كان المستشفى المركزي يعج بالمراجعين والزوار والموظفين، كعادته في مثل تلك الساعة من المساء؛ عندما تقدمت شابة سمراء رشيقة ممشوقة القوام، عدة خطوات من غرفة الانتظار، لترقب ذلك الرجل بحذر وتوجس..
إذا صدق حدسها، فلا شك أنه يعرف شيئاً!
وبعفوية تأكدت من تسوية شعرها المنسدل على ظهرها، على شكل ذيل حصان، وشدت قميصها القطني الأصفر، ليغطي حزام بنطالها (الجينز)، قبل أن تخطو عدة خطوات للأمام وتفتعل ذلك الانطباع المندهش، وهي تهتف قائلة:
– الأستاذ سامر!!!
فالتفت نحوها بعينين زائغتين:
– عفواً.. هل ناديتني؟
فظهرت علامات البشر والسعادة على وجه الشابة، وهي تقترب منه مُصافِحة، فوقف سامر بتثاقل لتأدية واجب اللباقة، فيما قالت هي معتذرة:
– أرجو أن تعذرني على اندفاعي، إذ لم أصدّق عيناي عندما رأيتك هنا فجأة.. خير إن شاء الله يا أستاذ، أرجو أن لا يكون قد أصابك مكروه!
فندت عن سامر ابتسامة واهنة، مكتفياً بقوله:
– لا أذكر أننا التقينا من قبل!
فابتسمت قائلة:
– بالطبع لن تذكر فتاة مثلي، ولكنني كنت من المعجبين بأعمالك الرائعة، ومنذ المعرض العالمي لم أتشرف بلقائك، لقد كان عرضك رائعاً حقا، لدرجة أنني لا زلتُ أشعر به ماثلاً أمامي..
وتابعت باندفاع، وهي تدرس بعينيها تعاليم وجهه:
– حتى أن تلك الرسامة التي شاركتك العرض، قد أبدعت حقاً بمحاكاتك.. ماذا كان اسمها سامية.. سالي؟
ولم يخفَ عليها ملاحظة تلك النبرة وهو يذكر الاسم:
– سوسن..
غير أن الإعياء الذي بدا ظاهراً على وجهه؛ جعلها تستدرك الأمر قائلة:
– لا أريد أن أثقل عليك أكثر يا أستاذ، فأنتَ تبدو متعبا جداً، استرِح أرجوك..
قالت جملتها الأخيرة وهي تدعوه للجلوس على مقعده، ولم تتردد بالجلوس على المقعد الفارغ المجاور له، فيما أخذت العيون ترمقهما بفضول!
وباهتمام ظاهر، تابعت الشابة كلامها بحماسة:
– لا أعرف كيف أعبر عن امتناني لهذه اللحظة التي قادتني إلى هنا، فقد كنت أرغب باستشارة خبير في اختيار لوحة…
لكنها بترت عبارتها فجأة:
– أرجو المعذرة، فليس هذا هو المكان المناسب لمناقشة موضوع كهذا، حقاً إنني آسفة، هل بإمكاني مساعدتك في شيء؟ فقد عملتُ في مجال التمريض ذات يوم، وأذكر ذات مرة أن ابن السيدة التي كنتُ أرعاها قد وقع في حب فتاة، غير أن والدته رفضت ارتباطه بها، ولولا تدخلي في الوقت المناسب، لربما خسر الشاب حياته!
وابتسمت بثقة:
– قد لا يبدو عليّ ذلك، ولكنني قد أكون مفيدة أحياناً..
وغمزته بعينها مشجعة:
– اسمي “أمل” ولكل شخصٍ من اسمه نصيب كما يقولون..
وكأن ذهن سامر كان مشغولاً في أمرٍ آخر، إذ سرعان ما أخرج بطاقة صغيرة من جيبه ليُطلعها عليها قائلاً:
– هل رأيتِ مثل هذه البطاقة من قبل؟
فألقت عليها نظرة خاطفة قبل أن تقول:
– أذكار الصباح والمساء.. توجد العديد من هذه المطبوعات.. هل هناك شيء خاص بها؟
فتنهد سامر:
– لا شيء.. إنني بحاجة فقط لعلاج نفسي على ما يبدو..
**
لم يغمض لـ “مهند” جفن تلك الليلة، فقد وجد نفسه- رغماً عنها- شاردةً في أفكارٍ لم تخطر له ببالٍ من قبل! وكأن تساؤل جدته العفوي؛ كان كفيلاً بقدح الزناد!
فبعد زيارة الشاب الأجنبي المفاجئة له مساء الأمس، بادرته جدته بفضولها المعهود:
– ما الذي يريده منك هذا الولد؟ هل هناك ما أزعجك بكلامه؟ فشكلك لا يبدو على ما يرام!
وقتها حاول اصطناع بسمة مرِحة:
– أنتِ تبالغين كالعادة يا جدتي، ثم إن هذا ليس ولداً وإنما زائرٌ أجنبي مهتم بالثقافة العربية..
فرمقته جدته بنظراتها المتفحصة:
– إذا كان كذلك بالفعل؛ فلمَ توقف عن الكلام فجأة؛ عندما دخلتُ للسلام عليه والقيام بواجب الضيافة؟ يُفترض من هذه النوعية من البشر المهتمة بالثقافات الأخرى، الترحيب بكبار السن أكثر، لأنهم مصدر المعلومات والثقافة الأصيلة، أليس كذلك؟
فأطلق مهند ضحكة صغيرة:
– ليس الأمر هكذا يا جدتي، فلم يقصد الشاب أبداً أن يقلل من شأنك…
فما كان من جدته إلا أن قرصت أذنه مؤنبة:
– لا تقم بتغيير الموضوع يا ولد، إنني أحاول الإطمئنان عليك وحسب، ثم ما علاقة “سوسن” بالموضوع؟
عندها أسقط في يده، لكنه مازحها قائلاً:
– كان عليكِ أن تطرحي هذا السؤال عليه مباشرة يا جدتي، ما دمتِ قد سمعتِ ذلك؟ ثم إنني لا أذكر أنه نطق بهذا الاسم!
