Please or التسجيل to create posts and topics.

أسطورة الجزر الخفية!

 

بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

أسطورة الجزر الخفية!

 

   في عالم أسطوري مليئ بالصراعات، ظهرت مجموعة جزر عجيبة في إحدى المحيطات، ورغم أنها كانت غنية بالثمار والمعادن والخيرات، مما يهدد سلامها وينذر باشتعال المعارك حولها لنهب الثروات؛ إلا أنّ أحدا لم يجرؤ على الاقتراب منها لكثرة ما حيك حولها من خرافات، حتى تمكن حكيم قبيلة جوّالة من التعامل مع ذلك الأمر بحكمة وثبات، لتستوطن قبيلته في تلك الجزر بحرية دون منغصات..مرت السنوات تلو السنوات، واعتاد سكان الجزر تلك الحياة، فتكاثروا فيها بسلام وأمن ورخاء، دون أن يخشوا من سطوة الأعداء..
أما الحكيم فقد استقر مع أسرته الصغيرة في أصغر جزيرة، والتي كانت تتوسط مجموعة الجزر حتى عرفت باسم الجزيرة المتوسطة أو الصغرى، ثم عرفت لاحقا باسم "جزيرة الحكيم"، فقد استصلح أراضيها حتى أصبحت ملكه، دون أن ينازعه فيها أحد أو ينزعج منه، فالجميع مدينون له، ولم يكونوا لينسوا فضله..
وذات يوم.. شعر الحكيم باقتراب أجله، وانقضاء عمره، فدعا ابناءه الأربعة، ليؤكد عليهم بوصيته:
- هذه الجزر كانت خفية عن عيون من يعاديها، يحيط بها حاجزا يبث الرعب في نفس كل من سيؤذيها، وقد تآلفت الان مع نفوس ساكنيها، واكتسبت طباعهم بكل ما فيها، فلم يعد حاجزها حرا نقيا بل اصبح تابعا لمن يحميها..
وصمت الحكيم قليلا، قبل أن يقول بصعوبة:
- هذه الجزيرة هي القلب الحقيقي لهذه الجزر، وبسلامة القلب يصلح حالها، ويأمن جميع من عليها، ولا يقربها خطر..
وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة؛ القى على ابنائه الاربعة نظرة مودعة:
- لقد حرصت طوال تلك السنوات على سلامة هذا القلب، وهي الآن أمانة بين أيديكم لتمضوا على الدرب، فإياكم ثم إياكم ثم إياكم أن تفرطوا في ذلك مهما اشتد الخطب، وإلا لن يظل لكم فيها خير ولا مستقر، ولن ينفعكم فضة ولا ذهب!

***

خيّم الحزن على الجميع بموت الحكيم الجليل، وتعاهد الابناء على حفظ وصيته، يمررونها من جيل إلى جيل..
حتى جاء ذلك اليوم الوخيم، الذي استيقظ فيه سكان الجزر على خبر هجوم خارجي مباغت على جزيرة الحكيم، فتصاعدت منها السنة اللهب، لتحرق كل ما هب ودب، وتناقل الناس أن الاعداء وحوشا بلا قلب، حتى دب فيهم الرعب، فلم يجرؤ أحد منهم على معرفة ما حل بتلك الجزيرة الصغيرة، أو حتى القاء نظرة عليها من قرب!
أما في داخل الجزيرة، فقد اجتمع الاخوة الاربعة ليناقشوا ما حدث، بعد أن أخذ العدو استراحة لبناء قواعده وفرض سيادته، قبل ان يجتث النسل ويفسد الحرث..
قال يان:
- إنهم وحوش ولا طاقة لنا بهم، لذلك لا أفضل من النزول عند رغبتهم، فعلى الأقل ننجو بحياة من تبقى من اطفالنا ونسائنا قبل ابادتهم، وإذا راوا منا الولاء والطاعة فقد يسمحون لنا بحياة كريمة تحت قيادتهم..
فرد عليه يورت:
- أجننت! كيف تريدنا أن نستسلم بسهولة لرغبتهم! أتظن أن هؤلاء يوجد أمان لهم بعد فعلتهم؟ وأي حياة كريمة هذه التي ستكون تحت اقدامهم، والأهم من ذلك كله.. ماذا عن وصية والدنا؟ أتريد ان نعجّل بهلاكنا؟
فوافقه ياما:
- أنا معك يا أخي.. فهل لديك خطة؟
أما رو فقد قال وهو يبكي بحرقة:
- لقد قتلوا نصف اطفالي، ونهبوا جميع أموالي، ولكنني ضعيف لا اقوى على المواجهة، ولدي اطفال لا زالوا بحاجة لرعاية، لذلك سأتجه بهم إلى المكان الذي حددوه لنا، ريثما تنتقموا منهم وتستعيدوا حقنا..

