Please or التسجيل to create posts and topics.

الغريب (رواية قصيرة)

الجزء الثالث والأخير

 

- أيُّها الشاب.. أيُّها الشاب.

استيقظتُ متألمًا ونظرتُ حولي، كان اثنان من رجال القرية عندي، اعتدلتُ وأنا أقول:

- ماذا حدث؟

قال لي أحدهما:

- فقدت وعيك حين تحطَّم الجدار وانهدَّ عليك، الحمد لله أنك بخير.

انتبهتُ إلى أني كنتُ أعيش كابوسًا بسبب بمخاوفي، ثم أحسستُ بألم في رأسي وتحسستُ موضعه لأشعر بالشج، أهذه بداية الكابوس على وشك التحقُّق؟ ارتجفت فسألتُ محدِّثي:

- أين بقية الرجال؟

- لقد مروا عبر باب الغرفة التي كنا بها وأمرناهم بالرحيل، سنغادر جميعًا مع الصغيرين.

انتبهتُ لأمرهما فنظرت إلى ركن الغرفة البعيد، لم يكن هناك أي باب، وكان أحد الصبيين جالسًا والطين وجروحٌ طفيفة ظاهرة عليه والدموع مدرارٌ على خديه وهو ينظر لأخيه، الذي كان غائبًا عن الوعي ممددًا على الأرض والرجل الثالث يضمد جُرح رأسه بعمامته، ازداد خوفي وأنا أتذكَّر كابوسي، نهضتُ مُسرعًا رغم ما بي وأنا أقول في ارتباك:

- علينا الخروج من هنا سريعًا، هيا.. قبل أن...

استدركتُ بأني سأذكر أمر القطة، تبًّا.. ليس هذا وقت الهَذيان، صمتُّ ثم قلت:

- قبل أن ينهار المكان.

أيَّدني الجميع، وأسرع الرجل يحمل الصبي المصاب بينما حملتُ الآخر، وبدأنا نغادر عبر الباب، لكن ما كاد يخرج الرجل وبرفقته الصبي حتى انهدَّ السقف القريب من الباب وحُوصرت أنا والصبي ورجلان آخرين، هرعنا نحو النافذة وأبعدنا الخشب عنها ثم فتحناها، خرج أحد الرجلين ليحمل الولد عني وخلفي ثالثنا، لكن ما كاد يخرج أيضًا حتى تهاوى السقف علينا مجدَّدًا قبل أن يأخذ الصبي مني، صرخ الرجل في ذُعر، وأسرع الرجال الموجودون بالخارج نحوه، فشحبت وجوههم، آخر منفذ لتلك الغرفة كانت هذه النافذة، قال أحدهم:

- لنحضر معاولنا.

- إن ضربنا هذه الحجارة بمعاولنا قد نسبِّب اهتزازًا بما تبقى من البيت وينهد فوق رؤوسهم.

- ما الحل؟

- نبعدها بأيدينا، هيا جميعًا.

تعاون الرجال كلهم في إزالة أكوام الخشب والحجارة والطين والخوف يملأ حجرات قلوبهم فيُضَخ إلى عقولهم ليتغلغل فيها، هل سيتمكنون من إنقاذ من علِقوا أم أنهم سيُستخرَجون من تحت تلك الأنقاض في نهاية المطاف، ثلاث جُـثث.

***

قطعتُ تذكُّري لما حدث وأنا أحاول النهوض والابتعاد عن الصبي، لكن الآلام تملأ جسدي، عمود خشب سقط على ظهري، لقد حميتُ الصبي على نحو تلقائي حين كادت أخشاب السقف تتهاوى علينا، سألته في وهن:

- هل أنت بخير؟

اكتفى بهز رأسه إيجابًا، أردت النهوض فإذ بي لا أقوى على ذلك، رفعتُ جسدي محتملًا ألمي وابتعد الصبي عني، رويدًا رويدًا استطعت إزالة ذلك الحِمل عني، لكني تهاويتُ إلى الأرض وعجزتُ عن الوقوف، نظر الصبي إليَّ وسألني في قلق والخوف يكسر معظم كلماته:

- سيدي، أرجوك انهض، هل سنموت هنا؟

أشفقتُ عليه من صنوف الرعب التي شاهدها، قلت له مطمئنًا بنبرة يتخلَّلها الألم:

- لا تقلق يا صغيري، سننجو بإذن الله.

زحفت نحو الجدار أقف لمساعدته، ثم نظرت نحو الجزء الذي انهدَّ سقفه فوقعت عيناي على يد الرجل الذي كان معي ظاهرةً من قُرب الحُطام وبركة دماء تتدفَّق حولها، ازداد خوفي حين أدركت بأنه قد قضى نحبه، عندها ازداد الصبي بكاءً جعلني أرتجف للحظات وأنا أدرك نهايتي، لكني حين تأملته وجدت أنَّ من واجبي أن أجد وسيلةً لإنقاذه، أي وسيلة.

لكن كيف ذلك وأنا بالكاد أقف؟ كيف سأبعد هذه الحجارة من أمامي؟ نظرت في كل جدران الغرفة وزواياها، لمحتُ شقوقًا بالجدار تشع ضوءًا لتُضيء في أعماقي أملًا في النجاة، أسرعتُ نحوها وأنا أتحسَّسها، ثم حملتُ عمود خشب وجسدي كله يرتجف من شدة الألم واندفعتُ نحو الجدار لتتسع الشقوق ويشعشع الضوء منها، انتبه الرجال لها حين سمعوا صوت اصطدام العمود بالجدار ونادوا عليَّ وأجبتهم، ودون إبطاء حملتُ الصغير واحتضنته وأنا أخشى انهيار السقف؛ بسبب قوة الاصطدام، وأنا أقول له:

- تشبَّث بي جيدًا.

فعل الصغير ما أمرت به واندفعت نحو الجدار ليتحطَّم بعد ضعفه وأنا أُبصِر النور بعد تلك الظلمة وأبصرها الصبي معي، ثم وقعتُ أرضًا وأنا لا أزال أحتضنه، كان جسدي كله في حالة ضعف، أقبل الرجال نحونا وحمل أحدهم الصبي، ورأيته وسط إعيائي وهو يسلِّمه لأمه التي فرحت برؤيته وضمَّته إليها ولسانها لا يفتر عن شكر الله، وهو بدوره كان قلبه يطير في سعادة، مسحت شيئًا من المعاناة التي مرَّ بها، شعرتُ بسعادة مماثلة حين تأمَّلتُهما، شيء بداخلي دفعني لأبذل كل ما في وسعي لإنقاذه ومنحني القوة، لكني لم أعرف كُنهه، أهو الشعور بالواجب أم أمر آخر؟ ثم تذكَّرتُ كلمات أبي:

(اصنع المعروف أينما حلَلْتَ وإن كنت عابر سبيل)

أهذه هي ثمرة مسعاي يا أبي؟

رغم أني لم أكن أريد مساعدة أحد ورغم كل آلامي وكل ما مررتُ به من هواجس خوفي وكوابيس الواقع وألمه، ابتسمت ثم غرقتُ في غيبوبة.

تمت