تركته لأجلك

تركته لأجلك! – الحلقة 54

عن القصة:

رواية عاطفية متسلسلة من نوع خاص، تتحدث عن شابة حسناء ثرية وماهرة بالرسم، ترتبط بنجم مشهور بعد أن وقع في حبها من النظرة الأولى، لتبدأ بعدها حياة جديدة لم تتوقع أن تواجهها يوما ما..”

شباب وشابات تختلط مشاعرهم في هذه الرواية وتتشعب، فهل “الحب” هو السبب؟!!

التصنيف: رومانسي، دراما، غموض، سينين

كانت الأجواء ربيعية، ونسائم العصر العليلة؛ تداعب أزهار سهلٍ أخضر فسيح،عندما أقبل فتى صغير بهي الطلعة- وهو يُخبّيء يديه خلف ظهره- نحو طفلة لم تكمل الرابعة من عمرها، بدت كحورية فاتنة، تقفز وتدور في المكان، بمرح صاخب، بصحبة فراشات بديعة الألوان..

ناداها باسمها، فأقبلت نحوه مبتهجة، وهي تهتف بصوتها الطفولي العذب:

– التاج.. التاج.. أنت تخفي التاج، صحيح؟

فابتسم الفتى:

– اغمضي عينيك أولاً..

فاغمضت الطفلة عينيها بلهفة، قبل أن تستنشق رائحة زكية، اختلط فيها عطر الورد والزهور، ليستقر التاج على رأسها بعد ذلك..

لكنها شعرت ببرودة لسعت جبينها فجأة، فارتجف جسدها بشدة..

فتحت سوسن عينيها بصعوبة، وهي تحس بدوار شديد، فلاحت لها صورة ضبابية، رأت فيها أشبه ما يكون بشاب، يضع يده على رأسها! بدى لها المشهد مألوفاً، وهي شبه مغمضة العينين، في حين كانت لا تزال تتأرجح بين عالم الأحلام واليقظة..

وأخيراً.. فتحت عينيها بانتباه شديد، لتفهم ما يجري حولها، رغم الوهن الذي خدّر جسدها، وألزمها ذلك السرير!

لم تكد ترفع رأسها عن الوسادة؛ حتى سقطت قطعة قماش مبللة بالماء عن جبينها، فتحسست رأسها بسرعة، ثم تنهدت بارتياح.. فهي لا تزال بكامل حجابها!

ورغم اطمئنان قلبها لذلك، إلا أن الوضع بدى لها غريباً.. هل كانت تحلم؟ فلم يكن هناك أحدٌ سواها في الغرفة!! حاولت النهوض بعد أن أزاحت الغطاء الدافيء عنها، ثم أنزلت رجليها عن السرير، لتجلس على حافته، فكان أول ما وقعت عليه عيناها؛ زجاجة ماء، إلى جانب سلة فاكهة وصحن تمر، وُضعت بعناية على طاولة صغيرة!

لم تكن الغرفة كبيرة، لكنها بدت فارهة جدا لها، خاصة بعد مكوثها في ذلك القبو الخانق، وإذ ذاك؛ لفتت نظرها ستائر مسدلة، فهرعت نحوها لعلها ترى شيئاً عبر النافذة، والتي كانت المصدر الوحيد للإضاءة الخافتة في الغرفة..

أزاحت الستائر قليلا، غير أنها أصيبت بخيبة أمل، رغم شعورها ببعض الانتعاش- لإحساسها بوجود الشمس- فقد كان زجاج النافذة محكم الإغلاق، من النوع الذي يسمح بدخول ضياء الشمس عبره، دون أن يتيح رؤية ما خلفه أبداً!! أما تهوية الغرفة، فقد كانت تتم عبر فتحات تهوية مركزية في السقف!! تلفتت سوسن حولها قبل أن تتجه نحو باب موارب، داخل الغرفة، أطلّت من خلاله بحذر، وضغطت على زر الانارة، فإذا به يؤدي إلى حمّام نظيف متكامل، فشعرت براحة عجيبة، خيّل إليها أنها افتقدتها منذ زمن بعيد! وأخيراً، خطت نحو باب الغرفة، وحاولت فتحه، غير أنه كان مقفلاً من الخارج بإحكام! ومع استرجاعها لما مر بها من أحداث؛ اكفهر وجهها لتذكر تلك الرسالة الصوتية، التي تمنت أن تكون مجرد كابوس لا أكثر، فما الذي حدث بعد ذلك؟ وكيف انتقلت إلى هنا؟ وقبل أن تغرق في حيرتها أكثر؛ تذكرت الصلاة، فدخلت الحمام، وتطهّرت، ثم اجتهدت في استقبال القبلة، قبل أن تحلق روحها في مناجاة الإله..

**

كانت نور منهمكة في أعمال المنزل، عندما سمعت جرس الباب فهرعت نحوه، متلهفة لاستقبال عامر، لكنها فوجئت به يدخل، وهو يتأبط ذراع امرأة لم تتبين ملامحها جيداً، قائلاً:

– هذه زوجتي الثانية يا نور، أحبيها كأختك، فهي وحيدة،..

لم تستطع نور فتح فمها من هول الصدمة، وشعرت باختناق شديد كاد يقتلها، وبدأت الأرض تغور من تحت قدميها، وظلمت الدنيا في عينيها، فلم تشعر بنفسها إلا وهي تهوي في قعر بئر سحيق لا نهاية له!

فتحت نور عينيها، ورفعت رأسها عن الوسادة بسرعة، ونبضات قلبها تتسارع بفزع، فنظرت عن يمينها لترى عامر يغط في نوم عميق، وأنفاسه تتوالى بانتظام، فحمدت الله، وتفلت عن يسارها ثلاثاً:

– أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم..

كان تأثير الكابوس لا يزال حاضراً أمام عينيها، وكأنه حقيقة، فشعرت بضيق في صدرها، وهي تسترجع كلام إحدى السيدات، في أول زيارة لها، للمركز الاسلامي، بعد نهاية المحاضرة:

– على الزوجات أن لا يكن أنانيات، ويشجعن أزواجهن على الزواج بأخواتهن المسلمات اللاتي لم يتزوجن! ألا تريدون الأجر والثواب من الله؟ فهذه الدنيا زائلة، والآخرة خير وأبقى..

فردت عليها أخرى، بلهجة حادة، وقد بدت أصغر منها سناً، وأوفر شباباً:

– ما دامت الدنيا زائلة والآخرة خير وأبقى؛ فلماذا تسعى تلك النساء لتعكير صفو حياة الأسر الهانئة!! لماذا لا يصبرن وحسب، ويكففن شرهن عن البيوت؟

فقالت الأولى:

– الزواج سنة، وهو نصف الدين، وليس مجرد ترف، وبحسب الاحصائيات فإن أعداد النساء أكثر من…

لكن الثانية قاطعتها:

– هذه الاحصائيات التي تتحدثين عنها متغيرة، فآخر الاحصائيات التي اطلعتُ عليها؛ تشير إلى أن أعداد الرجال يفوق أعداد النساء في بعض الدول، وفي الغالب عددهم مساو للنساء تقريباً، ثم إن أعداد الرجال العازبين ليس بأقل من أعداد النساء العازبات، فلماذا لا تتحدثون عن مشكلتهم أيضاً؟!

فقالت الأولى:

– تلك قضية أخرى، فمشكلة الرجال مختلفة، إذ ليس جميعهم قادرون على الزواج، بسبب قلة ذات اليد، أو ما شابه، بينما المرأة تكون أكثر استعداداً للزواج في الغالب، فلماذا لا نشجع القادرين على الزواج- حتى ولو كانوا متزوجين- من الزواج بهن! فبهذا يكثر نسل المسلمين، و…

وبدا أن النقاش على وشك الاحتداد بين المرأتين، فتدخلت سيدة ثالثة، بدت في أواخر الخمسين من عمرها، قائلة:

– الكلام سهل يا أم هاني، ولكن هل ترضين أنت بذلك؟

فأجابتها بثقة:

– بالطبع، بل إنني اقترحتُ على زوجي أسماء بعض النساء، ولكنه لا يريد، كما أنه مريض كما تعلمين وبالكاد يرعى نفسه، وحتى لو كان شاباً قوياً وقادراً على تحمل المسؤولية؛ لما وقفتُ في طريقه!

فتدخلت المرأة الشابة:

– لذلك تقولين هذا ببساطة! بالفعل، كما قالت الخالة نبيلة، الكلام سهل! كما أن الأفضل للمسلمين أن ينشؤوا أبناءهم تنشئة صالحة سليمة، على أن يكثروا عددهم فقط؛ ولو على حساب استقرارهم الأسري، وسلامتهم النفسية!

ويبدو أن أم هاني لم تشأ مجادلتها أكثر، فالتفتت إلى نبيلة قائلة:

– وهل يرضيك حال ابنتك يا أم جابر؟

فتنهدت نبيلة:

– حتى وإن كنتُ أتألم لحالها، فلا يرضيني ولا يرضيها أيضاً، هذه الدعوات التي تعقّد المشاكل ولا تحلها! بل وتكاد أن تفتن المسلمات في دينهن! ولو كانت ابنتي متزوجة؛ لما رضيتُ لزوجها أن يأتيها بضرة! وما لا أرضاه لابنتي لا أرضاه لبنات الناس، والله واسع كريم..

والتقطت نبيلة أنفاسها، قبل أن تستأنف قائلة:

– اسمعيني يا أم هاني، فأنتِ سيدة طيبة وتريدين الخير، ولكن لِنَكُن صريحات مع أنفسنا، فحتى السيدة فاطمة الزهراء- رضي الله عنها وأرضاها- وهي خير نساء العالمين، وابنة سيد المرسلين- صلى الله عليه وسلم- حزنت عندما سمعت ان زوجها يهم بالزواج عليها، ناهيك عن تشجيعه على ذلك! فلماذا نكابر على أنفسنا، ونخوض في أمور لا طاقة لنا بها، فهذا ابتلاء كبير بلاشك، والابتلاء لا يُسعى إليه ولا يُطلب، ولكن إذا وقع؛ نؤمر بالصبر والاحتساب، والأولى أن نسأل الله العفو والعافية! ثم إن التعدد لم يرد في القرآن إلا في آية واحدة، مرتبط بشرط صعب التحقيق، فلماذا يجعله البعض وكأنه محور الدين كله وأساسه! لا أظن أنه من الحكمة إثارة مثل هذه الأمور، وكأنها فرائض أو مندوبات حث عليها الشرع! فالدعوة إلى ذلك نتج عن اجتهاداتٍ صدرت عن بشر يصيبون ويخطئون، ظنوا أن فيها صلاح المجتمعات، ولكن تلك المصالح تتغير باختلاف الأحوال والأزمان والعصور، وليست ثوابت دينية! فلا ضرر ولا ضرار، وبالطبع لا يمكنني أن أعيب على من ترضى بأن تكون زوجة ثانية، أو ثالثة ورابعة؛ فقد تكون لها ظروفها التي تجبرها على ذلك، ولكنني أسأل الله السلامة والعافية..

تنهدت نور وهي تستذكر ذلك كله، ورغم تجنبها لدخول الحديث معهم؛ إلا أنها لم تستطع منع نفسها من الاستماع لهم، حتى إذا ما انفض المجلس، أقبلت نحوها السيدة نبيلة، بعد أن انتبهت لوجودها على مقربة منهم، فحيتها باسمة:

– تبدين جديدة على هذا المكان، فلم أركِ من قبل..

فبادلتها نور التحية والابتسام:

– أجل يا خالة، فهذه أول زيارة لي للمركز، بعد أن انتقلتُ مع زوجي إلى هذه البلاد..

فشدت نبيلة على يدها بمودة:

– حياك الله يا ابنتي، سررتُ بالتعرف إليك، اسمي نبيلة وكنيتي أم جابر، يمكنك أن تناديني بما شئت، وعدّي نفسك كابنتي..

وغمزتها قائلة:

– أرجو أن لا يكون حديثنا أزعجك، فأنتِ كما تعلمين هذه فرصتنا نحن النساء المسلمات في هذه البلاد، للالتقاء والتعارف ومناقشة القضايا المختلفة، فلا تعتبي على انفعالاتنا وحدتنا في النقاش أحياناً..

فابتسمت نور:

– لا بأس يا خالة، فقد استفدتُ أيضاً من كلامكم..

واستدركت قائلة:

– عذراً نسيت أن أعرفك باسمي، أُدعى نور.. ويسعدني حقا التعرف إليك يا خالة، فأنتِ تبدين على قدر كبير من الوعي والحكمة ما شاء الله!

فشعرت نبيلة ببعض الحرج، قائلة:

– هذا من ذوقك يا نور، ويشهد الله أنني أحببتك، فقد دخلتِ قلبي بسرعة، كما أنك تشبهين ابنتي بشكل كبير..

ورغم أن نور لم تكن ترغب بالسؤال عن ابنتها أكثر، بعد أن سمعت ما يكفيها من طرف ذلك الحديث؛ لكن أم جابر انطلقت بالحديث عنها من تلقاء نفسها، خاصة بعد معرفتها أن نور قادمة من مدينتهم نفسها:

– آه يا ابنتي.. لا أدري ماذا أقول، هذا يعيد الذكريات حقاً، فأنتِ من رائحة الوطن! كانت ابنتي لا تزال في السابعة من عمرها عندما اضطررنا لمغادرة البلاد، وها قد مر على ذلك عشرين سنة!

ودمعت عينا نبيلة، قبل أن تستأنف حديثها بألم:

– أحياناً أتمنى لو يتوقف الزمن، حتى لا أراه يجري على ابنتي وهي في بلاد غريبة، تندر فيها فرص ارتباطها بشخص مناسب..

لكنها سرعان ما استدركت، وكأنها تحدث نفسها:

– أستغفرك يارب وأتوب إليك، لا أعترض على حكمك، ولا أكفر نعمتك، فالحمد لله أن أنجيتنا من مصير أسوأ، فحالنا أفضل من ذلك الرجل..

وكأن نبيلة شعرت بأنها تتحدث بكلام لا يفهمه سواها، فابتسمت لنور، وهي تجفف دموعها:

– اعذريني يا ابنتي، يبدو أنني لا أتمالك نفسي حقاً، كلما تذكرتُ ما حدث لنا في ذلك الوقت.. آسفة حقاً فلم أقصد إزعاجك بهمومي في أول تعارفنا، فتلك قصة طويلة حقاً..

فطمأنتها نور بابتسامة وديعة:

– لا عليكِ يا خالة، ألم تقولي أنني مثل ابنتك؟

فابتسمت نبيلة:

– بارك الله فيك يا حبيبتي، إنك بالفعل تذكريني بها..

وتنهدت:

– هناك من يلومنا لأننا هاجرنا، وأضعنا نصيب ابنتنا، ولكن يعلم الله أن ذلك لم يكن باختيارنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل فيمن كان السبب!

شعرت نور بأن من واجبها البحث عن كلمات مناسبة، تخفف عن هذه الأم المهمومة، فقالت مُطَمْئنة:

– رزق الله واسع يا خالة، لا يحده زمان ولا مكان، ونصيب ابنتك لن ينقطع بسبب الهجرة، فالله قادر على أن يأتي بمن تستحقه، ولو من آخر الدنيا..

فأومأت نبيلة برأسها موافقة:

– أعرف ذلك يا ابنتي، أعرف ذلك.. ولكنه قلب الأم.. أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه.. استغفر الله..

وسرعان ما استعادت نبيلة حيويتها بعد ذلك، إذ قالت بابتهاج:

– قلتِ انك أتيت مع زوجك منذ فترة وجيزة، ولا أقارب لكم هنا، فما رأيكم أن تأتوا لزيارتنا؟ أنا متأكدة أنك ستحبين ابنتي كما ستحبك، وستصبحان صديقتين بالتأكيد، كما أن زوجي اجتماعي جداً، ولا شك أنه سيسعد بالتعرف إلى زوجك، خاصة وأننا منذ فترة طويلة لم نلتقي بأحد من بلادنا..

وصمتت قليلاً وقد بدا عليها التفكير، قبل أن تقول:

– على الأغلب يكون زوجي متفرغ في نهاية الأسبوع، فماذا عن زوجك؟

ترددت نور للحظة قبل أن تجيبها:

– لا أدري بالتحديد متى سيكون متفرغاً، فهو لم يستلم جدول إجازاته بعد!

فعلقت نبيلة:

– لم انتبه لهذا فأنا لم أسئلك عن طبيعة عمل زوجك بعد!

فابتسمت نور:

– إنه طبيب، وقد وقّع تعاقده مع مستشفى المدينة مؤخراً..

وجمت نبيلة للحظة، وهي تفكر بعمق قبل أن تهتف بابتهاج:

– لا شك أنك زوجة ذلك الطبيب إذن! لقد أخبرتني ابنتي عن طبيب عربي مسلم، التحق مؤخراً بالعمل معهم في المستشفى، أظن أن اسمه عامر، صحيح؟

شعرت نور بوخز مؤلم في صدرها، لكنها حاولت تمالك نفسها، فأجابت بابتسامة متكلفة:

– أجل، إنه هو..

وهمّت بأن تقول لها بدورها:

– لا شك ان ابنتك هي الطبيبة هدى التي رافقت عامر في جولته الأولى!!

ولكنها آثرت الصمت، وهي تكبت رغبتها الشديدة في البكاء، وعشرات المشاعر المختلطة تتنازع نفسها بلا رحمة، حتى أنها لم تدرِ كيف انهت لقاؤها بنبيلة بعد ذلك!

كانت نور لا تزال مستلقية على فراشها- إلى جوار عامر- وهي تستذكر تلك الأحداث، وما راودها من أفكار بعدها، والتي كانت سبب كابوسها الرهيب بلا ريب..

نظرت إلى الساعة، فإذا بأكثر من ثلاث ساعات متبقية لأذان الفجر، لكنها لم تستطع البقاء في السرير أكثر، فتسللت من تحت الغطاء، ونهضت بهدوء، حتى لا توقظ عامر..

لو لم يكن عامر زوجها، لربما قالت أنه النصيب المناسب، الذي جاء لابنة نبيلة من آخر الدنيا! فهل من واجبها فعل شيء للتخفيف من معاناة تلك الأم البائسة، حتى تفرح بابنتها! أم تكتفي بالاطمئنان لكلام نبيلة مع أم هاني، وقناعتها حول ذلك الموضوع! وإن فعلت ذلك؛ فهل هي مجرد امرأة أنانية، على قول الأخيرة! فمن الواضح أن هدى على خلق ودين واحترام شديد كما قال عامر، بل وتشبهها أيضاً كما قالت نبيلة، وقد تكون متفوقة عليها أيضاً، فهي بالنهاية طبيبة مثل عامر، وهاهما يعملان في المكان نفسه! فلماذا تقف كالعقبة في الطريق!

وإذ طرقت ببالها هذه الفكرة، شعرت بألم شديد في صدرها لم تستطع احتماله، فأخذت تنشج بصوت خافت، بعد أن ذهبت إلى أبعد مكان عن غرفة النوم في الشقة، خشية ايقاظ عامر!

وإذ ذاك تذكرت سوسن! فهل كانت تشعر بآلامها حقاً!! وهل كانت تظن نفسها بعيدة عن هذه الآلام، وفي مأمن منها!! أليست هي من حاولت التخفيف عنها، عندما أخبرتها بأن القلب إن تعلق بغير الله تعذّب!! فالحب شيء، أما التعلق.. فشيء مختلفٌ تماماً، وشتان بين الاثنين!

عندها.. نهضت من مكانها وتوضأت، ثم استقبلت القبلة، والدموع تكاد تحجب رؤيتها:

– يارب.. أرحني بالصلاة ولا تفتني في ديني.. يارب..

ولم تعرف بماذا تدعو.. وماذا تطلب.. أو ماذا تريد بالضبط! فتركت الدموع تبلل موضع سجودها، بعد أن شرعت في الصلاة..

**

بدت بهية في أشد حالات العصبية، وهي تحاول حث زوجها على الكلام:

– كارم، قل شيئاً.. إلى متى تنوي حبس نفسك في الغرفة دون أن تفعل شيئا وابنتك في خطر!! لا يمكننا اخفاء الأمر عن أقاربنا أكثر! أنت تعرف ما الذي يعنيه ترشحك لمنصب رئاسة الوزراء لجميع أفراد العائلة!! ربما تخدع الجميع بعذر مرضك المزعوم، لكن هذا لن ينطلي عليهم! أختك قالت بأنها ستأتي اليوم للاطمئنان عليك بنفسها، وأبناء عمومتك لا يكفون عن الاتصال! لو أنك فقط…

غير أن رنين هاتفها قطع استرسالها في الكلام، فزمت شفتيها بضيق، وهي تقرأ اسم المتصل، قبل أن تقرر الاجابة بنبرة مصطنعة:

– أهلاً أخي.. اعذرني فقد كنت منشغلة.. أجل أنت تعرف… لا يمكننا الجزم.. قد يكون من الارهاق.. أجل.. لا يزال متوعكاً.. أنت تعرف.. أجل تم تأجيل الخطاب.. أرجو أنهم تفهموا ذلك فعلاً.. اعذرني، عليّ الذهاب الآن، سأعاود الاتصال بك في وقت لاحق.. مع السلامة..

تأكدت بهية من انهاء الاتصال، قبل أن تستأنف عصبيتها من جديد:

– لم أعد أعرف ما الذي أقوله لأهلي! إلى متى ستبقى صامتاً يا رجل؟ على الأقل.. لماذا لا تخبر المحقق الخاص بالأمر! لماذا لم تخبره عن الرسالة الصوتية التي وصلتك عندما اتصل بك؟

غير أن اصرار زوجها على التزام الصمت، كمن أصيب بالصمم؛ كاد أن يصيبها بالجنون، فصرخت بغضب، وهي تهم بالخروج من الغرفة:

– لن اسكت أكثر وابنتي في خطر، سأتصرف بنفسي ولتفعل ما تريد..

غير أن كارم سرعان ما نهض من مكانه ليحول بينها وبين الخروج قائلاً:

– ألا يمكنك الهدوء قليلاً يا امرأة!

فرمقته بهية بنظرات نارية:

– عرفت كيف تتكلم أخيرا!! تريدني أن أهدأ؛ وأنت لا تفعل أي شيء سوى تجاهل ما يجري حولك!! اسمعني جيداً.. لم يعد يهمني أي شيء، أعد سوسن فقط!!

فرد عليها بنبرة مماثلة:

– وكأن سوسن ليست ابنتي أيضاً!

وهم بأن يضيف شيئاً، لكنه تراجع عن ذلك، محاولاً تهدئة نفسه، قائلاً:

– أعتذر حقاً لصمتي، ولكنني كنتُ أحاول التركيز للحصول على اجابات مقنعة! لذا أرجوك يا عزيزتي، دعينا نجلس ونناقش الأمر بهدوء من أجل ابنتنا..

فما كان من بهية إلا أن أجهشت بالبكاء، رغماً عنها، فضمها كارم إلى صدره مهدئاً، ثم أخذ بيدها وأجلسها إلى جانبه، قبل أن يقول:

– لم أكن أعرف ما الذي سأقوله للمحقق بعد أن عرفنا سبب اختفاء ابنتنا!! هل أعترف له بما فعلته بالماضي؟ فحتى بعد اتصاله وسؤاله عن حقيقة إعلاني لمرضي؛ لم أعرف كيف أجيبه!! لم أتوقع أنني سأخفي الأمر عن المحقق الذي استأجرته بنفسي لحل القضية!! ولكن كما ترين يا عزيزتي.. لم تعد القضية غامضة.. لقد اتضح الأمر الذي لا يعرفه سوانا نحن الاثنين!

التقط كارم نفساً عميقاً قبل أن يتابع:

– لا أخفيك يا بهية.. منذ عشرين سنة وأنا لم أذق طعم الراحة!! وعندما قررتُ خوض غمار الانتخابات، كنت أرجو أن أصل لمنصب يمكنني من إيجاد طريقة، أبريء فيها ذمتي مما حدث في ذلك الوقت، ولكنني لم أتخيل أبداً أن يكون الأمر بهذا الشكل!! كان هذا خارج عن حساباتي تماماً..

كانت بهية تحاول كتم شهيقها الباكي، وهي تستمع لزوجها بصمت، فيما تابع قائلاً:

– ربما آن أوان تصفية الحسابات القديمة، ولا مفر من المواجهة، لذا..

لكن بهية قاطعته بخوف:

– لا تقل بأنك ستعترف أمام الملأ!! أجننت؟ هل تعرف عقوبة ذلك!!

فربت كارم على كتفها بحنان:

– لا تقلقي.. إذا نجحتُ بإنقاذ سوسن فستكونان بخير، فلا دخل لكما بما فعلته..

فارتمت بهية على صدره، تنشج بصوت مكلوم:

– مستحيل!! أي خير هذا الذي تتحدث عنه إن أصابك مكروه! لن يفهمك أحد، وستكون فضيحة كبيرة!! فما الذي سيحل بنا بعدها!!

طأطأ كارم رأسه بألم:

– وهل هناك حل آخر؟ ألا تريدين رؤية ابنتك؟

فزاد نشيج بهية:

– ما كان عليك توريط نفسك في تلك القضية، لماذا يا كارم.. لماذا الان!! لقد كنت….

لكن الحروف تحشرجت في حلق بهية، بعد أن خنقتها الدموع، ودمعت عينا كارم وهو يحيط كتفاها بذراعه، ويضمها إليها بقوة:

– سامحيني يا عزيزتي.. إنني حقا آسف لتوريطكم معي في هذا.. ولكن.. لم يكن أمامي خيار آخر.. إنني حقاً شاكر لتفهمك لي ووقوفك إلى جانبي منذ ذلك الحين.. ولكن.. لا بد لكل شيء من نهاية..

فرفعت بهية رأسها، وهي تحاول السيطرة على الوضع أكثر:

– لو أنك تقابلهم، وتشرح الأمر، فربما..

فتنهد كارم:

– ليتني أتمكن من هذا، لكن كيف لي ذلك وأنا لا أعرف كيف أصل إليهم!! حتى الرقم الذي وصلت منه الرسالة الصوتية؛ لم يظهر على الشاشة!! طلبهم واضح.. لا يريدون مني سوى الاعتراف أمام الملأ!! ربما تمكنت من التهرب بالأمس، لكن الإعلام لن يهدأ، والمسؤولين ينتظرون مني تحديد موعد جديد للخطاب! يبدو أنه لامفر!!

فأطرقت بهية:

– كان على المختطفين ارسال رسالة أخرى، لتحديد موقفهم من تغيبك عن الخطاب، فأنت لم ترفض طلبهم بعد!

فشد كارم على قبضته بإحباط:

– لو أنني أتواصل معهم فقط!! حتى المحقق.. لم يستطع تحديد مكانهم حتى الآن! ولا يمكنني التهرب أكثر، من تحديد الموعد للمسؤولين..

**

أخذ رامز يحدق بالبطاقة الثمينة، بتمعن شديد، وهو يرفعها بيديه أمام عينيه، بينما كان يستلقي على سريره:

“مفوض من قبل رئيس المباحث والجنايات العامة

السيد/ تامر عماد”

محدثاً نفسه:

– إلى متى سأنتظر!! فهذه تكفيني من أجل أهدافي الخاصة، التي ناضلتُ من أجلها كثيراً!! ولكن.. ماذا لو عرف السيد تامر بذلك، وتبين له أنني استخدمها لأجل أغراض أخرى!!

وزفر بتأفف:

– لم يعد أمامي مفر من انهاء هذه القضية أولاً.. ليتني أعرف ما الذي يجري بالضبط! ذلك الرجل.. لماذا لا يرد على هاتفه، أو يخبرني على الأقل حول حقيقة تغيبه! هل هو تحت وطأة التهديد مثلاً!!

وقفز من فراشه مشجعاً نفسه:

– يُفترض أن هذا هو عمل المحقق الخاص الذي وُثِق به!!

اتجه نحو الطاولة التي فرش عليها قطع التركيب، بعد أن شارف على إنجاز اللوحة، فتأملها لوهلة، قبل أن يستأنف العمل عليها، وقد اقشعر جسده:

– أي قلبٍ تملكه تلك الفتاة!!

وبينما هو على وشك تركيب القطعة الأخيرة، لتكتمل الصورة؛ رن هاتفه فالتقطه بلهفة، لكن حماسته سرعان ما خبت، وهو يرد ببرود:

– أهلاً أمل…. كلا لم يتصل.. لا شيء بعد، ماذا عنك؟

وبدل أن يسمع إجابتها؛ سمع صوت جرس الباب، في حين كان صوتها يحثه على فتحه من الجانب الآخر للسماعة:

– الى متى ستتركني أنتظر! هيا أسرع وافتح الباب!!

فوضع رامز هاتفه على الطاولة، واتجه نحو الباب بضيق:

– لماذا تتصلين ما دمتِ هنا؟

فضحكت أمل وهي تدخل إلى الصالة بسرعة:

– كنت في عجلة من أمري، فالأمر لا يحتمل الـ..

لكنها بترت عبارتها، بمجرد أن وقعت عيناها على اللوحة فهتفت بذهول:

– يا إلهي!! ما هذا!!

ثم وقفت أمامها تتأملها بتمعن:

– إذن، هذه كانت لوحتها الأخيرة!! “تركته لأجلك!”!

ثم التفتت إلى رامز:

– لم أتوقع أن تنهي تركيبها بهذه السرعة، ولكن هل أوحت لك بشيء؟

فتنهد رامز، وهو يفكر بعناصر اللوحة:

– ذراع مبتورة.. أشواك وجراح.. دماء وبتلات ورد ممزقة.. ونور من وسط الغيوم..

وصمت قليلا، قبل أن يقول:

– لا يمكنني الادعاء بأنني توصلتُ إلى شيء محدد، ولكن بلا شك هذه الفتاة تعاني بشدة، ومع ذلك لم تفقد الأمل! لا أدري لماذا.. ولكنني لا أظنها من النوع الذي قد يرتكب حماقة ويهرب!!

فأومأت أمل برأسها إيجاباً:

– يراودني الشعور نفسه أيضاً، وأظن أن تغيب والدها عن الخطاب يؤكد ذلك، رغم حجة المرض المزعومة! لا شك أنها حادثة اختطاف وابتزاز!!

فعقد رامز ذراعيه بتفكير عميق:

– أكاد أجزم بهذا!! ولكن.. أليس من الغريب أن تتصادف كل تلك الحوادث معاً!! معاناة الفتاة، وانفصالها عن خطيبها، وحجابها، وتركها للمعهد بكامل ارادتها؛ كل ذلك حدث في اليوم نفسه الذي اختفت فيه! أيعقل أن تكون هذه مجرد صدف!

فقالت أمل:

– لماذا لا تحاول الاتصال بالسيد كارم من جديد؟ أظنه يُخفي شيئاً!

فأجابها رامز:

– فكرتُ بهذا.. ولكن ماذا أقول له؟ عندما أجاب اتصالي أول مرة، بعد تغيبه عن الخطاب؛ بدا متلهفا لسماع أي خبر جديد مني، ولكنه لم يكن مستعداً لإخباري بأي شيء من طرفه، سوى ما أعلنه للإعلام بشأن توعكه! فماذا أقول له الآن؟ هل تريدين مني اتهامه!

عندها ضربت أمل قبضتها اليمنى بباطن كفها الأيسر، هاتفة:

– وجدتها، اتصل به وأخبره بأنك توصلتَ لاحتمالية اختطاف ابنته، بعد تحليل بعض البيانات المتعلقة بها، والتي تستبعد هروبها بمحض إرادتها..

فرمقها رامز بنظرات صارمة:

– هل تريدين مني إثارة حفيظة الرجل! إنني لم أجرؤ على التشكيك بما يمس شرفه على مسامعه قبل ذلك! ألا تعرفين طبيعة العرب!!

فلم تتمالك أمل نفسها من القهقهة، قبل أن تعلق:

– يا رجل.. يا رجل.. يبدو أنك أصبحت تتعلم بسرعة!

غير أنها سرعان ما استدركت نفسها، فشهقت قائلة، وهي تنظر إلى ساعتها:

– ما الذي أفعله الآن!! لا وقت لدي..

ثم نظرت نحو رامز بجدية:

– لقد ابتلعوا الطعم، ووصلني الاتصال المطلوب أخيراً.. لم يبق أمامنا سوى تنفيذ المهة!

*******
يتبع إن شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

Tags: No tags

إضافة تعليق

لن يتم نشر بريدك الإلكتروني *الحقول المشار لها بنجمة هي حقول إلزامية