
بين "الثقة" و"المصلحة".. "زهرة" و"ازدهار"، لكل من يريد الاعتبار!

اقتبس من زينب جلال في 2023-07-24, 9:22 صبين "الثقة" و"المصلحة"... قصة وعبرة
"زهرة" و"ازدهار"، لكل من يريد الاعتبار!( كتبتها ونشرتها سابقا في إحدى المجموعات يوم14 سبتمبر 2017 )
*هذه القصة الحقيقية تماما، وتأكدوا أنها حقيقية، فقط تم تغيير بعض الاسماء..
أولاً لا بد لنا من التعريف بخلفية زهرة ومشكلتها الرئيسية، إلا وهي طبيعة عمل والدها الذي سبب لهم كثرة التنقال من مكان إلى آخر (وربما هذا هو السبب في كون ياسين من مسلسل الكابتن ماجد شخصيتها المفضلة!^^)
مما جعلها تفتقر إلى الأصدقاء وتشعر بالغربة الدائمة المستمرة، ويكفي أنها درست المرحلة الابتدائية في أربع مدن مختلفة!!!
في المدينة الأولى درست الصف الأول والثاني والفصل الأول من الصف الثالث
ثم انتقلت إلى مدينة ثانية؛ درست فيها الفصل الثاني من الصف الثالث!
ثم انتقلت إلى مدينة ثالثة درست فيها الفصل الأول من الصف الرابع
ثم انتقلت إلى مدينة رابعة درست فيها الفصل الثاني من الصف الرابع بالاضافة إلى الصف الخامس والسادس، وهنا أنهت المرحلة الابتدائية قبل أن تنتقل إلى مدينة خامسة!!!!
وفي المدينة الرابعة.. دارت أحداث القصة (أو المشكلة)!وقبل أن نصل إلى (بيت القصيد) لا بد لنا من تسليط الضوء أولاً على طبيعة العلاقة بين زهرة، ومدرسة هذه المدينة..
في أول يوم دخلت فيه إلى هذه المدرسة الابتدائية - لتلتحق بالصف الرابع الابتدائي- كانت برفقة والدتها، وقد وصلت أثناء طابور الصباح.. أمام الملأ الذي أصابها بالرهبة، حيث كان مدخل الساحة المغلقة يواجه صفوف المعلمات والطالبات بوجوههن المبحلقة في كل قادم (على خلاف المعتاد في المدارس حيث تكون ظهور الطلبة هي المواجهة لمدخل الساحة)، وكأن هذا المشهد (المواجهة الأولى) وضعها وجها لوجه أمام طالبات المدرسة كافة، طالبة جديدة.. تلتحق بالصف الرابع في نصف العام الدراسي، بل وبعد بداية الفصل الثاني من العام الدراسي بأسبوع!! وبما أنها كانت برفقة أمها، فقد بدا هذا مستهجنا بشكل واضح في العيون المحدقة بها من كل جانب..
كانت هذه هي المواجهة الأولى، حيث ذهبت بناء على ارشاد المعلمة لتقف في الطابور الخاص بالصف الرابع، وحيدة في نهاية الصف (أو هذا ما خيّل لها)!!
كانت هذه البداية فقط!! لتكتشف بعدها أنها مجرد شخص "دخيل" على مكان غريب مخيف يعرف الجميع فيه بعضهم بعضا إلا هي، والأسوأ من هذا أنها شعرت بأن أشكال الطالبات مخيف أيضا... كانت أحجامهن تبدو ضخمة بالنسبة لها وكأنهن طالبات ثانوية.. أو هذا ما شعرت به!!وكأي مخلوق فضائي غريب يزور الكرة الأرضية، تم التعرف إليها واستكشافها بشكل مريب، أثار الرعب في نفسها... بعض المعلمات فقط، نجحن في طمأنتها بأنها في مدرسة عادية لا أكثر.. (فحتى مبنى المدرسة لم يكن يشبه أي مدرسة طبيعية... كل الاشياء مريبة هنا!!)
في هذا المكان وفي تلك الاجواء كان عليها ان تقضي سنتين ونصف من عمرها، قد تكون هي الأصعب في تاريخ حياتها بأكمله!!في البداية حاولت أن تشغل وقت فراغها بكتب تحضرها معها من المنزل، لا سيما وإن وصلت باكرة في الصباح، وكان هذا ملفتا للأنظار بشدة... طالبة تقرأ في كتاب غير الكتاب المدرسي؟؟؟ هل تستعرض علينǿ؟ ما هذا الذي تفعله.. مغرورة ومتكبرة..
