قوس-جديد

قوس جديد !

عن القصة:

فتى وفتاة شكّلا فريقا لصناعة قصة مرسومة (مانجا) منذ الصغر، غير أن المستقبل لم يكن بالحسبان..

التصنيف: رومانسي، دراما، شريحة من الحياة

     قضت زهرة- ذات التسعة عشر ربيعا- ذلك اليوم بأكمله في منزل أختها الكبرى (نورة)، لتساعدها في استقبال ضيوفها القادمين من الخارج! وبينما كانت منهمكة تماما في غسل الأواني بعد وجبة العشاء، في حين كانت السيدات يتجاذبن أطراف الحديث في الصالة؛ دخلت عليها فاتن- التي تصغرها بثلاث سنوات- وحيتها بلكنتها الأعجمية المميزة، قبل أن تطرح عليها سؤالها المباغت:

– أنت تعرفين زاهر منذ الطفولة، فهل أنتما مقربين لبعضكما البعض كثيرا؟

 ارتجفت يدا زهرة من هول الصدمة، إذ لم تكن مستعدة لمفاجأة كهذه، حتى كاد الصحن أن ينزلق من بين يديها، فيما خفق قلبها بشدة، لتعود بها الذكريات لأكثر من عقد إلى الوراء!!

كانت في السابعة عندما التقت زاهر- الذي يكبرها بعامين فقط- لأول مرة، في حفل زواج شقيقتها الكبرى نورة من شقيقه الأكبر سامر! ورغم أنهما التقيا كثيرا بعد ذلك، خاصة في المناسبات الاجتماعية التي جمعت العائلتين، والتي اكتشفا خلالها الكثير من القواسم المشتركة بينهما، بداية من الاسم وانتهاء بالأفكار المشتركة؛ إلا أنها لا تزال تذكر جيدا ذلك اليوم الذي وطد علاقتهما أكثر، ليصبغها بصبغة خاصة، ضربت جذورها عميقا في نفسيهما معاً!

حدث ذلك بعد مرور عام من لقائهما الأول، عندما وضعت أختها أول حفيد لكلا العائلتين!

لم تستطع زهرة تمالك نفسها، وهي تتأمل ذلك المخلوق الصغير حديث الولادة، الملفوف بقطعة قماش مزركشة، في حضن والدته المستندة على سريرها في غرفة المستشفى! فأخذت تتحسس اصابعه الصغيرة وتهتف بحماسة:

– أصابع صغيرة جدا!! ما شاء الله ما الطفها!! أرجوك أختي.. دعيني أحمله! أرجوك.. أرجوك..

غير أن أمها نهرتها بلطف، وهي تحاول تهدئتها:

– زهرة كوني عاقلة، من الخطر حمل الأطفال في هذا السن!

وقبل أن تعبر زهرة عن اعتراضها؛ طرق باب الغرفة، فعلقت نورة:

– لا شك أنها خالتي أم سامر..
فهرعت زهرة لفتح الباب، لتجد زاهر واقفاً إلى جانب أمه والفضول يلتمع في عينيه، فبادرته بانفعال شديد:

– إنه صغير جدا، مثل الدمية تماما، ولكن من غير المسموح حمله!

فيما نهضت أمها للترحيب بوالدة سامر، التي القت التحية ببشر واضح، وهي تضع باقة زهور كبيرة مبهجة على الطاولة:

– الحمد لله على السلامة..

قبل أن تستدرك قائلة:

– أبو سامر خارج الغرفة الآن، أين سامر وأبو هيثم؟

فأجابتها أم هيثم- والدة نورة وزهرة- وهي تحكم وضع حجابها على رأسها:

– سامحكم الله، لماذا هذه الرسميات، دعيه يدخل، فنحن عائلة وهذه ابنته وحفيده..

واستطردت موضحة:

– سامر ذهب لإحضار بعض الحاجيات ولن يتأخر، أما أبو هيثم فقد جاءه اتصال هام من العمل، وخرج قبل قليل!

وبينما كان الكبار يتحدثون؛ انشغل زاهر وزهرة بتأمل الصغير عن قرب، وكأنهم يتفحصونه تحت المجهر، وهم يطرحون عشرات الأسئلة على نورة، التي كانت تحاول مجاملتهم بابتسامتها المتفهمة بين الحين والآخر!

قال زاهر بأمل:

– ما رأيكم أن تسمونه زاهر؟ فهو يشبهني، وأنا عمه..

لكن زهرة لكزته وهي تهمس بلسان امرأة ناضجة:

– هذا عيب، سيكون اسمه على اسم جده مراد طبعا، ألا تعرف العادات والتقاليد! ثم إنني خالته أيضا!!

فضحك أبو سامر وهو يستمع لهذه الملاحظة الصادرة عن طفلة لم تتجاوز الثامنة، قبل أن يعلق باسما:

– أنا اسقط حقي في ذلك، ولوالديه حرية اختيار اسم مناسب له..

فقالت نورة بنبرة ودودة:

– لقد اتفقنا على ذلك فعلاً أنا وسامر يا عمي، وأنت الخير والبركة، ثم إن “مراد” اسم جميل..

وأردفت امها مؤكدة:

– عسى الله أن يحقق مراده، ويجعله قرة عين لنا جميعا في الدنيا والآخرة..
وأمّن الجميع على دعائها، قبل أن يرن هاتفها، فنظرت إلى الشاشة قبل أن ترد باسمة:

– إنه هيثم، لقد انتهت محاضرته على ما يبدو..

وخلال حديث أم هيثم مع ابنها؛ عاد سامر وهو يحمل بيده عدد من الأكياس، فقبّل يدا والديه، وتبادل مع الجميع الأحاديث المرحة، قبل أن تستدرك أمه وقد تذكرت شيئا:

– ألم يحن موعد النادي يا زاهر؟؟

غير أن زاهر بدى مشغولا جدا بدراسة الوليد الجديد، فأجابها بعفوية:

– يمكنني التغيب اليوم..

فتدخل سامر قائلاً:

– أليس اليوم هو موعد البطولة! ألم تكن ترفض الذهاب إلى أي مكان خلال تدريبات التايكواندو العادية، وتقول بأنها مرتين في الاسبوع فقط! فهل ستتغيب عنها بسهولة الآن؟؟

وأضافت زهرة بجدية، فيما كان زاهر يحدق بالطفل:

– لا تخف يا زاهر، فالصغير لن يطير!

ورغم ضحكات الكبار لتعليقها ذاك؛ إلا أن عينا زاهر التمعت فجأة، فالتف إليها بنظرات ذات معنى:

– ما رأيك أن تأتي معي أيضا؟ هناك الكثير من الفتيات في النادي، ولطالما أردتِ أن تشاهدي تدريباتنا هناك!

غير أن زهرة اعترضت بسرعة:

– ليس اليوم، ربما في وقت آخر..

فغمزها زاهر بمكر:

– ولماذا ليس اليوم؟ فالصغير لن يطير، كما تقولين!

عندها تدخل أبو سامر ليضع حدا لذلك الجدل:

– هيا يا زاهر، ستتأخر.. ألم تقل ان لديك اليوم مباراة هامة، سآتي معك لمشاهدتها..
واضافت أمه:

– وسآتي معك ايضا..
ثم التفتت إلى أم هيثم التي انهت المكالمة للتو، قائلة:

– ساذهب مع أبو سامر لنادي التايكواندو لتوصيل زاهر..

ورغم أن أم هيثم لم تكن قد استمعت للحوار الذي دار قبل قليل؛ إلا أنها قالت لأم سامر:

– هل بإمكانكم أن تأخذوا زهرة معكم؟ فسأكون منشغلة مع نورة خلال…

وقبل أن تكمل كلامها؛ هتف زاهر بسعادة، وهو يقفز راكلاً الهواء بقدمه، معبراً عن انتصاره:

– رااااائع!

ولم تجد زهرة بد من حضور تلك البطولة، التي لا زالت حاضرة أمام ذهنها، وكأنها تشاهدها أمام عينيها مباشرة، حتى بعد مرور تلك السنوات..

كانت زهرة مبهورة تماما برؤية تلك الحركات المذهلة، حتى أنها نسيت الطفل الصغير تماما، خلال تشجيعها لزاهر بحماسة منقطعة النظير! حتى إذا ما حاز على المركز الأول في النهاية؛ شعرت وكأنها هي من أحرزت ذلك الانتصار!

 لم تمضِ سوى أيام قليلة بعد ذلك، حتى اجتمع الاثنان مرة أخرى في بيت سامر ونورة، فاشارت زهرة إلى زاهر أن يتبعها للصالة الداخلية هامسة:

– سأريك شيئاً، ولكن عدني ان لا تضحك عليه!

وأمام رغبة زاهر العارمة بمعرفة ذلك الشيء، أكد لها باهتمام شديد:

– بالطبع لن أضحك! هل هي رسمة جديدة من رسوماتك؟

فأومأت زهرة برأسها باسمة:
– أجل، ولكنها هذه المرة مختلفة..

ثم قالت:
– أغمض عينيك أولاً!

وبعدما نفذ زاهر طلبها؛ أخرجت لوحة من تحت وسادة الكرسي- كانت قد خبأتها هناك- ثم عرضتها أمامه على بعد ذراع واحد من وجهه، قبل أن تقول:

– افتح عينيك الآن!

لم يكد نظر زاهر يقع على تلك اللوحة، التي صورت فيها زهرة إحدى المشاهد القتالية، المستلهمة من حركات التايكوندو؛ حتى هتف بتأثر شديد:

– ما شاء الله!!! مذهل جدا!! انت رائعة يا زهرة!! لقد تطور رسمك كثيرا ما شاء الله! انك محترفة بمعنى المكلمة!

وأخذ اللوحة ليتأملها بحرص شديد:

 – رائعة جدا.. مذهلة جدا.. لا أدري ماذا أقول أكثر!! كأنني اشاهد المقاتل النبيل!

ثم قال فجأة:

– زهرة!! ما رأيك أن نقوم بتأليف قصة مصورة معاً! أنا سأخبرك بأحداث القصة، وأنت ترسمينها، مثل الرسوم المتحركة!

فهتفت نورة بانفعال:

– فكرة رائعة، أنا موافقة طبعا..

ثم صمتت قليلا قبل أن تسأل:

– ماذا سيكون عنوان القصة؟ الفارس النبيل مثلا؟

فرد زاهر:

– كلا، هذا سيكون مشابه للمقاتل النبيل، ثم إن البطل لن يكون فارساً، بل لاعب تايكوندو محترف، يساعد الأخيار ويهزم الاشرار!

بدت الحماسة على وجه زهرة:

– لقد تشوقتُ فعلا لرسم القصة الآن، ولكننا بحاجة لمعرفة العنوان أولا!

خيم صمت عليهما لوهلة، قبل أن يقول زاهر:

– “البطل المغوار”.. سيكون هذا هو عنوان القصة!

فسألته زهرة:
وماذا يعني مغوار؟

فأجابها زاهر:

– يعني شجاع ولا يخاف من الأخطار!

فما كان من زهرة إلا أن ابدت إعجابها الشديد قائلة بانبهار:

– البطل المغوار، لا يخاف من الأخطار، يساعد الأخيار، ويهزم الاشرار.. إنها تبدو كنشيد جميل!

فأوضح زاهر، وهو يستعرض معلوماته الأدبية، قائلاً:

– إنها جمل قصيرة على الوزن نفسه.. وستكون هذه هي البداية.. وسيكون اسم البطل “فارس”، فما رأيك الآن؟

انتبهت زهرة من سيل ذكرياتها تلك على سؤال فاتن، الذي أعادته للمرة الثانية بطريقة أخرى، وبالحاح شديد:

– هل علاقتكما مقربة جدا إلى هذا الحد؟ من الواضح أنك تحبينه، أليس كذلك؟

شعرت زهرة بحرج شديد لسماع ذلك بشكل مباشر، فحاولت تدارك الموقف قبل ان تفلت الأمور من يدها، قائلة:

– ما الذي جعلك تقولين شيئا كهذا؟ نحن مجرد فردين من عائلتين جمعهما النسب، ولا يوجد بيننا أي شيء خاص كما تظنين، فنحن من عائلات عربية محافظة يا عزيزتي، وليس من المعتاد أن تكون هناك صداقة خاصة بين شاب وفتاة! بل إننا نعتبر هذا غير لائق في مجتمعنا!

 حتى إذا صدف والتقينا في أي مكان، فلا يوجد بيننا أي حديث خاص!

أبدت فاتن تعجبها الشديد مما سمعته، متمتمة:

– غريب!!

ثم استطردت قائلة:

– ولكنكما تذهبان للجامعة نفسها، أليس كذلك؟

فأوضحت زهرة:

– هذا لا يغير من حقيقة الأمر شيئاً، فحتى إذا التقينا لأي سبب من الاسباب، فلا يوجد بيننا أكثر من الأحاديث العامة، في حدود الضرورة فقط!

ورغم الارتياح الذي ظهر على وجه فاتن، إلا أنها تساءلت باهتمام:

– هل هذا يعني أن الفتاة التي تحدث أحد اقربائها غير المحارم؛ تعتبر فتاة غير محترمة؟

فاسرعت زهرة تنفي ذلك، قبل أن يحدث سوء فهم غير محمود العواقب:

– كلا، أنا لم أقل هذا ابدا، ولكن هناك حدود لكل شيء!

فتنهدت فاتن:

– أشعر أن هذا نوع من التعقيد الذي لا أفهمه! أنتِ تعرفين أنني سأنتقل للعيش هنا، بعد أن قرر والداي العودة لأرض الوطن! صحيح أنني سألتحق بمدرسة أجنبية، نظام التدريس فيها مشابهة لما اعتدتُ عليه، إلا أنني لا زلتُ أشعر بالغربة هنا! وقد طلبتُ من ابن خالتي زاهر أن ياخذني في جولة لجامعته، لكنه أخبرني أنه من الأفضل أن اذهب معك، فأنت في الجامعة نفسها!

