انهمرت الدموع غزيرة على وجنتي سوسن وهي ترتكز على نافذة السيارة، بعد أن أنهت مهمتها في البنك، شعرت بأنها على وشك الانهيار، ولا يفصلها عن ذلك إلا رحمة الله وعنايته! فرغم أنها كانت مستعدة لأسوأ الاحتمالات، إلا أن حدوث ذلك حقيقة، لم يكن أمرا سهلا على الاطلاق، وبحركة تلقائية تحسست بنصر يدها اليمنى، حيث أقام خاتم خطوبتها فيه باستمرار، كان أعز ما تملك، ولم تتصور يوما، أنها هي من ستنزعه بكامل إرادتها!! لقد اتخذت قرارها الدامي أخيرا، بل أصعب قرار تتخيله، ولم يعد هناك مجال للتراجع، وأخذت الذكريات تموج بخاطرها كسحائب عابرة، بدت معها شبه غائبة عن الوعي، حتى أنها لم تنتبه لسؤال مرزوق، الذي أعاده عليها مرتين على الأقل:
– هل بقي هناك مكان آخر ترغبين في الذهاب إليه يا آنسة؟
فأجابته دون وعي:
– لا..
وإذ ذاك انتبهت لعدة اتصالات تلتها رسالة على هاتفها، لم تكن قد انتبهت لها من قبل، ففتحتها بلهفة، غير أن خيبة الأمل سرعان ما ارتسمت على وجهها، وهي تقرأ اسم المتصل والمرسل:
” لقد نسيت أن تكتبي اسم اللوحة يا سوسن، فما هو؟ أرجو أن تردّي للأهمية”
فابتسمت بحزن، حقا.. لكلٍ همومه! وطبعت بأناملها؛ جملة واحدة من كلمتين، أرسلتها لناديا، وهي تستشعر حالتها التي هي عليها الان..لقد انتهى كل شيء..!!
فما الذي ستقوله لوالديها، بعد أن ارتدت الحجاب، وفسخت خطوبتها بنفسها!!! بأي وجه ستقابلهم اليوم بعد عودتهم من رحلتهم الانتخابية، لٌإقامة الاحتفالات البهيجة بتلك المناسبة!!! الجميع في منزلها مشغولون بالاستعدادات لهذه المناسبة السعيدة، بما فيهم بهجة، فكيف سيكون موقفهم منها!! كيف ستواجه والديها بهذا التغيير الكبير الذي طرأ في حياتها على حين غرة!!!!
كلا.. لم ينتهِ كل شيء بعد، بل بدأت الأشياء الآن!!!
يــــارب.. اكفني ما أهمني، ودبر أموري فإني لا أحسن التدبير..
ثم تناولت بطاقة الأذكار من جيبها، والتي احتفظت بها، منذ أن أعطتها إياها بهجة، لعلها تجد فيها ما يؤنس قلبها، فبذكر الله تطمئن القلوب…
لم تدر سوسن كم مر عليها من الوقت وهي على تلك الحالة، حتى انتبهت فجأة للشوارع المهجورة، التي تراها لأول مرة، فنظرت نحو مرزوق لتسأله بدهشة:
– ما هذا المكان؟ لا أذكر أننا مررنا من هنا سابقا، فهل هو طريق مختصر للمنزل!!
وأمام صمت مرزوق المريب، انتابها شعورٌ بالخوف، غير أن الرعب بلغ بها ذروته، عندما توقفت السيارة فجأة، لتفاجأ بأربعة رجال ملثمين، يحيطون بهم من كل جانب..
فهتفت في هلع:
– مرزوق.. مالذي يجري هنا؟؟ إنني لا أفهم شيئا!!!
