كان الوقت لا يزال باكراً في تلك المدينة- وراء البحار- عندما طلب عامر أحد الأرقام على هاتفه، وهو يقف إلى جانب بوابة المستشفى من الخارج. أخذ ينتظر الرد وهو يعاين ساعة معصمه، وما هي إلا لحظات؛ حتى سمع إلقاء التحية من الجانب الآخر، فأجاب بلهفة:
– وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، كيف حالك أمي؟ لم أسمع صوتك منذ يومين.. لا أدري كيف مر الوقت بسرعة! فقد كان عليّ الكثير من الأمور لإنجازها، ولم أكن أعود للمنزل إلا في وقت متأخر!!
فجاءه صوتها الحاني:
– رضي الله عنك يا بني، حاول أن لا تجهد نفسك.. ثم ما قصة هذه الحوالة! المبلغ كبير جداً وأنتَ لا زلتَ في البداية! كان الأولى أن تحتفظ به لإدارة شؤونك أنت وزوجتك في بلاد الغربة، ونحن كما تعلم لسنا بحاجة بفضل الله!
فرد عليها عامر:
– سامحك الله يا أمي لا تقولي هذا، فهذه مجرد هدية بسيطة، من أول دفعة حصلتُ عليها من المستشفى، فهذا هو نظام التعاقد هنا مع الأطباء الجدد! أفلا تريدين مشاركتي الفرحة، مع حصولي على البركة والأجر!
فشعر بتبسم أمه وهي تجيبه:
– حسناً حسناً هدية مقبولة أسعدك الله وبارك فيك، ولكن انتبه لنفسك جيداً، فقد سمعتُ قبل فترة عن شخص أصيب بنوبة قلبية من شدة الإجهاد في العمل، وأسال الله أن يبعد عنك الشر..
فطمأنها عامر:
– لا تقلقي أرجوك، فلستُ من هذا النوع، صحيح أن الأيام الأولى كانت متعبة، ولكن سرعان ما سيستقر الوضع، وتنتظم ساعات العمل وأيام الإجازة، بإذن الله..
فسألته أمه باهتمام:
– وماذا عن الطعام؟ أرجو أنكم تأكلون جيدا..
فلم يستطع عامر تمالك نفسه من الضحك:
– لا تقلقي من هذه الناحية، فنحن لن نموت من الجوع هنا، بالأمس ذهبت نور للتسوق، وصنعت لنا دجاج محشي مع خضراوات متنوعة، والثلاجة ممتلئة والحمد لله..
فاستدركت أمه بقلق:
– هل تركت نور تذهب لوحدها؟ وماذا عنك أنت؟؟ لماذا لا تذهب معها؟ ماذا لو تعرضت للسوء في بلاد الغربة، وأنتم لا تعرفون أحد هناك؟
فأسرع عامر يوضح لها الأمر:
– كما قلتُ لك يا أمي كنتُ منشغلاً جداً، كما أن المتجر على بعد خطوتين من المنزل، والمدينة آمنة بفضل الله، والناس يتحركون بحرية، لهذا لم أعارضها عندما اقترحت الذهاب للتسوق وحدها..
عندها سألته أمه:
– قلتَ أنها صنعت دجاج محشي، هل تأكدتم من أنه حلال؟
فضحك عامر:
– لا تقلقي أيضاً بشأن هذا، فأنتِ تعرفين نور!
فقالت أمه:
– رضي الله عنكم وبارك فيكم وحفظكم من كل سوء..
فردد عامر:
– آمين.. جزاك الله خيرا أمي الحبيبة..
ثم استدرك قائلاً:
– كيف حال أبي؟ لم اسمع صوته منذ مدة، هل هو قربك؟ فاليوم عندكم عطلة..
فأجابته أمه:
– كالعادة مشغول بمناقشة الأخبار والسياسة التي لا تنتهي، وقبل قليل جاء أبو راشد، وها هما الاثنان في الصالة، يناقشون آخر أخبار الوزارة والانتخابات، وكأنهم سيحلون مشكلة الكرة الأرضية!
فابتسم عامر بتفهم:
– أجل صحيح.. فهذه فترة إعلان رئيس الوزراء الجديد، بالمناسبة من فاز في النهاية؟
فجاءه صوت أمه بتبرّم:
– وكأن هذا سيشكل فارقاً كبيراً! رئيس جاء ورئيس ذهب، والبلد كما هي! الاقتصاد متأزّم، وأوضاع البلاد حرجة، والناس منشغلون بالشائعات حول سبب تغيب رئيس الوزراء عن خطابه!!