خفق قلب زهرة بقوة لسماع ذلك، ولسان حالها يقول:

– هل قال زاهر ذلك حقاً!!

لكنها سرعان ما استدركت بابتسامة مرحة، لتخفي حقيقة مشاعرها:

– هذا طبيعي يا عزيزتي، فكما أخبرتك، ليس من المعتاد أن يسير شاب بصحبة فتاة هكذا؛ دون أن يثيرا حولهما الشبهات!

  **

شعرت زهرة بمسؤولية كبيرة تجاه فاتن، وكأنها أختها الصغرى التي تحتاج لرعاية حقيقية، قبل أن تغرق في مجتمع لا تعرف عنه شيئاً، خاصة وأنها وحيدة والديها! فحرصت أن تكون جولتهما الاولى ممتعة ومفيدة في الوقتِ نفسه، ولم يخفَ على زهرة الشعور ببهجة فاتن في تلك الجولة؛ مما اشعرها بالارتياح التام، لا سيما وقد انسجمتا تماما، وكأنهما تعرفان بعضهما البعض منذ فترة طويلة! غير أن هناك شيء وحيد كان يؤرق زهرة بشدة! فعلى ما يبدو؛ استطاعت فاتن كسر الحواجز بينها وبين زاهر.. بعفوية وسهولة!

بدت زهرة شاردة الذهن تماما، وهي تحدق بالطريق من خلال نافذة الحافلة، فيما كان عقلها يسترجع حديث فاتن ويحلله، بعد أن أصبح زاهر محور اهتمامها الأول والأخير! فقد أخبرتها فاتن بنبرة لا تخلو من ضيق:

– لقد قال زاهر بأن الحجاب فريضة على كل مسلمة، فهل تعتقدين أنه منزعج مني لأنني غير محجبة؟ ولكنني لا أزال في السادسة عشر من عمري فقط!

وبينما كانت زهرة تستذكر كلام فاتن ذاك بألم؛ طرق سمعها حديث دائرٌ بين فتاتين تجلسان خلفها في الحافلة:

– لا تكوني حمقاء، عليك أن تتخذي خطوة جادة حيال ذلك، حاولي أن توصلي مشاعرك إليه بأي طريقة، قبل أن تسرقه فتاة أخرى، فالفتيات جريئات هذه الأيام ولن تفيدك هذه القيم والمباديء التي تتحدثين عنها! إنه حب حياتك ومن الغباء أن تتجاهلي ذلك.. ستندمين..

عندها.. شعرت زهرة باختناق شديد، وألم حاد في صدرها، ورغبة عارمة بالبكاء، غير أنها جاهدت في كتمان ذلك كله، خشية أن تلفت أنظار الركاب نحوها، فيما رددت بصدق:

– يارب.. استودعتك قلبي، فاحفظني بحفظك، ولا تفتني في ديني..

**

دخلت زهرة إلى غرفتها- بعد أن ألقت التحية على والدتها، وتبادلت معها بضع الكلمات- ثم أخرجت صندوقاً من تحت سريرها، كانت تحتفظ فيه بحاجياتها الثمينة، وتأملت آلة التصوير القديمة، الموضوعة فيه بعناية، فيما انسالت الدموع غزيرة على وجنتيها، بعد أن هجمت عليها موجة من تلك الذكريات..

كانت متحمسة جدا لرسم مشاهد قصة “البطل المغوار” التي ألفها زاهر، لكنها شعرت بصعوبة في رسم خلفية مناسبة لأحد المشاهد، وبعد أن أخبرته بذلك؛ ما كان منه إلا أن طمأنها بقوله:

– لا تقلقي.. يمكنك تأمل الأماكن حولك، واقتباس الخلفية المناسبة مما ترينه! وسأساعدك في ذلك طبعا..

ثم أطرق رأسه وهو يتجول بالغرفة بتفكير عميق، قبل أن يفتح النافذة مشيراً إلى حديقة أحد المنازل، قائلاً:

– ما رأيك بهذه الحديقة؟

فصنعت زهرة إطارا بأصابعها الأربعة- الابهام والسبابة من كل يد- ونظرت من خلالها قائلة:

– ستكون شجرة الليمون في الزاوية اليمنى من الصفحة، يليها المنزل، في حين تغطي الساحة العشبية المقدمة، حيث يقف البطل المغوار، في مواجهة ذلك اللص..

وبدى الرضى على وجهها، فقالت بمرح:

– ممتاز.. أظن أن الخلفية اصبحت واضحة الآن! شكرا لك زاهر، سأستخدم هذه الطريقة من الآن فصاعدا، إنها تشبه النقل من الصور الفوتوغرافية!

ولم يمض على ذلك سوى يومين، حتى فاجأها زاهر بهدية مغلفة، بحجم صندوق صغير، قائلاً لها بابتسامة ودودة:

– إحزري ماذا احضرتُ لك؟

وأمام دهشتها الشديدة، أخرج لها آلة تصوير جديدة، قائلاً بابتهاج:

– ستفيدك هذه كثيرا برسم الخلفيات، فهل أعجبتك؟

أمسكت زهرة آلة التصوير بحذر، وكأنها في حلم تخشى الاستيقاظ منه:

– هل هذه لي؟

 فأومأ زاهر رأسه بالايجاب:

– أجل، الم تعجبك؟

فردت زهرة بسرعة:

– بالطبع أعجبتني، ولكن.. من أين حصلت عليها، وهل أمك تعرف عن ذلك؟ لا شك أنها باهظة الثمن!

عندها ابتسم زاهر بفخر:

– لقد اشتريتها من مدخراتي بالكامل، وأمي لم تمانع بالطبع، فهي تعرف عن مشروعنا المشترك..

كانت زهرة غارقة تماما في سيل ذكرياتها، عندما سمعت صوت طرق على الباب، فدست آلة التصوير في الصندوق بسرعة، وأدخلته تحت السرير، قبل ان تجيب بابتسامة مصطنعة:

– تفضل..

فإذا بابنة أخيها هيثم- ذات السنوات الست- تدخل مندفعة نحوها بحبور:

– عمتي عمتي.. انظري ماذا أعطتني المعلمة..

**

بدت نورة مترددة قليلاً، قبل أن تبدأ حديثها، الذي جاءت خصيصاً من أجله:

– لا أعرف ماذا أقول يا أمي، ولكنني قلقة جدا على زهرة! لقد حاولتُ التظاهر بعدم فهمي لمغزى سؤالها؛عندما حاولت ان تستشف مني علاقة زاهر بفاتن، وإن كان لا يمانع بالحديث معها بحرية!! أخشى أن تصاب بصدمة عاطفية لا قدر الله! حقا لا أدري ما الذي عليّ فعله!

لم تستطع الأم إخفاء قلقها مما سمعته، فسألتها بتوجس:

– هل قالت حماتك أي شيء بهذا الخصوص؟

فهزت نورة رأسها نفياً:

– أكاد أجزم أنها لا تحبذ ارتباط ابنها بفاتن، فلطالما لمّحت لي عن زهرة! المشكلة ليست في الحماة، بل في زاهر نفسه، فعلى ما يبدو أنه قد أصبح مهتما بالفعل بأمر فاتن، ومع ذلك لم أجرؤ على قولها لزهرة بوضوح!!

فتنهدت أمها:

– ليس بيدنا فعل شيء غير الدعاء، وأسأل الله أن يختار لأختك الخير..

**

ما أن رأى زاهر صديقه مقبلاً نحوه في المكان المتفق عليه؛ حتى هب نحوه مرحباً:

– رائد، وأخيراً.. كيف حالك يا رجل، لم أرك منذ فترة طويلة، رغم أننا في الجامعة نفسها!

فصافحه رائد بحرارة:

– الحمد لله، لقد شغلتنا الدراسة فعلاً، وبالكاد أخرج من نطاق كليتي!! ما هي أخبارك أنت، وما هو هذا الأمر الطارئ الذي استدعيتني لأجله؟

 فابتسم زاهر:

– ألا تجلس أولاً يا أخي، فأنا لم أرك منذ قرون! لقد سمعتُ أنك اصبحتَ تعمل مدربا في نادي التايكواندو بدوام جزئي، لقد أعاد هذا لي الذكريات فعلاً..

 وبعد أن تبادل الاثنان الأحاديث العامة، حث رائد صديقه على الدخول بالموضوع الرئيس قائلاً:

– أخشى أن يداهمنا الوقت دون أن نحقق الهدف الاساسي من هذا اللقاء!

فتنهد زاهر ووضع رأسه بين يديه، قبل أن يقول:

– رائد.. أريد أن أسألك سؤالاً شخصياً، ولا أريدك أن تسيء فهمي، فإجابتك هامة جدا بالنسبة لي..

والتقط نفسا قبل أن يتابع:

– هل تذكر تلك الفتاة التي كانت تشاركنا تدريبات التايكوندو عندما كنا صغاراً؟ أظنها ابنة جيرانكم، فقد كنتم تأتون وتذهبون معاً، صحيح؟

فرد رائد:

– تقصد راما؟ أجل كانت ابنة جيراننا، ماذا بشأنها؟ لقد تزوجت قبل شهرين!

لم يكد زاهر يسمع ذلك؛ حتى صرخ بانفعال:

– تزوجت!! هل أنت جاد؟؟ ولكنك كنتَ تحبها جدا! لا يمكنك إنكار هذه الحقيقة، فقد كانت واضحة كالشمس! فلماذا تركتها لغيرك؟!! لماذا يا رائد، لماذا؟؟ أنا متأكد من أنها لم تكن لترفضك أبداً!

وبدت خيبة أمل كبيرة على وجه زاهر، وهو يتابع كلامه بإحباط شديد:

– كنت أريد الاستفادة من تجربتك، فقد توقعت أنك أقدمتَ على خطبتها فعلاً، أو قرأتم الفاتحة على الأقل! لقد كنتَ أنت أول من خطر ببالي، عندما شعرتُ بشيء مشابه!

فأجابه رائد بتفهم:

– أقدر شعورك يا صديقي، كلامك صحيح، لقد أحببتها بصدق حقاً، ولكنني لستُ نادم! فلم أكن مستعدا للارتباط حتى أتقدم لخطبتها! ولم أشأ أن أعلقها بأوهام قد لا تتحقق!  كنتُ أنوي الحصول على عمل مناسب أولاً؛ لتأمين المتطلبات الاساسية، وأكون على قدر المسؤولية، وقد بدأتُ فعلاً بالعمل في دوام جزئي قبل التخرج، لتحقيق هذا الغرض، ولكن قدر الله وما شاء فعل!

فقال زاهر بضيق، وكأنه هو من فاتته تلك الفرصة:

– لو أنك لمّحت لها على الأقل بأنك تنوي خطبتها لانتظرتك بلا شك!

فاعترض رائد بقوله:

– ولماذا أعلق الفتاة؟ لماذا أسبب لها خلافاً مع أهلها؛ إن تأخرتُ عليها أو أتاها شخص مناسب خلال فترة انتظارها لي!! ليس من المروءة فعل ذلك أبداً، بل إنني اراها أنانية صرفة مني، ولن أرضى بأن أكون ذلك الوغد، الذي يتلاعب بمشاعر فتاة دون وجه حق! وكما أخبرتك، لستُ نادما على قراري البتة، فزوجها رجل فاضل كما سمعت، وهي تعيش الآن حياة مستقرة معه، وأرجو لهما السعادة من كل قلبي..

فأطرق زاهر رأسه متمتماً:

– هذه مثالية مبالغ فيها منك، ويستحيل أن أكون مثلك..

وخيّم عليهما صمت ثقيل، قطعه رائد بسؤاله:

– دعك الآن مني، فقد أخبرتك كل شيء، فماذا عنك أنت؟

فزفر زاهر بضيق:

– لا أدري ماذا أقول، فأنا في حيرة من أمري! ولن أحتمل تفويت الفرصة مثلك!

والتقط نفساً عميقا قبل أن يستأنف:

– ربما سأتمكن من إيجاد عمل مناسب بنهاية هذه السنة، فتخرجنا بات وشيكاً، ولكن المشكلة أن الفتاة لا زالت في المدرسة، ولا أدري إن كان الأهل سيتقبلون فكرة الخطوبة..

  بدت الدهشة على وجه رائد، فسأله بتعجب:

– في المدرسة؟؟ حسب ما أذكر أنها تصغرك بسنتين فقط!

فما كان من رائد إلا أن بادله نظرات الدهشة نفسها، متسائلا بتعجب:

– عمن تتحدث؟

فرد رائد:

– ألا تقصد تلك الفتاة التي كانت تشاركك مشاريعك في كتابة القصص المرسومة؟

عندها فهم زاهر قصده، فابتسم قائلاً:

– لا شك أنك تقصد زهرة، شقيقة زوجة أخي، اليس كذلك؟

فأجابه رائد:

– بالطبع، ومن غيرها؟ لقد كنتَ تتحدث دائماً عنها، وعن مشاريعكما، كما أذكر أنها كانت تأتي لتشجيعك في بطولات التايكوندو!

فتنهد زاهر:

– أجل هذا صحيح، كان ذلك في الماضي عندما كنا صغاراً، أما الآن فلا يوجد شيء مميز بيننا، إنني أتحدث الآن عن ابنة خالتي…

غير أن رائد قاطعه بانفعال مفاجيء غير متوقع:

– وماذا عن تلك القصة؟ لقد صنعتم منها عدة فصول حسبما أذكر، فهل اكملتموها؟

فضحك زاهر:

– تقصد قصة البطل المغوار؟ إنها مجرد قصة طفولية، فمن يأبه بها..