***

طال حصار الجزيرة الصغيرة من الافعى العملاقة المرعبة التي التفت بجسدها حولها، وشعر سكان الجزر المحيطة بالحزن والعجز مع الفضول لمعرفة ما حل بأهلها، فبنوا ابراج مراقبة عالية، لعلهم يتمكنوا من متابعة ما يجري على أرضها، ولكن مع استمرار الحصار لفترة طويلة دون أي خبر جديد، شعر الغالبية بالملل وعادوا لحياتهم كنوع من التجديد، حتى استيقظوا ذات صباح على أصوات انفجارات مدوية، وتصاعد السنة لهب مرعبة مصدرها تلك الجزيرة الصغيرة، جزيرة الحكيم التي كادت بقية الجزر أن تنسى أمرها!!
تحلق الناس حول ابراج المراقبة لانتظار ما سيخبرهم به المراقبون بلهفة شديدة، حتى كاد الفضول أن يقتل بعضهم، فيما استولى القلق على البعض الآخر، غير أن هناك فئة قليلة كانت منشغلة ببذل جهدها لايجاد وسيلة للذهاب إلى الجزيرة المنكوبة ومساعدة أهلها!

***

كان رو يرتجف خوفا مع اسرته، فلم يعرف كيف يرد على ذلك المسخ الذي اقتحم خيمته بوجهه المرعب وهو يسأله:
- هل انتم من حاول الاعتداء علينا يا ناكري الجميل بعد أن وفرنا لكم مكانا آمنا مع طعام وشراب يكفيكم لتبقوا أحياء؟
تلعثم رو وهو يجيبه بخوف:
- لا لا.. لسنا نحن.. نحن مسالمون ولا نحب المشاكل.. ولا يمكن أن نفكر بالاعتداء عليكم.. نريد أن نعيش فقط.. فلا تقتلونا رجاء..
فما كان من المسخ إلا أن رد عليه بغضب مضاعف:
- من الذي فعلها إذن؟
- صدقني يا سيدي لست انا ولا دخل لي..
- لا تحاول المراوغة ايها الحقير التافه، أنا اسألك عن الذي فعلها بنا، والويل لك إن حاولت اخفاء اي معلومة عنا!
لم يعرف رو بماذا يجيبه، فرغم أن عروقه تجمدت من شدة الخوف حتى كاد أن يموت، غير أن هناك شيء في أعماقه كان يأبى عليه أن يفشي سر أخيه يورت، وبينما هو في ذلك العذاب؛ فوجئ بظهور أخيه يان الذي أجاب:
- يمكنني أن اجيبك نيابة عن أخي الضعيف هذا، فقط اتركه وشأنه وأنا يمكنني مساعدتك لنعيش جميعا بسلام..

***

في جزيرة مجاورة وبعد طول انتظار؛ نزل أحد المراقبين مسرعا ليعلن الأخبار:
- يبدو أن بعض ابناء الحكيم استطاع إحداث شرخ في جسد العدو وسبب له الآلام، مما جعله يتوعد الجميع بالانتقام، لولا أن أحد الابناء تدخل وعرض على العدو المساعدة لأجل السلام، مقابل أن يسمح لهم بالعيش كعبيد عنده وتكون له السيادة على الدوام!
ما أن سمع الناس هذا الخبر حتى انقسموا لفريقين:
فريق اثنى بشدة على ذلك الابن الذي قرر التعاون مع العدو لأجل ضمان الحياة والسلام..
وفريق استنكر بشدة ذلك التصرف الجبان، واعتبرها خيانة للاخ البطل الذي رفض الخنوع والاستسلام!
وبين هذين الفريقين كان هناك اناس ما زالوا يحاولون فهم ما يجري بشكل أفضل، إذ بدا لهم الأمر معقدا ولا يمكن استيعابه بسهولة، بل يحتاج المزيد من البحث والاستفهام!

