اسندت سوسن الجانب الأيمن من رأسها إلى نافذة السيارة، سارحة بنظرها للشوارع التي تقطعها سيارتها باتجاه المعهد، ومئات الأفكار والخواطر تجول في ذهنها وتصول.. موضوع مشاركتها في معرض الفنون الذي سيقام لأول مرة في المدينة بعد اسبوعين، انها فرصتها الذهبية لسطوع نجمها في عالم المحترفين كما أخبرتها الآنسة ناديا، لكنها لن تتمكن من المشاركة فيه إن لم تنجز عشر لوحات على الأقل، فهذا معرض عالمي، وسيشارك فيه عشرات الفنانين المشهورين، ولن تقبل فيه مشاركات المبتدئين إلا إن اعتمدت من اللجنة العليا للتقيم.. وتنهدت بعمق:
– هل تراني أنجح في هذه التجربة!!
لكن كلمات الآنسة ناديا المشجعة طمأنتها بعض الشيء، فانتقل فكرها لموضوع آخر.. حفلة الأمس التي قضتها برفقة أيهم.. وما أن طرق اسمه مخيلتها حتى ارتبكت واحمرت وجنتيها و خفق قلبها بشدة، ألهذه الدرجة تحبه!! حتى أن ذكر اسمه يترك اثره العميق في نفسها .. وتأوهت بألم وهي تحاول مدافعة بعض الهواجس التي تعكر مزاجها بين الفينة والأخرى، كم تتمنى أن تشعر بالراحة والاطمئنان، أليس الحب هو مفتاح السعادة!! فما بالها لا تشعر إلا بالقلق والعذاب كلما تذكرت ذلك الحب!! أهذه حقا هي آثار الحب وأشجانه التي طالما سمعت عن آهاتها بين المحبين!! ألا يوجد حب أكثر راحة وطمأنينة!!!
وعندما وصلت إلى هذه النقطة بالذات لفت انتباهها مشاهد بعض الأزواج أو ربما الأصدقاء، وهم يتمشون في أحد المنتزهات في طريقها، وشعرت برغبة عارمة لتسألهم إن ما كانوا يشعرون بما تشعر به، أم أن هذه هي مشاعرها وحدها!! حاولت سوسن أن تجد تفسيرا لما يحدث معها، لماذا كل ذلك القلق، لقد بات يرهقها التفكير في هذا الأمر كثيرا، وكلما هدأت نفسها تجاهه، جاء ما يجدد لها أرقها ويشتت فكرها، ولكن ما الذي جدد ألمها هذه المرة! حفلة الأمس.. أتراها السبب الذي أرق فكرها من جديد!! لقد كان أيهم فخورا بها كثيرا، وأسمعها أندى كلمات الهيام والغزل فلماذا تراودها الهواجس بعد هذا كله!! أليست مطمئنة لحبه لها وهيامه بها، وتنهدت بعمق أكبر هذه المرة:
– اتراه يحبني حقا بقدر ما أحبه!! تصرفاته تشير إلى ذلك، ومن الواضح أنه لا يهتم لأمر أحد غيري- حتى هذه اللحظة على الأقل- ولكن….
غير أن صوت مرزوق، حال بينها وبين الاسترسال في خواطرها، وهو يلتفت إليها متسائلا بتعجب:
– هل تأمرينني بشيء يا آنسة سوسن ؟؟ لقد وصلنا منذ فترة، افلا تودين النزول إلى المعهد ؟؟
انتبهت سوسن لنفسها فاعتذرت بقولها:
– شكرا لك، يبدو أنني شردت قليلا..
ولم تكد تنزل من السيارة حتى اصطدمت بشخص وقف أمامها، لتفاجأ بأيهم يستقبلها بابتسامته المحببة:
– تبدين شاردة الذهن يا فاتنتي، فأين سرح فكرك يا ترى؟؟
ربما لو كانت في حالة أخرى لأخذت الأمور ببساطة أكثر مكتفية برد خجول، لكن هول المفاجأة هذه المرة لا سيما بعد تلك الخواطر التي أنستها طول الطريق، أشعرها بدوار أفقدها توازنها حتى كاد أن يغمى عليها، فلم تتوقع أن تجد أيهم أمامها بهذه السرعة، غير أنه سرعان ما أسندها إلى صدره هاتفا:
– سوسن.. هل أنت بخير!!
وبعد أن استعادت سيطرتها على نفسها، نظرت إليه متظاهرة بالعتب:
– لقد أفزعتني!
فابتسم أيهم وهو يطبع قبلة على جبينها غير آبه بكونهما يقفان على رصيف شارع عام:
– رغم انني متأكد من انني لست السبب.. ولكنني أعتذر!
فهمست سوسن كمن تحادث نفسها:
– بل أنت السبب دائما..
و تنهدت بعمق غاص إلى أعماق نفسها وهي تحادثها:
– آه لو يدري أيهم بم كنت تفكرين طوال الوقت يا سوسن!!
فثبت أيهم عينيه في عينيها القلقتين، محاولا الولوج إلى تلك الأعماق وهو يسألها برقة:
– هل أنت غاضبة مني يا حبيبتي!
وأمام صمتها تابع قائلا بتودد:
– لقد كنت ملكة الحفل ليلة أمس يا سوسن بلا منازع، إنك أروع فاتنة في هذه الدنيا بأسرها..
و بدلا من أن تُدخل تلك الكلمات البهجة إلى قلبها؛ شعرت بغصة في حلقها حالت بينها وبين البوح بما كانت تود اخباره به!! فآثرت الصمت من جديد مما أزعج أيهم الذي يأس من معرفة ما يدور بخلدها، فزفر قائلا:
– أرجوك يا سوسن، إنك تعذبينني بصمتك هكذا! بالله عليك أخبريني، هل أزعجتك بشيء!!
فابتسمت سوسن أخيرا:
– لا عليك يا أيهم، يبدو أنني مرهقة بعض الشيء، فلم آخذ كفايتي من النوم البارحة!
فانفرجت أسارير أيهم وه يحاول اقناع نفسه بصدقها:
– إن كان الأمر هكذا فلا بأس، سآتي للإطمئنان عليك نهاية الدوام، وساصطحبك بنفسي للمنزل، فإنني أرغب بتناول الغداء معك لتحدثيني بكل ما يشغلك.. اتفقنا!
فأجابته سوسن بابتسامة مشرقة:
– اذن سأهاتف بهجة لتعد لك طبقك المفضل..
ولم يقاوم أيهم نفسه من طبع قبلة جديدة على وجنتي سوسن قائلا:
– لن اطيق الابتعاد عنك حتى ذلك الوقت، ولكن ما باليد حيلة فلدي بعض الأعمال علي انجازها مع أحد المسؤولين في وسط المدينة..
ومن حسن حظ سوسن أن الشارع كان لا يزال خاليا في مثل هذا الوقت، إذ يبدو ان ملاحظاتها المتتالية لأيهم حول مراعاة المكان العام لم يثبت عدم جدواه وحسب؛ بل و فشله التام أيضا! فاستسلمت له وهو يحيطها بذراعيه قبل أن يودعها قائلا:
– سأنتظرك بشوق يا حبيبتي فاعتني بنفسك جيدا..
وبعد أن غاب أيهم عن ناظريها وهو ينطلق بسيارته مخترقا الشارع العام، دلفت سوسن عبر بوابة المعهد لتجد نفسها قد وصلت باكرا كعادتها على خلاف ما توقعت، إذ لم تأت الفتيات بعد! حتى الانسة ديانا لم تصل أيضا، وحدها المسؤولة عن التسجيل والاعمال الادارية كانت هناك، فألقت عليها التحية واتجهت نحو مكانها محدثة نفسها:
– يبدو أنني لم أكن انتبه على تأخر الجميع من قبل، فقد كنت أصل في وقت أبكر من ذلك بكثير..على كل حال هذا أفضل، فمن حسن الحظ أنهن لم يكن هنا هذا الصباح..
وابتسمت وهي تستذكر كلمات الآنسة ناديا ” أنت تنسين نفسك تماما وأنت ترسمين يا سوسن”:
– لقد كانت محقة فعلا!
ولم تكد تصل إلى مكانها المعتاد وقد افتقدت أدواتها، حتى تذكرت أمر نور التي انضمت إليهم البارحة فضربت جبهتها بيدها:
– كيف نسيت انني نقلت أدواتي إلى جانبها، يبدو أن سهري ليلة أمس و الارهاق الشديد الذي أشعر به قد أثر علي أكثر مما ينبغي..
قالت ذلك لنفسها بصوت عال متجاهلة ذكر أثر أيهم عليها حتى لا يتشتت تفكيرها من جديد، وما أن التفتت نحو ذلك المكان حتى انتبهت لوجود نور أيضا، وقد بدت غارقة تماما في لوحتها حتى النخاع، فاتجهت نحوها باسمة:
– صباح الخير
وكمن يستيقظ من نوم عميق فجأة، ردت عليها نور ابتسامتها:
– اعذريني لم انتبه لدخولك إلا الآن!
فضحكت سوسن:
– لا بأس فيبدو أننا متشابهتان في هذه النقطة بالذات، هل أنهيت لوحتك التجريبية؟
فأجابتها نور وهي تحاول اخفاء اللوحة عنها بمرح:
– انتظري قليلا فلم يبق سوى الرتوش الأخيرة وستكون جاهزة إن شاء الله..
فأخذت سوسن مكانها إلى جانب نور قائلة بحماسة:
– حسنا سأعد أدواتي وأرى ما لديك فلا يمكنني الانتظار أكثر لرؤية اولى أعمالك هنا!
وأخيرا قالت نور:
– يمكنك رؤيتها الآن..
وما أن وقعت عينا سوسن عليها حتى اقشعر جسدها ودارت بها الدنيا وكأنها تدخل عوالم غريبة تراها للمرة الأولى، فبحثت عن شيء تستند اليه خشية السقوط حتى ارتكزت على نور الواقفة إلى جوارها مرددة:
– مستحيل.. أهذه مجرد لوحة طبيعية عادية!! هذا سحر بلا شك!!!
واغرورقت عيناها بالدموع دون أن تعرف السبب الحقيقي لذلك:
– بالله عليك ما هذا يا نور!!
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
إضافة تعليق