حب من عبق التاريخ!
2023-07-20 - ضياء
عن القصة:
كثيرا ما نجد انفسنا أمام مفترق طرق يتحتم علينا فيها الاختيار بين أمرين، وما أصعب ذلك لو كان على حساب القلب والحب! سيدة عظيمة، تجد نفسها في موقف عصيب بين زوجها الذي تحبه، ووالدها الذي امرها بفراقه، والهجرة امتثالا لأمر الله! فكيف ستتصرف؟!
التصنيف: تاريخي
في زمن الفروسية العربية الأصيلة، حيث كانت تحتل مكانة عظيمة في نفوس العرب، إذ أن من يحظى بلقب “فارس” لديهم؛ فكأنما حيزت له مجامع الخيرات، ووصل إلى أعلى الدرجات، مما جعل الفرسان يتصدرون المراتب العليا في طبقات ذلك المجتمع، فإن اجتمعت لأحد الفرسان ميزة الحنكة التجارية، إضافة إلى شرف النسب؛ فقد تربع على قمة القمم..
في ذلك الزمن؛ نشأت بطلة قصتنا “زينب”، وترعرعت في أحد بيوت مكة العريقة، لتكون أولى ثمار حب طاهر جمع والديها تحت سقف واحد.. ولم يكن أحدٌ ليبالغ إن قال بأن ذلك البيت كان من أسعد البيوت وأهنئها، بل وجمع الكمال كله، فالأم سيدة حكيمة من أشرف العائلات، ولها جاذبية كبيرة تفوقت بها على قريناتها، فقد اشتهرت بجمالها وحسبها ومالها وشخصيتها الفريدة.. مما جعل جميع الرجال يتوددون لطلب يدها، غير أن شخصا واحدا فقط، تمكن من التسلل إلى شغاف قلبها حتى استوطن فيه.. إنه ذلك الشاب الوسيم بهي الطلعة، الخلوق الشجاع، والذكي المحنك الذي ما عرف العرب من هو في مكانته بينهم.. فأي سعادة حظيت بها تلك الطفلة، في أحضان والدين متحابين متفاهمين، وعلى درجة كبيرة من الأخلاق!
وكأن الحب أبى إلا أن يولّد معه حبا آخر.. فزينب التي نشأت في كنف والدين متحابين، لم يكن غريبا منها أن تستقي بذلك الحب كله؛ لينعكس على صفاتها وأخلاقها، بل ومظهرها أيضا… حتى بدت كحورية حسناء تتهافت نحوها القلوب.. ولكن… أنى لهم الوصول إليها!!
شاب واحد فقط امتلك حق التردد على ذلك البيت الطاهر وكأنه بيته.. كيف لا وهو بيت خالته التي عدته بمثابة ابنها، حتى زوجها عامله كابن له، بل كان يحبه ويكرمه لحسن أخلاقه وشهامته وأمانته، ولم يخف على أحد ما يكنه ذلك الشاب لذلك البيت من الحب والولاء، فقد كان سرعان ما يهرع لزيارة بيت خالته كلما عاد من رحلة من رحلاته الكثيرة- التي كان مولعا بها – حيث يقص أخبار تلك الرحلات على خالته.. وابنتها تصغي له باهتمام بطبيعة الحال.. ولا شك أن هذا كان من أكثر ما يسعده..
ومرت الأيام وكبرت زينب، فيما كان “هو” ينتظر اللحظة الحاسمة بترقب، بل ولم يخف على أي شاب آخر بأن مجرد حلمه بالوصول إلى “زينب”؛ سيكون مستحيلا ما دام ابن خالتها موجودا في الطريق!!
كيف لا.. وهو من أبرز فرسان العرب، بل ومن أبرز تجّارهم أيضا!! مما جعله يحتل مكانة مروموقة في قومه، هذا إلى جانب حسبه ونسبه ومكانته من والديّ “زينب”… باختصار.. إنه “أبو العاص بن الربيع”؛ فمن يجرؤ بعد ذلك كله على تجاوزه!!
وأخيرا… زار أبو العاص بيت خالته تلك الزيارة التي أعد لها عدة طويلة.. فاستقبله زوج خالته بحنوه وبشاشة وجهه المعهودة… فلما رآه شعر بالحرج الشديد.. فجلس صامتا، لا يدري من أين يبدأ الحديث.. وكأن زوج خالته أدرك ما يدور بخاطره، فسأله عن حاجته بحنان ليستوثق من طلبه، فلم يستطع أبو العاص سوى أن يردد حروفاً قليلة بحياء:
– أذكر زينب…..
وصمت..
فتبسم زوج خالته، وأخبره بأنه سيستأذن صاحبة الحق أولا..
مرت اللحظات على أبي العاص ثقيلة حرجة.. لم يكن يشك في القبول، لكن الموقف بحد ذاته له هيبته..