وذات مرة أعطتها أمها تفاحة لفترة الاستراحة، ويبدو أن أكل التفاح والفواكة كان أمرا مثيرا للسخرية وغير معتادا في تلك المدرسة، مما زاد من رصيدها السلبي... فكانت آخر مرة تغامر فيها بإحضار تفاحة، وجاهدت لتقنع أمها بضرورة تفهم مشاعرها، فأكل التفاح في المدرسة يبدو عارا كبيرا!!
وهي مع ذلك إن نجحت في شيء، فقد نجحت في اكتساب عداوة الطالبات!!
ويكفي أنها حصلت على المركز الأول في أول إعلان للنتائج.. ثم حصلت على تقدير المعلمات ومدحهن، ثم انهالت عليها الجوائز والهدايا.. لتساهم في إيغار الصدور عليها أكثر، لا سيما وأن منافستها منهن كانت تحظى بشعبية كبيرة بين جمهور الطالبات، ولم يكن الموضوع مقتصر على المنافاسة وحسب بل تعداه إلى شيء آخر..
فقد كانت بعض الطالبات يأخذن دفاترها عنوة لنقل الواجب، وتعدى الأمر إلى أخذ ورقة الاختبار أيضا!! شيء لم يخطر ببالها أبدا!! فعندما جلست المعلمة وأدارت ظهرها قليلا أثناء الامتحان، فاجأتها طالبة من جانبها بأنها تريد منها اجابة أحد الاسئلة، وبما أن زهرة معتادة على عدم الغش لأنه حرام حسبما تعلمت في البيت، مدّت الطالبة يدها لتأخذ الورقة عنوة، وتقرأ الاجابة رغما عنها!!!كانت أشبة بلعبة شد الحبل، الطالبة تشد الورقة وزهرة تمنعها من ذلك، ولأنها نجحت في منع الاجابة الكاملة عن الطالبة، زادت في رصيدها السيء أكثر عند الطالبات... لئيمة وأنانية!!
وذات مرة.. قررت مجموعة من الطالبات إعداد مقلب لإحدى المعلمات، فوقفن خلف باب الصف ليمنعنها من الدخول وإعطاء الحصة، وأخذت المعلمة تدق الباب وتصرخ دون فائدة، في حين تعالت أصوات الطالبات بالضحك، وما أن ذهبت ابتعدت المعلمة قليلا لتستدعي (القوة الاضافية والنجدة!) حتى عادت الطالبات إلى أماكنهن بسرعة، وفُتح الباب... كانت المعلمة في قمة غضبها، وأخذت تسأل: من الفاعل؟؟ وطبعا لاذ الجميع بالصمت.. وبدأت المعلمة تهدد وتتوعد، وبدأت زهرة تشعر بالصراع الداخلي.... هل تخبر المعلمة التي تحبها وتثق بهǿ؟ أم هل ينقصها المزيد من عداوة الطالبات؟؟ وبين هذين الخيارين مر الوقت وزاد الصمت، فتناولت المعلمة عصا طويلة (وكان الضرب مسموحا على ما يبدو) وقال بأنها ستضرب جميع الأيادي... هنا زهرة شعرت بالمسؤولية فوقفت واعترفت... ولا داعي لذكر ما حدث بعد ذلك!
المزيد من العداوة والبغضاء!! وكل هذا مجرد غيض من فيض مما حدث مع زهرة!!
حتى كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير في الصف السادس الابتدائي، حيث تم تكريمها أمام الأمهات والطالبات بصفتها الطالبة المثالية في المدرسة، فبعد استلامها للجائزة ورجوعها لصفها في نهاية الدوام لتأخذ حقيبتهǺ فوجئت بالطالبات يرمقنها بنظرات نارية، ويسمعنها أقسى الألفظ ويلقين عليها تهم لم تخطر ببالها قط... وقتها فقدت أي شعور بالمقاومة، فخرجت من الصف باكية وجرت باتجاه غرفة المعلمات، ولأول مرة انهارت أمام أول معلمة صادفتها باكية بحرقة: "لا أريد أية جائزة.. إذا لم أكن أستحق ذلك فلماذا أكون الأولى؟ لماذا أنا المثالية؟؟؟ لا أريد شيئا .. "كان انهياراً مروعاً وصادماً للمعلمات، حتى أن المعلمة أخذت تهديء من روعها أولاً لتفهم ما تقول، فلا يعقل أن يكون هذا هو منظر الطالبة التي حصلت على الجائزة قبل قليل!
