صعدت سوسن الدرج بسرعة وهي تأمل أن لا تكون قد تأخرت كثيرا خاصة وأنها تنوي إضافة بعض اللمسات الأخيرة على لوحتها، أمسكت حافة الدرابزين بيدها وأخذت تقفز على الدرجات على غير عادتها فاصطدمت دون أن تشعر بشاب لم تنتبه لوقوفه أمامها وقد بدا مترددا في متابعة الصعود، فأسرعت تعتذر منه وهي تتشبث بدرابزين الدرج خشية السقوط، غير أن الشاب الذي التفت إليها وقف يحدق فيها لوهلة بانبهار قبل أن يستدرك قائلا:
– اوه.. لا بأس.. أعتذر أنا أيضا عن وقوفي هكذا..
قال كلماته تلك ونظراته لا تزال معلقة بها مما أشعرها بالحرج فانحنت جانبا لتتابع صعودها نحو المعهد، غير أنه استوقفها قائلا:
– عذرا يا آنسة.. أليست هذه بناية معهد الفنون الراقي؟
فأومأت سوسن برأسها ايجابا وهي تلتفت إليه:
– أجل، وهو في الطابق الثاني..
فابتسم الشاب:
– إذن أنت متجهة إليه ، هل أنت من فتيات المعهد؟
ولما ردت عليه سوسن بالإيجاب، مد الشاب يده ليصافحها بنشوة لا مبرر لها:
– لقد سررت بلقائك يا آنسة،.. لاشك أنك إحدى الموهوبات في هذا المعهد.. اسمي سامر مبعوث لجنة التقييم الفنية، وقد جئت للتأكد من صحة العنوان قبل وصول البقية.. فقد يتأخروا عن الموعد المقرر قليلا.. حسنا لا بد أنك مستعجلة سأراك لاحقا…
لم تجد سوسن بدا من مجاملته بابتسامة ودودة وهي تمد يدها لمصافحته، رغم أن حدسها نبأها بأن هذا الحديث كله كان مفتعلا إذ لم يكن من داع له! و لا تدري لِمِ تمنت من أعماق قلبها لو يراهما أيهم في هذا الموقف.. ترى.. ماذا ستكون ردة فعله!!!
فوجئت سوسن بالتغييرات الكثيرة التي أعدتها ناديا لاستقبال الضيوف..فوجدت صعوبة في إقناعها بضرورة استرجاع لوحتها الأخيرة من فوق ركيزة العرض لتضيف عليها بعض اللمسات بسرعة، فيما لم تجد ناديا ضرورة لذلك معلقة:
– إنها جيدة.. أضيفي توقيعك عليها وحسب..
غير أنها استسلمت لإلحاح سوسن عليها متمتمة:
– يبدو أن علي أن أكون ممتنة لحضورها على الأقل!
والتفتت نحو إحدى الفتيات:
– ألم ترد عليك سورا بعد!
فردت بارتباك:
– كلا فهاتفها مغلق!!
عضت ناديا على شفتها بغيظ:
– يا لهؤلاء الفتيات المستهترات!!
كان المعهد في حالة استنفار تام، فقد وقفت المرشحات للمشاركة في المعرض العالمي أمام لوَحهن باستعداد لإجابة أي سؤال أو إضافة توضيح، و تقاسمت الأخريات اداء المهمات الاخرى من استقبال وترحيب وتعريف بالمعهد و ما إلى ذلك.. ومع آخر لمسةٍ من ريشة سوسن، أُعلن نبأ وصول الضيوف فرافقت الآنسة ناديا اللجنة المكونة من فنانين وخبراء ونقاد من كلا الجنسين، فيما أسرعت سوسن بوضع لوحتها على ركيزة العرض الخاصة بها واقفة أمام لوحاتها باستعداد وحماسة.. لقد حانت اللحظة الحاسمة أخيرا ..