كانت الأم تنتظر هذه اللحظة بشوق، فدخلت على ابنتها وأخبرتها بطلب ابن خالتها، فما كان من الفتاة إلا أن صمتت وأرخت عينيها حياء، وقد اصطبغ وجهها بالحمرة، فتهلل وجه الأم بشرا، لتزف البشارة إلى البيت بأسره..
كانت فرحة لا توصف، حبيبين جديدين على وشك أن يبدآ قصة حب جديدة، تبشر بحياة سعيدة، لا ينغصها شيء… هذا ما كان يُخيل لجميع من حضر حفل الزفاف ذلك اليوم، غير أن للقدر حبكة قصصية أخرى… لم تخطر على بال بشر!!
انتقلت زينب إلى بيت زوجها، وقد أهدتها أمها قلادة غالية عليها، بثتها كل الحب، وكأنها تهديها رمزا من رموز ذلك الحب الذي نشأت في أكنافه، ليلازمها في حياتها وبيتها الذي أصبح مهدا جديدا له..
ورغم أن أبا العاص استمر في رحلاته التجارية، إلا أن ذلك لم يؤثر في علاقته بزينب، بل كان ذلك يزيد من قربهما لبعضهما البعض، إذ يبقى الاثنان على موعد يتجدد باستمرار بعد كل رحلة، ولطالما شدى أبو العاص بأشعار يذكرها فيها خلال غربته عنها، حتى لم يبق أحد في مكة، لم يعلم بمقدار حبه لها..
وكان من ذلك..
ذكرت زينب لما ورَّكت إرما
فقلت سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة
وكل بعل سيثني بالذي علما
لكن الأيام لا تدوم على حالها، والبيوت تتعرض لمحن باستمرار، لتختبر صدق أهلها!! وقد آن الأوان لأصعب اختبار أن يظهر في حياة هذين الحبيبين…
كان ذلك بعد إحدى رحلات أبي العاص بن الربيع، حيث كانت زينب تنتظره بشوق شديد، وهي متلهفة للقائه لتخبره بخبر عظيم هز أرجاء مكة، وكلها أمل أن يكون عند حسن ظنها..
ولم يكد يدخل الباب حتى هرعت نحوه مستبشرة، دون أن يخفى عليها ملاحظة غشاوةٌ من حزن تغطي وجهه، فعزت ذلك لطول السفر، فأسرعت تخفف أحماله، وقلبها يخفق بشدة، إذ لم تعد تطيق الانتظار لتخبره..
لقد بُعث أبي نبيا برسالة الاسلام، لعبادة الله وحده ونبذ الاوثان، وقد أسلمتُ مع أمي وأخواتي، وقد أسلم أبو بكر وعثمان.. حتى ابن عمي الصغير علي قد أسلم، وأرجو أن تكون من السابقين للاسلام..
وأمام صمت أبو العاص، مع تلك الغشاوة التي علت وجهه؛ نبض قلب زينب بوجل..
ما بالك يا ابا العاص!! هل سيفوتك شرف السبق إلى الاسلام!! أيعقل أن لا تكون أحد السابقين لهذا الدين العظيم!!!!
وأخيرا باح أبو العاص بمكنونات صدره..
أرجوك اعذريني وافهميني.. لم أكن لأكذّب والدك فهو صادق أمين، وثقتي به كبيرة، ولكن… لا يمكنني اتباع دينه…. أنت تعرفين مكانتي بين القوم، فهل تقدرين وضعي؟؟؟
أسقط في يد زينب، وغشيها هم كبير لم تحسب له حسابا!!! زوجها وحبيبها وابن خالتها أبا العاص بن الربيع سيبقى على شركه؛ خشية أن يظن الناس بأنه تخلى عن دين آبائه وأجداده، إرضاء لزوجته!!! أي مصيبة هذه!!
دمعت عيناها ولكنها بذلت جهدها لتقبّل الأمر، فهي تعرف زوجها جيدا، وتدرك ما يعنيه هذا الأمر له، فهو من فرسان قريش وتجّارها المرموقين، وله كبرياؤه بينهم…
ولم يهن على أبا العاص رؤية حزنها، فضمها إلى صدره بحب..
أعدك بأن لا أدع هذا الأمر يعكر صفونا، وسأبذل جهدي للوقوف إلى جانبك ما حييت..
وهكذا لم تجد زينب بدٌ من التسليم بهذا الواقع المرير.. هي مسلمة مؤمنة تبذل جهدها لمساندة والدها وأمها في هذه الدعوة الجديدة، وزوجها مشرك وله مكانتته ومجلسه في صفوف المشركين، الذين يعملون على محاربة والدها من أجل القضاء على دعوته!!!
ومع ذلك كله.. بقيت له زوجة وفية محبة، تدعو له بالهداية دائما، وقلبها يحترق ألما كلما رأت زوجها مصرا على شركه، فيما يتزايد عدد الرجال المقبلين على الاسلام… لماذا يا أبا العاص.. لماذا!!!!!!!