فكان نصيبه منها قرصة أخرى:
– هل تقصد أنني كنتُ أسترق السمع!! إياك أن تجرؤ على التفكير بهذا، فقد كنت قادمة للترحيب بالضيف وحسب، خاصة بعد أن علمتُ أنه اجنبي، لكنني تفاجأتُ من ردة فعله، ثم كفاك مراوغة، ألم يكن يسألك عن تلك الرسامة بصفته مهتماً بالتعرف على مشاهير الفن في بلادنا؟ فمن كان يقصد غير سوسن بالطبع؟
وتنهد مهند وهو يسترجع كلمات جدته، فقد كانت ملاحظاتها في محلها تماما، فقد فوجيء هو نفسه بزيارة ذلك الأجنبي، بعد أن تعلل بانشغاله ذلك الصباح، فهل استجد شيء ما؛ جعله يعدِل عن رأيه! لقد بدا سؤاله عن عالم الفن وتلك الرسامة المزعومة أمراً عابراً، أو أن هذا ما حاول إظهاره، لكن السؤال الذي طرحه بعد ذلك؛ ترك في نفسه أثراً أكبر مما يتصور، بل ويزداد كلما استرجع تلك المحادثة بينهما:
– هل على الفتاة التي تقرر الالتزام بالحجاب في بلادكم أن تترك هواياتها القديمة مثل الرسم مثلاً؟
كان سؤالاً مفاجئاً ومع ذلك، ابتسم قائلاً:
– بالطبع لا، ما الذي جعلك تقفز إلى هذه النتيجة الغريبة؟
فأتاه الرد المفاجيء:
– هذا ما ظننته، فقد سمعت أن تلك الرسامة قد تركت معهد الفن بعد أن تحجبت..
لم يدرِ مهند ما الذي حدث بعد ذلك تحديداً، فقد صدمته تلك المعلومة بشكل غريب، ثم صُدِم من صدمته تلك! فلماذا يتأثر كل هذا التأثير لمجرد معرفته بخبر حجاب رسّامة معروفة!
ورغم محاولته تجاهل كل فكرة ارتبطت بذلك، إلا أن سلطة الأفكار كانت أكبر مما تخيل، وكأن الظروف تآمرت عليه هي الأخرى، فاجتمعت مع الأفكار لتقوي شوكتها، إذ لم يكد ينتهي من عمله ذلك اليوم في المستشفى، حتى لمحت عيناه أستاذ الرسم- الذي انطبعت صورته في ذهنه منذ زيارته للمعرض العالمي مع جدته- خارجاً من قسم العيادات النفسية! صحيح أنه لم يدُر بينهما أي حديث، وربما لم ينتبه الأستاذ لوجوده أصلاً، لكن مرآه كان كفيلا بمد آلاف الروابط والجسور بين الأفكار المختلفة في عقله!
وهكذا تجرّأ سؤال على طرق باب عقله:
– هل “سوسن” بخير؟
**
كان رامز على وشك أن يغط في نوم عميق؛ عندما قاطعه صوت رنين هاتفه، فتناوله بتكاسل وهو يهم بإغلاقه، غير أنه سرعان ما انتبه من نومه تماماً؛ عندما لمح اسم محدثه:
– أهلاً أهلاً بالأستاذ أيهم، إنني في خدمتك، تفضل..
– أعتذر عن الازعاج في مثل هذا الوقت أيها المحقق، لكنني تذكرتُ شيئاً هاماً قد يفيدك..
فلم يبقَ أثرٌ للنوم في أجفان رامز الذي حثه على الحديث قائلاً:
– لا داعي للاعتذار أبداً يا أستاذ، يمكنك الاتصال في أي وقت، إنني اسمعك..
وحبس رامز أنفاسه، فيما تابع أيهم كلامه:
– ذات مرة عثرتُ على ورقة تحمل نبرة تهديد قاسية تصفني بالفاسق الضال، للأسف لا أذكر كلماتها جيداً، ولكنها تتضمن كلاماً شديداً يطلب مني الابتعاد عن خطيبتي سوسن..
شعر رامز بجميع الهرمونات المحفزة، وهي تعمل في جسده، فقال باهتمام:
– جيد أنك أخبرتني بذلك، ولكن متى كان هذا؟؟
– لا أذكر تماماً، قد يكون قبل عدة أشهر، أو ربما شهرين! أو ربما أقل!! فقد
– وماذا حدث بعد ذلك؟ هل عرفت خطيبتك بالأمر؟ وهل قمتما بالإبلاغ عنه؟
– لقد تفاجأت سوسن بذلك حسبما أذكر، بل كاد أن يُغمى عليها، لكننا تجاهلنا هذا الخطاب باعتباره مزحة سخيفة تريد التفريق بيننا، وقمت بتمزيقه بكل بساطة!!
– هل تعتقد أنهم جماعة من الارهابيين مثلاً، أو فرقة متطرفة من ذوي الفكر المتشدد؟
– لم أُعِر الأمر اهتماماً كبيراً وقتها، ولكن أما وقد ذكرتَ ذلك؛ فمن يدري… ربما!
انتهت المحادثة، ولم تنتهي تساؤلات رامز وخواطره:
– عرب … متدينون… كل شيء متوقع منهم!!
وتنهد بحرقة وهو يتذكر:
“والدك رجل عربي…”
إضافة تعليق