Please or التسجيل to create posts and topics.

أمة وسطا! (المسطرة التقديرية!)

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

 

أمّة وسطا!

 

تنويه: تم نشر فكرة هذا الموضوع أول مرة يوم 27 مارس 2021 لاستهداف المانجاكا العرب بشكل خاص، تحت عنوان:

المسطرة التقديرية، بالطريقة الذاتية! (بين الافراط والتفريط!!) 

 

واليوم وبعد أكثر من ثلاث سنوات على نشر فكرة ذلك الموضوع أول مرة، ومع كل التطرفات الرهيبة التي نراها حولنا في هذا العالم؛ شعرت بضرورة إعادة نشره مرة أخرى.. بنظرة أكثر شمولية ليشمل الناس كافة بإذن الله، لنكون كما جعلنا الله سبحانه وتعالى:
"أمة وسطا"

 الفكرة ببساطة واضحة من العنوان، ومع أي جولة تفقدية متمعنة بين ثنايا شخصيات "الناس" المتنوعة، وبين الشعوب والثقافات المختلفة؛ يتبيّن بوضوح أن هناك تفاوت ملحوظ في طريقة تقدير الذات، بطريقة عجيبة غريبة، تكاد تثير الدهشة أحيانا!!

فبينما تجد أناسا يظنون أن العالم يجب أن يكون شاكرا وممتنا لوجودهم على كوكب الأرض مع بقية البشر؛ تجد أناسا آخرين يعتذرون عن ولادتهم، وعن كل شيء فعلوه وما لم يفعلوه، وما يمكن أن يفعلوه بعد مليون سنة، في حالة أنهم فكروا بأن يفعلوه!!! وبينما تجد من يلوّح بسهامه السامة، ليصيب بها من يصيب، ويجرح بها من يجرح، دون أن تطرف له جفن، ولا تهتز له شعرة؛ تجد من يشعرون بتأنيب الضمير لأنهم يستهلكون الاكسجين، دون أن يستطيعوا تعويض ذلك، لافتقارهم لخلايا الكلوروفيل الخضراء، الضرورية للبناء الضوئي!!

أناس يشعرون أن على دور النشر أن تكون ممتنة لهم؛ لأنهم سيتنازلون بعرض خربشة قلمهم العظيم عليها! وأناس- رغم رسوماتهم المذهلة، وأفكارهم المبدعة- لا يزالون يخجلون من عرض أعمالهم على أحد؛ لأنهم لم يصلوا للمستوى المطلوب بعد!!!!!!

اناس تحلف لهم بأن عملهم مذهل رهيب ورائع، وهم يشعرون بأنك تجاملهم لأنهم لا شيء بنظر أنفسهم! وأناس يقسمون بأغلظ الأيمان أنك لن تجد أفضل منهم أبدا، والويل لك إن تجرأت بإعلان غير ذلك!!

 

   وعلى صعيد المجتمعات والعلاقات.. ستجد العجب العجاب، مما يشيب له ريش الغراب!! فبينما نجد من يبالغون بالتفرقة بين الجنسين وكأنهم كائنات مختلفة؛ نجد من يصرون على تجاهل اي فروقات وإن كانت واضحة كالشمس! وبينما نجد ذكورا يعتقدون أنهم يستحقون كل تقدير واحترام بل وكل شيء لكونه وُلد ذكرا، وهو يظن نفسه رجلا وعلى إناث الأرض الامتنان لوجوده بينهن أو قبوله بهن؛ ستجد إناثا يشعرن أن على رجال الأرض تقبيل الأرض تحت أقدامهن لكونها "أنثى" وحسب!
وبينما نجد إناثا يبالغن بإهانة أنفسهن وهن يشعرن بالدونية والاحتقار لأنفسهن وبنات جنسهن أمام تقديسهن المفرط للرجال حد العبادة (والعياذ بالله)؛ نجد ذكورا يمسحون بكرامتهم الأرض وهم يخضعون لنساء استجداءً لنظرة اعجاب من طرف أعينهن او اماءة من شفاههن، كعبيد متذللين يقدمون قرابين الولاء والطاعة لإرضائهن!!!

وبينما يعتبر البعض نفسه جائزة يتمنن بها على الآخرين؛ هناك من يرى نفسه عبئا يمتنّ لأي كائن إذا قبل به!

هناك من يطالب بحقوقه وزيادة وهو يعتبرها استحقاقا مفروغا له بلا شكر ولا منة، وإذا قدم واجباته اعتبر ذلك تنازلا من طرفه لغيره، يستحق بسببها أن يشاد باسمه، ولا يتوقف الجميع عن شكره؛ وهناك من يتنازل عن حقوقه كلها وهو يقدم الاعتذارات لأنه لم يستطع تقديم المزيد دون أن يشعر باستحقاقه لأي شيء، لأنه لا يرى نفسه أكثر من نكرة!

وبينما يحمّل البعض نفسه مسؤولية كل خطأ يحدث في هذا العالم لكونه أذنب ذنبا أو أهمل واجبا ليهلك نفسه وهو يجلدها بسياط اللوم والتأنيب والتجريم وكأن الله لن يغفر له أبدا مهما فعل، وأنه بلا شك سيكون من أهل الجحيم؛ ستجد آخرين يرتكبون الكبائر والموبقات والآثام والخطايا والسيئات ويستحل المحارم والمظالم ويعتدي على من يشاء متى ما شاء، وهو يردد أن الله غفور رحيم معتقدا أن بضع استغفارات يرددها بطرف لسانه، أو يحرك بها أصابعه، كافية لكي يستحق الفردوس الأعلى من جنات النعيم!

البعض يبالغ بكونه مظلوما وضحية، وآخر يرى نفسه اساس كل بلية! هذا يرى أنه دوما مخطئ فلا يجرؤ على ابداء رأي او حتى استخدام عقل لأي نوع من التفكير، مكتفيا بكونه تابعا وإمّعة لا يقدم ولا يؤخر، وذاك يرى أنه دوما على حق يظن نفسه المقياس المطلق للمنطق والصواب، فلا يراجع موقفا ولا يعترف بخطأ ولا يفكر أن يعتذر، بل ربما يفضل دخول النار على أن يقدم اعتذار، أو يراجع قرار!

هناك من يتماهى مع عاطفته حتى يتحول لكتلة من العواطف لا يحكمها عقل ولا حكمة ولا تفكير، وهناك من يتجرد من كل عاطفة حتى يصبح آلة صماء جوفاء لا تحس ولا تشعر وكأن الشعور نوع من التبذير!

وبينما نجد من يتملق الرؤساء والمسؤولين والمدراء ويتذلل لهم بكل وضاعة؛ نجد من لا يعترف بكبير ولا مسؤول أو مدير، فلا يحترم من هو أكبر منه عمرا، ولا يرى لأي أحد قدرا!

وكما نجد من لا يشفق على ضعيف أو مسكين، ولا يهتم إلا بمسايسة الاثرياء واصحاب النفوذ واللهث خلف الأموال؛ نجد من يحتقر الثراء والاغنياء، ويراهم اساس الشر والبلاء، ويبالغ في تقدير الفقر والفقراء وكأنهم اساس الفضيلة والطيبة والصفاء، وأي تصرف يصدر منهم فهم معذورين لأنهم دوما برأيه مظلومين مضطهدين، وكل الاغنياء لهم ظالمين!

وكما أن هناك من يبالغ في عنصريته لأصله وفصله وبلده وعشيرته وكأنهم محور الكون واساسه؛ نجد من يتنصل من بلده ووطنه وأهله ويبالغ في تعظيم الآخرين على حساب قومه! 

هناك وهناك الكثير.. ولكن باختصار.. ما بين جنون العظمة وجنون اللاشيء، وما بين الافراط والتفريط في كل شيء؛ نجد بالفعل أن خير الأمور الوسط، والحق اينما كان أولى أن يتبّع! والاستحقاق الوحيد الذي يمكن أن يتطلع له اي انسان رشيد، هو الحياة الطيبة المرهونة بعمله كما وعده ربه:
(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

خطاب القرآن للناس كافة، فكلهم في الأصل سواسية، ولا فضل لأحدهم على أحد بميزان الله إلا بالتقوى، وبهذا فقط يكرم الله الانسان على أخيه الانسان!

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)

أما الافراط في استرضاء الآخرين، أو التفريط وتوقع الاستحقاق من العالمين، فهذا لن يجني إلا على نفسه، وسيقضي عمره يلاحق سرابا، يلهث خلفه ولا يصله، فلا هو استراح ولا روى ظمأه! والاجدر به الامتثال لقضاء ربه:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)

ولو تفكرنا في هذه الآية مليا.. وتدبرناها بميزان الاعتدال؛ لرأينا أن كل انسان لو ترك نفسه لهواها وافلت زمامها، لوجدها تتطرف في أمر ما مبتعدة عن الوسطية والاتزان، ولن يضبطها سوى مجاهدتها وحملها على اتباع امر الله وقضائه، والمجاهدة في احسانه لوالديه (اللذان غالبا سيعاكسان هواه ورغباته)، وكأنهما مفطوران على تعديل بوصلته حتى لا ينحرف ميزانه فيميل وينحرف أو يتطرف!
 
من هنا قد نفهم أكثر الحكمة من مصاحبة الوالدان الكافران حتى لو جاهدا ابنهما على الكفر!

(وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ۚ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)  

الابن الذي يدخل الاسلام بعد كفر سيكون بلا شك متعطش للايمان بشدة، مما قد يحمله على التوغل فيه بقوة قد تدفعه- دون أن يشعر- للتطرف ونسيان حظه من الدنيا، فهنا يكون جهاد والداه الكافران له سببا يدفعه للاعتدال وهو يوازن بين عدم طاعتهما في الكفر وفي الوقت نفسه مصاحبتهما بالمعروف والذي بلا شك سيجبره على الاهتمام بأمور دنياه إلى جانب آخرته، ليحقق التوازن بإذن الله، وما هذا إلا مثال بسيط لأمور كثيرة، لو تفكرنا بها بعمق لوجدنا أنه لا يوجد شيء يساعد الانسان على التوازن والاعتدال أكثر من طاعة الله ومصاحبة الوالدين بالاحسان!

 

وفي الختام ونحن نتدبر هذه الآية التي تخاطب "الانسان":

(هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)

 

يجدر بنا أن نسال أنفسنا.. أين هو موقعنا في هذا الميزان؟!

  وكيف نقيّم أنفسنا؟

(إنه اختبار ذاتي للجميع ^^)

( بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ

جعلنا الله جميعا من أهل الوسطية والاعتدال في جميع امورنا، على صراط مستقيم، ووفقنا لما يحب ويرضى، لنكون بحق رحمة للعالمين، اقتداء برسولنا الهادي الأمين، فكلنا على ثغرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله..

( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )

وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم