تركته لأجلك! – الحلقة 35
2023-07-05 - ضياء
لا تذكر تماما ما الذي حدث بعد ذلك، فقد كانت شبه غائبة عن الوعي وكأنها في حلم، كل ما تذكره أنها انطلقت بسرعة كمن تفر من الجحيم!! حتى إذا ما وجدت نفسها خارج المبنى دون أن يلحظها أحد ترقرقت عيناها بالدموع شكرا لله، وما لبثت أن شعرت بتهالك شديد!! تهالك أشعرها بألم لا يطاق، ليس في جسمها.. بل في قلبها!! كيف آلت الأمور إلى هذا الحال!! كانت على وشك تقديم رسالتها في تلك اللوحة!! لكنها لوحة لم يقدّر الله لها الاكتمال!!
لم تعد إلى البيت مباشرة.. فلم تكن قدماها تقويان على الرجوع.. بل اتجهتا بتلقائية نحو حديقة عامة؛ وجدت لأحزانها مكان فيها تحت ظل شجرة..
وترقرقت عينا نوربالدموع وهي تذكر تلك الكلمات التي خرجت مع آهات قلبها بعد ذلك، فقد اتخذت قرارها، قرارا لا رجعة فيه ولا هوادة، قرارا تطرح من خلاله عاطفتها جانبا، حتى ولو اضطرت لسحق مشاعرها سحقا!!
لم تكن شاعرة، ولم تكن خواطرها المتناثرة مما يصح اطلاق اسم الشعر عليه، غير أن ما جادت به مشاعرها المحطمة آنذاك؛ كان أشبه ما يكون بترانيم حزينة لقلب مكلوم!
إلهي لا تعذبني فقلبي لن يطق صبرا
ظننتُ بداية أني محنّكة وبي الفخرا
فإذ بي ربي مخلوقٌ أصاب غروره الكبرا
فأعمته الغشاوة عن حقيقة نفسه المُرّا
وها أنا يا إله الكون أشهد أنني صفرا
وأشهد أنك الرحمن رب الأرض والشعرى
فهل لي يا رجاء الخلق بعد جنايتي عذرا
فإني في معاناة تفجر أدمعي نهرا
وضاق الصدر بالالام والاحزان وانفطرا
وصار الهم يجري في عروق النفس مستعرا
أحيي الصحب باسمة ولا يدرون بي قهرا
ولكني أرى يأسي من الغفران كالكفرا
فلولا أن لي ربا له يسرٌ يلي عسرا
وأنه سامع النجوى وسري عنده جهرا
وأنه كاشف البلوى مجيب دعاء مضطرا
لما طابت لنفسي العيش في دنيا بها كدرا
ولا صاحبت إخوانا ولا حادثتهم خبرا
ولا سمعت لي الآذان شدو بلابل السحرا
ولا ذقتُ الطعام ولا نعمتُ بأنعمٍ تترى
.
.
– نور.. نور ألا تسمعينني!!
انتبهت نور على صوت والدتها أخيرا، فنهضت من مكانها بسرعة وهي تشعر بالذنب، إذ كان من النادر أن لا تلبي نداء والدتها من المرة الأولى:
– آسفة يا أمي لم انتبه لندائك، هل تريدين شيئا؟؟
فرمقتها أمها بقلق وهي تلاحظ شرودها الغريب:
– ما الذي أصابك يا ابنتي، هل حدث شيء؟؟ عامر يحاول الاتصال بك؛ لكنك لا تردين على هاتفك، فاتصلَ بي، سوف يعود الليلة إن شاء الله..
فهتفت نور بدهشة:
– حقا!! علي أن أعود إلى منزلي وأقوم بنفضه فورا!!
وقبل أن تهم بمعاودة الاتصال بعامر بعد أن رأت ثلاث مكالمات منه، رن هاتفها فردت عليه فورا بلهجة مرتبكة:
– اعذرني يا عامر، فلم انتبه لاتصالك.. لقد أخبرتني أمي الآن وسأنتظرك في المنزل إن شاء الله..
غير أن صوته بدا قلقا بعض الشيء وهو يسألها باهتمام:
– هل أنت بخير يا عزيزتي؟؟
كان سؤاله مباغتا بالنسبة لحالتها فلم تعرف كيف تصيغ إجابة مناسبة، فاصطنعت ابتسامة مرحة بسرعة:
– لا شيء مهم، كنت شاردة فقط، فلا تقلق!!
***
انتبهت سوسن لنداء سيدة أخذت تهتف باسمها من وسط الجمع المحيط بها أمام لوحاتها في المعرض العالمي، فالتفتت نحوها لتجد العجوز التي التقتها في غرفة المصلى سابقا تلوح لها بابتسامة عريضة، فأسرعت نحوها لتحييها بابتسامة مماثلة:
– مرحبا بك يا خالة، لقد افتقدتك أمس وظننتك لن تأتي!
فاعتذرت لها العجوز بضحكة مرحة:
– ها أنت ترينني أمامك الآن يا ابنتي، لقد أخذنا الوقت البارحة ولم نتمكن من العودة لرؤية زاويتك، لذا ألححتُ على حفيدي أن يحضرني اليوم خصيصا لرؤيتها قبل أن يغلق المعرض أبوابه..
فابتسمت سوسن برقة:
– هذا لطف كبير منك يا خالتي، ويسعدني سماع رأيك عنها..
غير أن العجوز بدت قلقة وهي تلتفت يمنة ويسرة فسألتها سوسن بتوجس:
– هل تبحثين عن شيء؟
فتمتمت العجوز بصوت خفيض بالكاد سمعته سوسن:
– غريب.. أين اختفى ذلك الولد! لقد كان يقف إلى جانبي قبل لحظات..
وبتلقائية انتقلت عدوى القلق لسوسن، وكأنها تستمع لحادثة ضياع طفل صغير لم يبلغ سن التمييز بعد! لكن وجه العجوز سرعان ما تهلل بشرا وهي تشير بعينيها إلى شاب ملتح وقف يتأمل اللوحات بعيدا عنهما، فنادته العجوز بعفوية:
– مهند.. ما الذي تفعله عندك؟ لقد قلقتُ عليك يا ولد!
فرد عليها الشاب بأدب، متحاشيا النظر إلى سوسن:
– لا تقلقي يا جدتي إنني أنتظرك..
فضحكت العجوز وهي تخاطب سوسن:
– لا عليك.. لقد أقلقتك معي دون مبرر، فحفيدي خجول بعض الشيء وأخشى عليه الضياع أحيانا..
ورغم احمرار وجنتي سوسن من مفاجأتها برؤية ذلك الشاب الناضج الذي يظهر عليه سيماء التدين والالتزام، والذي ذكرها لوهلة بعامر زوج نور، إلا أنها شعرت برغبة عارمة باطلاق ضحكة كادت أن تفلت منها، وهي تحدث نفسها:
– أهذا هو الطفل الذي تخشى عليه الجدة من الضياع!!!
لكن العجوز لم تتركها لأفكارها كثيرا إذ سرعان ما انخرطت بالسؤال عن أدق التفاصيل في كل لوحة، فيما أخذت سوسن تشرح لها بحماسة منقطعة النظير، أما أيهم الذي عاد للتو من دورة المياه، فلم يخفى عليه ملاحظة ذلك الشاب الواقف بهدوء إلى جانب لوحات سوسن..
أخذ يراقبه بتمعن وقد شعر بأنه رآه من قبل دون أن يذكر أين!! لسبب ما شعر برغبة قوية في مراقبته بتفحص أكثر، وملاحظة نظراته دون أن يشعر، غير أن النتيجة التي حصل عليها كانت واحدة..
لم يره ينظر ولا مرة واحدة نحو سوسن!!
كان هذا هو أكثر ما شغل بال أيهم في تلك اللحظات!! بينما أخذت يده توقع بحركة آلية على دفاتر المعجبات اللاتي اجتمعن حوله، غير أنه انتبه لصوت سيدة عجوز تخاطبه:
– أنت أيهم خطيب سوسن إذن! أنت محظوظ حقا بها يا بني..
فابتسم لها أيهم مجاملة وقد سره ظهورها الذي أراح يده قليلا من كثرة التواقيع؛ بعد أن تحوّلت الانظار نحوها باستفهام غريب، وقبل أن يهم بالرد عليها ولو بكلمة، كانت قد نادت حفيدها قائلة:
– هذا هو أيهم خطيب سوسن، تعال وسلم عليه يا مهند قبل أن نذهب..
وبمنتهى البساطة قامت الجدة بمهمة التعارف بين الشابين، دون أن تبدو أدنى غضاضة على وجه مهند الذي أخذت الجدة تتحدث نيابة عنه كالطفل الصغير، فيما قام هو بمصافحة أيهم بابتسامة بشوشة:
– سررتُ بمعرفتك، أرجو أن لا يكون هذا قد أزعجك؛ فجدتي تعد الجميع إما ابناءها أو أحفادها..
فيما تابعت الجدة كلامها بابتهاج:
– مهند طبيب حاذق جدا ما شاء الله يمكنك استشارته في أي أمر تشاء..
والتفتت نحو مهند قائلة:
– ربما لو أعطيته بطاقتك فسيكون هذا أفضل يا بني..
وبانصياع تام أخرج مهند محفظته وتناول منها بطاقة ناولها لأيهم بابتسامة ودودة:
– يسعدني اتصالك في أي وقت..
وبمجاملة تامة تناول أيهم البطاقة وهو يبتسم باقتضاب:
– شكرا لك..
فيما بقيت نظراته معلقة بذلك الشاب الذي لم يرق له مظهره، حتى توارى عن ناظريه وسط الجموع، فتنهد ملتفتا لسوسن التي أخذت تبلل حلقها من قارورة ماء:
– شاب غريب حقا!! ألا يذكّرك بشخصٍ ما!
همت سوسن أن تجيبه؛ لكنها تداركت نفسها فأمسكت عن الإجابة، فيما تابع أيهم طرح أسئلته بتفحص:
– ما رأيك فيه؟
فوجئت سوسن بسؤاله، هل هو فخ ما، ويُفترض بإجابتها أن تكون على نسق معين!!
فصمتت قليلا قبل أن تقول بعد إلحاحه الشديد:
– إنه شاب مهذب!!
فرمقها أيهم بنظرات ذات معنى:
– أهذا كل ما لديك؟؟
فنظرت اليه سوسن بتعجب، مما جعله يتوجه لسؤاله التالي:
– وكيف استنتجت ذلك؟
فأجابته بعفوية:
– لم يكن ينظر نحوي مطلقا على عكس غيره من الرجال!
فسألها بسرعة كمن يوجه الضربة القاضية:
– وكيف عرفت ذلك؟؟
بوغتت سوسن من ذلك السؤال ولم تجد ما ترد به عليه، فتابع أيهم كلامه:
– يبدو أنك أنتِ من كان ينظر إليه يا سوسن!! أظن أنه النوع الذي بات يستهويك من الرجال!!
فاحمرت وجنتاها بنوعٍ من الغضب، وهي ترد بحدة:
– ما الذي تعنيه بكلامك؟؟ أيهم.. لم أعد أفهمك!!!!
فتدارك أيهم نفسه بسرعة:
– لا تسيئي فهمي يا عزيزتي، كان مجرد تعليق عابر..
وتناول يدها بحركة خاطفة ليقربها من شفتيه هامسا:
– آسف لتعكير مزاجك يا حبيبتي في آخر يوم لك في هذا المعرض..
ولأول مرة لم تفلح تلك الطريقة في امتصاص غضبها، بل زادت من امتعاضها لا سيما وقد أصبحت مركزا لأهداف العيون المحدقة بهما من كل جانب، فسحبت يدها قائلة:
– لا بأس.. كما قلت؛ فاليوم هو آخر أيام المعرض..
وأخذت تنظر في ساعتها قبل أن تتابع:
– لم يبق أمامنا سوى أقل من ساعة…
غير أن أيهم قاطعها وهو يقف أمامها مباشرة معترضا حركتها:
– لا تزالين غاضبة مني أليس كذلك؟؟
فحملقت فيه سوسن لوهلة فيما تابع كلامه بنبرة ودودة:
– حقا إنني أعتذر يا سوسن، لم أقصد ذلك..