***

لم يكد الليل يحل على جزيرة الحكيم، حتى اشتعلت النيران فجأة في الخيمة التي تضم أسرة يورت؛ فهب ياما بسرعة لنجدتهم، وأخذ يحاول باستماتة انقاذ من تبقى منهم بعد أن احترق معظمهم، وهو ينادى على من يساعده في انقاذهم، فلبى رو نداءه أخيرا في محاولة يائسة لإخماد حريقهم!
شعر ياما بالقهر يكتوي في صدره، وهو يشيع من قضى نحبه، فلم يملك نفسه وهو يبكي بحرقة:
- سامحني يا اخي، فرغم كل ما تفعله لأجلنا، خلال غيابك عنا، إلا أنني بالكاد استطيع ايصال بضع لقيمات لك، وها نحن لم نستطع حتى انقاذ اطفالك!!
شعر رو بحزن كبير لما سمعه، فاقترب من ياما ليحاول التخفيف عنه:
- لا تلم نفسك يا أخي فلم يكن باليد حيلة من الاساس، وكل ما نستطيع فعله الان هو الحفاظ على من تبقى من الانفاس، لذلك ارجو ان تقنعه بالتوقف عما يقوم به، فلا فائدة من ذلك كله، ودعنا نقف مع يان في مسيرته نحو السلام..
لم يكد ياما يسمع ما تلفظ به رو حتى كاد أن ينفجرمن شدة الغضب:
- ماذا اصابك يا أخي!! هل نسيت ما اتفقنا عليه بحفظ وصية والدنا؟ ألم تقل أنك ستنتظر استعادة حقنا؟ ثم ما قصة يان مع مسيرة السلام السخيفة؟ اي سلام تتحدث عنه وكأنك جيفة؟ أبعد أن نجح يورت في اول خطواته نحو تحقيق الهدف، تريدنا أن نعود للخلف؟!!!
فطأطأ رو رأسه بانكسار:
- ربما لا تراني سوى ضعيف جبان، ولكن الا ترى أنك تبالغ في الاحلام وتبيع الاوهام؟ لنكن واقعيين يا أخي، فهذا العدو المسخ أخطر مما نتخيل، ونحن لم نرى سوى جزء بسيط من وحشيته، فماذا بوسع يورت أن يفعل؟!! لقد اثار غضبه علينا حتى كاد يُردينا، ولولا تدخل يان لربما خرج العدو عن السيطرة وابادنا عن بكرة ابينا، وها أنت ترى بنفسك ماذا فعل بأطفال يورت...
لم يكد ياما يسمع ذلك حتى جذب رو من ياقته، وهزه بقوة قائلا:
- لا تقل لي أنكم من وشى لعدونا عن يورت؟!!
فهز رو راسه نفيا بشدة:
- اقسم انني لم انطق بحرف، فقد أكون جبانا ضعيفا ولكنني لست نذلا حتى لو قتلني الخوف، ولا ادري ماذا قال يان بعد ذهابه مع ذلك المسخ..
بصعوبة استطاع ياما ضبط اعصابه، فأفلت رو دون أي كلمة، بعد أن أدرك حقيقة الوضع الذي وصلوا له في هذه الملحمة! لقد خانهم يان واختار طريقه بعيدا عن وصية والدهم، وها هو يحاول السيطرة على رو أيضا ليكون إلى جانبهم، فحتى لو كان حتى الان لا يزال يمتلك بعض الكرامة، لكن ضعفه وجبنه وتعلقه بالحياة مهما كانت وبأي ثمن يجعله غير أهل للثقة فلا يمكن ائتمانه، ولا تجدي معه الملامة، مما يعني أنه هو الوحيد الذي بقي إلى جانب يورت، ومن واجبه فعل كل ما بوسعه لأجله ولاجل حماية من تبقى من ابنائه، فهذا اقل ما يمكن تقديمه لمن ضحى بكل شيء لأجلهم، والذي لا زال يبذل جهده ويمضي قدما متحملا كل الصعوبات لاستعادة حقهم، لعله ينجو بهم من التهلكة المحتمة لو تجاهلوا وصية والدهم!

***

كان معظم الناس يتناقلون الاخبار التي يأتي بها المراقبون حول جزيرة الحكيم بترقب واهتمام، وقد ازداد الجدل بينهم حول ما يجري هناك مع مرور الايام، حتى دبت بينهم الخلافات والنزاعات، خاصة مع انتشار الشائعات والمبالغات ومختلف التحليلات، عوضا عن وجود من بتعمد بث الأكاذيب والمنغصات، التي مهدت لتمجيد المسوخ واعتبارهم اصدقاء، في حين تمت شيطنة يورت ليصبح ألد الأعداء، لاسيما بعد أن عيّن "العدو" يان رئيسا رسميا على اخوته في الجزيرة، ليكون المسؤول عنهم ويجب على الكل أن يطيعه، وبهذا يوفر لهم ما يقتاتون به فلا يموتون جوعا، ما دام قد وافق أن يكون خادما ينفذ ما يمليه عليه العدو ويريده!

