تركته لأجلك! – الحلقة 10
2023-04-11 - ضياء
وصلت سوسن مبكرا للمعهد وهي في لهفة شديدة لرؤية نور، فقد قاومت نفسها بصعوبة يوم أمس حتى لا تزعجها باتصالها بعد أن سبب لها موضوع تلك الرسالة أزمة شديدة، صحيح أنها تثق بنور ولكن لا بد لقلبها أن يطمئن ويقطع أي احتمال للشك باليقين، ولخيبة أملها لم تجد نور هناك.. بل وجدت لوحة كبيرة مكانها، بهرت سوسن بالنور الساطع منها، حتى شعرت برغبة في إغماض عينيها:
– يا الهي.. كيف تستطيع نور فعل ذلك!! كأنه نور حقيقي!!
ورويدا رويدا بدأت عيناها تعتاد على رؤية اللوحة لتنبهر من دقة تفاصيلها، هناك في الأفق.. بين السماء والأرض؛ انتصب جذع شجرة مهيبة لا يكاد يُرى من شدة النور الصادر منها مضرب جذورها في الأرض، وقد تفرعت أغصانها، وتشابكت أوراقها الابرية، المثقلة بثمار الزيتون المصطبغة بلون الزيت النقي الصافي فبدت لامعة مضيئة بزيتها كقناديل صغيرة، في حين لامست قمتها المنيرة كوكبا زجاجيا عظيما حوى مصباحا جميلا يشع نورا، استطاعت بصعوبة تبين حروفٌ خُطت داخله بلون نوراني، حتى تمكنت من رؤية الكلمة بوضوحٍ اقشعر لها جسدها فارتعشت بقوة وهي تقرأ :
الله
نور السماوات والأرض
قدرت سوسن بأنها أمضت وقتا ليس بالقصير وهي تتأمل تلك اللوحة المبهرة، إذ انتبهت لأصوات الفتيات اللاتي بدأن يملأن المكان بأصواتهن، غير أن نور لم تأت بعد على غير عادتها، وبعد أن تبادلت التحيات الصباحية مع الفتيات اللاتي أتين للإطمئنان عليها، حاولت الدخول في جو لوحتها الأخيرة لتتابعها، غير أن حديثا دار بين اثنتين أثار انتباهها، وقد أمسكت الأولى صحيفة أرتها لزميلتها قائلة:
– إنها صحيفة الأمس لقد لفت نظري ما كُتب هنا، انظري أليست هذه صورة مألوفة لديك؟
حاولت الفتاة الثانية التذكر، لكنها قالت:
– ربما.. ولكن لا أذكر أين!
فقالت الأولى:
– دققي جيدا.. أليست هذه صورةٌ لزوج نور!!
فتحت الفتاة الثانية عينيها بتمعن ودهشة في آن واحد وهي تقرأ عنوان المقالة ” طبيب شاب ينقذ حياة ابنة وزير العمل، ويشرف على إجراء عملية قلب لها”، وهتفت بذهول:
– انظري ماذا كتب عنه أيضا! إنه اصغر طبيب جراح أجرى خمس عمليات قلب بنجاح حتى الآن!! ويُقال أن له سمعة ذائعة الصيت في الأوساط الطبية!!
فتدخلت فتاة أخرى:
– ولكن نور لم تذكر شيئا كهذا أبدا!! حتى أننا لم نكن نعرف أن زوجها طبيب!
فردت عليها الفتاة الأولى:
– ولمَ تفعل ذلك! أنتن لم تسألنها أصلا، ثم إنها ليست من ذلك النوع المتفاخر أبدا!
فردت الثانية:
– فعلا غريب!! ظننته إمام جامع وحسب!
فيما تناولت فتاة ثالثة الصحيفة من بين أيديهن متأملة في الصورة:
– إنه وسيم.. أليس كذلك؟
وتابعت بصوت حالم:
– شاب وسيم ينقذ حياة ابنة وزير شابة!! إنها تصلح لقصة رومانسية مثيرة..