ولم يطل الأمر كثيرا على سوسن إذ سرعان ما تحلق حولها ثلاثة من الفنانين لتفاجأ بأن ذلك الشاب الذي قابلته على الدرج كان أحدهم بل وبدا أكثرهم مكانة في عالم الفن، فشعرت ببعض الحرج خاصة وأنه أغدق عليها أكيالا من المدح أطرى فيها الجمال في لوحاتها الحالمة، كان وسيما جدا و ذو شخصية مرموقة بدت واضحة من خلال تعامل بقية أعضاء اللجنة معه مما دل على مكانته بينهم، ولم تنتبه سوسن في البداية لتلك النظرات الحانقة التي أثارها اهتمام سامر بها، إلا أن تهامس الفتيات و تغامزهن فيما بينهن أصبح واضحا لها مع انصباب اهتمام معظم أعضاء اللجنة عليها وقد بدوا متلهفين لفتح حديث معها سواء كان له علاقة بمواضيع اللوحات أم لا ..حتى أن سوسن شكّت في أمرها.. أهو انبهارٌ وإعجابٌ يشهد بحرفية رسمها وروعة لوحاتها، أم بشيء آخر! غير أنها حاولت تجاهل ذلك كله لتركز انتباهها مع أسئلة اللجنة، وفيما أخذ أحد النقّاد يثني على براعتها في رسم الصور الشخصية والوجوه، فاجأها سامر بسؤاله وهو يحدق في لوحة رسمت فيها أيهم:
– هذه صورة للنجم المشهور أيهم على ما أعتقد.. هل أنت من معجبيه؟؟
فاحمرت وجنتا سوسن ودق قلبها كعادته حين يُذكر أيهم، قبل أن تقول بلهجة تحمل في طياتها الكثير من الفخر والسعادة:
– أجل إنه أيهم.. خطيبي..
لم يخف على سوسن ملاحظة الضيق الذي ارتسم على وجه سامر، فأدار وجهه متحاشيا النظر إليها وهو يردد بصوت أقرب للهمس:
– إنه محظوظ بلا شك!!
لم تفهم سوسن سر تجهم وجهه وتصرفه الغريب ذاك، غير أنه لم يدعها لحيرتها تلك إذ سرعان ما تدارك نفسه، وابتسم قائلا:
– أنت فنانة بارعة يا سوسن.. يشرفني تعرفي إليك..
ثم تبادل بضع كلمات مع بقية الأعضاء بعد أن انهوا جولتهم في المعهد، لتكون الصدمة القاصمة للفتيات عندما أعلن سامر باسم المجموعة أن المعرض العالمي لن يتسع لغير مشارِكة واحدة وقد فازت سوسن به، فاتحا المجال أمام الألسن لتلوكها بشدة وقد أثار حنقهن، فوجدنها فرصة للاشارة إلى علاقات وهمية وقصص لا أول لها ولا آخر من النوع الذي يأنف الحر من مجرد التفكير فيه!! مما أحال هذه اللحظة، التي يفترض أن تكون من أسعد اللحظات التي انتظرتها سوسن بفارغ الصبر ، إلى خيبة أمل كبيرة لم تتوقعها من ردود أفعال زميلاتها وهمس عباراتهن القاسية تلسع قلبها الرقيق كسياط عقرب سام، خاصة ممن كنّ يؤملن بشدة المشاركة في المعرض العالمي مثلها، فرددت إحداهن بحسرة:
– وما ذنبي إن لم أكن بجمالها؟ أن تكوني جميلة يعني أن تسهل أمورك كلها في هذه الحياة!!
و علقت أخرى:
– ألم تلاحظي كيف كان ينظر إليها!! أتراه كان على علاقة سابقة بها!!
فتجيبها زميلتها:
– ربما .. من يدري!!
و أضافت ثالثة:
– يا لأيهم المسكين.. كم أشفق عليه! لو يأتي الآن لعرف حقيقتها!!
وقالت رابعة بتذمر:
– هذا ليس عدلا.. على اللجنة أن تكون محايدة!!
