تركته لأجلك! – الحلقة 5
2023-04-11 - ضياء
… ما أن وقعت عينا سوسن على لوحة نور؛ حتى اقشعر جسدها ودارت بها الدنيا وكأنها تدخل عوالم غريبة تراها للمرة الأولى، فبحثت عن شيء تستند اليه خشية السقوط حتى ارتكزت على نور الواقفة إلى جوارها مرددة:
– مستحيل.. أهذه مجرد لوحة طبيعية عادية!! هذا سحر بلا شك!!!
واغرورقت عيناها بالدموع دون أن تعرف السبب الحقيقي لذلك:
– بالله عليك ما هذا يا نور!!
فربتت نور على كتفها:
– و ما الذي ترينه أنت يا سوسن؟
فاعتدلت سوسن في وقفتها وهي تحاول الحفاظ على توازنها قائلة:
– أشجار عارية متحطبة ومحطمة تلفها أمواج وبحور أو ربما.. ضباب وغيوم ومطر بل إنني أكاد أسمع صوت الرعود.. وهناك نور تنقشع من حوله ركام الغيوم و بقعة مضيئة تزهو بأشجار باسقة مورقة وألوان زاهية…..
وصمتت سوسن متنهدة تحاول التأكد من أن هذا هو ما تراه حقا، أم أنه ما استطاعت النطق به فقط! فعلقت نور:
– كأنك شاعرة!! إن لك روحا شفافة ونفسا مرهفة الاحساس جدا يا سوسن ما شاء الله..
فابتسمت سوسن:
– ليس إلى هذه الدرجة ولكن يبدو أن لوحتك تفجر القرائح!
فضحكت نور:
– تعادلنا إذن..
ثم سألتها بجدية أكبر:
– ما هو الشعور الذي راودك وأنت تنظرين إلى اللوحة؟
فصمتت سوسن قليلا قبل أن تقول:
– لا أعرف.. لا استطيع تحديد ما أشعر به تماما.. فقد لا يكون كذلك.. انه الفرق بين الظلمات والنور.. الموت والحياة.. اليأس والأمل..
وبدا أن سوسن اندمجت تماما في جو اللوحة وهي تقول بتأثر شديد:
– يا إلهي انني أشعر برغبة شديدة بالبكاء…
يـــــــــارب..
فهتفت نور برضا:
– الحمد لله لقد وصلت الرسالة اذن..
فالتفتت اليها سوسن بعيون متسائلة:
– ما الذي تقصدينه يا نور انني لا أفهم شيئا!!
فأشارت إليها نور أن تجلس ، وهي تسترخي على مقعدها قائلة:
– سأخبرك يا سوسن ولكن استريحي أولا فإنني أخشى على قدميك من التورم إن بقيت واقفة هكذا..
وبعد أن جلست الاثنتان قالت نور:
– إنها رسالتي يا سوسن وهدفي في هذه الحياة..
ثم ابتسمت نور وهي تتابع نظرات سوسن قائلة:
– لن أطيل عليك الحديث فأمامك عمل عليك انجازه..
فقاطعتها سوسن بلهفة:
– لا بأس يمكنني فعل ذلك لاحقا لا تقلقي، المهم أكملي بعد اذنك، أود أن أعرف كل شيء عن هذه اللوحة، فقد لمست أوتارا حساسة في نفسي..
فابتسمت نور:
– حسنا.. هل سمعت عن قوة النية التي بدأ الناس يتحدثون بها مؤخرا؟
فأومأت سوسن برأسها:
– أظن أنني سمعت شيئا عن هذا القبيل وإن كنت لا أدري ما هو تحديدا، فليست هذه المواضيع من اهتماماتي..
فتابعت نور:
– المهم انك سمعت عن ذلك، وهذا هو بيت القصيد، لقد بدأ العلماء في كل مكان يتحدثون عن النية كعلم بحد ذاته كما كثر الحديث في الاونة الأخيرة عن مواضيع تنمية الذات كطريق للنجاح و ما إلى ذلك، ورغم انني مثلك لم اتابع كل ما يقولونه بهذا الصدد ولكنني ازددت يقينا بأهمية تمسكنا بديننا لنضمن النجاح والسعادة في الدنيا قبل الآخرة، و لكفانا هذا مؤنة متابعة ما يكتشفه العلماء في الخارج لنأخذ التطبيق عنهم، فمثلا في موضوع النية؛ بين لنا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات وأن لكل امرء ما نوى، وهذا ينعكس فعلا في أعمالنا، افلا تلاحظين الفرق مثلا بين معلم يوبخ تلاميذه وهو يتمنى لهم الخير من أعماق قلبه وبين معلم يوبخهم ليثبت ذاته أمامهم!! النية هي الأساس دوما ولها أثرها على ثمرات الأعمال وان بدت متشابهة في الظاهر..
ولسبب ما شعرت سوسن بمثال آخر يتراقص امام ذهنها ” الفرق بين رجل يعامل خطيبته بلطف وهويحبها بصدق وآخر…”، لكنها أوقفت تفكيرها عند هذا الحد بسرعة، في حين التقطت نور نفسا عميقا قبل أن تتابع:
– لطالما كنت أتمنى تقديم شيء أخدم به أمتي بل والانسانية جمعاء، ثم وجدت نفسي اتأثر كثيرا لحال من أضاع الدرب وغرق في الظلمات فعاش حياته في بؤس وشقاء، ولطالما تمنيت أن يستعملني الله و أكون سببا لنشر النور في هذا العالم و إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ولأنني كنت أهوى الرسم ولي موهبة خاصة فيها فقد علمت أن هذه هي ثغرتي التي اختارني الله لها، فقرأت كثيرا عن اثر الفن في الناس حتى استطعت تكوين نظرياتي الخاصة بهذا الصدد.. انني احب الطبيعة وأشعر انها تناديني لتزيدني قربا من خالقي، فلا تمر علي آية في كتاب الله ورد فيها دعوة للتفكر والتدبر او تشبيها مقتبسا من ايات الله في كونه إلا وهتف قلبي ” ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك..” وأنا اراها لوحة مجسدة أمامي، ثم خطر لي أن أنقل مشاعري هذه لجميع الخلق لعلها تترك أثرا حسنا في قلب أحدهم فأساهم في إنارة دربه بإذن الله، وترسم البسمة والأمل على شفاهه من جديد..
وصمتت نور في حين أخذت سوسن تعيد النظر بتأمل أعمق في اللوحة الغريبة، قبل أن تسألها:
– ولكن كيف تفعلين ذلك! ما زلت لا أفهم!!
فأجابتها نور:
– انها “قوة النية”، كلما كانت نياتنا أصدق كلما أعطت تأثيرا أقوى بعون الله، ما عليك إلا أن تجعلي الفكرة في رأسك ومن ثم أخرجيها على الواقع مستعينة بالله..
وأشارك إلى لوحتها متابعة:
– ما هذه اللوحة مثلا الا انعكاسا لما شعرت به تجاه الاية (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)! فبعد أن تركت تأثيرا قويا في نفسي، وددت لو أتمكن من نقل هذا التأثير عبر لوحة معبرة، وأرجو أنني نجحت في ذلك..
بدت سوسن مأخوذة تماما بما تسمعه للمرة الأولى، فمرت لحظات صمت حاولت فيها أن تستوعب ما قيل قبل أن تطلب من نور إعادة تلاوة الاية على مسامعها، متفكرة فيها كما لم تتفكر في آية من قبل!!
(أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)
وأخذت مشاهد ذلك الكابوس تتجسد أمامها مجددا.. ظلام في ظــــلام في ظـــــــــــلام..
فرددت نفسها التي شعرت بقسوة الظلام الذي يلفها كما لم تشعر به من قبل:
– يارب أخرجني من الظلمات إلى النور..
امتلأ المعهد بالفتيات اللاتي أبدين انطباعات مختلفة أمام لوحة نور، ما بين متأملات منبهرات، إلى مسترقات للنظر إليها خشية أن تظن بأنهن مهتمات بها!! ولم تستطع الآنسة ناديا إخفاء إعجابها الشديد بما تراه، غير أنها علقت بقولها:
– لا تستطيعين تصنيف هذه اللوحة ضمن المناظر الطبيعية، انها أقرب للفن السريالي!
فأومأت نور برأسها موافقة:
– ربما، فأنا لم أدرس الفن من قبل ولا أعرف كثيرا بالمسميات.. كل ما امتلكه هو الموهبة وحب التأمل في الطبيعة ثم تصويرها كما أراها والحمد لله، لذا اتيت هنا لأصقل موهبتي بالرسم..
فابتسمت ناديا لأول مرة:
– يسرنا أن نكون عونا لك في هذا الأمر، فسيكون لك شأن في مجال الفن مستقبلا بلا شك..
فبادلتها نور ابتسامتها مرددة:
– إن شاء الله..
ثم استدركت ناديا فجأة:
– أهذه هي اللوحة التي بدأتها بالأمس فقط!!
فهزت نور رأسها بالايجاب موضحة:
– أجل ولكن تصوري عنها كان منطبعا في ذهني سابقا..
فتمتمت ناديا:
– أنت موهوبة بالفعل!!!
وبصورة مفاجئة أخرى ودون سابق انذار قالت:
– أتستطيعين انجاز تسع لوحات أخرى خلال هذا الأسبوع يا نور؟
فنظرت اليها نور بدهشة:
– تسع لوحات!! هذا كثيرا!!
لكن ناديا شجعتها بقولها:
– لو أخذنا بعين الاعتبار معدل انجازك لهذه اللوحة الرائعة، لما كان ذلك مستحيلا بحق تسع لوحات أخرى خلال أسبوع..
وبتردد سألتها نور:
– ولكن لماذا خلال أسبوع فقط!!
فأجابتها ناديا باسمة:
– لتشاركي في المعرض العالمي بالطبع!!
كانت هذه فرصة ذهبية أمام نور، تستطيع من خلالها تحقيق أهدافها التي تسعى إليها، فرواد ذلك المعرض سيفوق عددهم الآلاف، وهي فرصة نادرة بلا شك، لعل الله أن يكتب لها أجر كل من شاهد لوحاتها لتترك أثرا ايجابيا في نفسه..
فقالت أخيرا:
– سأحاول فعل ذلك وسأبذل جهدي إن شاء الله..
فشجعتها سوسن بقولها:
– ستنجحين بلا شك يا نور..
وغمزتها باسمة:
– انها فرصتك لتحقيق هدفك..
و أكدت ناديا كلامها بحماسة:
– انني واثقة من هذا النجاح يا نور كما تقول سوسن، فابذلي جهدك يا عزيزتي وسأكون إلى جانبك حتما..
ولم يخف على أحد من الحاضرين معرفة سر حماسة ناديا لمشاركة نور، فكلما زادت مشاركات المعهد ارتفعت مكانته وذاع صيته بشكل أكبر، وبالتأكيد لن تفوت ناديا فرصة كهذه بكل ما اوتيت من قوة، فحسها الفني أخبرها بأن للوحات نور مستقبل ناحج ولا بد أن يكون للمعهد نصيبا منه!
ورغم بعض النظرات الحاسدة التي سُددت نحو نور بحدة، اثر ذلك الاطراء الذي انهمر عليها بعد اقل من يومين من التحاقها بالمعهد، إلا أن الكثيرات بدأن ينظرن إليها باكبار شديد، حتى أن بعضهن أخذن يحاولن التقرب منها، بعد أن كسرن ذلك الحاجز الذي بنينه بأوهامهن بينهن وبينها، وقد تأكدن من أن مظهر نور الخارجي، ليس بذلك السوء الذي تصورنه في البداية، أما سورا التي لم يعرف أحد سر تجهم وجهها الشديد هذا اليوم بالذات، فقد آثرت الصمت متجنبة خوض أي حديث مع كائنا من كان، وهي غارقة تماما مع نفسها بعد أن نسجت شرنقة محكمة حولها ليتسنى لها دراسة أفضل الوسائل والطرق الممكنة لحياكة خطتها الجديدة التي عزمت على تنفيذها، بعد أن كادت تموت حنقا وكمدا وهي تشاهد أيهم يحتضن سوسن أمام المعهد ويحادثها بحب أعماه عن رؤية من سواها، لقد تحملت الكثير من تجاهله لها ولا بد أن تتدارك الأمر قبل فوات الأوان..
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم