Please or التسجيل to create posts and topics.

عندما يصبح النجاح نقمة - مسابقة آيات للمانجاكا

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذه مشاركتي في مسابقة آيات للمانجاكا
وأتمنى أن يكون فيها الفائدة والمتعة

-----

عندما يصبح النجاح نقمة

 

في قلب مدينة تعج بالحياة وصخب المال، يتربع يوسف على عرش شركته الضخمة، شامخًا كبرج عاجي بناه بذكائه الحاد ونظرته الثاقبة للمستقبل. كان النجاح حليفه الدائم، وكل صفقة يبرمها تتحول إلى ذهب، مما رسخ في داخله شعورًا بالتميز المطلق. لم يكن يرى في نفسه رجلًا مغرورًا، بل كان يسمي ذلك "ثقة بالنفس" راسخة كالجبال.

يحيط بيوسف فريق من المساعدين والمستشارين الأكفاء، لكن نصائحهم كانت غالبًا ما تصطدم بجدار عناده وكبريائه. كان يرى أن رأيه هو الصواب المطلق، وأن الآخرين أقل منه فهمًا ودراية. كان غروره بمثابة حجاب يمنعه من رؤية الحقائق الواضحة التي يشير إليها المقربون.

إلى جانب هذا العالم المادي الصاخب، كانت شركة يوسف ترعى بعض الأعمال الخيرية، من بينها جمعية لرعاية الأطفال الأيتام. كان حضوره لفعاليات الجمعية أمرًا دوريًا، جزءًا من "بريستيج" اجتماعي يحرص عليه ليحافظ على صورته كرجل مسؤول وفاعل في مجتمعه.

في إحدى هذه الفعاليات، وبينما كانت الأعين متجهة نحو المنصة، لفت انتباه يوسف طفلة صغيرة تندفع بخطوات متسارعة، لكن ساقيها الصغيرتين لم تسعفها، فتعثرت وسقطت على الأرض. تقدم يوسف بخطوات واثقة، وساعد الطفلة على النهوض، ونفض الغبار عن ثوبها الجميل. رفعت الطفلة عينيها البريئتين إليه وهمست بكلمة "شكرًا" خجولة.

سألها يوسف بصوته العميق: لماذا هذه العجلة يا صغيرتي؟

أجابته بلهجة طفولية مسرعة: أريد أن ألحق بفعالية الأستاذ محمد عن وصايا سيدنا لقمان.

ابتسم يوسف ابتسامة خفيفة وقال: سأوصلك أنا. وبين زحام الأطفال المتدافعين، أمسك بيدها الصغيرة وقادها نحو القاعة.

دخلا القاعة بهدوء، بينما كان صوت الأستاذ محمد الدافئ يملأ المكان. كان وجهه بشوشًا، وعيناه تفيضان طيبة، مما جعل الأطفال ينصتون إليه بلهفة وتمعن. لم يغب عن عين الأستاذ محمد دخول يوسف، فدعاه بترحيب ليشاركهم جلستهم التي تدور حول وصايا سيدنا لقمان لابنه، تلك النصائح القيمة التي تحمل في طياتها كنوزًا من الحكمة.

ارتفع صوت الأستاذ محمد، نديًا كترتيل عذب، ليصدح بآيات بينات هزت سكون القاعة الصغيرة. تجلى في صوته وقار الكلمات وعمق المعنى، وهو يتلو الآية الكريمة: {وَلَا تُصَعِّرۡ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمۡشِ فِي ٱلۡأَرْضِ مَرَحًاۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخۡتَالٖ فَخُورٖ}.

توقفت همسات الأطفال، وعلقت الأعين بملامح الأستاذ الوقورة. كانت كلماته بمثابة نغم هادئ يخترق ضجيج الحياة الخارجية، ليلامس شغاف القلوب الصغيرة، وربما، قلبًا آخر كان حاضرًا بجسده غائبًا بروحه.

ثم انطلق الأستاذ محمد يشرح تلك الوصية الربانية بأسلوب سلس وعذب. لم يكن مجرد سرد لمعانٍ لغوية، بل كان غوصًا في أعماق النفس البشرية. تحدث عن تلك النظرة المتعالية التي يرمق بها البعض الآخرين، كأنهم أقل شأنًا، وكيف أنها تبني جدرانًا من الجفاء والنفور بين الناس. وصف ذلك المشي المتباهي، الذي يحمل في طياته استعراضًا زائفًا للقوة أو المكانة، وكيف أنه يثير في النفوس شعورًا بالدونية والحنق.

لم يكتفِ الأستاذ بذلك، بل أوضح بلغة مبسطة كيف أن التواضع هو مفتاح القلوب، وكيف أن اللين والود يجعلان الإنسان أقرب إلى محيطه، محبوبًا ومحترمًا بحق. وبين ثنايا حديثه، لمح إلى الآثار السلبية للكبر والتعالي، وكيف أنها تحجب عن المرء رؤية الحقائق وتجعله أسيرًا لوهم عظمته، وتزرع في طريقه بذور الوحدة والنبذ من الآخرين. كانت كلماته بمثابة مرآة خفية، تعكس صورًا قد لا يرغب البعض في رؤيتها، لكنها ضرورية لإدراك الذات وتقويم المسار.

استمع يوسف لكلمات الأستاذ محمد، وسرح بفكره بعيدًا. شعور غريب بدأ يتسلل إلى قلبه، كأن شيئًا ما قد اهتز بداخله، لكن هذا الشعور لم يكن كافيًا ليحدث تغييرًا جذريًا في حياة يوسف، الذي اعتاد على نمط حياة يتمحور حول ذاته وإنجازاته.

توالت الأيام، واستمر يوسف في حضور فعاليات الجمعية بشكل منتظم، وقدم تبرعات سخية لمساعدة الأطفال وتحسين ظروفهم، لكن هذه المبادرات الخيرية لم تخلُ من رغبة دفينة في التباهي بمكانته وثروته في محيطه الاجتماعي.

بعد عدة أسابيع، وجد يوسف نفسه على أعتاب صفقة تجارية ضخمة، صفقة كان على استعداد للمخاطرة بحصة كبيرة من أصول شركته من أجلها. كانت ثقته بموهبته وقدرته على اتخاذ القرارات الصائبة عمياء، لدرجة أنه تجاهل نصائح وتحذيرات مستشاريه ومساعديه الذين أبدوا قلقهم بشأن بعض جوانب الصفقة.

دفعه غروره إلى إهمال إحدى النقاط الدقيقة في عقد الصفقة، وهي النقطة التي حاول مساعدوه لفت انتباهه إليها مرارًا وتكرارًا، لكنه كان يصم آذانه عن نصائحهم. وصل الأمر بمساعديه إلى تقديم استقالاتهم، فقد سئموا من تجاهل خبراتهم وعدم تقدير آرائهم.

لم تمضِ فترة طويلة حتى تجلت عواقب غرور يوسف. تبين أن الثغرة التي تجاهلها في العقد كانت قاتلة، وأدت إلى خسارة فادحة كادت أن تدفع الشركة إلى حافة الإفلاس.

خسرت الشركة جزءًا كبيرًا من حصتها السوقية، وأصبحت تعاني من ضائقة مالية خانقة لم تمكنها من دفع أجور موظفيها. شعر يوسف بوحدة قاتلة وضياع عميق، فقد تخلى عنه أولئك الذين كانوا يقدمون له النصح والمشورة بسبب أسلوبه المتعالي. حاول يائسًا البحث عن طريقة لإنقاذ شركته، لكنه لم يجد من يقدم له نصيحة صادقة أو يسنده في محنته.

في يوم من الأيام، قرر يوسف الذهاب إلى الجمعية للمرة الأخيرة. لم يكن حضوره هذه المرة بدافع الواجب الاجتماعي أو الرغبة في التباهي، بل كان مدفوعًا بشعور ثقيل بالندم والعجز. توجه يوسف نحو مكتب مدير الجمعية، الأستاذ محمد، ليخبره بأسف أن شركته لم تعد قادرة على الاستمرار في تقديم الدعم والرعاية للأيتام.

سأله المدير بصدق: ما السبب يا سيد يوسف؟

روى له يوسف ما حدث، وكيف قاده غروره إلى هذه النهاية المؤلمة. ثم قال بصوت خافت: لقد سمعت هنا مرارًا نصائح قيمة في دروسك عن وصايا سيدنا لقمان لابنه، لكني لم أدرك قيمتها الحقيقية. لم أفكر يومًا أنها موجهة إلي، وأن الله كان يحاول تحذيري بهذه الرسائل.

وأضاف بنبرة يائسة: والآن، بعد أن انهارت حياتي من حولي، أيقنت أنني كنت المعني بتلك الكلمات: 'ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحًا'.

حاول الأستاذ محمد مواساة يوسف، ووضع يده بحنان على كتفه وقال بصوت هادئ: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور}.

تنهد يوسف بتعب عميق وقال: علمت الآن أن التواضع كان ليحل مشاكلي بالفعل. أما الآن، فلا حل سوى الصبر والاستعانة بالله، بعد أن فهمت هذا الدرس بطريقة قاسية. في تلك اللحظة، أدرك يوسف أخيرًا أن الثروة والسلطة ليستا كل شيء، وأن التواضع والحكمة ولين التعامل مع الناس هي الكنز الحقيقي الذي طالما تجاهله بغروره.

 


 

بوركت جهودكم ومسرورة لمشاركتي في هذه المسابقة معكم

وليد امعوش has reacted to this post.
وليد امعوش