والتقط نفسا عميقا قبل أن يقول:
– لا أعرف كيف أبرر ما قلته لك سابقا، لكنني..
وصمت قبل أن يتابع بتردد أكبر:
– لقد شعرتُ بالغيرة فعلا!
خفق قلب سوسن على حين غرة بمجرد سماعها تلك الكلمة وبتلك النبرة!! كان جادا تماما وهو يقولها هذه المرة، فنظرت إليه بابتسامة مطمئنة:
– أيهم.. أنت أكثر من يعلم بأنه من المستحيل على قلبي أن يهتم برجل آخر غيرك..
غير أنها سرعان ما انتبهت للجماهير التي تحلّقت حولهما كالجراد، وكأنهم بصدد مشاهدة عرض مسرحي على الهواء مباشرة، ولم يخف عليها ملاحظة الأيادي التي أخذت تلتقط الصور بحماسة، فالتفتت نحو لوحاتها محاولة تجاهل ما يجري، بينما كان الدم يغلي في عروقها لأقصى درجة، لا شك أن الصور ومقاطع الفيديو ستنتشر عبر جميع الوسائل الاعلامية كانتشار النار في الهشيم بلمح البصر، وعضّت على شفتيها بضيق محدثة نفسها بألم:
– أهذا يعجبك يا أيهم!! ستزيد شعبيتك بالتأكيد!!
كانت تشعر بأنها واقعة تحت ضغط كفيل بسحق أقسى أنواع الصخور المعروفة على وجه الأرض! اختناق كبير لحد الموت، تمنت معه لو أن الأرض تنشق وتنهيها من الوجود! كم تمقت هذا النمط من الحياة…
وقبل أن تغرق في المزيد من تلك الأفكار المظلمة؛ انتبهت على صوتٍ يهتف بإسمها بلطف شديد، فالتفتت نحوه لتفاجأ بسامر وهو يناولها منديلا معطّرا مع ابتسامة رقيقة:
– تبدين منهكة جدا يا سوسن..
وبدلا من أن تجيبه بأي شيء أو تتناول المنديل منه ببساطة، شعرت بارتباك مفاجئ أفقدها توازنها؛ فالتفتت بسرعة تبحث بعينيها عن أيهم، لتجده غارقا وسط معجبيه حتى النخاع!!!
لم تعد إلى البيت مباشرة.. فلم تكن قدماها تقويان على الرجوع.. بل اتجهتا بتلقائية نحو حديقة عامة؛ وجدت لأحزانها مكان فيها تحت ظل شجرة..
وترقرقت عينا نوربالدموع وهي تذكر تلك الكلمات التي خرجت مع آهات قلبها بعد ذلك، فقد اتخذت قرارها، قرارا لا رجعة فيه ولا هوادة، قرارا تطرح من خلاله عاطفتها جانبا، حتى ولو اضطرت لسحق مشاعرها سحقا!!
لم تكن شاعرة، ولم تكن خواطرها المتناثرة مما يصح اطلاق اسم الشعر عليه، غير أن ما جادت به مشاعرها المحطمة آنذاك؛ كان أشبه ما يكون بترانيم حزينة لقلب مكلوم!
إلهي لا تعذبني فقلبي لن يطق صبرا
ظننتُ بداية أني محنّكة وبي الفخرا
فإذ بي ربي مخلوقٌ أصاب غروره الكبرا
فأعمته الغشاوة عن حقيقة نفسه المُرّا
وها أنا يا إله الكون أشهد أنني صفرا
وأشهد أنك الرحمن رب الأرض والشعرى
فهل لي يا رجاء الخلق بعد جنايتي عذرا
فإني في معاناة تفجر أدمعي نهرا
وضاق الصدر بالالام والاحزان وانفطرا
وصار الهم يجري في عروق النفس مستعرا
أحيي الصحب باسمة ولا يدرون بي قهرا
ولكني أرى يأسي من الغفران كالكفرا
فلولا أن لي ربا له يسرٌ يلي عسرا
وأنه سامع النجوى وسري عنده جهرا
وأنه كاشف البلوى مجيب دعاء مضطرا
لما طابت لنفسي العيش في دنيا بها كدرا
ولا صاحبت إخوانا ولا حادثتهم خبرا
ولا سمعت لي الآذان شدو بلابل السحرا
ولا ذقتُ الطعام ولا نعمتُ بأنعمٍ تترى
.
.
– نور.. نور ألا تسمعينني!!
انتبهت نور على صوت والدتها أخيرا، فنهضت من مكانها بسرعة وهي تشعر بالذنب، إذ كان من النادر أن لا تلبي نداء والدتها من المرة الأولى:
– آسفة يا أمي لم انتبه لندائك، هل تريدين شيئا؟؟
فرمقتها أمها بقلق وهي تلاحظ شرودها الغريب:
– ما الذي أصابك يا ابنتي، هل حدث شيء؟؟ عامر يحاول الاتصال بك؛ لكنك لا تردين على هاتفك، فاتصلَ بي، سوف يعود الليلة إن شاء الله..
فهتفت نور بدهشة:
– حقا!! علي أن أعود إلى منزلي وأقوم بنفضه فورا!!
وقبل أن تهم بمعاودة الاتصال بعامر بعد أن رأت ثلاث مكالمات منه، رن هاتفها فردت عليه فورا بلهجة مرتبكة:
– اعذرني يا عامر، فلم انتبه لاتصالك.. لقد أخبرتني أمي الآن وسأنتظرك في المنزل إن شاء الله..
غير أن صوته بدا قلقا بعض الشيء وهو يسألها باهتمام:
– هل أنت بخير يا عزيزتي؟؟
كان سؤاله مباغتا بالنسبة لحالتها فلم تعرف كيف تصيغ إجابة مناسبة، فاصطنعت ابتسامة مرحة بسرعة:
– لا شيء مهم، كنت شاردة فقط، فلا تقلق!!
***
انتبهت سوسن لنداء سيدة أخذت تهتف باسمها من وسط الجمع المحيط بها أمام لوحاتها في المعرض العالمي، فالتفتت نحوها لتجد العجوز التي التقتها في غرفة المصلى سابقا تلوح لها بابتسامة عريضة، فأسرعت نحوها لتحييها بابتسامة مماثلة:
– مرحبا بك يا خالة، لقد افتقدتك أمس وظننتك لن تأتي!
فاعتذرت لها العجوز بضحكة مرحة:
– ها أنت ترينني أمامك الآن يا ابنتي، لقد أخذنا الوقت البارحة ولم نتمكن من العودة لرؤية زاويتك، لذا ألححتُ على حفيدي أن يحضرني اليوم خصيصا لرؤيتها قبل أن يغلق المعرض أبوابه..
فابتسمت سوسن برقة:
– هذا لطف كبير منك يا خالتي، ويسعدني سماع رأيك عنها..
غير أن العجوز بدت قلقة وهي تلتفت يمنة ويسرة فسألتها سوسن بتوجس:
– هل تبحثين عن شيء؟
فتمتمت العجوز بصوت خفيض بالكاد سمعته سوسن:
– غريب.. أين اختفى ذلك الولد! لقد كان يقف إلى جانبي قبل لحظات..
وبتلقائية انتقلت عدوى القلق لسوسن، وكأنها تستمع لحادثة ضياع طفل صغير لم يبلغ سن التمييز بعد! لكن وجه العجوز سرعان ما تهلل بشرا وهي تشير بعينيها إلى شاب ملتح وقف يتأمل اللوحات بعيدا عنهما، فنادته العجوز بعفوية:
– مهند.. ما الذي تفعله عندك؟ لقد قلقتُ عليك يا ولد!
فرد عليها الشاب بأدب، متحاشيا النظر إلى سوسن:
– لا تقلقي يا جدتي إنني أنتظرك..
فضحكت العجوز وهي تخاطب سوسن:
– لا عليك.. لقد أقلقتك معي دون مبرر، فحفيدي خجول بعض الشيء وأخشى عليه الضياع أحيانا..
ورغم احمرار وجنتي سوسن من مفاجأتها برؤية ذلك الشاب الناضج الذي يظهر عليه سيماء التدين والالتزام، والذي ذكرها لوهلة بعامر زوج نور، إلا أنها شعرت برغبة عارمة باطلاق ضحكة كادت أن تفلت منها، وهي تحدث نفسها:
– أهذا هو الطفل الذي تخشى عليه الجدة من الضياع!!!
لكن العجوز لم تتركها لأفكارها كثيرا إذ سرعان ما انخرطت بالسؤال عن أدق التفاصيل في كل لوحة، فيما أخذت سوسن تشرح لها بحماسة منقطعة النظير، أما أيهم الذي عاد للتو من دورة المياه، فلم يخفى عليه ملاحظة ذلك الشاب الواقف بهدوء إلى جانب لوحات سوسن..
أخذ يراقبه بتمعن وقد شعر بأنه رآه من قبل دون أن يذكر أين!! لسبب ما شعر برغبة قوية في مراقبته بتفحص أكثر، وملاحظة نظراته دون أن يشعر، غير أن النتيجة التي حصل عليها كانت واحدة..
لم يره ينظر ولا مرة واحدة نحو سوسن!!
كان هذا هو أكثر ما شغل بال أيهم في تلك اللحظات!! بينما أخذت يده توقع بحركة آلية على دفاتر المعجبات اللاتي اجتمعن حوله، غير أنه انتبه لصوت سيدة عجوز تخاطبه:
– أنت أيهم خطيب سوسن إذن! أنت محظوظ حقا بها يا بني..
فابتسم لها أيهم مجاملة وقد سره ظهورها الذي أراح يده قليلا من كثرة التواقيع؛ بعد أن تحوّلت الانظار نحوها باستفهام غريب، وقبل أن يهم بالرد عليها ولو بكلمة، كانت قد نادت حفيدها قائلة:
– هذا هو أيهم خطيب سوسن، تعال وسلم عليه يا مهند قبل أن نذهب..
وبمنتهى البساطة قامت الجدة بمهمة التعارف بين الشابين، دون أن تبدو أدنى غضاضة على وجه مهند الذي أخذت الجدة تتحدث نيابة عنه كالطفل الصغير، فيما قام هو بمصافحة أيهم بابتسامة بشوشة:
– سررتُ بمعرفتك، أرجو أن لا يكون هذا قد أزعجك؛ فجدتي تعد الجميع إما ابناءها أو أحفادها..
فيما تابعت الجدة كلامها بابتهاج:
– مهند طبيب حاذق جدا ما شاء الله يمكنك استشارته في أي أمر تشاء..
والتفتت نحو مهند قائلة:
– ربما لو أعطيته بطاقتك فسيكون هذا أفضل يا بني..
وبانصياع تام أخرج مهند محفظته وتناول منها بطاقة ناولها لأيهم بابتسامة ودودة:
– يسعدني اتصالك في أي وقت..
وبمجاملة تامة تناول أيهم البطاقة وهو يبتسم باقتضاب:
– شكرا لك..
فيما بقيت نظراته معلقة بذلك الشاب الذي لم يرق له مظهره، حتى توارى عن ناظريه وسط الجموع، فتنهد ملتفتا لسوسن التي أخذت تبلل حلقها من قارورة ماء:
– شاب غريب حقا!! ألا يذكّرك بشخصٍ ما!
همت سوسن أن تجيبه؛ لكنها تداركت نفسها فأمسكت عن الإجابة، فيما تابع أيهم طرح أسئلته بتفحص:
– ما رأيك فيه؟
فوجئت سوسن بسؤاله، هل هو فخ ما، ويُفترض بإجابتها أن تكون على نسق معين!!
فصمتت قليلا قبل أن تقول بعد إلحاحه الشديد:
– إنه شاب مهذب!!
فرمقها أيهم بنظرات ذات معنى:
– أهذا كل ما لديك؟؟
فنظرت اليه سوسن بتعجب، مما جعله يتوجه لسؤاله التالي:
– وكيف استنتجت ذلك؟
فأجابته بعفوية:
– لم يكن ينظر نحوي مطلقا على عكس غيره من الرجال!
