أبدت أمل إعجابها الشديد- في المعرض الدائم للفنون الجميلة- وهي تتأمل اللوحة التي اختارها لها الأستاذ سامر:
– بالفعل إنها رهيبة!!هل هي من الفن السريالي الذي حدثتني عنه؟
أومأ سامر برأسه موافقاً:
– أجل..
لكنها أطلقت آهة صغيرة، قبل أن تعبر عن امتعاضها:
– ما هذا!! إنها باهظة الثمن جداً!! من يستطيع دفع مثل هذا المبلغ!!!
فرد سامر باستياء:
– بل ثمنها معقول جداً، نسبةً للجهد والمضمون والفكرة… إنها إبداع حقيقي.. ثم إنها لوحة أصلية، ولكن العالم العربي لا يقدّر قيمة الفن للأسف!
فأسرعت أمل بالاعتذار قائلة:
– إنني حقاً آسفة، لم أقصد ذلك، ولكن المبلغ فاجأني فعلاً..
ثم استطردت بندم وألم:
– لا أعرف كيف أعبّر لك عن أسفي يا أستاذ، فيبدو أن مثل هذا الابداع؛ لا يناسب الطبقة المتوسطة من الشعب أمثالنا، ويكفيني شرفاً أنني سعدتُ بتلبيتك دعوتي ومرافقتي لتعريفي على هذا العالم الجميل.. إنني حقاً مدينة لك بالكثير..
فقال سامر بتفهم:
– لا بأس، لقد استمتعتُ برفقتك أيضاً، فمن النادر أن نجد من يقدّر القيمة الحقيقية للفن هنا..
واستدرك قائلاً:
– ولكن ماذا عن الجدار الفارغ، هل عدلتِ عن اختيار لوحة مناسبة له؟
فقطبت أمل حاجبيها بتفكير عميق، قبل أن تجيب:
– كلا، فإنني بالفعل محتاجة للوحة أفاجيء بها خطيبي، لكن المشكلة تكمن في الثمن..
ثم هتفت على حين غرة:
– ألا يمكنك أن تطلب يا أستاذ من تلك الرسامة، أو ممن تعرفهم من الرسامين؛ إعداد لوحة مناسبة لي بثمن…
لكنها بترت عبارتها قائلة:
– يا إلهي يبدو أنني قد تجاوزتُ حدودي.. لقد أصبحتُ منفعلة جداً هذه الأيام..
وأرخت عيناها، وهي تتابع بنوعٍ من الحرج:
– قد أبدو لك وقحة بعض الشيء يا أستاذ، ولكنني… لا أعرف كيف أعبر بشكل صحيح… امممم… في الحقيقة إنني أحب خطيبي جداً.. وكنتُ أريد مفاجأته بهدية مميزة…لا أعرف كيف أشرح لك هذا الشعور.. ولكن عندما تحب شخصاً ما، قد تتصرف بشكلٍ غريب أحياناً…لا أدري إن كنتَ فهمتَ قصدي..
وبدا على أمل ارتباك شديد:
– أرجوك تجاهل ما قلتُه لك، فقد نسيتُ نفسي على ما يبدو..
فطمأنها سامر بقوله:
– لا عليكِ إنني أتفهم شعورك جيداً، فاطمئني تماماً من هذه الناحية..
عندها زفرت أمل بارتياح:
– شكراً لك حقاً.. ترى هل مررتَ بتجربة مماثلة؟
فطأطأ سامر رأسه بحزن، دون أن ينبس ببنت شفة..
فاعتذرت أمل مرة أخرى:
– لم أقصد التدخل بشؤونك.. لكنني ظننت… ظننت أنه من الجيد مشاركة الآخرين تجاربهم أحياناً..
فتنهد سامر، قبل أن يقول:
– ربما معك الحق في هذا.. إنني في الحقيقة ما زلتُ أعاني من آثار ذلك حتى هذه اللحظة..
