Please or التسجيل to create posts and topics.

أيامنا العادية (قصة قصيرة)

"أمنياتنا تختلف بتقدم أعمارنا، تتشكل ثقيلة وطموحة ثم تنحل بسيطة وقنوعة، لندرك عند الوداع انها تكمن في ايامنا العادية".

 

الفصل الأول

قرار

 

نويت الهجرة يا أبي.

قالها جابر جلال صريحة وقد جلس على مقعد حديد وضعت عليه مساند مزخرفة وناعمة. لم يبدو أن والده كان يصغي لما قاله اذ استمر في تصفح صحيفة الأخبار المحلية ، رغم سكون الفناء الخارجي لمنزلهم الا من بعض صرّار الليل ورياح خريفية باهته كانت تتلاعب بجرائد النخل المجاور لهم.

مضت بضع لحظات تخللها توتر جابر وهو يطرق بقدمه الأرض الرملية المكنوسة بعناية، وكان والده يجلس بجانبه مرتدياً جلبابه الفضفاض المفضل، حتى اوقف مطالعته و رمقه بنظرة فاحصة من اسفل نظارته الطبية:

هل قولت شيئاً؟

أصابته خيبة الأمل ، كان الخبر ثقيل عليه كفاية دون اعادة، فأخذ نفساً عميقاً وقال:

نويت ال..

ابتسم والده بمكر، واستوقفه ملوحاً بيده:

لا عليك لقد سمعتك في المرة الأولى.

فقال جابر معاتباً نفسه وقد اقترن حاجباه في غيظ "كيف اقع في هذا كل مرة" ثم تنهد بأريحية:

اتذكر صديقي حسن الذي كان يأتي لزيارتي ايام دراستي في الجامعة؟

جال ببصره بعيداً ممسكاً ذقنه قبل ان تلمع عيناه: ذاك الأصلع؟

أبي!..

ثم أضاف:

على أي حال، لقد عثر على فرصة عمل من أجلي في الشركة التي يعمل بها في الخارج.

مال الى الأمام وعقد اصابع يديه امامه وراح ينظر الى ظله المنعكس من الضوء الخافت بالمكان، بدء الصمت القادم من والده يثير قلقه، حتى رفع عينيه في نفاذ صبر ليتفاجأ أن والده قد غطى جانب وجهه بالصحيفة وأشار له في انفعال غريب بأن يلزم الصمت. لم يلبث ان زال حين رآى والدته تقترب نحوهم حاملة آواني القهوة بين يديها لتضعها امامهم ثم تقول:

عن ماذا تتحدثان؟

ارتبك الاثنان وتبادلا النظرات:

لا.. لا شيء يا امي..

ضاقت عينيها مطولاً في حين تصبب الاثنان عرقاً، لتفصح أخيراً:

تذكرت.. لقد نسيت احضار السكر!

اطلق الحاج جلال تنهيدة ارتياح، قبل ان تتحول ملامحه الى جدية تامة حين قال:

لذا فإنك تنوي الاغتراب اليس كذلك؟

آجل يا أبي.

لا شيء هناك لتشعر بالذنب حياله يابني، حان الوقت لتلتفت الى مستقبلك.. هذه الأرض لم تعد تسع عدى الكهلة امثالي الذين عاشوا حياتهم كاملة ولم تعد لهم مطالب غير رغباتهم الانانية بأن يروا اطفالهم يكبرون حولهم، لذا ابتهج وعش حياتك، حقق طموحاتك كما فعلت من قبلك.

ابتسم بإقتضاب، واعتدل في جلوسه قائلاً بصوت متزن بينما جال بصره بعيداً:

كنت آمل أن ترفض، عندها لن أحتاج الى ان الوم نفسي على البقاء هنا.

سنكون بخير في غيابك.

اذاً هل ستحدث أمي في الموضوع؟

فرد والده جلال الصحيفة مجدداً امام وجهه وقال متمتماً: أخبرها بنفسك، ام تريد الرحيل وتركنا نتشاجر بقية العمر!

***

كانت قرية ِبرّ كصفار البيض تحاوطها سلسلة جبال بيضاء متفاوتة الأحجام والعلو، مع مزارع ومراعي خضراء ذا جانب ينتهي بنهر النيل اشهر انهار البلاد، ذات رمال ذهبية وبركة صغيرة تمتلئ من المياه المنحدرة من اعلى النهر، كان سكانها بسيطين طيبين متكاتفين لا يكترثون بالكساد العالمي ولا بصراع السلطة في البلاد عدا الشيء الكافي للتسامر حوله وتجاذب أطراف الحديث في المساء.

في اليوم التالي ووسط برودة صباحات الخريف العليلة في ساحة منزلهم الخارجية استيقظ جابر عنوة على اصوات ضجيج تعلو بداخل المنزل وصوت فرقعة اطباق الطعام ، أخذ الأمر منه بضعة دقائق لاستعادة تركيزه بشكل كامل قبل ان يتبين له ان سبب الصخب هو شجار نشب بين والديه، او كما يتضح من صوت والدته الغاضب هو في الغالب شجار من طرف واحد. نهض جابر متجهاً نحو الداخل فوالدته رغم عصبيتها تهدأ قليلاً عند رؤيته وسط انفعالها، وتحاول اخفاء خلافاتها مع ابيه امامه. توقف عند الباب لبرهة ثم عاد وأخذ غطاء نومه معه محاولاً صنع مشهد دخول طبيعي مثل اي صباح عادي. كان والده يحمل اطباقاً زجاجية ملونة رافعاً اياها فوق مستوى رأسه، و والدته محاسن من الناحية الأخرى تحاول الوصول اليها واسفل قدميها تبعثرت قطع الزجاج والخزف في كل مكان.

صاحت الحاجة محاسن في حنق: قولت لك اعطني اياهم يا جلال!!

اهدئي يا ام جابر! لنتناقش في الموضوع!

اجابته في حنق متزايد: لا اريد الحديث معك.. فقط ناولني الاطباق من سكات!!

لمح الحاج جلال اطباق الاستانلس المعدنية فوق منضدة المطبخ فأشار لها برأسه: لما لا تنفسين عن غضبك بتلك الاطباق المعدنية بدلاً عن هذه!

ولكن كلماته جعلتها تزداد عنداً واصراراً على تحطيمها فقالت وهي تحاول تسلقه لتنال مرادها: لا اريد مزاحك السخيف ولا اريد الحديث!

لم تثنيه اجابتها عن تجربة الفكرة الألمعية التي خطرت بذهنه تواً فقال: اذا ما رأيك بالأطباق الذهبية التي تقبع هناك بالأسفل! سيكون تحطيمها مرضياً جداً اليس كذلك.

فالتفتت لتلقي نظرة في تلقائية فقالت: تلك صحون جارتنا سعاد، انت تقول ذلك فقط لأنك لا تطيق جلساتنا!

ثم انتبهت الى ان خطة زوجها في صرف حدة غضبها قد انطلت عليها، احست انها منهكة جداً وقد تملكها البكاء فاستطردت بأوتار متذبذبة متقطعة: افعلوا ما تريدون.. فلا أحد في هذا المنزل يكترث لرأي على أي حال، سأذهب لأرتاح بعيداً عنكم.

انهت كلماتها ودارت مسرعة نحو غرفتها وما ان امسكت مقبض الباب حتى دلف جابر الى البهو المقابل للمطبخ والمؤدي لممر يفضي الى غرفت والدته، توقفت لبرهة ونظرت اليه بعيون ضبابية مهزوزة، قبل ان تكمل طريقها وتوصد الباب خلفها.

انتفض من صياح ابيه المفاجئ: كل هذا بسببك انت!

افاقت نظرات والدته وصياح ابيه عقله ليستدرك ذكريات الأمس فقال: هل علمت امي؟

أخذ نفساً عميقاً يستوعب فيه مجريات الأحداث ثم قال:

كان مزاجها جيداً هذا الصباح، فانتهزت الفرصة وأخبرتها، لكن دفاعاتها تعمل بشكل مختلف تماماً عندما يتعلق الأمر بك.

اشار له بيده نحو الزجاج المهشم ثم اضاف:

اردت تجنيبك عناء اخبارها، واحذر ان تطأ قطع الزجاج المكسور..

أومأ جابر برأسه وتردد للحظة عن السؤال الذي يجول بخاطره، لم يكن الوقت مناسباً لكن ذلك لم يمنعه عن طرحه: هل تظن انها ستوافق؟

تنهد الحاج جلال وهو يستريح على الكرسي ثم اجاب: لا تهتم لذلك.. والدتك تحبك وستتفهم في النهاية، يجب علينا اعطاءها بعض الوقت لتستوعب الأمر.

حملق الى السقف لبرهة ثم ابتسم وهو يستطرد حديثه: ما زلت اذكر ايام دراستك في العاصمة، حينها لم تطق غيابك وكانت تستمر في ازعاجي بأسئلتها عن موعد عودتك، فكانت تقول:

هل سيبقى يدرس هناك لبقية عمره؟

فأجيبها: فقط بضع سنين ان شاء الله.

تصمت في تململ لتعاود سؤالي مرة أخرى: انت لم تدرس!.. الا يمكنه العمل هنا مثلك دون دراسة؟

فأجيبها: من قال لك انني لم ادرس!!

فتقول هي في سخرية وفخر: انت بالكاد أكملت الثانوية، بينما ابني سيصبح مهندساً ناجحاً.

فأقول متعجباً: اهو ابنك وحدك!

فتضحك قائلة: لا ولكن هذا الذكاء بالتأكيد لم يأتي منك.

يتبع...

