وهكذا.. انفصل سامر عن واقعه لبرهة من الزمن ليجد نفسه في معهد الفنون الحديث، الواقع في الطابق الرابع من مركز المعاهد الرئيسي في تلك المدينة، حيث تمكن من افتتاح معهده الخاص أخيرا..
كان فنانا بطبعه، بل مغرما بالفن وعالمه، فبرع في فرع لا يتقنه الكثيرون، الفن السريالي الحديث، ولشدة ولعه به، قرر إنشاء ذلك المعهد..
إلا أن الاحباط كان نصيبه في البداية؛ لقلة المواهب الفنية المنتسبة لمعهده، لا سيما وقد بدأ يشعر بأن معظم الفتيات اللاتي زاد عددهن مؤخرا، لم يكنّ على تلك الموهبة التي تسمح لهن بالاستمرار معه، وكأنهن ما جئن إلا لمرافقته في موعد غرامي لا يمت لعالم الفن الذي يرجوه بصلة..
حتى جاء ذلك اليوم الذي رأى فيه تلك الفتاة الملتزمة أول مرة قبل سنتين تقريبا، كان الوقت عصرا، إنه يذكر ذلك تماما، فهي مشغولة في الصباح كما أخبرته، بدت جادة جدا وهي تعرّف بنفسها وتعرض هدفها الذي ترغب في تحقيقه من خلال التحاقها بالمعهد:
“لدي أفكار أرغب في إيصالها عن طريق الفن، لذا أسعى لاتقان المهارات الرئيسية بشكل أكبر، حتى أتمكن من خدمة ديني وعقيدتي، فيرضى الله عني..”
رحب بها منذ البداية بلطفه المعهود، إذ لم يكن يمانع في التحاق أي أحد بمعهده، مهما كان فكره ومظهره، ما دام يمتلك الموهبة الفنية اللازمة..
لكنها فاقت توقعاته تماما، كانت هبة الدهر بالنسبة له، وضربة الحظ الموفقة التي طالما انتظرها، لا سيما بعد أن أعادت لمعهده نشوة الفن بلوحاتها المذهلة، كان انجازها أروع مما قد يخطر بباله، حتى أنه كان يقضي معظم وقته في مناقشة لوحاتها وكأنها الطالبة الوحيدة لديه، كان معجبا بها كتلميذة نشيطة مجتهدة، تطبق كل ما تتعلمه باهتمام وجد، لكن اعجابه ذاك لم يقف عند ذلك الحد..
ورويدا رويدا بدأ اهتمامه بها شخصيا يزيد تدريجيا، فهي إلى جانب كونها أفضل من التحق بمعهده من الناحية الفنية على الاطلاق، وأكثرهم جدية في عملها، لديها شخصية فريدة، لم يرَ مثلها بين الفتيات الذين قابلهم على الأقل! وكأي معجب، بدأ يهتم بمعرفة كل شيء عنها، من خلال أسئلة عامة يوجهها بين فترة وأخرى على أعضاء معهده، أو أوراق يدعوهم لتعبئتها بغرض إكمال التسجيل، وهدفه الوحيد هو التعرف عليها بشكل أكبر! هذا إضافة لمحاولاته الجاهدة في التركيز في أي حديث قد يدور بينها وبين إحدى الزميلات، حتى اكتملت صورتها لديه تقريبا..
إنها الفتاة الوحيدة التي لم تخالط أي شاب في المعهد، ولم تفتح لأي واحد منهم مجالا للحديث معها، إلا نادرا جدا وفي حدود الضرورة، ولولا أنه (الاستاذ) لما كلمته أيضا!! كانت فتاة ملتزمة ومثقفة لأبعد حد، ذات شخصية قوية ونافذة، في الواحد والعشرين من عمرها، طالبة جامعية في قسم الآداب، السنة الثانية في تخصص اللغة الانجليزية، من عائلة مرموقة، فوالدها رئيس شركة كبيرة ومعروفة، إضافة لكونه أحد كبار المساهمين في أول مصرف اسلامي في المدينة، لديها أخ وحيد يكبرها بثلاث سنوات..
تلك كانت أعهم المعلومات التي تمكن من معرفتها بطرق غير مباشرة، والأهم من ذلك، كانت على قدر كبير من الجاذبية، فلطالما استرق النظر اليها بل وحاول الاقتراب منها، دون أن تلحظ ذلك، بل لم يكن يشعر أنها تهتم به أصلا، فقد كان مجرد استاذ بالنسبة لها وحسب، دون أن تترك مجالا لتجاوز أي حديث معه، مما جعله يعيد النظر في فكرته عن نفسه، بعد أن كان يدرك تماما مقدار تأثيره على قلوب الفتيات، فهو الشاب الوسيم الأنيق، ذو الابتسامة الساحرة، واللطف الآسر، كانت تلك هي طبيعته اللتي لا يختلف عليها اثنان، إذ لم يكن يصطنع شيئا من ذاك، فما بال تلك الفتاة تقف أمامه كالسد المنيع، رغم أنه فتح أمامها مجالا لم يفتحه لغيرها، وأبدى بها اهتماما لم يُتَح لسواها!! ما بالها تتجاهله خلافا لبقية الفتيات اللاتي ما فتئن يحاولن استدرار عطفه واعجابه!!
ولم يعد يطيق الانتظار أكثر، خاصة وأن الإجازة تقترب دون أن تتطور العلاقة بينهما قدر أُنملة! كانت فرصة مواتية بالنسبة له، فالكل مشغول بلوحته، وهي غارقة تماما في لوحتها ومنسجمة معها لأبعد حد، ولأول مرة لم يركّز فيما ترسمه، بل كان جل اهتمامه منصب عليها شخصيا، كانت تجلس بقامتها المنتصبة أمام لوحتها كالعادة، فيما وضعت ألوانها على منصة صغيرة في الجانب الأيمن، بدت غارقة في التفكير وهي تمسك الفرشاة بيدها اليمنى، لتتخذ قرارا مناسبا بشأن الخطوة التالية، فلم تنتبه له وهو يقرّب كرسيا إلى جانبها من الناحية اليسرى، ويجلس عليه، وبحركة سريعة خاطفة وضع يمناه فوق يمناها كمن يحاول الامساك بالريشة، غير أنه ما كاد أن يلمسها حتى انتفضت من مكانها مذعورة، فنهضت وهي تسحب يدها كمن أصابه مس كهربائي، فلم يكن أمامه سوى التظاهر بأنها حركة غير متعمدة، فأخذ يغمس الريشة- بعد أن استقرت بيده- في الأوان أمامه، وهو يعلّق على رسمتها وكأن شيئا لم يكن:
– بعض اللون الأحمر القاني هنا سيعطي معنى أعمق للوحة…
لم يعرف ما الذي فكّرت به وقتها، لكنه لم يخف عليه ارتباكها الملحوظ بعد ذلك، مما جعله يوازن تصرفاته أكثر معها، حتى نجح في إعطائها شعورا يقينيا بأنها حادثة غير مقصودة أبدا، ولم تكن هي لتستغرب ذلك منه، فقد كان متحررا بطبعه، إلا أن محاولاته المتفرقة للتلميح لها أكثر من مرة؛ لم تتوقف، فقد كان يرغب بالتأكد من حقيقة مشاعرها نحوه، لا سيما وأنهما على النقيض في أمور كثيرة، باستثناء ما يتعلق بـ (الفن)!! لكنها أصبحت أكثر حذرا ولم تكن لتتيح له فرصة البقاء معها وحده، بل إنها كانت حريصة جدا على أن لا يحدث ذلك أبدا، ففي اليوم الذي تغادر فيه الفتيات باكرا؛ تسارع بحزم أغراضها حتى وإن كانت تود البقاء أكثر من أجل لوحتها!! وعندما حاول مناقشتها في بعض الامور الفنية ذات مرة، متحينا فرصة خلوّ المعهد في آخر الدوام، بدت مشتتة الذهن تماما وهي تتابع خروج الفتيات، فاعتذرت بأن لديها أمر هام، وأسرعت بالخروج قبل أن تعيد وضع أدواتها الخاصة في خزانتها على غير العادة، كمن تلوذ بالفرار!!
كان يرغب في التقرب منها أكثر، غير أن هذا بدا مستحيلا بالنسبة لها، مما أشعره بنوع من الإحباط، حتى جاءت خالته الكبرى لزيارته في المعهد على حين غرة، كان وقتها يناقشها في بعض الخطوط التي أضافتها للوحتها، فيما أخذت هي تجيبه باهتمام واضح، فقد كانت حريصة على إبراز فكرتها بالصورة المثلى، فلم ينتبه لوجود خالته إلا بعد أن عاد إلى مكتبه، حيث جلست تحدّق بها بتأمل عميق، وقبل أن يبدي اندهاشه بقدومها المفاجيء، أو يقوم بالترحيب بها بكلمات مناسبة، فاجأته بقولها:
– كنتما ثنائيا رائعا!!
يومها خفق قلبه لأول مرة، وحلّق به خياله الحالم لأبعد حدود قد يصلها، ولم تتركه خالته ليفكّر بجملتها كثيرا، إذ سرعان ما أمطرته بوابلٍ من الأسئلة:
– ما الذي تنتظره حتى الآن!! لماذا لم تتقدم لخطبة تلك الفتاة بعد؟؟ كانت فكرة صائبة أن آتي لمعهدك وأتفقّد الفتيات بنفسي، تخدعنا طوال الوقت بأنك لم تجد الفتاة المناسبة، وأمامك هذه الجوهرة!! لقد طفح الكيل معك فعلا!!!
كان صوت الخالة يعلو قليلا مع انفعالها، مما سبب بعض الحرج لسامر الذي حاول جاهدا إفهام خالته مراعاة المكان الذي تفتح فيه مواضيعها، ومن لطف الله به أن مكتبه في أول القاعة الكبيرة، ويبعد مسافة كافية لإخفاء تفاصيل حديثها عن الموجودين، هذا إن كان تركيزهم منصبا على عملهم وحسب! فيما تابعت هي حماستها في الكلام دون أن تعير ملاحظاته أدنى اهتمام:
– عليك أن تحدد الموعد المناسب لنا لزيارتهم، هل هذا مفهوم!
غير أنه حاول توضيح الأمر لها بقوله:
– إهدئي قليلا يا خالتي أرجوك، الأمور ليست كما تتخيلين، فلا يوجد شيء بيننا!!
فحدجته بنظرات نارية:
– وما الذي تنتظره من فتاة محافظة أيها الأحمق!! هل تتوقع منها أن تصارحك بمشاعرها أم ماذا!!!!!
شعر سامر وقتها بأن عليه أخذ دور المحامي الحاذق للدفاع عن نفسه أمام سيل الاتهامات المسددة نحوه بمهارة، فيما تابعت خالته كلامها:
– نصحتك بأن تلتزم بالصلاة على الأقل، لعلي أجد شيئا ذا قيمة يشفع لك عند أهلها، عندما يسألون عنك..
فلم يملك سامر نفسه من اطلاق ضحكة خافتة:
– لقد أوغلتِ بخيالك كثيرا يا خالتي، هذا يكفي أرجوك..
– بل عليك أن تفكر جيدا فيما أقوله، فقد حان الاوان لتأخذ الأمور بجدية، أم أنك تنوي البقاء عازبا لمدى الحياة!!
فتنهد سامر:
– خالتي أرجوك، لقد أصبحتُ رجلا ناضجا بما يكفي، لتكفي عن معاملتي كالأطفال، أستطيع تدبر أمري بنفسي فلا داعي لهذا كله..
فقاطعته بقولها:
– بل إن كلامك هذا لا يدل على أي نضج على الاطلاق!!
ثم سألته بنبرة جادة:
– ما اسمها الكامل؟
وكالمحاصر في مصيدة لا يمكنه الافلات منها أجابها هامسا باستسلام:
– نور عبد الكريم سالم..
فابتسمت برضى:
– حسنا..
قالت كلمتها تلك، وهي تمسك بحقيبتها استعدادا للذهاب، بعد أن وضعته بين المطرقة والسندان!!
يومها لم يغمض له جفن أبدا، هل حقا لديه الجرأة الكافية ليتقدم لها رسميا!! إنها بالفعل تحتل مساحة كبيرة من قلبه وفكره، كما لم يحدث مع أي فتاة من قبل، فهل هذا سبب كاف يدفعه للارتباط بها! الارتباط بها يعني أشياء كثيرة، أبسطها أن يقوم بتغيير نظام حياته بأكمله، فهل هو مستعد لذلك من أجلها!! لم يكن واثقا من مقدرته تلك، وهذا ما أبقاه مترددا طوال تلك الفترة من فتح أي موضوع بطابع رسمي معها، كان يرغب في التقرب منها أكثر وحسب (ليطمئن قلبه)! وها هي خالته قد نجحت مجددا في إعادته ليعيش تلك اللحظات القاسية، لحظات صراع حقيقية بين عاطفه ملتهبة تدفعه للإقدام، وعقلٍ يملي عليه الاحجام!! هل من الممكن أن يحكم على أسلوب حياته المتحرر بالاعدام، من أجل فتاة محافظة ملتزمة كـ ( نور)!! هل المشاعر وحدها تكفي!! هذا إن كانت تبادله المشاعر على الأقل!! وماذا عن الصلاة!! هل سيلتزم بها من أجلها فقط! لم يكن واثقا من شيء.. حتى غلبه النعاس أخيرا في ساعة متأخرة قبل الفجر!!
