استيقظت سوسن أخيرا على صوت المنبّه، المصرّ على إيقاظها برنينه المتواصل اللحوح، وما أن لمحت الساعة، حتى نهضت بسرعة لتتوضأ وتؤدي فريضة الفجر، إذ لم يتبق لشروق الشمس سوى بضع دقائق!
وعلى سجادة الصلاة، جلست تسترجع في ذهنها أبرز ما علق به من تلك المحادثة، التي قلبت مفاهيمها السابقة رأسا على عقب!!
هل حقا تلك هي حقيقية الحب!!!!
وأخذت كلمات نور تتلخص أمامها بوضوح:
” الحب جندي من جنود الله، لا سلطان لأحد عليه سواه سبحانه، ولا يمكن لكائن من كان أن يجزم بدوامه، أو يعِد بذلك! وهذه الحقيقة على أهميتها؛ يجهلها معظم الناس، فإن استظلوا بظل الحب ردهة من الزمن، وشعروا بصدق هذه المشاعر بينهم، ظنوا أنه ملكهم للأبد، يمكنهم القسم بدوامه مادام حبا حقيقيا!! دون أن يدركوا أنهم لا يملكون ذلك أبدا! ومن قرأ (مجدولين)؛ يدرك ما وصل إليه كاتبها الفرنسي من فهمٍ لهذه الحقيقة!!
تخيلي رجلا وامرأة يسيران في صحراء شاسعة، أنهكهما لهيب شمسها، فإذا بغمامة تظللهما وتقيهما حرها، ثم بقيت ملازمة لهما لبعض الوقت، حتى ذاقا حلاوة ظلها، فهل يملك أحد منهما أن يعد الاخر بأن الغمامة ستظللهما إلى الأبد!! وإن وعد أحدهما بذلك جدلا، وصدّقه الاخر (لجهلهما بطبيعة السحاب)، ثم انكشفت الغمامة بعد ذلك، وتركتهما يصطليان بلهيب الشمس الحارقة، فهل يملك الموعود منهما أن يتهم الواعد؛ بأن تلك السحابة لم تكن سحابة حقيقية!! بالطبع لا، لقد كانت سحابة حقيقية بالفعل، ولكنهما لا يملكان إرغامها على البقاء، فهي سحابة حرة، لا سلطان لهما عليها، وكان الأجدر بهما أن يبنيا أساسا متينا لمصدر ظلٍ دائم..
وهكذا هو الحب!!
لا تُبنى البيوت عليه أبدا، وإنما تزدان به وتزدهر، وتزداد سعادة”
تنهدت سوسن وهي تفكر في ذلك الكلام، هل يُعقل أن حبها لأيهم يمكن أن..
ولم تشأ الاستطراد في تلك الفكرة، إذ لا يمكنها تخيل حياتها من دونه أبدا، ولا يمكن لمخيلتها احتمال يومٍ؛ لا تكون فيه هي المتربعة في قلبه!
غير أن سؤالا لحوحا، فرض نفسه عليها فرضا:
” هل هناك شيء آخر، بينها وبين أيهم، يمكن الاعتماد عليه غير الحب؟؟”
وإذ ذاك تذكرت إجابة نور المترددة، على سؤالها:
– بعد أن سمعتِ تفاصيل قصتي هذه، ما هو المفروض عليّ فعله برأيك يا نور؟؟
لا شك أن صمت نور في ذلك الوقت، كان إشارة كافية لها لتدرك المأزق الذي أوقعت نفسها فيه، فهل يمكنها احتمال سماع الاجابة مهما كانت!! ومع ذلك؛ كانت مصرّة على سماع إجابتها، فأكدت عليها بقولها:
– لا تقلقي يا نور، فلا شك أنك تخافين من أن يأتي يومٌ أحملك فيه مسؤولية ما سيحدث بيني وبين خطيبي، أو يراودني شيء في نفسي تجاهك، ولكن صدقيني، أريد أن أعرف رأيك بصراحة!!
عندها تكلمت نور أخيرا:
– ليس الأمر كما تظنين يا عزيزتي، ولكنني بالفعل لا أعرف!
وصمتت قليلا، قبل أن تتابع:
– كل ما يمكنني قوله لك، هو عبارة أحفظها عن ظهر قلب، وقد اتخذتها شعارا لي في هذه الحياة؛
” من طلب رضا الله بسخط الناس، رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله، سخط عليه الله وأسخط عليه الناس”..
التقطت سوسن نفسا عميقا، وهي تستذكر وقع تلك الكلمات عليها في ذلك الوقت، لقد كان أمرا رهيبا بلا شك، فتلك الجملة فسّرت لها كل شيء!!
ومر شريطٌ سريعٌ لأحداث حفل النجوم في مخيلتها، بل منذ أن تركت الحجاب لأجل أيهم، وما تلا ذلك من مرافقتها له بذلك اللباس!! لقد طلبت رضا أيهم بسخط الله بلا شك، فكانت تلك النتيجة الحتمية؛ التي لا يحق لها أن تلومه فيها!!
سالت الدموع على خدي سوسن بانسياب هاديء، وهي لا تزال على جِلستها فوق سجادة الصلاة، وقد بدأت الشمس ترسل أشعتها الذهبية، من بين طيات الستائر المخملية، فيما تابع صدى كلمات نور؛ يتردد في ذاكرتها:
– وكما أن الحب قد يُنتج ردود فعل سلبية، فله ردود فعل إيجابية بالمقابل، بل إنه يكون أحيانا كمخدّر الجرّاح الذي لا يمكن إجراء عملية جراحية من دونه، وهذا من نعم الله على عباده، وإلا لكان التغيير أمرا شبه مستحيل، وما أقصده هنا، هو تغيير المرء نفسه للأحسن، والذي هو بحد ذاته أصعب من إجراء عملية جراحية معقدة! فإن وُجِد حبٌ في هذه الحالة، سيكون بمثابة جرعة تخدير قوية، تُجرى خلالها أقسى عمليات التغيير دون الشعور بالالم! إنه كالطاقة التي تمنح الجسم القدرة على تحمل التغيير، والصعوبات المترتبة عليه! ألم تسمعي قصة الصحابية الجليلة أم سليم التي كانت سببا في إسلام أبو طلحة!! لقد أسلم بداية ليظفر بالزواج منها بعد أن ترمّلت، ومن ثم حسن إسلامه بعد ذلك، وأصبح من فضلاء الصحابة وكبارهم، ناهيك عن قصة ابو العاص ابن الربيع، زوج السيدة زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم..
كان هذا أكثر ما بعث التفاؤل في نفس سوسن، في ذلك الحين، بل إن هذا هو الأمل الذي بدأت تبني أحلامها عليه، غير أنها سرعان ما استحضرت كلمات نور بعد ذلك:
” مهما أحببتِ شخصا أو أمرا ما، أو كائنا ما كان؛ فاحرصي أن لا يكون قلبك معلقٌ إلا بالله، فهو خالق الحب وواهبه في القلوب، وما الحب إلا جنديٌ مؤتمرٌ بأمره، وهبة منه ونعمة، فلا تشغلنّك النعمة عن المُنعم، فبالشكر تدوم النعم..
هذا ما أوصتني به أمي قبل زفافي إلى عامر…”
انسكبت الدموع بغزارة أكبر على وجنتي سوسن، وهي تراجع ما عزمت عليه أمرها، ورفعت يديها بالدعاء:
– يارب إن لم تُعنّي، فلا حول ولا قوة لي إلا بك، اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك..
وبحرقة أكبر دعت وقد بدأ صدرها ينشج بالنحيب:
– يارب.. اهدِ أيهم..
وانخرطت بالبكاء إذ لم تعد تسعفها الكلمات، وحسبها أن الله مطلع على ما في قلبها، عالم بما تُريد..
لم تدرِ سوسن كم مر عليها من
استيقظت سوسن أخيرا على صوت المنبّه، المصرّ على إيقاظها برنينه المتواصل اللحوح، وما أن لمحت الساعة، حتى نهضت بسرعة لتتوضأ وتؤدي فريضة الفجر، إذ لم يتبق لشروق الشمس سوى بضع دقائق!