الملفات المرفوعة:
  • db4f5e305a17aef9fac2526e5d0a3984.jpg
ضياء and وليد امعوش have reacted to this post.
ضياءوليد امعوش

احببت جو القصة وأحداثها

تبدو مشوقة من حيث جعلتنا نعيش جوها تماما

اعجبتني تفاصيل الاحداث.  وتصوير المكان

بانتظار البقية^^

+ انتبه لبعض الأخطاء الإملائية

مثل كلمة قلت

وليست قولت

وذلك لتنال اعجاب القراء اكثر^^

وليد امعوش and كاتب مبتدئ have reacted to this post.
وليد امعوشكاتب مبتدئ
اقتبس من ضياء في 2023-08-18, 9:42 م

احببت جو القصة وأحداثها

تبدو مشوقة من حيث جعلتنا نعيش جوها تماما

اعجبتني تفاصيل الاحداث.  وتصوير المكان

بانتظار البقية^^

+ انتبه لبعض الأخطاء الإملائية

مثل كلمة قلت

وليست قولت

وذلك لتنال اعجاب القراء اكثر^^

شكراً لك أخي ضياء..

أسعدني كثيراً قراءتك لعملي المتواضع وإطراءك المشجع وملاحظاتك الهامة..

سأحاول الانتباه أكثر للأخطاء الإملائية في المستقبل شكراً لك

وليد امعوش has reacted to this post.
وليد امعوش

الفصل الثاني

أمواج متلاطمة

 

في الايام القليلة التالية ظلت الحاجة محاسن تتجنب الحديث مع زوجها وابنها ويعتلي ملامحها الاستياء الواضح منهما، فيما انشغل زوجها جلال مع اهل القرية في اصلاح وترميم حواجز الامطار والسيول التي تحمي القرية من عواقب الخريف. ترك ذلك جابر يغرق في قلقه وتفكيره بشأن المستقبل.

بعد مرور اسبوع وحينما انتصفت الشمس في كبد السماء، كان جابر جالساً يسلي نفسه بمطالعة كتاب قديم في مجلسهم حين تلقى اتصالاً من صديقه حسن:

اردت ان اطمئن عليك واخبرك بأن مديري في العمل قد سألني هذا الصباح عن موعد قدومك، واذا ما كنت ستأتي ام عليه البدء في البحث عن بديل، لكنني أخبرته بأنك قادم بالتأكيد، اليس كذلك؟

تمتم جابر: بديل عني..

هل تسمعني ياجابر.. يجب ان تبدأ اجراءات سفرك في اقرب فرصة ممكنة!

اجاب جابر في تردد: لا اعلم ياحسن.. والدتي لم توافق بعد على ذهابي.

قال حسن في حنق: لا يمكن ان تكون جاداً في تضييع مثل هذه الفرصة.. ماذا ستفعل في السودان! لم يعد هناك من يقدر علمك او شهاداتك منذ زمن طويل!

صمت جابر بضع لحظات وهو يقلب صفحات كتابه وكأنه يبحث عن إجابته فيها، قبل ان تعترض عقله ذكريات حديث ابيه قبل ايام، فابتسم وانبعث الأمل في صوته: هذا صحيح.. ولكن.. ولكن امي تقدرها.. وهذا يكفيني..

تمتم حسن في قلق: فقط لا تتسرع في الاجابة الآن، فكر في الأمر وسأتصل بك بعد عدة ايام لأعرف قرارك.

ما ان انهى جابر الاتصال حتى لاحظ وقوف والدته بمدخل الغرفة حاملة صينية الشاي. صدم برؤيتها وصاح بحرج : أمي!

تحركت الحاجه محاسن و وضعت صينية الشاي على طاولة خشبية تعرجت عروقها وحفرت بفعل الزمن، حطتها امام جابر دون ان تنبس ببنت شفة ثم دارت على عقبيها واتجهت نحو الخارج، لكنها توقفت فقط للحظات عند الباب لتقول دون ان تنظر اليه:

 لم أرد مقاطعة حديثك مع صديقك.

احس جابر بالذنب وقال بصوت خافض: امي لم أقصد..

ولكن والدته كانت قد غادرت مسبقاً الغرفة، فكر وقد اكتسى الحزن محياه: يبدو أنني اغضبتها مجدداً..

جلس بعدها حانياً رأسه بضع لحظات يتأمل حالهما ثم تنهد واقفاً وقال: لم اعد استطيع احتمال هذا الوضع اكثر من ذلك، واذا كانت والدتي لا توافق على رحيلي فيجب ان انسى فكرة السفر نهائياً.

وجدها وسط الاواني المنزلية وطنجرة الطبخ على النار الهادئة، مسندة ظهرها على الخزانة الخشبية القديمة بينما غطت فمها واصابعها المتعبة تعتصر شفتيها في نشيج مكتوم. وقف مشدوهاً وقد تقطع قلبه اثر رؤيته حجم الآلم الذي تسبب به لها، فتح فمه للتحدث ولكن الكلمات ابت الخروج واختنقت بداخل صدره، استجمع قواه واعاد الكرة فخرج صوته هزيلاً كئيباً:

 امي!

استدارت والدته محاولة اخفاء وجهها وبدءت في غسل الصحون المتسخة على المجلى وقالت في صوت يتقطع بأنفاسها المتلاحقة: ماذا؟.. ماذا تريد؟ لا تناديني بأمي..هذه الكلمة ينطقها فقط من هو في حاجة لأمه، وانت كبرت ولم تعد تحتاجني..

