كان أيهم يستمع لحديث سوسن – الجالسة أمامه- بصمت مطبق على غير عادته، عندما شعر بيديها تحتضنان قبضتيه المستندتين أمامه، على الطاولة بينهما، فرفع طرفه إليها يتأملها بحجابها لأول مرة منذ أن جلس! غير أنه سرعان ما أرخى عينيه مرة أخرى، متفاديا التحديق في عينيها، أمام إصرارها على موقفها:
– اريد أن أبني معك أسرة سعيدة مستقرة يا أيهم، نربّي فيها أطفالنا تربية صالحة، ونغمرهم بالحب، دون أن يعكر صفوها شيء، هذا هو حلمي، الذي لن يتحقق إلا أن التزمنا أوامر الله..
وترقرقت دمعة في عينها، وهي تتابع بلهجة عميقة صادقة:
– إنني أحبك يا أيهم من أعماق قلبي، وأريد لهذا الحب أن يستمر، وصدقني.. لا أريد شيئا أكثر من أن نبدأ حياة جديدة، تُرضي الله عنا..
وأخيرا تكلم أيهم بصعوبة:
– سوسن.. أنت لا تفهمين موقفي أبدا.. لو كان بإمكاني تلبية طلبك لما ترددت، ولكنه أمر مستحيل!! أنت لا تعرفين كيف وصلت إلى هذه المكانة، التي تطلبين مني التخلي عنها بهذه السهولة، هذا هو عملي، وقد وعدتك بأنني لن أعيد ذلك المشهد أبدا، وسأحرص على تجنب اللقاء بتلك الفتاة من أجلك، أفلا يكفيك هذا يا سوسن؟؟
فبادرته سوسن بقولها:
– لم أقل لك أن تتخلى عن الفن تماما، ولكن هناك طُرق أخرى تستثمر بها موهبتك دون معصية، ولن تكون وحيدا في هذا المجال، فقد بدأ عدد من الفنانين الملتزمين بالظهور على الساحة فعلا، فلم لا تكون واحدا منهم! والتزامك بالصلاة سيساعدك على ذلك بالتأكيد..
ساد صمت بينهما للحظات، لم يقطعه سوى رنين هاتف أيهم، ورغم أنه كان يتجاهل اتصالاته عندما يكون بصحبة سوسن، إلا أنه سرعان ما أجابه هذه المرة، كمن يأخذ متنفسا من أرض معركة؛ يوشك أن يخسرها!
أما سوسن التي أدركت من خلال ردوده أنها مع مدير أعماله، فقد غاص قلبها في الحضيض..
ليس الآن!!
ولم يكد يُغلق هاتفه، حتى رمقها بنظرات عميقة ذات معنى، قائلا بنبرة لا تخلو من ألم:
– قد لا يهمك ما سأقوله الان…
والتقط نفسا عميقا قبل أن يتابع:
– ستُقام حفلة كبيرة غدا بمناسبة حصولي على لقب أكثر نجوم العرب شعبية، ولا يمكنني خذل جمهوري أبدا، فهل يمكنك تقدير هذا؟؟ سوسن.. إنني إحبك كما لم يحب أحدٌ أحدا، ولا أريد أن أخسرك أبدا، ولكن ما تطلبينه مني؛ فوق طاقتي يا حبيبتي..
ولأول مرة منذ تعرفها إلى أيهم، لمحت سوسن دمعات في عينيه، في حين تابع بتأثر واضح وهو يضم يديها بقوة:
– سوسن.. أرجوك، إنني أعشقك ومتيّم بحبك، ولا أريد أن نصل أبدا إلى طريق مسدود لا يكون لنا فيه خيار آخر، أرجوك يا سوسن، بحق الحب الذي بيننا لا تُفسدي ذكرياتنا الجميلة في هذا المكان..
لم تستطع سوسن النطق ببنت شفة، فأرخت عينيها بتأثر شديد، وقلبها يخفق بشدة، إذ أنها لم تشعر بصدق أيهم أكثر مما شعرت به الآن! إنه يحبها بالفعل، ولم تعد تشك في ذلك طرفة عين، ولكن.. ماذا عليها أن تفعل، ألم تتخذ قرارا صارما بأنها لن تتراجع هذه المرة!! فحاولت التجلد لتقول له بهدوء:
– أيهم.. أنت واثق تماما من حبي لك، ولكننا لسنا في قصة خيالية، يُخالف فيها الأبطال سنن الله الكونية، ثم يعيشون بأمان وسلام!! لكل شيء قانون أوضعه الله فيه، والتقوى هي قانون الحب، ومحال أن يدوم بدونها، كالمعزوفة المتناغمة، التي لا يمكن لها أن تكون كذلك؛ إن خرجت عن قانون السلم الموسيقي!! إنها قوانين طبيعية، لا يمكننا أن نخالفها؛ ثم نتوقع نتائج جيدة!!
لم تعرف سوسن كيف نطقت بتلك الكلمات، التي لو أعدّت لها بإحكام، لما خرجت بهذا الانتظام، إنها بالفعل إلهام من الله أجراه على لسانها، مما بث في قلبها نوع من التفاؤل، باستجابة أيهم لها، غير أن تعابير وجهه المنبسطة؛ سرعان ما انقبضت من جديد، ليقول لها بصوت متهدّج:
– الكلام سهلٌ يا سوسن، ولكنك لا تصدقين أنني لا أستطيع فعل ذلك أبدا!! ولو كنت أستطيع؛ لما انتظرت حتى أضعك في هذا الموقف.. فأنت أغلى مخلوق على قلبي، وليس سهلا علي أن أرفض لك طلبا بإمكاني تحقيقه!! أعرف أنني أعيد كلامي أكثر من مرة، فقد قلتُ لك هذا الكلام سابقا.. ولكن هذا بالفعل ما لدي، لذا.. أرجوك.. اعذريني، فأنا لا أستطيع!!