وعلى سجادة الصلاة، جلست تسترجع في ذهنها أبرز ما علق به من تلك المحادثة، التي قلبت مفاهيمها السابقة رأسا على عقب!!
هل حقا تلك هي حقيقية الحب!!!!
وأخذت كلمات نور تتلخص أمامها بوضوح:
” الحب جندي من جنود الله، لا سلطان لأحد عليه سواه سبحانه، ولا يمكن لكائن من كان أن يجزم بدوامه، أو يعِد بذلك! وهذه الحقيقة على أهميتها؛ يجهلها معظم الناس، فإن استظلوا بظل الحب ردهة من الزمن، وشعروا بصدق هذه المشاعر بينهم، ظنوا أنه ملكهم للأبد، يمكنهم القسم بدوامه مادام حبا حقيقيا!! دون أن يدركوا أنهم لا يملكون ذلك أبدا! ومن قرأ (مجدولين)؛ يدرك ما وصل إليه كاتبها الفرنسي من فهمٍ لهذه الحقيقة!!
تخيلي رجلا وامرأة يسيران في صحراء شاسعة، أنهكهما لهيب شمسها، فإذا بغمامة تظللهما وتقيهما حرها، ثم بقيت ملازمة لهما لبعض الوقت، حتى ذاقا حلاوة ظلها، فهل يملك أحد منهما أن يعد الاخر بأن الغمامة ستظللهما إلى الأبد!! وإن وعد أحدهما بذلك جدلا، وصدّقه الاخر (لجهلهما بطبيعة السحاب)، ثم انكشفت الغمامة بعد ذلك، وتركتهما يصطليان بلهيب الشمس الحارقة، فهل يملك الموعود منهما أن يتهم الواعد؛ بأن تلك السحابة لم تكن سحابة حقيقية!! بالطبع لا، لقد كانت سحابة حقيقية بالفعل، ولكنهما لا يملكان إرغامها على البقاء، فهي سحابة حرة، لا سلطان لهما عليها، وكان الأجدر بهما أن يبنيا أساسا متينا لمصدر ظلٍ دائم..
وهكذا هو الحب!!
لا تُبنى البيوت عليه أبدا، وإنما تزدان به وتزدهر، وتزداد سعادة”
تنهدت سوسن وهي تفكر في ذلك الكلام، هل يُعقل أن حبها لأيهم يمكن أن..
ولم تشأ الاستطراد في تلك الفكرة، إذ لا يمكنها تخيل حياتها من دونه أبدا، ولا يمكن لمخيلتها احتمال يومٍ؛ لا تكون فيه هي المتربعة في قلبه!
غير أن سؤالا لحوحا، فرض نفسه عليها فرضا:
” هل هناك شيء آخر، بينها وبين أيهم، يمكن الاعتماد عليه غير الحب؟؟”
وإذ ذاك تذكرت إجابة نور المترددة، على سؤالها:
– بعد أن سمعتِ تفاصيل قصتي هذه، ما هو المفروض عليّ فعله برأيك يا نور؟؟
لا شك أن صمت نور في ذلك الوقت، كان إشارة كافية لها لتدرك المأزق الذي أوقعت نفسها فيه، فهل يمكنها احتمال سماع الاجابة مهما كانت!! ومع ذلك؛ كانت مصرّة على سماع إجابتها، فأكدت عليها بقولها:
– لا تقلقي يا نور، فلا شك أنك تخافين من أن يأتي يومٌ أحملك فيه مسؤولية ما سيحدث بيني وبين خطيبي، أو يراودني شيء في نفسي تجاهك، ولكن صدقيني، أريد أن أعرف رأيك بصراحة!!
عندها تكلمت نور أخيرا:
– ليس الأمر كما تظنين يا عزيزتي، ولكنني بالفعل لا أعرف!
وصمتت قليلا، قبل أن تتابع:
– كل ما يمكنني قوله لك، هو عبارة أحفظها عن ظهر قلب، وقد اتخذتها شعارا لي في هذه الحياة؛
” من طلب رضا الله بسخط الناس، رضي عنه الله وأرضى عنه الناس، ومن طلب رضا الناس بسخط الله، سخط عليه الله وأسخط عليه الناس”..
التقطت سوسن نفسا عميقا، وهي تستذكر وقع تلك الكلمات عليها في ذلك الوقت، لقد كان أمرا رهيبا بلا شك، فتلك الجملة فسّرت لها كل شيء!!
ومر شريطٌ سريعٌ لأحداث حفل النجوم في مخيلتها، بل منذ أن تركت الحجاب لأجل أيهم، وما تلا ذلك من مرافقتها له بذلك اللباس!! لقد طلبت رضا أيهم بسخط الله بلا شك، فكانت تلك النتيجة الحتمية؛ التي لا يحق لها أن تلومه فيها!!
سالت الدموع على خدي سوسن بانسياب هاديء، وهي لا تزال على جِلستها فوق سجادة الصلاة، وقد بدأت الشمس ترسل أشعتها الذهبية، من بين طيات الستائر المخملية، فيما تابع صدى كلمات نور؛ يتردد في ذاكرتها:
– وكما أن الحب قد يُنتج ردود فعل سلبية، فله ردود فعل إيجابية بالمقابل، بل إنه يكون أحيانا كمخدّر الجرّاح الذي لا يمكن إجراء عملية جراحية من دونه، وهذا من نعم الله على عباده، وإلا لكان التغيير أمرا شبه مستحيل، وما أقصده هنا، هو تغيير المرء نفسه للأحسن، والذي هو بحد ذاته أصعب من إجراء عملية جراحية معقدة! فإن وُجِد حبٌ في هذه الحالة، سيكون بمثابة جرعة تخدير قوية، تُجرى خلالها أقسى عمليات التغيير دون الشعور بالالم! إنه كالطاقة التي تمنح الجسم القدرة على تحمل التغيير، والصعوبات المترتبة عليه! ألم تسمعي قصة الصحابية الجليلة أم سليم التي كانت سببا في إسلام أبو طلحة!! لقد أسلم بداية ليظفر بالزواج منها بعد أن ترمّلت، ومن ثم حسن إسلامه بعد ذلك، وأصبح من فضلاء الصحابة وكبارهم، ناهيك عن قصة ابو العاص ابن الربيع، زوج السيدة زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم..
كان هذا أكثر ما بعث التفاؤل في نفس سوسن، في ذلك الحين، بل إن هذا هو الأمل الذي بدأت تبني أحلامها عليه، غير أنها سرعان ما استحضرت كلمات نور بعد ذلك:
” مهما أحببتِ شخصا أو أمرا ما، أو كائنا ما كان؛ فاحرصي أن لا يكون قلبك معلقٌ إلا بالله، فهو خالق الحب وواهبه في القلوب، وما الحب إلا جنديٌ مؤتمرٌ بأمره، وهبة منه ونعمة، فلا تشغلنّك النعمة عن المُنعم، فبالشكر تدوم النعم..
هذا ما أوصتني به أمي قبل زفافي إلى عامر…”
انسكبت الدموع بغزارة أكبر على وجنتي سوسن، وهي تراجع ما عزمت عليه أمرها، ورفعت يديها بالدعاء:
– يارب إن لم تُعنّي، فلا حول ولا قوة لي إلا بك، اللهم يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب اصرف قلبي إلى طاعتك..
وبحرقة أكبر دعت وقد بدأ صدرها ينشج بالنحيب:
– يارب.. اهدِ أيهم..
وانخرطت بالبكاء إذ لم تعد تسعفها الكلمات، وحسبها أن الله مطلع على ما في قلبها، عالم بما تُريد..
لم تدرِ سوسن كم مر عليها من الوقت وهي على تلك الحالة، حتى انتبهت لرنين هاتفها، فنهضت تجاهه، لتجده يومض برقم أيهم، فتذكرت أنها لم ترد على اتصاله ليلة امس، حيث كانت مشغولة مع نور! ومن حسن حظها أن خاصية هاتفها لا تُشير إلى انشغالها بالحديث مع متحدث آخر، وربما ظنها نائمة في ذلك الوقت وهذا ما ترجوه!! ولسبب ما، ترددت بالاجابة، فقد شعرت بأنها على موعد خاص هذه المرة، وعليها انتقاء عبارات تمهيدية خاصة أيضا، غير أن الرنين المتواصل باستبسال، أعاق عملية التفكير هذه!! وقبل أن تجيب الاتصال، تعالت طرقاتٌ متناغمة على باب غرفتها، بشكل غريب يثير الانتباه، إذ تكتفي الخادمة عادة بطرقة أو طرقتين فقط! مما أثار فضولها، فتجاهلت الاتصال، واتجهت نحو باب الغرفة، وما أن فتحته حتى فوجئت بأوراق الزينة الملونة، والورود اللامعة تندفع نحوها بابتهاج، حيث اصطفت الخادمات على جانبي المدخل، كجنود الاستقبال الملكي، والابتسامة بادية على وجوههن، فيما اندفعت إحداهن نحوها وهي تهتف بسعادة:
– مبارك لك يا ابنة رئيس الوزراء!
****
سارت الطائرة بهدوئها المعهود، الذي يسبق عاصفة الاقلاع، وكأنها تودع مدرّجات المطار، وهي تتهادى على مساراته باختيال، حتى إذا ما حانت اللحظة الحاسمة؛ التقطت أنفاسها مزمجرة بأزيزها المعروف، لتنطلق كالصقر نحو السماء..
ارتخت نور على مقعدها قرب النافذة، بعد أن ربطت حزام الأمان، تتابع المشهد بتأمّل كعادتها، وهي تردد أدعية الركوب والسفر:
– ” سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الله أكبرالله أكبر الله أكبر، اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى، ومن العمل ما ترضى، اللهم هوّن علينا سفرنا هذا واطوِ عنا بعده، اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنظر، وسوء المنقلب في المال والأهل والولد”
فيما أسند عامر رأسه على الكرسي المجاور لها، مرددا الأدعية، وهو مغمض العينين في شبه إغفاءة..
ارتفعت الطائرة لتأخذ مكانتها اللائقة في الأجواء، وبدأت المعالم تحتها تختفي تدريجيا..
تنهدت نور وهي تودع أرض الوطن بسكون، فهناك عائلتها، وأقربائها وصديقاتها وأحبتها، فرددت في سرها:
– استودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه..
فيما بقيت عيناها محدقتين بآخر المعالم التي لاحت لها من ذلك الارتفاع..
كم أرواحنا بحاجة للتحليق في الفضاء الرحيب!!
ولاحت أمامها صورة سوسن بين الغيوم، فيما طغت كلماتها على أزيز المحركات، لتنسج لحنا حزينا مؤثرا، لم تستطع نور معه حبس دمعاتها:
” لي طلب واحد فقط، أرجوك.. اسألي الله الهداية لي ولأيهم، فإنني أحبه حبا جما، ولا يمكنني تخيل حياتي من دونه أبدا، فهو طيب ولكنه منغمس تماما في عالم النجومية وموقفه صعب، أنت تعرفين عالم النجوم ولا يخفى عليك حالهم، لذا أرجوك، إن كنتُ أعني لك شيئا هاما، فلا تنسي أيهم من دعائك.. هذا هو طلبي الوحيد!”
تناولت نور منديلا جففت به دموعها المنهمرة، كم تشفق على سوسن وهي تشعر تماما بمشاعرها، فهل هناك أصعب من أن يفصل بين المرء ومن يحب حاجز الهداية!! لطالما كانت قصة السيدة زينب ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم، تهز مشاعرها هزا، وهي التي فارقت زوجها وأبو أولادها الذي تهيم به حبا؛ لا لشيء.. إلا طاعة لله ورسوله!! لا تذكر أنها قرأت قصة مؤثرة حركت مشاعرها كتلك القصة الحقيقية، والتي هي بحق؛ أغرب من الخيال!! فهل كانت السيدة زينب تعلم بأن زوجها لن ينساها، عندما تركته في مكة مهاجرة إلى المدينة، في زمن لم تكن فيه اتصالات ولا مواصلات سريعة؟!! هل كانت واثقة من أنه سيأتي إليها مسلما، ليسترجعا معا ذكريات حبهما الذي لم يمُت في قلبها أبدا؟!! كيف استطاعت قطع كل تلك المسافة، وبأي قلب ابتعدت عن حبيبها، الذي ما رأت منه إلا كل الخير والحب والمودة، امتثالا لأمر الله!!! لا عجب أن حَفِظ الله لها مكانتها في قلبه، فلم يتزوج بغيرها حتى بعد أن فارقته، في زمن وبيئة اعتاد فيهما الرجال الزواج بأكثر من واحدة!!
إنها بحق، من أعظم قصص الحب التي سمعت عنها عبر التاريخ، ولم تكن لتملّ أبدا من سرد تفاصيلها التي تعرفها على كل من تقابله، كلما سنحت لها الفرصة، كما قصّتها على سوسن ليلة أمس!
وإذ ذاك أدارت رأسها بالتفاتة صغيرة نحو عامر، الذي بدى لها غارقا في التفكير، رغم عينيه المغمضتين! فتأملته للحظة، وكأنها تراه لأول مرة، حتى شعرت بحرارة الحب في قلبها! وبعفوية؛ وضعت يدها فوق يده المستندة على ذراع الكرسي بينهما، وهي تشعر برغبة عارمة في ضمها إليها، وكل خلية في جسدها تردد:
– يارب احفظ زوجي عامر، ولا تفرق بيننا أبدا، واجمع قلبينا دائما على قلبٍ تقيٍّ يخافك ويخشاك ولا يتعلق بأحد سواك، حتى تجمعنا في الفردوس الأعلى..
وإذ ذاك شعرت بيده تحتضن يدها، وتضمها نحو صدره بحب، وكأنه قرأ أفكارها فسبقها إلى التطبيق، حتى أحسّت بنبضات قلبه، فأسندت رأسها على كتفه تستشعر الطمأنينة والسكن، وهما يشبّكان بين أصابعهما في حب ووئام..
عندها قال عامر بابتسامة مُحبّة:
– أظن أنني بدأت أعرف متى يكون الله راضيا عني، وأرجو أن تكون هذه علامة قبول!
فرفعت نور رأسها قليلا، ملتفتة إليه، بعيون متسائلة، فيما تابع عامر كلامه بتأثر واضح:
– كنت أفكر فيما سنقدم عليه، والمسؤولية الكبيرة الملقاة على كاهلنا، خاصة وأنها المرة الاولى التي سنغادر فيها بلادنا إلى بلد أجنبي، نفتقد فيه صوت الأذان، وما اعتدنا عليه من مظاهر ديننا الحنيف، فسألت الله أن يعيننا على أن نكون سفراء له هناك، وأن يثبتنا على الحق ويهدي بنا الخلق، ولا يفتنا في ديننا..
والتقط نفسا عميقا وهو يشد على يد نور بلطف:
– هل تعلمين يا نور.. عندما أستشعر جفاء منك دون سبب، أراجع نفسي فأجدها قد قصّرت في حق من حقوق الله أو من حقوق عباده، فاستدرك ذلك فورا، حتى أصبح هذا مقياسا رائعا اقيّم به تصرفاتي، وأراجع من خلاله حساباتي، إنني بالفعل أحمد الله أن وهبني مثل هذا الميزان الدقيق، وأرجو أن يفيدني هناك..
فابتسمت نور وضغطت بأصابعها على يده، لتقربها من فمها، وتلمسها بشفتيها برقة:
– في هذه الحالة، أسأل الله أن يتقبل منك كل عمل صالح ويزيدك من فضله، يا زوجي الحبيب..
وصمتت للحظة قبل أن تتابع:
– وأنا كذلك.. أشعر بالشيء نفسه، إنه “ميزان الحب” الذي يزيد بالطاعة، وينقص بالمعصية! فالحمد لله الذي أنعم علينا باستشعار هذه المعاني.. لا حرمني الله منك أبدا يا عامر..
فشد عامر على يدها وقربها منه بدوره، ليطبع عليها قبلة عذبة خفق لها قلبها:
– ولا حرمني الله منك يا زوجتي وحبيبتي وقرة عيني ونورها..
ورغم تلك الكلمات العذبة التي انتشت لها كل خلاياها، إلا أن دمعة صغيرة ترقرقت في عينها؛ حاولت إخفائها، وهي تتذكر الآم المعذّبين بالحب، وعلى رأسهم صديقتها سوسن، فهتف قلبها بصوتٍ لا يسمعه إلا خالقها:
– يارب.. لطفك بتلك القلوب المعذبة الحائرة، أنزل رحمتك عليها، واملأها بحبٍ يرضيك، فتتذوق حلاوته في الدنيا، وتؤجر عليه نعيما دائما في جنات النعيم… اللهم احفظ قلوبنا وقلوب المسلمين والمسلمات، ارفق بقلوب بناتهم وشبابهم، فلا تعذبها بالتعلق بغيرك..
وانطلقت دعواتها الصادقة لسوسن وأيهم؛ كالسهام المتلاحقة، التي لا يفصلها عن إصابة الهدف؛ سوى مشيئة الله في الاجابة..
****
لأول مرة بدا الارتباك واضحا في طريقة مشية أيهم وهو ينزل من السيارة، كان قلقه واضحا بشكل كبير عبر قسمات وجهه، ولولا أن المكان يخلو من المارة في مثل هذا الوقت من الصباح، لما تردد عدد كبير من المتطفلين بالتقاط صور له وهو على تلك الحالة، ليتم نشرها عبر جميع قنوات التواصل المعروفة!
وقف للحظات قليلة يلتقط أنفاسه المخنوقة، قبل أن يدلف إلى قاعة المطعم الذي طالما كان شاهدا على ذكرياته مع سوسن، فهنا كان أول موعد لهما بعد الخطوبة، وهنا أسمعها أسطوانته المهداة لها، ولا يدري ما الذي سيشهده عليهما أيضا في هذا اليوم، ليضيفه إلى سجل ذكرياتهما القابعة في أحضانه..
وقف خارجه يسترجع في ذهنه محادثة سوسن معه، في باكورة هذا الصباح، فرغم أنه كان متلهفا لمبادرتها بالتهنئة، بما وصل إليه والدها؛ إلا أن ردها المتأخر، لم يحمل أي نوع من الحماسة لهذا الأمر، وكأنه موضوع عادي لا يعنيها بشيء!! وأخذ صدى كلماتها يتردد في ذهنه، بدويّ يثير الاضطراب:
” سأنتظرك هناك في تمام الساعة السابعة والنصف صباحا، ولا يهمني إن تأخرتُ في ذهابي إلى المعهد هذا اليوم، فلا بد من أن نحسم الأمر!”
وبتردد كبير، حاول أن يخطو خطوته الاولى إلى داخل القاعة، حيث يُفترض بسوسن أن تنتظره، غير أن الثقل الرهيب الذي شعر به في قدمه؛ حال بينه وبين ذلك! بل إن تسارع دقات قلبه، وتقاطر حبات العرق من جبهته، أشعراه بأنه على وشك الدخول في إغماءة طويلة، لا يفيق منها إلى قيام الساعة! حتى كاد أن ينكر نفسه، وهو يحادثها:
لماذا يحدث هذا لي الآن!! هل يُعقل أن تفعلها حقا بعد كل ما ذكرتُه لها!! هل يمكن أن تكون هذه هي النهاية!!! مستحيل، لا يمكنني تصور هذا أبدا!!!
لو أنها أخبرتني فقط بما تريده بالضبط!!
وومضت في ذهنه بارقة خاطفة من الماضي السحيق؛ ارتجف لها جسده!!
أتراها نبوؤة أنيسة!!
” تذكر كلامي جيدا، عاجلا أم آجلا ستذوق طعم هذا الألم!”
لقد مضى على ذلك أكثر من عشر سنوات، فلماذا يستحضر كلامها بكل هذا الوضوح الآن!! وما الذي ذكّره بها في هذه اللحظة بالذات!!
غير أن خروج النادل في تلك اللحظة؛ أيقظه من شروده، فحاول مبادلته الابتسامة، إلا أن ذلك تطلب منه جهدا كبيرا، مما أقلق النادل الذي بادره بقوله:
– هل أنت بخير يا سيدي؟
فانفرجت شفتا أيهم عن ابتسامة مقتضبة:
– أظن ذلك..
فاستدرك النادل بلباقته المعهودة:
– هل تمانع في مرافقتي لك إلى حيث تجلس الانسة، إنها بانتظارك في الركن السابع من القاعة.. تقول إنها أعدت لك مفاجأة..
فهز أيهم رأسه مجيبا بامتنان، رغم أن كلمة “مفاجأة” لم تحمل له شعورا حسنا:
– شكرا لك، سأتدبر أمري، يبدو أنني مرهق قليلا بالفعل..
وبخطوات بطيئة متثاقلة، قطع أيهم المسافة بين مدخل المطعم والركن السابع، كمن يجاهد السير في صحراء قاحلة، فهو يحاول أن يقي وجهه عواصفها اللاهبة من جهة، ويمنع نفسه من الغوص في رمالها المتحركة من جهة أخرى!!
وما أن وقعت عيناه على سوسن؛ حتى خر متهالكا على مقعده، فقد كان هذا آخر ما يرغب برؤيته منها هذا اليوم!!
***
تحلقت الفتيات حول سورا باهتمام واضح، بعد أن حضرت إلى المعهد أخيرا، إثر تغيبها المفاجيء..
– لقد فعلتِها أخيرا أيتها الماكرة!!
فيما غمزتها فاتن قائلة:
– هكذا إذن أيتها المخادعة، كنت تتدربين سرا طوال الوقت!! لقد نجحتِ في التملص مني بمهارة!!
وأطلقت سوسو شهقة حادة وهي تحدق في هاتفها المحمول:
– أكثر من ثلاثة ملايين مشاهدة في مدة وجيزة! لقد أصبحتِ مشهورة يا سورا بالفعل!!
فيما أخذت إحدى الفتيات تسألها بفضول:
– عن ماذا تتحدثين، دعيني أرى..
فتولت جولي الاجابة بحماسة:
– إنه مقطع القبلة الازلية، لقد أصبح من أكثر المقاطع انتشارا في الشبكة العنكبوتية، يبدو أنه سيحطم رقما قياسيا فريدا من كثرة المشاهدات!!
واستدركت ملتفتة إلى سورا:
– لقد كانت حركة جريئة جدا، كيف كان شعورك وقتها؟
وصمتت الفتيات وهن ينتظرن الاجابة بفارغ الصبر، فيما اكتفت سورا بابتسامة هادئة، لتجيب بتواضع، لا يخلو من تصنّع ظاهر:
– كانت هذه طبيعة الرقصة، ولم أكن أفكر إلا بالاداء المتقن، والذي جاء نتيجة الجهد والتدريب، كنت أؤدي دوري بأمانة فقط، هذا كل ما في الامر!!
فحدجتها جولي بنظرة فاحصة:
– هكذا إذن، هذا كل ما في الأمر!!!
وأطلقت فاتن ضحكة ساخرة:
– يا لك من ماكرة فعلا! لقد كنت تتدربين طوال الوقت من أجل هذه القبلة، ونحن في غفلة عن هذا تماما!! لقد نجحت في إحكام خطتك هذه المرة، أنت داهية بالفعل..
فيما تساءلت إحدى الفتيات بفضول واضح:
– ولكن أين كانت سوسن من هذا كله؟؟ ترى كيف هو شعورها الان!! لن أتعجب إذا تغيبت اليوم عن الحضور..
وتعالت الضحكات والغمزات بين الفتيات، بل واستمرت النقاشات بينهن بين هازئة بسوسن، ومدافعة عنها بقولها:
– لا بد أنها مشغولة بأخبار والدها، أم أنكن لم تسمعن أخبار الفرز الاولي للانتخابات!!
وقبل أن تضيف أي فتاة كلمة أخرى؛ عادت الانسة ناديا من جولتها المهنية القصيرة مع الاستاذ سامر، لتطالبهن بالهدوء، والعودة إلى إنجاز أعمالهن في اللوحات، غير أنها استدركت فجأة؛ وهي تقلب عينيها بينهن متسائلة:
– ألم تحضر سوسن بعد؟
………
يتبع ان شاء الله…
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم
إضافة تعليق