 

***

في عمق غار وسط جبل يتوسط جزيرة الحكيم، وقف ياما مخاطبا اخيه يورت- الذي تناول منه بضع لقيمات ليقمن صلبه- وهو يحاول طمأنته وشد أزره:
- اطمئن يا أخي.. انطلق انت في مسعاك لقطع رأس الافعى ولا تلتفت خلفك، وأنا سابذل جهدي لحماية ظهرك، وسأبذل جهدي في نشر الحقائق ولن أتركك وحدك، وسأرى طريقة للتواصل مع من هم خارج جزيرتنا قبل أن ينجح العدو في مد أذرعه اليهم، بعد أن أرسلَ يان نيابة عنه كوسيط بينهم!
بذل يورت جهده كي يحبس دمعه، ويكبت قهره، وهو يقول لأخيه قبل أن يودعه:
- حاول أن تقنع يان حتى يعود إلى رشده، ذكره بوصية والدنا فقد يحنّ قلبه، فتفرقنا أمام العدو يضعفنا ويقويه، واتحادنا ضده سيجتث شوكته وينهيه..
فرد عليه ياما:
- الخبيث لا يمكن أن يتفق مع الطيب، وكذلك الطيب يجب عليه أن لا يتفق مع الخبيث، ومن ومن استمرأ التعاون مع العدو وخان، ليس له أمان، هي حقيقة مؤلمة لك ايها الطيب النجيب، ولكن عليك القبول بها يا أخي الحبيب، فليس كل اتحاد قوة، ولا كل تفرق ضعف، فالمعدن الاصيل تضعفه الشوائب الخسيسة، وتفقده مزاياه النفيسة، ولن يستعيد قيمته وقوته إلا إذا نقّيته منها، وفصلته عنها، فقلة صابرة صامدة نقية، خير من كثرة خانعة مهتزة دنيّة.. ولك في كلام والدنا عن قوة الحاجز وتأثره بمن يحميه عبرة!
فأومأ يورت رأسه بتفهم:
- أعتمد عليك إذن، وأعدك أنني سأتجاوز العقبات، ولن استسلم مهما كانت التضحيات، حتى اقطع ذلك الرأس الخبيث، وسيكون هذا كفيلا باختصار أي حديث..

***

لم يكد ياما يغادر المكان، حتى فوجئ يورت بشعاع فاقع الالوان، فأغمض عينيه لبرهة، ريثما اعتاد الرؤية، ليتفاجأ بطائر عملاق، فتح له الافاق:
- لقد حان الوقت لتعرف سر هذه الجزر الخفية، وواجبك أن تعيدها كما كانت نقية، فأنت من يملك قلبها الآن، فحافظ عليه قبل فوات الاوان، فإذا استفحل به الداء، سينتشر في بقية الجزر الوباء، وعندها لن يبقى لكم فيها قرار ولا استقرار، وستتزلزل بكم حتى تبتلعكم أعماق البحار، فهكذا هلك من سبقكم، حتى تم استبدالهم بكم، وبالمثل ستعاد الكرة، وسينشأ حاجز جديد يمنع من يستوطنها مرة تلو المرة، حتى يظهر من يفهم سرها كوالدكم، فتخضع له كما خضعت لكم..
القرار بيدك.. إما أن تثبت حتى تنتصر او تقدم دماءك لتزدهر فتروي البذور من بعدك، أو تستسلم فتهلك ويهلك الكل معك..
فابتسم يورت بثقة:
- وهل الاستسلام بعد هذا الكلام خيار؟ لستُ ممن سيأخذ هذا القرار، وسأمضي قدما حتى الموت أو الانتصار..
فرفرف الطائر بجناحيه بافتخار:
- دماء الثابتين هي من تروي بذور الناشئين فلا تبيد أبدا، فالابادة الحقيقية هي عندما ينجحون باقتلاع جذور ثباتكم فتستسلمون، وعندها فقط ستبادون وتندثرون، فلا تنخدعوا بأوهامهم، فهي تتغذى على مشاعر الناس وافكارهم، فانطلق أيها المغوار، لتنقية المشاعر والافكار، وتوجيهها نحو خير مسار، وعندها يندحر الاشرار، ولن تضركم الأخطار، فأنتم من سيمتلك القرار، ولا تظن أن هذا مجرد شعار، بل هي حقيقة راسخة كتعاقب الليل والنهار..

***

خاتمة:
يتداول الناس أن العنقاء مجرد اسطورة، لكن قوة الثبات النابعة من الاعماق، مهما كانت العقبات أو المغريات؛ لهي أعظم من تلك الأسطورة، ولطالما رأينا أساطير ابهرونا بثباتهم وشموخهم، وايجابية مشاعرهم، رغم قسوة ظروفهم، وكأنهم أطلقوا العنقاء بداخلهم وانطلقوا، مطلقين معهم طاقة مهولة، تبث هذه الروح فيمن حولهم، لعل هناك من يلحق بهم، وهو يسمع صدى صوتهم:
أطلق العنقاء بداخلك وانطلق..

***

ملاحظة:
الرسمة من ابداع الرسامة شو- فريق عمل نبراس المانجاكا

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وليد امعوش has reacted to this post.
وليد امعوش