إلا أن الصدمة ألجمتها، وهي ترى أحد الملثمين يقترب من مرزوق، الذي فتح له باب السيارة الامامي بهدوء:
– هل تخدعنا يا رجل!! هل تريدنا أن نصدق أن هذه الفتاة المحجبة؛ هي ابنة كارم؟؟
فما كان من مرزوق إلا أن أجابه بتوتر واضح:
– أقسم أنها هي، لقد فوجئت مثلكم بارتدائها الحجاب هذا اليوم فقط! ستجدون جميع اثباتاتها الشخصية في حقيبتها، فتأكدوا بأنفسكم، واتركوا عائلتي وشأنها الان، فقد أديت المهمة..
تسارعت النبضات في صدر سوسن، أهؤلاء هم الأعداء الذين تحدث عنهم والدها ذات مرة، فأحضر لها هذا السائق الأمين ليكون حاميا لها منهم!!!!
وقبل أن تهم سوسن بفتح فمها، شعرت بيد قوية تُكممه بعنف، حتى شعرت بالاختناق الشديد، فانتفضت بشدة في محاولة يائسة للدفاع عن نفسها، غير أن الرائحة النفاذة التي بدأت تتسلل إلى رأتيها، باشرت مفعولها في التخدير فورا..
ورغم استبسال سوسن في مقاومة الدوار الذي بدأ يُثقل رأسها، إلا أنها بدأت تفقد السيطرة تدريجيا، وهي تشد على ردائها، أمام تلك الحادثة المريعة التي بدأت تتهددها، وهي فتاة وحيدة بين اولئك الرجال! لم تكن خائفة منهم، بالقدر الذي خشيت فيه من أمرٍ واحدٍ فقط، فهو أسوأ موقف قد تتعرض له أي فتاة عربية عفيفة شريفة، بل أكبر مصيبة تهدد أسرتها بأكملها!!!
ومع تمكّن المخدر منها؛ تراخت يداها، وأخذ المشهد الأخير بينها وبين أيهم؛ يلوح في مخيلتها بضبابية، فرددت بكلمات واهية، لم تتجاوز حدود فكرها:
– يــــارب..إن كنت تعلم أنني (تركته لأجلــــــك).. فاحفظني ولا تهتك ستري..
وغابت عن الوعي….
**** نهاية الجزء 22 والاخير في القسم الأول****
فتحت سوسن عينيها بصعوبة، وهي تشعر بخدر غريب يسري في أضلاعها، وآلام حادة في عظامها، فيما كانت أنفاسها المخنوقة تعبر عن صعوبة استنشاق الهواء الثقيل الرطب، الذي يحيط بها من كل جانب، أغمضت عينيها وفتحتهما مجددا لعلها ترى شيئا، غير أنها لم تجد أمامها سوى الظلام!! ظلام حالك السواد، ظلام لا يمكن أن ترى أشد إظلاما منه!!
لا شيء حولها سوى الظلام..
ظلام في ظـــــــــلام في ظـــــــــــــــــــــلام…
أغمضت عينيها وفتحتهما تكرارا ومرارا؛ لعلها تستيقظ من هذا الكابوس المظلم، فلطالما راودتها كوابيس الظلام من قبل، غير أن الظلام كان حقيقيا هذه المرة…
*****
كانت ساعات الصباح الاولى تبشر بيوم عادي من أيام المدينة، فالطرقات لم تزدحم بالسيارات بعد، وعمال النظافة يجوبون الشوارع بحماسة، لعلهم يحظون بمتعة رؤيتها نظيفة، قبل أن يمارس المارة هواياتهم المعتادة في رمي القمامة، لتتبجح بعدها ألسنة البعض منهم؛ بنظافة الشوارع التي زاروها في البلاد الأجنبية، بينما تشارك أيديهم في تلك الهواية القذرة!!
وأمام منزل جميل في أحد الأحياء الهادئة، أوقف شاب سيارته الحديثة، في مصف المنزل الخاص، الذي كان في استقباله، وبعد أن سوى هندامه أمام زجاج النافذة، وتأكد من أناقة بدلته الثمينة، التي لا تدع مجالاً للشك بأنه على موعد هام جداً؛ خطا خطوات رزينة نحو جهاز الاستقبال المعلق أمام المدخل الرئيس، وما أن نطق باسمه رداً على سؤال الخادمة؛ حتى أسرعت بفتح الباب، لتقوده نحو غرفة سيدها الخاصة، قائلة بأدب:
– شكرا لمجيئك، السيد تامر ينتظرك بفارغ الصبر..
سار خلفها بهدوء، حتى إذا ما أدخلته غرفة المكتب الخاصة بالسيد تامر، قلّب عينيه في أرجائها بتمعن، لتستقرا أخيرا على الرجل المنكب على مكتبه، أثناء تفحصه لبعض الأوراق باهتمام، فتساءل بتعجب، وقد استرخت عضلاته المتأهبة نوعاً ما:
– ألا يفترض أن يكون السيد (العميل) هنا؟
ودون أن يرفع الرجل عينيه عن الأوراق، أجابه بهدوء:
– اجلس الان يا رامز، فالأمر ليس بالسهولة التي تتصورها، وعمل كهذا يجب أن يؤخذ بجدية تامة..
شعر رامز ببعض الضيق لتلك الكلمات، ولم يستطع مقاومة التعليق عليها بقوله:
– أنت تعلم تماماً يا سيد تامر بأنني لم أعرض عليك الفكرة، إلا بعد دراسة طويلة وتفكير عميق، وأنت الذي رفضتها بداية، ولستُ أدري أي نوعٍ من الرجال هذا الذي جعلك تفاتحني في الموضوع من جديد، بعد أن يئست من إقناعك بجدواها!!
عندها رفع الرجل عينيه عن الورق، وثبّت نظراته على ذلك الشاب المتوثب، وهو يستقر على مقعدٍ وثيرٍ أمامه:
– حسنا.. ربما أكون قد أخطأتُ في تقييم فكرتك، غير أنني الان في موقف لا يدع لي خيار آخر من تجريبها، وأعدك بأنك إن نجحت في هذه المهمة، فسأشرف بنفسي على ترخيص أول مكتب تحقيقات خاصة من أجلك..
عندها تهلل وجه الشاب بابتسامة مشرقة:
– يبدو الأمر مغرياً فعلاً، وإنني في شوق شديد لشحذ مواهبي بهذا الخصوص..
غير أنه استدرك فجأة:
– أرجو المعذرة.. ولكن ما الذي يجعل صديقك يلجأ إلي، وأنت من أكبر المحققين في سلك المباحث والجنايات العامة!!!
فأجابه تامر:
– لقد قلتَها بنفسك، لأنني في سلك المباحث العامة، وصديقي لا يريد أن تصبح قضيته قضية عامة، يريد البحث بهدوء، بعيداً عن أي ضجة، ولم يكن بإمكاني تقديم هذه الخدمة له بحكم منصبي الحالي!!
أومأ رامز رأسه متفهماً:
– حسنا، للأسف كنت أود مقابلة هذا الصديق، فربما أتمكن من فهم قضيته أكثر! فلا شك أنك تعرف يا سيد تامر، دور الانطباع عن الشخصية؛ في فهم قضيتها..
عندها نهض الرجل من مكتبه وهو يحمل الاوراق بين يديه، ليجلس إلى جانب رامز هامساً، كمن يخشى أن تسمع الجدران كلامه:
– أنت تعرفه بلا شك يا رامز، بل لا يوجد أحد في البلاد لا يعرفه، انه السيد كارم…
وقبل أن يتم كلامه؛ هتف رامز بتعجب:
– أتقصد أنه الرجل الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من منصب رئاسة الوزراء!!!
فأومأ تامر برأسه:
– إنه هو…
فهز رامز رأسه بغير تصديق:
– هذا أمر لا يمكنني استيعابه أبداً! أشعر أن هناك شيء غريب!! فخبر اختطاف ابنة رجل كهذا في ظل ظروف كهذه، سيزيد من شعبيته أكثر إن انتشر الخبر، فالناس يتعاطفون مع هذه الحوادث كثيراً..
فقاطعه تامر بقوله:
– للسيد كارم أسبابه الخاصة بلا شك، ثم إنه ليس من النوع الذي يستغل اختطاف ابنته؛ لصالح الانتخابات، لقد باتت هذه الامور مبتذلة جداً، خذ بعين الاعتبار أن طبيعة الناس هنا؛ مختلفة عما اعتدتَ عليه في الخارج..
لكن رامز الذي لم تعجبه تلك الملاحظة الأخيرة، فقد تجاهلها بقوله:
– أو ربما لم تُختَطف ابنته فعلاً!! ربما هربت بمحض إرادتها، وهذا سيسبب له فضيحة بلا شك!
فتنهد تامر:
– رغم إنني لا أحب التفكير بهذه الأمور، إلا أن جميع الاحتمالات واردة، فالعمل عمل، وهذه قضيتك..
ثم تناول بطاقة من جيبه، بدا عليها الختم الرسمي لامعاً بوضوح، قدمها لرامز قائلاً:
– أرجو أن لا تضطر لاستخدامها، فهي للضرورة فقط، بل أقصى درجات الضرورة، فيما إن وجدتَ نفسك في مأزق لا فكاك منه..
تناول رامز البطاقة من تامر، وتأملها بتمعن:
” مفوض من قبل رئيس المباحث والجنايات العامة
السيد/ تامر عماد “
وبعد أن أخفاها في جيب سترته الداخلي، ابتسم بثقة:
– لا أظنني سأحتاجها أبداً، ولكن العمل يتطلب كافة الاحتياطات..
وبسرعة أخرج مفكرة صغيرة من جيبه، فتحها على صفحة محددة، قبل أن يقول بوضوح:
– اختفت الفتاة المدعوة سوسن كارم قبل يومين، وحسب رواية سائقها الخاص (مرزوق)، فإنها طلبت منه أن ينتظرها عند مدخل السوق ريثما تحضر بعد الحاجيات، لكنها تأخرت مما جعله يظن أنها عادت مع خطيبها كالعادة، خاصة وأن هاتفها كان مغلقاً، أما خاطبها أيهم فهو يدّعي بأنها طلبت منه فسخ خطوبتهما فجأة، بعد أن قابلته في أحد المطاعم المعروفة!! وقد قالت مسؤولة المعهد الفني بأن سوسن قد أنهت ارتباطها بالمعهد، وأبرأت ذمتها منه في اليوم نفسه!!
وصمت رامز قبل أن يتساءل:
– هل الترتيب الزمني للأحداث صحيحٌ هكذا؟
فتنهد تامر:
– لستُ واثقاً من هذا.. خاصة وأن السيد كارم لم يستطع أن يحصل على موعدٍ دقيق من السائق؛ عن آخر مرة رآها فيه، وعلى ما يبدو فإن الخوف ألجم لسان السائق، بل شل تفكيره تماما! لا سيما وأنه يدرك مدى تحمله لمسؤولية اختفاء الفتاة!! فعلى ما يبدو أنه آخر من رآها!!
فعلق رامز:
– وللأسف لا يمكننا أن نعد ذلك دليلا ضده! بل ربما يكون التحقيق مع مثل هذه النوعية من البشر تضليلا لا أكثر، دون أن يدرك أغلبهم أنهم يورطون أنفسهم بذلك!!
فأضاف تامر:
– وبالطبع لم يقم السيد كارم بتحقيقٍ دقيقٍ مع خاطب ابنته، أو مع مسؤولة المعهد حتى لا يثير الشكوك، وفضّل أن يعهد بذلك إليّ مباشرة، خاصة وأن جميع الخدم في منزله رأوا سوسن في الصباح، وهي تغادر المنزل مع السائق بشكل طبيعي، ولم يكن هناك أي شيء لافتٌ للنظر..
أما معرفة حقيقية ما حدث تماما.. فهذه هي مهمتك..
ثم ناوله ملفاً مغلقاً ومختوماً بإحكام، قائلاً:
– وستجد في هذا الملف كافة المعلومات الشخصية عن الفتاة، ومن لهم علاقة بها، مع قائمة من المشتبهين بناء على ظن السيد كارم.. ولا داعي لأن أذكّرك بأهميه الحفاظ على سرية المعلومات الواردة فيه..
واستطرد مُنبّهاً:
– حاول أن تبدأ تحقيقك بعيداً عن منزل السيد كارم، فرغم أهمية استجواب كافة الخدم والعاملين هناك، بما فيهم السائق مرزوق؛ إلا أن خصوصية الوضع المتزامن مع فرز الانتخابات، يحتّم علينا تأجيل ذلك للخطوة الأخيرة، وأرجو أن تتمكن من إيجاد الفتاة قبل ذلك.. فالسيد كارم لا يريد أن يُشعر أحدهم؛ بأنه محل شبهة لديه.. خاصة السائق! لقد أكد على ذلك بشدة، ولا شك أن له أسبابه الوجيهة..
فأومأ رامز برأسه متفهماً:
– لا بأس.. رغم أنني كنت أفضل البدء مع السائق! على كل حال، هل هناك شيء آخر تود إخباري به يا سيد تامر قبل أن أذهب؟
فقال تامر وقد لمعت عيناه فجأة:
– ربما لا يُعد ذلك شيئا هاماً على حسب قول السيد كارم، بل يبدو أنه لم يصدق ما سمعه بهذا الشأن.. ولكنني أراها ملاحظة جديرة بالذكر، ومن يدري.. فقد تكون مفتاح اللغز!
فتأهّب رامز لسماع تلك الملاحظة الغريبة، فيما تابع تامر كلامه:
– لقد ارتدت الفتاة الحجاب لأول مرة، في ذلك اليوم!
****
“- أمي… أخبريني الآن.. من هو أبي؟؟
– أما زلتَ تعيد على مسامعي هذا السؤال؟ ما الذي ينقصك يا بني؟ ألم أقم بتوفير كل شيء لكم؟؟ لماذا لا تتصرف مثل البقية؛ وكأنك الشخص الوحيد الذي نشأ في رعاية أمه فقط!!
– أنا أنا ولست أحد البقية، بل إنك تدركين تماماً مدى اختلافي عن أخي وأختي.. وقد وعدتِني بأن تجيبي على سؤالي عندما أبلغ الثامنة عشر من عمري، واليوم هو يوم ميلادي الثامن عشر.. وأريد أن أعرف!!
وأخيراً نطقت الأم باستسلام:
– والدك رجل عربي……. “
وقبل أن يسترسل رامز بذكرياته عن ذلك اليوم، الذي مر عليه أكثر من ثلاث عشرة سنة؛ انتبه لشاحنة كبيرة ظهرت أمامه فجأة، من التقاطع الذي كان على وشك عبوره مسرعاً بسيارته، حتى كاد أن يتسبب في حادثٍ مروّع، لولا لطف الله به؛ إذ تدارك ذلك في اللحظة الأخيرة، وهو يدور بعجلة القيادة بمهارة، بعد أن داس على كوابح السيارة، متفادياً حصول الكارثة، والتي تم اختصارها بارتطامٍ بسيطٍ في حافة الرصيف الجانبي، لذلك الشارع الضيق، بدل أن يصبح عجينة ملتصقة بتلك الشاحنة، القادمة من الشارع المتعامد عليه..
وبعد أن استقر في مقعده، وهو يتصبب عرقاً من هول ما حدث؛ نزل من السيارة ليطمئن على مقدمتها، فيما أسرع أحدهم نحوه هاتفاً:
– الحمد لله على سلامتك.. كان عليك أن تكون أكثر حذراً، وأنت تمر من هذا التقاطع الخطِر، فلطالما شهد كوارث عديدة من هذا النوع..
فابتسم رامز:
– معك الحق.. ولكن أعتقد أن على حكومتكم أن تتصرف إزاء هذه المشكلة، أو تضع لافتات تنبيهية أكثر؛ قبل أن يصبح المكان مزاراً لليائسين من هذه الحياة!!
فردد الشاب بتؤدة:
– حكومتنا!!! هل أنت ضيف على بلادنا أيها الأخ؟ إنني بالفعل أعتذر بالنيابة عن الجميع..
قال كلمته الاخيرة بنبرة مرحبة، قبل أن يتابع بابتسامة ذات معنى:
– وإن كنتُ أعتقد بأنك تتحمل جزءا من المسؤولية أيضاً، فقد كنتَ سارحاً بلا شك، حتى أنني اضطررتُ لاستخدام زامور سيارتي لتنبيهك!!
ففتح رامز عينيه على اتساعهما بدهشة:
– حقا!! لقد ظننتُ أنني انتبهتُ لمرور الشاحنة من تلقاء نفسي!!
فابتسم الشاب:
– أرأيت!! لقد كنتُ أقود سيارتي خلفك ولم تنتبه إليّ! يبدو أنك لم تكن سارحاً وحسب؛ بل غارقاً في أحلام اليقظة أيضاً!! من لطف الله بك أن نجّاك من حادث مؤكد، وعليك أن تكون أكثر حذراً في المرات القادمة..
فهز رامز رأسه كالمعترف بغلطته:
– معك الحق في هذا..
لم يكد يتم جملته؛ حتى فوجيء بالشاب يتفحص ذراعه اليسرى، قائلاً:
– أظنك ارتطمتَ بزجاج نافذتك بشدة، ومن المستحسن أن نطمئن على حالتك..
فتساءل رامز، وهو يُبدي استسلاماً عجيبا لإرادة ذلك الشاب:
– هل أنت طبيب؟؟
فاومأ الشاب برأسه:
– أجل.. كان يفترض أن أعرّفك بنفسي في البداية… أدعى مهند.. وأعمل في مستشفى المدينة المركزي، ومن حسن تقدير الله أنني عائدٌ للتو لعملي، بعد أن أوصلتُ جدتي للمنزل؛ وإلا لما قابلتني في مثل هذا الوقت من الصباح هنا..
قال مهند جملته الاخيرة، وهو يضع ذراع رامز من يده مُطَمئنا:
– الحمد لله.. لا شيء يدعو للقلق يا سيد..
فمد رامز يده لمصافحة يد الشاب الممتدة نحوه، مكتفياً بذكر اسمه:
– رامز.. شكرا جزيلاً لك، تشرفتُ بمعرفتك..
فابتسم مهند وهو يشد على يده:
– وأنا كذلك.. وأرجو أن تقضي أوقاتاً جميلة في بلادنا..
غير أن رامز استدرك فجأة:
– لقد سرني التعرف إليك أيها الطبيب المحترم، فهل تمانع في إعطائي رقم هاتفك، فقد تساعدني أكثر في التعرف على طبيعة المجتمع هنا، إذا ما احتجتُ لذلك..
ورغم مفاجأته لمهند بهذا الطلب، إلا أن الأخير رد برحابة صدر:
– لا مانع لدي بالطبع، وإن رغبتَ فسأكون متفرغاً بعد صلاة المغرب، لهذا اليوم إن شاء الله، فأهلا وسهلا بك في منزلي..
فتهلل وجه رامز بالبشر، وهو يتناول بطاقة التعريف الخاصة بمهند، والتي طُبع عليها رقم هاتفه، قائلا:
– ربما في وقت آخر، فاليوم لدي مشاغل كثيرة.. وشكرا للدعوة..
إضافة تعليق