أسقط في يد سوسن، وسالت دموعها بصمت رغما عنها، ولم يستطع أيهم تمالك نفسه أكثر، فنهض من مكانه، وانحنى عليها يحيطها بذراعيه متوسلا:
– لماذا يا سوسن، لماذا لا نتابع طريقنا معا كما كنا دائما؟؟ أرجوك يا حبيبتي، دعينا نتجاوز هذا الأمر، أعطِني فرصة أخيرة، وصدقيني؛ لن تجدي مني ما يسوؤك أبدا، كل شيء فداك يا سوسن إلا هذا الامر، فهو فوق طاقتي واحتمالي، لقد وعدتك بأنني لن أقابل تلك الفتاة مرة أخرى…
غير أن سوسن تكلمت أخيرا:
– أقدّر لك ما تحاول فعله من أجلي، ولكن صدقني، الأمر لا يتعلق بسورا أو غيرها، فما حدث بينكما لم يكن خطؤك وحدك، لقد كان خطئي أيضا، عندما آثرتُ رضاك على رضى الله! إنه أسلوب حياة يا أيهم، وأنا لم أعد أحتمل المضيّ فيه أكثر، لم أعد أطيق مخالفة أوامر الله، ولن أخلع حجابي أبدا بعد الان، مهما كلفني الثمن..
كان كلامها صدمة حقيقية لأيهم، فتراجع إلى الوراء، ليرتكز على الطاولة، إذ لم تعد قدماه تقويان على حمله، فيما التقطت سوسن نفسا عميقا، حاولت معه الحفاظ على رباطة جأشها، حتى لا تنخرط في البكاء، وهي تتابع كلامها بصعوبة:
– إنني متأكدة من أنك ستدرك كلامي هذا يوما ما، وستعلم وقتها… كم كنت أحبك..
ولم تستطع إكمال جملتها التي خنقتها العبرات، فنهضت من مكانها، لتقول كلمتها الأخيرة، التي لم يعد هناك بدٌ منها..
– اريد أن أبني معك أسرة سعيدة مستقرة يا أيهم، نربّي فيها أطفالنا تربية صالحة، ونغمرهم بالحب، دون أن يعكر صفوها شيء، هذا هو حلمي، الذي لن يتحقق إلا أن التزمنا أوامر الله..
وترقرقت دمعة في عينها، وهي تتابع بلهجة عميقة صادقة:
– إنني أحبك يا أيهم من أعماق قلبي، وأريد لهذا الحب أن يستمر، وصدقني.. لا أريد شيئا أكثر من أن نبدأ حياة جديدة، تُرضي الله عنا..
وأخيرا تكلم أيهم بصعوبة:
– سوسن.. أنت لا تفهمين موقفي أبدا.. لو كان بإمكاني تلبية طلبك لما ترددت، ولكنه أمر مستحيل!! أنت لا تعرفين كيف وصلت إلى هذه المكانة، التي تطلبين مني التخلي عنها بهذه السهولة، هذا هو عملي، وقد وعدتك بأنني لن أعيد ذلك المشهد أبدا، وسأحرص على تجنب اللقاء بتلك الفتاة من أجلك، أفلا يكفيك هذا يا سوسن؟؟
فبادرته سوسن بقولها:
– لم أقل لك أن تتخلى عن الفن تماما، ولكن هناك طُرق أخرى تستثمر بها موهبتك دون معصية، ولن تكون وحيدا في هذا المجال، فقد بدأ عدد من الفنانين الملتزمين بالظهور على الساحة فعلا، فلم لا تكون واحدا منهم! والتزامك بالصلاة سيساعدك على ذلك بالتأكيد..
ساد صمت بينهما للحظات، لم يقطعه سوى رنين هاتف أيهم، ورغم أنه كان يتجاهل اتصالاته عندما يكون بصحبة سوسن، إلا أنه سرعان ما أجابه هذه المرة، كمن يأخذ متنفسا من أرض معركة؛ يوشك أن يخسرها!
أما سوسن التي أدركت من خلال ردوده أنها مع مدير أعماله، فقد غاص قلبها في الحضيض..
ليس الآن!!
ولم يكد يُغلق هاتفه، حتى رمقها بنظرات عميقة ذات معنى، قائلا بنبرة لا تخلو من ألم:
– قد لا يهمك ما سأقوله الان…
والتقط نفسا عميقا قبل أن يتابع:
– ستُقام حفلة كبيرة غدا بمناسبة حصولي على لقب أكثر نجوم العرب شعبية، ولا يمكنني خذل جمهوري أبدا، فهل يمكنك تقدير هذا؟؟ سوسن.. إنني إحبك كما لم يحب أحدٌ أحدا، ولا أريد أن أخسرك أبدا، ولكن ما تطلبينه مني؛ فوق طاقتي يا حبيبتي..
ولأول مرة منذ تعرفها إلى أيهم، لمحت سوسن دمعات في عينيه، في حين تابع بتأثر واضح وهو يضم يديها بقوة:
– سوسن.. أرجوك، إنني أعشقك ومتيّم بحبك، ولا أريد أن نصل أبدا إلى طريق مسدود لا يكون لنا فيه خيار آخر، أرجوك يا سوسن، بحق الحب الذي بيننا لا تُفسدي ذكرياتنا الجميلة في هذا المكان..
لم تستطع سوسن النطق ببنت شفة، فأرخت عينيها بتأثر شديد، وقلبها يخفق بشدة، إذ أنها لم تشعر بصدق أيهم أكثر مما شعرت به الآن! إنه يحبها بالفعل، ولم تعد تشك في ذلك طرفة عين، ولكن.. ماذا عليها أن تفعل، ألم تتخذ قرارا صارما بأنها لن تتراجع هذه المرة!! فحاولت التجلد لتقول له بهدوء:
– أيهم.. أنت واثق تماما من حبي لك، ولكننا لسنا في قصة خيالية، يُخالف فيها الأبطال سنن الله الكونية، ثم يعيشون بأمان وسلام!! لكل شيء قانون أوضعه الله فيه، والتقوى هي قانون الحب، ومحال أن يدوم بدونها، كالمعزوفة المتناغمة، التي لا يمكن لها أن تكون كذلك؛ إن خرجت عن قانون السلم الموسيقي!! إنها قوانين طبيعية، لا يمكننا أن نخالفها؛ ثم نتوقع نتائج جيدة!!
لم تعرف سوسن كيف نطقت بتلك الكلمات، التي لو أعدّت لها بإحكام، لما خرجت بهذا الانتظام، إنها بالفعل إلهام من الله أجراه على لسانها، مما بث في قلبها نوع من التفاؤل، باستجابة أيهم لها، غير أن تعابير وجهه المنبسطة؛ سرعان ما انقبضت من جديد، ليقول لها بصوت متهدّج:
– الكلام سهلٌ يا سوسن، ولكنك لا تصدقين أنني لا أستطيع فعل ذلك أبدا!! ولو كنت أستطيع؛ لما انتظرت حتى أضعك في هذا الموقف.. فأنت أغلى مخلوق على قلبي، وليس سهلا علي أن أرفض لك طلبا بإمكاني تحقيقه!! أعرف أنني أعيد كلامي أكثر من مرة، فقد قلتُ لك هذا الكلام سابقا.. ولكن هذا بالفعل ما لدي، لذا.. أرجوك.. اعذريني، فأنا لا أستطيع!!
أسقط في يد سوسن، وسالت دموعها بصمت رغما عنها، ولم يستطع أيهم تمالك نفسه أكثر، فنهض من مكانه، وانحنى عليها يحيطها بذراعيه متوسلا:
– لماذا يا سوسن، لماذا لا نتابع طريقنا معا كما كنا دائما؟؟ أرجوك يا حبيبتي، دعينا نتجاوز هذا الأمر، أعطِني فرصة أخيرة، وصدقيني؛ لن تجدي مني ما يسوؤك أبدا، كل شيء فداك يا سوسن إلا هذا الامر، فهو فوق طاقتي واحتمالي، لقد وعدتك بأنني لن أقابل تلك الفتاة مرة أخرى…
غير أن سوسن تكلمت أخيرا:
– أقدّر لك ما تحاول فعله من أجلي، ولكن صدقني، الأمر لا يتعلق بسورا أو غيرها، فما حدث بينكما لم يكن خطؤك وحدك، لقد كان خطئي أيضا، عندما آثرتُ رضاك على رضى الله! إنه أسلوب حياة يا أيهم، وأنا لم أعد أحتمل المضيّ فيه أكثر، لم أعد أطيق مخالفة أوامر الله، ولن أخلع حجابي أبدا بعد الان، مهما كلفني الثمن..
كان كلامها صدمة حقيقية لأيهم، فتراجع إلى الوراء، ليرتكز على الطاولة، إذ لم تعد قدماه تقويان على حمله، فيما التقطت سوسن نفسا عميقا، حاولت معه الحفاظ على رباطة جأشها، حتى لا تنخرط في البكاء، وهي تتابع كلامها بصعوبة:
– إنني متأكدة من أنك ستدرك كلامي هذا يوما ما، وستعلم وقتها… كم كنت أحبك..
ولم تستطع إكمال جملتها التي خنقتها العبرات، فنهضت من مكانها، لتقول كلمتها الأخيرة، التي لم يعد هناك بدٌ منها..
****
ابتسم مهند لتعليقات جدته المعتادة، دون أن يرد بشيء، فيما كان يسندها أثناء خروجها من غرفة التحاليل في المشفى الذي يعمل فيه، غير أنها أعادت كلامها بإصرار أكبر:
– هيا لم تخبرني برأيك يا بني، أليست مناسبة؟؟ لقد كانت ماهرة جدا أثناء إدخالها الابرة، وسحبها للدم، لقد أحببتها فعلا..
فأجابها مهند وهو يكتم ضحكة خفيفة:
– لا أنكر أنها مناسبة تماما كممرضة، فهي ماهرة حقا، ولكن ما علاقة هذا بي شخصيا؟
فوكزته جدته في خاصرته:
– لا تراوغني يا ولد، أظنها ستكون زوجة مناسبة أيضا، فهي جميلة ومؤدبة وخلوقة…
عندها لم يملك مهند نفسه، فضحك قائلا:
– أليس هذا ما تقولينه دائما عن كل فتاة تقابلينها؟ فكم فتاة سأتزوج يا جدتي الحبيبة؟؟
لكن جدته أصرّت على موقفها هذه المرة:
– ولكنني أحببتها من كل قلبي..
فغمزها مهند مازحا:
– كأنني سمعت هذه الجملة من فترة وجيزة فقط، أليس كذلك؟
فما كان منها إلا أن قرصته في أذنه معاتبة:
– أنا أعرف ما أقول، وقد قلت هذه الجملة آخر مرة عن تلك الرسّامة الطيبة، لكنها كانت مخطوبة، وهذا امر مختلف..
فقال مهند وهو يتظاهر بالتأوه من الألم من قرصتها:
– وما أدراك أن هذه الممرضة ليست مخطوبة أيضا؟
فابتسمت جدته، لتقول بثقة:
– وهل تظنني مغفلة لكي لا أعرف ذلك؟ لقد تحريتُ الأمر بطريقتي الخاصة!
فأطلق مهند ضحكة خافتة:
– كان الأحرى بك أن تعملي في سلك التحقيق يا جدتي، فستكون خدماتك محل تقدير هناك بلا شك..
وقبل أن تعلق جدته بكلمة، انطلقت نداءات في المستشفى تعلن وصول حالة حرجة، فاعتذر مهند من جدته بسرعة:
– سأرافقك الى قاعة الانتظار ريثما أنهي عملي، فانتظريني هناك يا جدتي..
غير أنها زجرته بقولها:
– اذهب بسرعة الان ولا تقلق علي، فأنا أعرف الطريق جيدا، ولا أريد أن يكون حفيدي مقصرا في أداء أمانته، هيا اذهب وفقك الله..
ورمقته بابتسامة رضا وفخر، وهو يجري بسرعة نحو الطواريء، مرددة في سرها:
– حفظك الله يا بني، ووفقك لكل خير، ورزقك الزوجة الصالحة، وأقر عيني بك..
– هيا لم تخبرني برأيك يا بني، أليست مناسبة؟؟ لقد كانت ماهرة جدا أثناء إدخالها الابرة، وسحبها للدم، لقد أحببتها فعلا..
فأجابها مهند وهو يكتم ضحكة خفيفة:
– لا أنكر أنها مناسبة تماما كممرضة، فهي ماهرة حقا، ولكن ما علاقة هذا بي شخصيا؟
فوكزته جدته في خاصرته:
– لا تراوغني يا ولد، أظنها ستكون زوجة مناسبة أيضا، فهي جميلة ومؤدبة وخلوقة…
عندها لم يملك مهند نفسه، فضحك قائلا:
– أليس هذا ما تقولينه دائما عن كل فتاة تقابلينها؟ فكم فتاة سأتزوج يا جدتي الحبيبة؟؟
لكن جدته أصرّت على موقفها هذه المرة:
– ولكنني أحببتها من كل قلبي..
فغمزها مهند مازحا:
– كأنني سمعت هذه الجملة من فترة وجيزة فقط، أليس كذلك؟
فما كان منها إلا أن قرصته في أذنه معاتبة:
– أنا أعرف ما أقول، وقد قلت هذه الجملة آخر مرة عن تلك الرسّامة الطيبة، لكنها كانت مخطوبة، وهذا امر مختلف..
فقال مهند وهو يتظاهر بالتأوه من الألم من قرصتها:
– وما أدراك أن هذه الممرضة ليست مخطوبة أيضا؟
فابتسمت جدته، لتقول بثقة:
– وهل تظنني مغفلة لكي لا أعرف ذلك؟ لقد تحريتُ الأمر بطريقتي الخاصة!
فأطلق مهند ضحكة خافتة:
– كان الأحرى بك أن تعملي في سلك التحقيق يا جدتي، فستكون خدماتك محل تقدير هناك بلا شك..
وقبل أن تعلق جدته بكلمة، انطلقت نداءات في المستشفى تعلن وصول حالة حرجة، فاعتذر مهند من جدته بسرعة:
– سأرافقك الى قاعة الانتظار ريثما أنهي عملي، فانتظريني هناك يا جدتي..
غير أنها زجرته بقولها:
– اذهب بسرعة الان ولا تقلق علي، فأنا أعرف الطريق جيدا، ولا أريد أن يكون حفيدي مقصرا في أداء أمانته، هيا اذهب وفقك الله..
ورمقته بابتسامة رضا وفخر، وهو يجري بسرعة نحو الطواريء، مرددة في سرها:
– حفظك الله يا بني، ووفقك لكل خير، ورزقك الزوجة الصالحة، وأقر عيني بك..
****
كان القلق قد استبد بالانسة ناديا مع قرب انتهاء الدوام، عندما دخلت سوسن بحجابها الذي فاجأ الجميع، حتى الانسة ناديا ألجمتها الدهشة لوهلة؛ فنسيت ما كانت تود إخبار سوسن به، فبادرتها الأخيرة بقولها:
– أعتذر لأنني لم أنتبه لاتصالاتك يا آنسة إلا للتو، وأعتذر لتأخري أيضا..
عندها انتبهت ناديا لما تود قوله بسرعة، فقالت بحماسة:
– لقد تم ترشيحك للمشاركة في منافسة عالمية لمحترفي الفن، وقد جاء الاستاذ سامر بنفسه ليسلمك بطاقة الدعوة، وقد أرفق معها جدول الأعمال أيضا بعد أن ناقشه معي، سيكون أمرا مثيرا جدا..
لم تكد سوسن تسمع اسمع سامر، حتى شعرت بوخزٍ مؤلم في قلبها، فصمتت قليلا قبل أن تقول:
– إنني آسفة حقا، فقد أتيتُ اليوم لإبراء ذمتي..
وقبل أن تترك لناديا فرصة للكلام، تناولت محفظتها، لتخرج منها مبلغا من المال، ناولته لها قائلة:
– هذه دفعة تعويضية مقدمة لبقية السنة، إذ أنني سأترك المعهد..
فقاطعتها ناديا، التي أفاقت من صدمتها بسرعة، لتمنعها من إكمال الكلام:
– مالذي تقولينه يا سوسن!! هل ستفوّتين هذه الفرصة النادرة بسهولة هكذا!! ثم إنك قد بدأتِ بلوحة وعليك إتمامها..
فصمتت سوسن للحظة، إلا أنها سرعان ما قالت بثقة:
– حسنا.. سأنهيها الان إن شاء الله..
وقبل أن تنتظر ردا من ناديا؛ اتجهت نحو لوحتها، متجاهلة نظرات الفضول في أعين الفتيات المحدقة بها، حملقت في لوحتها للحظات، فقد نسيت ما كانت تود رسمه، أو أنها لم تعد تعرف كيف تُكمل ما بدأته سابقا!! فما كان منها إلا أن عزمت أمرها، وهي تتناول فرشاة الاساس الكبيرة، فغمرتها باللون الأسود، وشرعت في رسم لوحتها الأخيرة في هذا المكان..
– أعتذر لأنني لم أنتبه لاتصالاتك يا آنسة إلا للتو، وأعتذر لتأخري أيضا..
عندها انتبهت ناديا لما تود قوله بسرعة، فقالت بحماسة:
– لقد تم ترشيحك للمشاركة في منافسة عالمية لمحترفي الفن، وقد جاء الاستاذ سامر بنفسه ليسلمك بطاقة الدعوة، وقد أرفق معها جدول الأعمال أيضا بعد أن ناقشه معي، سيكون أمرا مثيرا جدا..
لم تكد سوسن تسمع اسمع سامر، حتى شعرت بوخزٍ مؤلم في قلبها، فصمتت قليلا قبل أن تقول:
– إنني آسفة حقا، فقد أتيتُ اليوم لإبراء ذمتي..
وقبل أن تترك لناديا فرصة للكلام، تناولت محفظتها، لتخرج منها مبلغا من المال، ناولته لها قائلة:
– هذه دفعة تعويضية مقدمة لبقية السنة، إذ أنني سأترك المعهد..
فقاطعتها ناديا، التي أفاقت من صدمتها بسرعة، لتمنعها من إكمال الكلام:
– مالذي تقولينه يا سوسن!! هل ستفوّتين هذه الفرصة النادرة بسهولة هكذا!! ثم إنك قد بدأتِ بلوحة وعليك إتمامها..
فصمتت سوسن للحظة، إلا أنها سرعان ما قالت بثقة:
– حسنا.. سأنهيها الان إن شاء الله..
وقبل أن تنتظر ردا من ناديا؛ اتجهت نحو لوحتها، متجاهلة نظرات الفضول في أعين الفتيات المحدقة بها، حملقت في لوحتها للحظات، فقد نسيت ما كانت تود رسمه، أو أنها لم تعد تعرف كيف تُكمل ما بدأته سابقا!! فما كان منها إلا أن عزمت أمرها، وهي تتناول فرشاة الاساس الكبيرة، فغمرتها باللون الأسود، وشرعت في رسم لوحتها الأخيرة في هذا المكان..
***
من وسط الظلام؛ انبعثت ذراعٌ مبتورة، التفت حولها أشواكٌ وإبرٌ حادة؛ تحاول جذبها إلى الأسفل بقسوة؛ لتمنعها من الخروج، حتى أدمتها الجراح الغائرة، غير أنها قاومت حتى اتجهت بأصابع يدها نحو السماء، حيث انبثق شعاع نورٍ، من فتحةٍ وسط الغيوم، فهي تحاول لمس ذاك الشعاع بأصابعها الممدودة، فيما تقاطرت من طرفها المبتور؛ قطرات دم قانية، انسكبت على شكل بتلات وردٍ ممزقة، ملأت الارض بأشلائها المبعثرة، ليختلط السواد الحالك، بالحمرة الداكنة!
كان مشهدا مهيبا، يبث الرهبة في النفوس، لم تملك معه ناديا سوى التحديق فيه بصمت، وقد اقشعر جسدها، وقبل أن تنطق بكلمة، قالت سوسن:
– لقد أكملتُ التزاماتي نحوكم، وأنهيتُ اللوحة التي بدأتها، فأرجو أن تتفهمي رغبتي يا آنسة في ترك المعهد..
وترددت قليلا، قبل أن تعزم أمرها وتتجه نحو سورا، التي تظاهرت بانشغالها بلوحتها، غير أن اقتراب سوسن منها أربكها قليلا، فنهضت واقفة، خاصة بعد أن مدت سوسن يدها نحوها قائلة:
– مع السلامة..
كانت كلمة واحدة فقط، لم تستطع سوسن إضافة جملة أخرى معها، ولم تعقّب سورا بشيء، فاكتفت سوسن بمصافحتها، كما صافحت بقية الفتيات، وذهبت..
وكأنها ذهبت مع الريح..
كان مشهدا مهيبا، يبث الرهبة في النفوس، لم تملك معه ناديا سوى التحديق فيه بصمت، وقد اقشعر جسدها، وقبل أن تنطق بكلمة، قالت سوسن:
– لقد أكملتُ التزاماتي نحوكم، وأنهيتُ اللوحة التي بدأتها، فأرجو أن تتفهمي رغبتي يا آنسة في ترك المعهد..
وترددت قليلا، قبل أن تعزم أمرها وتتجه نحو سورا، التي تظاهرت بانشغالها بلوحتها، غير أن اقتراب سوسن منها أربكها قليلا، فنهضت واقفة، خاصة بعد أن مدت سوسن يدها نحوها قائلة:
– مع السلامة..
كانت كلمة واحدة فقط، لم تستطع سوسن إضافة جملة أخرى معها، ولم تعقّب سورا بشيء، فاكتفت سوسن بمصافحتها، كما صافحت بقية الفتيات، وذهبت..
وكأنها ذهبت مع الريح..
***
أخذ يمشي على غير هدى، يترنح بين الحين والآخر كمن أسكره الشراب، وهو يحدث نفسه بذهول..
ألم يعد الحظ يبتسم لي!! هل هذه هي النهاية حقا!! هل كنتُ مخدوعا بحبها طوال الوقت!!!!! أيُعقل أن تكون ثقتي العمياء بحبها لي مجرد وهم!! لقد كنت واثقا تماما ولا مجال للشك بهذا أبدا! كانت تحبني ولا يمكنني تصور غير هذا!! مستحيل أن تفعلها وتتخلى عني بهذه السهولة!! هذا مستحيل.. مستحيل.. إلا…. إلا إن كان هناك أحد!!
وأخذت صورة سامر تتجسد أمامه بخيلاء، لقد كان وسيما حقا، ويشاطرها موهبتها التي تعشقها!!! أفيكون هو السبب؟؟؟؟
بل إن صورة ذلك الطبيب المحترم، الذي قابله في المعرض، لم تسلم هي الأخرى من الاتهام!!!!
وشعر بغليانٍ في صدره كمرجلٍ غاضب، لا بد أنه واحد من أولئك الأوغاد!!!
وعادت كلمات أنيسة لتنتصب أمامه من جديد، غير أنه حاول طردها من رأسه بسرعة، في محاولة يائسة لمواساة نفسه:
– لا شأن لأنيسة بهذا أبدا، فلا بد أنها الان مجرد سيدة بدينة، وأمٌ لعشرة أطفال يقضون وقتهم في اللعب بالوحل والطين، فيما تستمر هي بالصراخ عليهم!! فما الذي يمكن لفتاة بسيطة مثلها أن تكون غير ذلك!!!
إلا أن كلماتها أخذت تتراقص أمامه بوضوح تام، كاللعنة التي كانت تلاحقه، وعثرت عليه أخيرا، وهيهات أن يفلح بالفرار منها بعد الآن!!
” ستذوق طعم هذا الألم… تذكر كلامــ…”
ولم يستطع أيهم الاحتمال أكثر، فسد أذنيه بكفيه، صارخا بيأس:
– كفى!!! تبا لك يا أنسية، وتبا لتلك القبلة التعيسة!!!
ولكن الجملة بقيت عالقة في ذهنه، متشبثة به بإصرار، كالقدر المحتوم الذي لا فرار منه، فأنّى له أن يهرب منها، وكل خلية في جسده باتت ترددها:
” تذكر كلامي جيدا.. عاجلا أم آجلا، ستذوق طعم هذا الألم”
وأمام ذلك الحضور القوي لكلمات أنيسة، عادت به ذاكرته لذلك اليوم، ليسترجع أحداثه جملة وتفصيلا، إنه اليوم الذي أعلن فيه تمرده على عائلته، بعد أن قرر أن يتخذ لحياته أسلوبا جديدا..
يومها فاجأته أنيسة -ابنة الجيران- وهي تعترض طريقه باكية:
– هل حقا ستغادر القرية؟ كيف تذهب وتتركني هكذا بعدما حدث بيننا؟؟ لقد وعدتني…
فما كان منه إلا أن أعرض بوجهه عنها، قائلا بثقة:
– اطمئني فلم يحدث بيننا شيء كبير، ويمكنك نسيان ذلك بسهولة، وبدء حياة جديدة مع شخص يناسبك، فقد عزمت أمري ولن أتراجع أبدا..
لكنها قاطعته بمرارة:
– كيف تجرؤ على قول هذا!!.. لقد…لقد… لقد قبلتني!!
فنظر إليها بضيق:
– وهل تعدّين هذا أمرا كبيرا؟؟ إنه شيء بسيط جدا يمكن تجاهله، ثم إن أحدا لم يعرف بذلك، وهذا لن يؤثر على سمعتك أبدا، فلا تقلقي، إنها مجرد قبلة عارضة، ولا تترك أثرا خلفها..
إلا أن ذلك لم يخفف عنها كما توقع، بل زاد بكاءها حرقة:
– ولكنها محفورة في قلبي!! ولم أكن لأسمح بشيء كهذا لولا أنك وعدتني! ألم تقل بأنه لا مشكلة في وجود قبلة بيننا ما دمنا سنتزوج في النهاية!! ألم تقل بأنك تحبني ولن تتخلى عني مهما حصل؟
فأجابها بنبرة حاول أن يجعلها مقنعة:
– حسنا إنني أعتذر عن هذا بالفعل.. كانت مجرد نزوة، ولم أكن أدرك تبعاتها تماما، ثم أننا لم نبلغ سن الرشد قانونيا بعد، وكل القرارات التي نتخذها في هذه الفترة، لايمكن أن تُلزمنا بشيء!
فأجابته وهي لا تزال تجهش بالبكاء:
– كيف تقول هذا ونحن في الثامنة عشر من أعمارنا!! لقد كنا بالغين فعلا، ومحاسبين على أفعالنا!!
وأمام بكائها المستمر الذي كاد أن يفضحها، رغم خروجها دون علم أهلها، حاول أيهم تهدئتها بقوله:
– أنت فتاة طيبة يا أنيسة، وستجدين من يحبك ويهتم لأمرك بالتأكيد، فلا تفضحي نفسك الآن، ولن يعلم أحد بما حصل!!
فكتمت أنفاسها بصعوبة، وهي تنشج بخفوت:
– ولكننا نحن الاثنين نعلم… والله يعلم، وما فعلته هو الخيانة بعينها!!
فرمقها بنظرات مغتاظة:
– أيتها الساذجة، هذا ذنب صغير جدا، ولا يذكر مع الامور الحقيقية الكبيرة، هناك أمورٌ أسوأ من هذا بكثير قد تحدث، ومع ذلك لم يكن بيننا شيء منها!! يبدو أنك لا زلت صغيرة، ولا تفهمين شيئا في هذه الحياة!!
كان يتعمد إغاظتها لتنفر منه، غير أنها فاجأته بقولها:
– ولكنني أحببتك بصدق ولا زلت أحبك، ولا أتخيل حياتي من دونك، فإذا كنت سترحل فخذني معك..
عندها انفجر فيها غاضبا لأول مرة:
– افهميني يا أنيسة، ولا تكوني عاطفية وحمقاء هكذا، فالحب ليس كل شيء في هذه الحياة، وهناك أمور أكثر أهمية من هذا بكثير، لا يمكنك أن تكوني شريكتي أبدا، فأسلوب حياتك وحياة عائلتك، بل وحياة عائلتي والقرية بأسرها؛ لا تناسبني ولا تناسب أهدافي..
عندها لم تستطع أنيسة الاحتمال أكثر، فقالت كلماتها الأخيرة بقهر شديد:
– لن أسامحك أبدا.. فتذكر كلامي جيدا.. عاجلا أم آجلا، ستذوق طعم هذا الألم!!
وذهبت أنيسة، فيما بقيت كلماتها تلاحقه، حتى تمكّنت منه أخيرا…
ودمعت عينا أيهم ندما:
– مالي ولك يا أنيسة!!! لقد ذقت الالم الان، فهل رضيت؟؟؟
ألا من مخرج… يارب…
وإذ ذاك انتبه لصوت نغمة منذرة بوصول رسالة، وقبل أن يتناول هاتفه بلهفة، سمع نغمة رسالة أخرى، فهرع لفتح الرسالة المذيلة باسم سوسن، وقلبه يخفق بشدة، ممنيا نفسه بأن تكون قد تراجعت عن قرارها المتهور، وحاول أن يتشبث بالامل، فجاهد ليبتسم قبل أن يفتح الرسالة:
” لقد أودعت في حسابك نوع من التعويض عن كل ما قدمته لي أثناء فترة خطوبتنا، فهذا أقل ما يمكنني فعله لك، وثق بأنني سأكون أسعد إنسانة لو قررتَ العودة لي بعهد جديد، فإنني ما أقدمت على فعل هذا كله، إلا ابتغاء مرضاة الله”
ألم يعد الحظ يبتسم لي!! هل هذه هي النهاية حقا!! هل كنتُ مخدوعا بحبها طوال الوقت!!!!! أيُعقل أن تكون ثقتي العمياء بحبها لي مجرد وهم!! لقد كنت واثقا تماما ولا مجال للشك بهذا أبدا! كانت تحبني ولا يمكنني تصور غير هذا!! مستحيل أن تفعلها وتتخلى عني بهذه السهولة!! هذا مستحيل.. مستحيل.. إلا…. إلا إن كان هناك أحد!!
وأخذت صورة سامر تتجسد أمامه بخيلاء، لقد كان وسيما حقا، ويشاطرها موهبتها التي تعشقها!!! أفيكون هو السبب؟؟؟؟
بل إن صورة ذلك الطبيب المحترم، الذي قابله في المعرض، لم تسلم هي الأخرى من الاتهام!!!!
وشعر بغليانٍ في صدره كمرجلٍ غاضب، لا بد أنه واحد من أولئك الأوغاد!!!
وعادت كلمات أنيسة لتنتصب أمامه من جديد، غير أنه حاول طردها من رأسه بسرعة، في محاولة يائسة لمواساة نفسه:
– لا شأن لأنيسة بهذا أبدا، فلا بد أنها الان مجرد سيدة بدينة، وأمٌ لعشرة أطفال يقضون وقتهم في اللعب بالوحل والطين، فيما تستمر هي بالصراخ عليهم!! فما الذي يمكن لفتاة بسيطة مثلها أن تكون غير ذلك!!!
إلا أن كلماتها أخذت تتراقص أمامه بوضوح تام، كاللعنة التي كانت تلاحقه، وعثرت عليه أخيرا، وهيهات أن يفلح بالفرار منها بعد الآن!!
” ستذوق طعم هذا الألم… تذكر كلامــ…”
ولم يستطع أيهم الاحتمال أكثر، فسد أذنيه بكفيه، صارخا بيأس:
– كفى!!! تبا لك يا أنسية، وتبا لتلك القبلة التعيسة!!!
ولكن الجملة بقيت عالقة في ذهنه، متشبثة به بإصرار، كالقدر المحتوم الذي لا فرار منه، فأنّى له أن يهرب منها، وكل خلية في جسده باتت ترددها:
” تذكر كلامي جيدا.. عاجلا أم آجلا، ستذوق طعم هذا الألم”
وأمام ذلك الحضور القوي لكلمات أنيسة، عادت به ذاكرته لذلك اليوم، ليسترجع أحداثه جملة وتفصيلا، إنه اليوم الذي أعلن فيه تمرده على عائلته، بعد أن قرر أن يتخذ لحياته أسلوبا جديدا..
يومها فاجأته أنيسة -ابنة الجيران- وهي تعترض طريقه باكية:
– هل حقا ستغادر القرية؟ كيف تذهب وتتركني هكذا بعدما حدث بيننا؟؟ لقد وعدتني…
فما كان منه إلا أن أعرض بوجهه عنها، قائلا بثقة:
– اطمئني فلم يحدث بيننا شيء كبير، ويمكنك نسيان ذلك بسهولة، وبدء حياة جديدة مع شخص يناسبك، فقد عزمت أمري ولن أتراجع أبدا..
لكنها قاطعته بمرارة:
– كيف تجرؤ على قول هذا!!.. لقد…لقد… لقد قبلتني!!
فنظر إليها بضيق:
– وهل تعدّين هذا أمرا كبيرا؟؟ إنه شيء بسيط جدا يمكن تجاهله، ثم إن أحدا لم يعرف بذلك، وهذا لن يؤثر على سمعتك أبدا، فلا تقلقي، إنها مجرد قبلة عارضة، ولا تترك أثرا خلفها..
إلا أن ذلك لم يخفف عنها كما توقع، بل زاد بكاءها حرقة:
– ولكنها محفورة في قلبي!! ولم أكن لأسمح بشيء كهذا لولا أنك وعدتني! ألم تقل بأنه لا مشكلة في وجود قبلة بيننا ما دمنا سنتزوج في النهاية!! ألم تقل بأنك تحبني ولن تتخلى عني مهما حصل؟
فأجابها بنبرة حاول أن يجعلها مقنعة:
– حسنا إنني أعتذر عن هذا بالفعل.. كانت مجرد نزوة، ولم أكن أدرك تبعاتها تماما، ثم أننا لم نبلغ سن الرشد قانونيا بعد، وكل القرارات التي نتخذها في هذه الفترة، لايمكن أن تُلزمنا بشيء!
فأجابته وهي لا تزال تجهش بالبكاء:
– كيف تقول هذا ونحن في الثامنة عشر من أعمارنا!! لقد كنا بالغين فعلا، ومحاسبين على أفعالنا!!
وأمام بكائها المستمر الذي كاد أن يفضحها، رغم خروجها دون علم أهلها، حاول أيهم تهدئتها بقوله:
– أنت فتاة طيبة يا أنيسة، وستجدين من يحبك ويهتم لأمرك بالتأكيد، فلا تفضحي نفسك الآن، ولن يعلم أحد بما حصل!!
فكتمت أنفاسها بصعوبة، وهي تنشج بخفوت:
– ولكننا نحن الاثنين نعلم… والله يعلم، وما فعلته هو الخيانة بعينها!!
فرمقها بنظرات مغتاظة:
– أيتها الساذجة، هذا ذنب صغير جدا، ولا يذكر مع الامور الحقيقية الكبيرة، هناك أمورٌ أسوأ من هذا بكثير قد تحدث، ومع ذلك لم يكن بيننا شيء منها!! يبدو أنك لا زلت صغيرة، ولا تفهمين شيئا في هذه الحياة!!
كان يتعمد إغاظتها لتنفر منه، غير أنها فاجأته بقولها:
– ولكنني أحببتك بصدق ولا زلت أحبك، ولا أتخيل حياتي من دونك، فإذا كنت سترحل فخذني معك..
عندها انفجر فيها غاضبا لأول مرة:
– افهميني يا أنيسة، ولا تكوني عاطفية وحمقاء هكذا، فالحب ليس كل شيء في هذه الحياة، وهناك أمور أكثر أهمية من هذا بكثير، لا يمكنك أن تكوني شريكتي أبدا، فأسلوب حياتك وحياة عائلتك، بل وحياة عائلتي والقرية بأسرها؛ لا تناسبني ولا تناسب أهدافي..
عندها لم تستطع أنيسة الاحتمال أكثر، فقالت كلماتها الأخيرة بقهر شديد:
– لن أسامحك أبدا.. فتذكر كلامي جيدا.. عاجلا أم آجلا، ستذوق طعم هذا الألم!!
وذهبت أنيسة، فيما بقيت كلماتها تلاحقه، حتى تمكّنت منه أخيرا…
ودمعت عينا أيهم ندما:
– مالي ولك يا أنيسة!!! لقد ذقت الالم الان، فهل رضيت؟؟؟
ألا من مخرج… يارب…
وإذ ذاك انتبه لصوت نغمة منذرة بوصول رسالة، وقبل أن يتناول هاتفه بلهفة، سمع نغمة رسالة أخرى، فهرع لفتح الرسالة المذيلة باسم سوسن، وقلبه يخفق بشدة، ممنيا نفسه بأن تكون قد تراجعت عن قرارها المتهور، وحاول أن يتشبث بالامل، فجاهد ليبتسم قبل أن يفتح الرسالة:
” لقد أودعت في حسابك نوع من التعويض عن كل ما قدمته لي أثناء فترة خطوبتنا، فهذا أقل ما يمكنني فعله لك، وثق بأنني سأكون أسعد إنسانة لو قررتَ العودة لي بعهد جديد، فإنني ما أقدمت على فعل هذا كله، إلا ابتغاء مرضاة الله”
*******
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
إضافة تعليق