غير أن رائد تابع كلامه بجدية:

– ألم تقل ذات مرة بأن لكتابة القصص رسالة وهدف كبير؟

فحملق فيه زاهر لوهلة، قبل أن يعلق باسما:

– هل قلتُ ذلك حقا؟ يبدو أنني كنت مثالياً أيضا!

قال جملته تلك وانفجر ضاحكاً، فيما لاذ رائد بالصمت، إلى أن استأنف زاهر كلامه:

– آسف لازعاجك يا صديقي، ولكنني بالفعل لم أعد مهتما بتلك القصص، ولا اظنها مهتمة بها أيضا! فقد كبرنا..

فقاطعه رائد:

– وما أدراك أنها لم تعد مهتمة بتلك القصص؟ ثم إن الأمر لا يتعلق بالقصص وحدها، فلطالما كنتَ تتحدث عن أخلاقها وأدبها، حتى أنك بدوتَ معجباً جدا بها ذات يوم!

فتنهد زاهر:

– ربما كنتُ معجباً بها.. فهي بالفعل تكاد أن تكون فتاة مثالية من كافة الجوانب، فهي على درجة عالية من الأخلاق بشهادة الجميع، ولكنني لا أشعر نحوها بانجذاب خاص مقارنة بابنة خالتي!

فأجابه رائد بتفهم:

– هذا لأنها فتاة محافظة، فهل كنت تتوقع منها أن تُقدم على تصرفات تثير اهتمامك؛ حتى تنجذب نحوها مثلا؟

وصمت قليلاً قبل أن يتابع:

– لا أريدك أن تندم يا صديقي، أو تتسرع باتخاذ قرار غير محسوب العواقب، فنحن أصدقاء منذ زمن طويل، وأعرفك بشكل كبير، أكثر مما تتخيل!

تأثر زاهر لتلك النبرة الصادقة في لهجة صديقه، فقال بامتنان:

– أقدر اهتمامك يا صديقي العزيز، ولكن قلبي قد تعلق بالفعل بابنة خالتي، وأخشى أن افقد السيطرة على نفسي، أو ارتكب محظورا لا قدر الله، لذلك فكرتُ بأمر الخطوبة!

وبتفهّم كبير وتعاطف واضح، قال رائد:

– كان الله بعونك، ولكن ما كان عليك أن تترك نفسك حتى تصل إلى هذا الحد يا زاهر! وقدر الله وما شاء فعل!! على كل حال، من الأفضل أن تستشر والديك، فلا أظنني أمتلك النصيحة المناسبة لك، وأسأل الله لك التوفيق..

**

رأت زهرة نفسها في ثوب زفاف أبيض، وسط زغاريد العائلة وأهازيجها المبهجة، فيما همس زاهر بأذنها بحب:

– وأخيراً اجتمعنا يا حبيبتي، لطالما انتظرتُ هذه اللحظة بفارغ الصبر! يمكننا إكمال قصتنا الآن بلا قيود، فهل لا زلتِ تحتفظين بالصفحات السابقة؟

 غير أن الواقع سرعان ما تكفل بتمزيق ذلك الأمل إلى أشلاء مبعثرة؛ ليوقظها من أحلامها الوردية على صوته المرير:

“خطوبة زاهر وفاتن؛ تم إعلانها أخيرا، وسيتم تحديد موعد الاحتفال بهذه المناسبة السعيدة قريباً”!

   لم تدرِ زهرة، من أين سمعت الخبر، أو كيف عرفت عنه أول مرة ولأولى، لكنها كانت حريصة أشد الحرص أن لا يبدو عليها أدنى “تأثر” جراء ذلك! فعادت إلى منزلها، وهي تحاول السيطرة على مشاعرها، والتظاهر باللامبالاة المطلقة، فألقت التحية على والدتها بابتسامة زائفة، وهمت بالذهاب إلى غرفتها كالعادة؛ غير أن أمها استوقفتها قائلة:

– لا داعي لأن تغيري ثيابك، فقد سمعت عن افتتاح محل جديد للمشروبات المثلجة، وأريدك أن ترافقيني إليه، فوالدك سيتأخر اليوم في العمل، وستكون فرصة لتغيير الجو من أعباء المنزل!

ورغم أن زهرة لم تكن بمزاج يسمح لها بالخروج؛ لكنها لم تكن لتعارض رغبة والدتها، فوافقت قائلة:

– حسناً أمي، سأصلي العصر فقط، وسأكون مستعدة بعد ذلك، إن شاء الله..

ورغم حرص زهرة، على الظهور أمام والدتها بمظهر طبيعي؛ إلا أنها لم تكد تضع جبهتها على الأرض- في وضعية السجود- حتى سالت دموعها بغزارة، لتبلل سجادة الصلاة، وهي تبثها كل ما يعتريها من حزن وألم..

**

اختارت والدة زهرة طاولة تطل على حديقة ورد متعددة الالوان والأشكال، ثم سحبت أحد المقاعد وجلست إلى جانب زهرة أمام الطاولة، قائلة:

– سبحان الخالق! أليس المنظر بديعاً!

فابتسمت زهرة:

– بالفعل مكان رائع جدا ما شاء الله! سبحان الله!

فتحت الأم قائمة المشروبات، وأخذت تستعرضها مع زهرة بصوت عال؛ قبل أن تشير بإصبعها إلى أحدها قائلة:

– “مشروب الفانيلا المثلج بالكريمة”.. ما رأيك؟ أنتِ تحبين نكهة الفانيلا..

فعلقت زهرة وهي تتأمل القائمة:

– إنه باهظ الثمن بشكل غير معقول!

فضحكت أمها:

– دعينا الآن من التفكير بهذه الأمور المزعجة، فهذه الفرصة لن تتكرر كل يوم! كانت جدتك رحمها الله تقول “ساعة الحظ لا تفوّتها”..

  لم يستغرق إعداد الطلب وتقديمه أكثر من بضع دقائق، تبادلت خلالها الأم وابنتها ملاحظاتهما حول المكان، ولم تكد زهرة ترشف الرشفة الأولى من مشروبها؛ حتى هتفت بانتعاش:

– ما شاء الله!!!! لذيذ جدا!!

فعلقت أمها وهي ترتشف بضع رشفات من كأسها هي الأخرى:

– الحق يُقال، إنه يستحق ثمنه بجدارة!

وبينما هما كذلك، إذ قالت الأم فجأة:

– ما أخبار قصتك المرسومة؟ كنتِ تلتقطين الصور للمناظر المختلفة، من أجل رسمها، وأظن أن هذا المنظر يستحق التصوير، فما رأيك؟

فردت زهرة باقتضاب:

– صحيح إنه منظر جميل..

فعلقت أمها باهتمام:

– لم أرك ترسمين منذ فترة، ألا تنوين إكمال القصة؟

فتنهدت زهرة، وآثرت الصمت، فما كان من أمها إلا أن أخرجت ورقة وقلم من حقيبتها، وكتبت عليها قليلا؛ قبل أن تريها لزهرة، قائلة:

– ما رأيك بهذه؟ هل يمكنك ايجاد الجواب الصحيح؟

تناولت زهرة الورقة، وأخذت تتامل ما كُتب عليها بتمعن:

7) x 4 – 3)] x 2 + (3+2)]}

ثم قالت:

– الأقواس غير مغلقة، ولا يمكنني الجزم بالاجابة!