و رغم أن سوسن لم تركز في كلامهن الجارح الذي حاولت تجاهله؛ إلا أن الدنيا دارت بها.. ألا أستحق المشاركة في المعرض العالمي حقا!!.. ألم يكن اختياري عادلا!!.. بل أين العدل في كلامهن!!.. لِمَ لا يأخذن بعين الاعتبار الجهد الذي ابذله في اتقان لوحاتي! حتى الانسة ناديا تشهد بذلك!.. آه.. ليتك يا نور هنا.. لأخبرتِني بالحقيقـة على الأقل..
ولم تكد سوسن تستغرق في أفكارها تلك حتى انتبهت على صوت سيدة – من عضوات اللجنة- هتفت فجأة وهي تشير إلى إحدى الزوايا:
– ما هذه اللوحات؟؟
فقالت ناديا بفخر وهي تتجه نحوها:
– إنها إحدى انجازات معهدنا..
فسألتها السيدة بلهفة فيما أسرع البقية لرؤية اللوحات:
– وأين هي صاحبة الرسم؟؟
فأجابتها ناديا بضيق:
– لقد حدثت معها ظروف منعتها من الاستمرار معنا..
غير أن السيدة قالت بنبرة شك:
– تقصدين أنها تركت المعهد!!
فردت ناديا بغيظ:
– لقد حصلت معها ظروف خارج عن ارادتها كما ذكرت، لذا لم تستطع الاستمرار معنا..
هزت السيدة رأسها بتفهم، والتفتت لبقية الأعضاء:
– ما رأيكم؟؟
فأجابها أكبر الخبراء سنا:
– حسب تقديري المبدئي.. لوحات كهذه كفيلة بإنجاح أكبر المعارض العالمية على الاطلاق!
وسأل كبير النقاد ناديا:
– ما هي طبيعة شخصية الفتاة بعد إذنك؟
احتارت ناديا في العثور على الجواب المناسب:
– ماذا تقصد؟؟
فقال موضحا طبيعة سؤاله:
– أقصد أنها لابد وأن تكون ذات شخصية مميزة و غير عادية.. اللوحات تحمل معنى عميقا جدا.. بل و عميق للغاية! .. هل هي.. تحمل أفكارا معينة؟ .. متديّنة مثلا!
فتساءلت السيدة قبل أن يسمع الناقد إجابةً لسؤاله:
– هل تمانعين ببيع هذه اللوحات يا آنسة؟
فأجابتها نادية بصرامة لا تراجع فيها- وهي تدرك أهمية لوحاتٍ كهذه لمعهدها:
– إنها ليست للبيع!
فقالت سيدة أخرى أكثر حنكة:
– ولكن بالتأكيد لن تمانعي إن ما شاركت هذه اللوحات في المعرض العالمي بنسبتها لمعهدكم، أليس كذلك؟
فتهلل وجه ناديا بالموافقة:
– إذا اقتصر الأمر على المشاركة وحسب فلا مانع لدي!
عندها التفتت السيدة نحو سامر الذي وقف يعاين اللوحات بانبهار تام، قائلة:
– ما رأيك يا أستاذ سامر؟ إنها من الفن السريالي.. اختصاصك..
وبفضول شديد حاولت سوسن سماع رأيه، وقد أثار اهتمامها ذكر لوحات نور، غير أنها ما أن وقعت عينيها على إحدى اللوحات؛ حتى شعرت بتعرقٍ صاحبه خفقان شديد في قلبها أذهلها عما حولها وكأنه لم يعد في المكان غيرها مع تلك اللوحة التي شعرت بانصهار تام معها..
شجيرة ورد متشابكة الأوراق توسطت اللوحة، برزت في الجانب الأيسر منها – حيث الخلفية السوداء الضبابية- وردة جورية حمراء بدت كمن تستغيث وقد التوى عنقها من تجاذب الأيادى حولها.. أيادٍ كثيرةٍ مختلفة الأحجام والألوان امتدت من وسط الظلام الذي يلف الوردة تحاول جذبها نحوها في صراع مرير، فتناثرت بتلاتها الحمراء بشكل قطرات دم قانية في حالة يرثى لها.. وهناك في الجانب الأيمن حيث النور.. بقعة مضيئة في جانب الشجرة أظهرت بصعوبة وردة حمراء أخرى من بين أوراقٍ أحاطت بها و تدلّت من فوقها بعناية لتخفيها عن الأنظار، وقد ارتسمت عليها بخيالٍ بارعٍ ابتسامة رضا موهومة جسّدت الحياة فيها حتى بدت لناظرها حورية تختبئ في محرابها!
يا إلهي ما هذا، كيف لم انتبه لوجودها من قبل!! نور.. ما الذي تفعلينه بلوحاتك!! أكنت تعلمين بمعاناتي!! أرأيتِ كوابيسي..! ظلام وأيادي تلاحقني.. ما هذا يا إلهـــ…
غير أن صوت سامر أخرجها من دوامة أفكارها:
– ألم تري هذه اللوحة من قبل!!
فهزت رأسها نفيا ببعض الارتباك إذ يبدو أن انفعالاتها فضحتها أكثر مما ينبغي، وبتردد سألها سامر متابعا:
– أكانت صاحبة اللوحة صديقتك!
فأومأت سوسن برأسها إيجابا:
– أجل..
هم سامر بقول شيء تراجع عنه بسرعة، والتقت عيناهما لوهلة أطرق سامر برأسه إثرها وابتعد عن المكان، ملتفتا إلى بقية أعضاء اللجنة:
– أظن أن مهمتنا قد انتهت تقريبا، سأسبقكم إلى الخارج..
بدا خروجه دون أي كلمة أخرى غريبا نوعا ما غير أن كبير الخبراء قال مبررا موقفه:
– الفنان لا يفهمه إلا فنان مثله..لا شك أن اللوحات أثرت به.. إنه مرهف الاحساس جدا….
و بتر عبارة كان يريد اضافتها، مكتفيا بشكر الآنسة ناديا باسم لجنة التقييم الفنية، مؤكدا عليها:
– سنرسل فريق عمّالنا لاصطحاب اللوحات في صباح الغد، أرجو أن يتم تجهيزها ولفها جيدا لسلامة النقل..
فأضافت السيدة:
– و لا تنسي تلك اللوحات رجاءً..
**وصافح أعضاء اللجنة الآنسة ناديا وسوسن وهم يتمنون لها حظا طيبا بعد أن حصلت على بطاقة المشاركة في المعرض العالمي والتي وُقّعت باسمها من قِبَل كبير الخبراء..
**
– اوه.. لا بأس.. أعتذر أنا أيضا عن وقوفي هكذا..
قال كلماته تلك ونظراته لا تزال معلقة بها مما أشعرها بالحرج فانحنت جانبا لتتابع صعودها نحو المعهد، غير أنه استوقفها قائلا:
– عذرا يا آنسة.. أليست هذه بناية معهد الفنون الراقي؟
فأومأت سوسن برأسها ايجابا وهي تلتفت إليه:
– أجل، وهو في الطابق الثاني..
فابتسم الشاب:
– إذن أنت متجهة إليه ، هل أنت من فتيات المعهد؟
ولما ردت عليه سوسن بالإيجاب، مد الشاب يده ليصافحها بنشوة لا مبرر لها:
– لقد سررت بلقائك يا آنسة،.. لاشك أنك إحدى الموهوبات في هذا المعهد.. اسمي سامر مبعوث لجنة التقييم الفنية، وقد جئت للتأكد من صحة العنوان قبل وصول البقية.. فقد يتأخروا عن الموعد المقرر قليلا.. حسنا لا بد أنك مستعجلة سأراك لاحقا…
لم تجد سوسن بدا من مجاملته بابتسامة ودودة وهي تمد يدها لمصافحته، رغم أن حدسها نبأها بأن هذا الحديث كله كان مفتعلا إذ لم يكن من داع له! و لا تدري لِمِ تمنت من أعماق قلبها لو يراهما أيهم في هذا الموقف.. ترى.. ماذا ستكون ردة فعله!!!
فوجئت سوسن بالتغييرات الكثيرة التي أعدتها ناديا لاستقبال الضيوف..فوجدت صعوبة في إقناعها بضرورة استرجاع لوحتها الأخيرة من فوق ركيزة العرض لتضيف عليها بعض اللمسات بسرعة، فيما لم تجد ناديا ضرورة لذلك معلقة:
– إنها جيدة.. أضيفي توقيعك عليها وحسب..
غير أنها استسلمت لإلحاح سوسن عليها متمتمة:
– يبدو أن علي أن أكون ممتنة لحضورها على الأقل!
والتفتت نحو إحدى الفتيات:
– ألم ترد عليك سورا بعد!
فردت بارتباك:
– كلا فهاتفها مغلق!!
عضت ناديا على شفتها بغيظ:
– يا لهؤلاء الفتيات المستهترات!!
كان المعهد في حالة استنفار تام، فقد وقفت المرشحات للمشاركة في المعرض العالمي أمام لوَحهن باستعداد لإجابة أي سؤال أو إضافة توضيح، و تقاسمت الأخريات اداء المهمات الاخرى من استقبال وترحيب وتعريف بالمعهد و ما إلى ذلك.. ومع آخر لمسةٍ من ريشة سوسن، أُعلن نبأ وصول الضيوف فرافقت الآنسة ناديا اللجنة المكونة من فنانين وخبراء ونقاد من كلا الجنسين، فيما أسرعت سوسن بوضع لوحتها على ركيزة العرض الخاصة بها واقفة أمام لوحاتها باستعداد وحماسة.. لقد حانت اللحظة الحاسمة أخيرا ..
ولم يطل الأمر كثيرا على سوسن إذ سرعان ما تحلق حولها ثلاثة من الفنانين لتفاجأ بأن ذلك الشاب الذي قابلته على الدرج كان أحدهم بل وبدا أكثرهم مكانة في عالم الفن، فشعرت ببعض الحرج خاصة وأنه أغدق عليها أكيالا من المدح أطرى فيها الجمال في لوحاتها الحالمة، كان وسيما جدا و ذو شخصية مرموقة بدت واضحة من خلال تعامل بقية أعضاء اللجنة معه مما دل على مكانته بينهم، ولم تنتبه سوسن في البداية لتلك النظرات الحانقة التي أثارها اهتمام سامر بها، إلا أن تهامس الفتيات و تغامزهن فيما بينهن أصبح واضحا لها مع انصباب اهتمام معظم أعضاء اللجنة عليها وقد بدوا متلهفين لفتح حديث معها سواء كان له علاقة بمواضيع اللوحات أم لا ..حتى أن سوسن شكّت في أمرها.. أهو انبهارٌ وإعجابٌ يشهد بحرفية رسمها وروعة لوحاتها، أم بشيء آخر! غير أنها حاولت تجاهل ذلك كله لتركز انتباهها مع أسئلة اللجنة، وفيما أخذ أحد النقّاد يثني على براعتها في رسم الصور الشخصية والوجوه، فاجأها سامر بسؤاله وهو يحدق في لوحة رسمت فيها أيهم:
– هذه صورة للنجم المشهور أيهم على ما أعتقد.. هل أنت من معجبيه؟؟
فاحمرت وجنتا سوسن ودق قلبها كعادته حين يُذكر أيهم، قبل أن تقول بلهجة تحمل في طياتها الكثير من الفخر والسعادة:
– أجل إنه أيهم.. خطيبي..
لم يخف على سوسن ملاحظة الضيق الذي ارتسم على وجه سامر، فأدار وجهه متحاشيا النظر إليها وهو يردد بصوت أقرب للهمس:
– إنه محظوظ بلا شك!!
لم تفهم سوسن سر تجهم وجهه وتصرفه الغريب ذاك، غير أنه لم يدعها لحيرتها تلك إذ سرعان ما تدارك نفسه، وابتسم قائلا:
– أنت فنانة بارعة يا سوسن.. يشرفني تعرفي إليك..
ثم تبادل بضع كلمات مع بقية الأعضاء بعد أن انهوا جولتهم في المعهد، لتكون الصدمة القاصمة للفتيات عندما أعلن سامر باسم المجموعة أن المعرض العالمي لن يتسع لغير مشارِكة واحدة وقد فازت سوسن به، فاتحا المجال أمام الألسن لتلوكها بشدة وقد أثار حنقهن، فوجدنها فرصة للاشارة إلى علاقات وهمية وقصص لا أول لها ولا آخر من النوع الذي يأنف الحر من مجرد التفكير فيه!! مما أحال هذه اللحظة، التي يفترض أن تكون من أسعد اللحظات التي انتظرتها سوسن بفارغ الصبر ، إلى خيبة أمل كبيرة لم تتوقعها من ردود أفعال زميلاتها وهمس عباراتهن القاسية تلسع قلبها الرقيق كسياط عقرب سام، خاصة ممن كنّ يؤملن بشدة المشاركة في المعرض العالمي مثلها، فرددت إحداهن بحسرة:
– وما ذنبي إن لم أكن بجمالها؟ أن تكوني جميلة يعني أن تسهل أمورك كلها في هذه الحياة!!
و علقت أخرى:
– ألم تلاحظي كيف كان ينظر إليها!! أتراه كان على علاقة سابقة بها!!
فتجيبها زميلتها:
– ربما .. من يدري!!
و أضافت ثالثة:
– يا لأيهم المسكين.. كم أشفق عليه! لو يأتي الآن لعرف حقيقتها!!
وقالت رابعة بتذمر:
– هذا ليس عدلا.. على اللجنة أن تكون محايدة!!
و رغم أن سوسن لم تركز في كلامهن الجارح الذي حاولت تجاهله؛ إلا أن الدنيا دارت بها.. ألا أستحق المشاركة في المعرض العالمي حقا!!.. ألم يكن اختياري عادلا!!.. بل أين العدل في كلامهن!!.. لِمَ لا يأخذن بعين الاعتبار الجهد الذي ابذله في اتقان لوحاتي! حتى الانسة ناديا تشهد بذلك!.. آه.. ليتك يا نور هنا.. لأخبرتِني بالحقيقـة على الأقل..
ولم تكد سوسن تستغرق في أفكارها تلك حتى انتبهت على صوت سيدة – من عضوات اللجنة- هتفت فجأة وهي تشير إلى إحدى الزوايا:
– ما هذه اللوحات؟؟
فقالت ناديا بفخر وهي تتجه نحوها:
– إنها إحدى انجازات معهدنا..
فسألتها السيدة بلهفة فيما أسرع البقية لرؤية اللوحات:
– وأين هي صاحبة الرسم؟؟
فأجابتها ناديا بضيق:
– لقد حدثت معها ظروف منعتها من الاستمرار معنا..
غير أن السيدة قالت بنبرة شك:
– تقصدين أنها تركت المعهد!!
فردت ناديا بغيظ:
– لقد حصلت معها ظروف خارج عن ارادتها كما ذكرت، لذا لم تستطع الاستمرار معنا..
هزت السيدة رأسها بتفهم، والتفتت لبقية الأعضاء:
– ما رأيكم؟؟
فأجابها أكبر الخبراء سنا:
– حسب تقديري المبدئي.. لوحات كهذه كفيلة بإنجاح أكبر المعارض العالمية على الاطلاق!
وسأل كبير النقاد ناديا:
– ما هي طبيعة شخصية الفتاة بعد إذنك؟
احتارت ناديا في العثور على الجواب المناسب:
– ماذا تقصد؟؟
فقال موضحا طبيعة سؤاله:
– أقصد أنها لابد وأن تكون ذات شخصية مميزة و غير عادية.. اللوحات تحمل معنى عميقا جدا.. بل و عميق للغاية! .. هل هي.. تحمل أفكارا معينة؟ .. متديّنة مثلا!
فتساءلت السيدة قبل أن يسمع الناقد إجابةً لسؤاله:
– هل تمانعين ببيع هذه اللوحات يا آنسة؟
فأجابتها نادية بصرامة لا تراجع فيها- وهي تدرك أهمية لوحاتٍ كهذه لمعهدها:
– إنها ليست للبيع!
فقالت سيدة أخرى أكثر حنكة:
– ولكن بالتأكيد لن تمانعي إن ما شاركت هذه اللوحات في المعرض العالمي بنسبتها لمعهدكم، أليس كذلك؟
فتهلل وجه ناديا بالموافقة:
– إذا اقتصر الأمر على المشاركة وحسب فلا مانع لدي!
عندها التفتت السيدة نحو سامر الذي وقف يعاين اللوحات بانبهار تام، قائلة:
– ما رأيك يا أستاذ سامر؟ إنها من الفن السريالي.. اختصاصك..
وبفضول شديد حاولت سوسن سماع رأيه، وقد أثار اهتمامها ذكر لوحات نور، غير أنها ما أن وقعت عينيها على إحدى اللوحات؛ حتى شعرت بتعرقٍ صاحبه خفقان شديد في قلبها أذهلها عما حولها وكأنه لم يعد في المكان غيرها مع تلك اللوحة التي شعرت بانصهار تام معها..
شجيرة ورد متشابكة الأوراق توسطت اللوحة، برزت في الجانب الأيسر منها – حيث الخلفية السوداء الضبابية- وردة جورية حمراء بدت كمن تستغيث وقد التوى عنقها من تجاذب الأيادى حولها.. أيادٍ كثيرةٍ مختلفة الأحجام والألوان امتدت من وسط الظلام الذي يلف الوردة تحاول جذبها نحوها في صراع مرير، فتناثرت بتلاتها الحمراء بشكل قطرات دم قانية في حالة يرثى لها.. وهناك في الجانب الأيمن حيث النور.. بقعة مضيئة في جانب الشجرة أظهرت بصعوبة وردة حمراء أخرى من بين أوراقٍ أحاطت بها و تدلّت من فوقها بعناية لتخفيها عن الأنظار، وقد ارتسمت عليها بخيالٍ بارعٍ ابتسامة رضا موهومة جسّدت الحياة فيها حتى بدت لناظرها حورية تختبئ في محرابها!
يا إلهي ما هذا، كيف لم انتبه لوجودها من قبل!! نور.. ما الذي تفعلينه بلوحاتك!! أكنت تعلمين بمعاناتي!! أرأيتِ كوابيسي..! ظلام وأيادي تلاحقني.. ما هذا يا إلهـــ…
غير أن صوت سامر أخرجها من دوامة أفكارها:
– ألم تري هذه اللوحة من قبل!!
فهزت رأسها نفيا ببعض الارتباك إذ يبدو أن انفعالاتها فضحتها أكثر مما ينبغي، وبتردد سألها سامر متابعا:
– أكانت صاحبة اللوحة صديقتك!
فأومأت سوسن برأسها إيجابا:
– أجل..
هم سامر بقول شيء تراجع عنه بسرعة، والتقت عيناهما لوهلة أطرق سامر برأسه إثرها وابتعد عن المكان، ملتفتا إلى بقية أعضاء اللجنة:
– أظن أن مهمتنا قد انتهت تقريبا، سأسبقكم إلى الخارج..
بدا خروجه دون أي كلمة أخرى غريبا نوعا ما غير أن كبير الخبراء قال مبررا موقفه:
– الفنان لا يفهمه إلا فنان مثله..لا شك أن اللوحات أثرت به.. إنه مرهف الاحساس جدا….
و بتر عبارة كان يريد اضافتها، مكتفيا بشكر الآنسة ناديا باسم لجنة التقييم الفنية، مؤكدا عليها:
– سنرسل فريق عمّالنا لاصطحاب اللوحات في صباح الغد، أرجو أن يتم تجهيزها ولفها جيدا لسلامة النقل..
فأضافت السيدة:
– و لا تنسي تلك اللوحات رجاءً..
**وصافح أعضاء اللجنة الآنسة ناديا وسوسن وهم يتمنون لها حظا طيبا بعد أن حصلت على بطاقة المشاركة في المعرض العالمي والتي وُقّعت باسمها من قِبَل كبير الخبراء..
**
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
إضافة تعليق