فوكزتها صديقتها:
– انتبهي لنفسك، ماذا لو سمعتك نور الآن! لا تنسي انه زوجها!!
فالتفتت الفتاة حولها، قبل أن تقول:
– اطمئني فلم تأت نور بعد..
ثم أطلقت ضحكة خافتة:
– ستزداد الحبكة تعقيدا في هذه الحالة، لتصبح أكثر اثارة..
أما سوسن التي سمعت ما يدور بينهن، فقد ارتجفت لتلك الكلمات الأخيرة:
– حتى نور لم تسلم من مكائد كهذه!! ترى ماالذي كانت ستفعله في موقف كهذا!!
وتذكرت مشهد انقاذ زوج نور للفتاة، لقد كان يؤدي واجبه بجدية، حتى نور وقفت لتساعده باهتمام، أتراها اعتادت أمورا كهذه، ألا تشعر بالــ…..!
وتنهدت سوسن:
– أم أنني أنا الوحيدة التي تشعر بالقلق حيال هذه الأمور!! هل يا ترى لو كان أيهم مكان الطبيب، وكانت سورا هي تلك الفتاة المصابة وكان….
وهزت رأسها بشدة كمن تحاول طرد الفكرة من رأسها:
– لماذا أزعج نفسي بأفكار كهذه مع الصباح!!
و أمسكت ريشتها بعد أن غمستها باللون الأحمر لتتابع تزيين لوحتها بالورود الحمراء القرمزية، لتحيط بقلعة عظيمة لم ير الناس شبيها لها في الواقع، إلا ما قد تجود به مخيلاتهم الحالمة، لا سيما وقد اصطفت على جانبيها أربعة خيول بيضاء أصيلة أبدعت سوسن في رسم تفاصيلها بدقة متناهية .. لكَم تحب هذا النوع الحالم من الخيال!!
قضت سوسن أوقاتا سعيدة مع لوحتها، كانت كفيلة بإخراجها تماما من تلك الأجواء المتوترة التي لفتها مؤخرا، فلم تنتبه إلا على صوت الآنسة ناديا التي بدت في غاية الانزعاج وهي تقول بعصبية:
– وماذا عن المعرض العالمي!! ألن تشاركي فيه!! لقد قطعتِ شوطا كبيرا ولم يبق أمامك إلا القليل، فهل ستفوتي فرصة كهذه بسهولة!!!
بدت نور في أقصى درجات التفهم لحالة ناديا وهي ترد عليها موضحة بهدوء، رغم مسحة الحزن المرتسمة على وجهها:
– أرجو أن تتفهمي وضعي يا آنسة، فهذا أمر خارج عن ارادتي ولم أعمل له حسابا من قبل، عليّ أن أذهب للإطمئنان على أمي والوقوف إلى جانبها أثناء اجرائها العملية، ولم يعد هناك مجال للتراجع؛ فقد أنهيت إجراء ترتيبات السفر اللازمة، ورحلتي بعد ثلاث ساعات .. إن زوجي بانتظاري.. وقد أتيت لأعتذر عن عدم قدرتي على الاستمرار معكم أو المشاركة في المعرض، فأرجو أن تتقبلي اعتذاري..
لم تستطع سوسن تصديق ما سمعته، فوقعت الريشة من يدها مبعثرة اللون الأحمر حولها كقطرات دم نزفت فجأة دون سابق انذار..لتصف تماما حال سوسن في تلك اللحظة.. هل ستذهب نور بهذه السرعة!! لم أسألها بعد…. أمور كثيرة أود محادثتها بها…. ما زلت حائرة.. تائهة.. أضيع في الظلام.. فلماذا ستذهبين يا نــــــــور!!!!!!!!!
وكان آخر شيء يخطر ببال سوسن في تلك الاثناء هو سؤال نور عن تلك الرسالة الغريبة، إذ لم تعد ذات أهمية في موقف كهذا..
وبدلا من أن تذهب للسلام على نور كما فعلت بعض الفتيات وهن يتمنين شفاء عاجلا لأمها، وقفت سوسن مكانها متسمرة من هول الصدمة حتى أتت نور نحوها لتبادرها بالسلام:
– سعدت بمعرفتك يا سوسن….
ولم تدعها سوسن تتم جملتها إذ لم تملك أن ارتمت بثقلها نحوها وهي تحضنها باكية:
– هل حقا ستذهبين يا نور!! قولي بأنك لن تتأخري.. أرجوك..
فربتت نور على كتفها بتأثر وهي تحاول الوقوف باتزان:
– لم أكن أنوي البقاء هنا أكثر من شهر على اي حال، فإهدئي يا عزيزتي، سنتواصل بالهاتف إن شاء الله فاطمئني..
وبصعوبة هدأت سوسن:
– هل هذا يعني أنك لن تعودي إلى هنا ثانية؟
فأجابتها نور بحنان:
– كنت أنوي البقاء مع زوجي هنا ريثما ينهي أعماله التي جئنا من أجلها قبل أن نسافر خارج البلاد ليكمل أبحاثه، لكن قدر الله وما شاء فعل، فقد عرفت ليلة أمس أمر مرض أمي، ولا بد لي من البقاء إلى جانبها راجية من الله أن يتم شفاءها بسرعة قبل موعد سفرنا إلى الخارج..
وتابعت بابتسامة متفائلة:
– ومن يدري.. فربما آتي لزيارتك يوما ما يا أختي العزيزة..
فأطرقت سوسن برأسها:
– أرجو ذلك يا نور، وسأنتظرك بفارغ الصبر..
وبتردد سألتها:
– وماذا عن هدفك؟ ألم تكن فرصتك الذهبية لعرض لوحاتك في معرضٍ عالمي يا نور؟
فأجابتها نور بثقة:
– إنها أمي ولن أتخلى عنها في موقف كهذا، وسيعوضني الله خيرا عن تلك المشاركة إن شاء الله..
و شدت على يد سوسن:
– استودعك الله الذي لا تضيع ودائعه..
ثم قالت برجاء:
– اعتني بنفسك جيدا ياسوسن.. أنت طيبة جدا ما شاء الله، واتمنى أن لا تنسي أمي من صالح دعواتك، وادعي لي أيضا فأنا بحاجة لدعائك..
لم تستوعب سوسن كلمات نور الأخيرة جيدا، فمن هي لتدعو لنور وأمها!! وهل تحتاج نور لدعوات أمثالها!! إنها حتى لا تذكر أنها جربت الدعاء من قبل!!
غير أنها وجدت نفسها تردد لا شعوريا:
– إن شاء الله سأفعل..
وقبل أن تذهب نور استدركت قائلة بابتسامة محببة:
– هل أعجبتك لوحتي الأخيرة! إنها هدية لك يا سوسن فاذكريني بها..
فتهلل وجه سوسن:
– شكرا لك يا عزيزتي .. ولكنها لوحتك…
فابتسمت نور:
– إنها هدية متواضعة لا أكثر؛ فأرجو أن تقبليها مني..
فقالت سوسن:
– بل هي هدية رائعة جدا، شكرا لك.. شكرا يا نور..
ثم وجهت نور كلامها للآنسة ناديا:
– سأترك بقية لوحاتي هدية للمعهد إن لم تمانعي يا آنسة..
فابتسمت ناديا وقد بدأت ترضخ للأمر الواقع:
– ستكون ذكرى جميلة منك يا نور، و مرحبا بك في أي وقت تفكرين فيه بالعودة إلى هنا..
همت سوسن بسؤال نور عن شيء ما، غير أنها انتبهت لضيق الوقت فستقلع طائرتها بعد أقل من ثلاث ساعات وإن لم تسرع فستفوتها الرحلة، فعانقتها قبل أن تغادر قائلة:
– سأتصل بك يا نور لأطمئن على والدتك الليلة..
فشكرتها نور وهي تغادر مسلمة على الجميع بما فيهم سورا، التي لم يتمكن أحد من معرفة تفسير واحد لملامح وجهها الغريبة في تلك اللحظة..
……
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم