تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 56

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

لم يدر كارم كم مر عليه من الوقت- بصحبة رامز في سيارته الخاصة- وهو يبوح له أخيراً بكل ما أخفاه عن الجميع، طوال عشرين سنة الماضية!

كان رامز يستمع إليه بانصات شديد، في جلسة أشبه ما تكون بالفضفضة؛ عوضاً عن كونها لتوثيق حقائق أو ادلاء بمعلومات!

ورغم أن الظلام قد حل على المدينة، إلا أن إضاءة الشوارع كانت كافية لرامز؛ كي يتبين موقع المنزل الذي أشار إليه كارم، في شارع صلاح الدين، بعد أن أوقف سيارته، إلى جانب الرصيف، قائلاً:

– هنا كان منزلي السابق، وقد بعته بمجرد انتقالي إلى منزلي الحالي، أما ذلك المنزل المقابل، فهو منزل ثائر وليد.. كما ترى.. إنه مهجور منذ ذلك الحين، بعد أن تم الحجز على جميع أملاكه، ووضعها تحت رقابة الدولة، إثر تلك القضية، حتى يتم البت في أمرها! غير أن الموضوع تم نسيانه على ما يبدو بمرور السنين، فقد مرت البلاد بما يكفي من أزمات؛ لتشغل المسؤولين عن متابعته!

وبعد صمت، سأله رامز:

– قلتَ بأن له زوجة وابنا، فما الذي حل بهما بعد ذلك؟

فأطرق كارم:

– سمعتُ أن زوجته انتقلت للعيش مع أهلها في مدينتها السابقة، وأخذت ابنها معها، فلم يكن قد تجاوز السابعة أو الثامنة في ذلك الوقت..

وصمت قبل أن يتابع بألم:

– قد لا تصدقني، ولكنني كنت أعتبر ذلك الفتى بمثابة ابني الذي لم أنجبه! بل لو كان لي ابن؛ لما أحببته أكثر منه! لم أتوقع يوماً أن تؤول الأمور بيننا إلى هذه الحال.. بالطبع لا يمكنني أن ألومه، فأنا من حطم ثقته بي أولاً!

فسأله رامز باهتمام:

– هل تعني أن ذلك الفتى؛ هو المسؤول عما يحدث الآن؟

فأومأ كارم برأسه:

– لا شك عندي بهذا، رغم أنني لا أعرف كيف أصبح ذلك الفتى بعد تلك السنين، وإلى أي حد وصل؛ لكنني لا أعتقد أن للرجلين الآخرين علاقة بذلك، إذ تمكن كلاهما من مغادرة البلاد بسرعة؛ قبل القبض عليهما، وأظنهما استأنفا حياتهما من جديد في الخارج.. والد الفتى وحده كان الأسوأ حظاً بين الجميع..

ساد الصمت مجدداً، قبل أن يسأله رامز:

– قلتَ أن والد الفتى.. أقصد ثائر وليد، قد أودع السجن في ذلك الوقت، فهل لا يزال في السجن وعلى قيد الحياة حتى الآن؟

فأطرق كارم:

– أجل.. فما زلتُ أتابع أخباره بين فينة وأخرى، لأطمئن على صحته من بعيد، بطريقتي الخاصة، فوخز الضمير لم يفارقني منذ ذلك الحين، ولا أخفيك أنني لم أفكر بخوض غمار الترشح لرئاسة الوزراء في هذا الوقت بالذات؛ إلا من أجل إيجاد مخرج لثائر والبحث في قضيته من جديد، بعد أن نأيتُ بنفسي عن جميع المناصب الوزارية منذ تلك الحادثة!

وتنهد بألم:

– لم يكن ثائر جاري المقرب وحسب، بل كان صديقاً عزيزا جداً، والأقرب إليّ من بين الثلاثة، ولم أكن لأقدم على ذلك الأمر سوى مُكرهاً، ولأجل الضرورة، ومصلحة الجميع، فكان هو الضحية.. ولكن من سيفهمني؟

لم يعلق رامز بشيء، وبدا أن الإحباط قد بلغ بكارم مبلغه، فقال بانكسار:

– لستَ مضطرا لتصديقي أيها المحقق، ولكنني أقسم لك أن هذه هي الحقيقة..

وأخيراً، قال رامز الذي بدا غارقاً في تفكير عميق:

– وهل حُلت مشكلة البلاد بعد ذلك فعلاً؟

فأجاب كارم:

– بعد أن نفذ رئيس الوزراء قراره، الذي اصطبغ بالشرعية الوطنية، تم تسوية الخلاف بالفعل مع مجلس اتحاد الحلفاء. وحتى لا تقع البلاد في حالة فوضى، إثر الغاء النظام الملكي بتلك الطريقة، مما قد يؤثر سلباً على استقرار المنطقة أيضاً؛ فقد تم الاسراع بتشكيل حكومة مؤقتة، يترأسها مجلس اتحاد الحلفاء، بإسم الحاكم العام لبلادنا، من أجل إدارة الشؤون الخارجية، مع تعيين نائب له في البلاد، يكون كحلقة وصل مع مجلس الوزراء، الذي حافظ على صلاحياته كما هي، فيما يتعلق بالشؤون الداخلية، ليصبح رئيس الوزراء بعدها؛ صاحب السلطة الأعلى في البلاد! ومنذ ذلك الحين؛ تم إغلاق تلك القضية نهائياً، ومُنع الحديث فيها بالقوة، من أجل استتباب الأمن، وإعادة ترتيب شؤون البلاد، رغم استياء شريحة كبيرة من المواطنين، في حين بقيت أسرة الملك الراحل بالخارج، ولم تعد منذ ذلك الوقت..

كان رامز يستمع بتركيز شديد، عندما سمع صوت تنبيه هاتف كارم، معلناً عن وصول رسالة جديدة، فأسرع كارم يفتحها بلهفة:

“اهلاً بك في منزل وزير الخارجية المغدور “ثائر وليد”..

إن أردتَ رؤية ابنتك فتعال لرؤيتها هناك”

لم يخف على رامز رؤية حالة الذهول، التي سيطرت على كارم، فسأله باهتمام:

– هل الرسالة من المختطفين؟

فما كان من كارم إلا أن ناوله هاتفه، وهو يهم بالنزول من السيارة، لولا أن رامز أمسكه من ذراعه مستوقفاً، بعد أن قرأ الرسالة بسرعة:

– عليك أن تكون أكثر حذراً يا سيد كارم.. قد يكون هذا مجرد كمين، فنحن الآن تحت المراقبة بلا شك!

وكأن اليأس والاحباط وتأنيب الضمير قد فعلوا فعلتهم بكارم، حتى ما عاد يبالي بأي طريق سيهلك، فجذب ذراعه من يد رامز، قائلاً بلا مبالاة:

– كنتُ مستعداً لفعل أي شيء من أجل هذه المواجهة، ولا أبالي بما سيحدث بعدها..

قال جملته تلك، وقفز من السيارة باتجاه ذلك المنزل المهجور أمامه.. منزل ثائر وليد..

أما رامز، فقد أخرج هاتفه بسرعة، ليطلب رقماً محدداً، لكن دهشته كانت عظيمة عندما تعذر عليه إجراء الاتصال، رغم أن هاتفه لا زال في الخدمة، فحاول طلب أرقام أخرى؛ لكن النتيجة كانت نفسها في كل مرة! فهتف بضيق:

– مستحيل! كيف حدث هذا!!

وعندما حاول إرسال رسالة؛ أدرك أخيرا ما حدث مع أمل!!

كان كارم قد اختفى داخل المنزل، ولم يجد رامز بداً من التحرك بسرعة؛ فقفز إلى مقعد القيادة، وهم بإدارة المفتاح الذي تركه كارم خلفه، غير أن يد غليظة- امتدت من نافذته على حين غرة- قامت بإيقافه، فيما أمسكت يد أخرى بمسدس مصوّب إلى صدغه، ليسمع بعدها صوتاً يهمس في أذنه بقسوة:

– أنتَ مدعوٌ إلى حفلتنا أيضاً..

**

كانت صحة سوسن قد تحسنت بشكل ملحوظ، منذ مجيء أمل، لا سيما وأن معنوياتها ارتفعت بوجودها إلى جانبها في هذه الغرفة، بعد تلك الأيام المظلمة في القبو، حيث لم تر أحداً غير أولئك الرجال! والأهم من هذا كله؛ أن أمل ساعدتها على معرفة الأوقات، كما أرشدتها إلى اتجاه القبلة!

ابتسمت لها أمل، وهي تهم بمغادرة الغرفة:

– الوقت أصبح متأخراً الآن، لذا حاولي النوم، فهذا أفضل لصحتك..

فبادلتها سوسن الابتسام:

– سأحاول، ولكنني نمتُ كثيراً اليوم، حتى لم أعد أشعر برغبة في المزيد..

ثم استطردت قائلة بامتنان شدسد:

– شكرا جزيلاً لك يا أمل، إنني حقاً مدينة لك بالكثير، ولا أعرف كيف أشكرك أو أوفيك حقك.. جزاك الله خيرا..

فغمزتها أمل باسمة- لتواري حرجها من هذا الاطراء:

– بل الشكر لذلك الشاب الذي فعل المستحيل من أجلك..

فحملقت فيها سوسن بتعجب:

– أي شاب!!

فأفلتت من أمل ضحكة خافتة، وهي تقول:

– ربما لا يزال من المبكر الافصاح عن ذلك، فستكتشفينه بنفسك يوماً ما..

وبلا تردد، سألتها سوسن باهتمام:

– هل هو أيهم؟

فصمتت أمل قليلاً، وهي تستذكر ما دار بينها وبين رامز من حديث حول حياة سوسن، فراوغت إجابتها قائلة:

– ألم تفسخي خطوبتك منه بنفسك؟

فأطرقت سوسن بألم:

– أجل هذا صحيح.. ولكن ليس لأني لا أحبه، لم يكن هناك خيار آخر أمامي..

وهمت أمل بسؤالها عن ذلك أكثر، غير أن سوسن ألحّت عليها بالسؤال مرة أخرى:

– أرجوك أخبريني.. هل هو ذلك الشاب الذي تتحدثين عنه حقاً؟ أليس أيهم هو من أخبرك بما حدث بيننا، وطلب منك مساعدتي؟

وأمام لهفة سوسن، شعرت أمل برغبة شديدة في تجاهل إجابتها، فقد يكون هذا أفضل من إصابتها بخيبة أمل! غير أن صمتها ذاك؛ كان كافياً لسوسن حتى تعرف الإجابة المريرة، فتنهدت قائلة:

– لا بأس، لقد فهمت.. لا داعي لإزعاج نفسك، فلم يعد هذا يهمني كثيراً..

فأسرعت أمل ترد عليها بابتهاج:

– لعله خير، فأنتِ لا تعرفين ما تخبئه لك الحياة، وقد يكون هناك حب أكبر بانتظارك يا عزيزتي..

وقبل أن تضيف أمل كلمة أخرى، سمعت صوتاً مريباً أفزعها؛ فأسرعت خارجة من الغرفة، دون أن تقفل الباب بعدها، كما كانت تفعل، بناء على وصية ذلك الشاب!

هرعت نحو الدرج المؤدي للبهو السفلي، حيث انبعثت أصواتٌ مختلفة، اختلط بعضها ببعض لتشكل مزيجاً غريباً، لم تألفه في هذا المنزل، منذ أن جاءت إليه! ولم تكد تطل من السلم المؤدي إلى الصالة السفلية؛ حتى راعها ما رأت، فكتمت صرخة فزع كادت أن تفلت منها، فيما أخذت الصور تتلاحق أمامها، وهي تسترجع ما حدث معها، منذ أن تركت رامز..

فما أن وصلت إلى العنوان المطلوب، وتأكدت من رقم المنزل في شارع صلاح الدين، حتى هالها مشهد المنزل الفارِه، الذي يحمل الرقم (20)، كان البستاني يعمل في الحديقة بجد، يسقي الزرع ويقلع الحشائش، ولم يبدُ على المكان ما يثير الريبة أبداً، فنزلت أمل من السيارة بعد أن نقدت سائقها أجرته، واتجهت مباشرة نحو البوابة.. وبعد أن القت التحية؛ أقبل نحوها البستاني الحارس:

– هل من خدمة يا آنسة؟

فأجابته أمل، وهي تحمل حقيبتها التي تشير إلى طبيعة مهنتها:

– أنا الممرضة أمل، ولدي مقابلة مع السيد ثائر، بخصوص ابنته..

فرمقها البستاني بنظرات استنكار، قبل أن يجيبها:

– لا شك أنك أخطأتِ العنوان يا آنسة..

ورغم توقع أمل لهذه الاجابة، إلا أنها تظاهرت بالدهشة، التي لم تكن مصطنعة بالكامل:

– أليس هذا هو المنزل ذو الرقم عشرين، في شارع صلاح الدين من الحي الشرقي؟

فأومأ البستاني رأسه إيجاباً، لكنه قال:

– أجل إنه هو، ولكن ربما هناك خطأ..

وقبل أن يضيف أي منهما كلمة أخرى، رن هاتف أمل فأسرعت تجيبه، وهي تتعمد رفع صوتها أمام البستاني كي يسمعها:

– إنني أمام المنزل مباشرة، ولكن يبدو أن هناك خطأ ما، ألم ترسل لي في العنوان أن رقم المنزل عشرين؟

لكنها صمتت قليلاً، إذ بدا أن المتصل قاطعها، قبل أن تقول:

– تقصد أنه المنزل الثاني؟ عذرا لم انتبه للرسالة الأخرى..

وما أن أغلقت الخط، حتى التفتت نحو البستاني موضحة:

– عذرا للازعاج، قال بأن الصفر أضيف إلى الرقم بشكل خاطيء..

وهمت بأن تسأل البستاني عن موقع المنزل الثاني، لكن شاب أطل بسيارته؛ قاطعهما قائلاً:

– أرجو المعذرة، هل أنتِ الممرضة أمل؟

فالتفتت أمل نحوه، فإذا به شاب أنيق، بدا في أواخر العشرين من عمره، حياهما مبتسما ومعتذراً في الوقت نفسه، فرد عليه البستاني التحية بابتسامة مماثلة، قبل أن يستأنف عمله:

– وعليكم السلام، لا بأس لا بأس.. حصل خير..

أما أمل، التي بدت مشدوهة برؤية هذا المشهد، والذي بدا طبيعياً أكثر من المتوقع، فقد انتبهت أنها لم تجب الشاب عن سؤاله بعد- والذي كان لا يزال ينظر إليها بتساؤل- فارتبكت قائلة:

– أجل.. أنا الممرضة أمل..

فعرض عليها الشاب الصعود إلى السيارة، وهو يشير بيده إلى الجهة اليمنى، موضحاً:

– المنزل في آخر هذا الشارع، فهل تمانعين في الركوب، أم تفضلين الذهاب مشياً؟

بدا التردد على أمل قليلاً، إذ لم تتوقع شيئاً كهذا، فهل عليها الذهاب مشياً مما قد يفضح قلقها وتوجسها، أم تصعد إلى السيارة؟

وأمام ترددها ذاك، أخذ الشاب زمام المبادرة، وهو يتحرك بسيارته نحو الاتجاه الذي أشار إليه، قائلاً لها بتفهم:

– لا بأس سأسبقك نحو المنزل، فالمسافة ليست بعيدة، وشكرا لمجيئك..

ما أن تحركت السيارة، حتى أخذت أمل تحث الخطا في ذلك الاتجاه، وهي تحاول التركيز فيما عليها فعله، خاصة وقد شعرت بارتياح عجيب نحو ذلك الشاب، الذي بدى لها مألوفاً نوعاً ما! وهمّت بالاتصال برامز، لكنها خشيت أن تكون تحت المراقبة، فلم تكن من النوع الذي يتخلى عن شكوكه بسهولة، ثم تذكرت ما أخبرها به الشاب عن الرسالة التي ورد فيها تصحيح الرقم، وشعرت برغبة شديدة في التأكد منها، إذ أنها لم تسمع منبه الرسائل، ولكنها آثرت تجاهل ذلك حتى لا تثير أدنى شبهة، كما أنها لم تعد واثقة؛ إن ما كان هؤلاء هم المختطفون حقاً أم لا!

كانت البيوت تصطف على جانبي الشارع، مما أعطى أمل شعور مضاعف بالأمان، والشك في الوقت ذاته، فيما كانت سيارة ذلك الشاب تلوح أمامها وهي تسير ببطء، حتى توقفت أمام مرأب أحد البيوت، فأدركت أمل أنه البيت المطلوب، وعندما شعرت بأن الشاب لا يمكنه رؤيتها من مرآة السيارة؛ أدخلت يدها في حقيبتها، وطبعت رسالة سريعة على هاتفها لرامز، تخبره فيه عن تغيير رقم المنزل، بكلمات موجزة:

“رقم المنزل 2”

ثم أرسلت الرسالة، دون أن تدري أنها لن تصل أبداً!

فكيف تم خداعها بعد ذلك، وهي التي احتاطت لكل شيء!!

بدا المنزل مهجوراً، على خلاف بقية المنازل المجاورة، لا سيما مع وجود تلك السلسلة الحديدية الضخمة، المربوطة بقفل محكم، حول بوابته الرئيسة، المؤدية لحديقة مزروعة بأشجار عملاقة، تُخفي ما خلفها، مما أصابها بالهلع في البداية، إلا أنه عرف كيف يكسب ثقتها، فتغدى بها قبل أن تتعشى به! كان آخر ما تتوقعه؛ أن يصارحها بتلك الحقيقة قبل دخولهما إلى المنزل- عبر باب جانبي مخفي تحت نباتات متسلقة، نمت حوله بعشوائية، ذكرتها بقصة “الجميلة النائمة”- وهو يهمس لها قائلاً:

– اسمعيني ايتها الممرضة، فلن أخفي عنك شيئاً، لقد تعمدتُ أن أخطيء في كتابة رقم المنزل، حتى تكون أمامي فرصة للحديث معك على انفراد، فهناك فتاة مختطفة في الداخل، ولكنني تمكنتُ من مراوغة المختطفين واقناعهم بأنني إلى جانبهم، حتى أتمكن من انقاذ الفتاة، وهي الان مريضة، فأقنعتُهم مرة أخرى بأن علينا احضار ممرضة قبل أن يسوء وضع الفتاة ونتورط أكثر! هذه هي الحقيقة يا آنسة، وأرجو أن لا يزعجك هذا، فقد كنتُ بحاجة لمن يساعدني.. ولا تقلقي فسأكون إلى جانبك دائماً، ولكن عليك التظاهر بأنك لا تعرفين شيئاً مما حدث، وكوني حذرة.. فالمختطفين يراقبون المنزل جيداً، وسأخبرك بتفاصيل ما عليك فعله، فنحن بحاجة لخطة محكمة، حتى نتمكن من النجاة، وإنقاذ الفتاة في الوقت نفسه..

لقد نجح في كسب ثقتها تماماً، حتى يضمن أن لا تقوم بحركة تفسد مخططاته، ولم يخطر ببالها أنه كشفها قبل أن تكشفه!

حتى عندما تصدر عنه تصرفات مريبة، كانت تعزو ذلك إلى حقيقة كونه واقع بحب الفتاة، كما أوهمها، أو أنها هي من أوهمت نفسها بذلك!

أخذت أمل تعض على شفتها غيظاً لهذا الطعم الذي ابتلعته بسهولة، وهي تحدث نفسها بغضب:

– ذلك الوغد!! لقد ظننته مجرد شاب أحبها، فإذا به سيد المختطفين، وأساس البلاء كله!! لن أسامحه على جعلي أضحوكة هكذا، بل وجعلني أرفع آمال سوسن بلا طائل! لن أسامحه أبداً.. لن أسامحه..

كان المشهد أمامها لا يزال كما هو، وكأن جميع تلك الصور قد مرت في ذهنها بطرفة عين!

ولأول مرة؛ سمعت أمل نبرة مختلفة من ذلك الشاب- الذي اعتادت على لطفه، منذ أن قابلته- وهو يوجه حديثه لكارم ورامز، الذين أحكم وثاقهما، وقد أحاط بهما أربعة رجال أشداء ملثمين:

– أظن أن الجولة قد شارفت على الانتهاء، فلا تحاول مراوغتي..

غير أن كارم رد عليه مؤكداً:

– قلت لك بأنني سأفعل ما تريده، فقد كنت أنتظر هذه اللحظة للحديث معك وجها لوجه، ولم أكن امتلك الطريقة لتحقيق ذلك! أما وإنني هنا أمامك، فيمكنك أن تفعل بي ما تشاء، ولكن لا تتعرض لأحد غيري.. فدع هذا الشاب وشأنه، فلا علاقة له بما حدث بيننا، وأعد ابنتي إلى أمها على الأقل..

فما كان من الشاب إلا أن قال بسخرية:

– لا تظن بأنك قادر على خداعي بكلامك هذا، فالغادر لا أمان له..

فطأطأ كارم رأسه، قائلاً:

– فارس.. هذا يكفي يا بني.. قلت لك…

غير أن فارس قاطعه بغضب:

– لا يحق لك أن تخاطبني بهذه الطريقة بعد كل ما فعلته! لقد وثق أبي بك، ووثقتُ بك لثقة أبي، ولكنك تخليتَ عن هذا كله بسهولة، لأجل مصالحك الخاصة..

عندها تدخل رامز الذي كان صامتاً طوال الوقت، وهو يرمق فارس بنظرات عميقة:

– قد يكون هذا الرجل خصمنا نحن الاثنين يا أخي، ولكن إذا كان والدنا نفسه قد تخلى عن بعض أبنائه الذين من صلبه، لأجل مصالحه الخاصة أيضاً؛ فلا يمكنك عندها لوم هذا الرجل!

وشدد رامز على الحروف لتظهر بشكل واضح، وهو يتابع:

– أفهمتَ ما أعنيه.. يا أخي الأصغر؟

كان كارم قد التفت نحوه بغير تصديق وقد ألجمته الصدمة؛ فيما حملق فارس فيه للحظة، كمن انتبه لوجوده فجأة، قبل أن يرد عليه باستنكار:

– ما هذا الذي تهذي به يا هذا! فلم يكن لي إخوة أبداً..

فرد رامز بسرعة:

– وكيف ستعرف عن شيء حدث قبل مولدك، بل وقبل زواج والدتك؟

غير أن فارس أجابه بتحد واضح:

– لا يهمني أن أعرف عن أي هراء تتحدث؛ فلن أدع أي شيء يشتت انتباهي عن هدفي الذي عشتُ لأجله طوال السنين الماضية!

كانت أمل لا تزال تراقب المشهد من الأعلى بصمت، وهي تحاول إيجاد طريقة تُخرج بها الجميع من هذا المأزق؛ عندما سمعت شهقة سوسن من خلفها، وهي تهتف:

– أبي!!

ولم تكد تنطق بهذه الكلمة؛ حتى هرعت نحو الأسفل، غير مبالية بما يدور حولها، فيما اتجهت الأنظار نحوها وسط دهشة عارمة، فدمعت عينا كارم وهم بالجري نحوها هو الآخر- لولا أن قيوده منعته- هاتفاً بفرح:

– سوسن.. ابنتي.. الحمد لله أنك بخير يا حبيبتي..

غير أن أحد الرجال- وكان الأسرع حركة- اتجه نحو سوسن ليوقفها، فما كان من فارس إلا أن صرخ به بحدة:

– دعها يا هادر!

وأمام تعجب الجميع؛ استأنف فارس كلامه لرجاله موضحاً:

– لم نعد بحاجة لها بعد الآن، فقد انتهت اللعبة..

ولم يكد يتم جملته؛ حتى كانت سوسن تعانق أبيها، وهي تبكي بحرقة، حتى إذا ما هدأت قليلاً، التفت كارم نحو فارس، قائلاً:

– لقد وعدتك بأنني لن أقاومك بعد الآن، ولن أخلف وعدي معك.. ولكن.. اسمح لي بطلب أخير.. أرجوك.. دعني أخبر ابنتي بما حدث، فهذا أقل ما يمكنني فعله من أجلها، في الوقت الحالي.. وعُدّ هذا اعترافاً آخر مني، يمكنك تسجيله!

وأمام صمت فارس، الذي أشاح بوجهه بعيداً عن نظرات سوسن المسددة نحوه؛ تحدث كارم كمن يستعيد ذكريات قديمة، يقصها على ابنته قبل النوم:

– كانت بلادنا تعاني من أزمات اقتصادية كبيرة، عندما مرض الملك أحمد الثالث، وخرج للعلاج بصحبة عدد من أفراد أسرته، بما فيهم ولي عهده “عبد المجيد”، الذي كان لا يزال في السادسة عشر من عمره، مما جعل رئيس الوزراء “أسعد محمود” يتولى مهمة قيادة البلاد الفعلية، بصفته نائباً للملك في تلك الفترة. ولأن البلاد كانت إحدى دول مجلس اتحاد الحلفاء- الذي يضم عدداً من الدول العربية المتجاورة- فقد كان لا بد للمجلس من المساهمة في تخفيف تلك الأزمة، وتقديم المساعدة لنا؛ بحسب نصوص الوثيقة الموقّعة من جميع الدول الحلفاء، غير أن اتهامات سرية، كانت قد وجّهت للملك أحمد الثالث، من قِبَل المجلس؛ حالت دون تقديم تلك المساعدات لبلادنا، بحجة خيانة ملكنا لمجلس الاتحاد، وتسريبه معلومات هامة، لدول أعداء! ومما زاد الوضع سوءا، هو موت الملك في الخارج، في حين كانت البلاد على وشك الانهيار! فلم يجد رئيس الوزراء آنذاك بداً من تسوية الخلاف مع مجلس اتحاد الحلفاء بنفسه، غير أن المشكلة كانت أعقد مما تصور! ولأن البلاد كانت بحاجة ماسة لدعم المجلس في تلك الفترة الحرجة؛ فقد أسرع بعقد جلسة وزارية مغلقة، ضمّت وزراء البلاد آنذاك، اقترح فيها إعلان براءة البلاد من الملك أحمد الثالث، وسحب الاعتراف به كملك سابق لها، غير أن بعض الوزراء اعترض على هذا القرار، بصفته يمس سيادة البلاد وكرامتها، كما أنه سيثبت التهمة على الملك دون محاكمة عادلة، أو دليل قاطع!

وصمت كارم قليلاً قبل أن يتابع بنبرة ألم واضحة:

– لم يكن الوقت في صالحنا، خاصة وقد بدأت الأطماع الخارجية تتجه نحونا، وكان الأفضل لنا هو الاسراع في تسوية الامور مع مجلس اتحاد الحلفاء، فعلى الأقل.. هناك اتفاقات واضحة تضمن لنا حقوقنا، غير أن رئيس الوزراء لم يكن يستطيع المضي في هذا الطريق، مع وجود معارضة قوية لقراره من بعض الوزراء، لا سيما وأن من بينهم ثلاثة وزراء؛ هم الأكثر تأثيراً وقوة، وقد يؤثرون بآرائهم على الغالبية؛ فكان لا بد من إزاحتهم عن الطريق!!

وصمت كارم، قبل أن يستأنف:

– كنتُ وزير الاقتصاد في تلك الفترة، وكنت أرزخ تحت ضغط كبير أكثر من أي شخص آخر، لا سيما وأن أكبر مشاكل البلاد في ذلك الوقت؛ كانت اقتصادية، ويهمني أكثر من الجميع؛ الوصول إلى تسوية سريعة مع مجلس اتحاد الحلفاء، للحصول على دعم ينقذ اقتصاد البلاد.. ولأنني كنت الأقرب إلى اولئك الوزراء الثلاثة، إذ كانت بيننا علاقات قديمة، قبل أن تجمعنا الوزارة؛ حيث كنا نقيم في الحي نفسه- الحي الشرقي، شارع صلاح الدين، والذي عُرف أيضا في تلك الفترة باسم شارع الوزراء- فقد حاولتُ اقناعهم بضرورة الموافقة على قرار رئيس الوزراء، والتخلي عن عنادهم من أجل مصلحة البلاد، غيرَ أنني لم أجنِ من ذلك سوى عداوتهم والاتهام بالضعف.. عندها.. اتخذتُ قراري…

ودمعت عينا كارم، وبدا غير قادر على اتمام الحديث، فيما أخذت دموع سوسن تسيل بغزارة على خديها بصمت، وهي تستمع لاعترافات والدها، التي ماكانت تخطر لها ببال، فقال فارس بحدة، كمن خشي أن ينجرف مع التيار:

– لا أظنك شعرتَ بالندم وقتها، وأنتَ تلفق تهم فساد واختلاس وخيانة لألئك الرجال الثلاثة؛ زوراً وبهتانا، حتى تبعدهم عن الطريق، من أجل تحقيق أهدافك الخاصة..

حاول كارم الدفاع عن نفسه، قائلاً:

– حتى وإن لم تصدقني، فلم يكن هذا في نيتي أبداً، لقد كانت مصلحة البلاد…

فقاطعه فارس بحدة:

– إن كانت مصلحة البلاد تهمك إلى هذه الدرجة، وما زلتَ مستعد للتضحية بالبعض من أجل الكل؛ فعليك أن تكون مديناً لي، لأنني سأمنحك فرصة التضحية بنفسك، من أجل انقاذ البلاد، ووضع حد للشائعات والفتن التي تنهشها الآن!

وتابع بثقة:

– بل وإعادة الأمور إلى نصابها أيضاً.. فالأمير “عبد المجيد”، أو بالأصح، جلالة الملك “عبد المجيد” الملك الشرعي لهذه البلاد؛ لن يبقى صامتاً للأبد!

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

Tags: No tags

إضافة تعليق

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني *الحقول المشار لها بنجمة هي حقول إلزامية