة!!!

 جلست على أقرب كرسي أمامها، لتفكر بعمق.. وتحاول استذكار آخر مرة رأت فيها هاتفها، والأماكن المحتملة لتواجده.. فقد كانت هذه طريقة أختها في إيجاد الأشياء!

مهما يكن، على الأقل يظل ضياع الهاتف أهون من ضياع نظارتها الطبية، الذي يُعدّ حدوثه أمرا “كارثيا” بمعنى الكلمة!!! خاصة وأن البحث عن (النظارة)؛ يتطلب بحد ذاته ارتداء (نظارة) بالنسبة لها!!

وما أن طرق هذا الخاطر فكرها، حتى تحسست نظارتها بسعادة، مرددة:

– الحمد لله.. 

 ونهضت لتستأنف البحث، ولسانها يردد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن قعت عيناها على تلك اللوحة المعلقة في صدر الصالة، والتي تحوي بيتين من الشعر بالخط الكوفي الجميل:

“أدم الصلاة على النبي محمد.. فقبولها حتما بدن تردد

أعمالنا بين القبول وردها.. إلا الصلاة على النبي محمد

صلى الله عليه وسلم”

 وما هي إلا لحظات حتى اتخذت قرارها بترتيب مكتبها، وتنظيم الدفاتر والأوراق فوقه ليسهل تصحيحها، استثمارا للوقت، غير أنها لم تكد تفعل ذلك حتى عثرت على هاتفها داخل أحد الدفاتر؛ لقد تذكرت أخيرا أنها وضعته كعلامة تشير إلى حيث وصلت في التصحيح؛ قبل أن تقوم مسرعة لمشاهدة سلام دانك!!!!!

وهكذا تابعت الترتيب ريثما تُشحن بطارية هاتفها، فمن الخطورة استخدامه هكذا!! ففرزت الأوراق المتبقية حسب النماذج، وتفحصت بعضها بسرعة، ممنية نفسها بأنها لن تستغرق منها وقتا طويلا، فمعظم طالبات هذه الشعبة متفوقات، لا مشاكل معهن، ومن الممكن أن تضع للواحدة منهن علامة كاملة بنظرة سريعة! غير أن مزاجها سرعان ما تعكر، برؤية بعض “التخاريف” التي ما أنزل الله بها من سلطان!! وحدثت نفسها:

– لماذا تصر بعض الطالبات على هذا الاستفزاز؟؟؟؟.. هداهن الله!!!

 ثم وجدت أنها لو استراحت من الدفاتر أولا، لكان أفضل…

لم تشعر سلمى بمرورالوقت حتى انتبهت على صوت هاتفها؛ فأسرعت ترد عليه بعد أن رأته يومض برقم والدتها:

– وعليكم السلام أمي، كنت سأتصل بك ريثما ينتهي شحن الهاتف، كيف حالك وكيف حال أبي؟

فجاءها صوت والدتها بانفعال:

– الحمد لله نحن بخير، والدك نائم فقد بقي في العمل لوقت متأخر وكان مرهقا جدا، لكن ماذا عنك، شعرت بالقلق فجأة وقلتُ خيرا إن شاء الله!!

وكأن سلمى لم تكن تنقصها سوى هذه الجملة؛ لتنفجر بعدها بكل ما حدث معها اليوم، مع وصف الكم الهائل من الضغوط التي تكاد تسحقها سحقا..

لم تكد سلمى تُفرغ شكواها في أذن أمها، حتى انهمرت جمل التأنيب واللوم في أذنها بغزارة ودون توقف:

–  اليوم هو الاثنين، وحسب علمي فإن اختبار الفيزياء كان السبت؛ ويُفترض أنك استلمت أوراق الاختبار ظهر ذلك اليوم، وباشرتِ تصحيحها فورا!!!! فما الذي كنتِ تفعلينه طوال تلك المدة!!!!!! لا أستبعد أنك قضيتِ الوقت كله أمام سبيس تون!!! كم مرة أخبرتك أن تبدئي بالتصحيح فورا!!! قلتُ لك ألف مرة؛ لا أحد يدري ما قد يحدث معه في الغد!!! لا تقولي أنك لم تنتهي من تصحيح الدفاتر أيضا؟؟؟؟

ترددت سلمى قبل أن تواجه مصيرها المحتوم وهي تقول:

– حسنا.. بعض الطالبات تأخرن في تسليمه، فأعطيتهن فرصة لوقت الاختبار، وإلا فقد أنهيتُ تصحيح الدفاتر سابقا ولكنني..

غير أن والدتها قاطعتها لتستأنف سلسلة اللوم والتوبيخ:

– ماذا تتوقعين من الطالبات إن كانت أستاذتهن تضيع الوقت أمام افلام الكرتون!! عليك أن تعرفي كيف تديرين مسؤولياتك بالطريقة الصحيحة، فقد أصبحتِ كبيرة بما يكفي لتعتمدي على نفسك!!!

انسابت الدموع غزيرة من عيني سلمى، فقد زاد عليها خيبة أمل والدتها بها وهي الحريصة على إرضائها دائما، فجاهدت لتقول:

– أرجوك أمي.. اعترف بخطئي ولكنني بحاجة لدعواتك الآن، صدقيني ليس الأمر كما تظنين فقد اختصرتُ كثيرا من (الكرتونات)، ولم أعد اتابع سوى القليل منها!!

قالت جملتها تلك، وأخذت تستعرض أسماء ما تتابعه في ذهنها سريعا:

“أجنحة كاندام، النمر المقنع، أنا وأخي، أبطال الديجيتال، سلام دانــ..”

تسارعت نبضات قلبها، القائمة ستبدو طويلة فعلا إن تابعت العد، يجب أن تحذف منها سلام دانك على الأقل، فهي لم تشاهده اليوم بطبيعة حال! وجاءها صوت والدتها على الطرف الآخر:

– رغم أنني أشك بكلامك هذا، لكن يُفترض في حالتك هذه أن لا تشاهدي شيئا حتى تُنهي ما بيدك من مسؤوليات؛ بدلا من الاكتفاء بالاختصار وحسب!! ثم عليك الاهتمام بأمر عيناك قبل كل شيء، أم أنك تريدين ارتداء نظارة أخرى فوق نظارتك- لا قدر الله!!

حاولت سلمى تبرير موقفها قدر المستطاع:

 – قدر الله وما شاء فعل، وسأحاول في المرة القادمة أن أكون أكثر حرصا، لكن الآن أرجوك ادعيلي، فأنا بحاجة لرضاك علي لتسهيل الأمور، خاصة وأنني لستُ المسؤولة عما حدثــ…

فيما تابعت أمها سلسلة اللوم والتأنيب:

– لا تخدعي نفسك بأنك غير سعيدة لأخذ دور سوبرمان في الأزمات!! ألستِ من يتطوع دائما للإشراف على الانشطة الطلابية، وتنظيم الحفلات وإقامة الندوات، وإلقاء الخطابات و(الفلسفات)….

– أرجوك أمي….

– عليك أن تتحملي النتائج!!

لم تجد سلمى بدا من سماع ذلك كله، فهي بحاجة لرضا أمها بأي وسيلة ممكنة، فقالت باستجداء:

– حسنا أمي معك الحق، لكن أليس من الأفضل أن نناقش الحل الآن؟؟؟

وبسرعة جاءها الجواب الحاسم:

– لا يحتاج الأمر إلى تفكير، أولا جهّزي حقيبة السفر؛ فإنني أراهن أنك نسيتِ أمرها وهي أهم ما عليكِ فعله، إبدئي فورا بذلك بمجرد انهاء المكالمة، وإلا فما الذي ستفعليه في الأيام الاربعة القادمة دون حاجياتك!!!

وإياك أن تتركي الشقة متسخة، أو دون ترتيب، فلا أحد يدري ما الذي قد يحدث معه! بعد ذلك اكتبي كلمة تؤدي الغرض بسرعة، أو يمكنك كتابتها في الطائرة، ولا داعي للفلسفة والحذلقة والاستعراض فيها، احذري من العُجب والغرور، فلولا لطف الله بك لما كنتِ شيئا يُذكر!

كانت سلمى تهز رأسها موافقة على كل كلمة تقولها أمها، وهي تردد -كلما أُتيحت لها الفرصة- كلمات من نوع :

– حاضر.. إن شاء الله… سأفعل … اطمئني…

فيما تابعت أمها:

– لا ترهقي نفسك بالسهر فصحتك أولى، ولا تنسي الأذكار المسائية والصباحية وقبل النوم، وأكثري من الاستغفار والصلاة على النبي..