فأبدت أمل اهتمامها الشديد، قائلة:
– هل بإمكاني مساعدتك؟ فقد يستطيع الانسان أحياناً؛ مساعدة الآخرين أكثر من مساعدته لنفسه.. ثم إنني مدينة لك بالوقت الذي أمضيته معي..
فهز سامر رأسه:
– لا داعي لذلك، فلم أفعل سوى الواجب..
لكن أمل أصرت على رأيها:
– بل فعلتَ الكثير من أجلي، وسأكون مسرورة برد هذا الدين لك، عاجلاً أم آجلاً..
**
كانت نور تحادث أمها عبر الشبكة العنكبوتية، وقد تطرق الحديث إلى ذِكْرِ سوسن؛ عندما قُرع جرس الباب، فاستأذنتها قائلة:
– إنها استراحة الغداء بالمشفى، لا شك أنه عامر، سأذهب لأفتح الباب..
فجاءها صوت أمها، وهي تُنهي المكالمة:
– حسناً أراك على خير إن شاء الله، أبلغيه سلامي، في أمان الله.. سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك..
وردَدتْ نور “كفارة المجلس” أيضاً، وهي تسرعُ نحو الباب:
– ها أنا قادمة..
وبعد أن نظرت من ثقب الباب، فتحته بلهفة:
– الحمد لله على السلامة، كيف كان الاجتماع اليوم..
فابتسم عامر- وقد كانت تعابير وجهه كفيلة بالإجابة نيابة عنه- قائلاً:
– الحمد لله.. مرت الأمور على خير ما يُرام بفضل الله..
فتناولت منه نور معطفه الأبيض لتعلقه، قائلة:
– الغداء جاهز، ولكنه بحاجة لتسخين، فأظنه قد برد قليلاً..
غير أن عامر اتجه للمطبخ مباشرة:
– لا داعي لذلك، فلن أستطيع التأخر كثيراً هذا اليوم، ثم إن الطعام البارد مفيد للصحة..
قال جملته بابتسامة مَرِحة، وهو يتناول رشفة من الحساء، بعد أن استقر على كرسيه أمام الطاولة، لكن نور رمقته بنظرات ذات معنى، وهي لا تزال واقفة:
– ولِمَ العجلة؟ هل لديك جولة تعريفية أخرى مع تلك الطبيبة، أم ماذا؟؟؟
فلم يتمالك عامر نفسه من الضحك:
– لا يذهب خيالك بعيداً، كل ما في الأمر أن عليّ استلام نسختي من مفتاح مكتب الأبحاث، والتعرف على الفريق، الذي سيشاركني البحث خلال هذه الفترة، إن شاء الله..
فسألته نور باهتمام:
– وهل تلك الطبيبة ضمن الفريق أيضاً؟
فنهض عامر من كرسيه، وفاجأها بضمة قوية إلى صدره، مُطَمئناً:
– لن أفكر بامرأة أخرى أبداً- إن شاء الله- يا حبيبتي، فثقي بي واطمئني..
توردت وجنتا نور، لردة فعله المُفاجئة تلك، حتى أنها نسيت ما كانت ستقوله، فأحاطت عنقه بذراعيها:
– إنني أثق بك أكثر من ثقتي بنفسي.. ولكنني.. أحبك كثيراً يا عامر..
وكأنهما غابا عن الوجود للحظة؛ إذ سرعان ما تداركت نور نفسها باسمة:
– هيا تناول طعامك قبل أن تتأخر عن العمل، فالحُب لا يُطعم خبزاً كما يقولون..
فتناول عامر لقمة من صحنه؛ ووضعها في فمها باسماً:
– ربما سيراجعون هذا القول يوماً ما..
وجلس الاثنان يتناولان طعامهما بحب ومودة، وهما يسألان الله البركة..
**
كان رامز مستغرقاً تماماً في العمل على قِطَع التركيب- المفروشة أمامه على الطاولة المستطيلة الواقعة في صالة شقته الصغيرة- عندما قطع تركيزه رنين جرس الباب المزعج، فزفر بضيق:
– لا أدري كم مرة عليّ إخبارها أن تُحسن التعامل مع الجرس..
ثم رفع صوته مجيباً:
– لحظة من فضلك، ها أنا قادم..
ولم يكد يفتح الباب، حتى دلفت أمل إلى الداخل- وهي تحمل لوحة مغلفة بيدها- قائلة:
– هيا يا أفندم تفضل هديتك، ولا تنسَ تسديد الرسوم..
ثم ارتمت على الكنبة المريحة ملوحة بيدها:
– الجو خانق هنا بعض الشيء..
فنظر إليها بذهول، وهو يتأمل سعر اللوحة:
– ما هذا!!
فغمزته أمل بدهاء:
– هذا ثمن المعلومات القيمة التي أحضرتها لك..
وأردفت، وهي تمط ذراعيها بتكاسل:
– خذ بعين الاعتبار أنني تنازلتُ عن أتعابي الخاصة من أجلك..
فلوى رامز شفتيه، قبل أن يقول باهتمام:
– أرجو أن تكون المعلومات على قدر هذه الأهمية..
فابتسمت أمل:
– ذلك الاستاذ غارق في حبها حتى النخاع!
فعلق رامز بلا مبالاة:
– معلومة قديمة، لقد أخبرتك بها بنفسي، فقد كانت أموره واضحة منذ زيارتي الأولى له.. ما يهمنا معرفته فعلاً هو تحديد ما إذا كانت مخطوفة أم هاربة بإرادتها..
فرمقته أمل بنظرات معاتبة:
– أولاً.. لا تنسَ أنك لم تُخبرني بشيء من تلقاء نفسك، ولولا ضبطي لك متلبساً بالجرم المشهود، لتجاهلتَ دوري تماماً..
ورمت شعرها- المتدلي على كتفها- بيدها إلى الوراء، قبل أن تتابع بلهجة جادة:
– وثانياً.. ليس هذا وقت العتاب.. هل رأيتَ هذه؟
طرحت سؤالها، وهي تشير إلى شاشة هاتفها المحمول، لتريه صورة التقطتها..
وبعد أن تمعّن رامز في الصورة، سألها بتعجب:
– ما هذه؟ بطاقة مطبوعة لأذكار الصباح والمساء!! هل لها دلالة خاصة؟
فقالت أمل جازمة:
– بل هي طرف الخيط.. كان بودي جلبها معي، لكن ذلك الأستاذ العنيد تمسك بها بجنون، ولم أشأ إثارة شكوكه.. أظنه آخر أثرٍ تركته الفتاة خلفها.. وقد يكون سقط منها دون قصد.. وقد عثر عليها ذلك الأستاذ في أحد الشوارع الشمالية الغربية في طرف المدينة..
وسألته بنبرة ذات مغزى:
– هل تدرك ما الذي تعنيه تلك الشوارع؟؟
لكن رامز تجاهل سؤالها ذاك، قائلاً:
– وما الذي جعلك واثقة هكذا؛ من أن هذه البطاقة تخصها؟ هناك آلاف النسخ المتشابهة منها بلا شك..
لكن أمل حدجته بنرة ثاقبة:
– جنون المحبين يكون دليلاً كافياً أحياناً!
فتنهد رامز باستسلام:
– حسناً كما تريدين.. ما الذي كنتِ تقولينه عن الشوارع الشمالية الغربية؟
وبدل أن تجيبه قفزت من مكانها باتجاه الطاولة، لتتأمل قطع التركيب الغريبة:
– ما هذا؟؟ هل هذا وقت اللعب أيها المحقق الجاد المحترم!!
فأجابها رامز ببرود:
– بل هذه أفضل طريقة لفهم شخصية تلك الفتاة… فالسر يكمن في لوحتها الأخيرة..
فأطلقت أمل صافرة إعجاب طويلة:
– يا لها من فكرة عبقرية.. لقد حولتَ لوحتها الأخيرة إلى قطع تركيب، لتدرس حالتها النفسية والذهنية بعمق وتركيز، فالقطع الصغيرة المتناثرة؛ لا يبدو أن لها علاقة ببعضها البعض، لكن تجميعها وِفق منهجية محددة، يؤدي إلى اكتمال الصورة.. إذن هذا هو العمل الذي تجاهلتَ من أجله؛ موعد عشاءنا تلك الليلة..
فعلق رامز:
– كم مرة علي الاعتذار بشأن تلك الليلة، لقد أخبرتك بأنني لم أتجاهل الموعد أبداً، بل نسيته تماماً رغماً عني!!
لكن أمل كانت منشغلة باللوحة، فلم تعي ما قاله!
وسرح رامز بفكره للوراء، وهو يتأملها أثناء تفحصها لتلك القطع..
لقد مضى على خطبتهما أكثر من عامين، كان بحاجة لها فقد وجدها مفيدة جدا منذ أن التقاها في المكتبة العامة، إذ كان كلاهما يبحثان في قسم القانون والجرائم..
تلك كانت البداية..
كان بوده أن تكون علاقته بها مجرد صداقة عادية، لكن طبيعة العائلات العربية- حتى المنفتحين منهم- يرفضون هذه الفكرة، فلم يجد بداً من إعلان الخطوبة، على أن تكون خطبة طويلة المدى كي يتعرفان إلى بعضهما البعض بشكل أفضل، ولحسن الحظ، كانت شخصية أمل وطبيعة عائلتها، مناسبة جداً لهذا الاختيار! ثم إنها ليست من النوع الضعيف، الذي يُشعر الآخرين بعذاب الضمير، فلو أنه فكّر بتركها أو فسخ الخطوبة لأي سبب من الأسباب؛ لن تنهار باكية، بل ربما ستسدد له صفعة أو صفعتين، مع سيلٍ من الشتائم، ثم تمضي في حال سبيلها؛ بحثاً عن فرصةٍ أخرى.. هذا في حال أنها لم تتركه هي أولاً!!
وابتسم رامز لهذه الفكرة، التي كانت أكبر حافز له، لخوض تجربة الخطوبة هذه، لكنه سرعان ما انتبه من أفكاره تلك؛ إثرَ صفعةٍ خفيفةٍ من يد أمل على خده:
– ماذا أصابك؟ هل جنِنتَ لتضحك وحدك هكذا!! أمامنا عملٌ كثيرٌ ولا وقت لتضييعه بشرودك السخيف هذا..
فتحسس رامز خده بيده، قبل أن يعلق باسماً:
– معك الحق، كنتُ أفكر فقط كم نحن مناسبين لبعضنا البعض..
لكن رنين هاتفها صرفها عن مجادلته، فأسرعت تجيب الاتصال:
– أجل.. معك الممرضة المنزلية، أمل وهيب .. أجل أجل.. هذا صحيح تماماً، فخبرتي في التمريض المنزلي ممتازة، يمكنك التواصل مع مستخدمتي السابقة.. امممم.. لكنني بحاجة للمبيت والمأكل.. هل السيد طاعن في السن؟… في هذه الحالة ربما يكون من الصعب قبول ذلك… لا بأس .. شكراً لك..
أغلقت أمل السماعة، فيما حملق فيها رامز:
– ما هذا؟؟
فأطلقت أمل ضحكة خفيفة:
– هذا هو الاتصال السادس منذ أن نشرتُ الاعلان.. وما زلنا بانتظار الفريسة لتلتقط الطعم..
فرمقها رامز بذهول، وهو يمطرها بأسئلته:
– أي إعلان هذا!! وما الذي تخططين له؟؟ ثم هل تدركين إلى أي مدى قد يقودك تهورك؟ وهل والدك على علمٍ بذلك!
فابتسمت أمل بثقة:
– ومنذ متى ووالدي يعارض عملي؟ هل نسيتَ أنني أمتلك خبرة في التمريض المنزلي، تزيد عن خمس سنوات؟؟؟ يبدو أن ذاكرتك بحاجة للصيانة..