فأومأت الأم موافقة:

– هذا صحيح، ولو أدخلتِها بالآلة الحاسبة هكذا، لما أعطتك أية نتيجة!

  صمتت الأم قليلاً قبل أن تتابع:

– هذا ينطبق على حياتنا أيضا يا ابنتي، فإن قمنا بفتح الأقواس فقط دون التفكير بإغلاقها، لبقينا معلقين فقط؛ دون إحراز أي نتائج أو إنجازات تُذكر! عليك أن تغلقي الأقواس دائماً حتى تحصلي على الحل، ومن ثم سيكون بإمكانك أن تفتحي قوس جديد!

خيم صمت لوهلة، قطعته زهرة بقولها:

– أفهم ما تعنيه يا امي، ولكن لا يمكنني إكمال القصة وحدي، فقد كان زاهر..

وغصت الكلمات بحلقها، وتهدج صوتها وهي تحاول المتابعة:

– هو من يكتب القصة وأنا أرسمها وحسب!

بذلت الأم جهدا اضافيا في حبس دموعها، وحمدت الله الذي ألهمها الجلوس في ذلك الموقع إلى جانب ابنتها، بحيث لا تواجه إحداهما الأخرى، ثم قالت بهدوء:

– أنا لم أقل أن عليك اكمال القصة وكتابتها، أغلقي قوسها وحسب!

أثارت تلك الملاحظة اهتمام زهرة، فسألتها بفضول:

– وكيف أغلق قوسها؟ ماذا تقصدين يا أمي؟!

فابتسمت الأم:

– اصنعي نهاية للقصة.. ضعي خاتمة فقط!

وصمتت الأم لتترك لها مساحة للتفكير، قبل أن تُخرج من حقيبتها هدية مغلفة، ناولتها لها مشجعة:

– قد تساعدك هذه في المهمة، هيا افتحيها يا حبيبتي..

اغرورقت عينا زهرة بالدموع، وهي تشاهد آلة التصوير الحديثة، التي فاجأتها بها أمها، معلقة:

– لقد أصبحتْ آلتك السابقة قديمة، وهذه آلة رقمية مطورة، وبها مميزات كثيرة..

فما كان من زهرة إلا أن نهضت من مقعدها، وعانقتها بتاثر شديد، وهي تجهش بالبكاء، غير مبالية إن ما كان هناك أحدٌ حولهما:

– أحبك يا أمي.. لا حرمني الله منك أبدا.. وإن شاء الله أكون عند حسن ظنك دائماً..

  وانسابت الدموع غزيرة من عيني الأم وهي تحتضن فلذة كبدها، وقطعة قلبها، هامسة بحب:

– أنت فتاة طيبة يا حبيبتي، وقلبي راضٍ عنك، وأسأل الله أن يرسل لك من يستحقك ويسعدك..

ثم ربتت على كتف ابنتها برفق:

– هيا.. ألن تلتقطي صورة لهذا المنظر الجميل أمامنا؟

مسحت زهرة دموعها، وابتسمت وهي تحاول السيطرة على أنفاسها المتلاحقة أكثر:

– بالتأكيد يا أمي، ولكن قبل ذلك.. أريد أن نلتقط صورة لنا معاً..

**

وضعت زهرة هاتفها في حقيبتها، بعد أن أعلمت والدتها بأنها ستتأخر قليلاً في الجامعة.. 

كانت تشعر برغبة كبيرة في خلوة تقضيها مع الطبيعة، تفكر خلالها بهدوء وعمق، بعد أن عقدت العزم على وضع نهاية لتلك القصة، مهما كلف الأمر! شعرت بانتعاش عجيب، وهي تسير بين أشجار الصنوبر العملاقة، خاصة وقد بدأت ساحات الجامعة وطرقاتها تخلو من الطلبة، مع نهاية الدوام الرسمي..

أخذت تتأمل الأشجار والنباتات حولها، وكأنها تراها لأول مرة، رغم أنها تمر من بينها تجاه كليتها كل صباح! وإذ ذاك أخرجت آلة التصوير الجديدة، وبدأت بالتقاط الصور بسعادة غامرة، حتى عثرت على مقعد خشبي يتماشى مع أجوائها الملهمة، فاسترخت عليه- بعد أن القت حقيبتها إلى جوارها- وأسندت ظهرها ملقية برأسها إلى الخلف، متأملة أغصان الشجرة المتشابكة فوقها، فيما أرخت سمعها لأروع سيموفونية قد تسمعها في ذلك المكان، من اداء تلك العصافير الصغيرة بديعة الالوان!

وبعد أن حلقت في أجواء من السلام النفسي العجيب؛ أخرجت صفحات مرسومة من حقيبتها، وبدأت تتأملها بروية..

لقد تحسن رسمها كثيرا، مقارنة بالمرة الأولى التي بدأت فيها العمل على هذه القصة!

بذلت جهدا كبيرا في استخراج فكرة مناسبة للخاتمة، وأخذت تخط بعض الخربشات على ورقة بيضاء، أسندتها فوق تلك الصفحات المرسومة على حجرها، لكنها لم تعثر على شيء مميز! فتنهدت بضيق:

– لو أنني أعرف فقط كيف كان زاهر يحصل على الأفكار!

وما أن طرق “زاهر” ذهنها؛ حتى شعرت بوخزة ألم في صدرها، سرعان ما طردتها من رأسها بقوة، فتفلت عن يسارها ثلاثاً، مستعيذة بالله من وساوس الشيطان، مذكرة نفسها:

– لقد وعدتُ أمي.. سأضع نهاية لهذه القصة، إن شاء الله.. فيارب.. ساعدني..

ونهضت من مكانها، وأخذت تتمشى قرب المقعد جيئة وذهاباً، ثم حملت حقيبتها على كتفها، فيما أمسكت الأوراق بيدها، وأخذت تسير ببطء وسط غابة أشجار عملاقة، في الجزء الشمالي من ساحة الجامعة المترامية الأطراف..

لم تدرِ زهرة كم قطعت من مسافات؛ قبل أن يطرق سمعها نعيق الغربان.. لم تلقِ بالاً للأمر في البداية، لكنها فوجئت بها وهي تقترب منها دون خوف، محلقة فوق رأسها باهتياج، فأوجست في نفسها خيفة:

– هل يعقل انها ستهاجمني مثلا!

عندها.. حاولت أن تسرع في مشيتها، غير أن الغربان قد بدأت بشن هجومها فعلاً، فأخذت تطير نحوها من كل اتجاه، فيما حاولت زهرة خفض رأسها أثناء جريها، كلما أحسّت باقترابهم منها.. لقد شعرت بالخوف الحقيقي في هذه الجامعة، لأول مرة!

 كانت زهرة تجري بكل قوتها، وهي تلوح بالاوراق في الهواء، خافضة رأسها، لعلها تبعد الغربان عنها، فلم تنتبه للصخرة الصغيرة أمامها، فتعثرت بها لتسقط على الأرض، مرتكزة على يدها اليسرى، لعلها تحمي الاوراق التي تشبثت بها يدها اليمنى بشدة! غير أن ألم السقطة على يدها اليسرى، افقدها السيطرة على نفسها، فتبعثرت الأوراق من يدها على الأرض!!

وكأن الغربان قد تفاجأت من هذا العارض؛ فهدأت قليلاً مرتفعة في الهواء! أخرجت زهرة منديلا من حقيبتها، لتمسح الجروح على باطن كفها الأيسر، وضغطت عليه لتوقف نزف الدماء، فيما حاولت جمع الأوراق المبعثرة بسرعة، قبل أن تستأنف الغربان شن هجومها التالي! وبينما كانت تحاول الاسراع في المشي نحو بوابة الجامعة الشمالية؛ سمعت صوتاً ينادي:

– يا أختي.. يا أختي.. لحظة لو سمحت..

فتوقفت زهرة لبرهة، والتفتت إلى الخلف، لترى شاباً يسرع نحوها، وهو يشير بورقة في يده، فهرعت تتفقد أوراقها، لتكتشف  نقصان واحدة منها! حتى إذا ما اقترب منها الشاب، ناولها الورقة بأدب:

– أرجو المعذرة يا أختي، ولكنها سقطت منك..

تناولتها زهرة الورقة منه، وشكرته بامتنان شديد:

– جزاك الله خيرا..

فيما أضاف الشاب، قبل أن يتجاوزها بالمشي:

 – من الخطر السير في تلك المنطقة، أثناء خلو الجامعة من الناس، فأعشاش الغربان متمركزة فيها بكثرة!

قال جملته تلك ومضى في حال سبيله، في حين التمعت فكرة في ذهن زهرة، أعادت الحماسة إلى نفسها، فحمدت الله على سلامتها، وهي تقترب من بوابة الأمان، بعيدة عن محيط الغربان، وابتسمت لنفسها مشجعة:

– الحمد لله.. وجدتها.. وجدتها..

**

شعرت زهرة براحة كبيرة، وهي تراجع أسئلة آخر امتحان نهائي لذلك العام مع صديقاتها، بعد خروجهن من القاعة:

– الحمد لله.. المهم أن بإمكاننا الشعور بالحرية أخيرا، بعد ذلك الضغط..

فأكدت هديل كلامها:

– حقا..الحمد لله.. والآن دعونا ننسى أمر الاختبارات، ما هي خططكن لهذه الاجازة يا بنات؟

قالت بسمة:

– أظننا ستقضي الاجازة في بيت جدي في الريف..

فيما قالت نوال وهي تتثاءب واضعة يدها على فمها:

– أريد أن أنام وحسب.. كل الخطط يمكن تأجيلها بعد ذلك..

فتندرت عليها الفتيات ضاحكات:

– أحلام سعيدة، يا ملكة النوم..

ثم استدركت هديل، موجهة حديثها لزهرة:

– نسيت أن أخبرك بأنني كتبتُ فصلا جديدا للقصة..

فتساءلت بسمة بفضول:

– عن أي قصة تتحدثون؟ ما الذي تخططون له من ورائنا؟

فابتسمت زهرة:

– ليس ذنبنا أنك لم تكوني منتبهة معنا، عندما تحدثنا عن ذلك أول مرة..

فيما أوضحت نوال قائلة:

– باختصار، زهرة وهديل تعملان على قصة مشتركة عن يوميات طالبة جامعية.. هديل تكتب وزهرة ترسم، وأنا أحلم بالأفكار!

 فلم تتمالك الفتيات أنفسهن من الضحك، رغم محاولتهن الجاهدة لخفض أصواتهن قدر المستطاع..

   عانقت زهرة رفيقاتها بحرارة، قبل أن تودعهن، على أمل اللقاء بهن مجددا في العام القادم، ثم اتجهت نحو موقف حافلات منطقتها، وقبل أن تصل إلى وجهتها، استوقفها صوت ممزوج بحنين الماضي وذكرياته، تعرفه جيدا:

– زهرة.. هل لي بدقيقة من فضلك؟

  لم تصدق زهرة عينيها، وهي ترى زاهر يقف أمامها بشحمه ولحمه! كان هو بعينه، بطوله وعرضه، غير أن مسحة حزن كست ملامح وجهه بوضوح! ورغم هول المفاجاة؛ إلا أن زهرة نجحت في السيطرة على انفعالاتها؛ فقالت بنبرة حازمة:

– خير إن شاء الله؟!

فتنهد زاهر، وقال بنبرة لا تخلو من أسى:

– قد تستغربين حديثي معك الآن، ولكنني وجدتُ نفسي مضطر إليه، وأرجو أن لا أسبب لك أي إزعاج بذلك..

 والتقط نفساً قبل أن يتابع:

– لن أطيل بالمقدمات، فأنا أعلم أنك مستعجلة، ولكن.. لا أدري كيف أقولها.. اشعر أنني خدعتُ نفسي عندما قررتُ الارتباط بفاتن!

لم تعلق زهرة بشيء، وبدت لزاهر غير متأثرة بما سمعته؛ فلم يشعر بتلك الزلزلة حامية الوطيس التي هزت أرجاء جسدها! وأمام صمتها، تابع قائلاً:

– لقد مضت قرابة السنة على خطوبتنا، لم اكتشف خلالها إلا مدى تنافر شخصياتنا وتباعدها، فلا توجد بيننا أي اهتمامات أو أهداف مشتركة، أشعر وكأنني عالق مع طفلة صغيرة، طلباتها لا تنتهي!! لقد وقعتُ ضحية انبهار عابر، لا يغني عن الحقائق شيئاً، ولا أدري إن كان من الحكمة المضي قدما في علاقة كهذه!!

خيم صمت ثقيل على الاثنين للحظة، قبل أن تقول زهرة بلهجة جادة:

– فاتن فتاة طيبة، ولم يجبرك أحد عليها، وقد كنتَ تعرف مسبقاً أنها لا تزال طالبة في الثانوية، كما أنها انتقلت إلى بيئة جديدة لم تألفها من قبل! جميع الأمور كانت واضحة لك منذ البداية، فليس من العدل أن تتنصل من هذه المسؤولية بسهولة! ثم إنها ابنة خالتك، وهي وحيدة والديها، فلا تتهور بالاقدام على خطوة؛ تكون سببا في نشوب خلافات عائلية غير محمودة العواقب! لقد أحبتك ووثقت بك، فإياك أن تخذلها! عليك أن تتفهم ظروفها واحتياجاتها، ألستَ أنت الرجل الذي بيده القوامة؟ لا تظن أن هناك زواج بلا طلبات أو مسؤوليات، ويا حبذا لو التحقت بدورات تأهيل الزواج، فهذا ليس عيب أبداً..