صمت جابر برهة ثم قال في صوت حزين: لا تقولي هذا يا امي!.. انت تعلمين ان هذا ليس صحيحاً، فأنا دوماً في حاجة اليك.. انت الخير والعطاء اللا متناهي.. انت بوصلة جنتنا.

أدرك من صمتها انها لن تتحدث معه فتحرك نحو طاولة الطبخ المغطاة بغطاء بلاستيكي مهترئ و وضع كوب الشاي وقال: لقد احضرت لك كوب الشاي خاصتك لتشربيه قبل ان يبرد.

ثم همَ بالذهاب عندما توقف وقد ازداد احساسه بأن هذا هو القرار الصائب: وأردت اخبارك انني قررت البقاء.

***

بعد مضي يومان كان جابر يرتدي ثيابه استعداداً للخروج، ارتدى بنطالاً من الجنز الكحلي القديم وقميصاً واسعاً غير متناسق، انهى تجهيزاته وأخذ مفاتيحه ونادى على والدته: امي سأخرج الآن.

خرجت والدته من مطبخها تفرك يديها بقطعة قماش بالي قبل أن تنظر له في استغراب: اين انت ذاهب بهذه الملابس الرثه، انها لا تناسب ابني المهندس!

ضحك بصوت مرتفع وقال لها: سأذهب لمساعدة ابي في اعمال ترميمات الحاجز، وهذه الثياب ستكون مناسبة للعمل.

اجابته في غيظ: لماذا يجرك معه في اعماله الشاقة.. لا داعي للذهاب سيتكفل ابوك بها وحده.

رد جابر وهو يصلح كم قميصه: لقد اتصل بي لأن لديه الكثير من الاعمال اليوم وقد دعت القرية لتنظيم نفير للمساعدة.

اصلحت والدته لياقة قميصه: انتظر لقد نسيت هذا.

أترين كيف أنني لا زلت احتاجك.

فابتسمت وضربت كتفه بخفة وهي تقول: اذهب اذاً ولا تتعب نفسك كثيراً.

اغلق جابر باب المنزل خلفه وقال محدثاً نفسه: كم يسعدني رؤيتها تستعيد بهجتها أخيرا.

***

عند الحاجز الصخري تجمع الكثير من الناس للمساعدة شباباً وشيبة، تشكلوا صفوفاً لنقل الصخور المجمعة حتى مكان الحاجز، وجد جابر والده يقف عند الحاجز يقوم بتوجيه وتنظيم الناس فحياه واخذ مكانه امام الصف بالقرب منه وقال:

مرحباً ابي.. قمتم بعمل جيد هنا.

حياه ابوه في المقابل: مازال يتبقى الكثير لنصبح في اتم الاستعداد لهذا الخريف، اخبرني ما رأيك الهندسي بهذا الشأن؟

بينما كان يستمع جابر لحديث والده لفت انتباهه حوار دار بين شابان كانا يقفان خلفه في الصف، أقربهما كان شاباً في منتصف الثلاثينات ذو بشرة قمحية كوتها الشمس فمالت للإحمرار، كان له منكبين عريضين، وتقاسيم وجه حادة تطفو عليها اثار العمل الشاق، كان يقول لصديقه الذي لا يقل عنه خشونة:

  • ما الذى اتى بك الى هنا! الم تقل ان لديك عملاً اليوم ولن تستطيع الحضور؟
  • آه هذا صحيح.. ولكن تلقيت مكالمة في الامس من المهندس المسؤول عن المشروع يخبرني فيه ان العمل سيتوقف لبعض الوقت.
  • ماذا.. انت ايضاً! هذا خبر سيء جداً!.. كنت افكر بأن أسألك ان تتوسط لي عندكم، فقد توقف المشروع الذي اعمل به ايضاً.
  • اعتذر ياصاحبي.. الكثير من المشاريع اغلقت بسبب تذبذب الاسعار وارتفاع سعر العملة الأجنبية.
  • لا تعتذر.. هذه اوقات صعبة على الجميع..

 صمت الأخير قليلاً قبل أن يضيف بشيء من الحسرة: موعد ولادة طفلي قد اقترب ولا ادري ما العمل.

فكر صديقه وهو يقلب أمر برأسه قبل أن يقول:

  • أعانك الله ياصاحبي، ما زال عرض السفر الذي أخبرتك به متاحاً ان رغبت في ذلك، أرى الوضع مطمئن في الخارج والأعمال لا تتوقف هناك على غرار يوم عمل واسبوع توقف هنا.
  • لم أنسى عرضك ولكني.. ولكني أردت أن أرى مولودي قبل ذلك.

جال ببصره بعيداً ثم استطرد قائلاَ: لكن يبدو أن لا خيار أمامي.

ظل جابر يستمع اليهما بإهتمام وبال مثقل حتى تناهى الى مسامعه مناداة ابيه لتذكره بحديثهما الذي سهى عنه وقال بإبتسامة مصطنعة: عذراً ابي.. لقد انجرف وعيَ قليلاً.

انتاب الحاج جلال القلق وقد ترامى الى مسامعه حديث الشابين وعلم ما يشغل تفكير ابنه فقال: الم ترضى امك بعد عن سفرك؟

تردد جابر عندما تذكر انه لم تسنح له الفرصة لإخبار والده من قبل: لقد صرفت النظر عن الموضوع.

تنهد والده وازال قبعته ليمسح حرارة الشمس عن شعره القصير بيده قبل ان يقول: امك يمكنها ان تكون صعبة المراس احياناً، ولكن هذا لا يعني بأن نستلتم!

ثم اعاد قبعته وتابع: سأتحدث معها في الصباح.

اتسعت عينا جابر وقال في فزع: لا يا أبي.. ارجوك لا تفعل ذلك! سيتعكر مزاجها ثانية وانا لا اطيق ان نفعل بها هذا! لقد حسمت أمري، دعنا ننسى هذا الأمر للأبد.

ولكن والده صاح فيه غاضباً: ما بك يا جابر!! أنا لم اربيك لتكون بهذه الانهزامية.. لا يمكنك ان تقرر الهرب عند اول منعطف يقابلك.

شعر جابر بالحيرة والقلق فإذا والده يضع يده على كتفه: قد لا تطيق فكرة فراقك ولكنها لن تحتمل منعك من تحقيق احلامك.

ربت عليه ثم انطلق يحذر بعض الفتية من العبث بركام الصخور، بينما اغرق جابر نفسه في التفكير والعمل حتى آخر اليوم.

يتبع...

الملفات المرفوعة:
  • 057dc88f3ec5fb2eda3d1a875812d7f6.jpg

ما شاء الله!! لفتتني بداية القصة وعنوانها.. ونظرا لضيق الوقت قررت ان اثبت مروري هنا اولا لاقرأها لاحقا إن شاء الله ^^
وفقك الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 

اقتبس من زينب جلال في 2023-08-19, 10:59 م

ما شاء الله!! لفتتني بداية القصة وعنوانها.. ونظرا لضيق الوقت قررت ان اثبت مروري هنا اولا لاقرأها لاحقا إن شاء الله ^^
وفقك الله
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم 

شكراً لمرورك السريع أستاذتنا زينب وفي انتظار رأيك المفصل حين يسمح وقتك ان شاء الله.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

الفصل الثالث

أمومة

 

هبت نسائم الصباح الخريفي فتمايلت لها اشجار النخيل واكتست السماء بلون ازرق باهت كرماد الخشب، وعم صياح الديك كل المنازل والطرقات تزامناً مع خروج المصلين من اداء صلاة الفجر في مسجد القرية، وكان من بينهم الحاج جلال، ارتدى نعاله وخرج يقصد الطريق المؤدي الى السوق، كان يرتدي جلباباً ابيض وقبعة ذات زخارف جانبية ونظارة مربعة بنية وقديمة، شعر ذقنه غير الحليق ينم عن شدة انهماكه في الفترة الاخيرة. كان يمشي بخطوات واسعة حتى دخل السوق، لم يكن به غير ثلاث او اربع محلات مضاءة، محل الفران ودكان السائح وصيدلية الجابراب، كان كل من اربابها قد استهلوا عملهم بروتينهم الصباحي من كنس وتنظيف وترتيب، تخللت الجو رائحة شهية لمعجنات الزلابيا التي تكمل مراسيم بدء صباح جديد، اعدتها بائعة الشاي التي بدورها كانت تستعد لإستقبال زبائنها، قامت بتوزيع كل زوجين من الكراسي مع طاولة صغيرة بينهم، و وضعت غلايتها على الجمر المحمر في انتظار المارين والزائرين. وقف الحاج جلال بجوار كشك صغير يتأمل كل هذا قبل أن يباغته صوت من خلفه، استدار ناحية الصوت ليجد ضالته يترجل من دراجته قائلاً بصوت رتيب نعس:

أنت مبكر اليوم!

مرحباً هاشم.. نعم مبكر وعلى عجالة، لذا ارني ما لديك اليوم.

تثاءب وهو ينفض النعاس عن عينيه وأخرج من جيب بنطاله ميدالية تحمل مفاتيح مختلفة الأطوال والأشكال،  فتح بإحداها باباً جانبياً يصعب عبوره دون انحناء كامل، ثم اخذ رزم الصحف الموضوعة في مقعد الدراجة الخلفي ودلف الى الداخل، انتظره الحاج جلال لبضعة دقائق حتى بدء في وضع الصحف اليومية خلف بعضها مع إبراز أسطر العنواين الرئيسية لكل صحيفة على حدى أمام ناظري جلال، جالت عينى الأخير بسرعة بين العناوين واخذ يقلب فيها قليلاً قبل ان تلفت انتباهه واحدة فقال مبتسماً:

هذه هي.

دفع للبائع ثمنها ثم انطلق في طريقه حتى دخل منزله، كانت الحاجة محاسن تعد شاي الصباح ذو المذاق الطيب في مطبخها بينما استغرق جابر في نوم عميق أراح به جسده الذي أضناه التعب.

بادر زوجته السلام من نافذة شباكها ثم قال:

صباح الخير.

التفتت اليه في تعجب وقالت: صباح النور! عدت مبكراً اليوم!

ابتسم وهو يجيب: لا بأس من بعض التغيير احياناً، لنحتسي الشاي معاً في المجلس.

استقر في مجلسه وجلس في كرسيه المفضل وفرد الصحيفة التي ابتاعها تواً، مضت عدة دقائق وهو يتصفح الاخبار قبل ان تقبل زوجته محاسن من بعيد حاملة طقم شاي فضي اللون مكون من صينية وبراد شاي وعدة اكواب متشابهة وحاوية سكر لطيفة مع معالق فضية، وضعتهم امامه واتخذت مقعداً بجانبه، نظر اليها جلال بطرف عينيه وهي تصب الشاي ثم تظاهر بقراءة بعض عناوين الأخبار قبل أن يتوقف عند عنوان بعينه ليقرأه بصوت واضح ومرتفع:

تذبذب اسعار مواد البناء وارتفاع الأجرة العمالية يتسببان في توقف العديد من مشاريع التشييد والبناء في انحاء البلاد.. موجات تسريح تطال كبرى شركات المقولات مع ارتفاع مرعب في معدلات البطالة..

تجمدت محاسن للحظات قبل ان تعيد براد الشاي مكانه على الطاولة، ولكن هذ لم يفت على زوجها دون ملاحظة، ناولته كوبه ثم اخذت كوبها دون ان تضيف أي تعليق على ما سمعته، ازعجه انها لازمت الصمت فبدء في قراءة تفاصيل الخبر للحظات قبل ان تقاطعه في تذمر هاديء:

حسناً.. هذا يكفي.. انا اعلم ما ترمي اليه، واعلم ما يدور في البلاد حولنا دون ان تخبرني.

ابتسم الحاج جلال في خبث قائلاً: ظننتك تحبين سماع الاخبار!.. ولكن بما انك ذكرتي الموضوع.. أخبريني ماذا تعتقدين؟

اجابت زوجته وهي تنظر اليه في احباط: انا لم اقضي معك سبعة وعشرون عاماً دون ان اعرف ماتفكر فيه جيدأ..

زفرت دفعة من الهواء قبل ان تستطرد حديثها: لقد سمعت هذه الاخبار عندما اجتمعت مع جاراتي في الأمس، ولكن هذا لا يغير من الأمر أي شيء.

تغيرت تعابير زوجها في قلق وهو يقول: ماذا تعنين؟

اجابت ضاحكة: نعم هذه هي التعابير التي أحبها..

ثم تحولت عينيها بعيداً واخذت رشفة من كوبها قائلة: لقد فكرت و وافقت مسبقاً على سفر ابننا.

لماذا تحبين اغاظتي دائماً.

اجابته في زهو واضح: هذا لأنك تظن أنك تخاف على مصلحة جابر اكثر مني.

ابتسم في تسائل: اذاً ما الذي دفعك لتغيير رأيك فجأة؟

نظرت في كوبها وألق بزوغ الشمس يلقي بأشعته عبر النافذة الي جانب وجهها قبل ان تجيب: سمعته مصادفة يخبر صديقه عبر الهاتف انني اقدر جهده وهذا يكفيه..

تحولت نظراتها اليه فلمعت عينيها في تأثر تحت ضوء الشمس وأكملت: أي أم أكون ان تمكنت من الرفض بعدها.

***

في بطن بحر واسع معتم وجد جابر نفسه وقد ربطت ساقاه بصخرة ضخمة وثقيلة، شعر بنفسه تسحب تحت وطأة وزن الصخرة بقوة نحو القاع، حاول السباحة للسطح ولكن يديه تحركتا دون أي أثر ذكر، ثم رأى أسماك تسبح في أسراب تقترب منه ثم تدور حوله قبل أن تقترب منه وتبدء في لطم خده بزعانفها وتهتف فيه:

استيقظ يا جابر!

فتح جابر عينيه في اضطراب وسط صفعات امه التي تحاول ايقاظه قائلاً: امي..

تنفست والدته الصعداء واضعة يدها على صدرها وقالت: اخيراً صحوت! لقد لبثت اوقظك مدة طويلاً.. لقد اخفتني.

استعدل جالساً في تثاءب ثم قال: عذراً امي.. لابد ان التعب قد نال مني.

نظر حوله فوجد حقيبة ثقيلة قد وضعت على قدميه فابتسم وقال في نفسه: هذا يفسر الأمر.. ولكن..

نظر الى والدته التي فتحت خزانته وبدءت في اخراج الملابس و وضعها بداخل الحقيبة ثم قال في توجس: ما الذي يحدث؟

حملت والدته قميصاً طبق بعناية ومسحت بيدها عليه وقالت دون ان تلتفت اليه: اتعلم لماذا سميناك جابر؟

حك جابر رأسه وهو يتسأل كيف أن الأمر لم يخطر بباله من قبل، ثم قال: لا اعلم.. لم افكر في السبب من قبل.

فتابعت والدته قائلةً: تعلم أنه كان لك أخ أكبر لم تره، كان طفلاً رائعاً مميزاً رغم قصر عمره.. كان قد ابتلي في سنته الأولى بمرض ملاريا، وكان جسده هزيلاً ومناعته ضعيفة، ظل مريضاً لفترة طويلة رغم محاولات الأطباء في علاجه، باءت كل محاولاتهم بالفشل ولم تفلح أي من الأدوية التي كانوا يجبرونه على تناولها في شفاءه، كانوا يضعونه في غرفة خاصة، حتى أنهم لم..

لم تتمالك والدته نفسها عند تلك اللحظة وخرج صوتها واهناً حزيناً حين تابعت: حتى أنهم لم يسمحوا لي برؤيته او احتضانه حتى أخذ الله أمانته..

صمتت للحظات تتمالك نفسها قبل أن تكمل: حزنت كثيراً لفراقه المبكر، كنت وما زلت أشتاق له، ولا اظن ان الدمع فارق عيني حتى يوم مولدك..

وقف جابر من مكانه وقد اقترنت حاجباه، شعر بإستياء والدته وصعب عليه التفكير في طريقة يستطيع بها التهوين عليها غير ان يضع يده على كتفها في مواساة ويقول في صوت خافت: أمي.

مسحت محاسن دمعة سالت على خدها بكم قميصها: جئت بإبتسامتك المحبوبة وعيناك الجميلتان ترمم ثنايا قلبي، تصلح كل ركن فيها وتعيده أفضل مما كان، قد جبر الله بك قلبي حينها.. ولا زلت تجبره كل يوم..

استدارت اليه بعينين بلوريتين وأنف محمر لترفع يدها وتبعثر شعره في حنان غامر وابتسامة مشرقة: لذا دعني أجبر بخاطرك اليوم..

مسح جابر طرف عينيه ورسم على محياه ابتسامة سعيدة واجاب: ادامك الله لنا نعمة ياجِبارة الخواطر.

لوحت والدته يدها امام وجهها وكأنها تبدد شيئاً خفياً من امامها قائلةً: هذا الجو المشحون بالمشاعر لا يناسبني ابداً.

ضحك جابر اثر تعليق والدته، فتابعت حديثها وقد ضعت يدها على وسطها في حزم: والآن قم بالاتصال على صديقك ودعني اكلمه بينما تذهب وتستعد للذهاب الى عمتك في العاصمة وتبدء اجراءات سفرك.

ارتبك جابر وهو يبحث في هاتفه وقال: اليس من الأفضل ان احدثه انا؟

ابتسمت والدته وقالت: لا تقلق.. هل أجريت الاتصال؟

اجاب والتعجب ما زال بادياً عليه: نعم..

ما ان انهى كلامه حتى اختطفت الهاتف من يديه ودفعته خارج الغرفة واغلقت الباب خلفها، ومن هناك سمع والدته تصيح:

اخبر مديرك انه سيندم اشد الندم ان استبدل ابني بأي احد اخر.. نعم.. وانت.. احذرك منذ الآن ان حصل أي مكروه لإبني هناك سأحملك المسؤولية كاملة.. انت من جلب هذه المصيبة على رؤوسنا فتحمل العواقب..

احس بالاحراج والاشفاق على صديقه وقال في نفسه: اعتذر ياحسن.. ولكن الأمر يستحق العناء.

يتبع...

الملفات المرفوعة:
  • 405f9dd2894af499d501f1884f1a1e46.jpg

الفصل الرابع

وداع خريفي

 

أخذ جابر يتأكد من حاجياته التي حزمها في حقيبته، نصف زجاجة عطر ومشط قديم وشاحن هاتفه الأبيض ذو السلك المكشوف عند مؤخرة رأسه، بدى له أن كل شيء يحتاجه موجوداً بداخلها ولكنه مع ذلك لم يستطع ازاحة احساس عدم الارتياح الذي ظل يساوره. ربما كان احساساً طبيعياً لشخص مقبل على مغامرة مجهولة النتائج، يشبه الذي انتابه حين غادر المنزل أول مرة لإرتياد الجامعة، لكن شيء ما ظل يخبره أن الأمر مختلف هذه المرة.

وقف في الخارج وسط فناء منزلهم رفقة والديه وقد تلبدت السماء بغيوم داكنة متلاحمة ومحتشدة فوق رؤوسهم، شد قبضته على حقيبته فوق ظهره حين هبت رياح قويه جعلته يجفل للحظة وهو يتمنى أن لا تهطل الأمطار حتى يصل موقف الحافلات على الأقل، وأن تكون لحظات وداعهم رفيقة بقلبه قدر المستطاع. تنهد وابتسم ثم مد يديه واحتضن والده وقال:

سامحني يا أبي، كنت اود انهاء اعمال الحاجز معك قبل مغادرتي.

احتضنه والده واجاب بنبرة حاول جعلها طبيعية لكنها خرجت بطريقة مغايره بعض الشيء عن ما تصوره: لا.. لا تقلق بشأن ذلك، لقد طلبنا من مكتب الولاية إمدادنا ببعض التمويل لغرض تعجيل انهاء الاستعدادات.. لذا فكر في مستقبلك وأسأل الله لك التوفيق في مسعاك يابني.

هزت دواخله يد والده المرتجفه حين ربتت على ظهره، لكن مظهر والدته فعل بداخله العجائب، شعر أن سكيناً سخنت لحد الإحمرار قد غرزت في منتصف فؤاده، كانت تهتز في مكانها بصمت وقد غطت وجهها بطرف توبها، وراحت أنفاسها تضطرب في شهيق عالي وزفير متقطع يتخلله آنين مكتوم. هرع دون تفكير يقبل يدها ويضم اليه رأسها.. يواسيها.. يطمئنها ويحاول تهدئتها.. غير أنه وجد دمعه ينساب في خيانة للخيال الذي رسمه، وداع أنيق ورائع، دون بكاء، نعم هكذا تخيله، دون بكاء، على الأقل من جانبه..

 قال وهو يلثم جبينها: آسف.. آسف أنا أمي..

امي سأعود.. سأعود ان شاء الله.. أعدك أنني سأعود..

ظلا ممسكين ببعضهما هنينات قبل أن يقاطعهما والده بتذكيره أن موعد انطلاق حافلته قد اقترب، حاول تمالك مشاعره المسكوبة وصدره المحترق في آلم ورسم ابتسامة شاحبة مودعة على وجهه.

لا تتشاجرا كثيراً في غيابي..

ضحكت والدته بينما صاح جلال في انفعال: اهتم بشؤونك يافتى!

نعم هكذا أحب أن أتذكركما، قالها في نفسه مبتسماً وخرج في طريقه بينما وقف أبواه يتابعان خطواته وهي تذهب بعيداً، كل خطوة تتبع خطوة، كل نفحة غبار تثيرها، كل حصوة تركلها، كل آثر تخلفها، كانت ترعاها عيناهما ودعوات قلبيهما. حتى غابت الخطى وسقطت اولى قطرات الخريف على وجوههم، تبدد الدفء ويكسو لونها الرمادي كل الأبنية الطينية الذهبية والأبواب المبهرجة الحديدية، احواض الزهر الفخارية وميادين الكرة الرملية، و كل شيء آخر في بِرّ ارتدى حلّة خريفية باهته.

***

مسح جابر ماء كان يقطر على جبينه من شعره الجعد المبتل قبل أن يشاهد من نافذة مقعده كيف انطفأت الأضواء فجأة من مكاتب قطع التذاكر ومحلات العصائر الطبيعية في مدخل المحطة، انقطاع الكهرباء كان تدبيراً احترازياً تتخذه البلدة حين هطول الأمطار بسخاء. التفت وهو يرى مساعد السائق يصعد العربة ويصيح في أطفال كانوا يبيعون مكسرات عبئت في أكياس ربطت من قمتها ككيس حلوى صغير وبعض المقرمشات..

هيا أخرجوا يكفي هذا.. سنتحرك الآن..

راح الأطفال يهرعون خارجين إلا طفلة بقيت، راحت تقلب جيوبها، تبحث فيها في قلق، قبل أن تلمع عينيها في بهجة طفولية حين رآت قطعتها المعدنية تختبئ تحت كرسي قريب منها، انحنت ومدت يدها تحاول الوصول اليها، لكن الرجل قبض على معصمها وانتشلها من مكانها..

ألم أقل لكم أخرجوا..

قالها في سخط واشمئزاز وأخذ يجرها لباب الحافلة..

دقيقة.. توقف.. لحظة لو سمحت..

تعالت صيحات الاستنكار والاستهجان من الركاب بينما أخذت الصغيرة تحاول التملص في استماته وضفيرات شعرها تنتفض معها حتى قالت في حدة..

قلت لك توقف..

جفل الرجل لضوضاء الركاب التي صمّت أذنيه، كانت لحظة كانت أكثر من كافية لكي تنتزع يدها وتركض في خطوات واسعة حتى التقطت قطعة النقود المعدنية، ثم انتصبت واقفة وقد وضعت احدى كفيها في وسطها ومدت الأخرى نحو الرجل تتبعها نظراتها المتحدية:

سأنزل في المحطة المقبلة وهذا ثمن مقعدي.

اختطف النقود من يدها ورمقها بنظرة امتعاض قبل أن يستدير وسط اعجاب الجميع بشجاعة الصغيرة. راحت تشكرهم وتحييهم بإبتسامة واسعة قبل أن تقفز على مقعد شاغر قرب جابر.

يتبع...

nebrasmangaka has reacted to this post.
nebrasmangaka