بعد ذلك اليوم، بدأت نظراته لنور تأخذ منحى آخر، لقد شعر بانجذاب كبير نحوها وبدأت فكرة خطبتها تتبلور في رأسه أكثر من ذي قبل، لا سيما وأن خالته قد وضعتها في رأس جميع أفراد العائلة تقريبا، وقامت بتحرياتها الخاصة بشأن ذلك!! لم يبق أمامهم إلا التقدم الرسمي برأيهم!! أما هو، فقد كان يود كسب المزيد من الوقت للتعرف عليها والاحتكاك بها أكثر عن كثب، إذ لم يكن يرغب بزواج تقليدي يُحرج فيه نفسه دون أي طائل برأيه!
كانت فكرة الارتباط بها تبعث في نفسه نوعا من الحبور كلما نظر إليها، دون أن تتوقف المفاجآت التي يكتشفها عنها بين الحين والآخر، ولعل من أبرزها تلك المعلومة التي أذهلته، كان ذلك عندما احتاجت إحدى زميلاتها بطاقة شحن لهاتفها بشكل طاريء، فأخبرتها نور بأنها تملك واحدة، ولأنها كانت مشغولة بلوحتها كالعادة، فقد أرشدتها لمكان وجودها في حقيبتها، وبدلا من أن تقوم الفتاة بأخذ البطاقة وحسب، صدرت منها صيحة انفعال صغيرة:
– بطاقة عضوية في نادي الكاراتيه!! ما هذه المفاجأة!! هل تتقنين فن الكاراتيه حقا يا نور!!
ولم تتوانى فتاة ثالثة عن الانضمام اليهما للمشاركة في ذلك الحديث المثير:
– لماذا لم تخبرينا من قبل!
– منذ متى وأنت تتقنين هذا الفن؟؟
– وفي أي درجة من المهارة وصلت؟؟
– هل لديك الحزام الأسود حقا!!
– نريد أن نرى مهارتك في القتال، يبدو هذا رائعا!!
وهكذا انهالت الأسئلة على نور، دون أن يُخطئ سامر التقاط الأجوبة باهتمام ليسجلها في ذاكرته، فقد كان الأمر مفاجئا له أيضا، بل ومثيرا لأبعد الحدود!! لن تتوقف هذه الفتاة عن إثارة إعجابه على ما يبدو!! ومع نهاية ذلك الحديث كانت الصورة قد اكتملت لديه حول هذا الموضوع:
– التحقت نور وهي في الخامسة من عمرها بنادي الكاراتيه الذي سجل به أخوها، فقد كانت مولعة بمرافقته وتقليده منذ الصغر، ولم يجد والداها بدا من تسجيلها معه!! حتى إذا ما بلغت العاشرة من عمرها، كانت قد قطعت شوطا كبيرا في التدريب، لتكون أصغر من يحصل على الحزام الأسود في النادي، لكنها لم تستطع الاستمرار بعد ذلك إذ كان عليها التوقف؛ فاكتفت بممارسة الرياضة لوحدها أو مع أخيها في المنزل، فلم تكن مراكز تدريب السيدات قد فُتحت بعد…
وقتها راود سامر شعور غريب بل ورغبة جامحة لرؤية تلك الفتاة المتزنة، وهي في خضم التدريب! هل هي لاعبة كاراتيه حقيقية!! سيكون ذلك مذهلا لو تمكن من رؤيتها بأم عينه! ومرت الأيام دون أن تفارق تلك الفكرة رأسه، حتى جاءت اللحظة المناسبة، والتي أعد من أجلها الكثير من الجهد والتخطيط، دون أن يفكر بعواقب ما قد يُقدم عليه..