لم تعرف زهرة ما الذي فعلته المعلمة مع الصف بعد ذلك، ولكنها رأت الطالبات يرمقنها بنظرات غاضبة أثناء خروجهن!!
حصل كل هذا في نهاية الفصل الأول من الصف السادس الابتدائي..
وحتى الآن... هذه مجرد مقدمة لما هو آت ، أي للموضوع الأصلي ، حيث (بيت القصيد)!
جاء الفصل الثاني بعد إجازة قصيرة، وتفاجأت الطالبات بالتحاق طالبة جديدة من مدينة أخرى بالصف.. وشعرت زهرة بأن هذه الطالبة الجديدة هي هدية السماء إليها، خاصة وأنها بدت تشبهها!! فبادرت بالتعرف إليها (لا سيما وأنها سبقتها في هذا المكان منذ سنتين!) ولم يتطلب الأمر منهما وقتا طويلا حتى أصبحتا صديقتين حميمتين .. (أو هكذا بدا الأمر!).. "زهرة" و"ازدهار".. حتى الأسماء متقاربة!!وبدأت الصداقة الوليدة تحلق بهما في عالم الأحلام الخيالية، كان ذلك في حصة التعبير من اللغة العربية، وقد كان موضوع الدرس... الكتابة عن (العلم)..
كانت المعلمة مشغولة بالتصحيح على ما يبدو- أو أنها كانت حصة فراغ!- المهم جلست زهرة وازدهار في المقاعد الخلفية تتبادلان الأفكار عن هذا الموضوع الجامد، ليتحول تدريجيا إلى موضوع مسلي جداً.. وكانت البداية عندما رددت زهرة، بيت الشعر المعروف:
"العلم سلاح المستقبل*** أهلا بالدرس إذا أقبل"
فقالت ازدهار (أو ربما حدث العكس "زهرة<> ازدهار") :
- ما رأيك أن نطوف العالم كله ونحن نحمل هذه اللافتة ونرددها... "العلم سلاح المستقبل..." حتى نصل إلى آخر مستنقع.. ونغرق فيه؟؟
فردت الأخرى:
- في هذه الحالة نحن بحاجة إلى مركبة..
- ما رأيك أن تكون طائرة خاصة مثلǿ
- يجب أن تكون قابلة للطي، حتى يسهل حملها معنها واخفائها عند الوصول إلى البلاد المختلفة.. قبل أن نصل إلى النهاية...
وبحوارات من هذا القبيل، بنت الصديقتان أحلامهما الخاصة بخصوص هذه الطارة، والتي احتوت على غرف وملاهي ومراكز ترفيه وغرف ملابس وماكينات لطباعة النقود بمختلف العملات، والات ترجمة لجميع اللغات.. ومطعم فاخر ينتج جميع الوجبات الشهية والحلويات آلياً..
وهكذا.. على ورقة التعبير رسمتا هيكل الطائرة ومحتوياتها، وحلقتا بخيالهما في أروع رحلة تحلم بها زهرة، حتى دق الجرس ليعلن نهاية الأحلام الوردية!!
المهم أن صداقتها مع ازدهار حملت طابعا فريدا وعهدا جديدا ينقلها من الأجواء التي عانت منها لمدة سنتين... يكفي أنها لم تعد تشعر بالغربة أخيرا.. لم تعد وحيدة!!
وجاء درس الأعمال الفنية والرسم، وكان الموضوع هو انشاء مجسم لمدينة باستخدام الأدوات المتوفرة في المنزل من العلب البلاستيكية والكرتون وما إلى ذلك، على أن يكون العمل ضمن مجموعات، يتم التخطيط لها في هذه الحصة، وفي الحصة القادمة تبدأ المجموعات بمباشرة عملها..
وبدأت الطالبات بالانتظام في مجموعات.. خمسة خمسة أو ثلاثة ثلاثة.. لم يكن هناك عدد محدد... وبالطبع انشأت زهرة وازدهار مجموعتهما الخاصة المكونة منهما هما الاثنتين فقط، ليسمحا لخيالهما بالتحليق كما يشاء؛ في انشاء أروع مدينة حلمت بها البشرية!!!
قامتا بالتخطيط للمشروع وتقاسمتا المهام للحصة التالية، وكان على زهرة إحضار القاعدة الأساسية للمشروع، في حين تحضر ازدهار المستلزمات الاضافية.. وكانتا تتحدثان بحماسة عن الادوات التي ستحضرانها من منزلهما... أعواد ثقاب... نكاشات خشبية.. أعواد قطنية... صحون بلاستيكية على شكل قباب من أجل المساجد.. ألعاب متنوعة لتأثيث المنازل.. كراتين المحارم الورقية الاسطوانية من أجل الأبراج.. كراتين ملونة لقصها وانشاء الجدران وتأسيس البيوت ... أوراق ملونة لرصف الشوارع والأرصفة...الخ ...حماسة ما بعدها حماسة... وخيال ما بعده خيال.... وتصورات كبيرة، وتوقعات عظيمة، حول الإعجاب الكبير، والمدائح التي ليس لها مثيل والذي سينهمر عليهما تقديراً لإبداعهما الخطير في انشاء هذه المدينة التي لم يسبق لها مثيل!!!
وحان وقت الحصة المرتقبة.. ووضعت زهرة قاعدة المدينة- لوحة كبيرة من الفلين (حسب الاتفاق)- على الطاولة التي ستعمل عليها مع ازدهار.. وكانت قد أحضرت معها بعض الأشياء الاضافية بحماسة لا مثيل لها، استعداداً للعمل.. ويبدو أن ازدهار نسيت الكثير من الأشياء.. او أن الاشياء معها لم تكن كافية لتنفيذ المخطط المطلوب حسب الاتفاق.. بل يبدو أنه تم نسيان "الصمغ" العنصر الأساسي في الترتكيب!! في حين أن المجموعات الأخرى كانت تعمل بحماسة، خاصة تلك المجموعة التي تضم منافسة "زهرة" الأساسية، كان عددهم كبيرا، وقد بدا أن مشروعهم سينال العلامة الكبرى...
وبكلمات صادمة غير متوقعة؛ قالت ازدهار بأنها لن تستطيع الاستمرار مع زهرة هكذا، خاصة وأن اليوم هو يوم تسليم المشروع ودرجاتها في خطر، ولم تقل زهرة شيئا على ما يبدو!!
وهكذا.. حملت ازدهار أِشياءها البسيطة التي أحضرتها معها، وذهبت لتلتحق بتلك المجموعة، وتشاركهم بها على أن يسمحوا لها بالانضمام معهم، لتأخذ العلامة الكاملة!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
كانت "زهرة" هي الطالبة الوحيدة في ذلك اليوم التي لم تستطع تسليم المشروع... ربما انضمت إلى مجموعات أخرى... أو ربما انضمت إليها طالبات أخريات... لم تعد ذاكرة "زهرة" بعد قرابة ربع قرن من هذه الحادثة؛ تتذكر ما حدث بالتفصيل...
ولا تذكر تماما كيف كانت علاقتها مع ازدهار بعد تلك الحادثة، ربما استمرتا كصديقتين عاديتين... ربما حدثت أشياء أخرى... المهم أن درجات "زهرة" في نهاية العام- على ما يبدو- نزلت لتنتقل للمركز الثاني بدل الأول...
ومن ثم كان هذا آخر عهدها بمدرسة تلك المدينة... وبـ"ازدهار"....**************
إلى هنا ينتهي سرد القصة، وتأتي العبرة..
ترى... ما هو حكمكم على زهرة وازدهار؟؟
ما هو موقفكم منهمǿ
ما هي المشاعر التي ترسبت في نفوسكم بعدهǿ
هل هذه التجربة في حياة زهرة المبكرة، ايجابية أم سلبية؟؟
خذوا بعين الاعتبار أنكم ستحكمون على طالبات في المرحلة الابتدائية.. ولكنها مدرسة الحياة التي تُكسب الخبرة في أي وقت.سأترك لكم التعليق.. فيكفيني إطالة.. ^^
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
بين "الثقة" و"المصلحة"... قصة وعبرة
"زهرة" و"ازدهار"، لكل من يريد الاعتبار!
( كتبتها ونشرتها سابقا في إحدى المجموعات يوم14 سبتمبر 2017 )
*هذه القصة الحقيقية تماما، وتأكدوا أنها حقيقية، فقط تم تغيير بعض الاسماء..
أولاً لا بد لنا من التعريف بخلفية زهرة ومشكلتها الرئيسية، إلا وهي طبيعة عمل والدها الذي سبب لهم كثرة التنقال من مكان إلى آخر (وربما هذا هو السبب في كون ياسين من مسلسل الكابتن ماجد شخصيتها المفضلة!^^)
مما جعلها تفتقر إلى الأصدقاء وتشعر بالغربة الدائمة المستمرة، ويكفي أنها درست المرحلة الابتدائية في أربع مدن مختلفة!!!
في المدينة الأولى درست الصف الأول والثاني والفصل الأول من الصف الثالث
ثم انتقلت إلى مدينة ثانية؛ درست فيها الفصل الثاني من الصف الثالث!
ثم انتقلت إلى مدينة ثالثة درست فيها الفصل الأول من الصف الرابع
ثم انتقلت إلى مدينة رابعة درست فيها الفصل الثاني من الصف الرابع بالاضافة إلى الصف الخامس والسادس، وهنا أنهت المرحلة الابتدائية قبل أن تنتقل إلى مدينة خامسة!!!!
وفي المدينة الرابعة.. دارت أحداث القصة (أو المشكلة)!
وقبل أن نصل إلى (بيت القصيد) لا بد لنا من تسليط الضوء أولاً على طبيعة العلاقة بين زهرة، ومدرسة هذه المدينة..
في أول يوم دخلت فيه إلى هذه المدرسة الابتدائية - لتلتحق بالصف الرابع الابتدائي- كانت برفقة والدتها، وقد وصلت أثناء طابور الصباح.. أمام الملأ الذي أصابها بالرهبة، حيث كان مدخل الساحة المغلقة يواجه صفوف المعلمات والطالبات بوجوههن المبحلقة في كل قادم (على خلاف المعتاد في المدارس حيث تكون ظهور الطلبة هي المواجهة لمدخل الساحة)، وكأن هذا المشهد (المواجهة الأولى) وضعها وجها لوجه أمام طالبات المدرسة كافة، طالبة جديدة.. تلتحق بالصف الرابع في نصف العام الدراسي، بل وبعد بداية الفصل الثاني من العام الدراسي بأسبوع!! وبما أنها كانت برفقة أمها، فقد بدا هذا مستهجنا بشكل واضح في العيون المحدقة بها من كل جانب..
كانت هذه هي المواجهة الأولى، حيث ذهبت بناء على ارشاد المعلمة لتقف في الطابور الخاص بالصف الرابع، وحيدة في نهاية الصف (أو هذا ما خيّل لها)!!
كانت هذه البداية فقط!! لتكتشف بعدها أنها مجرد شخص "دخيل" على مكان غريب مخيف يعرف الجميع فيه بعضهم بعضا إلا هي، والأسوأ من هذا أنها شعرت بأن أشكال الطالبات مخيف أيضا... كانت أحجامهن تبدو ضخمة بالنسبة لها وكأنهن طالبات ثانوية.. أو هذا ما شعرت به!!
وكأي مخلوق فضائي غريب يزور الكرة الأرضية، تم التعرف إليها واستكشافها بشكل مريب، أثار الرعب في نفسها... بعض المعلمات فقط، نجحن في طمأنتها بأنها في مدرسة عادية لا أكثر.. (فحتى مبنى المدرسة لم يكن يشبه أي مدرسة طبيعية... كل الاشياء مريبة هنا!!)
في هذا المكان وفي تلك الاجواء كان عليها ان تقضي سنتين ونصف من عمرها، قد تكون هي الأصعب في تاريخ حياتها بأكمله!!
في البداية حاولت أن تشغل وقت فراغها بكتب تحضرها معها من المنزل، لا سيما وإن وصلت باكرة في الصباح، وكان هذا ملفتا للأنظار بشدة... طالبة تقرأ في كتاب غير الكتاب المدرسي؟؟؟ هل تستعرض علينǿ؟ ما هذا الذي تفعله.. مغرورة ومتكبرة..