فرددت سلمى:

– صلى الله عليه وسلم، إن شاء الله سأحاول فعل كل ما قلتيه، هذا وعد إن شاء الله، ولكن ماذا عن التصحيح، هل أتجاهل أمره؟؟

فأجابتها أمها بحزم:

– أفضّل أن تنهي مسؤلياتك طبعا، لكن بما أن الوقت تأخر، فنامي واستيقظي قبل الفجر كما كنتِ تدرسين أيام الامتحانات النهائية، وأسأل الله أن يبارك في وقتك وجهدك…

كانت جملتها الأخيرة تلك؛ كفيلة بإزاحة جبل من الهموم عن صدر سلمى، فهتفت بمرح:

– اطمئني امي، إن شاء الله سأكون عند حسن ظنك، فكثّفي من دعواتك الطيبة لو سمحت..

وقبل أن تُنهي المكالمة، سمعت همهمة على الجانب الآخر، قالت أمها على إثره:

– معك عبد الله، يقول أنه يريد إخبارك بأمر هام…

وبسرعة جاءها صوت أخيها الصغير، ذي الاربعة عشر ربيعا، بحماسته المعهودة:

– السلام عليكم سلمى، هل عرفتِ أن كونان سيعود لطبيعته سينشي في الحلقة القادمة التي قد تكون الأخيرة؟

فهتفت سلمى بانفعال:

– حقا!!!! هل أنت متأكد؟؟؟ ربما هي محض إشاعات كالعادة، لقد شاهدتُ آخر حلقة على سبيس تون، ولم يذكروا أن هذا ما سيحدث في الحلقة القادمة!!

وبدلا من أن تسمع سلمى رد عبد الله، سمعت صوت والدتها وهي تجذب الهاتف منه موبخة:

– أهذا وقت كلام كهذا!!! ظننتك ستسألها في درس الفيزياء!!!! إذهب وضع عقلك في رأسك!!!!

فيما أكملت توجيه كلامها للجانب الاخر من الهاتف:

– والكلام نفسه لك يا ابنتي، اذهبي بسرعة وركّزي في أمورك هداك الله…

شعرت سلمى بنوع من الذنب، فهي بالكاد استطاعت أن تُثبت لأمها أنها حسنة السيرة والسلوك فيما يختص بأفلام الكرتون، فختمت حديثها بوعد صادق، أنها ستبذل جهدها لفعل كل ما هو مطلوب منها على أكمل وجه..

***

شعرت سلمى بانشراح كبير لفكرة امها، ولم تدرِ كيف لم تخطر ببالها أصلا! فإذا كانت “كمية” الساعات المتوفرة لا تكفي لإنجاز أعمالها؛ فعليها أن تفكر بـ “النوعية” الجيدة والمناسبة لكل “مهمة”..

فلا أفضل من ساعات “السحر والفجر” للعمل والانجاز، ولن تجد أفضل من ساعات “بعد العشاء” للنوم وتخزين الطاقة! وبالاستثمار الصحيح لكلتا النوعيتين من الساعات؛ ستحقق أفضل النتائج بإذن الله…

ابتسمت برضا وهي تضع اللمسات (الترتيبية) الأخيرة على المطبخ والشقة بشكل عام، فقد أنجزت جزءا كبيرا من ذلك أثناء وجود نهى، ولسانها يلهج بالذكر والدعاء:

– اللهم بارك في وقتي وجهدي..

وعقلها مشغول بأمر الزمن!!

كم كان بودها أن تكتب بحثا مفصلا عن نسبية الزمن، تمدده وتقلصه، علميا وفلسفيا وتجريبيا ودينيا!! أوليس مفهوم “البركة في الوقت” هو أمر معروف لدى المسلمين دينيا! ألم نسمع كلام حبيبنا صلى الله عليه وسلم؛ “اللهم بارك لأمتي في بكورها”!! ومفهوم البركة بلا شك؛ يتضمن فكرة “تمدد الزمن”!

ومن لطف الله بها، أن الليل طويل في مثل هذا الوقت من السنة؛ فقد أنهت كل ما اقترحته أمها عليها دون أن تتجاوز الساعة التاسعة والنصف!!!

 حقا.. “الشتاء ربيع المؤمن”!!!

لم تنسَ سلمى إعداد حقيبتها بسرعة؛ قبل أن تغط في نوم عميق، ولم يكن ذلك يحتاج منها أكثر من بضع دقائق!! فهو أسرع عمل يمكنها إنجازه في حياتها كلها، فجميع ملابسها متشابهة شكلا ولونا، وما عليها سوى نقل ثلاث نسخ من ملابس الخروج إلى حقيبتها بسرعة، في حين أنها أعدت النسخة الرابعة لترتديها صباح الغد!! بالطبع سترتدي فوقها جلبابها المفضل، الذي تملك منه نسخة واحدة أخرى فقط، لأنها لم تعثر على نسخة ثالثة في المحل!! فهو من نوعية ممتازة، لا تبلى بسهولة، ويمكن أن يخدمها عدة سنوات!!! بالطبع لم تنسَ إضافة نسختين من ملابس النوم!!! فمن المؤسف أنهم لم يتمكنوا حتى هذه اللحظة من تصميم ملابس تصلح للنوم والخروج في الوقت نفسه!! ولكن لا بأس.. فحتى الشخصيات الكرتونية تبدل ملابسها عند النوم!!

 لطالما ظن البعض – ممن لا يعرفون طبعها- أنها لا تملك سوى لباس واحد فقط! بل إن هناك من ربط هذا بـ “التدين”!! لدرجة أنها كادت أن تتخلى عن طبعها؛ لكثرة ما أعادت كلامها – مرارا وتكرارا- لتوضيح أن ما تفعله أمر شخصي بحت، ولا علاقة للدين به من قريب أو بعيد، فقد كانت من النوع الذي يكره التغيير الدائم للمظهر العام؛ واللباس الذي يريحها تشتري منه عدة نسخ مكررة تكفيها طوال العام!!!!!!!

وبالطبع لم تخبر أحدا أن ما تفعله يكاد أن يكون كسلا لا أكثر!!

فإذا عثرت على ملابس مناسبة، فلماذا تُتعب نفسها بالبحث عن قطع أخرى، خاصة وأن العثور على ملابس فضفاضة، من النوعية التي تفضلها، أصبح صعبا هذه الأيام!! ومن ثم لماذا تتعب تفكيرها بعد ذلك بانتقاء ما سترتديه كل يوم!!! أليس هذا مضيعة للوقت!!!!! ثم ألا يدل هذا على ذوق رفيع!! وإلا فما بال معظم الشخصيات الكرتونية ترتدي الملابس نفسها من الحلقة الأولى وحتى الأخيرة!!!!

 ومن المفاجآت اللطيفة، اكتشافها ذات مرة؛ أن “برنارد شو” كان يفعل الشيء نفسه!!! مما دعّم حجتها بأنه أمر شخصي لا علاقة للدين به، فالاسلام حسبما تعرف، لم يطلب منا أكثر من أن تكون ثيابنا نظيفة ومرتبة ومحتشمة، دون اسراف أو تبذير، بما يُرضي الله عنا، ولكل فرد حرية الاختيار بعد ذلك ضمن هذه الحدود..

***

فتحت سلمى عينيها قبل أن يبدأ المنبه بالرنين، فرمقت الساعة بابتسامة رضا، انها الواحدة وخمس وأربعون دقيقة بعد منتصف الليل؛ لديها خمس ساعات على الأقل من النوعية الممتازة، فنهضت بنشاط وحيوية ولسانها يردد:

– الحمد لله الذي أحياني بعد أن أماتني وإليه النشور..

توضأت وصلّت ركعتين خفيفتين، دعت الله في سجودهما أن يسهل عليها التصحيح، الذي باشرته فورا بعد ذلك..

كانت الأوراق تنساب بين يديها بسهولة، فمعظم الخطوط واضحة، والاجابات صحيحة؛ مما أعطاها دافعا اضافيا للمتابعة بحماسة، بل انها كانت تستمتع ببعض الأجوبة المميزة، لا سيما مع ورقة حنان، تلك الطالبة العبقرية، التي تفاجئها دائما بطرقٍ فريدة في الحل! ولولا أنها لا تملك من الوقت ما يسمح لها بالاستغراق أكثر في ورقتها؛ لما فرغت من ذلك حتى اليوم التالي! فاكتفت بوضع العلامة الكاملة، على أمل أن تعود للتأمل في تلك الأجوبة المبدعة في وقت لاحق، وقلبها يدعو لها بالمزيد من التوفيق والتميز، وأن يجعلها الله ممن ينهضون بهذه الأمة..

وهكذا.. بدأ تل الأوراق يتضاءل تدريجيا، بين دعوة لهذه بالتوفيق، ودعوة لتلك بصلاح الحال، ودعوة لأخرى بالهداية والمغفرة؛ غير أن شهقة صغيرة أفلتت من حلقها، وهي تطالع ورقة أريج!! الطالبة الخلوقة المجتهدة، والمفضلة لديها من بين جميع الطالبات!! وتمتمت بألم وهي تستعرض الأجوبة الخاطئة:

– لماذا يا أريج!! لقد كان أداؤك رائعا أثناء الحصص!! من المستحيل أن يكون هذا هو مستواك!!!!

ولم تستطع سلمى لوهلة؛ إكمال تصحيح ورقتها، لقد كان ذلك مؤلما حقا!!!

عندها تذكرت حديثا سمعته قديما، ولم تشعر بمعانيه إلا الآن!! أن أعمالنا تُعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا وجد حسنا حمد الله، وإن وجد سوءا استغفر الله لنا..

لم يخطر ببالها وقتها، استشعار المعاني العظيمة فيه كما تستشعرها هذه اللحظة بالذات!!! ورغم انها لا تعرف درجة صحة الحديث، غيرأن التفكير في معانيه كان كافيا لها لمراجعة حساباتها! هل فكرت يوما كيف هو عملها الذي سيُعرض على الرسول صلى الله عليه وسلم!! هل سيسر برؤيته؟؟ هل سيحمد الله أن وجدها ممن يحملون رسالته، ويبلغون دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة؟؟ والأهم من ذلك كله.. أن يكون قلبها سليما، وسريرتها صالحة، وتعمل بما تقول!! فإذا كان المعلم البسيط يفرح بإحسان تلميذه ويستاء من إساءته؛ فكيف بمعلم البشرية، ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم!!!

ودمعت عيناها تأثرا:

– يارب اغفر ذنبي، واستر عيبي، ولا تُري مني نبيي إلا خيرا؛ يُثلج صدره، ويقر عينه، وأكرمني بشفاعته يا أكرم الأكرمين، يا أرحم الراحمين.. يـــــــــارب..

لم تدرِ سلمى كم مر عليها من الوقت، وورقة أريج بين يديها، غير أنها استدركت نفسها أخيرا؛ فتابعت تصحيح الورقة، وقلبها يدعو لطالبتها العزيزة بأن يعوضها الله خيرا، فلولا خشية الله، الذي يراقبها في السر والعلن، لمنحتها درجات إضافية متغاضية عن أخطائها، لكنها أمانة ومسؤولية، وعدل سيحاسبها الله عليه إن أخلّت ميزانه..

وقبل أن تنتقل لورقة أخرى، ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيها، وهي تقرأ الملحوظة الصغيرة في هامش الصفحة الأخيرة من الورقة:

” أشعر بالخجل الشديد منك أستاذة سلمى، أرجوك سامحيني فأجوبتي ليست مقياسا لشرحك الرائع وجهدك المبذول معنا، لكنني لا أدري ما الذي جرى لي فجأة.. شكرا جزيلا لتعبك من أجلنا، وإن شاء الله سأبذل جهدي لتعويض ذلك في المرات القادمة”

كان هذا كفيلا بإعطائها دافعا جديدا، للمتابعة بشحنة إضافية من العزيمة على تحقيق الهدف، فحمدت الله كثيرا، وهي تستأنف التصحيح من جديد…

***

 ارتفع صوت أذان الفجر مع انتهائها من تصحيح الورقة الأخيرة…

فشبكّت أصابعها، و (مطّت) ذراعيها بتنهيدة طويلة:

– الحمد لله…

ورددت مع الآذان وهي تستعد لصلاة الفجر بسرعة؛ فما زال أمامها تصحيح الدفاتر، ومن ثم رصد الدرجات، وقبل ذلك لا بد لها من مراجعة التصحيح والجمع!! خاصة وأنه لا أحد يراجع الدرجات خلفها في المدرسة؛ مما يضاعف مسؤوليتها أمام الله..

 وبعد أن صلّت الفجر، وقرأت أذكار الصباح – كما وصّتها أمها- استعرضت كشف الدرجات بنظرة عامة؛ من لطف الله بها انها رصدت معظم درجات الدفاتر سابقا، ولم يتبق أمامها سوى خمسون خانة فارغة في قسم “درجة الواجب”، التي تقابل جبل الدفاتر أمامها، والعائد للطالبات المتأخرات في التسليم، بعد أن منحتهن فرصة اضافية، على أمل ترسيخ المعلومات العلمية في أذهانهن!!

التقطت نفسا عميقا وهي تختلس النظر إلى الساعة أمامها؛ السادسة إلا خمس دقائق! ليتها تملك ساعة مثل ساعة مباراة الكابتن ماجد ضد بسّام! غير أنها سرعان ما طردت الفكرة من رأسها مسمية بالله؛ كمن يستعد للانطلاق على دراجة نارية ملتهبة:

– بسم الله توكلتُ على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله..

 لتبدأ بعدها تصحيح الدفاتر بحماسة.. فرغم أن عدد الأسئلة في الدفتر أكثر من عددها في الاختبار؛ لكن نسبة الخطأ هنا أقل! هذا بالاضافة إلى أنها اعتادت على التصحيح السريع أولا بأول خلال الدراسة، وما عليها الآن سوى عمل تصحيح شامل للتأكد من أن الأخطاء قد تمت مراجعتها من قِبَل الطالبات، لتقدّر بعدها العلامة النهائية المستحقة لكل طالبة..

***

انتبهت سلمى على صوت المنبه قبل أن تتناول الدفتر قبل الأخير! الساعة السادسة والنصف، وهي لم تراجع أوراق الاختبار، ولم ترصد الدرجات بعد، ثم إن عليها أن تقوم بتسليم الكشف للمدرسة قبل السفر، أي قبل الساعة الثامنة؛ وإلا فإن جهودها ستصبح بلا معنى!! ورغم التوتر الذي شعرت به؛ إلا أنها حاولت الاسراع في تصحيح الدفترين الأخيرين..

” يا مستعجل وئّف لهؤلّك!!”؛ مثل مشهور في بلادها! نصّه بالعربية الفصحى: ” أيها المستعجل: قِف؛ لِأقول لك شيئا!”، ورغم أنه يعبر عن ضيق المستعجل بما يعيقه عن متابعة حركته، إلا أنها طبقته حرفيا بعد أن انتهت من الدفاتر!! فقد حملقت قليلا في الساعة وغرقت في تفكير عميق؛ ما الذي عليها فعله حقا!

هل تتنازل عن مراجعة الدرجات، وتبدأ برصدها فورا لتتمكن من تسليمها للمدرسة! لا سيما وانها قد عملت في حسابها أن تأخذ معها ما جمعته من بقايا الطعام في الحافظات البلاستيكية، فهي دائما ما تقابل في طريقها بعض المحتاجين ممن يقتاتون على جمع العلب المعدنية من الحاويات! لا تزال أمامها مهمة إعادة الأطباق الفارغة للجيران، والمشي إلى المدرسة يستغرق عشر دقائق، هذا إن ذهبت هرولة!  بالطبع عليها أن تضاعف تلك المدة لأنها ستحتاج مثلها عند العودة، فالحافلة المتجهة إلى المطار ستأخذها من باحة شقق المعلمات السكنية!!

شعرت بحاجة ماسة لسؤال أحدهم، وطلب المساعدة!

– يــــارب ساعدني!!

عندها أخذت نغمات قديمة تدندن في رأسها:

“أنا لبيبة.. اسألوني

اسألوا اسألوووووووووووني

عندي لكل سؤال جواب..

اسألوا لبيبـــــــــــــة”

كيف لم تخطر ببالها جارتها الطيبة، والدة نهى، الاستاذة لبيبة!!

لقد آن أوان سؤالك يا لبيبة!!!

نظرت إلى الساعة فوجدتها: السادسة وسبع وثلاثون دقيقة فقط!!

من الرائع أن ذلك “المونولوج” الداخلي؛ لم يستغرق منها أكثر من ثوانٍ معدودة، لقد فهمت أخيرا سر الكابتن ماجد!!!

اتخذت قرارها بسرعة، سترصد درجات الدفاتر أولا، ومن ثم ستراجع أوراق الاختبار، بعد ذلك ستعطيها للاستاذة لبيبة مع كشف الدرجات، وتطلب منها تسليم ذلك للإدارة ليتولوا مسؤولية رصد درجات الاختبار، بالطبع ستحادث مديرتها عندما تستقر أمورها، وبالتأكيد ستقدّر الموقف! ما يهمها الآن هو أن تبدأ بتنفيذ خطة الطواريء هذه  قبل أن تذهب الاستاذة لبيبة إلى المدرسة، فعادة ما تبدأ الاستاذات بالتحرك من السكن؛ في السابعة والربع، وأمامها الآن نصف ساعة وثمان دقائق!! وهكذا انطلقت بمحركٍ نفاثٍ جديد، فهذا سباق مع الزمن، ولا مجال للتراجع!!

***

– الحمد لله رب العالمين..

قالتها سلمى وهي تسترخي على مقعدها للحظة واحدة، بعد أن أنهت رصد درجات الدفتر، ومراجعة أوراق الاختبار.. ومن فضل الله عليها؛ أنها لم تجد سوى خطأ واحد في ورقة احدة؛ نسيت فيها أن تضيف ربع درجة للعلامة النهائية! فأضافتها، وهي تشعر بتأنيب ضمير شديد، نحو تلك الفكرة التي كادت أن تسيطر عليها بالاستغناء عن المراجعة!!!

الساعة السابعة و ثلاثة عشر دقيقة!

ارتدت غطاء الصلاة بسرعة، وهرعت نحو الباب، خشية أن تكون الأستاذة لبيبة قد بكّرت في ذهابها إلى المدرسة، وما أن فتحته حتى وجدتها أمامها بانتظار المصعد، فالتقطت أنفاسها وهي تقول باندفاع:

– السلام عليكم أستاذة لبيبة، الحمد لله أنني أدركتك!! لحظة من فضلك أرجوك..

وأسرعت للداخل، لتضع أوراق الإختبار في مظروف خاص مع كشف الدرجات، ثم ناولته للأستاذة لبيبة، التي أخذت تحملق فيها بدهشة:

– خير إن شاء الله! ماذا حدث يا سلمى؟؟ ألن تذهبي إلى المدرسة اليوم؟؟

فشرحت لها سلمى على عجالة ما حدث معها، ولم تكن تحتاج لمزيد من التوضيح بشأن درجات الفيزياء؛ فقد ابتسمت لبيبة مُطمئنة:

– حسنا لا بأس، إن شاء الله سيكون كل شيء على ما يُرام، توكّلي على الله، ولا تُشغلي بالك..

وصافحتها قائلة:

– انتبهي لنفسك يا سلمى، ولا تنسينا من دعائك، فأنت في طريق سفر، “أستودع الله دينك وآمانتك وخواتيم أعمالك”..

وردت عليها سلمى، بعد أن انزاح هم ثقيل عن كاهلها:

– ” أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه”، وأنت أيضا لا تنسيني من دعائك أستاذة لبيبة، وجزاك الله خيرا كثيرا لكل شيء..

حقا كما يقول المثل: “أرسل لبيبا ولا توصه”!!، إنها فعلا لبيبة واسم على مسمى.. وهذا من فضل الله عليها فالحمد لله أولا وأخيرا!!

***

شعرت سلمى بحاجة ماسة للراحة؛ فاستلقت على سريرها قليلا، قبل أن تنهض لتتابع سباق “الماراثون”، فأمامها خمس وثلاثون دقيقة فقط، وعليها أن ترتب سريرها وتستحم بسرعة، وتعيد الصحون لجارتين من جاراتها، الأولى في الطابق العلوي، والثانية في الطابق الأرضي، ومن فضل الله عليها أنها أعادت صحون الاستاذة لبيبة مع نهى وأختها ليلة أمس!

غير أنها تذكّرت فجأة أنهن معلمات وقد ذهبن جميعا لدوام المدرسة!

فاستدركت:

– حسنا لا بأس.. سأتركها عند الحارس إن شاء الله..

وفي غضون ثمان دقائق؛ أخذت حماما دافئا، أقرب للبرودة منه إلى السخونة، ثم لفّت شعرها بمنشفة خاصة، لها قدرة عالية على الامتصاص، إذ لم تكن معتادة على استخدام مجفف الشعر الكهربائي، ولم تكلف نفسها عناء الحصول على واحد أصلا! ثم سارعت بارتداء ملابسها، واستدركت اضافة ثلاثة أزواج من جواربها القطنية البيضاء، في الحقيبة، بعد أن ارتدت واحدا، وهمّت بالاستفادة من خاصية حجابها لهذا اليوم فقط، وتأجيل تمشيط شعرها لوقت لاحق، عندما تصل غرفتها في الفندق مثلا، غير أن جملة والدتها الشهيرة، انتصبت متجسدة أمامها بقوة ووضوح:

– “الحجاب عبادة تتقربين بها إلى الله، وليس ذريعة للكسل!”

فأسرعت تتناول مشطها بتحدي، كمن يدخل معركة لا مناص منها، ولولا خشيتها من تكرار مأساة شخصيتها المفضلة “جو” من مسلسلها الكرتوني المفضّل “نساء صغيرات”؛ لقصّت شعرها منذ وقت طويل!!! وأخذت تشجع نفسها بترديد أغنية الاطفال القديمة:

مشّط شعرك يا قمر

بالصابون والحجر

وينك يا قمر؟؟

بمشّط شعريـ…

آآآآآآآآآآآآآآآآه

صدرت منها صرخة الألم تلك على حين غرة، بعد أن علق المشط في شعرها المتشابك؛ بينما كانت تجذبه بشدة! فالتقطت نفسا عميقا وهي تحدث نفسها مهدئة:

– استغفر الله.. يبدو أنه لا قمر ولا حجر ولا يحزنون، (يا قاتل، يا مقتول)!!

هذا مثل مشهور في بلدها أيضا؛ يعبر عن عدم التراجع في (معركة حاسمة)، فإما قاتل أو مقتول!!!!!

أخذت سلمى تحاول إعمال المشط في شعرها بحكمة أكبر، ولم يرُعها إلا رؤيتها لعقرب الدقائق؛ وهو يشير إلى التاسعة!! ظنّت لوهلة أن الساعة هي التاسعة فعلا، غير أنها استدركت بسرعة:

– الحمد لله.. إنها الثامنة إلا ربع فقط!! ولكن هذا لا يعني أن أمامي وقتا لأضيعه!

فأمسكت المشط بتحدٍ أكبر هذه المرة:

– باسم الله توكلت على الله..

عليها التجلّد بعزيمة وإرادة عملاقة، مع قوة احتمال لا نهائية للألم، فلا بد لها من استخدام “ضربة ماجد الصاروخية” هذه المرة، وأخذت تردد بحماسة كبيرة- وهي تمشّط شعرها بسرعة رهيبة، تتجاوز جميع القوانين المسموح بها في عالم القيادة:

” بسيوف أقوى من نار عرفت كيف الرد

ما هنتِ ولم تهني بل من أجلك ثار اشتد

هزيم الرعد

هزيم الرعد..

لن نستسلم مهما ازداد الظالم بغيا

سنهب بوجه الطغيان..

أجنحة كاندام.. أجنحة كاندام..

سجل أهدافا لا تيأس لا تخشَ المرمى

كن حسن الخلق مع الخصم فأهدافك أسمى

كابتن ماجد.. ترالالالا

كابتن ماجد.. ترالالالا

عاد إليكم من جديد…”

وخلال دقيقتين فقط؛ كانت قد أحكمت ربط شعرها، وارتدت حجابها، قبل أن يدق الحكم صفارة النهاية، لتحصل على كأس العالم، وتعتلي عرش الانتصار بكل فخر!! (أو هذا ما خُيّل إليها في تلك اللحظات)!!!

وقبل أن تنتعل حذاءها الطبي، صّلت ركعتي الضحى، وسجدت سجود شكر لله، أن سهّل لها إتمام جزء كبير من مهمتها بنجاح، ثم تناولت الصحون، وأسرعت بها نحو الحارس، الذي كان محل ثقة كبيرة لدى الجميع دون استثناء، ووعدها خيرا، وقبل أن تعود إلى شقتها لتحضر الحقيبة، لمحت امرأة محتاجة، ممن أعتدن جمع العلب المعدنية، تقف قرب حاوية القمامة المقابلة لفناء الباحة، فذهبت إليها مسلّمة بمودة، طالبة منها بأدب جم، الانتظار قليلا ريثما تحضر بعض الطعام، وبينما أسرعت سلمى إلى شقتها، أخذ لسان المرأة يلهج بالدعوات وهي تتابع عملها بجد..

صعدت سلمى بسرعة إلى الشقة عن طريق الدرج، فلم تكن لتنتظر المصعد حتى يؤدي دوره نحو الطابق الثاني، بعد أن منّ الله عليها برؤية تلك المرأة، ولم تكد تناولها الطعام مع ما تيسّر لها من مال،  حتى تنفست الصعداء براحة كبيرة، لقد أنجزت جميع مهامها الآن بسلام!!

وقبل أن تلتفت لتصعد نحو الشقة للمرة الثانية، رأت باص المعلمات المخوّل بنقلها إلى المطار، قادم من نهاية الشارع! فأشارت إليه بأنها قادمة، وأسرعت تصعد الدرج من جديد، لتحضر حقيبتها، وقبل أن تدلف إلى الشقة؛ سمعت صوت هاتفها يستصرخ بغضب، فجَرَت نحوه، لتجيبه وهي تلهث- فلا شك أنها أمها:

– السلام عليكم أمي، سأحادثك فيما بعد إن شاء الله، الباص بالأسفل ينتظرنـ..

غير أنها استدركت بسرعة؛ بعد سماع صوت والدها:

– كيف حالك أبي؟ كنت سأحادثك عندما أصل المطار إن شاء الله، كما أن هناك “كلمة” عليّ كتابتها، وأرغب باستشارتك بشأنها..

فجاءها رد والدها بنبرة حانية:

– حسنا لا تتأخري، فلدي اجتماع هام في التاسعة.. الأهم من ذلك؛ هل تناولتِ إفطارك جيدا؟

 فأجابته سلمى، وهي تنظر إلى الساعة المُشيرة إلى “السابعة وسبع وخمسون دقيقة”:

– إطمئن أبي سأتناوله في المطار إن شاء الله، فسيكون لدي وقت هناك قبل صعود الطائرة، وسأحدثك بالتفاصيل لاحقا، إن شاء الله، فالباص ينتظرني..

وقبل أن تنتهي المكالمة، سمعت صوت أمها على الجانب الآخر بسرعة:

– إياك أن تنسي المفتاح داخل الشقة، أغلقي الباب جيدا، وتأكدي من إغلاقه..

فردت سلمى وهي تجر حقيبتها نحو الخارج:

– حاضر أمي.. اطمئني كل شيء على ما يرام بفضل الله، سأكلمك فور ركوبي الباص إن شاء الله..

وقبل أن تخرج، تذكرت أنها لم تلقِ على نفسها نظرة خاطفة في المرآة، فأسرعت نحو واحدة علّقتها قرب المدخل، وأمسكت طرف نظارتها الطبية العزيزة، بثلاثة أصابع من أصابع يدها اليمنى، وثبتتها جيدا أمام عينيها، لتبتسم برضا، مثنية على ذوقها ومظهرها العام:

– بسم الله ما شاء الله تبارك الله، ولا حول لا قوة إلا بالله!! الحمد لله.. هذا من فضل ربي، “اللهم كما حسنت خلقي فحسّن خُلُقي”..

ثم أغلقت باب الشقة بهدوء، مرددة:

– ” بسم الله آمنت بالله اعتصمت بالله، توكلت على الله ولا حول لا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أُضل، أو أزل أو أُزل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يُجهل علي”..

وابتسمت وهي تتخيل منظر الشيطان يعود خاسئا خائبا، ليقول لصاحبه- كما ورد عن الرسل صلى الله عليه وسلم، لمن يقول ذلك الدعاء-  ” كيف لك بمن وُقي وكفي وهدي”!!!

وكأي أستاذة قديرة محترمة، طلبت المصعد؛ لتنزل به مع حقيبتها المحترمة، بكل وقــــار!!!

حتى إذا ما استقرّت في مقعد الباص؛ هاتفت أمها بصوت خافت، قائلة لها بمرح، على غرار القصص البوليسية:

– الحمد لله..

MISSION COMPLETED!

( لقد تم انجاز المهمة بنجاح، سيدى)

***********

   مرت أيام المؤتمر على خير إجمالا؛ بالطبع لم يكن من الغريب اكتشاف سلمى، فور وصولها الفندق، نسيانها لبعض حاجياتها الضرورية، كالمشط وفرشاة الاسنان والمعجون، غير أنها أمور يُمكن تدبرها بسهولة من أي مكان!! بشكل عام؛ كانت رحلة موفقة، وعادية في الوقت نفسه، فلا شيء فيها قد خالف مساره المتوقع له منذ البداية!! وهاهي الآن في المطار، تجلس باسترخاء في صالة الانتظار، حتى يحين موعد الصعود إلى الطائرة..

 كانت غارقة تماما في كتابٍ أثار اهتمامها بشدة، اشترته من أحد المكتبات القريبة من فندقها، بعنوان “سنة التفاضل، وما فضل الله به النساء على الرجال”، وقد ظنته بداية للشيخ “علي الطنطاوي” رحمه الله، غير أنها اكتشفت بعد ذلك أنه قد قدّم له وحسب، في حين أنه من تأليف حفيدته “عابدة المؤيد العظم”!

كما يتفق معظم القرّاء؛ هناك طريقتان يمكننا من خلالها اصدار حكم مبدئي على كتاب ما، أولهما؛ عنوان الكتاب وتصنيفه، وقد بدأ يدخل مؤخرا ضمن هذا الطريق؛ شكل الكتاب وإخراجه، وعادة لا يكون هذا مؤشرا دقيقا عن جودة الكتاب، أما الطريق الثاني فهو “اسم المؤلف”! وبالنسبة لها، كان اسم الشيخ “علي الطنطاوي” وحده، كفيلا للدلالة على جودة الكتاب، مهما كان شكله وعنوانه! لا زالت تذكر ردود أفعال الآخرين حول رأيها هذا، بداية من ابنة عمها وحتى طالباتها!! أما ابنة عمها فقد كانت تُبغض القراءة بغضا شديدا، وتتعجب من كل مَن يمسك كتابا ليقرؤه بمحض إرادته! فبرأيها؛ ما الكتب إلا أدوات نُجبر على دراستها، لنحصل على الشهادة!! غير أنها استطاعت بحيلة ما، اقناع ابنة عمها هذه، بقراءة كتاب (صور وخواطر) للشيخ علي الطنطاوي، فكانت المفاجأة، التي أذهلت سلمى نفسها، عندما رفضت ابنة عمها إعادة الكتاب! لقد تعلقت به لدرجة لا توصف، بعد أن أصبح رفيقها المؤنس الضاحك! وأصبحت ترجوها إعارتها المزيد من كتبه!!! لا أحد يُنكر.. للشيخ علي الطنطاوي سحر في كتاباته لا يُقاوم، وإن من البيان لسحرا!! بل إنها تكاد تجزم أنه سيد (الكوميديا) الكتابية، إن صح التعبير!! ومن لم يصدّق، فليقرأ مقالاته عن الأعرابي في كتابه المذكور!

 وفي الوقت نفسه، يمكن أن يكون سيد (التراجيديا)! فهي لا تذكر أن مشاعرها اهتزت وتأثرت، بل وبكت وأجهشت، كما حدث يوم قراءتها لقصة (محمد الصغير)، من كتابه (قصص من التاريخ)!!! ربما كانت وقتها صغيرة، ولم تكن تعرف عن (محاكم التفتيش)، ولم تطلع على الكثير من الأساليب؛ ومع ذلك فالشيخ علي الطنطاوي برأيها؛ أسطورة الأدب العربي، ومن لم يقرأ له، فقد فاته الكثير بلا شك!! فمن هذا الذي استطاع الجمع بين الأدب والحكمة، والعلم والدين، والفقه والتاريخ، مع الفن الضاحك في الوقت نفسه!!

هذا ما حدثت به طالباتها في نادي القراءة، الذي أسسته معهن في المدرسة، يومها اقترحت عليهن كتاب “تعريف عام بدين الاسلام” للشيخ علي الطنطاوي، فتململت إحدى الطالبات بقولها:

– إننا مسلمين ونعرف ما هو الاسلام، والكتب الاسلامية على الرأس والعين، ولكننا نريد كتابا أكثر جاذبية ومتعة؛ لنشجع الأخريات على القراءة، فهذا هو هدفنا في النادي!

فسألتها إن ما كانت قد قرأت للشيخ علي الطنطاوي سابقا، ولما أجابت بالنفي؛ قالت لها بكل ثقة:

– معك الحق في أن العنوان يبدو مملا، لكن اسم الشيخ علي الطنطاوي؛ كفيل بتغيير أكثر العناوين جمودا، إلى أكثر الكتب متعة!

ولم يكن كلامها ليُقنع الطالبة في ذلك الوقت، غير أن ثقة سلمى بكلامها؛ دفع الفتيات لخوض هذه التجربة والحكم عليها بأنفسهن! أما ما حدث بعد ذلك، فقد أدهش سلمى نفسها!!

كانت سلمى غارقة في ذلك الكتاب، الذي أثار اهتمامها بالكامل، فأسلوب المؤلفة يشبه إلى حد كبير أسلوب جدها علي الطنطاوي رحمه الله، بالإضافة إلى أنه يعالج مشكلة تكاد أن تكون منتشرة في معظم البيوت العربية للأسف! بل ودائما ما تحاول إفهام الطالبات اللاتي يعرضن مشاكلهن عليها، أن الاسلام لم يظلم البنت، وإنما هي موروثات مجتمعية خاطئة، ومرفوضة تماما من وجهة نظر إسلامية!

– لا بد أن أعرض هذا الكتاب على طالبات نادي القراءة، سيعجبهن بالتأكيد..

تلك هي الفكرة التي استقرّت في ذهنها، عندما طرق سمعها “كلمة” أثارت انتباهها، في حوار بين اثنتين جلستا قربها..

فتوقفت عن القراءة، والتفتت نحوهما باهتمام، لا شك أنهما ممن حضرن الاجتماع، فشكلهما يبدو مألوف لها..

تابعت الأولى كلامها:

– …فهل سمعت بهذا من قبل؟؟

فأجابتها الثانية بتعجب:

– “مانغاكا”؟؟؟

فأكدت الأولى:

– أجل هذا ما قاله لي المدير، وحسب ما فهمت منه، أن له علاقة بالرسوم والقصص، شيء من هذا القبيل!! تخيّلي أن هذا قد أصبح هدفه ومنتهى طموحه!! ولولا أنه طالب متميز ويهمنا أمره، لما ألقيتُ لهذا الكلام بالا!!

لم تستطع سلمى الاستمرار بالاستماع لهما هكذا، دون الإشارة إلى ذلك، فقد خشيت أن يكون نوع من التجسس! فإما أن تستأذنهما وتشاركهما الحديث، وإما أن تتوقف عن التركيز في كلامهما! فاختارت الثانية، واستأنفت القراءة في كتابها بشغف..

*****

أنهت سلمى محادثة طويلة مع والديها، طمأنتهم فيها عنها، بعد وصولها شقتها بسلام..

 صلّت العشاء وهاهي الآن تستعد لتنام على فراشها الذي افتقدته خلال الأيام الفائتة..

وقبل أن تشرع بقراءة أذكار النوم، لاحت لها تلك الكلمة مجددا، “مانغاكا”!!! وراودتها رغبة عارمة بالبحث عن معناها، وحديث المعلمتين يتردد صداه في أذنيها..

ودون تردد قررت الاستعانة بمحركات البحث على الشبكة العنكبوتية، فهرعت إلى حاسوبها لتبحر في عالمه باهتمام واضح! أخذت تنتقل بين الروابط، فتعريف الـ “مانغاكا”؛ يتضمن كلمة “المانغا”، وعندما بحثت عنها، فوجئت بعدد من الأمثلة عليها تضمنت “سلام دانك”!! إنه مسلسل كرتوني معروف بالنسبة لها، فكيف أصبح ضمن “المانغا”؟؟ فخطر لها البحث تحت بند ” المانغا وأفلام الكرتون”، ولدهشتها الشديدة، ظهر لها مصطلح آخر لم تكن تعرفه من قبل، ألا وهو “الانمي”!! وقد راعها الكم الهائل من المواقع والمنتديات، التي تدخل تحت هذا التصنيف!! وهكذا.. وجدت نفسها أمام عالم واسع، انفتحت لها أبوابه على مصارعها، وعلى حين غرة!!

وبعد بحث وقراءة، تكوّنت لديها صورة “شبه واضحة” عن الموضوع! فـ “الانمي” تعبير ياباني، يُطلق على الرسوم المتحركة المعروفة لدينا مثل “دراغون بول” و”سلام دانك”، ومعظمها ياباني الأصل، وهذه الرسوم المتحركة في الأساس مقتبسة من “المانغا”، وهي مجلات يابانية تحوي قصص مرسومة!!

شعرت بالرضا عن تلك المعلومات، فهي كافية لها حتى هذه اللحظة، وأخذت تفكر في كلام تلك المعلمة، عن ذلك الفتى المتميز، الذي يطمح لأن يكون “مانغاكا”!! عندها قفز استنتاج خطير إلى ذهنها:

“الطريق لصناعة أفلام الكرتون يبدأ من المانغا!!”

 فقفزت على إثره من مقعدها، وهي تردد بحماسة:

“رأيت الحقيقة خلف البصر

رسمت الحروف بعمق الحجر

أنرت الطريق.. وجدت اليقين

رفعت الجباه والهمم

أزلت الغبار عن وجه الحنين

أيقظت الرؤى والهمم

دراغون بول..”

اتجهت بسرعة نحو خزانتها، وأخذت تبحث عن تلك الأوراق، بل عن حلمها القديم الجديد، الذي لا يزال حيا في مخيلتها منذ أكثر من عشر سنوات!!!

“سأكتب أفضل قصة إن شاء الله، ثم أعمل على تحويلها لأروع فلم كرتوني على الاطلاق.. بإذن الله”

هذا ما أخبرت به أهلها وصديقاتها منذ وقت طويل!! لم تنسَ حلمها يوما واحدا، وإن أشغلتها الحياة بواجباتها، منذ أن كانت طالبة في المدرسة! بل إن حياتها أصبحت جزءا من قصة حلمها، تلك القصة التي بدأت على شكل حكاية قبل النوم، قَصّتها على أخويها الصغيرين عمر وعلي، بعد تأثرهم جميعا بالفلم الكرتوني القديم “فرقة الفرسان”!

يومها أخذ الاثنان يتبارزان بعصا المكانس، بعد نهاية الحلقة الأخيرة منه، باعتبار أن أحدهما “آثوس” والآخر ” دارتانيان”، وهما يرددان العبارة:

 “الواحد للجميع والجميع للواحد”

وبما أنها كانت متأثرة جدا بالقصة مثلهما، فقد شعرت برغبة في محاكاتها، فخطر لها اسم “فرسان النجوم”، وجعلت من “عمر” و”علي” أسماء لاثنين من شخصياتها، ومن ثم أضافت اسم “عبد الله”، اسم أخوها الأصغر آخر العنقود، والذي كان لا يزال رضيعا في ذلك الوقت!

لا زالت تذكر كم كانت سعادة أخويها كبيرة وهما يستمعان إليها، مما شجعها على إضافة المزيد من الأحداث، حتى أخبرتها أمها بضرورة التوقف، ليخلد الجميع إلى النوم!

غير أن هذه القصة احتلت مكانة خاصة في قلبها، فلم تكن مثل غيرها من القصص التي قصّتها من وحي اللحظة، لتذهب بعد ذلك مع الريح، بل شعرت برغبة كبيرة باستمرارها، وهذا ما فعلته صباح اليوم التالي، عندما قامت بتدوينها، قبل ذهابها إلى المدرسة!

ولأنها كانت في مرحلة حاسمة تلك السنة، لا سيما وأن اختبارات الثانوية العامة على الأبواب، فقد اضطرت لتأجيل التفكير في موضوع هذه القصة إلى ما بعد التخرج، بالطبع بعد أن عرضتها على صديقتها المقربة (رحاب)، والتي بدورها شجعتها على فكرة تحويلها لفلم كرتوني مستقبلا! ومن ثم عرضت كتابتها على والدها، الذي اعتاد تصحيح قواعد اللغة العربية لها ولأخوتها منذ أن كانوا صغارا..

  حدث هذا في وقت لم يكن أحد قد سمع فيه عن الانمي أو المانغا، بل ولم يكن هناك من يتوقع وجود شيء مثل “الشبكة العنكبوتية”، التي ربطت العالم ببعضه دون عناء!!! كان حلما أشبه بالمستحيل، ولم تكن تدري السبيل إلى تحقيقه بغير الدعاء، والعمل الجاد على تطوير قصتها، التي ما فتئت تضيف إليها الفكرة تلو الفكرة، حتى زاد عدد صفحات مسودتها- إلى يومها هذا- عن ستمائة صفحة!!

أمسكت سلمى ملف القصة الذي تحتفظ به ضمن حاجياتها الثمينة جدا، وأخذت تقلب أوراق المسودة بين يديها، لقد مر شهر كامل منذ آخر مرة فتحت فيه هذا الملف، فقد انشغلت في أعباء المدرسة والطالبات!

أخذت تطالع بعينيها مقدمة القصة التي كتبتها قبل زمن:

” بعد خمسمائة عام من تحرير المسجد الأقصى، عم خلالها السلام أرجاء الأرض، حتى نسي معظم الناس ما ورد في كتب التاريخ عن الحروب، ولم تعد أذهانهم قادرة على تخيل شكلها، وما تجره من ويلات على الشعوب، بل ولم يعد هناك من يصدق بوجودها حقيقة، وظنوا انما هي مبالغات من المؤرخين ليضيفوا الاثارة إلى كتاباتهم!!

وكيف لهم أن يصدقوا بوجود شيء لم يروا شبيها له!! إذ لم يكن لهم هم إلا بما يتعلق بكيفية تطوير الأجهزة (المتطورة أصلا)؛ لاكتشاف المزيد من عجائب هذا الكون، أو الانشغال بأمور الابتكارات والبحوث في شتى المجالات، أو الإعمار ومد الجسور بين القارات ليسهل  تنقل الافراد الراغبون بالاكتشاف والمغامرة،  دون الحاجة للاستعانة بوكالات السياحة السفر أو اسخدام وسائل التنقل الحديثة..

بعد تلك الأعوام الهادئة التي سعدت فيها البشرية، في ظل حكم اسلامي عادل، أخذت منظمة خفية، تزاول أنشطتها السرية، فوق جزيرة مهجورة مخفية، بانتظار اللحظة المناسبة لتنفيذ مخططها الخبيث، فالسلام وإن كان نعمة بنظر الأغلبية، إلا أنه يعطّل مصالح بعض الفئات الشاذة من البشرية! والتي تتغذى على الدماء، وتزدهر معيشتها في الليالي الحالكة السوداء!!!

وهكذا بدأت تلك المنظمة الاستعداد للضربة القاصمة، التي ستوجهها إلى إحدى المناطق الغربية، ومن ثم تُلبس التهمة إحدى المناطق الشرقية، لتشعل بهذا فتنة كبيرة تعم الكرة الارضية، وتُعلن عن بداية حقبة جديدة من تاريخ البشرية..

في ذلك الوقت تحديدا، وفي الجانب الآخر.. برزت عشر شخصيات أسطورية، بقدرات خارقة، اتخذت من العشر المبشرين بالجنة قدوة، فتسمّت بإسمائهم، دون أن يعلم أحدهم عن وجود الآخر، فقد كانوا من بلاد مختلفة، ولكل منهم قصة وحكاية، حتى ساقهم القدر المحتوم للإجتماع في بقعة احدة، في يوم واحد، على صعيد واحد….”

  توقفت سلمى عن القراءة، وأخذت تطالع ملف الشخصيات العشرة، الذي أعدته بشكل منفصل على مدار السنوات، فتصفحت الأسماء بسرعة..

“فرسان النجوم”

1- بلاد النيل: الزبير

2- بلاد الرافدين: علي

3- بلاد الأناضول: عثمان

4- بلاد الشام: عامر

5- شبه الجزيرة العربية: عبد الله

6- بلاد المغرب العربي: عمر

7- بلاد فارس وما وراء النهر: طلحة (.. الهند والسند)

8-  بلاد الروس والصين العظيمة: عبد الرحمن

9- بلاد اللاتين والاوروبيين (.. اوروبا واللاتين): سعيد

10- بلاد الهنود الحمر (العالم الجديد) : سعد

لا تزال بعض أماكن الشخصيات بحاجة لتعديل، فهي لم تجزم أمرها بشأنهم بعد!

وابتسمت وهي تتذكر تعليق صديقتها رحاب:

– لماذا تجعلين شخصياتك الرئيسة من الذكور؟؟؟

فأجابتها وقتها بعفوية:

– لم يخطر ببالي غير ذلك، فالقصة أصلا كانت موجهة لأخوتي الصغار، وهم ذكور بطبيعة الحال! كما تلاحظين فإن اختياري للأسماء كان بناء على أسمائهم في البداية، (عمر وعلي وعبد الله)، ثم خطر ببالي إضافة بقية أسماء العشرة المبشرين بالجنة!

فنبّهتها رحاب بقولها:

–  ولكن القصة لن تكون جميلة وواقعية دون الشخصيات الانثوية! أم أنك ستساهمين في تهميش دور المرأة، كمعظم الرجال العرب!!!!

عندها حملقت فيها، لتقول بسذاجة:

– أحقا هم يفعلون هذا!!!!!!!!!!!

لم تكن سلمى قد انتبهت لتلك النقطة الخطيرة، لولا أن سخر الله لها رحاب، مما جعلها تتدارك الأمر بابتكار شخصيات أنثوية لا تقل أهمية عن دور الفرسان، فكان سببا في تأخر كتابتها لأحداث القصة، حتى وجدت مخرجا لتلك الإضافات، بما يتناسب مع الحبكة الرئيسة..

تنهدت سلمى وهي تستذكر ذلك كله:

– لقد أخذ ذلك وقتا طويلا فعلا، فها أنا قد أصبحت معلمة، ورحاب طبيبة.. ترى ما هي أخبارها الآن؟؟

غير أنها انتبهت لمرور الوقت، وخشيت أن تفوتها صلاة الفجر إن سهرت أكثر، فجمعت اوراقها في الملف وخبأتها في الخزانة، ثم هيأت منبه ساعتها لينبهها على وقت الفجر..

نفضت فراشها ثلاثا، ثم استلقت عليه مرددة:

– باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه، فإن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين..

 وبعد أن قرأت المعوذات، أطبقت جفنيها بهدوء، فيما حلقت روحها في عوالم من الذكريات، والأحلام الجميلة المتحققة..

هل كانت تتخيل يوما، أن هناك عالَما يلتقي فيه محبي الرسوم المتحركة وأفلام الكرتون!! بل وأن يكون هناك من العرب من يطمح لأن يصبح (مانغاكا)!! أليس هذا كله أشبه ما يكون بزهور أمل في طريقها، نحو انتاج فلم كرتوني عربي اسلامي بجودة عالمية!!!

فيما مضى لم يكن هناك ما يُعرف بالأطباق الفضائية (الستالايت)، وكل فرد ملزم بمشاهدة ما تعرضه عليه قنوات بلده، بالطبع هذا إن قرر المشاهدة! وفي الغالب كانت لمعظم الدول العربية قناتين اثنتين، تُفتتحان وتُختتمان بالقرآن والنشيد الوطني، الأولى بالعربية والثانية باللغة الاجنبية! ولفترة الأطفال وقت محدد، إما يشاهدون ما يُعرض فيه، وإما ستفوتهم ثلاثة أرباع أعمارهم (حسبما كانوا يظنون!!)، بالطبع يصبح هذا كارثيا إن فاتتهم الحلقة الأخيرة، إذ لا مجال للتعويض!!! غير أن هناك من سيتمكن من مشاهدتها على أشرطة الفيديو، الذي كان ممنوعا في قوانين والدتها الصارمة! ففترة الأطفال كافية جدا برأيها، ولو فاتتهم.. فهذا أفضل!!

بالطبع حال الأطفال يتفاوت نسبيا بين دولة عربية وأخرى؛ فبعض الدول تكتفي بمسلسل كرتوني مدبلج واحد فقط لا غير، ليُعرض في فترة الأطفال القصيرة، ثم لا تتوانى عن إلغاء عرضه لأي سبب، أو قطع الحلقة من المنتصف، بغض النظر عن مشاعر آلاف الأطفال المشاهدين! والبعض الآخر يتكرم بجعل الفترة أطول قليلا، خاصة في فصل الصيف، مع استفتاء يشارك فيه الفتيان والفتيات لاختيار المسلسلات الكرتونية المفضلة لديهم، وهناك دول تبالغ في تدليل أطفالها فتجعل لهم- بالاضافة للمسلسلات الكرتونية- برنامجا خاصا، يستقبلون من خلاله رسائلهم، التي يطلبون فيها عرض مقاطع من أفلام كرتونية يحبونها! ورغم أن كل فرد ملزم بمشاهدة قنوات بلده فقط في ذلك الوقت، كما ذُكر سابقا، إلا أن بعض الدول العربية تمتاز أسطح منازلها بأعمدة هوائية طويلة، قادرة على التقاط ترددات قنوات دول عربية أخرى مجاورة!! مما يزيد من مدة الفترة المخصصة للأطفال في ذلك البلد!!! 

لقد كان منتهى أحلامها عندما كانت طفلة، أن تكون هناك قناة تلفزيونية خاصة بالرسوم المتحركة! ولطالما جلست هي وأختها وابنة خالتها وبنات خالها يتخيلن وجود مثل هذه القناة، ويقضين الساعات وهن يحلمن بأسماء مسلسلاتهن الكرتونية المفضلة التي ستُعرض عليها، وتبدأ المباريات بينهن لِتعداد أسمائها، فتستلم هي زمام المبادرة بقولها:

النسر الذهبي، زينة ونحول، الأحلام الذهبية، هايدي، جونكر، السيدة ملعقة، نساء صغيرات، ماروكو الصغيرة، قرية التوت، نيلز، مخلص صديق الحيوان، البدايات المضيئة، حكايات عالمية، زهرة البراري، الرغيف العجيب، التوأمان، عبقور، جزيرة الدب، فلونة،…

فتتابع أختها:

الشجعان الثلاثة، ساسوكي، الصياد الصغير، ساندي بل، الحوت الأبيض، كان يا مكان، ابنتي العزيزة راوية، بليانا، أحلى الأيام، ليدي ليدي، وادي الأمان، مدينة النخيل، عدنان ولينا،…

وتقول ابنة خالها الكبرى:

بيرين، الفتى النبيل، حكيم الأقزام، جريندايزر، أبطال الملاعب، فارس الشجاع، الغابة الخضراء، سالي، الرجل الحديدي، أكاديمية الشرطة، موكا موكا، جزيرة الكنز،….

وتتابع ابنة خالتها:

– نعنوع الدلوع، كعبول، مغامرات بسيط، ماوكلي، طمطوم، مغامرات سنبل، بل وسبستيان، السندباد، بيف وهيركول، ريمي (الفتى)، ميمونة ومسعود، صاحب الظل الطويل،…

ثم تقترح ابنة خالها الوسطى أن تأخذ المباريات طابعا آخر، عن طريق ذكر كلمات الشارة، ومن ثم معرفة اسم المسلسل، فتعود هي لأخذ زمام المبادرة مدندنة بالكلمات:

“الرحالة الصغير

 يعيش في الفضاء

 يلتقط النجوم

و بها يطير

ويوما ما..

سيزورنــــــا”

فترد عليها ابنة خالها الصغرى معترضة:

– الاسم واضح من كلمات الشارة! نريد شيئا أكثر غموضا واثارة!

فتضحك أختها قائلة:

– ما رأيكن أن نعكس اللعبة؟؟

وبعد موافقتهن، تبدأ ابنة الخال الصغرى سؤالها:

– ما هي شارة الهداف؟

فتنطلق الأصوات بالترديد معا:

– نحن فريق عقد العزم

أن لا يُهزم أن لا يُهزم

حتى يصبح منذ اليوم

نجم الكرة ونجم الملعب

أنا هداف أنا هداف

لالا لا لا لالا لا لا…

وتتعالى أصوات الضحكات، في تلك الأمسيات الرائعة، من ليالي الصيف الهادئة، حيث تجتمع العائلة، ويتابعن سرد الأحلام والأمنيات، على أمل أن يزورهن الرحالة الصغير يوما ما؛ كما تقول الانشودة!!

 كان حلما لم تصدق بإمكانية تحقيقه؛ حتى سمعت عن إطلاق قناة “سبيس تون”، أثناء دراستها الجامعة!! ولم يمضِ على ذلك سوى القليل من الوقت، حتى تحقق الحلم الثاني بسماح والدتها إدخال تلك القناة لمنزلهم، وفق شروط محددة تم الاتفاق عليها مُسبقا! أما الحلم الثالث الذي دمعت عيناها تأثرا به، فهو ما لا يمكنها البوح به أمام مَن لا يقدّر موقفها، ويفهم حقيقة مشاعرها..

كان ذلك عنما سمعت شارة بداية الجزء الثالث من (الكابتن ماجد)، بعد إنهائها الدراسة الجامعية!!!

قد يبدو الموضوع غريبا على من يسمعه للمرة الأولى، لذا لا بد من العودة إلى بداية القصة، أي قبل أكثر من سبعة عشر عاما، يوم أن كانت لا تزال في المرحلة الابتدائية! كانت كغيرها من أبناء جيلها، تتابع (الكابتن ماجد)، والذي احتل بجزأيه الاثنين، مكانة لا يُستهان بها في حياتها، حتى إذا ما جاءت الحلقة الأخيرة من الجزء الثاني، قفزت من فرط السعادة بتكوين المنتخب الوطني، والذي ضم بسّام وماجد في فريق واحد، فباتت ليلتها على أمل مشاهدة الجزء الثالث في اليوم التالي، غير أنها صُدمت بمسلسل كرتوني آخر، دون مراعاة لمشاعرها، ومشاعر آلاف المتابعين لـ (الكابتن ماجد)!!!!!!!!!!! – بالطبع من لم يتابع الكابتن ماجد حلقة بحلقة، لن يُدرك أهمية اجتماع بسام وماجد في الفريق نفسه!

لقد دعت وقتها من أعماق قلبها، أن يأتي الجزء الثالث!! ورغم أنها رضيت بعد ذلك بمشاهدة (الصياد الصغير) بديلا عنه، إلا أن حلم مشاهدة الجزء الثالث من (الكابتن ماجد)، استقر في أعماق عقلها الباطن، وإن تلاشي تدريجيا مع مرور السنوات من عقلها الواعي، حتى إذا ما سمعت عن مجيئه بعد كل تلك السنوات، لم تتمالك دموعها التي انهمرت بغزارة، كمن التقى بصديق عزيز قديم، بعد انقطاع السبُل!

ألا يكفي أن الله استجاب دعوتها!!!

وها هي الآن، بدأت ترى طلائع دعوة أخرى لا تزال ترددها، وتزداد يوم بعد يوم يقينا بقدرة الله على تحقيقها:

– ” يــــارب.. وكما أنعمت علي بنعمة الكتابة، بفضلك ومنك وكرمك وجودك وإحسانك، فوفقني لكتابة أفضل قصة في العالم، وسهل انتاجها لتكون أفضل فلم كرتوني عالمي، يجذب الاطفال والشباب والكبار، ويكون سببا في نهضة هذه الأمة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، واجعل ذلك قرة عين لوالديّ، ونبيي صلى الله عليه وسلم، حتى تكرمني بشفاعته، وترضى عني، وتجعلني من أهل الفردوس الأعلى “

لقد دعت هذه الدعوة، دون أن تدري في أي اتجاه عليها السير في ذلك الوقت، فمن هذا الذي كان يهتم بانتاج فلم كرتوني اسلامي؟؟ بل وأين هم الذين يهتمون بالإعلام من وجهة نظر دينية!!! ربما كانوا مجودين لكن أين هم؟؟ ومن ستسأل؟؟ وكيف ستعرف إن كان هناك من يشاطرها حلمها فتتعاون معه؟؟ وقتها لم تجد سبيلا غير الدعاء، مع التركيز على كتابة قصتها، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا..

ثم لاحت بادرة أمل بظهور “اقرأ” على ساحة القنوات الفضائية، بعد أن ساد الاعتقاد بأن هذه الأطباق ما هي إلا شر محض، علينا محاربته بكل ما أوتينا من قوة!!! وهكذا فُتح الطريق أمام عشرات القنوات الاسلامية المختلفة، عوضا عن المواقع الالكترونية، فأصبح لكل فرد حرية الغناء على ليلاه!!!

هل كانت تحلم بهذا كله سابقا!!!

الدعاء مع العمل وبذل كافة الاسباب المتاحة على ضآلتها؛ هو طريق “الاحلام المتحققة”…

هذا ما تعلمته منذ الصغر، فكل الشكر لوالديها، اللذان حرصا على توجيهها التوجيه السليم، وأخذا بيديها إلى الطريق الذي تتحقق عبره الأحلام، فكانا السبب في ما وصلت إليه الآن بعد توفيق الله، بل والسبب في تلك العلاقة الوثيقة التي تربطها مع القصص منذ نعومة أظافرها، فقد كان والدها يتحفها وأخوتها بقصص الأنبياء والصحابة والصالحين، ولهم موعد مع والدتها كل ليلة في حكاية قبل النوم، حتى إذا ما تعلمت القراءة، زخرت مكتبتها الصغيرة؛ بعشرات السلاسل القصصية المصورة، خاصة قصص الاستاذ “محمد موفق سليمة”، وهاهي قد أصبحت معلمة، فيما أصبحت أختها التي تصغرها بثلاثة أعوام طبيبة أسنان، وأخوها عمر على وشك انهاء دراسته الجامعية في قسم الهندسة، وعلي في سنته الثانية الجامعية، ولا يزال عبد الله في المدرسة! لقد كبر الجميع وكبرت أحلامهم، وهاهو حلمها يزداد نضجا، فيما تزداد هي تفاؤلا ويقينا بقرب تحقيقه، بإذن الله، فالحمد لله رب العالمين على عظيم عطاياه…

وانطلقت تلك الكلمات تدندن بسرور، في سماء أحلامها:

“غدا..

 أو بعد غدٍ…

 تكبرون تفرحون تعملون

وبإذن الله، الله.. تنجحون

لكنكم تذكرون..

كما نواااااااااااااااار..

بعد سنوات…”

*****

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم