شهقت الآنسة ناديا – المسؤولة عن تقييم اللوحات في معهد الفنون الراقي- عندما وقعت عيناها على لوحة سوسن:
– أنت مدهشة فعلا يا سوسن، لا تزالين في المقدمة كعادتك!
فابتسمت سوسن بتواضع:
– هذا جزء لا يذكر أمام ابداعك يا آنسة ناديا..
وأسرعت الفتيات بالتحلق حول اللوحة التي تناسقت ألوانها لتنسجم مع خلفيتها بذوق رفيع، مصورة شابا وسيما ممتطيا حصانا أبيض في أجواء حالمة، علقت عليها سوسن موضحة:
– سأهديها لخطيبي في عيد ميلاده
ولم تستطع معظم الفتيات إخفاء غبطتهن الشديدة أو ربما حسدهن لسوسن، تلك الفتاة الثرية الأنيقة و الجميلة والتي تحصل على كل شيء تريده، ولم تملك اثنتين منهن أن تتهامسا بهذا الشأن:
– إنها تخطف الأضواء دائما
– فتاة محظوظة بلا شك، حتى عطرها الفريد الذي تستعمله، أظنه صنع خصيصا لأجلها فقط!
ورغم جميع تلك النعم المحيطة بسوسن إلا أنها كانت لا تساوي شيئا عندها إذا ما فكرت بخطيبها أيهم، ذلك الشاب الذي يجاريها مكانة وثراء، بل إنه الشخص الوحيد الذي كانت على ثقة تامة بأنه لم يتقدم لخطبتها من أجل مالها أو مكانة والدها فهو لا ينقصه شيء من هذا ولا ذاك وقد سطع نجمه وغدا الأشهر في هذه المدينة، غير أن القلق بدأ يساور قلبها في الآونة الأخيرة خاصة بعد انتقال أيهم إلى مبنى المعهد نفسه ..
كان المعهد يتكون من طابقين بنيا على أحدث طراز يندر أن يرتاده أحد من الطبقة المتدنية ولا حتى المتوسطة، خصص الطابق الثاني فيه للفنون الجميلة، في حين انتقلت فرقة أيهم الموسيقية للطابق الأول.. أيهم، ذلك العازف المحترف الموهوب ساحر الفتيات والذي ما أن ذاع نبأ خطبته حتى أغمي على الكثيرات اللاتي بنين أحلامهن الوردية معه، لا سيما وقد تصدرت صور سوسن أغلفة الصحف والمجلات بصفتها خطيبة هذا النجم اللامع، فقطعن الأمل تماما بلفت أنظاره إليهن إذ لم يكن يجارين خطيبته جمالا ولا مكانة ولا جاذبية..
لم تكد سوسن تنهي حديثها عن تلك اللوحة حتى دخل أيهم ليلقي التحية على الجميع بشكل عام قبل أن يحيي خطيبته بشكل خاص، وسط النظرات الحاسدة:
– كيف كان نهارك يا ملاكي؟ لقد أنهيت الاشراف على الفرقة هذا اليوم، هل أصطحبك إلى المنزل؟
وقبل أن تتمكن سوسن من مداراة لوحتها عنه خشية أن تفسد المفاجأة، انتبه لها أيهم فأطلق صافرة إعجاب شديدة:
– إنها صورتي!! ما هذا الفن الراقي الذي تتميز به أناملك الرقيقة يا فاتنتي!!
فاحمرت وجنتا سوسن قائلة:
– إنها المفاجأة التي وعدتك بها..
فحضنها أيهم هاتفا:
– آه يا حبيبتي، كيف أشكرك!! إنها أغلى هدية رأيتها!
وعلى خلاف ظن معظم الفتيات اللاتي كن يتابعن المشهد دون تحفظ، لم تكن سوسن من النوع الذي يحب افصاح المشاعر بهذا الشكل السافر أمام الآخرين، بل كان يضايقها ذلك لأسباب كثيرة، ورغم أنها حدثت أيهم بهذا من قبل إلا أن كلامها بدا لا يعبر أذنه الأولى حتى يطير من الأذن الثانية..
كم كانت تؤلمها تلك النظرات المسددة نحوهما كالسهام الحارقة، لماذا لا يراعي مشاعرهن على الأقل!! هذا عوضا عن الفتيات اللاتي بدأن يحكن الخطط للفت أنظار أيهم اليهن وكأنهن في معركة تحدي سافرة، يراهن فيها على كونهن يستطعن كسب وده رغم انفها، خاصة تلك الفتاة المتعجرفة سورا التي ما أحبت سوسن قط وقد احترقت غيظا بمجرد أن علمت بخطبة أيهم لها، لا سيما وقد كانت تمني نفسها منذ وقت طويل بأن تكون العروس المرتقبة له ولم تستسلم بعد!
كانت سوسن تحلم بحياة سعيدة هادئة مع زوج محب على غرار قصص الأبطال الخيالية “وتزوجا وعاشا بأمان ونبات وأنجبا البنين والبنات”، غير أن تصرفات أيهم لا تبشر بذلك الاستقرار الذي ترنو إليه نفسها، وقد تكون هذه هي مشكلة النجوم والمشاهير بشكل عام غير أنها تركت أثرها العميق في نفس سوسن و هي ترى العداوات تظهر أمامها سفاحا يوما بعد يوم، حتى تجرأت احداهن أن تتهامس مع زميلاتها متعمدة اسماعها ما تقوله عنها:
– هل تعلمن أن والد سوسن هو من دفع بابنته لأيهم؟؟
غير أن احداهن تصدت لها بقولها:
– ولم يفعل ذلك!! أنت تعرفين أنه ما من شاب في المدينة إلا وتمنى سوسن زوجة له، يكفي أنها على مالها وجماله ذات خلق نبيل؟؟
فترد عليها الأخرى:
– أكل هذا الدفاع عن سوسن من أجل ما قدمته لك ذلك اليوم! انها تشتري الناس بأموالها…
فقاطعتها بحدة:
– بل بأخلاقها ونبلها وطيبتها ثم إنني لست بحاجة لمن يشتريني بفضلات ماله إن كنت تفهمين!!!
كل ذلك وسوسن تتظاهر بأنها لا تسمع شيئا وهي غارقة في رسم لوحتها والألم يعتصر قلبها حتى كاد يمزقه!
حتى جاء ذلك اليوم الذي غير مجرى حياتها للأبد، فاتحا لها أبواب جديدة على مصراعيها ونوافذ مغلقة لم تكن تدرك أنها موجودة حاجبة عنها النور..
***
( يتبع ان شاء الله)
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
إضافة تعليق