رأي واحد لا يكفي
اقتبس من suad sawad في 2024-04-06, 5:16 متبلد تفكيرها طويلًا لحظة سماعها لقرارهما..
"هذه الدرجة العالية لن تهدريها في اختصاص اللغة العربية، بل في الطب ولا شيء غيره، إنه أسمى التخصصات، وله أفق واسع، لكن تخصص اللغة العربية سيقودكِ إلى التدريس وحسب."
استمعت إليهما رغم حسمها لأمر مستقبلها، أُهدرت أمام عينيها كل ثانية تفكير، وانهدم تخطيطها في لحظات، وتحطم حلم طفولتها التي كانت تسعى جاهدةً لتحقيقه، بأي ثمن، ومهما كانت الطرق، كظمت كل مشاعر غضبها، هي من يجب أن تختار بنفسها طريق علمها، قالت محاولة لملمة هدوئها:
-لكني لا أحب العمل بالمستشفيات، أو السهر في المناوبات، أريد أن أتخصص في اللغة العربية لأصير معلمة وروائية وناقدة، أريد أن أطور مهاراتي الأدبية، ولن أتمكن من ذلك إلا إذا التحقتُ بهذا التخصص، تعلمان أني أحب كتابة الروايات.
عاتبها والدها قائلًا بحدة: وما فائدة الروايات؟ إنها مضيعة للوقت، ثم إننا في مجتمعٍ لا يحب القراءة، ولا يهتم بالكتب، ولن تحصلي على أي عملٍ إلا في مكتب التربية والتعليم فقط، ووظائف التربية لم تعد جيدة كما في الماضي.
عقّبت والدتها مهدئة: والدكِ على حق، لا بد أن تفكيري أثناء اختياركِ لتخصصكِ في وضع البلد مستقبلًا، أعلم عشقكِ للتدريس، لكن تذكري قوله تعالى "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".. بنيتي، تستطيعين أن تقرأي وتكتبي متى ما سنحت لكِ الفرصة وتمارسي شغفك، لكن طريق الطب هو الأفضل حاليًا.
عقد الأب حاجبيه والتفت لزوجته قائلًا: مهلًا مهلًا، كتابة الروايات مضيعة للوقت، عليها أن تهتم بالطب ودراسته ولا تشغل نفسها بتعلم غيره، أريدها أن تصبح طبيبة متميزة، أريد أن افتخر بها، وأن يقال أن هذه ابنتي.. الطبيبة المتميزة.
-بالطبع ستكون كذلك، فهي تحب علوم الأحياء والكيمياء، لا تقلق، لكنها ستسلي نفسها بالكتابة.
-تتسلى لا بأس، فلا مكانة للأدباء ولا للشعراء في هذا البلد، كلهم تحت خط الفقر.
جالت ببصرها بينهما في صمت، وفي خلجاتها ألم كبير ودت لو تفجره بصرخة تقول فيها:
لماذا تنظران لشغفي بدونية؟ ألا تعلمان أن هناك روايات استطاعت تغيير شعوبًا بأسرها؟ ألا تعلمان أن الروايات هي بوابة القراءة، مرآة للعالم وشعوبه؟ كيف لكما أن تعرفا ذلك؟
لكنها أعادت الصرخة لقلبها، فأوجعتها، لم تستطع البوح بها، فما ذكره والدها في آخر كلماته حقائق تسمعها من كل من سبقها في ميدان الأدب، لكن الشغف يبقى شغفًا، ربما يكبر ويتغير الحاضر لمستقبلٍ واعدٍ أجمل للأدب والأدباء، كم كانت تشعر بالسعادة في كل مرة تخطر ببالها فكرة رواية جديدة فتهرع لكتابة أحداثها، كم شعرت أن الشخصيات أصدقاؤها حقًا، عالمها كان فريدًا ومميزًا وجميلًا، لكن لن يدرك جماله إلا من يحمل نفس شغفها لا من يطفؤه.
لم تكن تريد أن تدخل في نقاشٍ تعلم فيه أن رغبتها ستُضحد، وأمنيتهما في رؤيتها بالمعطف الأبيض وقراءة كلمة "دكتورة" افتخارًا وسرورًا لن تدفعهما لتفهم مشاعرها، أومأت برأسها إيجابًا وابتسمت ابتسامة صغيرة، وهي تقول: سأفعل ما تريدان إن شاء الله، وأسأل الله أن يكتب لي ما فيه الخير.
اتسعت ابتسامة الأب وأثنى عليها وهو يقول: بارك الله فيكِ، وسدد خطاكِ.
احتضنتها أمها وهي تدعو لها بكل خير، ثم نهضت وتركتهما وفي قلبها همٌ كبير، كيف لها أن توفق بين حلمها وحلمهما؟ لم تكن راضية قرارهما، لكنها سلمت أمرها لله.ثم أقبلت أيام شاقة لم تكن ترغب في انتظارها، دراسة الطب بمحاضراته ومراجعه، وساعات الدوام الطويلة كانت تقتص جلّ يومها وقوتها، بالكاد تكمل واجباتها، تسترق أوقاتًا يسيرة للمذاكرة، تبكي أحيانًا على ذلك الحلم القابع في قلبها..
محالٌ أن تجد لأجله وقتًا للكتابة أو القراءة..
مُحال أن ترى كتابًا منشورًا لشيء من مسوداتها..
مُحال أن تتقدم خطوة واحدة جادة نحو حلمها ما دامت مقيدة بالطب وكتبه الضخمة ومصطلحاته العويصة..
مُحال أن ترى أفكارها النور، وستظل تتصارع بذهنها، عليها أن تنتظر الإجازة الصيفية وتحاول ذلك، فكرة يتيمة بخطوات بطيئة ستكون أفضل من لا شيء.
كففت دمعها وعزمت على فعل ذلك..
لكن ما أدهشها لاحقًا هو توالي الأفكار..
فمع انتقالها من عالم قريتها الصغيرة إلى رحاب المدينة الجامعية الكبيرة، جعلها تكتشف المراجع الأدبية الفريدة والروايات المميزة، المعلمين في اللغة العربية، استأذنتهم لتستمع لمحاضراتهم كل ما سنحت لها الفرصة، فكان بين ساعات الطب ساعات أخرى للأدب، وبين محاضرات وقراءات متنوعة مختلفة، فامتزج الأدب بالطب، فصارت لكتابة الأفكار موعد عند الصباح الباكر، وانتظار الحافلة ورحلة المواصلات للقراءة والكتابة، وساعات الليل للطب وعلومه..رحلة بين التحصيل الطبي وصفحات الأدب امتدت لسنوات طويلة قبل أن تعلم أن اتخاذ قرارٍ حاسم لا يكفيه رأي واحدٍ، بل يحتاج لعيونٍ وعقولٍ خَبرت الحياة، وألهمت صغارها بعطاء قلوبها، فتتنزل البركات غيثًا، ويلوح وميض الضياء بمشيئة الله حتى ينير الدروب، فما بالها بمن كانا سببًا في وجودها إلى الدنيا.
هي اليوم في منطقتها -بفضل الله- أول طبيبة شرعية تسعى لتدير بوصلة الطب نحو العدالة، ولها عددٌ من الملخصات العلمية بالمعاهد الصحية، وأيضًا عددٌ من الروايات التي جابت بعض دول العالم.
#ففيهما_فجاهد
#على_ثغرة
#الطبيبة_الأديبة
#سعاد_عمر_سوَّاد
تبلد تفكيرها طويلًا لحظة سماعها لقرارهما..
"هذه الدرجة العالية لن تهدريها في اختصاص اللغة العربية، بل في الطب ولا شيء غيره، إنه أسمى التخصصات، وله أفق واسع، لكن تخصص اللغة العربية سيقودكِ إلى التدريس وحسب."
استمعت إليهما رغم حسمها لأمر مستقبلها، أُهدرت أمام عينيها كل ثانية تفكير، وانهدم تخطيطها في لحظات، وتحطم حلم طفولتها التي كانت تسعى جاهدةً لتحقيقه، بأي ثمن، ومهما كانت الطرق، كظمت كل مشاعر غضبها، هي من يجب أن تختار بنفسها طريق علمها، قالت محاولة لملمة هدوئها:
-لكني لا أحب العمل بالمستشفيات، أو السهر في المناوبات، أريد أن أتخصص في اللغة العربية لأصير معلمة وروائية وناقدة، أريد أن أطور مهاراتي الأدبية، ولن أتمكن من ذلك إلا إذا التحقتُ بهذا التخصص، تعلمان أني أحب كتابة الروايات.
عاتبها والدها قائلًا بحدة: وما فائدة الروايات؟ إنها مضيعة للوقت، ثم إننا في مجتمعٍ لا يحب القراءة، ولا يهتم بالكتب، ولن تحصلي على أي عملٍ إلا في مكتب التربية والتعليم فقط، ووظائف التربية لم تعد جيدة كما في الماضي.
عقّبت والدتها مهدئة: والدكِ على حق، لا بد أن تفكيري أثناء اختياركِ لتخصصكِ في وضع البلد مستقبلًا، أعلم عشقكِ للتدريس، لكن تذكري قوله تعالى "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ".. بنيتي، تستطيعين أن تقرأي وتكتبي متى ما سنحت لكِ الفرصة وتمارسي شغفك، لكن طريق الطب هو الأفضل حاليًا.
عقد الأب حاجبيه والتفت لزوجته قائلًا: مهلًا مهلًا، كتابة الروايات مضيعة للوقت، عليها أن تهتم بالطب ودراسته ولا تشغل نفسها بتعلم غيره، أريدها أن تصبح طبيبة متميزة، أريد أن افتخر بها، وأن يقال أن هذه ابنتي.. الطبيبة المتميزة.
-بالطبع ستكون كذلك، فهي تحب علوم الأحياء والكيمياء، لا تقلق، لكنها ستسلي نفسها بالكتابة.
-تتسلى لا بأس، فلا مكانة للأدباء ولا للشعراء في هذا البلد، كلهم تحت خط الفقر.
جالت ببصرها بينهما في صمت، وفي خلجاتها ألم كبير ودت لو تفجره بصرخة تقول فيها:
لماذا تنظران لشغفي بدونية؟ ألا تعلمان أن هناك روايات استطاعت تغيير شعوبًا بأسرها؟ ألا تعلمان أن الروايات هي بوابة القراءة، مرآة للعالم وشعوبه؟ كيف لكما أن تعرفا ذلك؟
لكنها أعادت الصرخة لقلبها، فأوجعتها، لم تستطع البوح بها، فما ذكره والدها في آخر كلماته حقائق تسمعها من كل من سبقها في ميدان الأدب، لكن الشغف يبقى شغفًا، ربما يكبر ويتغير الحاضر لمستقبلٍ واعدٍ أجمل للأدب والأدباء، كم كانت تشعر بالسعادة في كل مرة تخطر ببالها فكرة رواية جديدة فتهرع لكتابة أحداثها، كم شعرت أن الشخصيات أصدقاؤها حقًا، عالمها كان فريدًا ومميزًا وجميلًا، لكن لن يدرك جماله إلا من يحمل نفس شغفها لا من يطفؤه.
لم تكن تريد أن تدخل في نقاشٍ تعلم فيه أن رغبتها ستُضحد، وأمنيتهما في رؤيتها بالمعطف الأبيض وقراءة كلمة "دكتورة" افتخارًا وسرورًا لن تدفعهما لتفهم مشاعرها، أومأت برأسها إيجابًا وابتسمت ابتسامة صغيرة، وهي تقول: سأفعل ما تريدان إن شاء الله، وأسأل الله أن يكتب لي ما فيه الخير.
اتسعت ابتسامة الأب وأثنى عليها وهو يقول: بارك الله فيكِ، وسدد خطاكِ.
احتضنتها أمها وهي تدعو لها بكل خير، ثم نهضت وتركتهما وفي قلبها همٌ كبير، كيف لها أن توفق بين حلمها وحلمهما؟ لم تكن راضية قرارهما، لكنها سلمت أمرها لله.
ثم أقبلت أيام شاقة لم تكن ترغب في انتظارها، دراسة الطب بمحاضراته ومراجعه، وساعات الدوام الطويلة كانت تقتص جلّ يومها وقوتها، بالكاد تكمل واجباتها، تسترق أوقاتًا يسيرة للمذاكرة، تبكي أحيانًا على ذلك الحلم القابع في قلبها..
محالٌ أن تجد لأجله وقتًا للكتابة أو القراءة..
مُحال أن ترى كتابًا منشورًا لشيء من مسوداتها..
مُحال أن تتقدم خطوة واحدة جادة نحو حلمها ما دامت مقيدة بالطب وكتبه الضخمة ومصطلحاته العويصة..
مُحال أن ترى أفكارها النور، وستظل تتصارع بذهنها، عليها أن تنتظر الإجازة الصيفية وتحاول ذلك، فكرة يتيمة بخطوات بطيئة ستكون أفضل من لا شيء.
كففت دمعها وعزمت على فعل ذلك..
لكن ما أدهشها لاحقًا هو توالي الأفكار..
فمع انتقالها من عالم قريتها الصغيرة إلى رحاب المدينة الجامعية الكبيرة، جعلها تكتشف المراجع الأدبية الفريدة والروايات المميزة، المعلمين في اللغة العربية، استأذنتهم لتستمع لمحاضراتهم كل ما سنحت لها الفرصة، فكان بين ساعات الطب ساعات أخرى للأدب، وبين محاضرات وقراءات متنوعة مختلفة، فامتزج الأدب بالطب، فصارت لكتابة الأفكار موعد عند الصباح الباكر، وانتظار الحافلة ورحلة المواصلات للقراءة والكتابة، وساعات الليل للطب وعلومه..
رحلة بين التحصيل الطبي وصفحات الأدب امتدت لسنوات طويلة قبل أن تعلم أن اتخاذ قرارٍ حاسم لا يكفيه رأي واحدٍ، بل يحتاج لعيونٍ وعقولٍ خَبرت الحياة، وألهمت صغارها بعطاء قلوبها، فتتنزل البركات غيثًا، ويلوح وميض الضياء بمشيئة الله حتى ينير الدروب، فما بالها بمن كانا سببًا في وجودها إلى الدنيا.
هي اليوم في منطقتها -بفضل الله- أول طبيبة شرعية تسعى لتدير بوصلة الطب نحو العدالة، ولها عددٌ من الملخصات العلمية بالمعاهد الصحية، وأيضًا عددٌ من الروايات التي جابت بعض دول العالم.
#ففيهما_فجاهد
#على_ثغرة
#الطبيبة_الأديبة
#سعاد_عمر_سوَّاد