هم عامر بالاستفسار منها أكثر عن ذلك، ولكنه قرر تأجيل هذا، إلى الوقت الذي يتحدث فيه مع والده، فاكتفى بقوله:
– هذه حال الدنيا والله المستعان..
فأضافت أمه:
– لو أن كل شخص انشغل بأموره، وأدى واجباته على أكمل وجه، لصلح الحال، لذلك ركز على أولوياتك يا بني، وكن متوازناً، ولا تجعل عملك يشغلك عن بيتك وزوجتك، خاصة وأن نور لا تزال شابة، وأنت بالنسبة لها كل شيء في تلك البلاد الغريبة..
لم تكد أمه تنطق بتلك الجملة، حتى تسارعت نبضات قلبه بشكل أدهشه، فيما سمع ضحكات أمه على الجانب الآخر:
– الحب في القلب وحده لا يكفي يا بني، فالزوجة بحاجة لاهتمام زوجها بشكل عملي أيضاً!
وإذ ذاك شعر عامر بوخزٍ في قلبه، هل تراه قصّر في شيء مع نور؟ فهي لم تبدو على طبيعتها هذا الصباح، لكن صوت أمه قطع عليه أفكاره:
– عامر.. هل تسمعني؟
فأجابها بسرعة:
– أجل أجل.. أسمعك يا أمي..
ثم استدرك بقلق:
– هل قالت لك نور شيئاً؟
فردت أمه بارتياب:
– كلا لم تخبرني بأي شيء، ولكن لماذا تسأل! هل حدث شيء بينكما؟
فأسرع عامر يجيبها بالنفي:
– لا.. لا.. لم يحدث أي شيء ولله الحمد، لذلك تفاجأت من كلامك..
فضحكت أمه:
– لا تجعل فكرك يذهب بعيداً، كل ما في الأمر أنني أعرف ابني عندما ينشغل بعمله، فأحببتُ تذكيرك..
فتنهد عامر بارتياح:
– جزاك الله خيراً لتوجيهاتك القيمة، بالتأكيد.. سأذكر هذا دائماً إن شاء الله..
فجاءه سيل من دعواتها الطيبة، قبل أن تقول:
– أظن أن دوامك بدأ الآن، لا أريد تأخيرك أكثر..
فطمأنها بقوله:
– لا تزال هناك عشر دقائق، وأنا أمام بوابة المستشفى فلا تقلقي.. أبلغي سلامي لوالدي، وإن شاء الله سأحاول الاتصال به في وقت لاحق..
فسمع صوتها وهي تهم بإنهاء الاتصال:
– وفقك الله يا بني وأخذ بيدك لكل خير، انتبه لنفسك جيداً، والله معك..
فرد عامر:
– وأنتِ أيضاً.. انتبهي لنفسك جيداً يا غالية.. في أمان الله..
لم يكد عامر ينهي اتصاله، ويدخل المستشفى؛ حتى فاجأه سائد من خلفه، وهو يسند يده على كتفه، أثناء سيرهما باتجاه قاعة الاجتماعات، ممازحاً:
– ماذا لدينا أيها الشاب مع هذا الصباح!! أهي حبيبتك؟
كان عامر قد اعتاد مزاح سائد، رغم قصر المدة التي قابله فيها، فأجابه بابتسامة واثقة:
– أجل.. إنها أمي الحبيبة!!
فما كان من سائد إلا أن أطلق صافرة طويلة، قبل أن يتساءل باهتمام:
– أأنت جاد؟
فرد عليه عامر:
– وهل تراني أمتهن المزاح مثلك!
غير أن سائد قال بنبرة جادة هذه المرة:
– حسناً لم أكن أنوي مراقبتك أو الاستماع لحديثك، ولكنك كنت تتحدث أمام المشفى، فرأيتك وأنا أنزل من السيارة.. لم أتوقع أنها أمك!! هل أنت معتاد على الحديث معها هكذا؟
فأجابه عامر بسؤال آخر:
– وهل من الغريب أن يحادث الرجل أمه! من الطبيعي أنني سأفعل ذلك ما دمتُ لا أستطيع زيارتها وأنا في هذه البلاد!
فشهق سائد:
– وهل كنتَ ملزماً بزيارتها باستمرار وأنت في بلادك!
فرد عليه عامر بود:
– بالنسبة لي.. لا أرى الأمر إلزاماً؛ بقدر كونه محبة ووفاء، بل إنني بحاجة لذلك أكثر منها!! إنها أمي قبل أي شيء!
فتنهد سائد:
– لا أدري.. ولكن هذا لا يبدو طبيعياً بالنسبة لي!!
كان الاثنان قد وصلا إلى قاعة غرفة الاجتماعات الصباحية، حيث اجتمع الأطباء والاستشاريون لمناقشة الحالات، فالتفت عامر نحو سائد قبل أن ينهيا الحديث، قائلاً بود:
– يا أخي.. إذا لم يكن فينا خير لأمهاتنا، فأي خير سيبقى بعد ذلك!
**
أخذ رامز يذرع شقته جيئة وذهاباً بتوتر واضح، وهو يحمل هاتقه بين يديه، معاوداً الاتصال من جديد، فلم يسمع سوى صوت المجيب الآلي يكرر جملته المعهودة:
“الرقم المطلوب لا يمكن الاتصال به الآن، يرجى المحاولة في وقت لاحق”
فزفر بضيق:
– ما كان عليّ السماح لها بالذهاب، وموافقتها على تنفيذ هذا الهراء!!
وأخذ يسترجع ما أخبرته به أمل عن ذلك الاتصال:
– إنني متأكدة بنسبة كبيرة أن هذا له علاقة بسوسن! الاتصال هذه المرة مختلف! علينا اغتنام الفرصة حالاً..
فأجابها بتوجس:
– وما الذي جعلك متأكدة هكذا؟ ثم ما قصة هذا الاعلان الذي تتحدثين عنه؟
فما كان منها إلا أن أطلقت ضحكة مجلجلة، قبل أن تقول بتهكم:
– يا لنباهتك المدهشة أيها المحقق العظيم، توقعتك أذكى من ذلك!
فتجاهل رامز سخريتها قائلاً:
– إذا كنتِ تظنين أن المختطفين سيصدقون إعلاناً مكشوفاً كإعلانك، ويخاطرون بأنفسهم من أجل جلب ممرضة غريبة؛ لضمان صحة رهينتهم، فأنتِ بلا شك، تبالغين في أحلامك!
فزمت أمل شفتيها:
– وهل أتيتَ أنت بفكرة أفضل؟ الأيام تجري دون أن يلوح لك طرف أي خيط، لتمسك به! فإلى متى ستنتظر! لا بد لنا من خلق الفرص بأنفسنا، وليس ترقبها وحسب! ولا تنسَ أن فتاة ثرية ومدللة؛ سينهار جسدها بسهولة إثر أي ضغط، ولن يحتمل البقاء طوال تلك المدة دون رعاية! وهذا بلا شك سيسبب لهم حرج كبير، فحياة الرهينة هامة جدا للمختطفين!
فقال رامز متحدثاً بأسلوبها:
– وبالطبع في تلك الحالة، لن يجدوا أفضل من ممرضة بائسة مستعدة للعمل مقابل المأكل والمسكن، وبعض المال، أليس كذلك؟
فضحكت أمل:
– الآن بدأ عقلك يعمل بشكل جيد..
لكنه استوقفها بنبرة جادة:
– أمل، دعينا نتحدث بجدية أكبر، حتى لو افترضنا أن هذا الاحتمال الخيالي صحيح، هل تتوقعين منهم أن يطلبوا منك المجيء لرعاية شابة مشهورة، دون الخوف من افتضاح أمرهم؟
فردت عليه أمل:
– ومن قال لك أنهم لم يأخذوا كافة الاحتياطات؟ ألم أخبرك عن الطريقة التي تحدث بها الرجل في اتصاله؟
فعلق رامز:
– تقصدين أنك كنتِ محنكة أكثر من المُتصل، رغم كل احتياطاته، ثم تمكنتِ من اكتشاف أنه هو الفريسة المطلوبة، من بين جميع الاتصالات التي وصلتك سابقاً!
فلوحت أمل بيدها في الهواء، بإشارة على لا مبالاتها بتعليقه:
– أنتَ تستخف بقدراتي وخبرتي في مجال التمريض المنزلي كثيراً! يمكنني الجزم بأنني أكاد أحفظ طرق الزبائن كلها، ويمكنني تمييز الاتصال المطلوب من خلال طرح القليل من الأسئلة فقط! كما أنها المرة الأولى التي يُطلب فيها مني إرسال صور لأوراقي التي تثبت عملي في مجال التمريض وخبرتي فيه، على رقم الهاتف! ولو افترضنا جدلاً أن ذلك الاتصال لا علاقة له بسوسن، فيمكنني اكتشاف ذلك بسهولة عندما أذهب لتوقيع العقد معهم، وعندها سأجد أي ذريعة للاعتذار والتملص منهم! المهم أن نبدأ بالتحرك..
فهز رامز رأسه بتفهم:
– حسناً.. ألم تقولي بأنك تشكين بوجودهم في الشوارع الشمالية الغربية، حيث وجد أستاذ الرسم تلك البطاقة؟
أومأت أمل برأسها إيجاباً:
– هذا صحيح، ولو أخبرني الرجل بأن موقع منزلهم في تلك المنطقة؛ لتأكدتُ من نظريتي أكثر، ولكن كما قلتُ لك، لا شك أنهم اتخذوا كافة الاحتياطات، ومن بينها تغيير موقعهم، ثم إن عثور الاستاذ على البطاقة هناك؛ لا يعني بالضرورة أنهم احتجزوها في تلك المنطقة!
حل صمت بينهما قبل أن يقول رامز:
– وماذا لو كانوا هم فعلاً المختطفين، ما الذي ستفعلينه عندئذ؟
صمتت أمل للحظة قبل أن تقول:
– سأرسل لك طبعا رسالة بذلك، لتبدأ التحرك من طرفك، لذا سنبقى على اتصال، وفي أسوأ الأحوال يمكنك تتبع مكاني عن طريق الجهات المختصة، حتى ولو كان هاتفي مغلقاً! أنت تعرف هذا، ثم إنك تملك تصريحا يؤهلك لطلب مساعدتهم، لذا لا داعي للقلق..
فزفر رامز بعدم ارتياح:
– تقولون هذا بثقة، وكأنك ستضمنين عدم اعتدائهم عليك، أو تجريدك من أغراضك، بما في ذلك هاتفك..
فردت أمل:
– لا أظنهم حمقى ليفعلوا ذلك! فقد كان الأسهل عليهم والأسلم لهم؛ عدم استدعائي من البداية، بدل إيذائي وحبسي وإضافة عبء جديد عليهم! هم بحاجة إلى ممرضة، وأغلب الظن انهم سيحرصون على كسب ثقتي في البداية على الأقل!
فقال رامز:
– وماذا لو..
لكن أمل قاطعته:
– بدون لو.. لا خيار آخر أمامنا، علينا التحرك بسرعة، لذا سأذهب للمقابلة حالاً، وسأترك لك العنوان، ثم إن الاحتمالات أمامنا واضحة، إما أن يكون هذا العنوان مجرد خدعة- وهذا هو المرجح- خاصة وأن الحي المذكور؛ هو حي سكني معروف، وقد تكون هناك سيارة تنتظرني أمام المنزل، بحجة نقل المريضة لمكان آخر، أو ربما سيارة اسعاف لإيهامي بأننا ذاهبون للمستشفى، في حين يأخذونني إلى مكان الاختطاف، وكما قلت لك، سأرسل لك رسالة بمجرد حدوث ذلك، وأنت تعلم مهارتي في إرسال الرسائل وأنا مغمضة العينين، فلا تقلق من هذه الناحية، كما لا أظنهم يريدون إثارة الشبهات، هذا هو الاحتمال الأول..
والتقطت أنفاسها قبل أن تتابع:
– أو أن يكون هذا العنوان هو مكان الاختطاف فعلاً، رغم أن هذا لا يبدو معقولاً، ولكنه احتمال وارد، عندها سيكون عليك الاستعانة بالجهات المختصة، لمراقبة المنزل والانقضاض على المختطفين في الوقت المناسب، دون إثارة جلبة، فأي خطأ لن يكون في صالحنا أبداً..
فقال رامز:
– وكيف ستذهبين إلى هناك؟
فأجابته أمل وهي تهم بالخروج:
– سأستقل سيارة أجرة بالطبع! هل تراني أمتلك سيارة مثلاً!!
وناولته ورقة خطت عليها بيدها بضع كلمات، غير أن رامز تجاهل الورقة، وأمسكها من كتفها مستوقفاً:
– انتظري سآتي معك..
لكنها قاطعته بصرامة:
– لا نريد إثارة الشبهات، ولا تفكر بإرسال أحد خلفي في الوقت الراهن، وإلا خسرنا الجولة..
قالت جملتها الأخيرة، وهي تضع الورقة على الطاولة، وخرجت..
كان هذا هو آخر عهده بأمل، وها قد مر على ذلك ثلاث ساعات، دون أن يصله منها اتصال، ولا حتى رسالة واحدة! والأدهى من ذلك أن هاتفها خارج التغطية! فهل يبدأ تحركه؟
أعاد قراءة الورقة التي خطتها أمل، للمرة العاشرة:
“الحي الشرقي، شارع صلاح الدين، المنزل رقم 20”
ورغم أنه بحث عن العنوان عبر الشبكة العنكبوتية، دون أن يجد حوله ما يريب- فهو كما قالت أمل؛ حي سكني معروف- إلا أنه على حين غرة، راوده شعور غريب، فوقف مذهولاً لوهلة:
– الحي الشرقي.. شارع صلاح الدين!! لماذا أشعر أن هذا المكان، مألوفاً لدي!!
غير أنه سرعان ما ضرب جبهته بيده، هاتفاً:
– يالي من أحمق! كيف لم أنتبه لهذا من قبل!! إنه ذلك المكان نفسه بلا شك!! الشارع الذي عُرف ذات مرة.. بشارع الوزراء..
**
لم تكن سوسن قد تعافت من الحمى تماماً، رغم أن وجودها في تلك الغرفة المنعّمة؛ أمدها ببعض القوة، خاصة مع تناولها تلك التمرات، التي بدت لها في ذلك الوقت من ثمار الجنة!
غير أن آثار الحمى؛ عاودتها من جديد، فاستلقت على السرير، وتدثرت بالغطاء وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة، كانت منهكة تماماً، وخيّل إليها أنها لن تكون قادرة على الهرب؛ حتى ولو وجدت الأبواب مشرعة أمامها!! فدمعت عيناها:
– يارب.. ارحم ضعفي..
وبينما هي على تلك الحال؛ إذ سمعت صوت قفلٍ يُفتح، ولم تمض سوى لحظات قليلة حتى تلاها صوت طرقٍ خفيف على الباب، لتدلف بعده شابة- ترفع شعرها على شكل ذيل حصان- ترتدي زي الممرضات، وتحمل بيدها صحيفة طعام، حيتها باسمة:
– السلام عليكم.. كيف صحتك الآن يا آنسة؟
وجمت سوسن للحظات، قبل أن ترد السلام، وقد الجمتها الدهشة، هل هي في مشفى؟ ولكن أثاث الغرفة لا يوحي بذلك! وماذا عن هذه الممرضة؟ هل هي ضمن المختطفين أم ماذا!
وأمام صمتها، وضعت الممرضة يدها على جبين سوسن، تتحسسه قبل أن تقول:
– حرارتك ليست مرتفعة كثيراً، ولكنك تحتاجين للراحة، وتناول غذاء مناسب..
ثم ابتسمت قائلة:
– ما رأيك بأخذ حمام دافيء، فقد أحضرتُ لك ملابس جديدة، كما يمكنك خلع حجابك إذا أردتِ، فلا أحد غيرنا في الغرفة..
لم تعرف سوسن بماذا تجبها، فآثرت الصمت، غير أن الممرضة حثتها على الكلام قائلة:
– هل تعانين من خطب ما يا آنسة؟
حملقت سوسن فيها بذهول، دون أن تدري ما تقول، فهل هذه الممرضة تعرف أي شيء عن وضعها الحالي، أم أنها تتظاهر بالبراءة فقط! وإمام إصرار الممرضة:
– هيا يا عزيزتي، أنا هنا من أجلك، وكل ما يهمني هو صحتك..
وأخيراً قررت سوسن التحدث، فهذه فرصتها كما أنها لن تخسر شيئاً:
– عفوا.. ولكن ما الذي يجري هنا وأين أنا؟
فظهرت الدهشة على وجه الممرضة، وهي تجيبها:
– في منزل عمك طبعاً، يبدو أن الحمى أثرت عليك يا آنسة، أرجوك تناولي طعامك حتى تتعافي بسرعة..
بهتت سوسن لما سمعته، إذ لا يوجد أعمام لها!! فوالدها وحيد بين ثلاث أخوات، وهمّت بأن تستوضح الأمر أكثر من الممرضة- بعد أن كادت تشك في نفسها- لكن الممرضة غمزتها، قائلة:
– المهم أن تتعافي بسرعة الآن..
فاطمأنت سوسن قليلاً، بعد أن روادها إحساس بأن الممرضة تسعى لإنقاذها، وإن لم تعرف كيف وصلت إليها!
فيما تابعت الممرضة باسمة:
– اسمي أمل، فلا تنسي أن هناك أمل دائما..
**
لم يخفَ على كارم استشعار القلق في صوت نائب الحاكم العام، وهو يحدثه على هاتفه للمرة الأولى، منذ دخوله غمار الانتخابات:
– سيد كارم، أرجو أن تكون بصحة جيدة، ولكن اعذرني.. فليس من صالحنا تأجيل الخطاب أكثر، أنت تعرف كيف هي وسائل التواصل الآن!! لقد بدأت الشائعات تنتشر بشكل جنوني، وهذا قد يخل بأمن البلاد، وإذا لم نتدارك الوضع بسرعة؛ فلا أدري أي كارثة ستحل بنا!
فحاول كارم طمأنته متظاهراً، بأن الأمور تحت السيطرة:
– لا تقلق يا سيد وائل، فالشائعات موجودة دائماً، ولن تنتهي أبداً مهما فعلنا، هذه طبيعة الناس..
غير أن وائل قال بتوجس:
– أخشى أن الأمر مختلف هذه المرة، وكأن هناك يد تحركه في الخفاء..
انقبض صدر كارم، وقد خشى أن يكون لذلك علاقة بابنته، فهو حتى هذه اللحظة آثر أن يبقى اختفاؤها طي الكتمان، فسأله باهتمام:
– وما هي طبيعة هذه الشائعات، فلا شك أن هناك رابط يجمعها..
فسمع زفرة حادة، صدرت عن النائب قبل أن يقول:
– لا أدري ماذا أقول لك.. لقد تم نبش قضية قديمة حدثت قبل عشرين سنة!
أسقط في يد كارم، وشعر بأنه محاصر من جميع الجهات، فما أن أنهى حديثه مع وائل، حتى أضاءت شاشة هاتفه رسالة، دون أن يظهر رقم المرسل:
“غدا ستكون المهلة الأخيرة لك للإدلاء باعترافك أمام الجميع، إن كان يهمك أمر ابنتك، ولا تلم إلا نفسك بعدها..”
حزم كارم أمره أخيراً، وهو يقول لزوجته:
– ها هم قد استأنفوا التحرك من جديد، على الأقل يمكننا الاطمئنان إلى أن سوسن بخير حتى هذه اللحظة، ولكن لا مفر من الأمر..
فقالت بهية بتوسل:
– لا يزال الوقت باكراً على الاستسلام، لماذا لا تتصل بالمحقق، وتتابع عمله بنفسك، فقد تكون لديه طريقة للتوصل إليهم من خلال هذه الرسائل.. فما دمنا قد وصلنا إلى هذا الحد؛ لم يعد لدينا ما نخشى عليه بعد الآن..
وقبل أن يهم كارم بمهاتفة المحقق، رن هاتفه، ليسمع صوت رامز على الجهة الأخرى يحدثه:
– عفواً سيد كارم لتأخري بالنتائج، ولكن هل لك أن تخبرني بما حدث قبل عشرين سنة، بخصوص قضية وزير خارجية سابق، يُدعى ثائر وليد؟
وأمام صمت كارم، استأنف رامز كلامه موضحاً:
– قد لا يحق لي توجيه الأسئلة لك بهذا الشكل يا سيدي، ولكن للضرورة أحكام، فهذا له علاقة باختطاف ابنتك، وقد وكلتني بحل قضيتها، لذا أرجو منك التعاون معي يا سيد كارم.. ولا تخفي عني شيئا..
وساد صمت آخر، قبل أن يقطعه رامز بقوله:
– ألم يكن منزل ذلك الوزير في الحي الشرقي، بشارع صلاح الدين؟
وأخيراً.. تكلم كارم باستسلام تام:
– أجل.. حيثُ كنتُ أقيم أيضاً في ذلك الوقت..
لم يستطع كارم معرفة ردة فعل المحقق، لسماعه هذه الاجابة الصريحة منه، غير أنه استأنف قائلاً:
– هل لك أن تأتي إلى منزلي أيها المحقق؟ أم تفضل أن آتي إليك بنفسي؟
فجاءه جواب رامز حاسماً:
– بل أفضل أن نذهب معاً إلى ذلك الشارع، شارع صلاح الدين، في الحي الشرقي..
**
كان أيهم يتناول الطعام مع سورا في أحد المطاعم، والهم لا يزال بادياً على وجهه، كمن خرج من منزله مكرهاً، عندما حاولت سورا انتهاز ما يتداوله الناس من شائعات، قائلة بشماتة لم تستطع إخفاءها:
– هل عرفت بآخر الأخبار؟؟ يبدو أن رئيس الوزراء الجديد غير كفؤ لمنصبه! لا أدري كيف انتخبه الناس حتى وصل إلى هنا..
وأمام صمت أيهم، تابعت سورا، متظاهرة بالاهتمام:
– أنتَ تعرفه جيداً، أليس كذلك؟
فتنهد أيهم:
– منذ أن قطعت سوسن علاقتها بي، لدرجة إغلاق هاتفها نهائياً؛ لم أعد أعرف شيئاً.. لم أعد أعرف أي شيء..
ورغم أن سورا استاءت من تلك النبرة البائسة، التي تحدث فيها أيهم عن سوسن، إلا أنها أظهرت الاهتمام بما يمر به:
– أتفهم شعورك تماماً.. ولكن لا تدري، لعل ما حدث هو الأفضل، وإلا كنتَ عرضة للشائعات أيضاً، بصفتك صهر ذلك الرجل!
وفي مكان آخر، كان سامر يتميز غيظاً، بعد أن وقعت عيناه على عنوان مقالة تم تداولها عبر وسائل التواصل، تتهم رئيس الوزراء الجديد بعدم المصداقية، محدثا نفسه بغضب:
– أي بشر هؤلاء! يا لهذه القسوة!! هل أصبح والد سوسن الآن فاسداً، لمجرد تغيبه عن الخطاب بسبب مرضه، بعد أن كان مضرب المثل في الكرم والجود!! إن كانوا سيسيؤون إليه ويتهمونه هكذا، فلماذا انتخبوه إذن!! ألا يوجد من يضع حداً لتلك الشائعات الكاذبة!
وشعر بألم شديد يعتصر قلبه:
– ترى.. كيف هو شعورك الآن يا سوسن! ليتني فقط أستطيع الوقوف إلى جانبك!!
**
خرجت أمل من غرفة سوسن، بعد أن اطمأنت على صحتها، وأسرعت نحو إحدى الغرف، حيث كان هناك شاب بانتظارها، قائلة:
– لقد تحسنت كثيراً.. وأظنها تنام الآن بعمق، بعد أن استحمت وبدلت ملابسها، وتناولت الطعام.. فما هي الخطوة التالية؟
فأجابها الشاب:
– ليس بإمكاننا فعل شيء في الوقت الراهن سوى الانتظار، فأخشى أن يعرف المختطفون بأمرنا ويفسدوا خطتنا..
فطمأنته أمل:
– لا بأس.. ولكن أليس من واجبنا طمأنة أهلها على الأقل؟
فأجابها باهتمام:
– كنت أفكر بهذا، ولكن الاحتياط واجب..
همت أمل أن تخبره عن خطيبها رامز، مبينة له أنه سيعمل على مساعدتهما في انقاذ سوسن، إن أخبراه بالوضع، لكنها آثرت الصمت توخياً للحذر، مفضلة أن تجعل رسائلها لرامز سراً، رغم أنها لم تتلقَ منه أي رد حتى الآن!
**
كانت بهجة- الطاهية وكبيرة الخدم في منزل سوسن- تحاول جاهدة التخفيف عن السيدة بهية، التي بدت على وشك الانهيار:
– ما الذي عليّ فعله الآن يا بهجة!! لم أعد أحتمل أكثر، لقد تأخر الوقت كثيرا، وكارم لم يعد بعد! وليته يجيب على اتصالاتي على الأقل! بالأمس سوسن والآن كارم!! أكاد أجن..
فربتت بهجة على كتفها مهدئة:
– سيكون كل شيء بخير.. لا تقلقي سيدتي، فربما عثر المحقق على مكان سوسن، وهما في الطريق إليها.. تفاءلي أرجوك..
فأخفت بهية وجهها بين كفيها، وهي تنتحب بشدة:
– انت الوحيدة التي أثق بها يا بهجة.. لذا أرجوك أخبريني بصدق، كيف أتصرف الآن؟ هل أظل صامتة وحسب!! هل أخبر الشرطة؟ هل أخبر أخت كارم الكبرى على الأقل! رغم أنها لا تعرف عن اختفاء سوسن حتى الآن، ولا أدري بأي وجه سأحدثها؛ بعد أن اعتذرنا عن استقبالها!! أم أكتفي بالانتظار!! ماذا أفعل بالضبط يا بهجة؟ ماذا أفعل؟
غير أن بهجة لم تكن تمتلك إجابة شافية لتساؤلاتها، خاصة وهي ترى تململ الخدم الذي بدأ يزداد أكثر.. فرغم إقامتهم الجبرية في المنزل- بناء على طلب السيد كارم- عن طيب خاطر منهم في البداية؛ إلا أن هذا لم يكن ليحول بينهم وبين معرفة ما يدور حوله من شائعات، والتي بدأت تبذر الشكوك في نفوسهم أكثر وأكثر!! بل إن هناك من تجرأ على فتح مناقشات هامسة، حول ما حصل قبل عشرين سنة، وإذا ما كان لسيدهم يد في ذلك حقاً!!
ولم يكن هذا ليخفى عن بهجة، لكنها لم تعد تعرف كيف تسيطر على الوضع أكثر!
**
عاد مهند إلى منزله منهكاً، ليجد سفرة جدته الشهية باستقباله كالعادة، وما أن استقر المقام به حول المائدة معها، حتى بدأت حديثها المعهود:
– بشّرني.. هل من أخبار مفرحة اليوم؟
فابتسم مهند وهو يرتشف الحساء الساخن، مدركاً مغزى سؤالها، قبل أن يقول:
– الحمد لله، ما دامت لا توجد هناك أي أخبار سيئة؛ فهذا بحد ذاته خبر مفرح يا جدتي..
فقالت وهي ترمقه بنظراتها الحادة:
– أنت تعرف ما هي الأخبار المفرحة التي أنتظر سماعها منذ سنين..
فضحك مهند، قبل أن يستدرك قائلاً:
– بالمناسبة يا جدتي.. هل تذكرين تفاصيل إلغاء النظام الملكي في بلادنا، قبل عشرين سنة؟ فقد كنتُ صغيراً وقتها، وكل ما أذكره أننا أخذنا إجازة طارئة، لمدة أسبوع من المدرسة!
فقالت جدته:
– ومن ينسى ذلك! كانت نقطة تحول كبيرة في البلاد، خاصة وأن..
لكنها بترت عبارتها فجأة، لتحدق في عيني مهند بحدة:
– وما الذي جعلك تفتح مثل هذه المواضيع الآن! لا تقل أنك تتحدث بأمور كهذه في الخارج!!
ثم همست بصوت منخفض:
– أذكر أنني حذرتك من الخوض في هذه الاشياء التي تجلب المشكلات، هل تريد أن تختفي وراء الشمس!! يكفي أنك لم تتزوج حتى الآن ولم أفرح بأولادك!
فكتم مهند ضحكة كادت أن تفلت منه، قبل أن يطمئنها بنبرة جادة:
– لا تقلقي يا جدتي من هذه الناحية، فلستُ ممن يهتمون بهذه المواضيع، وبالكاد أركز على عملي، ولكن الدنيا تغيرت والناس بدؤا يتكلمون، ويبدو أن هناك موجة اجتاحت الناس مؤخراً، جعلتهم يتساءلون عن حقيقة ما جرى، بعد موت الملك أحمد الثالث…
فأسرعت جدته تضع يدها على فمه لتسكته، هامسة:
– صه.. الا تعلم أن للحيطان آذان! ما هذا الذي تقوله!!
فحاول مهند طمأنتها من جديد:
– قلت لك لا تقلقي يا جدتي، لم يعد الأمر كما كان في السابق، فالجميع أصبح يتكلم في هذه الأمور الآن بحرية أكثر، خاصة مع وسائل التواصل الحديثة!
فنهرته جدته:
– لا يهمني ما يفعله الناس، الاحتياط واجب، ولستُ مستعدة للتفريط بحفيدي الوحيد..
وشعر مهند بأنه من العبث المحاولة مع جدته في هذه المسألة، فهي محسومة عندها بلا أدنى نقاش! ورغم رغبته الشديدة في استقراء ذكرياتها عن تلك الحادثة- خاصة بعدما سمع أطراف أحاديث متفرقة، تداولها المرضى اليوم في المستشفى- إلا أنه آثر رضاها، فتابع طعامه متماشياً مع الحديث الذي لا تكل ولا تمل منه، وهي تقول مذكرة:
– لا تنسَ أن آخر فرصة لك هي مع نهاية هذا العام..
إضافة تعليق