أنهى الفريق الطبي جولته اليومية على مرضى القلب، تحت قيادة الطبيب الاستشاري فريدريك، وقبل أن ينصرف عامر، استوقفه الاستشاري قائلاً:
– غداً ستقوم بتقديم الحالات في الاجتماع الصباحي، لذا أعد نفسك جيداً لهذه المهمة، فمدير المستشفى وكبار المختصون والاستشاريون؛ مهتمون جداً بالاطلاع على أدائك، وقد طلبتُ من الدكتورة هدى، من قسم النسائية والتوليد؛ مرافقتك في جولة تعريفية في أرجاء المستشفى، فهي متعاونة جداً، وذات كفاءة عالية، وستفيدك بشكلٍ كبير.. ثم إنها عربية مثلك..
هز عامر رأسه موافقاً، دون أن يستطيع منع نفسه من التفكير بحديث الطبيب سائد عن هذه الطبيبة بالأمس! وزفر بتوجس.. سيقابل الدكتورة هدى أخيراً..
“اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك”
وما هي إلا ساعة أو ساعتين، حتى كان يتجول في أرجاء المشفى برفقة هدى، التي قامت بمهنية تامة، تعريفه بكافة الأنظمة والقوانين المتعلقة بالحقوق والواجبات، والسياسات والاجراءات المتبعة مع الأطباء والمرضى على حد سواء.. كما أطلعته على كافة الأقسام، وقامت بواجب التعارف بينه وبين مدراء الأقسام الذين يقابلونهم، حتى شعر عامر بأنه جزء من المكان..
كان شرح هدى كافياً وافياً، ولم ينسَ عامر تدوين المعلومات الأساسية في مفكرته الصغيرة التي لا تفارق جيبه، حتى إذا ما شعرت هدى بأنه لم يعد هناك شيء تضيفه، قالت لعامر:
– بالطبع لا يخفى عليك أهمية الدقة في المواعيد هنا، فكما عرفتُ من الدكتور فريدريك، ستقوم غداً بتقديم الحالات الطبية في الاجتماع الصباحي، ومن الأفضل أن تتواجد قبل السابعة صباحاً، إذ في تمام السابعة؛ ستبدأ الالقاء إن شاء الله..
فأومأ عامر رأسه بتفهم:
– إن شاء الله.. وجزاك الله خيرا لجهدك معي..
ثم استدرك قائلاً قبل أن يهم بالانصراف:
– بالمناسبة.. هل يوجد مراكز إسلامية للنساء في هذه المنطقة؟ فزوجتي ترغب بالتعرف على المسلمين هنا..
وجَمَت هدى للحظة- إذ لم تكن تعلم حتى تلك اللحظة عن وضعه الاجتماعي- لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها، وهي تجيب بثقة:
– بالطبع يوجد، هناك مركز رئيسي كبير في وسط المدينة، ملحقٌ بالجامع الكبير، حيث تُعقد الندوات والمحاضرات لجميع الفئات..
فشكرها عامر بأدب، ثم انصرف، فيما زفرت هدى بارتياح، بعد أن أزاحت عن كاهلها حِملٌ ثقيل…
لقد مرت المهمة بسلام والحمد لله..
ولم تستطِع هدى منع نفسها من الشعور، بأن عامر ما تفوه باستفساره الأخير؛ إلا ليُعلِمها بأنه متزوج، إذ سرعان ما لاحظت بعد جملته تلك؛ خاتم الزواج الفضي في بنصر يده اليسرى.. لا شك أنه مهتم جداً بإخبار الجميع بهذه الحقيقة..
ورددت في سرها:
– قدر الله وما شاء فعل.. تُرى كيف سيكون وقع هذا الخبر على ليزا، التي بات هذا الموضوع يؤرقها أكثر من أمي نفسها! يارب.. عوضني خيراً..
ولم تكد هدى تدلف إلى مكتبها، لتتابع إدخال الحالات المرضية في قسمها، حتى دخلت ليزا مسرعة- كمن كان ينتظر هذه اللحظة- لتسألها بفضول:
– كيف كان يومكما؟
فابتسمت هدى، وهي بالكاد تكتم ضحكة كادت تفلت منها:
– ما بك تتحدثين هكذا وكأننا في موعد! لقد قمتُ بواجبي وحسب، وقد كان طبيباً جيداً ومحترماً بمعنى الكلمة، ما شاء الله..
