لم تستطع سوسن ايقاف نفسها عن البكاء منذ أن أُجبرت على ارسال تلك الرسالة، لم تتخيل أن تصل بهم الدناءة إلى هذا الحد، لم تكن لتستسلم بسهولة، ظلت صامتة رغم كل محاولات ذلك الرجل الذي ارتدى ثياب اللطف فجأة، غير أنها لم تتوقع أن ينقلب المشهد هكذا!
فبعد إصرارها على الصمت، قال الرجل الذي أسقطها أرضاً، بنفاد صبر:
– لن أبقى طوال عمري أشاهد هذه المسرحية الهزلية، يمكنك أن تتصرف معها بطريقتك، أما أنا فلا يمكنني الاحتمال أكثر..
قال كلمته تلك واتجه نحو الباب ليخرج، فالتفت إليها الرجل الآخر بابتسامة مقززة:
– والآن يا جميلتي، يمكننا التفاهم بهدوء، دعيني أولاً أطمئن على إصابتك، أرجو أن لا يكون ذلك الوغد قد آلمك..
وقبل أن يضع يده على جسدها- بعد أن أصبحا وحدهما في القبو- قفزت من مكانها صارخة بأعلى صوتها، وهي تحاول الهرب:
– ابتعد أيها الوقح، إياك أن تقترب أكثر..
فجذبها من كمها قائلاً:
– عليك أن تدركي أنه لا خيار أمامك..
فيما أخذت تحاول تخليص نفسها منه، وهي تصرخ باستماتة:
– اتركني..
عندها عاد الرجل الأول أدراجه هازئاً:
– كأنك تطلبين النجدة، وقد كان بإمكانك تلافي هذا كله..
ثم قال بلهجة جازمة:
– يمكنني أخذ هذا الوقح معي لنخرج من هنا، ونتركك وشأنك؛ إن نفذتِ الطلب بهدوء..
لا تدري سوسن كم ساعة مرّت عليها، وهي تقاسي آلام هذه المهانة، فقد استسلمت في النهاية ونفذت الطلب، ولا تدري كيف سيكون حال والدها الآن!
ما هو الجرم الذي ارتكبه، لكي تتهمه هكذا!
بكت بحرقة، وودت لو تخبر والدها بثقتها فيه، وندمها على تفوهها بتلك الكلمات القاسية..
أرجوك سامحني يا أبي.. فلم يكن بيدي حيلة أبداً..
يارب.. استرني وارحم ضعفي..
وشعرَت بوهن شديد في أرجاء جسدها، لم تستطع معه الصمود في وضعية الجلوس أكثر، فهَوى جسدها على الأرض، كقطعة قماشٍ فُصِلَت عن محور الارتكاز..
**
ألقى رئيس المباحث- السيد تامر عماد- أوامره على أتباعه بصرامة، مشدداً على تعليماته التي لا تقبل الجدل، لضبط الأمن في المنطقة.. فقد كانت الجماهير مكتظة أمام المنصة، التي سيعتليها المرشح المحبوب أخيراً، ليلقي كلمته قبل استلام مهامه رسمياً، ولظروف أمنية بحتة- كما أُعلن- تأخر وصوله عن موعده المحدد..
ولم يكن صبر الجماهير، ولا صبر القنوات الأخبارية التي تبث الحدث مباشرة؛ ليستمر طويلاً، إذ بدأت التحليلات السياسية، تأخذ دورها على الساحة..
وأمام دهشة الجميع، اعتلى نائب الحاكم العام- السيد وائل رفيق- المنصة، ليفض الجدل باقتضاب:
– يعتذر معالى رئيس الوزراء، السيد كارم بهاء، عن القاء الكلمة لهذا اليوم، لوعكة صحية طارئة المّت به.. شاكِراً لكم دعمكم ومساندتكم.. ويطمئنكم بأنه سيكون بخير، وأهلاً لثقتكم..
**
كان الممر المؤدي للقبو ساكناً، إلا من أصوات خطوات الرجلين، عندما سأل أحدهما صاحبه:
– هل تظن بأن السيد سيسمح لنا باللهو قليلاً إن ما نجحت مهمته؟
– نلهو أو لا نلهو، بعد تنفيذ المهمة لن يكون بيننا أي التزام.. أنت تعرف الشرط..
– لا أقصد هذا أيها الأحمق، كنتُ أعني..
وصمت بخبثٍ فهمه الآخر، فعلّق بابتسامة ماكرة:
– عينك على الفتاة إذن، كان السيد محقاً بتكليف رجلين منا في مهمة الحراسة والمراقبة، ولا أدري كيف ستكون ردة فعله؛ لو عرف بما هممتَ بفعله البارحة!
فأجابه الآخر مدافعاً عن نفسه:
– وهل نسيت نفسك! لقد كدتَ تقضي عليها بتهورك!!
كانا قد وصلا الباب، فهمس أحدهما للآخر، قبل أن يدلفا للداخل:
– دعنا نتمنى أن نأخذ منها التسجيل الثاني بسلام هذه المرة، فمزاج السيد متعكر أكثر من المعتاد..
غير أنهما فوجئا برؤية سوسن ممددة على الأرض بلا حراك على غير العادة، إذ كانت سرعان ما تنكمش على نفسها بوضعية الجلوس، كلما سمعت صوتهما! والأدهى من ذلك، أنها لم تستجِب لهما بأدنى حركة، رغم كل الضوضاء اللتي أحدثاها بصراخهما وحركة أقدامهما..
فاقتربا منها أخيرا، وتجرأ أحدهما على هزها بيد، لكنه سرعان ما التفت إلى صاحبه، مُخبِراً:
– كأنها على وشك الاحتضار، أظنها غائبة عن الوعي، فحرارتها عالية جداً، وثيابها متعرقة، ما العمل؟؟
فارتبك الآخر:
– علينا إخبار السيد حالاً، فهذا خارجٌ عن الخطة!
فقال له صاحبه:
– إذهب بسرعة إذن، فقد تموت الفتاة في أية لحظة…
عندها هرع الرجل إلى الأعلى، فيما بقي صاحبه إلى جوار سوسن، وهو يفكر بالجائزة التي سيحصل عليها في النهاية..
أخذ يتأملها بهدوء..
فرغم كل شيء.. كانت لا تزال جميلة!
– ربما سأفكر بالتنازل عن جائزتي، لو سمح لي السيد باللهو معها قليلاً..
ومع تلك الفكرة التي طرأت على ذهنه، اقترب منها أكثر ووضع يده على رأسها هامّاً بنزع الحجاب عنه، لكن يده تجمدت في مكانها؛ إثرَ ذلك الصوت الآمر الذي اخترق صمت المكان فجأة:
– توقف!
فنهض الرجل على قدميه بسرعة، ملتفتاً للوراء، وهو يردد بذهول:
– السيد!!
ثم تلعثم معتذِراً:
– كنتُ أحاول مساعدتها على التنفس فقط، فأنفاسها ضعيفة جداً..
لكن تلك النظرات الصارمة ألجمته تماماً، فالتزم الصمت، فيما اقتربت خطوات السيد أكثر، نحو الفتاة الممددة على الأرض..
وإذ ذاك فتحت سوسن عينيها بصعوبة، لتقعان على وجه شابٍ بدا مألوفاً لها بطريقةٍ ما، أو هذا ما خُيّل إليها في تلك اللحظة الضبابية، فرددَتْ بوهن:
– أيهم!
وغامت الدنيا في عينيها مجدداً، وقد شعرت بذراعين قويتين تحملانها، ليتأرجح جسدها المنهك بعد ذلك في الهواء..
**
قُضيت صلاة الجمعة، في الجامع الكبير وسط المدينة، وبدأ المصلون بالخروج ليلتحقوا بأعمالهم، أما عامر فقد وجدها فرصة مواتية للتعرف على المسلمين في هذه المدينة الأجنبية، فتبادل الحديث مع من بقي منهم في المسجد، يسألهم عن أحوالهم، وعن طبيعة الحياة في هذه المدينة، إذ لم يكن قد وجد فرصة مواتية لذلك من قبل، ومن كرم الله عليه؛ أن تمكن من ترتيب جدول دوامه ومناوباته، بطريقة يحصل فيها على إجازة يوم الجمعة..
قال أحد الرجال- ويُكنى بأبي سمير:
– أنتَ لم ترَ شيئاً بعد، الفساد هنا كبير جدا يا أخي، فالنساء شبه عاريات، والعياذ بالله، والإغراءات كثيرة.. ولا أبالغ إن قلتُ بأنني أتوقع أن يحل سخط الله على هذه البلاد في كل لحظة..
فسأله عامر بتعجب:
– ولماذا تعيش هنا حتى الآن!
فتنهد أبو سمير بأسى:
– الضرورة، فالحروب الدامية في بلادي ألجأتني للانتقال إلى هنا، لقد خشيتُ على أولادي من القتل.. أما الآن فقد أصبحتُ أخشى على بناتي من الفتن.. لا يمكنك أن تتخيل كم بتّ أخشى من العار كلما نظرتُ إليهن، حتى أنني فهمتُ لمَ وأد العرب بناتهن قبل الاسلام.. فالنار ولا العار..
وقبل أن يرد عليه عامر بشيء، انضم إليهما خطيب الجمعة، بعد أن استأذنهما- وكان قد رحب بعامر سابقاً- ثم استأنف الحديث، الذي سمع طرفاً منه مؤكداً:
– للأسف ترى بنات المسلمين أيضاً يصادقن الرجال دون حياء، بل أصبحنَ يتطاولنَ على الدين بكل جرأة؛ كلما ذكرهن المذكّر بالوعيد الشديد الذي ينتظرهن من الله، شديد العقاب..
فسأله عامر باهتمام:
– وماذا عن رجال المسلمين هنا، هل هم على قدرٍ كبير من الاستقامة؟
فهز الخطيب رأسه بحسرة:
– وأنّى لهم ذلك والفتن تحيط بهم من كل جانب؟ أعرف رجلاً رافقني من بلادي، إذ تم ارسالنا من قبل إحدى المؤسسات الدينية، كي نقوم على أمور هذا المسجد، لكن إحدى الغاويات فتنته حتى أوقعته في الرذيلة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.. صدق رسول الله حين قال “ما تركتُ فتنة بعدي أشد على الرجال من النساء”.. والحمد لله أن الله غفور رحيم..
فعلق عامر بنبرة ذات مغزى، في محاولة للفتِ نظر الخطيب إلى حقيقة بدت وكأنها غابت عنه:
– هذا صحيح.. “اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم”، هذا خطاب للجميع على حد سواء، رجالاً ونساءً..
نظر إليه أبو سمير مستوضِحاً، فيما قال الخطيب:
– هذا معروف ولا أحد يُنكره، فما الذي ترمي إليه؟
فقال عامر:
– أقصد أننا معشر الرجال- ودون أن ننتبه- نخص أنفسنا بالشق الثاني من الآية المتعلقة بالمغفرة والرحمة، فيما نسلط الشق الأول غالباً على النساء..
وقبل أن يُكمل عامر كلامه، قاطعه أبو سمير بنبرة هجومية:
– هل أنتَ من أنصار المرأة؟؟ لقد صدِعوا رؤوسنا يا رجل بشعاراتهم المنادية بحقوقها، وقد سبقهم الاسلام في ذلك منذ أكثر من ألفٍ واربعمائة عام! أما هذه الشعارات الخبيثة، فلا يهدفون منها إلا تحريرها من حيائها ودينها وعفتها، والله المستعان..
فردد عامر:
– نسأل الله العفو والعافية لنا جميعاً..
ثم استطرد قائلاً:
– لا أعتقد بأنه سيكون أثرٌ لهذه الشعارات على نساء المسلمين؛ لو أنهن عرفن حقوقهن التي ضمنها لهن الاسلام! بل لو أنهن حصلن على هذه الحقوق أصلاً، لما التفتنَ إلى غيرها..
فعلق أبو سمير:
– أفهم من كلامك أنك ترى المرأة مظلومة؟
فرد عامر:
– للأسف هذا هو الواقع، ولكن الحديث يطول فيه، أما انتشار الفساد في المجتمعات؛ فيتحمل مسؤوليته الطرفان (الرجال والنساء)، وقد لفتتني مقولة جميلة لأحد المفسرين، خلاصتها أن الله سبحانه وتعالى ضمن حماية المجتمع المسلم من الرذائل، بفرض الحجاب على النساء، وأمر الرجال بغض النظر، فإن أخلّ الرجال بالأمر وأطلقوا أبصارهم، وكانت النساء محجبات؛ لم يكن هناك ضررٌ يُذكر على المجتمع، وإن أخلّت النساء بالأمر وتبرجت، في حين كان الرجال غاضين لأبصارهم، لم يكن هناك أيضاً ضررٌ يُذكر على المجتمع، لكن الضرر الحقيقي يكمن؛ عندما يخل الطرفان بالأمر، مما يعني أن كلا الطرفان يتحملان المسؤولية بالتساوي..
وأظن أننا بحاجة نحن الرجال للتذكير بما علينا فعله، أكثر من توجيه اللائمة على النساء، خاصة في خطب الجمعة، بصفتنا نحن من يحضرها، فإذا لم تمتثل المرأة لأمر ربها، وخضعت بالكلام، فعلينا أن لا نكون من الذين في قلوبهم مرض!
فالمريض الذي يقتنع بأن مرضه خطير لا شفاء منه؛ يقضى على قدرة خلاياه في الاستشفاء الذاتي، أو الاستجابة للعلاج.. وهذه حقيقة علمية، وهكذا..إذا ترسخ الاعتقاد لدى الرجل، بأن المرأة هي المسؤولة الوحيدة عن الغواية، وأنه لا حول ولا قوة له أمامها؛ فسيقتنع عقله بهذه الفكرة، لتستسلم لها خلايا جسده، وتُفقده أدنى شعور بالمقاومة! لذا جاءت الشريعة السمحة، لتعزز الوازع الداخلي، وتنمي القدرة على مقاومة مثل هذه الفتن، دون تجاهل تأثيرها، فكان من السبع الذين يظلهم الله تحت ظله، يوم لا ظل إلا ظله، رجل دعته امرأة ذات حسن وجمال، فقال إني أخشى الله!
وصمت عامر، بعد أن شعر أنه أطنب في الكلام، فابتسم معتذراً:
– يبدو أنني نسيتُ نفسي..
لكن الخطيب شجعه بقوله:
– أبداً.. كان كلامك مفيداً حقاً، جزاك الله خيراً للتذكير..
أما أبو سمير، فقد صمت مفكراً قبل أن يقول:
– الكلام سهل، ولكن العار الذي يلحق الأهل من بناتهم، لا يعدِله شيء، الحمد لله أن بناتي لا زلنَ صغيرات، لكن القصص التي نسمعها عن البنات هنا؛ يشيب لها الولدان..
فطمأنه عامر بقوله:
– يمكنك تأمينهن بالتقوى..
فبادره أبو سمير بقوله:
– وهذه هي المشكلة، من أين أضمن لهن أن يكنّ تقيّات في هذه البيئة؟؟
فابتسم الخطيب، وقد أدرك فحوى كلام عامر:
– إنه يقصد الآباء بكلامه، ألم تسمع قوله سبحانه وتعالى ” وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا”
وهز عامر رأسه موافقاً:
– لذا قيل: “عِفّوا تعف نسائكم”.. فمن خشي على بناته ومحارمه، فليتق الله في بنات الناس ومحارمهم، عامل الناس كما تحب أن يُعاملوك، وكما تدين تُدان…
بدا نوعٌ من الارتباك على أبي سمير، فطأطأ رأسه مردداً:
– لا حول ولا قوة إلا بالله..
فبادره عامر بقوله:
– كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، رجالاً ونساءً، ونحن نسأل الله العفو والعافية، فالمرء يظل ضعيفاً- مهما بدا قوياً- إن لم يستعن بربه! ولنا في نبي الله يوسف عليه السلام أسوة حسنة، فعلى جلالة قدره؛ التجأ إلى الله، طالباً العون منه، ومفتقراً إليه، معترفاً بضعفه وجهله، وهو نبي ابن نبي ابن نبي ابن نبي!!
والتفتَ عامر إلى الخطيب، الذي كان يُصغي باهتمام، فرمقه بنظرة ذات معنى – بعد أن استشف منه روحاً متقبلة مرِحة- وابتسم قائلاً:
– ما رأيك أيها الخطيب؟ ربما نحن بحاجة لخُطَبٍ تقوي عزائمنا معشر الرجال أكثر..
فابتسم الخطيب، وقد فهم تلميحته:
– حسناً.. ستكون خطبة الجمعة القادمة- إن شاء الله- عن الرجال، كما كانت هذه الجمعة عن النساء، فهل يرضيك هذا يا أخي؟
فأشرق وجه عامر بابتسامة عريضة:
– جزاك الله خيراً، فنحن بالفعل بحاجة لذلك.. أسأل الله سبحانه، أن يجعلنا جميعاً من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه..
وأمّن أبو سمير على دعائه، قبل أن يستأذن بالانصراف، وهو يصافح عامر:
– إن شاء الله نلتقي الاسبوع القادم..
لم يكد أبو سمير يبتعد، حتى شد الخطيب على يد عامر:
– لقد سعدتُ بالتعرف عليك حقاً، وأرغب باستشارتك.. فكما تعلم؛ عدد النساء المسلمات كبير هنا، وربما لا يجدنَ رجالاً يتزوجنهن، لذا ما رأيك بنشر فكرة التعدد بين الرجال، لحل هذه المشكلة؟
فوجيء عامر بما سمعه، كمن أُخِذ على حين غرة، وأمام صمته؛ تابع الخطيب كلامه:
– هل تعرف ذلك الشيخ، الذي ألقى علينا التحية، وهو خارج؟ إن له ابنة قاربت على تجاوز سن الزواج؛ دون ان تعثر على زوج مناسب!
ثم استدرك فجأة:
– ربما تعرفها، ألم تقل بأنك قِدمتِ للعمل في المستشفى المركزي هنا؟ إن ابنة الشيخ تعمل هناك أيضاً، أظن أن اسمها الدكتورة هدى، فزوجتي تراجع عندها أحياناً..
ولسببٍ ما، خفق قلب عامر دون سابق إنذار، وكأن الخطيب شعر به، فتابع قائلاً:
– إذن أنتَ تعرفها بلاشك، هذا جيد، فسيكون هذا مشجعاً للبقية..
لكن عامر سرعان ما استدرك الموقف، قائلاً:
– ومن قال بأنني أريد الزواج بأخرى؟ إنني بالكاد أجِد وقتاً لزوجتى، بل منذ أن أتينا إلى هذه البلاد وأنا أشعر بتقصيرٍ نحوها، فلا أحد لها سواي؛ ومع ذلك فإنني شديد الانشغال عنها، وهي مع ذلك متفهمة لظروفي.. فكيف أجرح مشاعرها، وأُلزم نفسي بأمرٍ فوق طاقتي، ولا حاجة لي به؟
فرد الخطيب بنوع من الامتعاض:
– وماذا عن المسلمات اللاتي لا يجدنَ أزواجاً لهن؟
فأجابه عامر بسؤالٍ آخر:
– وماذا لو لم يستطع الرجال القيام بواجباتهم نحو زوجاتهم؟ الزواج مسؤولية كبيرة، ميثاق غليظ، ومودة ورحمة، والقيام بحقوق الأسرة في ظل ظروف هذا العصر ومتطلباته؛ ليسَ أمراً سهلاً.. أما من شعر برغبة في التعدد، مع قدرته على ذلك، ومعرفته العدل من نفسه؛ فهذا مباح له، وأفضل- بلا شك- من أن يسلك مسلكاً ملتوياً، لا يُرضي الله عنه، ولكن.. عليه تحمل كافة المسؤوليات المترتبة على اختياره، وإلا.. فالحساب لن يكون يسيراً!
تنهد الخطيب بضيق، ولم يخفَ على عامر، تفرّس معالم وجهه، فتابع:
– من أراد أن يعدد- أو لِنكُن أكثر دقة (يرغب في تحديد عدد زوجاته بعد الأولى، بحيث لا يتجاوزنَ أربعة)- لحاجة في نفسه، فعليه أن يكون صريحاً مع ذاته، لا أن يتدثر بثياب المروءة والشهامة لتبرير تصرفه أمام الآخرين، أو أن يتخذ من التدين ذريعة لرغباته..
فأرخى الخطيب عيناه وابتسم:
– جزاك الله خيراً للنصيحة أيها الطبيب..
فشد عامر على يده مصافحاً، وهو يهم بالانصراف:
– لم أكن أقصد النصيحة، فلستُ أهلاً لذلك، ولكنني أحببتك حقاً في الله، وأحببتُ مشاركتك بعض خواطري.. وأسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه إلى الحق بإذنه، فجزاك الله خيراً لسعة صدرك، وتفهمك.. وسنكون بانتظار خطبة الجمعة القادمة، إن شاء الله..
وغمزه عامر باسماً:
– ويا حبذا لو تذكّرنا فيها بحسن العشرة، وواجبات القوامة، فأظن أننا بحاجة لها، أكثر من حاجتنا لإقحام أنفسنا في جبهات أخرى، لم تكن تخطر لنا على بال!
فكما قال الصادق الأمين، صلى الله عليه وسلم:
“خيركم، خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي”
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
إضافة تعليق