كان زاهر يستمع إليها مطأطئاً بإنصات، وكأن على رأسه الطير، في حين ختمت زهرة كلامها بثقة:

– الزواج مسؤولية كبيرة، وميثاق غليظ، ومن الأفضل أن تستشير والديك في موضوعك هذا، وأسأل الله أن يبارك لكما ويبارك عليكما، ويجمع بينكما بخير..

وقبل أن تهم بالذهاب، استدركت قائلة:

– بالمناسبة، لقد وضعتُ خاتمة لقصة “البطل المغوار”، ونشرتها على الموقع العربي للقصص المرسومة، كما كتبتُ اسمك أيضاً لحفظ الحقوق..

  لم يستوعب زاهر ما سمعه في البداية، وقبل أن يتأكد من زهرة حول ما قالته؛ كانت قد تبخرت من أمامه كطيف عابر!

فأخرج هاتفه الذكي، وتأكد من تفعيل خاصية الاتصال بالشبكة العنكبوتية، ثم ضغط بضع كلمات في محرك البحث، قبل أن تظهر القصة أمامه! وبتصفح سريع، استرجع ذكريات تلك الأحداث التي كتبها من صميم قلبه قبل زمن! فهرع لرؤية الفصل الأخير، ضاغطاً على رابطه،  ليبدأ قراءته باهتمام شديد..

لم يكن الفصل يتجاوز بضع صفحات مرسومة بالكامل، تتخللها كلمات متفرقة، وجمل محدودة، أمكنه تلخيصها بفقرة واحدة:

“بعد أن وجد البطل المغوار نفسه محاصرا من الحيوانات المفترسة، استمات في الدفاع عن نفسه، مستخدما كافة الحركات التي تعلمها في تدريبات التايكوندو دون يأس أو استسلام.. حتى إذا ما كان على شفير الهاوية؛ ظهر فارس شجاع من العدم، فأنقذه من براثن تلك الوحوش الكاسرة، وساعده على العودة لقريته بسلام، ورغم اصاباته البليغة، التي حالت دونه ودون العودة لسابق عهده في حماية القرية، مما أشعر الأهالي بالحزن والاحباط؛ إلا أنه بقي متفائلاً متشبثاً بالأمل، فطمأنهم بلهجته الواثقة القوية:

– حتى وإن خسرتم بطلاً واحداً؛ فسيكون هنالك دائما بطلٌ مغوار..

وهكذا.. أغلق البطل المغوار قوس حياته الماضية، وبدأ حياة جديدة؛ تفرغ فيها لكتابة مذكراته، وإفادة الأجيال القادمة بخبراته..”

**

كانت زهرة على وشك الانتهاء من غسل الأواني في مطبخ أختها، بعد عزومة عائلية كبيرة، احتفالاً بقدوم المولودة الرابعة! وبينما هي تدندن بنشيد ألّفته مع هديل، ليتناسب مع قصتهما الجديدة؛ دخلت عليها فاتن وهي تحمل طفلها النائم، الذي لم يتجاوز العام بعد:

– السلام عليكم.. الله يعطيك العافية..

فردت زهرة عليها السلام باسمة:

– الله يعافيك، كيف حال مراد الصغير الآن؟

فتنهدت فاتن:

– الحمد لله حرارته انخفضت، ولكنني مضطرة لتركه هنا مع خالتي، فلدي مراجعة عند الطبيب..

فطمأنتها زهرة بثقة:

– لا تقلقي، سأكون متواجدة أيضاً، وسأنتبه له جيدا، إن شاء الله، المهم اعتني بنفسك جيداً..

فدمعت عينا فاتن بتأثر:

– حقا لا أعرف كيف أشكرك يا زهرة، لقد أثقلتُ عليك كثيرا هذه الأيام، فأمي مسافرة كما تعلمين، و..

فقاطعتها زهرة بعتاب:

– سامحك الله، لا تقولي هذا فنحن أخوات..

وقبل أن تضيف أي منهما كلمة أخرى؛ رن هاتف فاتن، فقالت:

– هذا زاهر، لا شك أنه ينتظرني في الأسفل..

فجففت زهرة يديها من الماء، ثم تناولت الصغير من أمه قائلة:

– سأضعه على السرير الآن، فكوني مطمئنة، ولا بأس عليك طهور إن شاء الله..

**

انتابت زهرة مشاعر مختلطة وهي تستمع لكلام والديها، حول ذلك الخاطب.. لم تكن تشعر بانها مستعدة بعد لخوض هذه التجربة! ولكنها لا تمتلك أي سبب واضح للرفض! فوالدها بدا مبتهجاً جداً، وهو يصفه بقوله:

– ما شاء الله، لم أتوقع أن أقابل شاب مثله في هذا العصر! إنه رجل رائد بمعنى الكلمة، خلق ودين، وأدب لم أجد له مثيلا من قبل، لقد حاولتُ التحري عنه أنا وهيثم، ولم نجد أي شائبة ضده! كما أن أبو سامر صديق قديم لوالده، وهو يعرفهم جيدا، ووصفهم بالعائلة الكريمة المحترمة..

فيما أكدت والدتها ذلك بقولها:

– لقد ارتحت لأمه أيضا، إنها صريحة مثلي، وقد تناقشنا في كل شيء، فهذه حياة وليست لعبة! أراه كنز حقيقي، وفرصة لا تعوّض، فمن النادر أن تجد شاباً مسؤولاً ومستعداً هكذا  هذه الايام، أكاد أجزم بأنه لا ينقصه شيء ما شاء الله!

عندها قال الوالد مخاطبا ابنته:

– لم يبق سوى تحديد موعد الجلسة الشرعية، وسيكون القرار النهائي لك يا ابنتي، فلا داعي للقلق..

**

كانت زهرة تشعر ببعض التوتر، وهي تهم بالدخول على ذلك الخاطب، الذي ينتظرها في صالة الاستقبال، فيما أخذت كلمات أمها تتردد في ذهنها، مطمئنة:

– اعتبريه زميل عمل، تتناقشين معه حول مشروع مستقبلي، لا أكثر ولا أقل!

التقطت زهرة نفسا عميقا، ثم دخلت الصالة وألقت السلام، وما أن وقعت عيناها على الشاب الذي نهض واقفا، ليرد عليها التحية؛ حتى شعرت بأنها تعرفه منذ زمن طويل! اختارت المقعد المقابل له، فيما ابتدر هو زمام الحديث بابتسامة ودودة، كاسراً حاجز الحرج بينهما، بقوله:

– لا أظنك تذكرينني، فلم نتقابل سوى بضع مرات في السابق، ولكنني أعرف عنك الكثير، لذا.. دعينا نتحدث كالأصدقاء، لعلنا نفتح قوس جديد..

**

***تمت بحمد الله***

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

Tags: No tags

2 Responses

إضافة تعليق

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني *الحقول المشار لها بنجمة هي حقول إلزامية