فغمزتها ليزا بمكر:
– أعرف أن هذه البداية فقط، هيا اعترفي.. ألم يكن شخصاً مناسباً؟
فهزت هدى رأسها بالنفي، لتخيب آمال ليزا:
– كلا.. لم يكن مناسباً أبداً، فهو متزوج بالفعل..
وكأن طامة كبرى حلّت بليزا، إذ تهاوت على أقرب مقعدٍ، لتتساءل بذهول:
– لماذا!! لماذا يفعل ربك بك هذا؟؟؟ لقد كنتِ فتاة صالحة طوال الوقت، وكنتِ تثقين بربك دائماً، فلماذا يأتي بأملٍ ثم يخيّبه هكذا!! هل ربكم شرير إلى هذه الدرجة!!
فأسرعت هدى تنفي ذلك بشدة، مستغفرة الله عما سمعته:
– كلا يا عزيزتي، ليس الأمر على هذا النحو، من قال بأن القصة انتهت عند هذا الحد! حتى في الروايات العالمية الشهيرة؛ يتعرض الأبطال لمواقف عصيبة، وتفاجئهم الحياة بأمورٍ لا يتخيلونها، ومع ذلك لا يفقد الأبطال شجاعتهم أو ثقتهم بمبادئهم، بل إن هذا ما صنع منهم أبطالاً فأحبتهم الجماهير.. وهكذا هي الحياة، لكل شيء حكمة قد لا نعرفها في حينها، لكنها موجودة بالتأكيد.. حتى ما يظهر أنه شرٌ في البداية، قد يتبين أن فيه الخير الكثير في النهاية..
لكن ليزا بدت ذاهلة تماماً عما يدور حولها، كانت على وشك التفكير باعتناق هذا الدين الذي تدين به هدى، بعد أن شعرت بأنه قد يجلب لها السعادة، أما الآن… فقد اهتزت قناعتها به تماماً..
ووجدت هدى نفسها في مأزق حقيقي، فرددت في سرها:
“ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم”
ثم قالت فجاة:
– تعرفين قصة “بائعة الخبز” للكاتب الفرنسي مونتبان؟
وأمام صمت ليزا، تابعت هدى كلامها:
– لقد بدَت الحياة قاسية وظالمة جداً في بداية القصة، حتى تبددت جميع الآمال المحتملة..
هكذا هي الحياة، ولن يكون البطل بطلاً إن استسلم بسهولة، وإن خرجت الأمور عن قدرته واحتماله، فالرحمة والعناية الالهية، ستتدخل في الوقت المناسب، ولن يكلف الله نفساً إلا وسعها..
لكن ليزا تابعت تساؤلاتها:
– ولماذا هذا العذاب من البداية.. ألستم تقولون بأن الله قادر على كل شيء؟ فلماذا لا يأتي بالخير مباشرة!!
فردت هدى:
– تذكرين الاختبارات الطبية التي مررنا بها، قبل أن نصل إلى هذا المستوى، وتذكرين أيضاً الاختبارات التي شاركنا في إعدادها للمتقدمين الجُدد؛ لماذا كانت بتلك الشدة؟ ولماذا لم نقدّم لهم الاجابات مباشرة، ليحصلوا على الدرجات النهائية، ويتقلدوا وسام الطب بسهولة؛ بدل ذلك الشقاء في الدراسة والاستذكار!!! وهل سيكون من العدل والحكمة فعل ذلك؟
فأجابتها ليزا ببرود:
– هذا لأننا بشر، وهذه هي طريقتنا الوحيدة لإعداد واختيار ذوي الكفاءات المناسبة لهذه المهنة، التي تتطلب جهداً وصبراً، فإما أن يُثبت المتقدم جدارته، أو لا داعي لتورطه في عمل لا يناسبه! ولكن أليس الله قادرٌ على أن يجعلنا جميعاً جيدون وذوي كفاءات عالية، ولا يضعنا في مثل هذه الاختبارات؟؟
فقالت هدى:
– في هذه الحالة لن نكون بشَراً، بل ملائكة! وقد خلق الله ملائكة بالفعل لا يُخطئون ولا يحزنون، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون! أما نحن؛ فقد خلقنا الله بشراً، ومنحنا نعمة الاختيار، لذا كان لا بد من وجود الاختبار! فمن اجتهد وصبر؛ فسيلقى نتيجة ذلك حتماً عاجلاً أم آجلاً..
فتنهدت ليزا:
– أعرف ما تهدفين إليه، ولكن الأمر مختلفٌ هنا.. فعندما يتقدم السن بالفتاة، لن يعود لصبرها معنى.. أنتِ تفهمين قصدي جيداً يا هدى، فلا تكابري..
حاولت هدى أن توضح لها قناعاتها الخاصة، فيما يتعلق بمسألة الزمن بالذات؛ لكنها شعرت بأن حالة ليزا الذهنية، لن تساعدها على ذلك، فسألتها:
– هل جميع الفتيات اللاتي تزوجن في السن المناسبة- كما يقولون- سعيدات؟
فحملقت بها ليزا:
– ماذا تقصدين؟ هل تريدين القول بأن الزواج ليس سبباً للسعادة؟ حسناً.. إنني لا أؤمن بذلك أيضاً، ولكن على الأقل؛ توجد لديّ طُرُقٌ أخرى للتعامل مع هذا الأمر خارج إيطار الزواج.. أما بالنسبة لك، فالأمر مختلف، وهذا ما يُشعرني بالأسى عليك…
فبادرتها هدى بسؤال آخر:
– وهل الفتيات اللاتي حصلن على مبتغاهن خارج إيطار الزواج؛ سعيدات؟
فتنهدت ليزا، وشريط حياتها البائس يمر سريعاً أمام ناظريها:
– حسناً لنكن واقعيين، هناك لحظات سعيدة على الأقل، فأي فتاة ستفرح إن حصلت على بعض الاهتمام من الطرف الآخر..
وصمتت للحظة، فتابعت هدى:
– وماذا ستكون النتيجة، عندما يتبين لها أن ذلك الاهتمام؛ لم يكن سوى مجرد نزوة عابرة؟
زفرت ليزا بضيق، وهي تتذكر خيانة صديقها الأخير:
– وما العمل إذن! أشعر بأن المرأة ضحية في هذا العالم القاسي..
فقالت هدى بهدوء:
– هذا لأنها تربط سعادتها بالآخرين..
لكن ليزا قالت فجأة، وكأنها لم تستمع لجملة هدى الأخيرة:
– سمعتُ أن الرجل لديكم يمكنه الزواج بأكثر من واحدة، ربما هذا أفضل من أن يتخذك مجرد صديقة، ستضمنين حقك على الأقل..
ثم ابتسمت- أمام ذهول هدى- كمن وجد كنزاً:
– حسناً.. لم يكن الأمر بهذا السوء الذي توقعته، لا تزال هنالك فرصة لك..فلو حاولتِ معه قليلاً؛ فسيميل إليك بلا شك..
غير أن هدى قالت جازمة، وهي تحاول السيطرة على أعصابها:
– لم أكن لأفعل ذلك إن كان عازباً، فكيفَ به وهو متزوج!! أرجو من الله أن لا يضعني في موقفٍ كهذا، ولا يضطرني إلى هذا الاختيار أبداً.. فهناك خيارات كثيرة في الحياة، مثل أسئلة الاختيارات المتعددة؛ تكون هناك إجابات خاطئة تماماً، وإجابات مقبولة، وإجابات صحيحة، ولكن.. هناك إجابات أصحّ، وقد تتباين وجهات النظر أحياناً في تقييم تلك الاختيارات، وبالنسبة لي؛ كنتُ ولا زلتُ حريصة جدا على اختيار الإجابة الأصح قدر المستطاع، فلو كنتُ مكان زوجة هذا الطبيب، لما أحببتُ أن يأتيني بضرة، ولا يؤمن أحدكم؛ حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه.. هذه قاعدة في ديننا..
واستطردت مُتابِعة:
– لا تشغلي بالك يا عزيزتي، فمن أتى بهذا الرجل؛ قادرٌ على أن يأتي بغيره..
قالت جملتها الأخيرة، وهي تغمز ليزا بعينها باسمة، فيما تنهدت الأخيرة:
– لا أدري إلى أي مدى ستوصلك قيمك ومُثُلك العليا هذه، لكنني سأنتظر وأرى..
**
استعاد مهند حيويته المعتادة، بعد يومين من تلك الزيارة، وكأن شيئاً لم يكن، حتى جدته نسيت الأمر على ما يبدو، فها هي تعامله على مائدة الأفطار، كطفلٍ مدلل:
– افتح فمك بسرعة وتذوق هذه الجبنة الساخنة يا حبيبي، لقد أوصيتُ جارتنا أن تجلبها من قريتها خصيصاً من أجلك..
وبالطبع لا يكن أمام مهند سوى الانقياد لطلبها، فتناول من يدها الحانية لقمته، وهو يثنى على ذوقها في اختيار الأطعمة، فيما تابعت الجدة ارشاداتها الصباحية، كمن يلقن طفل الابتدائية واجباته الأساسية:
– يجب أن تتغذى جيداً لتصبح قوياً، فعمل الطبيب يحتاج لطاقة كبيرة، مع تركيز ورباطة جأش..
وكأنها تذكرت فجأة أن أمامها شاب ناضج في الثلاثين، فاستطردت مؤنبة:
– وطبعاً لستُ بحاجة لتذكيرك بضرورة العثور على زوجة مناسبة، من غير المعقول أن تبقى عازباً هكذا حتى هذه السن!!
فضحك مهند معلقاً:
– ألا ترين بأنني لا أزال طفلك الصغير يا جدتي؟ لا يزال الوقتُ باكراً على التفكير بالزواج…
ولم تنتظره الجدة ليكمل كلامه، إذ عاجلته بضربة على يده بمغرفة الطعام، موبخة:
– لقد طفح معك الكيل، ما الذي سيقوله والداك رحمهما الله عني لو علما بالأمر؟؟ أظن أن عليّ تحديد موعد نهائي لاختيار عروس لك، دعنا نقول قبل نهاية هذا العام، وإلا..
وصمتت الجدة وهي تشير بيدها مهددة، فابتسم مهند موافقاً:
– حسناً حسناً.. لا يزال أمامنا عدة أشهر، فلا تقلقي أبداً يا جدتي الحبيبة..
قبّل مهند يد جدته التي وقفت لتشييعه عند باب الشقة، كعادتها كل صباح، ثم انطلق بسيارته نحو مقر عمله، ترافقه ذكريات الماضي البعيد، الذي نبشته الكلمات..
لم يكن قد تجاوز الخامسة من عمره بعد؛ عندما وقع ذلك الحادث الذي أودى بحياة والديه وأخوته، فانتقل إلى أحضان جدته، التي لم تألُ جهداً في رعايته وتربيته على الخلق القويم.. وها قد مر ربع قرن من الزمان، جعلت منه ما هو عليه الآن.. فمن ستكون الفتاة المناسبة له؟
غير أن شهقة قصيرة صدرت منه، لم يستطع معها غض النظر كما يجب، وهو يحملق للحظة في تلك الفتاة الجالسة إلى جانب أيهم في السيارة، ذلك النجم الذي أصرّت جدته على تعريفه به في المعرض العالمي، دون أن يدري كيف التقطت عيناه ذلك المشهد! فلم تمضِ سوى ثانيتين استغرقتهما سيارة أيهم لمحاذاته، ثم الوقوف أمامه على الإشارة! فهل بات عقله متحفزاً لكل ما له علاقة بتلك الرسامة! صحيح أنه لا يذكر ملامحها جيداً، إذ كان قد رآها بشكل عابر فقط، لكنه يكاد يجزم؛ أنها لم تكن تلك الفتاة الجالسة إلى جوار أيهم الآن!
ووجد نفسه يسترجع تلك “المعلومة” المجردة الواردة في حديث ذلك الزائر الغريب:
الرسامة تحجبت ثم تركت الرسم!
ليتجرّأ سؤالٌ آخر على قرع باب عقله بقوة:
– ترى.. ما الذي جرى لسوسن!
**
بدأت سوسن تعتاد على استعمال ما يُطلق عليها مجازاً (دورة مياه)، فقد كانت أشبه بكوّة صغيرة ، تقع في إحدى زوايا ذلك القبو المظلم- الذي أناره المُحتجِزون أخيراً، بشعاعٍ واهن مكنها من تحسس مواطن أقدامها على الأقل- ورغم الغثيان الذي أصابها في البداية، من تلك الرائحة العفنة التي تسبب الاختناق، إلا أن الضرورات البشرية الملحة، لم تكن لتترك لها خيار آخر..
ولم تستطع منع نفسها من التفكير بغرفتها الواسعة المعطرة بالازاهير والورود، التي لم تستطع شم رائحة السعادة فيها آنذاك، رغم كل الترف! فهل هي في “عقاب” من نوع خاص، لأنها لم تستشعر تلك النعمة! حتى الجوع الذي لم تكن تعرف معناه، اضطرها لأكل تلك الكسرات اليابسة من الخبز؛ لتُسكته!
“أيهم”
ودمعت عيناها، فما زالت تحبه رغم كل شيء!
غير أنها حاولت التجلد من جديد، والتفكير بإيجابية أكثر، فحتى الآن لم تتعرض لأي أذى حقيقي وهذا هو الأهم..
وبعد أن توضأت بذلك الماء الآسن، اتجهت ناحية الجدار لتأدية صلاة العصر حسب تقديرها، إذ رفض المُحتجزون تعريفها بالأوقات، أو إرشادها لاتجاه القبلة، متخذين من ذلك ذريعة للتسلية، إذ رد عليها أحد الرجلين مستهزئاً:
– هل تريدين أن نساعدك في الدعاء علينا، أم ماذا!
فيما انفجر الآخر ضاحكاً:
– أو ربما تظنين أن بإمكان ذلك مساعدتك على الهرب!
ثم تابع بنبرة أكثر جدية:
– ومع ذلك؛ لن نسمح باحتمال واحدٍ للخطأ..
ومنذ ذلك الوقت لم تفكر سوسن بسؤالهم عن شيء آخر، بل آثرت الصمت، لتعتمد على اجتهادها المطلق في تأدية الفرائض، بعد أن يئست في الحصول منهم على أي إجابة كانت، بما في ذلك سبب احتجازها!
كانت تدعو الله بسجودها أن يغفر لها اسرافها في أمرها، ويكفيها ما أهمها، وأن يُطمئن والديها عليها… وأن يهدي “أيهم” ويرده إليها رداً جميلا..
بللت الأرض بدموعها، مستغرقة في مناجاتها، تناجي الله بهمومها وآلامها ومخاوفها، حتى شعرت بتحسن كبير، وقبل أن ترفع من السجود، سمعت صوت صرير الباب يُفتح، مُعلنة عن دخول الرجلين كالعادة، إذ لم يكن يأتي إليها رجلٌ بمفرده حتى هذه اللحظة، فسمعت أحدهما يقول آمراً:
– هيا أنهي صلاتك بسرعة، فقد حان وقت العمل..
سرَت رعشة في أوصال سوسن، هل هذا هو الفرج أخيراً، وبعد أن سلّمت من الصلاة، اقترب منها الرجل الآخر قائلاً، وهو يناولها ورقة صغيرة بيده اليمنى، فيما أمسك جهازاً صغيراً بيده اليسرى:
– أرسلي هذه الرسالة بصوتك لوالدك بسرعة..
قال كلمته تلك وضغط على أحد أزرار الجهاز، غير أن سوسن قرأت الكلمات المطبوعة على الورقة بصمت، ثم أمسكت لسانها خشية أن تصدر عنها آهة فزع، فيما قالت بصوتٍ عال:
– أمي أبي كيف حالكما؟ أرجو أن…..
لكن الرجل قطع التسجيل بسرعة صارخاً فيها بغضب:
– ألا تعرفين القراءة أيتها الحمقاء؟ هل تستخفين بنا أم ماذا تظنين نفسك؟؟؟
ارتجفت سوسن قليلاً لكنها ردت عليه بقوة:
– كيف أقول شيئا لا أفهمه؟ أنتم لم تخبروني سبب احتجازي من الأصل، ثم ما هو هذا الشيء الذي فعله والدي، وتريدون منه الاعتراف به؟
فأجابها الرجل بغلظة:
– إياك أن تعتقدي بأن عنادك سيفيدك، وتذكري أننا حتى هذه اللحظة لم نمسسك بسوء أيتها الضعيفة..
وأردف بلهجة آمرة جازمة:
– هيا أعيدي التسجيل وبسرعة..
خفق قلب سوسن لهذه الحقيقة المرة، فهي ضعيفة لا حول لها ولاقوة، ومرت بعينيها ثانية على الكلمات المطبوعة في الورقة:
“أبي أرجوك، اعترف غداً أمام الشاشة بما فعلتَه، كي أتمكن من العودة إليكم سالمة، فحتى هذه اللحظة لم يتعرض أحد الرجال لي بسوء، أرجوك أبي لا تتردد فشرفي في خطر”
فترقرقت الدموع في عينيها:
– يارب.. كيف لي أن أقول شيئاً كهذا؟ قد يتم استخدام هذا التسجيل ضد والدي على الملأ، فكيف أتهمه بشيء لا أعرفه! كيف أسيء إلى سمعته وأنا لا أعرف عنه إلا كل خير!! إنهم يريدون مني هز ثقة الناس به، فيارب احفظني واحفظ والداي من كل سوء..
غير أن صراخ الرجل قطع مناجتها:
– ما الذي تنتظرينه أيتها الغبية، هيا اقرئي الرسالة بسرعة، فلا وقت لديّ لتضييعه..
أما سوسن فقد كانت تتمنى أن تفكر بهدوء لتقرر..
يارب.. ما الذي عليّ فعله الآن!!
وأخيرا قالت:
– وما الذي يضمن لي العودة إلى أهلي سالمة، إن ما أرسلت لهم هذه الرسالة؟
فزمجر الرجل مكشراً عن أنيابه:
– بل قولي من الذي يضمن لك البقاء سالمة؛ إن لم ترسلي هذه الرسالة!!!!!!!!!!
ثم رفع قبضته مهدداً:
– لقد تماديتِ كثيراً، قومي بتسجيل الرسالة حالاً قبل أن أفقد صوابي..
ارتجفت سوسن بشدة، وأغمضت عيناها في محاولة للهروب من هذا الواقع، لعلها تفكر مع نفسها بهدوء:
– لا شك أن غداً هو موعد خطاب والدي الرسمي،…
غير أن تلك اليد الضخمة، التي هوت على ظهرها، لتسقطها أرضاً على وجهها؛ لم تترك لها المجال للاسترسال بأفكارها أكثر، فصرخت من شدة الألم، فيما قفز الرجل الآخر- الذي كان صامتاً طوال الوقت- إلى جانب الأول- الذي كان يزمجر بغيظ- مهدئاً:
– على رسلك يا رجل، هل نسيت أوامر السيد؟
ورغم الألم المبرح الذي حل بسوسن، إلا أنها وجدت في سقطتها تلك؛ متنفساً تراجع فيه حساباتها، وترتب أفكارها.. فعلى ما يبدو أن الأمر أكبر من مجرد طلب فدية، كما ظنت في البداية! وبقي السؤال الملح يتردد في ذهنها:
– ما هو الشيء الذي يريدون من أبي الاعتراف به؟
أهي مجرد تهمة يريدون تلفيقها له!!
أهو منافسٌ لوالدها في الانتخابات ويريد القضاء عليه نهائياً!!
ألهذه الدرجة وصلت الحال بهؤلاء المنافسين على مقاعد السلطة!!!
كانت سوسن قد بدأت تسترد قوتها، عندما وكزها أحد الرجلين بقدمه في خاصرتها:
– هيا انهضي، ولا داعي للتظاهر بالإغماء..
فانكمشت على نفسها، وهي تشد ثيابها إلى جسدها كمن تحتمي بدرعٍ فولاذي ثقيل، قبل أن تأخذ وضعية الجلوس، رافعة جذعها أولاً، لتواجه الرجلين بنظراتٍ ثاقبة، معبرة عن غضبها الشديد مما حدث..
فتكلم الرجل الثاني ملاطفاً:
– لم نكن ننوي الأذية أبداً، ولو أنك نفذتِ ما طُلِب منك، لمرت الأمور بسلام..
وناولها الورقة بدوره قائلاً:
– هيا لو سمحتِ، أرسلي الرسالة، وسينتهي كل شيء..
قال جملته تلك، وضغط على زر التسجيل..
إضافة تعليق