ولم يقف الأمر عند هذا الحد.. بل بدأت المحن تتوالى على أهلها الواحدة تلو الأخرى.. ومهما حاول الزوجان أن يتظاهرا بأن الأمور لم تؤثر عليهما.. إلا أنهما لم يكونا بمعزل عما يحيط بهما.. وربما كان بيتهما هو أقل البيوت تضررا في تلك الظروف العصيبة التي زلزلت بيوت مكة، حتى قرر المشركون إمعانا في إيذاء النبي، العمل على تطليق بناته، لعلهم يشغلوه بهمهن عن متابعة دعوته!!
فطلق ابنا أبي لهب، ابنتا الرسول صلى اهاء عليه وسلم رقية وأم كلثوم، والذي كان فكاكا لهما من رجلٍ؛ أعلن العداء جهارا لابن أخيه! بل ويكفي أنه كان فكاكا لهما من حماتهما سليطة اللسان حمالة الحطب!!
وعندما وصل الأمر بالمشركين ليطلبوا من أبا العاص تنفيذ الحكم في حق زوجته، زينب ابنة محمد، على أن يزوجوه من يختار من نساء قريش؛ وقف لهم بالمرصاد وبقوة..
كلا.. لا أطلق زينب أبدا، ولا يمكن لجميع نسائكم وفتياتكم أن يحللن محلها مهما حاولتم..
حتى يئست قريش منه على مضض.. ولم يكن أبا جهل ليسكت عن ذلك، فأضمر له الكيد..
حتى إذا اجتمعت قريش في أحد مجالسها ذات مرة، يتحدثون عن أحوالهم وما ينوون فعله؛ علق أبو جهل باستفزاز:
لا تنسوا أن هناك بيننا من ينقلون الأحاديث لزوجاتهم، فيفشون الأسرار….
غير أن أبا العاص لم يحتمل تلك الاهانة الصريحة، فنهض من مجلسه بغضب، صارخا فيه بحمية..
من تقصد يا هذا؟؟ وضّح كلامك إن كانت لك الجرأة على ذلك!
ولولا تدخل الرجال بينهما لما هدأ ابن العاص حتى ينال منه..
كانت تلك الحوادث تحدث، وزينب لا تنفك عن الدعاء لأبي العاص الذي ما تخلى عنها، رغم كل ما أصابه من قومه بسببها، ليرسم بذلك أسمى لوحات الحب والوفاء، فلم تنسَ له ذلك أبدا.. وأصبحت رحلات أبي العاص أهون عليها من رؤيته في مكة مصرا على شركه، فيما تزداد أعداد المسلمين يوما بعد يوم..
غير أنها كانت تؤمل بأن تكون الأيام القادمة أفضل، فلم تكن لتفقد الأمل بالله أبدا.. ولكن لله سنن، فيها اختبارات وابتلاءات يمحص من خلالها عباده، ليرى صدقهم..
فجاء الحصار الظالم ابتلاء عظيم للمؤمنين، بل ولبني هاشم جميعا.. كان قرارا بلغ فيه الظلم منتهاه عندما أعلنت قريش حصارها لبني هاشم، الذين انحازوا في شعب أبي طالب، حماية للرسول صلى الله عليه وسلم، لقد أُعلن القرار ببنوده على الملأ.. فلا يتزوجون منهم ولا يبتاعون ولا يشترون.. وصمد بنو هاشم والمسلمون إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم في الشعب، الذي كانت فيه زوجته خديجة إلى جانبه، مع ابنتاهما ام كلثوم وفاطمة.. أما رقية فقد كانت في الحبشة مع زوجها عثمان، في حين كانت زينب لا تزال في بيت زوجها أبي العاص ابن الربيع، ترقب تلك الأحداث بحزن وألم، فلم تكن لتقف مكتوفة اليدين وهي ترى أهلها والمسلمون الضعاف يتضورون جوعا، فعزمت أمرها لتكون ضمن أولئك الذين يحملون الطعام سرا لشعب بني طالب إذا جنح الظلام.. ولم يكن أبا العاص ليخفى عليه ألمها الشديد، فلم يكن ليمنعها ويحول بينها وبين ذلك، بل كان من أكثر الداعمين لها في ذلك الموقف.. طوال ثلاث سنوات مريرة من الحصار..
حتى إذا ما فُك الحصار وفُرج عن المسلمين بعد تلك المحنة العصيبة- وذلك بعد أن وقف بضعة رجال من قريش موقف رجولي عادل، في قصة سطرها التاريخ- حلت فاجعة جديدة، وكأن المحن أبت إلا أن تتوالى على زينب وعلى المسلمين، فلم تكد الفرحة تغمرهم بانتهاء الحصار، حتى فجعوا بموت السيدة خديجة التي أنهكها المرض والاعياء خلال السنوات الثلاث.. وكان مصاب الرسول صلى الله عليه وسلم فيها عظيما، فهي أحب الناس إليه، زوجته الحبيبة التي وقفت إلى جانبه بكل ما تملك، ليقول عنها فيما بعد:
“ما أبدلني الله عز وجل خيرا منها ؛ قد آمَنَتْ بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذا حرمني الناس ، ورزقني الله عز وجل ولدها إذ حرمني أولاد النساء”
تلى ذلك وفاة أبو طالب العم الحاني الذي كان درعا لابن أخيه رغم مخالفته لدينه!! حتى سمي ذلك العام بعام الحزن… وقد كان الحزن فيه حزنا بمعنى الكلمة…
حاول أبو العاص بذل قصارى جهده للتخفيف عن زوجته التي بلغت آلامها ذروتها بفقدان أمها، ومصاب أبيها، لا سيما وقد وجدت قريش فرصة لتنال منه بعد وفاة عمه… هذا إلى جانب قلقها على أخواتها.. لا سيما اختها الصغرى فاطمة، التي كانت بمثابة ابنة لها.. فأي ألم بعد هذا كله!!.. وهي مع ذلك حريصة على القيام بحقوق زوجها، الذي كان يكفيه منها حبها الكبير له، ومشاعرها الفياضة تجاهه..
ومرت الأيام.. ولا يزال أبو العاص على شركه، وحبه في الوقت نفسه.. ولا تزال زينب على ايمانها وحبها.. يؤكد على ذلك طفليهما الصغيرين أمامة وعلي، الذين حاول والداهما غمرهما بالحب، ليعوضا عن كل تلك الأحداث العصيبة التي تحيط بهما، إلى أن بدأ المسلمون بالهجرة سرا أو جهرا إلى المدينة، إذعانا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، ليجن جنون قريش، فبدؤا بحبك الخطط خشية أن يفر الرسول من بين أيديهم، فينشر دعوته بين العرب دون أن يملكوا له شيئا… وازداد عدد المهاجرين، ولم يبق في المدينة إلا القلة القليلة… وأخيرا حانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، في حدث عظيم، أصبح تاريخا للمسلمين يؤرخون بها الحوادث والايام!! وهاجرت أخوات زينب كما هاجر معظم المسلمين.. هاجرت رقية مع زوجها عثمان مع المهاجرين السابقين، ثم هاجرت أم كلثوم وفاطمة.. وهكذا.. وجدت زينب نفسها وحيدة في بيت زوجها.. الذي كان يشعر بحزنها وآلامها حتى إن لم تقل له شيئا.. فلا يملك إلا أن يحاول تعويضها عن كل ذلك حبا وحنانا واحتواء، فيما كانت أقصى أمنياتها في ذلك الوقت؛ أن يسلم لتهاجر معه ومع أولادهما، ليلتحقوا جميعاً بركب المسلمين..!!
وأخيرا.. جاء أصعب موقف وجدت زينب نفسها فيه… المشركون في مكة.. سيخرجون لمحاربة المسلمين في المدينة… ووالدها قائد جيش المسلمين، الذين تسأل الله لهم النصر والتمكين، أما زوجها فهو فارس من فرسان قريش الأقوياء، ووجوده في المعركة ضروري جدا أمام قومه، لذا سيخرج في جيش المشركين!!
والدها في جانب… جانب الحق الذي تؤمن به وتتمنى نصره، وزوجها في جانب المشركين!! جانب الباطل الذي تخشى أن يلقى حتفه في ظلاله، فيكون فراقها له أبديا!!!
ولم يكن أبو العاص محبا للخروج في تلك المعركة، ولم يكن يرغب بقتال المسلمين، ولا حاجة له بذلك، وقد حاول طمأنة زينب بأن خروجه للمعركة شكلي فقط، ولكن… أنى لها أن تطمئن!!
مرت تلك الأيام ثقيلة عصيبة على قلب زينب، لم تجد أمامها شيئا تفعله فيها سوى الابتهال إلى الله بدموع عينيها، وبكل ما يحمله قلبها من حرقة، أن ينصر والدها والمسلمين، ويرد لها زوجها سالما ويهديه لطريق الحق المستقيم..
وبقيت متأهبة تتبع الأخبار بقلق، حتى جاءها الخبر اليقين.. لقد انتصر المسلمون، ووقع زوجها بالأسر!
وعرفت أن أهالي الأسرى بدؤا بافتداء أسراهم، فهرعت إلى مالها لتفتدي به زوجها، غير أنها لم تجد لديها ما تفتديه بها؛ أغلى من قلادة أمها الراحلة خديجة.. فدمعت عيناها تأثرا لذكرها.. وذكرى ذلك اليوم..الذي أهدتها فيه هذه القلادة.. يوم زفافها إلى أبي العاص بن الربيع..!! وها هو أبو العاص في الأسر… أفلا تفتديه بقلادة كانت وما زالت رمزا للحب!!
وهكذا حزمت أمرها، وأرسلت أغلى ما تملك؛ لفداء زوجها حبا ووفاء..
وكأن القلادة أبت أن يكون ذلك آخر عهدها في سلسلة الحب، فما أن رآها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حتى عرفها، فرق لها رقة شديدة، ودمعت عيناه تأثرا لذكرى خديجة..
كان موقفا مهيبا اختلطت فيه المشاعر، أبو العاص يرى وفاء زوجته “زينب” له، وهي تفتديه بأغلى ما تملك، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يذكر زوجته الحبيبة خديجة التي كانت نعم المعين له، فما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم، إلا أن استأذن صحابته الكرام بقوله:
(إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيْرَهَا، وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الذي لها)
ولم يكن الصحابة رضوان الله عليهم، إلا ليسارعوا لتلبية رغبة حبيبهم ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا بصوت واحد دون أي تردد:
نعم.. نفعل يا رسول الله..
تلك القلادة… لم تكن مجرد قلادة، بل كانت رمزا قويا للحب والوفاء…
وهكذا.. أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم القلادة لأبي العاص، وطلب منه أن يعيدها لزينب، ثم أسرّ له بسر خطير.. كاد قلب أبو العاص أن يتوقف له ألما… غير أنه، هز رأسه موافقا، وهو يحاول اخفاء دمعات كادت أن تنفر من عينيه، مجيبا بقوله:
أعدك بذلك..
وانطلق أبو العاص عائدا إلى مكة.. ولكن… لم تكن عودته هذه المرة كأي عودة، كيف له أن يخبر زينب بذلك.. كيف!! كان يتمنى أن يهرع إليها، لعله يعبر لها عن حبه الكبير وتقديره لما فعلته من أجله، أما الآن… فقد تلاشى ذلك اللقاء الحميم المتخيل في غياهب الأمنيات البعيدة…
أما زينب التي كانت تنتظر لحظة عودته بفارغ الصبر؛ فقد راعها مظهره وجموده، فخفق قلبها بشدة… ما الذي جرى؟؟ فأشاح بوجهه عنها، كي لا تلحظ دمعات تهز رجولته:
تجهزي للحاق بأبيك يا زينب.. فقد حرّم الاسلام على المسلمة البقاء تحت رجل مشرك.. وقد وعدتُ والدك بردك إليه وإرسالك للمدينة..
وما أن سمعت زينب ذلك، حتى خشع قلبها.. هذا أمر الله إذن… لم يعد أبو العاص زوجها بعد الآن!!
غير أنها سألته وهي تحاول السيطرة على مشاعرها..
أفلا تسلم يا أبو العاص.. فنهاجر معا؟!!
ولكن.. (إنك لا تهدي من أحببت)..
ولم تكن زينب إلا لتسلّم بقضاء الله، ممتثلة لأوامره، فأسرعت تجهّز عدتها…
ولم ينسَ أبو العاص إعادة القلادة لها، ناقلا وصية أبيها إليها..
إياك أن تفرطي في هذه القلادة مرة أخرى..
وكأن أبا العاص حاول التخفيف عنها، فهو إن لم يذهب معها، فهناك جزء منه سيرحل معها:
سيبقى طفلينا معك.. فاعتني بهما..
ولسان حاله يقول.. حبك محفوظ في قلبي رغم الفراق..
رحمك الله يا أبا العاص.. حتى في فراقك كنت رحيما محبا ووفيا..
ولم يكن أبا العاص ليبقى في ذلك المكان أكثر، ليشاهد آخر لحظاته مع زينب، فأسرع نحوه أخيه “كنانة” الذي كان من أقرب الناس إليه، فهو أخوه الذي ييثق به، ويستأمنه على أموره، فطلب منه مرافقة زينب وأولاده ليوصلهم إلى المدينة، وأوصاه بالعناية بهم في الطريق.. ولم يخف على كنانة، معاناة أخيه باتخاذه ذلك القرار، وهو يعلم تماما مقدار حبه لزينب.. فطمأنه بأنه سيبذل جهده في ذلك.. ويكون عند حسن ظنه..
ودّع أبو العاص طفليه (أمامة وعلي)، فضمهما إلى صدره وهو يبثهما كل ما يمتلك من مشاعر..
لا تزال أمامة صغيرة.. ولكنه كان يأمل أن تفهمه، وما زال علي طفلا صغيرا، لكنه بنظره سيكون الرجل الذي سيخلفه ليذكّر زينب به.. رغم أنها هيهات أن تنساه!
اعتنوا بأمكما جيدا.. ولا أريد أن أسمع عنكما إلا كل خير.. إياكما أن تسببا لها المشاكل.. إنني اعتمد عليكما..
لم يستطع وداع زينب، فابتعد عنها ليترك زمام القيادة لأخيه “كنانة”، والذي قدم لها بعيرا، فركبته، وخرج بها وهي على راحلتها في وضح النهار، متجها نحو المدينة، بعد أن حمل قوسه وسهامه، غير أن كفار قريش لم يتركوه وشأنه، فلاحقوه، فيما قام هبار بن الأسود بترصد زينب حتى روعها برمحه، ناخزا ناقتها، حتى سقطت فوق صخرة، سالت عليها دمائها الطاهرة، وكانت حاملا فأجهضت.. وما أن رأى كنانة ما حل بها، حتى كاد أن يفقد صوابه، وقد ثارت حميته، فتصدى للملاحقين ووقف حاميا لها دونهم، ونثر سهامه أمامهم وهو يشد قوسه، متوعدا كل من يفكر بالاقتراب منها بقتله دون تردد، وكان معروفا بمهارته، إذ لم يُخطيء له سهم!
“وَاللهِ لاَ يَدْنُو أَحَدٌ إِلاَّ وَضَعْتُ فِيْهِ سَهْماً”
عندها تدخل أبو سفيان بقوله:
“كُفَّ أَيُّهَا الرَّجُلُ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ
فأرخى كنانة قوسه، ليستمع لأبي سفيان الذي قال له:
إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ، خَرَجْتَ بِالمَرْأَةِ عَلَى رُؤُوْسِ النَّاسِ عَلاَنِيَةً، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيْبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا، وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ مُحَمَّدٍ، فَيَظُنُّ النَّاسُ أَنَّ ذَلِكَ عَنْ ذُلٍّ أَصَابَنَا، وَلَعَمْرِي مَا بِنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيْهَا مِنْ حَاجَةٍ، ارْجِعْ بِهَا، حَتَّى إِذَا هَدَتِ الأَصْوَاتُ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّهَا سِرّاً، وَأَلْحِقْهَا بِأَبِيْهَا”
كان كلام أبو سفيان مقنعا، فلم يجد كنانة بدا من الرجوع بزينب إلى بيت زوجها، لا سيما وأنها بحاجة لمداواة جراحها النازفة، وهو يتخيل مشهد أخيه إن عرف بما حدث لزينب.. فيزداد ألما على ألم..
كان ذلك خارج إرادتي.. سامحني أخي… أعدك أن لا يمسها سوء مرة أخرى، حتى تصل سالمة لأبيها..
كان اختبارا قاسيا لأبي العاص.. فهو يعلم أن زينب لم تعد زوجة له، ولا يحق له الاقتراب منها.. ولولا أنه ما أخلف وعدا قطعه على نفسه قط، لما سمح لها بالذهاب!
ولولا إيمان زينب القوي بالله، وحرصها على تطبيق أوامر ربها.. لما استعجلت السفر.. رغم جراحها.. فلم تمضِ سوى ليال قليلة، حتى خرج بها “كنانة” مرة أخرى في هدوء الليل، إلى أن أوصلها إلى مشارف المدينة، حيث كان زيد بن حارثة – رضي الله عنه- مع رجل آخر من الانصار في استقبالها، فأكملوا المسير معها إلى أن دخلت المدينة، لتلتقي بوالدها الحبيب – صلى الله عليه وسلم- وأخواتها والمسلمين.. غير أن فرحتها بلقاء هؤلاء الأحبة، لم تكن لتكتمل ما دام أبو العاص لا يزال على شركه… ولكنها مشيئة الله، ولم تكن بالتي تسخط على قضائه… فالحمد لله على كل حال…
انتقلت زينب مع طفليها إلى بيت جديد إلى جوار والدها- صلى الله عليه وسلم- والذي أحاطها وأحاط طفليها بكل الحب والرعاية، فكان نعم العوض لها عن كل ما مرت به، كيف لا وهو الأب الحاني العطوف، والجد الرؤوف، الذي لم يكن يمانع في حمل حفيدته الصغيرة “أمامة”، حتى في صلاته في المسجد، إذ كان يحملها إذا وقف قائما، ثم يضعها إلى جواره إذا سجد، حتى ينتهي من صلاته وهي معه.. فكان نعم العوض لهذه الطفلة عن أبيها.. بل كان خيرا لها منه..
فصلى الله على الحبيب محمد، صلى الله عليه وسلم..
ورغم انشغال زينب بأمور الحياة، وهموم المسلمين، ومسؤليات بيتها وأطفالها، إلا أن ذلك كله لم يُنسها “أبو العاص”، الذي ما فتأت تذكره في صلواتها ودعائها دون أن تفقد الأمل بربها، وكلها يقين بأن هذا امتحان من الله لصبرها.. ولم يكن هذا ليخفى عن الحبيب صلى الله عليه وسلم، فلم يأمرها بالزواج مرة أخرى، بعد أن أغلقت أبوابها دون الخطاب، حتى وإن تقدم لها كبار الصحابة وعظماؤهم.. وكلهم يرجو مصاهرته، صلى الله عليه وسلم..
كان- صلى الله عليه وسلم- يعلم بأنها لم تفارق أبا العاص إلا امتثالا لأمر الله، رغم حبها الشديد له، ولم تكن تلك المكانة لأبي العاص في نفس زينب وحسب، بل كانت له مكانته أيضا عنده، صلى الله عليه وسلم، فلطالما ذكره بالخير.. إذ أثنى عليه رغم شركه:
“أبو العاص حدثني فصدقني ووعدني فوفاني”
وقد روي عنه قوله بما معناه: أبو العاص ما آذانا في ابنتنا قط.. و”ما ذممناه صهرا”
ويشاء الله أن تمر الأيام تلو الأيام، والأشهر تلو الأشهر، بل ومرت السنوات، ولا خبر عن أبي العاص بن الربيع..
وهكذا يمحص الله القلوب المؤمنة، فلم يزد ذلك زينبا إلا قربا من الله، وتعلقا به، وهي تناجيه وتدعوه بيقين المؤمنين الصادقين.. أن يهدي أبا العاص بن الربيع، ولا يمته على الكفر، ويقر عينها برؤيته مسلما…
كل ذلك وجسدها يزداد ضعفا يوما بعد يوم، إذ أن جراحها من وقت الهجرة لم تُمحَ آثارها، فقد كانت سقطتها قوية، وجرحها لا يزال غائرا!!
أجل.. لم يكن فعل الهبار بن الأسود ليغتفر! فأن يستأسد رجل قوي على امرأة ضعيفة، لا حول ولا وقوة لها، جريمة كبيرة، لا مكان لها في المنطق العربي، بل وخارج العرف الانساني بأسره!! فلا عجب أن غضب لها الرسول، صلى الله عليه وسلم، حتى أنه أمر بحرق ذلك المجرم على من ظفر به، غير أنه- صلى الله عليه وسلم- استدرك بأنه لا ينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار، فأمر بقتله فقط، بعد أن أهدر دمه..
كانت زينب تشعر بدنو أجلها بين لحظة وأخرى.. غير أن ذلك كله لم يكن ليضعف عزيمتها، أو يقنطها من رحمة ربها.. ست سنوات مضت وهي على تلك الحال.. حتى جاء ذلك اليوم..
كان الوقت سحرا، والمسلمون يتأهبون لصلاة الفجر، عندما سمعت صوت طرقات خفيفة على بابها..
فمن هذا الذي يزورها في مثل هذا الوقت!!!
وإذ بصوتٍ تعرفه جيدا، يناديها باسمها همسا:
زينب.. هذا أنا.. أبو العاص بن الربيع..
لم تكد تصدق أذنيها!!
أبو العاص بن الربيع..! بشحمه ولحمه!!! هل هذا حلم!!
وسرعان ما تذكرت بأنه لم يعد من محارمها، فارتدت حجابها، وسألته بلهجة جادة، لم تشأ أن تستبق من خلالها الأحداث، رغم خفقان قلبها.. فهل تراها اللحظة التي أذن الله بها بإجابة دعائها!
ما الذي جاء بك يا ابن الربيع؟
فأجابها بانكسار:
جئتك مستجيرا يا زينب.. فقد تمكن أصحاب والدك من قافلتي، غير أنني فررتُ منهم، فهل تجيرينني؟
صور كثيرة مرت بخاطر زينب في تلك اللحظات، غير أنها جمعت شجاعتها، واتخذت قرارها، فأدخلته إلى منزلها، وخرجت هي منه.. حتى إذا ما كبّر الرسول صلى الله عليه وسلم لصلاة الفجر، ودخل المسلمون في الصلاة خلفه، صرخت بأعلى صوتها:
“أيها الناس قد أجرتُ أبا العاص بن الربيع فأجيروه..”
وما أن سلم الرسول صلى اله عليه وسلم من الصلاة، حتى التفت إلى أصحابه رضوان الله عليهم:
“أيها الناس هل سمعتم الذي سمعت”؟
قالوا نعم..
قال:
“أما والذي نفس محمد بيده، ما علمت بشيء حتى سمعتموه، وإنه يجير على المسلمين أدناهم”
ثم ذهب- صلى الله عليه وسلم- إلى ابنته التي هرعت إلى استقباله مبررة فعلها..
يا رسول الله.. إن أبا العاص إذا قَرُب فابن خالة، وإذا بَعُد فأبو ولد!
فطمأنها الحبيب صلى الله عليه وسلم، بأنه قبل إجارتها، مذكرا إياها:
“أي بنية، اكرمي مثواه ولا يخلصن إليك فإنك لا تحلين له”
وقد كانت رضي الله عنها وأرضاها حريصة على طاعة أمر ربها، فلم تكن لتتجاوز حدوده أبدا..
ولم يكن أبا العاص ليتجاوز الحدود بينهما أيضا، فشهامته تأبى عليه ذلك، فاكتفى بالجلوس مع طفليه الذين طالت غيبته عنهما..
أما آن لك أن تسلم يا أبا العاص!!
وَبَعَثَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِيْنَ أَصَابُوا مَالَهُ، فَقَالَ: (إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالاً، فَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَرُدُّوْهُ، فَإِنَّا نُحِبَّ ذَلِكَ، وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللهِ، فَأَنْتُم أَحَقُّ بِهِ).
قَالُوا: بَلْ نَرُدُّهُ
وفي مسجد النبي حيث اجتمع الحبيب صلى الله عليه وسلم بأصحابه، بعد أن أجلس أبو العاص إلى جواره، وقد أثنى عليه وعلى أخلاقه، بدأ المسلمون بإعادة كل ما غنموه من تلك القافلة، حتى لم يبق لهم منها شيء، وأبو العاص يرى ذلك أمامه بتأثر.. ولم يكن من دأب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُكره أحدا على الاسلام، فلم يجبر أبو العاص على ذلك، محترما خياراته، فما كان من أبي العاص إلا أن جمع أمواله، ثم اتجه إلى مكة عائدا بها، حتى إذا ما وصلها، وأعاد الحقوق إلى أصحابها- إذ كان تاجرا مؤتمنا لدى قريش- قال:
“يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! هَلْ بَقِيَ لأَحَدٍ مِنْكُم عِنْدِي شَيْءٌ؟
قَالُوا: لاَ، فَجَزَاكَ اللهُ خَيْراً فقد وجدناك وفيا كريما…
قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، وَاللهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الإِسْلاَمِ عِنْدَهُ إِلاَّ خَوْفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالِكُم”
قال كلماته تلك وانطلق باتجاه المدينة، ليترك القوم خلفه في ذهولهم، بعد أن خسروا أحد أبرز رجالهم، ممن اجتمعت لهم الفروسية والتجارة، ليزيد بذلك رصيد المسلمين من تلك النخبة..
وأخيرا.. اقتربت لحظة اللقاء.. وكبّر المسلمون فرحا بإسلام أبو العاص، الذي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، بوجه جديد مشرق بنور الايمان والتوحيد..
ما أشبه اليوم بالبارحة.. هاهو يطلب يد زينب من والدها مجددا.. ومشاعره نحوها لم تتبدل أو تتغير، بل لقد ازدادت في قلبه تدفقا..
وخفق قلب زينب ودمعت عيناها.. فسجدت لله شكرا.. أن هدى أبو العاص للتوحيد وانقذه من براثن الشرك..
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.. لك الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت ولك الحمد بعد الرضى..
والتقى الحبيبان مرة أخرى، لينعما بعظيم فضل الله على عباده.. لقد قطفت زينب ثمرة صبرها، فشكرت.. لتكون مثالا للمؤمنة الصالحة الصابرة الشاكرة في اختلاف الاحوال..
غير أن طبيعة الحياة تأبى الاستمرار على وتيرة واحدة، وكأن زينب قد استنفدت طاقتها في التجلد طوال السنوات الماضية، وقد أقر الله عينها أخيرا بعودة زوجها لها.. وآن لها أن تستعد لملاقاة خالقها.. بعد أن اشتد بها الوجع.. فلم يمضِ على اجتماعها مع أبو العاص أكثر من سنة واحدة، انتقلت بعدها إلى جوار ربها، متأثرة بجراحها القديمة، حتى رأى البعض أنها ماتت شهيدة.. وقد كان ذلك في السنة الثامنة للهجرة..
حزن عليها الحبيب صلى اهنة عليه وسلم، وحزن عليها أبو العاص حزنا شديدا، فبكى بكاء مريرا، حتى أبكى من حوله.. وربما قام البعض بلومه على ذلك، غير أن الحبيب صلى الله عليه وسلم، وهو أرحم الخلق، روي عنه قوله لهم- صلى الله عليه وسلم:
دعوه.. فإن مصابه عظيم..
وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من النسوة اللاتي غسّلن زينب، أن يخبرنه إذا انتهين، قائلا:
“اغسلنها وتراً، ثلاثاً أو خمساً، واجعلن في الآخرة كافوراً أو شيئا من كافور، فإذا غسلتنها،فأعلمنني. فلما غسلناها أعطانا حقوه، فقال: أشعرنها إياه.
” ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قبرها، وهو مهموم ومحزون، فلما خرج سري عنه وقال: كنت ذكرت زينب وضعفها، فسألت الله تعالى أن يخفف عنها ضيق القبر وغمه، ففعل وهون عليها””.
فصلى الله على الحبيب محمد، خير زوج وخير أب، وخير حمى وخير جد، وخير صاحب وخير قائد.. خير خلق الله أجمعين.. صلى الله عليه وسلم
ورضي الله عن السيدة زينب.. نعم المؤمنة الصابرة.. ونعم الابنة البارة الصالحة، ونعم الزوجة الوفية المحبة المخلصة..
ورضي الله عن أبي العاص بن الربيع.. نعم الرجل الشهم الوفي الأمين.. ونعم الزوج المحب..ونعم الصهر البار..
ورضي الله عن صحابة الرسول أجمعين، وبناته الطاهرات وزوجاته أمهات المؤمنين..
رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في الفردوس الأعلى في عليين..
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
*(أعطانا حقوه): الحقو وهو مايشبه الحزام كان يربط عند الخصر قديما..