Please or التسجيل to create posts and topics.

الغريب (رواية قصيرة)

الجزء الأول

تقاذفت قطرات المطر الغزيرة نحو أجساد البشر وجُدران بيوتهم كالحجارة القاسية وكأنها تحاول اختراقها وتحطيم البيوت، ومَن لم تفلح منها في إصابة هدفها تنغرس في الأرض عميقًا تاركةً أثرها، ثم تتجمَّع مع أخواتها لتشكِّل أنهارًا شديدة التدفُّق في الأزقة، الريح تصرُّ بعُنف مشجعةً المطر في قوته، السماء تكتظ بالسُّحب، الرعد يزمجر هزيمه، والبرق الخاطف يظهر في السماء مرات كثيرة، منظر غضب السماء وخنوع الأرض أجبر معظم سكان البلدة ذات الأحياء المتواضعة على التزام بيوتهم وترك أعمالهم في ذلك النهار.

ورغم ذلك، كانت هنالك ضجة تهز المكان حولي وتحاول اختراق أذنيَّ والنفاذ إلى عقلي الذي تبعثر وعيه فلم يدرك إلَّا اليسير، أصوات رجال تعالت، وقع أقدام هنا وهناك، ونواح امرأة متهدج، امتزج كل ذلك مع صوت صبي يُوقظني بنبرة يُخالطها الخوف ويقطعها البكاء، فتحت عينيَّ بصعوبة لتتضح الرؤية أمامي، وتترتب الصورة المبعثرة بعقلي.

وجدت نفسي منبطحًا وأنا أحتضن صبيًّا في السادسة من العمر، ثم نظرتُ حولي، أنا وسط حطام بيتٍ من البيوت ذات الجدران الطينية وعيدان سقفها من جذوع النخل، بيتٌ قديم انهدَّ بفعل الأمطار الشديدة ولم يتبقَّ منه سوى هذه الغرفة التي انهدَّ نصفها وحُبستُ فيها أنا والصبي.

- هل يعرف أحدكم ذلك الشاب؟

- لا، لا أعرفه.

- إنه عابر سبيل بالبلدة قبل وقوع هذه الكارثة.

تناهت إلى أذني أصوات الرجال خارج البيت، والمرأة لا تزال تبكي في خوفٍ على ابنها الذي هو بين يدي، هنا بدأت في تذكُّر ما حدث.

***

لستُ سوى عابر سبيل بهذه البلدة، حيثُ كنتُ عائدًا إلى مدينتي التي تبعد عنها ثلاثمائة كيلومتر تقريبًا، بعد أن انتهت الدراسة وأقبلت الإجازة الصيفية، لكن سيارتي تعطَّلت فاضطررتُ للتوقُّف وإصلاحها، ثم حاصرني المطر هنا لمدة يومين والسيول تقطع الطرقات، إنَّه حظي العاثر الذي حرمني من التمتع بإجازتي والفرح بعودتي إلى الديار بعد غياب سنة دراسية، اضطررت للمكوث في نُزلٍ متواضع، حاولت الاتصال بأهلي لكن الخطوط قُطعت، في ذلك الوقت حين كنتُ بغرفتي أندب حظي، اخترقت أذني صيحة امرأة، أسرعت نحو النافذة ونظرت ناحية مصدر الصوت، فإذا هو صادرٌ من بيت عتيق انهدَّ نصفه أمامي، ارتعبتُ للمشهد، ثم رأيتُ كل الرجال يخرجون من البيوت القريبة ويهرعون ناحية البيت رغم شدة المطر وإنقاذ أفراده وتلبية نداء الاستغاثة، قررت إغلاق النافذة وتجاهل الأمر، وأنا أقول:

- أنا لستُ من هذه البلدة، بل عابر سبيل وسأغادرها.

رنَّ في عقلي تلك اللحظة قول أبي وهو يقول لي في هدوئه المعتاد:

- بُني، اصنع المعروف أينما حللت وإن كنت عابر سبيل، الإنسان نفسه هو عابر سبيل في هذه الدنيا، ولكن معروفه ليس كذلك، إنَّه بذرة خير يزرعها ليحصد ثمارها يومًا.

- أي معروف يجب أن أقدِّمه مع أناس لا أعرفهم ولا يعرفونني؟ آسف أبي، إني لا أوافقك الرأي، معروفي سيكون عابر سبيل مثلي، ليكتفوا بأنفسهم.

أقنعتُ نفسي بهذا وكدتُ أغلق النافذة لولا أني لمحت القاطنين بالنُّزل يغادرونه ليتفقدوا أصحاب ذلك البيت، ارتبكت، سأبدو أمام هؤلاء كجبان وإن كنتُ غريبًا عنهم فاضطررتُ للحاق بهم، وفي قرارة نفسي سأتظاهر بأني سأساعدهم، ولكني سأقف في آخر الجموع للفُرجة فقط.

يتبع...