وذات مرة أعطتها أمها تفاحة لفترة الاستراحة، ويبدو أن أكل التفاح والفواكة كان أمرا مثيرا للسخرية وغير معتادا في تلك المدرسة، مما زاد من رصيدها السلبي... فكانت آخر مرة تغامر فيها بإحضار تفاحة، وجاهدت لتقنع أمها بضرورة تفهم مشاعرها، فأكل التفاح في المدرسة يبدو عارا كبيرا!!
وهي مع ذلك إن نجحت في شيء، فقد نجحت في اكتساب عداوة الطالبات!!
ويكفي أنها حصلت على المركز الأول في أول إعلان للنتائج.. ثم حصلت على تقدير المعلمات ومدحهن، ثم انهالت عليها الجوائز والهدايا.. لتساهم في إيغار الصدور عليها أكثر، لا سيما وأن منافستها منهن كانت تحظى بشعبية كبيرة بين جمهور الطالبات، ولم يكن الموضوع مقتصر على المنافاسة وحسب بل تعداه إلى شيء آخر..
فقد كانت بعض الطالبات يأخذن دفاترها عنوة لنقل الواجب، وتعدى الأمر إلى أخذ ورقة الاختبار أيضا!! شيء لم يخطر ببالها أبدا!! فعندما جلست المعلمة وأدارت ظهرها قليلا أثناء الامتحان، فاجأتها طالبة من جانبها بأنها تريد منها اجابة أحد الاسئلة، وبما أن زهرة معتادة على عدم الغش لأنه حرام حسبما تعلمت في البيت، مدّت الطالبة يدها لتأخذ الورقة عنوة، وتقرأ الاجابة رغما عنها!!!
كانت أشبة بلعبة شد الحبل، الطالبة تشد الورقة وزهرة تمنعها من ذلك، ولأنها نجحت في منع الاجابة الكاملة عن الطالبة، زادت في رصيدها السيء أكثر عند الطالبات... لئيمة وأنانية!!
وذات مرة.. قررت مجموعة من الطالبات إعداد مقلب لإحدى المعلمات، فوقفن خلف باب الصف ليمنعنها من الدخول وإعطاء الحصة، وأخذت المعلمة تدق الباب وتصرخ دون فائدة، في حين تعالت أصوات الطالبات بالضحك، وما أن ذهبت ابتعدت المعلمة قليلا لتستدعي (القوة الاضافية والنجدة!) حتى عادت الطالبات إلى أماكنهن بسرعة، وفُتح الباب... كانت المعلمة في قمة غضبها، وأخذت تسأل: من الفاعل؟؟ وطبعا لاذ الجميع بالصمت.. وبدأت المعلمة تهدد وتتوعد، وبدأت زهرة تشعر بالصراع الداخلي.... هل تخبر المعلمة التي تحبها وتثق بهǿ؟ أم هل ينقصها المزيد من عداوة الطالبات؟؟ وبين هذين الخيارين مر الوقت وزاد الصمت، فتناولت المعلمة عصا طويلة (وكان الضرب مسموحا على ما يبدو) وقال بأنها ستضرب جميع الأيادي... هنا زهرة شعرت بالمسؤولية فوقفت واعترفت... ولا داعي لذكر ما حدث بعد ذلك!
المزيد من العداوة والبغضاء!! وكل هذا مجرد غيض من فيض مما حدث مع زهرة!!
حتى كانت الشعرة التي قصمت ظهر البعير في الصف السادس الابتدائي، حيث تم تكريمها أمام الأمهات والطالبات بصفتها الطالبة المثالية في المدرسة، فبعد استلامها للجائزة ورجوعها لصفها في نهاية الدوام لتأخذ حقيبتهǺ فوجئت بالطالبات يرمقنها بنظرات نارية، ويسمعنها أقسى الألفظ ويلقين عليها تهم لم تخطر ببالها قط... وقتها فقدت أي شعور بالمقاومة، فخرجت من الصف باكية وجرت باتجاه غرفة المعلمات، ولأول مرة انهارت أمام أول معلمة صادفتها باكية بحرقة: "لا أريد أية جائزة.. إذا لم أكن أستحق ذلك فلماذا أكون الأولى؟ لماذا أنا المثالية؟؟؟ لا أريد شيئا .. "
كان انهياراً مروعاً وصادماً للمعلمات، حتى أن المعلمة أخذت تهديء من روعها أولاً لتفهم ما تقول، فلا يعقل أن يكون هذا هو منظر الطالبة التي حصلت على الجائزة قبل قليل!
لم تعرف زهرة ما الذي فعلته المعلمة مع الصف بعد ذلك، ولكنها رأت الطالبات يرمقنها بنظرات غاضبة أثناء خروجهن!!
حصل كل هذا في نهاية الفصل الأول من الصف السادس الابتدائي..
وحتى الآن... هذه مجرد مقدمة لما هو آت ، أي للموضوع الأصلي ، حيث (بيت القصيد)!
جاء الفصل الثاني بعد إجازة قصيرة، وتفاجأت الطالبات بالتحاق طالبة جديدة من مدينة أخرى بالصف.. وشعرت زهرة بأن هذه الطالبة الجديدة هي هدية السماء إليها، خاصة وأنها بدت تشبهها!! فبادرت بالتعرف إليها (لا سيما وأنها سبقتها في هذا المكان منذ سنتين!) ولم يتطلب الأمر منهما وقتا طويلا حتى أصبحتا صديقتين حميمتين .. (أو هكذا بدا الأمر!).. "زهرة" و"ازدهار".. حتى الأسماء متقاربة!!
وبدأت الصداقة الوليدة تحلق بهما في عالم الأحلام الخيالية، كان ذلك في حصة التعبير من اللغة العربية، وقد كان موضوع الدرس... الكتابة عن (العلم)..
كانت المعلمة مشغولة بالتصحيح على ما يبدو- أو أنها كانت حصة فراغ!- المهم جلست زهرة وازدهار في المقاعد الخلفية تتبادلان الأفكار عن هذا الموضوع الجامد، ليتحول تدريجيا إلى موضوع مسلي جداً.. وكانت البداية عندما رددت زهرة، بيت الشعر المعروف:
"العلم سلاح المستقبل*** أهلا بالدرس إذا أقبل"
فقالت ازدهار (أو ربما حدث العكس "زهرة<> ازدهار") :
- ما رأيك أن نطوف العالم كله ونحن نحمل هذه اللافتة ونرددها... "العلم سلاح المستقبل..." حتى نصل إلى آخر مستنقع.. ونغرق فيه؟؟
فردت الأخرى:
- في هذه الحالة نحن بحاجة إلى مركبة..
- ما رأيك أن تكون طائرة خاصة مثلǿ
- يجب أن تكون قابلة للطي، حتى يسهل حملها معنها واخفائها عند الوصول إلى البلاد المختلفة.. قبل أن نصل إلى النهاية...
وبحوارات من هذا القبيل، بنت الصديقتان أحلامهما الخاصة بخصوص هذه الطارة، والتي احتوت على غرف وملاهي ومراكز ترفيه وغرف ملابس وماكينات لطباعة النقود بمختلف العملات، والات ترجمة لجميع اللغات.. ومطعم فاخر ينتج جميع الوجبات الشهية والحلويات آلياً..
وهكذا.. على ورقة التعبير رسمتا هيكل الطائرة ومحتوياتها، وحلقتا بخيالهما في أروع رحلة تحلم بها زهرة، حتى دق الجرس ليعلن نهاية الأحلام الوردية!!
المهم أن صداقتها مع ازدهار حملت طابعا فريدا وعهدا جديدا ينقلها من الأجواء التي عانت منها لمدة سنتين... يكفي أنها لم تعد تشعر بالغربة أخيرا.. لم تعد وحيدة!!
وجاء درس الأعمال الفنية والرسم، وكان الموضوع هو انشاء مجسم لمدينة باستخدام الأدوات المتوفرة في المنزل من العلب البلاستيكية والكرتون وما إلى ذلك، على أن يكون العمل ضمن مجموعات، يتم التخطيط لها في هذه الحصة، وفي الحصة القادمة تبدأ المجموعات بمباشرة عملها..
وبدأت الطالبات بالانتظام في مجموعات.. خمسة خمسة أو ثلاثة ثلاثة.. لم يكن هناك عدد محدد... وبالطبع انشأت زهرة وازدهار مجموعتهما الخاصة المكونة منهما هما الاثنتين فقط، ليسمحا لخيالهما بالتحليق كما يشاء؛ في انشاء أروع مدينة حلمت بها البشرية!!!
قامتا بالتخطيط للمشروع وتقاسمتا المهام للحصة التالية، وكان على زهرة إحضار القاعدة الأساسية للمشروع، في حين تحضر ازدهار المستلزمات الاضافية.. وكانتا تتحدثان بحماسة عن الادوات التي ستحضرانها من منزلهما... أعواد ثقاب... نكاشات خشبية.. أعواد قطنية... صحون بلاستيكية على شكل قباب من أجل المساجد.. ألعاب متنوعة لتأثيث المنازل.. كراتين المحارم الورقية الاسطوانية من أجل الأبراج.. كراتين ملونة لقصها وانشاء الجدران وتأسيس البيوت ... أوراق ملونة لرصف الشوارع والأرصفة...الخ ...
حماسة ما بعدها حماسة... وخيال ما بعده خيال.... وتصورات كبيرة، وتوقعات عظيمة، حول الإعجاب الكبير، والمدائح التي ليس لها مثيل والذي سينهمر عليهما تقديراً لإبداعهما الخطير في انشاء هذه المدينة التي لم يسبق لها مثيل!!!
وحان وقت الحصة المرتقبة.. ووضعت زهرة قاعدة المدينة- لوحة كبيرة من الفلين (حسب الاتفاق)- على الطاولة التي ستعمل عليها مع ازدهار.. وكانت قد أحضرت معها بعض الأشياء الاضافية بحماسة لا مثيل لها، استعداداً للعمل.. ويبدو أن ازدهار نسيت الكثير من الأشياء.. او أن الاشياء معها لم تكن كافية لتنفيذ المخطط المطلوب حسب الاتفاق.. بل يبدو أنه تم نسيان "الصمغ" العنصر الأساسي في الترتكيب!! في حين أن المجموعات الأخرى كانت تعمل بحماسة، خاصة تلك المجموعة التي تضم منافسة "زهرة" الأساسية، كان عددهم كبيرا، وقد بدا أن مشروعهم سينال العلامة الكبرى...
وبكلمات صادمة غير متوقعة؛ قالت ازدهار بأنها لن تستطيع الاستمرار مع زهرة هكذا، خاصة وأن اليوم هو يوم تسليم المشروع ودرجاتها في خطر، ولم تقل زهرة شيئا على ما يبدو!!
وهكذا.. حملت ازدهار أِشياءها البسيطة التي أحضرتها معها، وذهبت لتلتحق بتلك المجموعة، وتشاركهم بها على أن يسمحوا لها بالانضمام معهم، لتأخذ العلامة الكاملة!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!
كانت "زهرة" هي الطالبة الوحيدة في ذلك اليوم التي لم تستطع تسليم المشروع... ربما انضمت إلى مجموعات أخرى... أو ربما انضمت إليها طالبات أخريات... لم تعد ذاكرة "زهرة" بعد قرابة ربع قرن من هذه الحادثة؛ تتذكر ما حدث بالتفصيل...
ولا تذكر تماما كيف كانت علاقتها مع ازدهار بعد تلك الحادثة، ربما استمرتا كصديقتين عاديتين... ربما حدثت أشياء أخرى... المهم أن درجات "زهرة" في نهاية العام- على ما يبدو- نزلت لتنتقل للمركز الثاني بدل الأول...
ومن ثم كان هذا آخر عهدها بمدرسة تلك المدينة... وبـ"ازدهار"....
**************
إلى هنا ينتهي سرد القصة، وتأتي العبرة..
ترى... ما هو حكمكم على زهرة وازدهار؟؟
ما هو موقفكم منهمǿ
ما هي المشاعر التي ترسبت في نفوسكم بعدهǿ
هل هذه التجربة في حياة زهرة المبكرة، ايجابية أم سلبية؟؟
خذوا بعين الاعتبار أنكم ستحكمون على طالبات في المرحلة الابتدائية.. ولكنها مدرسة الحياة التي تُكسب الخبرة في أي وقت.
سأترك لكم التعليق.. فيكفيني إطالة.. ^^
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم