Please or التسجيل to create posts and topics.

الغريب (رواية قصيرة)

الجزء الثاني

 

حين وصلتُ مع سكان النُّزل، كان المنزل المنهدم نصفه على تواضعه يحتل مساحةً كبيرةً ولم يتبقَّ منه سوى غرفتين ذات نوافذ واسعة، استطاع خمسة رجال دخول البيت عبرها، ثم رأيت ثلاثة منهم يخرجون وهم يحملون امرأة ببطانية وقد اختلط الماء والتراب بكامل جسدها وثيابها، فقد سقط عمود من السقف على ساقها وأعجزتها الإصابة عن السير وهي تصيح في خوف وألم:

- أرجوكم، أنقذوا ولديَّ لم أستطِع الوصول إليهما، رجاءً انقذوهما.

طمأنها الرجال، لكن المطر لا يزال ينهمر وبقية المنزل قد ينهد في أي لحظة، ما الحل؟ لا بُدَّ أن يسرعوا في مهمتهم، لم يكن من السهل دخول الغرفة الأخرى التي بها الطفلان عبر النافذة، فقد حاصرتها بعض عيدان السقف المتهاوية، ثم أطل أحد الرجال المنقذين برأسه من النافذة، وهو يقول في لهفة:

- أعمدة خشب كبيرة حاصرت باب غرفة الصبيين لم نستطِع تحريكها، رجاءً ساعدونا.. أنت.. تعالَ.

أشار إليَّ، انتفضت، دون أن أنتبه وجدت نفسي من شدة فضولي قد صرتُ في مقدمة الصفوف، التفتُّ يُمنةً ويُسرةً لربما يقصد الرجل شخصًا آخر بجواري، ودون تفكير جذبني رجلٌ بجانبي فتبعه ودخلنا عبر النافذة، لم أستطِع الرفض أو التراجع سأُتَّهم بالجُبن أمام هؤلاء الرجال، فقبِلتُ مُرغمًا.

لما دخلتْ تأملتُ الغرفة، بدَت لي على قِدَم جدرانها وسقفها والظلمة التي تسكنها الآن أشبه ببيوت الجن التي تشبَّع عقلي بحكاياتها، كنت أراها من بعيد لكن لم يسبق لي أن زرتُ أحدها، لم يكن عليَّ أن أُبدي أي مخاوف أمام هؤلاء الرجال فكمنتها بين خلجات نفسي وأنا أندب حظي للمرة الثانية لمروري بهذه البلدة.

ثم قادتنا الغرفة السليمة إلى باب غرفة أخرى، سقطت عدة أخشاب بالممر المقابل لها، تعاونَّا نحن السبعة على إبعادها حتى نجحنا، لكن ما كدتُ أضع العمود من يدي حتى أحسستُ بتراب رطب يبلِّل أنفي، نظرت نحو الأعلى، ارتعبتُ حين أبصرت لشقوق السقف فصرخت على الفور:

- احــــــذروا!

كان الأمر سريعًا، أسرع ثلاثة منَّا نحو باب الغرفة التي قدِمنا منها، بينما أنا والثلاثة الآخرون انطلقنا إلى باب الغرفة التي بها الصبيان، لكن أثناء هرولتي تعثَّرت واصطدم كتفي بالجدار فتحطَّم وانهار مبتلعًا إيَّاي إلى الداخل، ولم أشعر إلَّا ببعض الحجارة والطين تنهار عليَّ حتى وقعتُ أرضًا وفقدت الوعي على إثرها.

لم أدرِ كم من الزمن مضى حين استيقظتُ من غيبوبتي وأكوام الطين والحجارة تغطي نصف جسدي، أبعدتها وأنا أشعر بألم وثقل شديد في رأسي، ثم أحسستُ بشيء يسيل على جبهتي ويبلِّل عيني وخدي، ما إن لمسته وتحسَّست لُزوجته حتى أدركت بأني أُصِبت بشجٍّ في رأسي، مسحتُ الدماء ثم نظرت حولي، لم يكن هناك أي شخص قريب مني، أين اختفى الرجال؟ هل ماتوا، أم استطاعوا النجاة وتركوني هنا؟

لحظة! تحطَّم السقف وهويَ بي الجدار إلى داخل هذه الغرفة، هذا يعني بأني في الغرفة التي يُفترَض أن يكون بها الصبيان، نهضتُ على الفور من مكاني ورأسي يدور بشدة وتأمَّلتها، كان قد انهار ربعها من حيثُ دخلت لكني لم أرَهما.

- أرجوكِ، لا، لا تفعلي.

تناهى إلى أذني صوت أحدهما وبكاؤه الذي اشتد، ثم انتبهت لوجود بابٍ آخر رغم الظلمة الطاغية على المكان، ثم صرخة ألم ورعب قاتلة، أسرعتُ متوجهًا نحو مصدر الصوت حين أقبل أحد الصبيين داخلًا إلى الغرفة يعدو في خوف، فلما رآني أسرع إليَّ وجسده كله يرتجف، احتضنته وأنا أقول له محاولًا تبديد خوفه:

- لا تخَف يا صغيري، أنت بأمان.

ازداد جسد الصغير ارتجافًا وهو يقول:

- إنها.. إنها...

- ماذا؟!

ابتلع الخوف كل كلماته وأشار بيده في ارتجاف شديد نحو الباب، نظرت، التمعت عنده عيون قطة أشد سوادًا من الظلمة التي تطبق على الغرفة وأكبر حجمًا من القطط التي آلفها وهي تدخل بهدوء ثم تحدق فيَّ مرة وفي الصغير مرة ونظراتها تزداد بريقًا، استغربتُ في مكانٍ الخطر محدِّقٌ به، هل حُبست هي الأخرى؟ ثم انتبهت لشيء جعل أوصالي ترتجف؟

على الطريق الذي سلكته لتدخل الغرفة كانت بقع سوداء تاركةً بصمة قدمها، توقفت لتلعق قدمها الأمامية، انتابني الرعب.. هل هجمت على شقيق هذا الصبي ومزَّقته؟ لا أسمع أي صوت له، يا إلهي! أسرعتُ لأتحرك من مكاني، لكن الصغير تشبَّث بي بقوة، بينما تحفَّزت القطة وهي تحدجني بنظرات قاسية تنطق شرًّا، قائلة:

- لا داعي لذهابك، لقد أنهيتُ أمره وحان دوركما.

ازداد خوفي مع صوتها، قطة تتكلم! بدَت الرجفة واضحةً عليَّ، وهي تقول في حدة:

- هؤلاء البشر احتلوا منزلي وشرَّدوني، لذا سأقتلكم جميعًا.

 حاولت تمالك نفسي حين قررت تجاهلها، واستعذتُ بالله من الشيطانة الماثلة أمامي، لا بُدَّ أني أتخيَّل كل هذا بعد تلك الضربة التي تلقَّيتها على رأسي، حملت الصغير -الذي لم يتوقف عن البكاء من شدة خوفه- وركضتُ مسرعًا باتجاه الغرفة، لكنها على الفور قفزت وكادت تعضُّ ذراعي لولا أني قفزت للخلف مبتعدًا عنها، وأنا أقول في نفسي:

- هل صدَقت تخميناتي وهذا البيت مسكون؟ ما هذا الموقف الصعب الذي وقعت فيه يا عبد القادر؟

نطق الصغير وقد انفجر بركان خوفه:

- ستقتلنا.. ستقتلنا.

ازداد توتري وأنا لا أستطيع طمأنته في هذا الوضع، تناولت عمود خشب صغير كان قريبًا مني وهجمتُ على القطة، لكنه تحوَّل في يدي إلى ثعبان كاد يعضُّني، صرخت وأنا أرمي به أرضًا ليبتعد، عندها استغلت القطة السوداء انشغالي وهجمت عليَّ لتغرس أنيابها في ذراعي، أطلقتُ صرخة ألم ومعها زاد تعلُّق الصبي بي وصراخه المذعور، وهززت ذراعي بعنف لتتركها وقد انتزعت لحمًا منها فصار جرحًا بالغًا، ابتسمتْ في ظُفر، لكني لم آبه لألمي وأسرعت نحو الباب هاربًا، ثم أغلقته خلفي لأجد نفسي وجهًا لوجه مع رعب آخر.

الصبي الآخر صار أشلاءً ممزَّقة، هل فعلت به هكذا؟ تلك ليست قطةً بل وحشًا كاسرًا، والآن أنا في ورطة وسط هذا البيت المسكون المحاصر بالحُطام، لم يقطع حبل أفكاري إلَّا ضربات قوية على الباب، إنَّها تلك الشيطانة السوداء، ماذا أفعل؟ نظرتُ حولي، الحُطام يملأ المكان، ما من منفذ أبدًا والضربات على الباب تزداد عُنفًا، صرخ الصغير مجدَّدًا:

- سنموت، ستقتلنا.

- اهدأ، سننجو، لا تقلق.

أنزلته ثم خلعتُ سُترتي ومزَّقت جزءًا منها لأضمد جرحي، وحين استطاعت تلك الشيطانة تحطيم الباب صرخ الصغير في ذُعر وهو يتعلق برقبتي من جديد، حملت الحجارة تلو الأخرى لأرميها بها، أصابت أحدها رأسها جعلتها تفقد وعيها لبُرهة، عندها أسرعت أعدو لأغادر الغرفة، لكن في لحظة خروجي قفزت القطة لتُصيبني بأنيابها عند جذر رقبتي، ترنَّحتُ قليلًا لكني استمررتُ في عدوي وأنا أصرخ في ألم:

- يا ربي، أنقذنا.

مع إصابتي البالغة الثانية شعرت بالظلام يطبق بشدة وأنا أهوي إلى الأرض واحتضن الصغير، هل هنا ستكون نهايتي؟

يتبع...