وقبل أن يضيف أي منهما كلمة أخرى، على رنين الهاتف من جديد، غير أن الاتصال كان على هاتف رامز هذه المرة، وما أن رأى رقم مُحدثه، حتى أشار إلى أمل بالصمت، قبل أن يجيب الاتصال:
– أجل سيد كارم.. إنني أسمعك.. كلا لا مانع أبداً، بل يُسعدني التحدث معها..
**
كان الصمت الكئيب لا يزال مُسدلاً أستاره على منزل سوسن، فالخدم في حالة توجس وترقب، لا يكاد بعضهم يجرؤ بالحديث إلى بعض! فمنذ أن جمعهم السيد كارم- ليطلعهم على أمر اختفاء ابنته، محذراً إياهم أشد التحذير من البوح بأدنى كلمة للخارج، ومُطمئناً إياهم في الوقت نفسه على مكانتهم في المنزل وثقته بهم، مع الوعد بإجزال مكافآتهم وعطاياهم؛ إن ما حُلّت تلك القضية، وعادت ابنته بسلام- منذ ذلك الحين؛ وهم على الحالة نفسها من العمل الصامت! ولم يكن السيد كارم بحاجة للتأكيد على كلامه مرتين، فالولاء الذي يدين به الخدم له، كفيلٌ بذلك.. ورغم أن بذور الشك بدأت تترعرع في صدورهم، تجاه بعضهم البعض؛ إلا أن أحداً لم يجرؤ على التفكير بصوتٍ عالٍ، بشأن ما يختلج في أعماقهم.. أما بهجة- كبيرة الخدم- فقد باتت واثقة تماماً من أن لمرزوق يدٌ في هذه القضية، ولكن كيف لها أن تبدي شكوكها تلك، وهو يلازم المنزل منذ تلك الحادثة- كغيره من الخدم- بناء على أوامر سيد المنزل!! فقد حُكم عليهم بما يُشبه الاقامة الجبرية في المنزل، ولم يُبدِ أي واحد منهم اعتراض على ذلك، ولعلهم ظنوا أن في هذا دليلاً على براءتهم، رغم أن سيدهم لم يُظهر لهم أدنى شك في ذلك..
أما هذه الليلة، فقد بدت عصيبة أكثر من سابقاتها، فغداً سيلقي المرشح لرئاسة الوزراء خطاباً هاماً أمام الجماهير؛ إثرَ إعلان فوزه الكاسح في الانتخابات، ولم يتبقَ سوى أيام قليلة؛ ليباشر مهامه رسمياً..
كان يُفترض بخبرٍ كهذا؛ أن يكون له وقعٌ مبهجٌ على كل فرد، بل وكل زاوية في المنزل، لكن.. ويا للعجب، إنقلبت الموازين رأساً على عقب!
أما في غرفة نوم كارم، فقد كان نحيب زوجته كفيلاً بطردِ أي أُثرٍ للنعاس من جفنيه، وهي تلقي باللائمة عليه:
– إلى متى تريدني أن أتمالك نفسي؟؟ أي قلبٍ هذا الذي تحمله في صدرك؟ لقد مضت خمسة أيام منذ اختفائها ولا أثر لها حتى الآن!!!
فحاول كارم تهدئتها:
– أرجوك يا بهية، لم يبقَ إلا القليل وسنجدها حتماً، لقد سمعتِ بنفسك محادثتي مع رئيس المباحث العامة مساء اليوم، بل إنك حادثتِ المحقق الخاص قبل قليل؛ وتأكدتِ بنفسك من كفاءته وتقدمه بالبحث.. قليل من الصبر فقط أرجوك.. أنتِ تعلمين أهمية ما ينتظرنا غداً..
لكن بهية انفجرت قائلة:
– كل ما يهمك هو الرئاسة والسلطة.. ما الذي سنجنيه من ذلك إن خسرنا ابنتنا الوحيدة!!
فزفر كارم بضيق:
– وكأنني كنتُ مكتوف اليدين، لقد فعلتُ كل ما بوسعي، فما الذي يمكنني فعله أكثر!
فقالت بهية بالنبرة اللائمة نفسها:
– يمكننا إبلاغ جميع وحدات الشرطة، والتحقيق مع الخدم بشكل أكبر، فمن غير المعقول أن تتركهم هكذا، خاصة مرزوق.. لقد كان هو آخر من شاهدها ذلك اليوم!
فعاتبها كارم بنبرة مماثلة:
– وكأنك لا تعرفين سبب ذلك! لا يمكنني التضحية بسمعتنا أكثر، فما الذي سنجنيه إن تمردوا علينا، أو أقدم أحدهم على التشهير بنا في ظل هذه الظروف؟؟ إن أكثر ما أخشاه هو خسارة ثقة مرزوق بنا، فقد كان سائق ابنتنا لأكثر من عشر سنوات، وربما يفكر بالانتقام وتلويث سمعتها ببساطة، إن ما أشعرناه بشكّنا فيه، بعد أن أكد لي بأغلظ الايمان صدق روايته! ولا تنسي ما شهد عليه الخدم من تغيّرٍ في سلوكها في الآونة الأخيرة.. حتى أنهم رأوها بالحجاب!! فما الذي تريدينه أكثر من هذا؟؟ علينا أن نتعامل مع هذا الأمر بحكمة أكثر!
فردت بهية بحدة:
– هل تعني بأنك لا تثق بابنتك، وأن قلقك على مستقبلك الرئاسي أكثر من قلقك عليها!! لم يكن من الضروري دخولك في مجازفات خطيرة كهذه على حساب ابنتك، ما الذي كنا سنخسره لو لم تفكر بخوض غمار الانتخابات!!
فقال كارم بنفاد صبر:
– الآن تقولين مثل هذا الكلام بعد أن نسيتِ نفسك، وأنتِ تختالين بزهو خلال الجولات الانتخابية!
فأجهشت بهية باكية:
– وما الذي سأجنيه من ذلك كله الآن!! آآآه يا سوسن يا حبيبتي.. من هذا الذي يجرؤ على فعلك هذا بك.. لن أسامحه أبداً أبداً..
غير أن ومضة من الماضي البعيد؛ لمعت في ذهنها فجأة، فهتفت على حين غرة:
– هل تعتقد أنه هو من فعلها؟؟؟
فنظر إليها زوجها مستفهماً:
– من تقصدين؟
لكنه سرعان ما طرد الفكرة نافياً ذلك، بعد أن تلاقت نظراتهما:
– كلا.. من المستحيل أن يكون هو، فقد سمعتُ أنه أصبح طريحاً للفراش منذ فترة طويلة، بعد أن تمكن من الالتحاق بعائلته في الخارج..
فسألته باهتمام:
– وماذا عن الآخر؟
فأجابها بهدوء:
– لقد فرّ بأسرته إلى ما وراء البحار، ولم تعد له صلة بهذه البلاد منذ ذلك الحين..
وصمت الاثنان وهما يحدقان ببعضهما البعض، قبل أن تجرؤ بهية على تحريك شفتيها:
– أما زال ذلك الشخص في السجن؟
فهز كارم رأسه موافقاً، فيما تابعت بهية استفسارها بتؤدة:
– وماذا عن أسرته! هل تعرف ما الذي حل بهم؟
فتنهد كارم بقلق
– ربما التحقت زوجته بأهلها، فلم يكن لديهما سوى طفلٌ، لم يتجاوز السابعة وقتها!!
وارتعشت يداه لذكرى ذلك اليوم..
فقد توعّده بأنه لن يسامحه أبداً.. كان ذلك قبل عشرين عاماً!!
وإذ ذاك.. اهتز هاتفه برنين مفاجيء أفزعهما معاً، وكأنهما ضُبِطا بالجرم المشهود، ولم يكد كارم يضغط على زر الهاتف لاستلام الرسالة الصوتية؛ حتى غامت الدنيا في عينيه..
هل جاء يوم الحساب!!!
إضافة تعليق