فسألها بسرعة كمن يوجه الضربة القاضية:
– وكيف عرفت ذلك؟؟
بوغتت سوسن من ذلك السؤال ولم تجد ما ترد به عليه، فتابع أيهم كلامه:
– يبدو أنك أنتِ من كان ينظر إليه يا سوسن!! أظن أنه النوع الذي بات يستهويك من الرجال!!
فاحمرت وجنتاها بنوعٍ من الغضب، وهي ترد بحدة:
– ما الذي تعنيه بكلامك؟؟ أيهم.. لم أعد أفهمك!!!!
فتدارك أيهم نفسه بسرعة:
– لا تسيئي فهمي يا عزيزتي، كان مجرد تعليق عابر..
وتناول يدها بحركة خاطفة ليقربها من شفتيه هامسا:
– آسف لتعكير مزاجك يا حبيبتي في آخر يوم لك في هذا المعرض..
ولأول مرة لم تفلح تلك الطريقة في امتصاص غضبها، بل زادت من امتعاضها لا سيما وقد أصبحت مركزا لأهداف العيون المحدقة بهما من كل جانب، فسحبت يدها قائلة:
– لا بأس.. كما قلت؛ فاليوم هو آخر أيام المعرض..
وأخذت تنظر في ساعتها قبل أن تتابع:
– لم يبق أمامنا سوى أقل من ساعة…
غير أن أيهم قاطعها وهو يقف أمامها مباشرة معترضا حركتها:
– لا تزالين غاضبة مني أليس كذلك؟؟
فحملقت فيه سوسن لوهلة فيما تابع كلامه بنبرة ودودة:
– حقا إنني أعتذر يا سوسن، لم أقصد ذلك..
والتقط نفسا عميقا قبل أن يقول:
– لا أعرف كيف أبرر ما قلته لك سابقا، لكنني..
وصمت قبل أن يتابع بتردد أكبر:
– لقد شعرتُ بالغيرة فعلا!
خفق قلب سوسن على حين غرة بمجرد سماعها تلك الكلمة وبتلك النبرة!! كان جادا تماما وهو يقولها هذه المرة، فنظرت إليه بابتسامة مطمئنة:
– أيهم.. أنت أكثر من يعلم بأنه من المستحيل على قلبي أن يهتم برجل آخر غيرك..
غير أنها سرعان ما انتبهت للجماهير التي تحلّقت حولهما كالجراد، وكأنهم بصدد مشاهدة عرض مسرحي على الهواء مباشرة، ولم يخف عليها ملاحظة الأيادي التي أخذت تلتقط الصور بحماسة، فالتفتت نحو لوحاتها محاولة تجاهل ما يجري، بينما كان الدم يغلي في عروقها لأقصى درجة، لا شك أن الصور ومقاطع الفيديو ستنتشر عبر جميع الوسائل الاعلامية كانتشار النار في الهشيم بلمح البصر، وعضّت على شفتيها بضيق محدثة نفسها بألم:
– أهذا يعجبك يا أيهم!! ستزيد شعبيتك بالتأكيد!!
كانت تشعر بأنها واقعة تحت ضغط كفيل بسحق أقسى أنواع الصخور المعروفة على وجه الأرض! اختناق كبير لحد الموت، تمنت معه لو أن الأرض تنشق وتنهيها من الوجود! كم تمقت هذا النمط من الحياة…
وقبل أن تغرق في المزيد من تلك الأفكار المظلمة؛ انتبهت على صوتٍ يهتف بإسمها بلطف شديد، فالتفتت نحوه لتفاجأ بسامر وهو يناولها منديلا معطّرا مع ابتسامة رقيقة:
– تبدين منهكة جدا يا سوسن..
وبدلا من أن تجيبه بأي شيء أو تتناول المنديل منه ببساطة، شعرت بارتباك مفاجئ أفقدها توازنها؛ فالتفتت بسرعة تبحث بعينيها عن أيهم، لتجده غارقا وسط معجبيه حتى النخاع!!!
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم